جامع البيان — ابن جرير الطبري (٣١٠ هـ)
﴿ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ﴾ [البقرة ٢]
القول في تأويل قوله جَل ثناؤه: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ .
قال عامّة المفسرين: تأويل قول الله تعالى ﴿ذلك الكتاب﴾ : هذا الكتاب.
* ذكر من قال ذلك:
٢٤٧- حدثني هارون بن إدريس الأصم الكوفيّ، قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن ابن جُريج، عن مجاهد:"ذلك الكتاب" قال: هو هذا الكتاب.
٢٤٨- حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن عُلَية، قال: أخبرنا خالد الحذّاء، عن عكرمة، قال:"ذلك الكتاب": هذا الكتاب.
٢٤٩- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري قال: حدثنا الحَكَم بن ظُهَير، عن السُّدِّي، في قوله"ذلك الكتاب" قال: هذا الكتاب(١) .
٢٥٠- حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود. قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قوله:"ذلك الكتاب": هذا الكتاب. قال: قال ابن عباس:"ذلك الكتاب": هذا الكتاب(٢) .
فإن قال قائل: وكيف يجوزُ أن يكون"ذلك" بمعنى"هذا"؟ و"هذا" لا شكّ إشارة إلى حاضر مُعايَن، و"ذلك" إشارة إلى غائب غير حاضر ولا مُعايَن؟ قيل: جاز ذلك، لأن كل ما تَقضَّى، بقُرْبِ تَقضِّيه من الإخبار(٣) ، فهو -وإن صار بمعنى غير الحاضر- فكالحاضر عند المخاطب. وذلك كالرجل يحدِّث الرجلَ الحديثَ فيقول السامع:"إن ذلك والله لكما قلت"، و"هذا والله كما قلت"، و"هو والله كما ذكرت"، فيخبرُ عنه مَرَّة بمعنى الغائب، إذْ كان قد تَقضَّى ومضى، ومرة بمعنى الحاضر، لقُرْب جوابه من كلام مخبره، كأنه غير مُنْقَضٍ. فكذلك"ذلك" في قوله ﴿ذلك الكتاب﴾ لأنه جلّ ذكره لما قدم قبلَ"ذلك الكتاب""ألم"، التي ذكرنا تصرُّفَها في وجُوهها من المعاني على ما وصفنا، قال لنبيه ﷺ: يا محمد، هذا الذي ذكرته وبيَّنته لك، الكتابُ. ولذلكَ حسن وضع"ذلك" في مكان"هذا"، لأنه أشير به إلى الخبر عما تضمَّنهُ قوله"ألم" من المعاني، بعد تقضّي الخبر عنه بـ "ألم"، فصار لقرب الخبر عنه من تقضِّيه، كالحاضر المشار إليه، فأخبر به بـ "ذلك" لانقضائه، ومصير الخبر عنه كالخبر عن الغائب، وترجمهُ المفسِّرون(٤) : أنه بمعنى"هذا"، لقرب الخبر عنه من انقضائه، فكانَ كالمشاهَد المشار إليه بـ "هذا"، نحو الذي وصفنا من الكلام الجاري بين الناس في محاوراتهم، وكما قال جل ذكره: ﴿وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأخْيَارِ هَذَا ذِكْرٌ﴾ [سورة ص: ٤٨، ٤٩] فهذا ما في"ذلك" إذا عنى بها"هذا".
وقد يحتمل قوله جل ذكره ﴿ذلك الكتاب﴾ أن يكون معنيًّا به السُّوَرُ التي نزلت قبل سورة البقرة بمكة والمدينة، فكأنه قال جلّ ثناؤه لنبيه محمد ﷺ: يا محمد، اعلم أنّ ما تضمَّنتْه سُوّرُ الكتاب التي قد أنزلتها إليك، هو الكتابُ الذي لا ريبَ فيه. ثم ترجمه المفسرون(٥) بأن معنى"ذلك""هذا الكتاب"، إذْ كانت تلك السُّور التي نزلت قبل سورة البقرة، من جملة جميع كتابنا هذا، الذي أنزله الله عز وجل على نبينا محمد ﷺ.
وكان التأويل الأول أولى بما قاله المفسرون، لأنّ ذلك أظهرُ معاني قولهم الذي قالوه في"ذلك".
