جامع البيان — ابن جرير الطبري (٣١٠ هـ)
﴿فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضࣰاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمُۢ بِمَا كَانُوا۟ یَكۡذِبُونَ﴾ [البقرة ١٠]
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾
قال أبو جعفر: وأصل المرَض: السَّقم، ثم يقال ذلك في الأجساد والأديان. فأخبر الله جلّ ثناؤه أن في قلوب المنافقين مَرَضًا، وإنما عنى تبارك وتعالى بخبره عن مرض قلوبهم، الخبرَ عن مرض ما في قلوبهم من الاعتقاد = ولكن لمّا كان معلومًا بالخبَر عن مرض القلب، أنَّه معنىٌّ به مرضُ ما هم معتقدُوه من الاعتقاد -استغنى بالخبَر عن القلب بذلك = والكفاية عن تصريح الخبَر عن ضمائرهم واعتقاداتهم(١) كما قال عُمر بن لَجَأ:
وَسَبَّحَتِ الْمَدِينَةُ، لا تَلُمْهَا، ... رَأَتْ قَمَرًا بِسُوقِهِمُ نَهَارَا(٢)
يريد: وسبَّح أهل المدينة، فاستغنى بمعرفة السامعين خَبَرَه بالخبَرِ عن المدينة، عن الخبر عن أهلها. ومثله قول عنترة العبسي:
هَلا سَأَلتِ الْخَيْلَ يَا ابْنَةَ مَالِكٍ؟ ... إنْ كُنْتِ جَاهِلَةً بِمَا لَمْ تَعْلَمِي(٣)
يريد: هلا سألتِ أصحاب الخيل؟ ومنه قولهم:"يا خَيْلَ الله اركبي"، يراد: يا أصحاب خيل الله اركبوا. والشواهد على ذلك أكثر من أن يُحصيها كتاب، وفيما ذكرنا كفاية لمن وُفِّق لفهمه.
فكذلك معنى قول الله جل ثناؤه: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ إنما يعني: في اعتقاد قلوبهم الذي يعتقدونه في الدين، والتصديق بمحمد ﷺ، وبما جاء به من عند الله - مَرَض وسُقْم. فاجتزأ بدلالة الخبَر عن قلوبهم على معناه، عن تصريح الخبر عن اعتقادهم.
والمرضُ الذي ذكر الله جل ثناؤه أنّه في اعتقاد قلوبهم الذي وصفناه: هو شكُّهم في أمر محمد وما جاء به من عند الله، وتحيُّرُهم فيه، فلا هم به موقنون إيقان إيمان، ولا هم له منكرون إنكارَ إشراك، ولكنهم، كما وصفهم الله عز وجل، مُذَبْذَبُونَ بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء(٤) كما يقال: فلانٌ يمَرِّضُ في هذا الأمر، أي يُضَعِّف العزمَ ولا يصحِّح الروِيَّة فيه.
وبمثل الذي قلنا في تأويل ذلك، تَظاهر القول في تفسيره من المفسِّرين.
* ذكر من قال ذلك:
٣٢٢- حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"في قلوبهم مرضٌ"، أي شكٌّ.
٣٢٣- وحدِّثت عن المِنْجَاب، قال: حدثنا بشر بن عُمارة، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: المرض: النفاق.
٣٢٤- حُدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرّة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي ﷺ:"في قلوبهم مرضٌ" يقول: في قلوبهم شكّ.
٣٢٥- حُدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد، في قوله:"في قلوبهم مَرَضٌ"، قال: هذا مرض في الدِّين، وليس مَرَضًا في الأجساد، قال: وهم المنافقون.
٣٢٦- حدثني المثنَّى بن إبراهيم، قال: حدثنا سُوَيْد بن نصر، قال: أخبرنا ابنُ المبارك قراءةً، عن سعيد، عن قتادة، في قوله"في قلوبهم مَرَض" قال: في قلوبهم رِيبَة وشك في أمر الله جل ثناؤه.
٣٢٧- وحدِّثت عن عمّار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس:"في قلوبهم مَرَضٌ" قال: هؤلاء أهلُ النفاق، والمرضُ الذي في قلوبهم: الشك في أمر الله تعالى ذكره.
٣٢٨- حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ حتى بلغ (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) قال: المرض: الشكّ الذي دخلهم في الإسلام(٥) .
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾
قد دللنا آنفًا على أن تأويل المرض الذي وصَف الله جل ثناؤه أنه في قلوب المنافقين، هو الشكُّ في اعتقادات قلوبهم وأديانهم، وما هم عليه - في أمر محمد رسول الله ﷺ، وأمر نبوته وما جاء به - مقيمون.
فالمرض الذي أخبرَ الله جل ثناؤه عنهم أنَّه زادهم على مرضهم، نظيرُ ما كان في قلوبهم من الشَّكِّ والحيْرة قبل الزيادة، فزادهم الله بما أحدث من حدوده وفرائضِه - التي لم يكن فرضَها قبلَ الزيادة التي زادها المنافقين - من الشك والحيرة، إذْ شكُّوا وارتَابوا في الذي أحدَث لهم من ذلك -(٦) إلى المرض والشك الذي كان في قلوبهم في السَّالف، من حدوده وفرائضه التي كان فَرَضها قبل ذلك. كما زاد المؤمنين به إلى إيمانهم الذي كانوا عليه قبل ذلك، بالذي أحدث لهم من الفرائض والحدود إذْ آمنوا به، إلى إيمانهم بالسالف من حُدُوده وفرائضه - إيمانًا. كالذي قال جل ثناؤه في تنزيله: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ) [سورة التوبة: ١٢٤، ١٢٥] . فالزيادة التي زِيدَها المنافقون من الرَّجاسة إلى رَجاستهم، هو ما وصفنا. والتي زِيدَها المؤمنون إلى إيمانهم، هو ما بيَّنا. وذلك هو التأويل المجمَعُ عليه.
ذكرُ بعض من قال ذلك من أهل التأويل:
٣٢٩- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"فزادهم الله مَرَضًا"، قال: شكًّا.
٣٣٠- حدثني موسى بن هارون، قال: أخبرنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدِّيّ، في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي ﷺ:"فزادَهُم الله مَرَضًا"، يقول: فزادهم الله رِيبَة وشكًّا.
٣٣١- حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا سُوَيْد بن نصر، قال: أخبرتا ابن المبارك قراءةً، عن سعيد، عن قتادة:"فزادهم الله مرضًا"، يقول: فزادهم الله ريبةً وشكًّا في أمْر الله.
٣٣٢- حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله:"في قلوبهم مَرَضٌ فزادهم الله مَرَضًا"، قال: زادهم رِجْسًا، وقرأ قول الله عز وجل: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ﴾ قال: شرًّا إلى شرِّهم، وضلالةً إلى ضلالتهم.
٣٣٣- وحدِّثت عن عمّار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فزادهم الله مَرَضًا"، قال: زادهم الله شكًّا(٧) .
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾
قال أبو جعفر: والأليم: هو المُوجعُ. ومعناه: ولهم عذاب مؤلم. بصرفِ"مؤلم" إلى"أليم"(٨) ، كما يقال: ضَرْبٌ وجيعُ بمعنى مُوجع، والله بَديع السموات والأرض، بمعنى مُبْدِع. ومنه قول عمرو بن معد يكرب الزبيدي:
أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعي السَّمِيعُ ... يُؤَرِّقنُي وأَصْحَابِي هُجُوعُ(٩)
بمعنى المُسْمِع. ومنه قول ذي الرمة:
وَتَرْفَعُ مِنْ صُدُورِ شَمَرْدَلاتٍ ... يَصُدُّ وُجُوهَهَا وَهَجُ أَلِيمُ(١٠)
ويروى"يَصُكُّ"، وإنما الأليم صفةٌ للعذاب، كأنه قال: ولهم عذاب مؤلم. وهو مأخوذ من الألم، والألم: الوَجَعُ. كما-:
٣٣٤- حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: الأليم، المُوجع.
٣٣٥- حدثنا يعقوب، قال: حدثنا هُشيم، قال: أخبرنا جُوَيْبر، عن الضحاك قال: الأليمُ، الموجع(١١) .
٣٣٦- وحدِّثت عن المِنْجاب بن الحارث، قال: حدثنا بشْر بن عُمارة، عن أبي رَوْق، عن الضحاك في قوله"أليم"، قال: هو العذاب المُوجع. وكل شيء في القرآن من الأليم فهو الموجع(١٢) .
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (١٠) ﴾
اختلفت القَرَأة في قراءة ذلك(١٣) فقرأه بعضهم: ﴿بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ مُخَفَّفة الذَّال مفتوحة الياء، وهي قراءة عُظْم أهل الكوفة. وقرأه آخرون:"يُكَذِّبُونَ" بضم الياء وتشديد الذال، وهي قراءة عُظْم أهل المدينة والحجاز والبصرة(١٤) .
وكأنّ الذين قرءوا ذلك، بتشديد الذال وضم الياء، رأوا أن الله جل ثناؤه إنما أوجب للمنافقين العذابَ الأليم بتكذيبهم نبيَّه ﷺ وبما جاء به، وأن الكذِبَ لولا التكذيبُ لا يُوجب لأحدٍ اليَسير من العذاب، فكيف بالأليم منه؟ وليس الأمر في ذلك عندي كالذي قالوا. وذلك: أنّ الله عز وجل أنبأ عن المنافقين في أول النبأ عنهم في هذه السورة، بأنهم يَكذِبون بدَعْواهم الإيمانَ، وإظهارهم ذلك بألسنتهم، خِداعًا لله عز وجلّ ولرسوله وللمؤمنين، فقال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ بذلك من قيلهم، مع استسرارهم الشكَّ والريبة، ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ﴾ بصنيعهم ذلك ﴿إِلا أَنْفُسَهُمْ﴾ دون رسول الله ﷺ والمؤمنين؛ ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ بموضع خديعتهم أنفسَهم، واستدراج الله عز وجل إيّاهم بإملائه لهم، ﴿فِي قُلُوبِهِمْ﴾ شك النفاق وريبَتُه(١٥) والله زائدهم شكًّا وريبة بما كانوا يَكذِبون الله ورسوله والمؤمنين بقَوْلهم بألسنتهم آمنَّا بالله وباليوم الآخر، وهم في قيلهم ذلك كَذَبة، لاستسرارهم الشَّكَّ والمرض في اعتقادات قلوبهم في أمر الله وأمر رسوله ﷺ. فأولى في حكمة الله جل جلاله، أن يكون الوعيد منه لهم على ما افتتح به الخبَر عنهم من قبيح أفعالهم وذميم أخلاقهم، دون ما لم يَجْرِ له ذكر من أفعالهم. إذْ كان سائرُ آيات تنزيله بذلك نزل، وهو: أن يَفتتِح ذكر محاسن أفعالِ قومٍ، ثم يختم ذلك بالوعيد على ما افتتح به ذِكره من أفعالهم، ويفتتح ذِكْر مساوي أفعالِ آخرين، ثم يختم ذلك بالوعيدِ على ما ابتدأ به ذكرَه من أفعالهم.
فكذلك الصحيح من القول - في الآيات التي افتتح فيها ذِكر بعض مساوى أفعال المنافقين - أنْ يختم ذلك بالوعيد على ما افتتح به ذِكرَه من قبائح أفعالهم. فهذا هذا(١٦) ، مع دلالة الآية الأخرى على صحة ما قلنا، وشهادتِها بأن الواجب من القراءة ما اخترنا، وأنّ الصواب من التأويل ما تأوّلنا، من أنّ وعيد الله المنافقين في هذه الآية العذابَ الأليمَ على الكذب الجامع معنى الشكّ والتكذيب، وذلك قولُ الله تبارك وتعالى: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [سورة المنافقون: ١، ٢] . والآية الأخرى في المجادلة: ﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [سورة المجادلة: ١٦] . فأخبر جل ثناؤه أنّ المنافقين - بقيلهم ما قالوا لرسول الله ﷺ، مع اعتقادهم فيه ما هم معتقدون - كاذبون. ثم أخبر تعالى ذكره أنّ العذاب المُهينَ لهم، على ذلك من كذبهم. ولو كان الصحيح من القراءة على ما قرأه القارِئون في سورة البقرة:"ولهم عذاب أليم بما كانوا يُكَذِّبون" لكانت القراءةُ في السورة الأخرى:"والله يشهدُ إن المنافقين" لمكذِّبون، ليكون الوعيدُ لهم الذي هو عَقِيب ذلك وعيدًا على التكذيب لا على الكذب. وفي إجماع المسلمين على أنّ الصواب من القراءة في قوله:"والله يشهد إنّ المنافقين لكاذبون" بمعنى الكذب - وأن إيعاد الله تبارك وتعالى فيه المنافقين العذابَ الأليمَ على ذلك من كذبهم - أوضحُ الدّلالة على أن الصحيح من القراءة في سورة البقرة:"بما كانوا يَكْذِبون" بمعنى الكذِب، وأن الوعيدَ من الله تعالى ذِكره للمنافقين فيها على الكذب - حقٌّ - لا على التكذيب الذي لم يجر له ذِكر - نظيرَ الذي في سورة المنافقين سواءً.
وقد زعم بعضُ نحويِّي البصرة أن"ما" من قول الله تبارك اسمه"بما كانوا يكذبون"، اسم للمصدر، كما أنّ"أنْ" و"الفعل" اسمان للمصدر في قولك: أحب أن تَأتيني، وأن المعنى إنما هو بكَذبِهم وتَكْذِيبهم. قال: وأدخل"كان" ليخبر أنه كان فيما مضى، كما يقال: ما أحسن ما كان عبدُ الله، فأنت تعجَبُ من عبد الله لا من كونه، وإنما وَقع التعجُّب في اللفظ على كوْنه. وكان بعض نحويِّي الكوفة يُنكر ذلك من قوله ويستخطئه، ويقول: إنما ألغِيَت"كان" في التعجُّب، لأن الفعل قد تقدَّمها، فكأنه قال:"حَسَنًا كان زيد" و"حَسَن كان زَيْدٌ" يُبْطِلُ"كان"، ويُعْمِل مع الأسماء والصِّفات التي بألفاظِ الأسماء، إذا جاءت قبل"كان"، ووقعت"كان" بينها وبين الأسماء. وأما العِلَّة في إبطالها إذا أبطِلت في هذه الحال، فَلِشَبَهِ الصِّفات والأسماء بـ "فعل" و"يفعل" اللتين لا يظهرُ عمل "كان" فيهما. ألا ترى أنك تقول:"يقوم كان زيد"، ولا يظهر عمل"كان" في"يقوم"، وكذلك"قام كان زيد". فلذلك أبطل عملها مع"فاعل" تمثيلا بـ "فعل" و"يفعل"، وأعملت مع"فاعل" أحيانًا لأنه اسم، كما تعمل في الأسماء. فأما إذا تقدمت"كان" الأسماءَ والأفعالَ، وكان الاسم والفِعْلُ بعدها، فخطأ عنده أن تكون"كان" مبطلة. فلذلك أحال قول البصريّ الذي حكيناه، وتأوّل قول الله عز وجل"بما كانوا يكذبون" أنه بمعنى: الذي يكذبونه.
(١) في المطبوعة: "والكناية عن تصريح الخبر. . . "، وقوله: "والكفاية عن تصريح الخبر. . . " معطوف على قوله"الخبر عن مرض ما في قلوبهم. . . "
(٢) يأتي البيت في تفسير آية البقرة: ١١٠ (١: ٣٩١ بولاق) .
(٣) في معلقته المشهورة.
(٤) تضمين آية سورة النساء: ١٤٣.
(٥) الأخبار: ٣٢٢ - ٣٢٨، نقلها ابن كثير ١: ٨٨، والسيوطي ١: ٣٠، والشوكاني ١: ٣٠ - مع تتمتها الآتية في تفسير بقية الآية، بالأرقام: ٣٢٩، ٣٣٦، ٣٣٠، ٣٣٢، ٣٣١، ٣٣٣ - على هذا التوالي. ولكن ٣٣٦ لم يذكر فيه"عن ابن عباس".
و"المنجاب" في ٣٢٣، ٣٣٦: هو ابن الحارث بن عبد الرحمن التميمي، من شيوخ مسلم، روى عنه في صحيحه، وذكره ابن حبان في الثقات، وهو بكسر الميم وسكون النون وفتح الجيم وآخره باء موحدة.
(٦) سياق العبارة: "فزادهم الله بما أحدث من حدوده. . . من الشك والحيرة. . . إلى المرض والشك الذي كان في قلوبهم. . . ".
(٧) الأخبار: ٣٢٩ - ٣٣٣: هي تمام الآثار السالفة: ٣٢٢ - ٣٢٨.
(٨) في المطبوعة: "فصرف مؤلم. . ".
(٩) الأصمعيات: ٤٣، ويأتي في تفسير آية سورة يونس: ١ (١١: ٥٨ بولاق) . وريحانة: هي بنت معديكرب، أخت عمرو بن معديكرب، وهي أم دريد بن الصمة، وكان أبوه الصمة، سباها وتزوجها. (الأغاني ١٠: ٤) .
(١٠) ديوانه: ٥٩٢. وقوله"ونرفع من صدور. . " أي نستحثها في السير، والإبل إذا أسرعت رفعت من صدورها. وشمردلات جمع شمردلة: وهي الناقة الحسنة الجميلة الخلق الفتية السريعة. وقوله"يصد وجوهها" أي يستقبل وجوهها ويضربها وهج أليم، فتصد وجوهها أي تلويها كالمعرضة عن لذعته. ورواية ديوانه: "يصك"، وصكة صكة: ضربة ضربة شديدة. والوهج: حرارة الشمس، أو حرارة النار من بعيد.
(١١) الأثر ٣٣٥- يعقوب: هو ابن إبراهيم الدورقي الحافظ. هشيم - بضم الهاء: هو ابن بشير، بفتح الباء وكسر الشين المعجمة، بن القاسم، أبو معاوية الواسطي، إمام حافظ كبير، روى عنه الأئمة: أحمد وابن المديني وغيرهما، وقال عبد الرحمن بن مهدي: "كان هشيم أحفظ للحديث من سفيان الثوري". ومعنى هذا الأثر مضمن في الذي بعده: ٣٣٦.
(١٢) الأثر ٣٣٦- ذكره السيوطي ١: ٣٠. وأشار إليه الشوكاني ١: ٣٠.
(١٣) في المطبوعة: "اختلفت القراء"، والقَرَأَة: جمع قارئ، وانظر ما مضى، ٥١ تعليق، وص ٦٤ تعليق: ٤، وص ١٠٩ تعليق: ١.
(١٤) في المطبوعة: "قراءة معظم أهل الكوفة"، و"قراءة معظم أهل المدينة. . . "، وعظم الناس: معظمهم وأكثرهم. وانظر التعليق السالف، ثم ص ١٠٩ تعليق: ١.
(١٥) في المطبوعة: "في قلوبهم شك، أي نفاق وريبة". والذي في المخطوطة أصح.
(١٦) في المطبوعة: "فهذا مع دلالة الآية الأخرى. . "، ولم يأت في الجملة خبر قوله"فهذا"، والذي في المخطوطة هو الصواب
تفسير القرآن العظيم — ابن كثير (٧٧٤ هـ)
﴿فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضࣰاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمُۢ بِمَا كَانُوا۟ یَكۡذِبُونَ﴾ [البقرة ١٠]
قَالَ السُّدِّيُّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ قَالَ: شَكٌّ، ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ قَالَ: شَكًّا.
وَقَالَ [مُحَمَّدُ](١) بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمة، أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [فِي قَوْلِهِ](٢) ﴿: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ قال: شك.
وَكَذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَقَتَادَةُ.
وَعَنْ عِكْرِمَةَ، وَطَاوُسٍ: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ يَعْنِي: الرِّيَاءَ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ قَالَ: نِفَاقٌ ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ قَالَ: نِفَاقًا، وَهَذَا كَالْأَوَّلِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ قَالَ: هَذَا مَرَضٌ فِي الدِّينِ، وَلَيْسَ مَرَضًا فِي الْأَجْسَادِ، وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ. وَالْمَرَضُ: الشَّكُّ الَّذِي دَخْلَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ قَالَ: زَادَهُمْ رِجْسًا، وَقَرَأَ: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ﴾ [التَّوْبَةِ: ١٢٤، ١٢٥] قَالَ: شَرًّا إِلَى شَرِّهِمْ وَضَلَالَةً إِلَى ضَلَالَتِهِمْ.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، حَسَنٌ، وَهُوَ الْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، وَكَذَلِكَ قَالَهُ الْأَوَّلُونَ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى أَيْضًا: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ [مُحَمَّدٍ: ١٧] .
* * *
وَقَوْلُهُ ﴿بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ وَقُرِئَ: "يُكَذِّبُونَ"، وَقَدْ كَانُوا مُتَّصِفِينَ بِهَذَا وَهَذَا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا كَذَبَةٌ يُكَذِّبُونَ بِالْحَقِّ يَجْمَعُونَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا. وَقَدْ سُئِلَ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَنْ حِكْمَةِ كَفِّهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَنْ قَتْلِ الْمُنَافِقِينَ مَعَ عِلْمِهِ بِأَعْيَانِ بَعْضِهِمْ، وَذَكَرُوا أَجْوِبَةً عَنْ ذَلِكَ مِنْهَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ: "أَكْرَهُ أَنْ يَتَحَدَّثَ الْعَرَبُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ"(٣) وَمَعْنَى هَذَا خَشْيَةَ أَنْ يَقَعَ بِسَبَبِ ذَلِكَ تَغَيُّرٌ لِكَثِيرٍ مِنَ الْأَعْرَابِ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا يَعْلَمُونَ حِكْمَةَ قَتْلِهِ لَهُمْ، وَأَنَّ قَتْلَهُ إِيَّاهُمْ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْكُفْرِ، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يَأْخُذُونَهُ بِمُجَرَّدِ مَا يَظْهَرُ لَهُمْ فَيَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا قَوْلُ عُلَمَائِنَا وَغَيْرِهِمْ كَمَا كَانَ يُعْطِي الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِشَرِّ اعْتِقَادِهِمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهِيَ طَرِيقَةُ أَصْحَابِ مَالِكٍ نَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْجَهْمِ وَالْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ وَالْأَبْهَرِيُّ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ. وَمِنْهَا: مَا قَالَ مَالِكٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّمَا كَفَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ الْمُنَافِقِينَ لِيُبَيِّنَ لِأُمَّتِهِ أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْتُلُ بِعِلْمِهِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ، قَالَ: وَمِنْهَا مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّمَا مَنَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قَتْلِ الْمُنَافِقِينَ مَا كَانُوا يُظْهِرُونَهُ مِنَ الْإِسْلَامِ مَعَ الْعِلْمِ بِنِفَاقِهِمْ؛ لِأَنَّ مَا يُظْهِرُونَهُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فِي الْحَدِيثِ الْمُجْمَعِ عَلَى صِحَّتِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ"(٤) . وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّ مَنْ قَالَهَا جَرَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ ظَاهِرًا، فَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُهَا وَجَدَ ثَوَابَ ذَلِكَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْهَا لَمْ يَنْفَعْهُ فِي الْآخِرَةِ جَرَيَانُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، وكونه كان خَلِيطَ أَهْلِ الْإِيمَانِ ﴿يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ﴾ الْآيَةَ [الْحَدِيدِ: ١٤] ، فَهُمْ يُخَالِطُونَهُمْ فِي بَعْضِ الْمَحْشَرِ، فَإِذَا حَقَّتِ الْمَحْقُوقِيَّةُ تَمَيَّزُوا مِنْهُمْ وَتَخَلَّفُوا بَعْدَهُمْ ﴿وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ﴾ [سَبَأٍ: ٥٤] وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يَسْجُدُوا مَعَهُمْ كَمَا نَطَقَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ، وَمِنْهَا مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ: أَنَّهُ إِنَّمَا لَمْ يَقْتُلْهُمْ لِأَنَّهُ كَانَ يَخَافُ مِنْ شَرِّهِمْ مَعَ وُجُودِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ، فَأَمَّا بَعْدَهُ فَيُقْتَلُونَ إِذَا أَظْهَرُوا النِّفَاقَ وَعَلِمَهُ الْمُسْلِمُونَ، قَالَ مَالِكٌ: الْمُنَافِقُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ هُوَ الزِّنْدِيقُ الْيَوْمَ. قُلْتُ: وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَتْلِ الزِّنْدِيقِ إِذَا أَظْهَرَ الْكُفْرَ هَلْ يُسْتَتَابُ أَمْ لَا. أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ دَاعِيَةً أَمْ لَا أَوْ يَتَكَرَّرُ مِنْهُ ارْتِدَادُهُ أَمْ لَا أَوْ يَكُونُ إِسْلَامُهُ وَرُجُوعُهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ أَوْ بَعْدَ أَنْ ظَهَرَ عَلَيْهِ؟ عَلَى أَقْوَالٍ مَوْضِعُ بَسْطِهَا وَتَقْرِيرِهَا وَعَزْوِهَا كِتَابُ الْأَحْكَامِ.
(تَنْبِيهٌ) قَوْلُ مَنْ قَالَ: كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَعْلَمُ أَعْيَانَ بَعْضِ الْمُنَافِقِينَ إِنَّمَا مُسْتَنَدُهُ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ فِي تَسْمِيَةِ أُولَئِكَ الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ مُنَافِقًا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ الَّذِينَ هَمُّوا أَنْ يَفْتِكُوا بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي ظَلْمَاءِ اللَّيْلِ عِنْدَ عَقَبَةٍ هُنَاكَ؛ عَزَمُوا عَلَى أَنْ يُنْفِرُوا بِهِ النَّاقَةَ لِيَسْقُطَ عَنْهَا فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَمْرَهُمْ فَأَطْلَعَ عَلَى ذَلِكَ حُذَيْفَةَ. وَلَعَلَّ الْكَفَّ عَنْ قَتْلِهِمْ كَانَ لِمُدْرَكٍ مِنْ هَذِهِ الْمَدَارِكِ أَوْ لِغَيْرِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَأَمَّا غَيْرُ هَؤُلَاءِ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ﴾ الْآيَةَ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا﴾ فَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُغْرَ بِهِمْ وَلَمْ يُدْرِكْ عَلَى أَعْيَانِهِمْ وَإِنَّمَا كَانَتْ تُذْكَرُ لَهُ صِفَاتُهُمْ فَيَتَوَسَّمُهَا فِي بَعْضِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ وَقَدْ كَانَ مِنْ أَشْهَرِهِمْ بِالنِّفَاقِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولَ وَقَدْ شَهِدَ عَلَيْهِ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ بِذَلِكَ الْكَلَامِ الَّذِي سَبَقَ فِي صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ وَمَعَ هَذَا لَمَّا مَاتَ [صَلَّى عَلَيْهِ] ﷺ وَشَهِدَ دَفْنَهُ كَمَا يَفْعَلُ بِبَقِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ عَاتَبَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِ فَقَالَ: "إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ تَتَحَدَّثَ الْعَرَبُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ" وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ "إِنِّي خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ" وَفِي رِوَايَةٍ "لَوْ أَنِّي أَعْلَمُ لَوْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ لَزِدْتُ".
(١) زيادة من و.
(٢) زيادة من جـ.
(٣) صحيح البخاري برقم (٤٩٠٢) وصحيح مسلم برقم (٣٣١٤) .
(٤) صحيح البخاري برقم (٢٥) وصحيح مسلم برقم (٢٢) من حديث ابن عمرو رضي الله عنهما.