وقد وَجَّه معنى"ذلك" بعضُهم، إلى نظير معنى بيت خُفاف بن نُدبة السُّلميّ:
فَإن تَكُ خَيْلي قد أُصِيبَ صَمِيمُها ... فَعَمْدًا على عَيْنٍ تَيَمَّمْتُ مَالِكَا(٦) أقولُ له، والرُّمحُ يأطِرُ مَتْنَهُ: ... تأمَّل خُفاَفًا، إنني أنا ذلِكَا(٧)
كأنه أراد: تأملني أنا ذلك. فزعم أنّ"ذلك الكتاب" بمعنى"هذا"، نظيرُه(٨) . أظهر خفافٌ من اسمه على وجه الخبر عن الغائب، وهو مخبر عن نفسه. فكذلك أظهر"ذلك" بمعنى الخبر عن الغائب(٩) ، والمعنى فيه الإشارة إلى الحاضر المشاهَد.
والقول الأول أولى بتأويل الكتاب، لما ذكرنا من العلل.
وقد قال بعضهم: ﴿ذلك الكتاب﴾ ، يعني به التوراة والإنجيل، وإذا وُجّه تأويل"ذلك" إلى هذا الوجه، فلا مؤونة فيه على متأوِّله كذلك، لأن"ذلك" يكون حينئذ إخبارًا عن غائب على صحة.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ .
وتأويل قوله:"لا ريب فيه""لا شك فيه". كما:-
٢٥١- حدثني هارون بن إدريس الأصم، قال: حدثنا عبد الرحمن المحاربي عن ابن جُريج، عن مجاهد: لا ريب فيه، قال: لا شك فيه.
٢٥٢- حدثني سَلام بن سالم الخزاعي، قال: حدثنا خَلَف بن ياسين الكوفي، عن عبد العزيز بن أبي رَوَّاد، عن عطاء،"لا ريب فيه": قال: لا شك فيه(١٠) .
٢٥٣- حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا الحَكم بن ظُهَير، عن السُّدِّيّ، قال:"لا ريب فيه"، لا شك فيه.
٢٥٤- حدثني موسى بن هارون الهَمْداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مُرَّة الهَمْداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي ﷺ:"لا ريب فيه"، لا شك فيه.
٢٥٥- حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سَلَمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"لا ريبَ فيه"، قال: لا شكّ فيه.
٢٥٦- حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس:"لا ريب فيه"، يقول: لا شك فيه.
٢٥٧- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة:"لا ريب فيه"، يقول: لا شك فيه.
٢٥٨- حُدِّثت عن عَمّار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: قوله"لا ريب فيه"، يقول: لا شك فيه(١١) .
وهو مصدر من قول القائل: رابني الشيء يَريبني رَيبًا. ومن ذلك قول ساعدة بن جُؤَيَّة الهذليّ:
فقالوا: تَرَكْنَا الحَيَّ قد حَصِرُوا به، ... فلا رَيْبَ أنْ قد كان ثَمَّ لَحِيمُ(١٢)
ويروى:"حَصَرُوا" و"حَصِرُوا" والفتحُ أكثر، والكسر جائز. يعني بقوله"حصروا به": أطافوا به. ويعني بقوله"لا ريب". لا شك فيه. وبقوله"أن قد كان ثَمَّ لَحِيم"، يعني قتيلا يقال: قد لُحِم، إذا قُتل.
والهاء التي في"فيه" عائدة على الكتاب، كأنه قال: لا شك في ذلك الكتاب أنه من عند الله هُدًى للمتقين.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿هُدًى﴾
٢٥٩- حدثني أحمد بن حازم الغفاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن بَيَان، عن الشعبي،"هُدًى" قال: هُدًى من الضلالة(١٣) .
٢٦٠- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط بن نصر، عن إسماعيل السُّدّي، في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مُرة الهَمْداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي ﷺ،"هدى للمتقين"، يقول: نور للمتقين(١٤) .
والهدى في هذا الموضع مصدرٌ من قولك: هديتُ فلانًا الطريق -إذا أرشدتَه إليه، ودللَته عليه، وبينتَه له- أهديه هُدًى وهداية.