الجامع لأحكام القرآن — القرطبي (٦٧١ هـ)
﴿فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضࣰاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمُۢ بِمَا كَانُوا۟ یَكۡذِبُونَ﴾ [البقرة ١٠]
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ. وَالْمَرَضُ عِبَارَةٌ مُسْتَعَارَةٌ لِلْفَسَادِ الَّذِي فِي عَقَائِدِهِمْ. وَذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ شَكًّا وَنِفَاقًا، وَإِمَّا جَحْدًا وَتَكْذِيبًا. وَالْمَعْنَى: قُلُوبُهُمْ مَرْضَى لِخُلُوِّهَا عَنِ الْعِصْمَةِ وَالتَّوْفِيقِ وَالرِّعَايَةِ وَالتَّأْيِيدِ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ اللُّغَوِيُّ: الْمَرَضُ كُلُّ مَا خَرَجَ بِهِ الْإِنْسَانُ عَنْ حَدِّ الصِّحَّةِ مِنْ عِلَّةٍ أَوْ نِفَاقٍ أَوْ تَقْصِيرٍ فِي أَمْرٍ. وَالْقُرَّاءُ مُجْمِعُونَ عَلَى فَتْحِ الرَّاءِ مِنْ "مَرَضٌ" إِلَّا مَا رَوَى الْأَصْمَعِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَنَّهُ سَكَّنَ الرَّاءَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً﴾ قِيلَ: هُوَ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ. وَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ: زَادَهُمُ اللَّهُ شَكًّا وَنِفَاقًا جَزَاءً عَلَى كُفْرِهِمْ وَضَعْفًا عَنْ الِانْتِصَارِ وَعَجْزًا عَنِ الْقُدْرَةِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
يَا مُرْسِلَ الرِّيحِ جَنُوبًا وَصَبَا ... إِذْ غَضِبَتْ زَيْدٌ فَزِدْهَا غَضَبَا
أَيْ لَا تَهُدُّهَا عَلَى الِانْتِصَارِ فِيمَا غَضِبَتْ مِنْهُ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الدُّعَاءِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَالطَّرْدِ لَهُمْ، لِأَنَّهُمْ شَرُّ خَلْقِ اللَّهِ. وَقِيلَ: هُوَ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ زِيَادَةِ مَرَضِهِمْ، أَيْ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا إِلَى مَرَضِهِمْ، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى:" فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ(١) " [التوبة: ١٢٥]. وَقَالَ أَرْبَابُ الْمَعَانِيَ: "فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ" أَيْ بِسُكُونِهِمْ إِلَى الدُّنْيَا وَحُبِّهِمْ لَهَا وَغَفَلَتِهِمْ عَنِ الْآخِرَةِ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْهَا. وَقَوْلُهُ: "فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً" أَيْ وَكَلَهُمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ، وَجَمَعَ عَلَيْهِمْ هُمُومَ الدُّنْيَا فَلَمْ يَتَفَرَّغُوا مِنْ ذَلِكَ إِلَى اهْتِمَامٍ بِالدِّينِ. "وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ" بِمَا يَفْنَى عَمَّا يَبْقَى. وَقَالَ الْجُنَيْدُ: عِلَلُ الْقُلُوبِ مِنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى، كَمَا أَنَّ عِلَلَ الْجَوَارِحِ مِنْ مَرَضِ البدن.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ﴾ ... "أَلِيمٌ" فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَعْنَاهُ مُؤْلِمٌ أَيْ مُوجِعٌ، مِثْلَ السَّمِيعِ بِمَعْنَى الْمُسْمِعِ، قَالَ ذُو الرُّمَّةِ يَصِفُ إِبِلًا:
وَنَرْفُعُ مِنْ صُدُورٍ شَمَرْدَلَاتٍ ... يَصُكُّ وُجُوهَهَا وَهَجٌ أَلِيمُ(٢)
وَآلَمَ إِذَا أَوْجَعَ. وَالْإِيلَامُ: الْإِيجَاعُ. وَالْأَلَمُ: الْوَجَعُ، وَقَدْ أَلِمَ يَأْلَمُ أَلَمًا. وَالتَّأَلُّمُ: التَّوَجُّعُ. وَيُجْمَعُ أَلِيمٌ عَلَى أُلَمَاءٍ مِثْلِ كَرِيمٍ وَكُرَمَاءٍ، وَآلَامٌ مِثْلُ أَشْرَافٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿بِما كانُوا يَكْذِبُونَ﴾
مَا مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ بِتَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ وردهم على الله عز وجل وَتَكْذِيبِهِمْ بِآيَاتِهِ، قَالَهُ أَبُو حَاتِمٍ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالتَّخْفِيفِ، وَمَعْنَاهُ بِكَذِبِهِمْ وَقَوْلِهِمْ آمَنَّا وَلَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ. مَسْأَلَةٌ: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي إِمْسَاكِ النَّبِيِّ ﷺ عَنْ قَتْلِ الْمُنَافِقِينَ مَعَ عِلْمِهِ بِنِفَاقِهِمْ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّمَا لَمْ يَقْتُلْهُمْ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ حَالَهُمْ أَحَدٌ سِوَاهُ. وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى بَكْرَةِ(٣) أَبِيهِمْ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْتُلُ بِعِلْمِهِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا مُنْتَقَضٌ، فَقَدْ قَتَلَ بِالْمُجَذَّرِ بْنِ زِيَادٍ الْحَارِثُ بْنَ سُوَيْدِ بْنِ الصَّامِتِ، لِأَنَّ الْمُجَذَّرَ قَتَلَ أَبَاهُ سُوَيْدًا يَوْمَ بُعَاثٍ(٤)، فَأَسْلَمَ الْحَارِثُ وَأَغْفَلَهُ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَتَلَهُ، فَأَخْبَرَ بِهِ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ ﷺ فَقَتَلَهُ بِهِ، لِأَنَّ قَتْلَهُ كَانَ غِيلَةً(٥)، وَقَتْلُ الْغِيلَةِ حَدٌّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ. قُلْتُ: وَهَذِهِ غَفْلَةٌ مِنْ هَذَا الْإِمَامِ، لِأَنَّهُ إِنْ ثَبَتَ الْإِجْمَاعُ الْمَذْكُورُ فَلَيْسَ بِمُنْتَقَضٍ بِمَا ذُكِرَ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَنْعَقِدُ وَلَا يَثْبُتُ إِلَّا بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ ﷺ وَانْقِطَاعِ الْوَحْيِ، وَعَلَى هَذَا فَتَكُونُ تِلْكَ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ بِوَحْيٍ، فَلَا يُحْتَجُّ بِهَا أَوْ مَنْسُوخَةٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إِنَّمَا لَمْ يَقْتُلْهُمْ لِأَنَّ الزِّنْدِيقَ وَهُوَ الَّذِي يُسِرُّ الْكُفْرَ وَيُظْهِرُ الْإِيمَانَ يُسْتَتَابُ وَلَا يُقْتَلُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا وَهْمٌ، فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَسْتَتِبْهُمْ وَلَا نَقَلَ ذَلِكَ أَحَدٌ، وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ إِنَّ اسْتِتَابَةَ الزِّنْدِيقِ وَاجِبَةٌ(٦) وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ مُعْرِضًا عَنْهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِهِمْ. فَهَذَا الْمُتَأَخِّرُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الَّذِي قَالَ: إِنَّ اسْتِتَابَةَ الزِّنْدِيقِ جَائِزَةٌ(٧) قَالَ قَوْلًا لَمْ يَصِحَّ لِأَحَدٍ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّمَا لَمْ يَقْتُلْهُمْ مَصْلَحَةً لِتَأْلِيفِ الْقُلُوبِ عَلَيْهِ لِئَلَّا تَنْفِرَ عَنْهُ، وَقَدْ أَشَارَ ﷺ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ لِعُمَرَ: (مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّي أَقْتُلُ أَصْحَابِي) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَقَدْ كَانَ يُعْطِي لِلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِسُوءِ اعْتِقَادِهِمْ تَأَلُّفًا، وَهَذَا هُوَ قَوْلُ عُلَمَائِنَا وَغَيْرِهِمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَهِيَ طَرِيقَةُ أَصْحَابِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كَفِّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَنِ الْمُنَافِقِينَ، نَصَّ عَلَى هَذَا مُحَمَّدُ بْنُ الْجَهْمِ وَالْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ والأبهري وَابْنُ الْمَاجِشُونَ، وَاحْتُجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ(٨) " [الأحزاب: ٦٠] إلى قوله: ﴿وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا﴾ [الأحزاب: ٦١]. قَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَاهُ إِذَا هُمْ أَعْلَنُوا النِّفَاقَ. قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: النِّفَاقُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ هو الزَّنْدَقَةُ فِينَا الْيَوْمَ، فَيُقْتَلُ الزِّنْدِيقُ إِذَا شُهِدَ عَلَيْهِ بِهَا دُونَ اسْتِتَابَةٍ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّمَا كَفَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ الْمُنَافِقِينَ لِيُبَيِّنَ لِأُمَّتِهِ أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ، إِذْ لَمْ يُشْهَدْ عَلَى الْمُنَافِقِينَ. قَالَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ: لم يشهد على عبد الله(٩) ابن أُبَيٍّ إِلَّا زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ وَحْدَهُ، وَلَا عَلَى الْجُلَاسِ(١٠) بْنِ سُوَيْدٍ إِلَّا عُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ رَبِيبُهُ، وَلَوْ شَهِدَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ رَجُلَانِ بِكُفْرِهِ وَنِفَاقِهِ لَقُتِلَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مُحْتَجًّا لِلْقَوْلِ الْآخَرِ: السُّنَّةُ فِيمَنْ شُهِدَ عليه بالزندقة فجحد
وَأَعْلَنَ بِالْإِيمَانِ وَتَبَرَّأَ مِنْ كُلِّ دِينٍ سِوَى الْإِسْلَامِ أَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ إِرَاقَةِ دَمِهِ. وَبِهِ قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُمْ. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ. وَإِنَّمَا مَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ قَتْلِ الْمُنَافِقِينَ مَا كَانُوا يُظْهِرُونَهُ مِنَ الْإِسْلَامِ مَعَ الْعِلْمِ بِنِفَاقِهِمْ، لِأَنَّ مَا يُظْهِرُونَهُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَحْكَامَ بَيْنَ عِبَادِهِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَتَوَلَّى الْحُكْمَ فِي سَرَائِرِهِمْ دُونَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْكُمَ بِخِلَافِ مَا ظَهَرَ، لِأَنَّهُ حُكْمٌ بِالظُّنُونِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ كَانَ أَوْلَى النَّاسِ بِهِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَقَدْ حَكَمَ لِلْمُنَافِقِينَ بِحُكْمِ الْمُسْلِمِينَ بِمَا أَظْهَرُوا، وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ. وَقَدْ كَذَّبَ اللَّهُ ظَاهِرَهُمْ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ﴾ [المنافقون: ١] قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يَنْفَصِلُ الْمَالِكِيُّونَ عَمَّا لَزِمُوهُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهَا لَمْ تُعَيَّنْ أَشْخَاصُهُمْ فِيهَا وَإِنَّمَا جَاءَ فِيهَا تَوْبِيخٌ لِكُلِّ مَغْمُوصٍ(١١) عَلَيْهِ بِالنِّفَاقِ، وَبَقِيَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَقُولَ: لَمْ أُرَدْ بِهَا وَمَا أَنَا إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَوْ عُيِّنَ أَحَدٌ لَمَا جَبَّ كَذِبُهُ شَيْئًا. قُلْتُ: هَذَا الِانْفِصَالُ فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَعْلَمُهُمْ أَوْ كَثِيرًا مِنْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَعْيَانِهِمْ بِإِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ، وَكَانَ حُذَيْفَةُ يَعْلَمُ ذَلِكَ بِإِخْبَارِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِيَّاهُ حَتَّى كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ لَهُ: يَا حُذَيْفَةَ هَلْ أَنَا مِنْهُمْ؟ فَيَقُولُ لَهُ: لَا. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ قَدْ حَفِظَ أَصْحَابَ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِكَوْنِهِ ثَبَّتَهُمْ أَنْ يُفْسِدَهُمُ الْمُنَافِقُونَ أَوْ يُفْسِدُوا دِينَهُمْ فَلَمْ يَكُنْ فِي تَبْقِيَتِهِمْ ضَرَرٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْيَوْمَ، لِأَنَّا لَا نَأْمَنُ مِنَ الزَّنَادِقَةِ أَنْ يُفْسِدُوا عامتنا وجهالنا.
(١) راجع ج ٨ ص ٢٩٩
(٢) شمردلات: إبل طوال. ونرفع: نستحثها في السير. والوهج: الحر الشديد المؤلم.
(٣) قوله: (على بكرة أبيهم) هذه كلمة للعرب يريدون بها الكثرة وتوفير العدد.
(٤) بعاث: موضع في نواحي المدينة، كانت به وقائع بين الأوس والخزرج في الجاهلية، وكان الظفر فيه يومئذ للأوس على الخزرج.
(٥) راجع هذه القصة في سيرة ابن هشام ص ٣٥٦، ٥٧٩ (طبع أوربا.
(٦) الذي في كتاب الأحكام لابن العربي: ( ... أن استتابة الزنديق غير واجبة).
(٧) كذا في الأصول وكاتب الأحكام لابن العربي. ولعل صواب العبارة: (إن استتابة الزنديق واجبة).
(٨) راجع ج ١٤ ص ٢٤٥.
(٩) سيذكر الامام القرطبي قصته عند تفسير سورة (المنافقون).
(١٠) كان متهما بالنفاق، وهو الذي نزل فيه قوله تعالى: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا) الآية. وستأتي قصته عند تفسير هذه الآية فِي سُورَةِ (بَرَاءَةٌ) إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وقد أوردها ابن هشام في سيرته ص ٣٥٥ طبع أوربا، وابن عبد البر في الاستيعاب ج ١ ص ٩٧ طبع الهند.
(١١) قوله: لكل مغموص. أي مطعون في دينه، منهم بالنفاق.
فتح البيان — صديق حسن خان (١٣٠٧ هـ)
﴿فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضࣰاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمُۢ بِمَا كَانُوا۟ یَكۡذِبُونَ﴾ [البقرة ١٠]
(في قلوبهم مرض) المرض كل ما يخرج به الإنسان عن حد الصحة من علة أو نفاق أو تقصير في أمر، قاله ابن فارس وقيل هو الألم فيكون على هذا مستعاراً للفساد الذي في عقائدهم إما شكاً ونفاقاً، أو جحداً وتكذيباً (فزادهم الله مرضاً) أي كفراً ونفاقاً، والمراد بزيادة المرض الإخبار بأنهم كذلك بما يتجدد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من النعم، ويتكرر له من منن الله الدنيوية والدينية، ويحتمل أن يكون دعاء عليهم بزيادة الشك وترادف الحسرة وفرط النفاق، وفسر ابن عباس المرض بالشك والنفاق، وقال ابن زيد: هذا مرض في الدين وليس مرضاً في الأجسام، وقال عكرمة وطاوس المرض الرياء، والقراء مجمعون على فتح الراء من مرض إلا أبا عمرو فإنه قرأ بالسكون (ولهم عذاب) أي نكال.
(أليم) أي مؤلم يخلص وجعه إلى قلوبهم، قال ابن عباس كل شيء في القرآن أليم فهو الموجع انتهى، ووصف به العذاب للمبالغة (بما كانوا يكذبون) أي يبدلون ويحرفون، قاله ابن مسعود، وقيل المعنى بتكذيبهم الله ورسوله في السر، وقيل بكذبهم إذ قالوا آمنا وهم غير مؤمنين، والكذب هو الخبر عن الشيء على خلاف ما هو به وهو حرام كله لأنه علل به استحقاق العذاب.
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)
فتح القدير — الشوكاني (١٢٥٠ هـ)
﴿فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضࣰاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمُۢ بِمَا كَانُوا۟ یَكۡذِبُونَ﴾ [البقرة ١٠]
المَرَضُ: كُلُّ ما يَخْرُجُ بِهِ الإنْسانُ عَنْ حَدِّ الصِّحَّةِ مِن عِلَّةٍ أوْ إنْفاقٍ أوْ تَقْصِيرٍ في أمْرٍ، قالَهُ ابْنُ فارِسٍ، وقِيلَ: هو الألَمُ، فَيَكُونُ عَلى هَذا مُسْتَعارًا لِلْفَسادِ الَّذِي في عَقائِدِهِمْ إمّا شَكًّا ونِفاقًا، أوْ جَحْدًا وتَكْذِيبًا، وتَقْدِيمُ الخَبَرِ لِلْإشْعارِ بِأنَّ المَرَضَ مُخْتَصٌّ بِها بِمُبالَغَةٍ في تَعَلُّقِ هَذا الدّاءِ بِتِلْكَ القُلُوبِ لِما كانُوا عَلَيْهِ مِن شِدَّةِ الحَسَدِ وفَرْطِ العَداوَةِ.
والمُرادُ بِقَوْلِهِ: فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا الإخْبارُ بِأنَّهم كَذَلِكَ بِما يَتَجَدَّدُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ مِنَ النِّعَمِ، ويَتَكَرَّرُ لَهُ مِن مِنَنِ اللَّهِ الدُّنْيَوِيَّةِ والدِّينِيَّةِ.
ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ دُعاءً عَلَيْهِمْ بِزِيادَةِ الشَّكِّ وتَرادُفِ الحَسْرَةِ وفَرْطِ النِّفاقِ.
والألِيمُ المُؤْلِمُ: أيِ المُوجِعِ، و( ما ) في قَوْلِهِ: ﴿بِما كانُوا يَكْذِبُونَ﴾ مَصْدَرِيَّةٌ: أيْ بِتَكْذِيبِهِمْ وهو قَوْلُهم: ﴿آمَنّا بِاللَّهِ وبِاليَوْمِ الآخِرِ وما هم بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: ٨] والقُرّاءُ مُجْمِعُونَ عَلى فَتْحِ الرّاءِ مِن قَوْلِهِ: ( مَرَضٌ )، إلّا ما رَواهُ الأصْمَعِيُّ عَنْ أبِي عَمْرٍو أنَّهُ قَرَأ بِإسْكانِ الرّاءِ، وقَرَأ حَمْزَةُ وعاصِمٌ والكِسائِيُّ يَكْذِبُونَ بِالتَّخْفِيفِ، والباقُونَ بِالتَّشْدِيدِ.
وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ إسْحاقَ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ تَعالى: في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قالَ: شَكٌّ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا قالَ: شَكًّا.
وأخْرَجَ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ في قَوْلِهِ: في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قالَ: النِّفاقُ، ولَهم عَذابٌ ألِيمٌ قالَ: نَكالٌ مُوجِعٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ قالَ: يُبَدِّلُونَ ويُحَرِّفُونَ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَ ما قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ أوَّلًا.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: كُلُّ شَيْءٍ في القُرْآنِ ألِيمٌ فَهو المُوجِعُ.
وأخْرَجَ أيْضًا عَنْ أبِي العالِيَةِ مِثْلَهُ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحّاكِ مِثْلَهُ أيْضًا.
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتادَةَ ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ أيْ رِيبَةٌ وشَكٌّ في أمْرِ اللَّهِ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا رِيبَةً وشَكًّا ﴿ولَهم عَذابٌ ألِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ﴾ قالَ: إيّاكم والكَذِبَ فَإنَّهُ بابُ النِّفاقِ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قالَ: هَذا مَرَضٌ في الدِّينِ ولَيْسَ مَرَضًا في الأجْسادِ وهُمُ المُنافِقُونَ.
والمَرَضُ: الشَّكُّ الَّذِي دَخَلَ في الإسْلامِ.
ورُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وطاوُسٍ أنَّ المَرَضَ: الرِّياءُ.
تيسير الكريم الرحمن — السعدي (١٣٧٦ هـ)
﴿فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضࣰاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمُۢ بِمَا كَانُوا۟ یَكۡذِبُونَ﴾ [البقرة ١٠]
وقوله: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ والمراد بالمرض هنا: مرض الشك والشبهات والنفاق، لأن القلب يعرض له مرضان يخرجانه عن صحته واعتداله: مرض الشبهات الباطلة، ومرض الشهوات المردية، فالكفر والنفاق والشكوك والبدع، كلها من مرض الشبهات، والزنا، ومحبة [الفواحش و]المعاصي وفعلها، من مرض الشهوات ، كما قال تعالى: ﴿فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾ وهي شهوة الزنا، والمعافى من عوفي من هذين المرضين، فحصل له اليقين والإيمان، والصبر عن كل معصية، فرفل في أثواب العافية. وفي قوله عن المنافقين: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ بيان لحكمته تعالى في تقدير المعاصي على العاصين، وأنه بسبب ذنوبهم السابقة، يبتليهم بالمعاصي اللاحقة الموجبة لعقوباتها كما قال تعالى: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ وقال تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ وقال تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ﴾ فعقوبة المعصية، المعصية بعدها، كما أن من ثواب الحسنة، الحسنة بعدها، قال تعالى: ﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى﴾
تفسير القرآن الكريم — ابن عثيمين (١٤٢١ هـ)
﴿فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضࣰاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمُۢ بِمَا كَانُوا۟ یَكۡذِبُونَ (١٠) وَإِذَا قِیلَ لَهُمۡ لَا تُفۡسِدُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ قَالُوۤا۟ إِنَّمَا نَحۡنُ مُصۡلِحُونَ (١١) أَلَاۤ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلۡمُفۡسِدُونَ وَلَـٰكِن لَّا یَشۡعُرُونَ (١٢) وَإِذَا قِیلَ لَهُمۡ ءَامِنُوا۟ كَمَاۤ ءَامَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤا۟ أَنُؤۡمِنُ كَمَاۤ ءَامَنَ ٱلسُّفَهَاۤءُۗ أَلَاۤ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلسُّفَهَاۤءُ وَلَـٰكِن لَّا یَعۡلَمُونَ (١٣) وَإِذَا لَقُوا۟ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ قَالُوۤا۟ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوۡا۟ إِلَىٰ شَیَـٰطِینِهِمۡ قَالُوۤا۟ إِنَّا مَعَكُمۡ إِنَّمَا نَحۡنُ مُسۡتَهۡزِءُونَ (١٤) ٱللَّهُ یَسۡتَهۡزِئُ بِهِمۡ وَیَمُدُّهُمۡ فِی طُغۡیَـٰنِهِمۡ یَعۡمَهُونَ (١٥) أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ ٱشۡتَرَوُا۟ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلۡهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَـٰرَتُهُمۡ وَمَا كَانُوا۟ مُهۡتَدِینَ (١٦) مَثَلُهُمۡ كَمَثَلِ ٱلَّذِی ٱسۡتَوۡقَدَ نَارࣰا فَلَمَّاۤ أَضَاۤءَتۡ مَا حَوۡلَهُۥ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمۡ وَتَرَكَهُمۡ فِی ظُلُمَـٰتࣲ لَّا یُبۡصِرُونَ (١٧) صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡیࣱ فَهُمۡ لَا یَرۡجِعُونَ (١٨) أَوۡ كَصَیِّبࣲ مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ فِیهِ ظُلُمَـٰتࣱ وَرَعۡدࣱ وَبَرۡقࣱ یَجۡعَلُونَ أَصَـٰبِعَهُمۡ فِیۤ ءَاذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَ ٰعِقِ حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِۚ وَٱللَّهُ مُحِیطُۢ بِٱلۡكَـٰفِرِینَ (١٩) یَكَادُ ٱلۡبَرۡقُ یَخۡطَفُ أَبۡصَـٰرَهُمۡۖ كُلَّمَاۤ أَضَاۤءَ لَهُم مَّشَوۡا۟ فِیهِ وَإِذَاۤ أَظۡلَمَ عَلَیۡهِمۡ قَامُوا۟ۚ وَلَوۡ شَاۤءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمۡعِهِمۡ وَأَبۡصَـٰرِهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣱ (٢٠)﴾ [البقرة ١٠-٢٠]
ثم قال عز وجل: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ [البقرة: 10].﴾
* في هذه الآية الكريمة فوائد: أولًا: أن المنافقين مرضى القلوب؛ لقوله: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾، وجعل المرض محفوفا بظرفية القلب، كأنه متمكن من القلب -والعياذ بالله- ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾، فما هو مرض هؤلاء؟ مرض هؤلاء الشك أو الكفر والجحود والمخادعة والمكر، وما أشبه ذلك.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن من علم الله فيه شرًّا وسوءًا زاده من سوئه وشره، ولهذا قال: ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾، وهذا أشد من قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ ﴾[الصف:٥]؛ لأن هذا صريح في أن الله تعالى زادهم مرضا، وإذا زاد المرض فالمآل الهلاك.
* ومن فوائد الآية الكريمة: وعيد هؤلاء المنافقين بالعذاب الأليم المؤلم؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
* ومن فوائدها: إثبات السببية؛ لقوله: ﴿بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾، وفي قراءة: ﴿يُكَذِّبُونَ﴾ كما مر، فهم كاذبون مكذِّبون، وهذا من فوائد القراءتين؛ أن الأولى تدل على أنهم هم بأنفسهم يكذِبون، والثانية: أنهم يكذِّبون الحق والصدق.
وإثبات الأسباب هو ما دل عليه الشرع والعقل والواقع، وانتفاؤها نقص في العقل ونقص في الدين، أعني نفيها؛ لأن كل أحد يعلم أن كل شيء له سبب، لكن منه ما أسبابه معلومة، ومنه ما أسبابه مجهولة لنا.
وقد اختلف علماء الملة في الأسباب، فمنهم من غالى فيها، ومنهم من فرط، ومنهم من توسط.
فأما المغالون فيها، فقالوا: إن الأسباب مؤثرة بنفسها لا بمحل قابل ولا بسبب فاعل، هي مؤثرة بنفسها، وليس لله فيها أي تعلق، وهؤلاء هم الطبائعيون والفلاسفة الذين يجعلون الأشياء تتفاعل بنفسها ولا علاقة لله تعالى بها، وهذا لا شك أنه شرك وجحود للخالق.
والقسم الثاني: فرّطوا في الأسباب، وقالوا: الأسباب ما لها تأثير أبدًا، ولو جعلنا لها تأثيرا لأثبتنا لله شريكًا، وأن احتراق ما يقبل الاحتراق بالنار ليس بالنار، لكن احترق عندما جُعل فيها لا بها، وكذلك يقولون في الكسر، إذا انكسر الشيء، انكسر الزجاج بالحجر، يقولون: الحجر ما كسر الزجاج، إنما انكسر عند الصدمة لا بالصدمة، ولا شك أن هذا سفه في العقل وضلال في الدين. أما السفه في العقل فواضح، لو تأتي أي صبي من الصبيان وترمي بالحجر على الزجاج وتنكسر وتسأل: وإيش اللي كسره؟ ويش يقول؟ الحجر، بفطرته وطبيعته. وأما كونه ضلالا في الدين فلأن القرآن والسنة مملوءان بذكر الأسباب وتأثير الأسباب، لكن تأثيرها بما أودع الله فيها من القوى المؤثرة.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الله تعالى حكمٌ عدل، لا يعذب إلا من يستحق؛ لأنه قال: ﴿لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾.
* ومن فوائد الآية: أن اختلاف القراءات يكون فيه زيادة المعنى، فإن قوله: ﴿يَكْذِبُونَ﴾ هذه قراءة ﴿يُكَذِّبُونَ﴾ قراءة أخرى، لو كانت الآية ليس فيها إلا ﴿يَكْذِبُونَ﴾ صار الوعيد على كذبهم هم بأنفسهم، يقولون: آمنا، وهم غير مؤمنين، ولو كانت ﴿يُكَذِّبُونَ﴾ لكان الوعيد أيضًا على تكذيبهم لا على كذبهم، فإذا اقترنت الآيتان حصل بذلك معنى زائد.
ولها نظائر منها: ﴿مَلِكُ يَوْمِ الدِّينِ﴾ و ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة٤] بالألف وبدونها، تزداد الفائدة باجتماع القراءتين بأن الله ملك، إيش؟ مالك، إذ يوجد من المخلوقين من هو ملك ولكنه ليس بمالك، ويوجد من هو مالك ولكنه ليس بملك، ولهذا أمثال، مثل: ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ [الحجرات٦]، وفي قراءة ﴿فَتَثَبَّتُوا﴾ ، هذه جمعت بين معنيين: التبيّن أولًا والتثبت ثانيًا، يعني تثبتوا حتى يبين لكم، التثبت أولًا والبيان ثانيًا، يعني عكس ما قلت: التثبت أولًا ثم التبيّن ثانيًا. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ من القائل؟ القائل المؤمنون، ﴿لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾، وذلك بم؟ بخداعهم وغشهم وكذبهم.
﴿قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾، يعني ما نحن إلا مصلحين، والحمد لله أنهم لم يقولوا إنما نحن المصلحون، لو قالوا إنما نحن المصلحون لكان أكبر دعوى، إذا قالوا إنما نحن المصلحون، يعني ولا مصلح غيرنا، أما إذا قالوا: نحن مصلحون، فلا يمنع أن يكون غيرهم مصلحا، ولكنهم حصروا في صفاتهم بأنهم مصلحون، يعني ليس فينا شيء من الإفساد،ولكن الله رد عليهم بقوله: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾ رد عليهم ردًّا قويًّا، بماذا كان قويًّا؟ أولًا: بأداة الاستفتاح (ألا) يعني تفيد التنبيه والتوكيد.
وثانيًا: بـ(إن) الدالة على التوكيد.
وثالثًا: بـ(هم) التي هي ضمير فصل تفيد الحصر والتوكيد.
فقال الله عز وجل: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ﴾ وحدهم، ﴿الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ بفسادهم؛ لأنهم -والعياذ بالله- قد طُبِع على قلوبهم فلا شعور عندهم.
* ففي هذه الآية من الفوائد: أن هؤلاء المنافقين قد نُصحوا، ولكنهم أصروا على ما هم عليه ظنًّا منهم أنه إصلاح.
* ومن فوائد هذه الآية: الحذر، أي حذر الإنسان من عمى القلب، حيث يعمل العمل يظن أنه مصلح، وهو مفسد، وهذا من أخسر الناس، بل هو أخسر الناس عملًا، قال الله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا﴾ [الكهف ١٠٣] من؟ ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ [الكهف ١٠٤]، فهؤلاء المنافقون يقولون: إنما نحن مصلحون، فهل هذه دعوى أو هذا ظن منهم أنهم مصلحون؟ الظاهر الثاني أنهم ظنوا أنهم على إصلاح، جمعوا بين إرضاء المؤمنين وإرضاء الكافرين، فظنوا أنهم مصلحون، ولهذا قال ﴿وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ أنهم مفسدون؛ لأنهم قد عميت بصائرهم والعياذ بالله، ففيه الحذر من أن يرى الإنسان الباطل حقًّا والحق باطلًا.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة والتي بعدها: أن الإنسان قد يعمى قلبه ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج ٤٦] فيرى الباطل حقًّا والحق باطلًا؛ لقولهم: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ فإن هذه الجملة لا شك أنها تفيد الحصر والتوكيد، لكن مع هذا ليس عندهم صلاح.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: وجوب الرد على أهل الباطل، وبيان أنهم على ضلال؛ لأن الله لم يسكت عن هؤلاء، بل رد عليهم وأبطل ما هم عليه من المنهج الفاسد، ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الإنسان قد يكون من المفسدين في الأرض ولكنه لا يشعر بذلك؛ لما ران على قلبه من ظلمات المعاصي حتى لا يشعر بأن الباطل الذي هو عليه باطل.