فإن قال لنا قائل: أوَ ما كتابُ الله نورًا إلا للمتّقين، ولا رَشادًا إلا للمؤمنين؟ قيل: ذلك كما وصفه رّبنا عزّ وجل. ولو كان نورًا لغير المتقين، ورشادًا لغير المؤمنين، لم يخصُصِ الله عز وجل المتقين بأنه لهم هدًى، بل كان يعُمّ به جميع المنذَرين. ولكنه هدًى للمتقين، وشفاءٌ لما في صدور المؤمنين، وَوَقْرٌ في آذان المكذبين، وعمىً لأبصار الجاحدين، وحجةٌ لله بالغةٌ على الكافرين. فالمؤمن به مُهتدٍ، والكافر به محجوجٌ(١٥) .
وقوله"هدى" يحتمل أوجهًا من المعاني:
أحدُها: أن يكون نصبًا، لمعنى القطع من الكتاب، لأنه نكرة والكتاب معرفة(١٦) . فيكون التأويل حينئذ: ألم ذلك الكتاب هاديًا للمتقين. و"ذلك" مرفوع بـ "ألم"، و"ألم" به، والكتابُ نعت لـ "ذلك".
وقد يحتمل أن يكون نصبًا، على القطع من رَاجع ذكر الكتاب الذي في "فيه"، فيكونُ معنى ذلك حينئذ: ألم الذي لا ريب فيه هاديًا.
وقد يحتمل أن يكون أيضًا نصبًا على هذين الوجهين، أعني على وجه القطع من الهاء التي في"فيه"، ومن"الكتاب"، على أن"ألم" كلام تام، كما قال ابن عباس إنّ معناه: أنا الله أعلم. ثم يكون"ذلك الكتاب" خبرًا مستأنفًا، فيرفع حينئذ"الكتاب" بـ "ذلك"، و"ذلك" بـ "الكتاب"، ويكون"هُدًى" قطعًا من"الكتاب"، وعلى أن يرفع"ذلك" بالهاء العائدة عليه التي في"فيه"، و"الكتاب" نعتٌ له؛ والهدى قطع من الهاء التي في" فيه". وإن جُعِل الهدى في موضع رفع، لم يجز أن يكون"ذلك الكتاب" إلا خبرًا مستأنفًا، و"ألم" كلاما تامًّا مكتفيًا بنفسه، إلا من وجه واحد، وهو أن يُرفع حينئذ"هُدًى" بمعنى المدح، كما قال الله جل وعز: ﴿ألم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُحْسِنِينَ﴾ [سورة لقمان: ١-٣] في قراءة من قرأ"رحمةٌ". بالرفع، على المدح للآيات.
والرفع في"هدى" حينئذ يجوز من ثلاثة أوجه: أحدُها ما ذكرنا من أنه مَدْحٌ مستأنفٌ. والآخر: على أن يُجعل مُرافعَ" ذلك"، و"الكتاب" نعتٌ"لذلك". والثالث: أن يُجعل تابعًا لموضع"لا ريب فيه"، ويكون"ذلك الكتاب" مرفوعًا بالعائد في"فيه". فيكون كما قال تعالى ذكره: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ﴾ [سورة الأنعام: ٩٢] .
وقد زعم بعض المتقدمِّين في العلم بالعربية من الكوفيين، أنّ"ألم" مرافعُ"ذلك الكتاب" بمعنى: هذه الحروف من حروف المعجم، ذلك الكتابُ الذي وعدتُك أن أوحَيه إليك(١٧) . ثم نقض ذلك من قوله فأسرع نَقْضَه، وهَدمَ ما بنى فأسرع هَدْمَه، فزعم أن الرفع في"هُدًى" من وجهين، والنصبَ من وجهين. وأنّ أحد وَجهي الرفع: أن يكون"الكتابُ" نعتًا لِـ "ذلك" و"الهدى" في موضع رفعٍ خبرٌ لِـ "ذلك".
كأنك قلت: ذلك هدًى لا شكّ فيه(١٨) . قال: وإن جعلتَ"لا ريب فيه" خبرَه، رفعتَ أيضًا"هدى"، بجعله تابعًا لموضع"لا ريب فيه"، كما قال الله جل ثناؤه: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ﴾ ، كأنه قال: وهذا كتابٌ هُدًى من صفته كذا وكذا. قال: وأما أحدُ وجهي النَّصْب فأن تَجعَل الكتاب خبرًا لـ "ذلك"، وتنصبَ"هدى" على القطع، لأن"هدى" نكرة اتصلت بمعرفة، وقد تمّ خبرُها فنصبْتَها(١٩) لأن النكرة لا تكون دليلا على معرفة. وإن شئت نصبت"هدى" على القطع من الهاء التي في"فيه" كأنك قلت: لا شك فيه هاديًا(٢٠) .