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾. ﴿إِذَا قِيلَ لَهُمْ﴾، من قال؟ المؤمنون، يقول ﴿آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ﴾: كما آمن فلان وآمن فلان؛ يقولون: ﴿أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ﴾؟ يعني لن نؤمن، فالاستفهام هنا للنفي، ثم إنهم ليتهم اقتصروا على نفي الإيمان بل وصفوا المؤمنين بأنهم سفهاء، وهذا كما حكى الله عن المجرمين أنهم إذا رأوا المؤمنين قالوا: ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ﴾ [المطففين ٣٢]، فهم هنا يقولون: ﴿أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ﴾؟ والسفهاء جمع سفيه، والسفيه هو الذي لا يحسن التصرف، هذا الضابط العام للسفيه، هو الذي لا يحسن التصرف، إن كان في المال ففي المال، إن كان في الولاية ففي الولاية، إن كان في عمل خاص ففي العمل الخاص، المهم أن نقول: السفيه من لا يحسن التصرف.
قال الله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ﴾، وهذا دفاع عن المؤمنين، ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ﴾، نقول فيها بالنسبة للتوكيد كما قلنا في الآية التي قبلها ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾ ﴿، ﴿وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾، وهنا قال: ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾، وهناك قال: ﴿لَا يَشْعُرُونَ﴾، وذلك لأن هذا الشيء أمره ظاهر، إيمان المؤمنين ظاهر، وكفر المنافقين ظاهر أيضًا، لكن هؤلاء فقدوا العلم فلم يكن عندهم علم، بل كانوا جهالًا بالواقع.
* ففي هذه الآية من الفوائد: أن هؤلاء قد أُمِروا بالمعروف، وفي التي قبلها نُهوا عن المنكر، ﴿إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ هذا نهي عن منكر، ﴿آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ﴾، هذا أمر بالمعروف، ولكنهم أبوا -والعياذ بالله- فلم ينتهوا عن منكر ولم يأتمروا بمعروف.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: بيان عرض من استجاب للحق، أو بيان ذكر من استجاب إلى الحق ليكون مشجعا على قبوله، حيث قال: ﴿كَمَا آمَنَ النَّاسُ﴾، وهذا أمر معلوم؛ لأن الإنسان لا شك أنه يتأسى بالغير، فإذا أردنا أن ندعو شخصًا له رتبته الكبيرة نقول: آمِن كما آمَن فلان، قم بهذا الأمر كما قام به فلان؛ ليكون ذلك تنشيطًا له وتشجيعًا له.
* ومن فوائد هذه الآية: بيان حقد المنافقين على المؤمنين؛ لإنكارهم الإيمان الذي هو من ديدن، مَن؟ السفهاء، حيث يقولون: ﴿أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ﴾، ولا شك أن أعظم الناس حقدًا على الإسلام والمسلمين هم المنافقون، كما قال تعالى: ﴿هُمُ الْعَدُوُّ﴾ [المنافقون ٤].
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن وصف المؤمنين، أو تلقيب المؤمنين بألقاب السوء أمر كان عليه الناس من قبل، وإلى يومنا هذا، من وصف المؤمنين بأنهم رجعيون مثلا، وقالوا: هؤلاء رجعيون ليس عندهم شيء من التقدم، هذا الوصف ينطبق على من؟ على الذين وصفوهم بالرجعية أو على المؤمنين؟ على الذين وصفوهم بالرجعية؛ لأن الرجعية في الحقيقة هو مَن لم يسبق إلى الخير، وأما من سبق إلى الخير والإيمان والعمل الصالح فهو المتقدم.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: دفاع الله تعالى عن المؤمنين بقوله: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ﴾. وهذا دفاع يتضمن شيئين: يتضمن رفع السفه عن المؤمنين؛ لأنه حصر السفاهة بمن؟ بالمنافقين. والثاني: وصف هؤلاء المنافقين بالسفاهة.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الماكر المخادع سواء في الدين أو في غير الدين يعتبر سفيها؛ لأنه لا بد أن يُظهر الله أمره ويفضحه.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن من الناس من يكون على سفه وضلال، ولكن يُحجب عنه العلم، فيبقى ظانًّا أنه على حق، نسأل الله لنا ولكم السلامة.
* طالب: شيخ جزاك الله خير، بيان القسم الثالث من قوله تعالى: ﴿قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ﴾ في هذا الوصف لا يكون القسم الثاني (...)؟
* الشيخ: هذا التقسيم حتى الآن، الناس الآن بين مؤمن صريح وكافر صريح ومنافق.
* الطالب: إذا قال المنافق: ﴿أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ﴾ فهو من الكفار؟
* الشيخ: إي نعم، لكن يخفيه.
* الطالب: يعني ما يلفظ بهذا القول.
* الشيخ: ما يصرح به
* الطالب: يعني يقول في قلبه
* الشيخ: يقول في قلبه أو يقول لمن قال له خاصة.
* طالب: شيخ بارك الله فيك، ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ﴾، هذا مما يظهر، هؤلاء الناس حجتهم يوم القيامة يأتون رب العزة جل وعلا يقولون: يا رب ظهر لنا أو قيل لنا أن هؤلاء سفهاء (...)، يأتي الواحد، دعاة أم لا، يجمع بعض الناس، يقول: يا إخوانا أنا شايف هذا طريق خير وهذا هو صلاحكم، وهذا هو كذا وكذا، ثم يقول هذا: ما تسمعون، يأتي آخرون ويلبّسون عليهم، فما حجة هؤلاء يا شيخ؟
* الشيخ: ما لهم حجة، ما دام بلغهم الحق.
* الطالب: بلغهم الحق، هناك أعلى وأدنى يا شيخ، الأعلى وصل لهم الباطل، والأدنى ما يملك شيئًا.
* الشيخ: الواجب عليهم أنه لما قال لهم الأدنى: إن هذا غلط، وهذا كفر، هذا شرك، الواجب أن يتوقفوا ويبحثوا، أما أن يقولوا: ﴿رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا﴾ [الأحزاب ٦٧] فليس بحجة.
* طالب: شيخ بارك الله فيكم، فيما مر علينا من صفات الكفار والمنافقين، ومن أصول أهل السنة والجماعة إقامة الحجة على المعين ليثبت كفره أو النفاق الأكبر فيه، فهل يصح إطلاق الكفر والنفاق بغلبة الظن، أم لا بد من التيقن بإقامة الحجة؟
* الشيخ: لا، لا بد من التيقن، لا بد من التيقن؛ لأن غلبة الظن ما يكفي، وهذا حكم، ستقول: هذا كافر، هذا منافق، فلا بد من العلم.
* طالب: قلت بارك الله فيك أن حب انتصار الكفار على المؤمنين هذا من النفاق؟
* الشيخ: نعم.
* الطالب: طيب الآن هذا شاب يعني يشجع مثلا منتخبه أو فريقه، فقدر الله أن يكون المنتخب الكافر يقابل المنتخب المسلم، أحب أن ينتصر المنتخب الكافر.
* الشيخ: قصدك الكرة؟ الكرة هذه؟
* الطالب: هل هذا يكون نفاق أكبر أم أصغر، علما بأنه الآن أحب انتصار الكفار؟
* الشيخ: أنا لا أعتبر هذه الألعاب شيئًا أصلًا، وأحذر من المشاركة فيها، وأحذر من مشاهدتها، بينما بعض الناس لا يشبع من مشاهدتها، يبقى الليل كله وربما تقام صلاة الجماعة وهو يشاهد.
* الطالب: يا شيخ أعطيت مثالًا تشبيهي، ولّا المسألة يعنى تدخل..
* الشيخ: على كل حال، كل إنسان يحب أن ينتصر الكفار على المؤمنين فإن فيه شيئًا من النفاق.
* الطالب: هذا كافر؟
* الشيخ: عام.
* طالب: هل مناصرة الكفار بإعطائهم أموالا لينتصروا على المسلمين في أمور سياسية، لا حبا لانتصارهم على المسلمين، يعد كفرا أكبر؟
* الشيخ: والله أخشى أن يعد هذا من الكفر الأكبر؛ لأن مسألة سياسية، وإيش معنى سياسية؟ سياسية أن كافرًا ينتصر على المؤمن؟
* الطالب: يمدونهم بالأموال والأطعمة.
* الشيخ: اللهم إلا أن يكون المؤمن منافق، يعني يتظاهر بالإيمان وهو مبتدع بدعة مكفِّرة، يمكن.
* الطالب: مؤمن يعنى يظهر الإسلام؟
* الشيخ: على كل حال نحن نعامل الناس بالظاهر.
* الطالب: ما يكفر بفعله هذا؟
* الشيخ: والله ما أدري، أتوقف فيه.
* طالب: سُمع عن بعض من ينتسبون إلى العلم هم الآن يعني يقودون بعض الناس، فينكرون مثلا حد الردة، ويقولون: إن الرسول ﷺ لم يكن يحد المرتدين، وأن الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا﴾ [النساء ١٣٧] ثم يقول قائلهم هكذا: هيك هيك، هذا الناس يكفروا عدة مرات ليش الرسول ما أقام عليهم الحد ولم يقتلهم؟ توصل بذلك إلى إنكار حد الردة، وقال: ما يمكن أن الأحاديث تنسخ الآية، فما حكم هذا؟
* الشيخ: حكم هذا أن يقال: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النساء ٨٠]، وإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من بدل دينه فاقتلوه» »(١)، يكون هذا كقول الله، وأما هؤلاء ﴿آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ فهذه حكاية حال، وهل الرسول علم بهم واطلع عليهم؟ ما فيه دليل على أنه اطلع عليهم.
* الطالب: هذا الذي تزعم القول هذا؟
* الشيخ: عليه أن يتقي الله عز وجل، وأن يراجع نفسه، وأن لا يكون ممن يتبعون المتشابه.
* * *
* طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (١٤) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (١٦) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (١٩) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة ١٤ - ٢٠]
* الشيخ: سبحانه وتعالى، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾، الفاعل في ﴿لَقُوا﴾ يعود على المنافقين، و ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يعني المؤمنين الخلّص كالصحابة رضي الله عنهم. ﴿قَالُوا آمَنَّا﴾ بألسنتهم فقط؛ لأن الله يقول في أول سياق الآيات: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ ﴾، فيقولون بألسنتهم: آمنا، وهم كاذبون، نشهد أنهم كاذبون، كما قالوا للرسول عليه الصلاة والسلام: ﴿نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ﴾ [المنافقون ١]، فقال الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [المنافقون ١، ٢].
﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ﴾، ﴿خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾، قد يتبادر إلى الذهن أن يكون السياق: وإذا خلوا مع شياطينهم، أو خلوا بشياطينهم، لكن الآيات جت: ﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾، فقيل: إن معنى الآية: ﴿وَإِذَا خَلَوْا﴾ أي: انفردوا عن المؤمنين راجعين إلى شياطينهم، وقيل: إن ﴿خَلَوْا﴾ ضُمِّنت معنى الرجوع، وهذا أصح، وبناء على هذا القول الأخير لا تحتاج الآية إلى تقدير، فيكون (خلا) مضمَّن معنى الرجوع، وهذا من بلاغة القرآن واختصار الكلمات، أن يضمَّن الفعل معنى فعل آخر يدل عليه مُتَعَلَّق أو مُتَعَلِّق هذا الفعل، وله أمثلة: منها قوله تعالى: ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا﴾ [الإنسان ٦]، العين ليس يُشرب بها، إنما يُشرب بالإناء، فلماذا قال: ﴿يَشْرَبُ بِهَا﴾؟ قال العلماء: إن الباء، أي يشرب منها، وهذا قول الكوفيين، وقال أهل البصرة: بل إن (يشرب) ضمِّنت معنى يروى، فهم يشربون ريا، وحينئذ يصح أن تتعدى بإيش؟ بالباء.
إذن ﴿إِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾، أي: رجعوا إلى شياطينهم، فضُمِّن ذلك معنى الرجوع. والشياطين جمع شيطان، والمراد بهم أسيادهم الذين ينتمون إليهم؛ لأن المنافقين لهم أسياد، فمثلا عبد الله بن أبي سيد في قومه، يذهب قومه إلى الرسول ﷺ وإلى الصحابة، ويقولون: نحن معكم، فإذا رجعوا إليه وأمثاله قالوا: ﴿إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾. ﴿إِنَّا مَعَكُمْ﴾ هذا إثبات لولايتهم لهم، لكن يحتاج مع الإثبات للولاية البراءة من المؤمنين، عبروا عن البراءة من المؤمنين بقولهم: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾، بمن؟ بالمؤمنين. وتأمل قوله: ﴿إِنَّا مَعَكُمْ﴾ تجدها جملة مؤكدة بـ(إن)، وتأمل قوله: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ تجدها جملة فيها الحصر، يعني: ما نحن إلا مستهزئون، أي ما حالنا مع الذين آمنوا إلا الاستهزاء فقط، وليس لنا نية أن نؤمن.
في هذه الآية الكريمة: بيان خداع المؤمنين من المنافقين، يعني أن المنافقين يخادعون المؤمنين، وهذه طبيعتهم أنهم يخادعون الله والذين آمنوا؛ لقولهم: ﴿إِنَّا مَعَكُمْ﴾، ثم إذا ذهبوا إلي شياطينهم قالوا: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أنه ليس لنا نحن إلا الظاهر، فنعامل الناس بظاهرهم، حتى إن الرسول صلوات الله وسلامه عليه قال: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِيَ لَهُ بِنَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْئًا، أَوْ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَإِنَّمَا أَقْتَطِعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ، أَوْ قَالَ: جَمْرَةً مِنَ النَّارِ، فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ» »(٢)، فنحن في الدنيا ليس لنا إلا الظاهر، لكن الحساب في الآخرة على الباطن، وجه ذلك أن المؤمنين يعاملون هؤلاء المنافقين على أنهم إيش؟ مؤمنون؛ لقولهم: ﴿قَالُوا آمَنَّا﴾.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن دين المنافقين دين اختفاء واستسرار لا يعلنون به؛ لأنهم يخافون من القتل، بدليل: ﴿إِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ﴾.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: صحة إطلاق الشيطان على دعاة الكفر؛ لقوله: ﴿إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾.
* ومن فوائدها أيضًا: أن الشيء إذا كان محصورا فإنه يُذْكَر بصيغة تدل على الحصر، حيث قال: ﴿شَيَاطِينِهِمْ﴾، ولم يقل: إلى الشياطين، وهناك فرق بين (شياطينهم)، وبين (الشياطين)، كما نقول مثلا إذا خاطبنا رئيسا للكفر لا نقول: الرئيس فلان، وإنما نقول: رئيس قومه، ولهذا كتب الرسول عليه الصلاة والسلام إلى هرقل فقال: «هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ» »(٣)، ولم يقل: العظيم، بل قال: عظيم الروم، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام قال: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ﴾ [الأنبياء ٦٣]، ولم يقل: الكبير، قال: كبيرهم، فمثل هذا يجب التنبه له، يعني لا نعطي الشيء المطلق مع أنه مخصوص.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: قوة موالاة المنافقين للكفار؛ لقولهم: ﴿إِنَّا مَعَكُمْ﴾، يعني على الزين والشين، كما يقول العوام، على الشدة والرخاء.
* ومن فوائد الآية الكريمة أيضًا: تأكيد هؤلاء المنافقين لشياطينهم بأنهم إنما يعاملون المؤمنين معاملة استهزاء لا حقيقة، ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾.
قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾، هذا جزاء من جنس العمل، هم يستهزئون بالمؤمنين، والله تعالى يستهزئ بهم، بهؤلاء المنافقين، وذلك بما أعطى المسلمين من الأحكام التي تُبنى على الظاهر، فإن هذا استهزاء بهم؛ لأنهم يعامَلون في الظاهر معاملة من؟ المؤمنين، وهذا استهزاء أن نجعل الكافر معاملته كمعاملة المسلم. وقوله: ﴿يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ﴾ ﴾، هل ﴿فِي طُغْيَانِهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿يَمُدُّهُمْ﴾؟ أو بـ ﴿يَعْمَهُونَ﴾؟ الظاهر الثاني أنها قُدِّمت على ﴿يَعْمَهُونَ﴾؛ لإفادة الحصر ولتناسب رؤوس الآيات.
﴿يَمُدُّهُمْ﴾، قال العلماء: يَمُد في الشر، ونُمِد في الخير، يعني أَمَدَّ الرباعية في الخير، قال تعالى: ﴿وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ﴾ [الطور ٢٢، ٢٣]، وأما مَدَّ فهي في الشر، قال الله تعالى: ﴿وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا﴾ [مريم ٧٩]، وهنا قال: ﴿يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾؛ لأن هذا شر.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الطغاة في الغالب يعمون عن الحق -والعياذ بالله- لما في نفوسهم من الاستكبار والعلو، فهم يعمهون في الطغيان، ولا يتصورون أنه طغيان، فيتمادون في هذا الطغيان.
* من فوائد هذه الآية الكريمة: إثبات الاستهزاء لله، أي أن الله يوصف بالاستهزاء، ولكن هل يوصف به على الإطلاق؟ لا، لا يوصف به على الإطلاق، إنما يوصف به في مقابلة من يستهزئ به ورسلِه وعبادِه الصالحين.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أيضًا أن الله تعالى قد يملي للإنسان في الطغيان فيستمر عليه حتى يزداد إثما، ولهذا من علامة حب الله للإنسان أن يعجل له العقوبة في الدنيا حتى تكون العقوبة مكفِّرة لسيئاته ومنبهة له؛ لأن كل إنسان عاقل مؤمن إذا أصيب بالمصيبة وعلم أنه هو السبب سوف يرتدع عن فساده ومعصيته، فإذا أراد الله تعالى تنبيه المؤمن عجل له العقوبة، وصار يمشي على الأرض وليس عليه من ذنب بسبب تكفير السيئات بهذه البلايا.
ثم قال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾. هذه الآية يكيِّف عليها أهل البلاغة؛ لأنهم يجعلونها استعارة تصريحية تبعية، أو استعارة مكنية، ثم يقولون: فيها ترشيح، أي تقوية، وهو قوله: ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾، هذه واحدة للتصريحية، ﴿وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ للمكنية، وبناء على أننا لم نُدَرِّس في البلاغة لأكثر الحاضرين منكم نُعرض عن التفصيل في ذلك ونذكر المعنى. ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ﴾، أي اختاروها، على إيش؟ على الهدى، لكن سمى اختيارهم إياها اشتراء؛ لأن المشتري يشتري السلعة على أنه راغب فيها، فهم رغبوا الضلالة فاشتروها، وزهدوا بالهدى فباعوه، والباء في قوله: ﴿بِالْهُدَى﴾ الباء للبدل والعوض، يعني أخذوا الضلال -والعياذ بالله- وبدلوا الهدى، اشتروا الضلالة بالهدى. ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾ (ما) نافية، يعني هذه التجارة التي ظنوها ربحا هي خاسرة، المنافقون الآن يرون أنهم رابحون، المنافقون في معاملتهم للمؤمنين ولشياطينهم يرون أنهم رابحون، وأنهم لعبوا بعقول هؤلاء وهؤلاء، لكنهم حقيقة مع الكفار، فظنوا أنهم ربحوا، لكن هل هذا ربح؟ يقول الله عز وجل: ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾، بل هي خاسرة. ﴿وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾؛ لأنهم بقوا على هذا العمل وأُمْلي لهم به، فظنوا أنهم على صواب، والإنسان إذا فعل المنكر وظن أنه على صواب فإنه لا يكاد يفلت عنه لا في العقائد ولا في الأقوال ولا في الأفعال.
* في الآية الكريمة هذه فوائد، منها: بيان سفه هؤلاء المنافقين حيث اشتروا الضلالة بالهدى.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة أيضًا: أنه يجوز أن نعبر بالعبارة الدالة على المعنى ولو لم تكن موضوعة له في الأصل؛ لأن الله عبر باختيارهم الضلالة على الهدى عبر عنه بأنهم اشتروه، فإذا ظهر المعنى فلا بأس أن تعبر بما يدل عليه، بل إن هذا يُكسب المعنى جمالا ورونقا.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الإنسان قد يظن أنه أحسن عملا وهو قد أساء؛ لأن هؤلاء اشتروا الضلالة بالهدى ظنا منهم أنهم على صواب وأنهم رابحون، فقال الله تعالى: ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن المدار في الربح والخسران على اتباع الهدى؛ لأن الله نفى ربح تجارتهم لأنهم اختاروا الضلالة على الهدى، فالمدار في الربح، والخسران على الهدى، ويؤيد هذا قول الله تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر ١ - ٣]، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الصف ١٠]، أكمل الآية.
* طالب: ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الصف ١١]
* الشيخ: أحسنت، ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ﴾، قف، ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، لو وصلناها بما قبلها صار الخير معلقا بكوننا نعلم، وهو خير علمنا أم لم نعلم، المهم على كل حال أن التجارة الرابحة هي هذه التجارة؛ الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيل الله بالمال والنفس.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن هؤلاء لن يهتدوا، ﴿وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾؛ لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، فلذلك لا يرجعون، وهكذا كل فاسق أو مبتدع يظن أنه على حق فإنه لن يرجع، فالجاهل البسيط خير من هذا؛ لأن هذا جاهل مركب يظن أنه على صواب، وليس على صواب، اللهم اهدنا صراطك المستقيم.
* طالب: بعض الأحيان شيخ تبدأ بالفوائد قبل الانتهاء بالتفسير، هل أنبه؟
* الشيخ: إيه.
* الطالب: في الدرس الماضي ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ ما فسرنا وقد بدأت بالفوائد؟
* الشيخ: صحيح.
* الطالب: واليوم كذلك ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾، ﴿فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ ما فسرت هذا وبدأت..
* الشيخ: لا، فسرناها.
* الطالب: يعمهون يعني..
* الشيخ: ما فسرنا الاستهزاء، صحيح ما فسرنا الاستهزاء، لكن الاستهزاء معلوم.
* طالب: هو يقصد فعل يعمهون.
* الشيخ: إيش؟ لا، احنا قلنا معنى يعمهون يعني يتيهون في الطغيان فلا يهتدون.
* طالب: صحيح يا شيخ، بس أنتم ذكرتم فوائد رأسًا بدون فصل، لكن لو أنكم حررتم المسألة البلاغية؛ لأن الآن الغرض من إعادة الشرح هو تغيير السهو من الشرح الأول يعني.
* الشيخ: كيف؟
* الطالب: إعادة الشرح أول البقرة لو حررتم المسألة البلاغية في الآية يكون أفضل علشان نكتب يعني.
* الشيخ: لا أبدًا، لو نجيب الاستعارة المكنية والتصريحية والتبعية والترشيح والتجريد والإطلاق نحتاج إلى خمسة دروس، هي تحتاج إلى دروس.
* طالب: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ هذا ما فسرتم؟
* الشيخ: هذا صحيح، هذا يحتاج إلى شرح، ويحتاج إلى تقسيم المرض، مرض القلوب، يعني قد يكون مرض النفاق، قد يكون مرض الشهوة، قد يكون مرض حب الدنيا، إي نعم.
* الطالب: الدرس القادم إن شاء الله؟
* الشيخ: ذكِّرونا إن شاء الله.
* طالب: يا شيخ، بارك الله فيك، ظاهر الآيتين التي ذُكر فيها أولو العزم أن نوح أفضل من عيسى عليه الصلاة والسلام؟
* الشيخ: هذا يحتمل، هذا لأن ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ﴾ [الشورى ١٣] ذكر إبراهيم بعد نوح، يمكن هذا ترتيب زمني، على كل حال هنا نحن متدبرين الموضوع متأملينه من زمان.
* الطالب: قلنا من زمن قدم محمد عليه الصلاة والسلام؟
* الشيخ: لا لا؛ لأنه شرع ﴿مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾؛﴾ لأنه جمع بين أول الرسل وآخر الرسل، ثم ذكر من بينهما.
* الطالب: (...)
* الشيخ: ما يظهر لي، أنا تأملتها كثيرا ما ظهر لي، ظهر إما أن نقول هما في منزلة واحدة، وفضلهما الذي عند الله عند الله ما نتكلم فيه، لكن مما يظهر لنا، وإما أن نقول نسكت.
انتهى، نبدأ.
* * *
* طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (١٩) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة ١٧ - ٢٠].
* الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.
* طالب: شيخ الآية التي قبلها ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا﴾.
* الشيخ: الفوائد أنهي؟
* الطالب: ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾.
* الشيخ: نعم.
* الطالب: أخذنا الفوائد.
* الشيخ: أخذتوها؟
* الطالب: نعم، ومن فوائدها أن الله يوصف بالاستهزاء في مقابلة من يستهزئ برسله وعباده الصالحين.
* الشيخ: نعم، من فوائد الآية الكريمة ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ بقي علينا تنبيه لطيف، وهو قوله تعالى: ﴿إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
قوله تعالى: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾، المرض قسمان: مرض شبهة، ومرض شهوة.
أما مرض الشبهة فهو الجهل، فإن الجهل عمى وهو مرض، والجاهل يرتكب الخطأ من حيث لا يشعر، وأما مرض الشهوة فهو مرض استكبار في الغالب، ومرض المنافقين إما مرض شبهة، وإما مرض شهوة، فمن اشتبه عليه الأمر فمرضه مرض إيش؟ شبهة، ومن لم يشتبه عليه الأمر فمرضه مرض شهوة.
ومن أمراض القلوب ما يحصل للإنسان من مرض شهوة النساء، وذلك كقوله تعالى: ﴿فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ [الأحزاب ٣٢].
أما الآيتان اللتان ذكرتهما فهما في الأول قال: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾، والثانية قال: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾، فما وجه التفريق في الفاصلتين الأولى والثانية؟ وجه التفريق ظاهر لمن تأمله، الإفساد في الأرض يدرك بالحس ولّا يدرك بالعقل؟ بالحس، ولهذا نفى فيه الشعور، والشعور يتعلق بالمحسوسات، ولهذا تقول: ما شعرت بهذا الشيء، أي ما أدركته بحسي، وأما السفه فإنه يدرَك بالعلم والتأمل، حتى يُنظر هل هذا سفيه أو غير سفيه، فلهذا نفى عنهم العلم؛ لأن السفه من الأمور المعقولة لا من الأمور المحسوسة، وإنما نبهت على هذا؛ لأنه يرد في القرآن الكريم آيات مثل هذه، بمعنى أن الله يُخلف العبارة ويأتي بعبارتين يظن الظان أنهما واحد، ولكن عند التأمل يحصل الفرق الكبير، ويشبه ذلك أن يأتي الله عز وجل بما لا يتوقعه الإنسان، كقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ﴾ [غافر ٢٠]، وكان المتوقع أن يقال: يقضون بالباطل، ضد الحق، لكن ليبين عجز هؤلاء الذين يدعون من دونه، وأنه ليس لهم قضاء إطلاقًا، فلهذا قال: ﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ﴾، لا حق ولا باطل؛ لأنها أعجز من أن تقضي بشيء.
والقرآن الكريم في الحقيقة إذا تأمله الإنسان يزداد -سبحان الله- بصيرة وعلما ونورًا، لكن يحتاج إلى قيد أشار إليه شيخ الإسلام رحمه الله فقال في العقيدة الواسطية وما أبركها من عقيدة، قال: من تدبر القرآن طالبًا الهدى منه تبين له طريق الحق، فجعل الشرطين: التدبر وحسن القصد، طالبًا الهدى منه، يعني لا طالبًا الغلبة، أن يكون يغلب غيره مثلا، أو طالبًا الهوى لعله يجد في القرآن ما يؤيد قوله، فهذا قد يُحرم والعياذ بالله، لكن من تدبره طالبًا الهدى منه تبين له طريق الحق ووجد فيه من العلوم والمعارف وإصلاح القلوب ما لا يستطيع الإنسان أن يصفه، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهله، آمين، اللهم صل على محمد.
نرجع الآن إلى ما وقفنا عليه ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾.
* من فوائد هذه الآية الكريمة قلنا: إثبات صفة الاستهزاء من الله عز وجل، لكنها صفة مقيدة بمن يستهزئ؛ ليتبين بذلك أن الله فوق استهزاء هؤلاء.
* من فوائد الآية الكريمة: أن الإنسان قد يُمَدّ في الطغيان ويُمهَل له، فيزداد طغيانا، حتى إذا أخذه الله لم يفلته كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ» »(٤)، ولهذا إذا رأيت نعم الله تترى عليك فتوقف، انظر هل أنت قائم بطاعته فهي نِعَم، هل أنت لم تقم، فهي نقم واستدراج.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الطاغي يكون في ضلال -والعياذ بالله- ويحجب الوصول إلى الحق؛ لقوله: ﴿يَعْمَهُونَ﴾ فإياك يا أخي أن تكون من هؤلاء الذين عندهم طغيان في حق الله وطغيان في حق عباد الله، فإنك سوف تزداد ضلالا.
ثم قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ أخذناها وفوائدها، إي نعم.
* من فوائدها: أن الذين اشتروا الضلالة بالهدى، يعني اختاروا الضلالة على الهدى ليس لهم ربح إطلاقًا، حتى لو ربحوا في الدنيا فهو استدراج، والربح في الدنيا لا يعني الربح في الواقع؛ لأن مآل ربح الدنيا كالمال والبنين والترف والنعيم، وإيش مآله؟ الزوال، قال الله تعالى في قوم فرعون: ﴿كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (٢٧) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ﴾ [الدخان ٢٥ - ٢٨] نعيم الدنيا ليس بشيء؛ لأنه زائل ذاهب، فلهذا قال: ﴿مَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾، حتى لو أن الإنسان أُملي له وزاد ربحا في طغيانه فإنه خاسر.
* ومن فوائد الآية الكريمة: بلاغة القرآن الكريم، وذلك بتصوير المعقول تصوير المحسوس، وجهه؟ ﴿اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾، وهذا الشراء والبيع يكون في المحسوسات، ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾، أيضًا التجارة في المحسوسات ﴿وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن من سلك طريق الضلالة حُجب عن طريق الهدى؛ لقوله: ﴿وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾.
ولهذا شواهد، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الأنعام ١١٠]، وقال تعالى: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ﴾ [ق ٥]: مضطرب، في شك، في غفلة.
ثم قال الله تعالى: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾، ضرب الله لهؤلاء المنافقين مثلين: مثلا ناريًّا ومثلا مائيًّا، حسب أحوالهم، فقال: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾، يعني كمثل رجل ليس معه نار، ولكنه استوقد، أي طلب من غيره إيقاد ناره؛ لأن اسْتَفْعَلَ، معناها الطلب مثل استغفر، أي: طلب المغفرة، استنصر: طلب النصر؛ وقد تأتي لغير ذلك، قد تأتي للمبالغة، السين والتاء قد تأتي للمبالغة، مثل استكبر، ليس معناه طلب الكبر، ولكن معناه ازداد في كبريائه، إذن استفعل تأتي لإيش؟ للطلب، وقد تأتي للمبالغة.
﴿اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ أي: طلب إيقاد نار، وهذا يدل على أنه كان في إيش في ظلمة، لكن طلب إيقاد النار، أما هو نفسه ما عنده نار، ولا عنده ضياء،
﴿اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾، ﴿أَضَاءَتْ﴾ أي النار التي استوقدها، ﴿مَا حَوْلَهُ﴾ أي: حول المستوقِد، ما هو حول النار، لو كان المراد حول النار لقال: ما حولها، ولما قال: ﴿مَا حَوْلَهُ﴾ أي: ما حول المستوقد، لم تذهب بعيدًا، أضاءت ما حوله.
﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾، فبقي الحرارة والظلمة؛ لأن عادة النار إذا خمدت أن تكون حارة وظلمة دخان، راح الضياء، بقيت الحرارة والظلمة. ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾، ﴿ظُلُمَاتٍ﴾ جمع، لا بد أن ندرك ما هذا الجمع؟ أولًا: ظلمة الليل، كيف ظلمة الليل، من أين درينا أن هذا في الليل؟
* الطلبة: ﴿اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾.
* الشيخ: ﴿أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ﴾، في النهار ما تضيء النار ما حولها؛ لأن نور الشمس يحجب كل نور. الظلمة الثانية: أنه إذا أتت الظلمة بعد الضياء صارت أشد، وجرب نفسك، أطفئ اللمبة وأنت فاتح العينين تجد الظلمة، وإذا بك بعد قليل ترى ما حولك، ولهذا أنصح كل من أراد أن يطفئ اللمبة أن يغمض عند إطفائها؛ لأنه إذا غمض حين إطفائها ثم فتّح وإذا الأمر طبيعي، أليس كذلك؟ طيب، لا أنا أريد إقرارك الطبي.
* طالب: صحيح.
* الشيخ: إي نعم.
* الطالب: لأنه في أثناء وجود الضوء تكون حدقة العين منقبضة.
* الشيخ: إي نعم.
* الطالب: وعند الظلمة تكون مفتوحة.
* الشيخ: نعم.
* الطالب: فيمر الوقت حتى يحدث هذا.
* الشيخ: إي نعم، الحمد لله، هذا أدركناه بالتجربة، وأخونا أدركه بالطب نظريًّا، على كل حال، هذه إذا ذهب الضوء بسرعة صار ظلمة شديدة، كذا؟
الظلمة الثالثة: ظلمة الدخان؛ لأن عادة النار إذا طفئت بدون أن ينتهي الوقود فإنه يكون دخانا، وهنا الوقود لم ينته؛ لأنه قال: ﴿اسْتَوْقَدَ﴾ ﴿فَلَمَّا أَضَاءَتْ﴾، بمجرد الإضاءة ذهب الله بالنور، معناه أن الوقود لم ينته بعد، وحينئذ يكون الدخان، فصارت الظلمات الآن ثلاثة، صارت ثلاثا، ﴿فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ﴾، النور مفرد، ﴿بِنُورِهِمْ﴾ الظلمات جمع؛ لأن النور واحد لا يتكرر أو لا يتضعّف، واحد، سواء قوي أو ضعف، ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾، أي: لا يرون.
﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾، أعوذ بالله، هذا حالهم، يعني بعد أن ذكر المثل ذكر الحال، ﴿صُمٌّ﴾ عن سماع الحق، ﴿بُكْمٌ﴾ عن قول الحق، ﴿عُمْيٌ﴾ عن رؤية الحق، فهم والعياذ بالله قد سُدت عليهم الأبواب من كل جانب، لا يسمعون إلى حق، ولو سمعوا ما انتفعوا، والثاني: ﴿بُكْمٌ﴾ لا ينطقون به؛ لأنهم ينطقون بالباطل، ﴿إِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ ﴾، ولا ينطقون أبدًا بالحق، حتى لو نطقوا به فهو باللسان فقط.﴿عُمْيٌ﴾ يعني عن الحق لا يرونه، ﴿فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ أي: فبناء على هذه الأوصاف الثلاثة لا يرجعون عما كانوا عليه.
نعود إلى فوائد الآية.
* في هذه الآية الكريمة: دليل على بلاغة القرآن حيث يضرب للمعقولات أمثالًا، إيش؟ محسوسات؛ لأن الشيء المحسوس أقرب إلى العقل من الشيء المعقول، لكن من بلاغة القرآن أن الله تعالى يضرب الأمثال المحسوسة للمعاني المعقولة حتى يدركها الإنسان جيدًا.
* ومن فوائد الآية الكريمة: إقرار القياس، يعني أنه دليل يؤخذ به، وجه ذلك؟
* طالب: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾.
* الشيخ: لا، هذه الآية، هذا الدليل، لكن نريد وجه الاستدلال؟
* الطالب: الكاف.
* الشيخ: الكاف أيضًا للتشبيه.
* الطالب: الله عز وجل قاس هؤلاء بـ ﴿الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾.
* الشيخ: أراد منا أن نقيس حالهم على حال من استوقد، وكل مثل في القرآن فهو دليل على إقرار القياس وإثبات القياس، أي مثل في القرآن فهو دليل، فيكون بذلك رد على منكري القياس، يعني بعد ما نُثبت نقول: فيها رد، أنتم تقرؤون القرآن كل يوم وليلة وتجدون فيه الأمثال، وهي لا شك قياس واضح جلي.
* من فوائد هذه الآية الكريمة: أن هؤلاء المنافقين ليس في قلوبهم نور؛ لقوله: ﴿كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾، أي: طلب إيقادها من غيره، وهو كذلك، فهؤلاء المنافقون يستطعمون الهدى والعلم والنور، فإذا وصل إلى قلوبهم بمجرد ما يصل إليها يتضاءل ويزول؛ لأن هؤلاء المنافقين إخوان للمؤمنين من حيث النسب وأعمام وأخوال وأقارب، فربما يجلس إلى المؤمن حقا فيتكلم له بالإيمان الحقيقي ويدعوه، فينقدح في قلبه هذا الإيمان، ولكن سرعان ما يزول، نسأل الله لنا ولكم الثبات.
* من فوائد الآية الكريمة: أن الإيمان لا بد أن يكون له أثره حتى في قلب المنافق؛ لقوله: ﴿فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ﴾، الإيمان أضاء بعض الشيء في قلوبهم، ولكن لما لم يكن على أسس لم يستقر، ولهذا قال تعالى في سورة المنافقين وهي أوسع ما تكلم وتحدث الله به عن المنافقين قال: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ [المنافقون ٣]، هذا الإيمان الذي انقدح في قلوبهم على طول زال.
* من فوائد هذه الآية الكريمة: أن نور الإيمان في قلوب المنافق لا يعدو صدورهم؛ لقوله: ﴿أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ﴾، ولم يتقدم إلى الأمام، لم يؤمنوا بالآخرة ولا بالرسل السابقين، ولكن حصل هذه القلة من الإيمان فأضاءت ما حوله ثم ذهب.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أنه بعد أن ذهب هذا الضياء حلّت بعده الظلمة الشديدة بل الظلمات.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الله تعالى جازاهم على حسب ما في قلوبهم، ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾، كأنه أخذه قهرًا.
فإن قال قائل: أليس في هذا دليل على مذهب الجبرية؟ فالجواب: لا؛ لأن هذا الذي حصل من رب العباد عز وجل بسببهم، وتذكر دائما قول الله تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾، حتى يتبيّن لك أن كل من وصفه الله بأنه أضله فهو السبب، هو سبب نفسه، أي سبب ضلاله.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: تخلي الله عنهم؛ لقوله: ﴿وَتَرَكَهُمْ﴾، تخلى الله عنهم، ويتفرع على ذلك أن من تخلى الله عنه فهو هالك ليس عنده نور ولا هدى ولا صلاح، ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾، يعني لا يمكن أن يكون لهم.
* * *
* طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (١٩) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة ١٩، ٢٠]
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، انتهى المثل الأول الذي ضربه الله تعالى للمنافقين؛ لأن الله تعالى ضرب لهم مثلين: المثل الأول مثل ناري، والمثل الثاني مثل مائي، وانتهى الكلام على المثل الأول في فوائده وأحكامه، أليس كذلك؟
* طالب: نعم، في فوائد ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ ما أخبرتم؟
* الشيخ: طيب،* من فوائد هذه الآية: أن هؤلاء -والعياذ بالله- أصم الله آذانهم فلا يسمعون الحق، ولو سمعوا ما انتفعوا، ويجوز أن يُنفى الشيء لانتفاء الانتفاع به، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ﴾ [الأنفال ٢١].
﴿بُكْمٌ﴾، * ويستفاد منها: أن هؤلاء المنافقين لا ينطقون بالحق كالأبكم.
* ويستفاد أيضًا من هذه الآية: أنهم لا يبصرون الحق كالأعمى.
* ويستفاد من هذا: أنهم لن يرجعوا عن غيهم؛ لأنهم يعتقدون أنهم محسنون، وأنهم صاروا أصحابًا للمؤمنين وأصحابًا للكافرين، هم أصحاب للمؤمنين في الظاهر، وأصحاب للكافرين في الباطن، ومن استحسن شيئًا فإنه لا يكاد أن يرجع عنه، وهذه هي الفائدة أيضًا.
* فائدة أخيرة: أن الإنسان إذا استحسن الشيء فإن رجوعه عنه يكون بعيدًا.
أما المثل الثاني فقال الله تعالى: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ﴾، (أو) هنا للتنويع وليست للشك؛ لأن الله سبحانه تعالى عليم بكل شيء، فلا يدخل الشك في خبره، فهي إذن للتنويع، وهل هذا النوع مثل آخر ينطبق على أصحاب المثل الأول؟ أو هو مثَل لأصناف آخرين من المنافقين؟ في هذا قولان للعلماء: فمنهم من قال: إن حال المنافقين تشبه المثل الأول وتشبه المثل الثاني، ومنهم من قال: إن لكل مثل قوما من هؤلاء المنافقين، وبعد أن نشرح إن شاء الله تعالى هذا المثل يتبين أي القولين أصح.
قوله: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ﴾، قيل: إن فيه محذوفا، والتقدير: كأصحاب صيب، بدليل قوله: ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ﴾، أي: يجعل أصحاب هذا الصيب أصابعهم في آذانهم، وقيل: إنه لا يحتاج إلى هذا التقدير، بل إن الله تعالى ضرب المثل بالصيب نفسه، والصيب هو المطر، سمي بذلك؛ لأنه ينزل، وكل شيء نازل يسمى صيبا، وأصلها من صاب يصوب، فنجد الآن أن إحدى الياءين منقلب عن واو، أيهما؟ الياء الأولى أو الثانية؟
* الطلبة: الأولى.
* الشيخ: أصلها صَيْوِب، فهي إذن الثانية، ولكنها اجتمعت الواو والياء في كلمة وسبقت إحداهما بالسكون فقُلبت الثانية ياء وأدغمت في الياء الأولى، هذه قاعدة تصريفية ربما لا يعرفها من لم يكن عرف الصرف، لكن هذه القاعدة تصريفية، إذا اجتمعت الواو والياء في كلمة وسبقت إحداهما بالسكون وجب قلب الواو ياء ثم تدغم مع الياء الموجودة.
﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ﴾، قوله: ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾ هذه بيان للواقع وليست قيدًا مخرجًا لما يخالف المنطوق، وذلك أن الصيب لا بد أن يكون من السماء؛ لأنا قلنا إنه النازل، النازل وهو المطر، وفائدة ذكره بيان الواقع من وجه، وبيان أن هذا الصيب عظيم؛ لأن النازل من السماء يخوِّف أكثر من الجاري في الأرض؛ لأن الجاري من الأرض يمكن الهرب منه، لكن النازل من السماء لا يمكن الهرب منه.
﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾، ﴿ظُلُمَاتٌ﴾ جمع ظلمة، فما هذه الظلمات؟ الظلمات: ظلمة الليل، هذه واحدة، الثانية: ظلمة السحاب، الثالث: ظلمة الصيب الذي هو المطر، فإنه يحدث الظلمة ﴿فِيهِ ظُلُمَاتٌ﴾، ﴿وَرَعْدٌ﴾، وهو الصوت المسموع من السحاب. ﴿وَبَرْقٌ﴾ وهو النور أو الضوء المشاهد في السحاب، والبرق سابق على الرعد؛ لأن الرعد يتأخر بواسطة المسافة بينه وبين الأرض، والصوت أقل سرعة من الضوء؛ لأن الضوء تدركه العين، والصوت تدركه الأذن.
﴿وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ﴾، الفاعل في (يجعلون) يعود على أصحاب الصيب، ما هو على المطر، المطر ليس له أصابع وليس له آذان، لكن يجعلون، أي: الذين أصيبوا بهذا الصيب، فيكون المعنى: أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق أصاب قوما، فصاروا يجعلون أصابعهم في آذانهم، الأصابع معروفة، والآذان كذلك معروفة.
ولكن في قوله: ﴿أَصَابِعَهُمْ﴾، كيف يصح مع أن الأصبع لا يدخل في الأذن، إنما يدخل في الأذن الأنملة، لكن لشدة إدخالهم الأصبع كأنهم يحاولون أن تدخل الأصابع كلها حتى لا يسمعوا صوت الرعد، وهو دليل على جبنهم وخوفهم.
﴿أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ﴾ (من) هنا للسببية، أي: بسبب الصواعق التي ترسلها السحب.
والصاعقة هي عبارة عن شحنة كهربائية عظيمة يرسلها الله عز وجل فيصيب بها من يشاء، يرسلها الله فيصيب بها من يشاء، وهي -سبحان الله - قد تصيب الرجل على فراشه مع امرأته فيهلك الرجل وتسلم المرأة، أو تصيب الشاة يجرها صاحبها ويسلم صاحبها، أو يسوقها ويسلم السائق؛ لأن الله تعالى يرسلها فيصيب بها من يشاء، والمسألة ليست هكذا جزافا، بل كل شيء عند الله تعالى بمقدار، وهذه الشحنة يقولون إنه لو اجتمع جميع مولدات الكهرباء في الدنيا بأقوى ما يكون فإنها لن تبلغ ما تحمله هذه الشحنة، وهذا شيء واضح، إذا رأيت -سبحان الله العظيم- البرق وإيش بيننا وبينه؟ مسافات، ومع ذلك تجد البرق إذا ومض تجده مثلًا أحيانًا يكون شبر، يعني عرضه أحيانًا، مع بُعده، الطائرة لو كانت دونه في المستوى ما تجلّى كالنجمة الخفية، لكن هذا تجد شيء عظيم، ويدل لهذا النور الذي يكون على الأرض منه وأنه شيء عظيم.
وقوله: ﴿مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾، ﴿الصَّوَاعِقِ﴾ جمع صاعقة، وهي التي تصعق الإنسان فتهلكه، ﴿حَذَرَ الْمَوْتِ﴾، هذه مفعول لأجله، وعاملها ﴿يَجْعَلُونَ﴾، والمعنى أنهم يجعلون ذلك لئلا يموتوا، ولكن هل هذا يغني عنهم شيئًا؟ لا يغني، لكن هذا فعل النعامة تدس رأسها في الرمل لئلا ترى الصياد، ولكن الصياد يراها، فلا تسلم منه بذلك، كذلك هؤلاء الذين يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق لا يسلمون بهذا، إذا أراد الله أن يصيبهم أصابهم، ولهذا قال: ﴿وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ فلن ينفعهم هذا الحذر.
ثم بيّن الله تعالى شدة هذا عليهم، شدة الضوء، لما بين شدة الصوت وأنهم لفرارهم منه وعدم تحملهم إياه ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ﴾ بيّن شدة الضوء عليهم، فقال: ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾؛ لأن أبصارهم ضعيفة لا تتحمل، وإنما يكاد يخطف أبصارهم يعني يأخذها بسرعة؛ لأنه يأتي بسرعة، ثم تأتي بعده ظلمة سريعة، فربما يكون ذلك سببًا لفقد البصر، ثم قال: ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾، شوف الفرق، الإضاءة قال: ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ﴾، فكأنهم ينتهزون الفرصة، فرصة الإضاءة، ولا يتأخرون عن الإضاءة طرفة عين، وينتهزون الفرصة في ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ﴾، ولو شيئًا يسيرًا، وهو شيء يسير، إذا لم يكن البرق متعاقبًا بسرعة فإن وميض البرق يسير جدًّا، لا يخطون خطوة إلا وقد جاءهم الظلام.
﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾، يعني وقفوا، ﴿قَامُوا﴾ بمعني وقفوا، ﴿إِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾، كيف أظلم عليهم؟ لأن وميض البرق يولِّد ظلمة فوق ظلمة الليل، ونحن ذكرنا في أول الآية أنه ظلمات: ظلمة الليل، وظلمة السحاب، وظلمة المطر، هؤلاء إذا أظلم عليهم قاموا، فتكون هذه ظلمة رابعة، وهي فقد الضوء، فإن فقد الضوء، إذا فقدت الضوء صار الشيء مظلمًا أكثر مما كان عليه في الواقع، فيكون الآن الظلمات تكون أربع ظلمات. ﴿وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾، أي: وقفوا.
﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾، دون أن تحدث الصواعق ودون أن يحدث البرق؛ لأن الله تعالى على كل شيء قدير، فهو قادر على أن يُذهب السمع والبصر بدون أسباب، فالسمع بدون صواعق؛ لأن الصواعق صوتها عظيم ربما يصم الآذان، والبرق أيضًا نوره عظيم ربما يخطف الأبصار. ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ دون أن يحصل هذا. ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
لننظر الآن على أي شيء ينطبق هذا المثل؟ هذا المثل ينطبق على قوم منافقين لم يؤمنوا إطلاقا، لم يؤمنوا، أصلهم منافقون، وهم المنافقون اليهود؛ لأن المنافقين منهم عرب من الخزرج والأوس، ومنهم يهود من بني إسرائيل، اليهود لم يذوقوا طعم الإسلام أبدًا، ليش؟ لأنهم كفار من الأصل، لكن أظهروا الإسلام خوفًا من النبي ﷺ بعد أن أعزه الله في بدر، هؤلاء ليسوا على هدى كالأولين، الأولين استوقدوا النار، وصار عندهم شيء من النور بهذه النار، ثم -والعياذ بالله- انتكسوا، لكن هؤلاء من الأصل.
دون أن تحدث الصواعق ودون أن يحدث البرق؛ لأن الله تعالى على كل شيء قدير، فهو قادر على أن يُذهب السمع والبصر بدون أسباب، فالسمع بدون صواعق؛ لأن الصواعق صوتها عظيم ربما يصم الآذان، والبرق أيضا نوره عظيم ربما يخطف الأبصار، ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ دون أن يحصل هذا، ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
لننظر الآن على أي شيء ينطبق هذا المثل؟ هذا المثل ينطبق على قوم منافقين لم يؤمنوا إطلاقا، لم يؤمنوا، أصلهم منافقون وهم المنافقون اليهود؛ لأن المنافقين منهم عرب من الخزرج والأوس، ومنهم يهود من بني إسرائيل، اليهود لم يذوقوا طعم الإسلام أبدا، ليش؟ لأنهم كفار من الأصل، لكن أظهروا الإسلام خوفا من النبي ﷺ بعد أن أعزه الله في بدر، هؤلاء ليسوا على هدى كالأولين، الأولين استوقدوا النار، وصار عندهم شيء من النور بهذه النار، ثم -والعياذ بالله- انتكسوا، لكن هؤلاء من الأصل في ظلمات، فيكون هذا المثل غير المثل الأول، بل هو لقوم آخرين، والمنافقون أصناف بلا شك، حال هؤلاء لم يدخلوا في الإسلام من الأصل فحالهم حال هؤلاء القوم الذين أصابهم الصيب وصارت حالهم إلى ما ترى. فلننظر.
﴿الصَّوَاعِق﴾: عبارة عن ما في القرآن من الإنذار والخوف، ولهذا يقول الله عنهم في آية أخرى: ﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ﴾ [المنافقون ٤].
﴿الْبَرْقُ﴾: نور الإسلام، لكنه ليس نورا يستمر، نور البرق كما تعلمون.. أيش؟ ينقطع بلحظة، وميض، فهؤلاء لم يدخل الإيمان في قلوبهم أصلا ولا فكروا في ذلك، وإنما يرون هذا النور العظيم الذي شع، فينتفعون به لمجرد خطوة يخطونها فقط، وبعد ذلك يقفون.
كذلك أيضا ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُم﴾؛ لأنهم لا يتمكنون من رؤية النور الذي جاء به النبي ﷺ، بل لكبريائهم وحسدهم للعرب يكاد هذا البرق يعمي أبصارهم؛ لأنه قوي عليهم لا يستطيعون مدافعته ومقابلته، فالظاهر أن القول الراجح: أن هذين مثلان يتنزلان على صنفين من المنافقين.
طيب، إذا قال قائل: الصنف الأول كيف نقول: إنه دخل الإيمان في قلوبهم؟ نقول: نعم قال الله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ﴾ [المنافقون٣]، دخلهم الإيمان لكنه لم يتمكن في قلوبهم، صاروا كالأعراب الذين قالوا: ﴿آمَنَّا﴾ [الحجرات ١٤] فقال الله: ﴿قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ [الحجرات ١٤]، وإلا فإن الإيمان إذا دخل القلب دخولا حقيقيا مطمئنا الإنسان فيه فإنه لن يخرج منه بإذن الله، ولهذا سأل هرقل أبا سفيان عن أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام الذين يدخلون الإسلام: «هل أحدٌ منهم ارتدَّ عن دينِهِ؟ فقال: لا، فقال: هذا الإيمانُ، إذا وقَرَ في القلبِ فإنّه لا يخرُجُ منْهُ»(٥).
لكن الإيمان الهش الذي لم يتمكن من القلب هذا هو الذي يُخشى على صاحبه، أجارني الله وإياكم.
* في هذه الآية من الفوائد: ما سبق من كمال بلاغة القرآن وبيانه، وذلك بضرب الأمثال المحسوسة للوصول إلى معرفة المعاني المعقولة.
* ومن فوائد هذه الآية: إثبات القياس في الشرع، وقد ذكرنا قبل هذا قاعدة أن كل مثل في القرآن فإنه يدل على أيش؟ على إثبات القياس؛ لأن المراد به إلحاق هذا الشيء بهذا الشيء.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أنه كلما عظمت الظلمات صار الإنسان أشد فزعا؛ لقوله: ﴿فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ﴾.
* ومن فوائدها أيضا: أن الخوف من الرعد والبرق كان أمرا طبيعيا؛ لما يحدث من الرعد أحيانا من الصواعق، ولو كان مجرد صوت أو ضياء ما خاف الناس، لكن الناس يخافون أيش؟ يخافون الصواعق، أما مجرد الصوت فإنه ولو كان أقوى من هذا لا يفزع الناس، لكن يفزعون من هذا، إلا أنه قد قيل: متى سمعت صوت الرعد فقد سلمت من الصاعقة؛ صح؟
* طالب: صحيح.
* الشيخ: ليش؟ لأن الضوء أسرع، فهذه الشحنة الكهربائية تصل إلى الأرض قبل أن تسمع الصوت، فمتى سمعت الصوت فاعلم أنك سلمت من هذه الصاعقة التي تكون في هذا الرعد.
* ومن فوائد هذه الآية: بيان شح الإنسان بحياته؛ لقوله: ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ وإلا من المعلوم أن الإنسان لو أقصى أصبعه في أذنه فسوف يتألم، لكنه يتألم خوفا مما هو أشد ألما وهو الموت، هل يمكن أن يستفاد من ذلك ارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما؟
* الطلبة: نعم.
* الشيخ: إي نعم، يمكن، لكن كما تعلمون هذا أمر طبيعي ما هو أمر شرعي، الذي يمكن أن نستدل به على ارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما ما حصل من الخضر حين خرق السفينة حفاظا عليها؛ لأن السفينة سوف تمر بملك يأخذ السفن الصالحة غصبا، فإذا مرت به وهي مخروقة تركها، فصار إفساد بعضها من أجل الإبقاء على الجميع.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: تهديد الكفار بأن الله محيط بهم؛ لقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِين﴾.
* ومن فوائدها: الانتقال من المعنى المحسوس إلى المعنى المعقول؛ لأن الله لم يقل: محيط بهم، بل قال: ﴿مُحِيطٌ بِالْكَافِرِين﴾، والمثل الذي ضُرب ضُرب مثلا للإنسان، يعني أي إنسان إذا حصل ظلمات ورعد وبرق فسوف يخاف ويحزن.
ومن فوائد هذه الآية الكريمة، التي بعد من؟ ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾، * من فوائدها: أن البرق الشديد يخطف البصر، ولهذا يُنهى الإنسان أن ينظر إلى البرق حال كون السماء تبرق؛ لئلا يُخطف بصره.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: اغتنام الفرص؛ ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيه﴾، وأن اغتنام الفرص من أعمال العقلاء.
* ومن فوائد الآية الكريمة: اجتناب الهلكات؛ ﴿وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات مشيئة الله؛ لقول الله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾.
* ومن فوائدها: أنه ينبغي للإنسان أن يلجأ إلى الله عز وجل أن يمتعه بسمعه وبصره، وفي الدعاء المأثور: «مَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا مَا أَبْقَيْتَنَا»(٦)؛ لقوله: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾.
* ومن فوائدها: إثبات هذا الاسم لله وهو: القدير.
* ومن فوائدها: عموم قدرة الله تعالى على كل شيء، فهو جل وعلا على كل شيء قدير، قادر على إيجاد المعدوم وعلى إعدام الموجود، وعلى تغيير الصالح إلى فاسد والفاسد إلى صالح، وغير ذلك.
* طالب: شيخ، قلنا: إذا سمعت الرعد فقد سلمت من الصاعقة، هل هذه الآية تقول: ﴿فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ﴾، هم يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق؟
* الشيخ: هذا ظنا منهم، ظنا منهم أنهم يسلمون، لكن ما يسلمون؛ لأن الله قال: ﴿وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِين﴾.
* الطالب: إذن هذه المقولة ليست على إطلاقها؟
* الشيخ: لا، على إطلاقها.
* طالب: إذا تكرر..؟
* الشيخ: خله إذا تكرر، هذه شحنة جديدة، ولهذا قلنا: الشحنة السابقة على الرعد إذا سمعت الرعد ما عادت تصيب.
* طالب: قد تصاب بالصاعقة في نفس هذا المطر؟
* الشيخ: إي نعم، لكن من شحنة جديدة، يعني لو فُرض البرق يتكرر هذا يمكن أن يأتي من غير ما سمعت أولا.
* طالب: الصوت والضوء بينهما فرق كبير.
* الشيخ: إي نعم.
* طالب: شيخ، إذا قيل: من فوائد هذه الآية من ناحية البلاغة أنه عبّر بالكل وأراد الجزء، هل يلزم من ذلك إثبات المجاز؟
* الشيخ: أيهم؟ ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُم﴾؟ لا، ما يلزم؛ لأن كلّ يعرف أن أصابعهم ليس المراد جميع الأصبع.
* طالب: إذا قيل هكذا أراد، عبر بالكل وأراد الجزء؟
* الشيخ: نعم للمبالغة.
* طالب: عبر بالجزء وأراد..
* الشيخ: لا، عبر بالكل وأراد الجزء.
* طالب: خطْف البرق لأبصار هؤلاء هل يختص بهم؟
* الشيخ: لا، هذا هو الواقع أنه يكاد يخطف أبصارهم، ولهذا ينبغي للإنسان إذا أراد أن يطفئ المصباح أن يغمض عينيه أو يغطي وجهه، هذا شيء مشاهَد.
* طالب: شيخ ذكر البرق والرعد للتخويف هل هو للمنافقين فقط والكفار، أم على إطلاقه؟ يعني بس الآن لا نخاف من مثل البرق، هل هذا دليل إيمان؟
* الشيخ: لا، هذا خوف طبيعي، بارك الله فيك، كل إنسان يخاف.
* طالب: بس الحين ما حد يخاف من شدة البرق والرعد إلا إذا كان في الصحراء؟
* الشيخ: هذا ما أحد ما يخاف؟ إلا الحجاج إن صح ما نُقل عنه، أنه لما حاصر مكة أرسل الله تعالى السحاب وفيه الرعد والبرق، وكانوا يخوّفونه فيقول: لا، هذه أيش، يعني قعاقع الحجاز، أو كلمة نحوها، يعني استهتر والعياذ بالله، وإلّا الإنسان بطبيعته لا بد أن يخاف.
(١) أخرجه البخاري (٣٠١٧) من حديث ابن عباس.
(٢) متفق عليه، أخرجه البخاري (٦٩٦٧)، ومسلم (١٧١٣/٤)، ولفظه عند البخاري: «إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا، فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار».
(٣) متفق عليه، أخرجه البخاري (٧)، مسلم (١٧٧٣/٧٤) من حديث أبي سفيان.
(٤) متفق عليه، أخرجه البخاري (٤٦٨٦)، ومسلم (٢٥٨٣/٦١) من حديث أبي موسى.
(٥) أخرجه البخاري (7) من حديث أبي سفيان بلفظ: أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.