قال أبو جعفر: فترك الأصل الذي أصَّله في"ألم" وأنها مرفوعة بـ "ذلك الكتاب"، ونبذه وراء ظهره. واللازم كان له على الأصل الذي أصَّله، أن لا يجيز الرَّفع في"هدى" بحالٍ إلا من وَجْه واحدٍ، وذلك من قِبَلِ الاستئناف، إذ كان مَدْحًا. فأما على وجه الخبر"لذلك"، أو على وجه الإتباع لموضع"لا ريب فيه"، فكان اللازم له على قوله أن يكون خطأ. وذلك أن"ألم" إذا رافعت"ذلك الكتاب"، فلا شك أن"هدى" غيرُ جائز حينئذٍ أن يكون خبرًا"لذلك"، بمعنى المرافع له، أو تابعًا لموضع"لا ريب فيه"، لأن موضعه حينئذ نصبٌ، لتمام الخبر قبلَه، وانقطاعه -بمخالفته إيّاه- عنه.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿لِلْمُتَّقِينَ (٢) ﴾
٢٦١- حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن الحسن، قوله:"للمتقين" قال: اتَّقَوْا ما حُرِّم عليهم، وأدَّوا ما افتُرِض عليهم.
٢٦٢- حدثنا محمد بن حُميد، قال: حدثنا سَلَمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"للمتقين"، أي الذين يحذَرُون من الله عز وجل عقوبتَه في تَرْك ما يعرفون من الهُدى، ويرجون رحمَته بالتَّصديق بما جاء به.
٢٦٣- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرّة الهَمْداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي ﷺ:"هدًى للمتقين"، قال: هم المؤمنون.
٢٦٤- حدثنا أبو كُريب، قال: حدثنا أبو بكر بن عيّاش، قال: سألني الأعمش عن"المتقين"، قال: فأجبتُه، فقال لي: سئل عنها الكَلْبَيّ. فسألتُه، فقال: الذين يَجتنِبُون كبائِرَ الإثم. قال: فرجَعْت إلى الأعمش، فقال: نُرَى أنه كذلك. ولم ينكره.
٢٦٥- حدثني المثنى بن إبراهيم الطبري، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، عن عبد الرحمن بن عبد الله، قال حدثنا عمر أبو حفص، عن سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة:"هدى للمتقين"، هم مَنْ نعتَهم ووصفَهم فأثبت صفتهم، فقال: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ .
٢٦٦- حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمَارة، عن أبي رَوق، عن الضحاك، عن ابن عباس:"للمتقين" قال: المؤمنين الذين يتَّقُون الشِّرك بي، ويعملون بطاعتي(٢١) .
وأولى التأويلات بقول الله جل ثناؤه ﴿هدى للمتقين﴾ ، تأويلُ من وصَف القومَ بأنهم الذين اتَّقوُا اللهَ تبارك وتعالى في ركوب ما نهاهم عن ركوبه، فتجنبوا معاصِيَه، واتَّقوْه فيما أمرهم به من فرائضِه، فأطاعوه بأدائها. وذلك أنّ الله عزّ وجلّ وصَفهم بالتقوَى، فلم يحصُرْ تقواهم إياه على بعضِ ما هو أهلٌ له منهم دون بعض(٢٢) . فليس لأحد من الناس أن يحصُر معنى ذلك، على وَصْفهم بشيء من تَقوى الله عز وجل دون شيء، إلا بحجة يجبُ التسليمُ لها. لأن ذلك من صفة القوم -لو كان محصورًا على خاصّ من معاني التقوى دون العامّ منها- لم يدعِ الله جل ثناؤه بيانَ ذلك لعباده: إما في كتابه، وإما على لسان رسوله ﷺ، إذْ لم يكن في العقل دليلٌ على استحالة وصفهم بعموم التقوى.
فقد تبيّن إذًا بذلك فسادُ قول من زعم أن تأويل ذلك إنما هو: الذين اتَّقَوُا الشرك وبرئوا من النِّفاق. لأنه قد يكون كذلك، وهو فاسقٌ غيرُ مستَحِق أن يكون من المتقين، إلا أن يكون -عند قائل هذا القول- معنى النفاق: ركوبُ الفواحش التي حَرَّمها الله جل ثناؤه، وتضييعُ فرائضه التي فرضها عليه. فإن جماعةً من أهل العلم قد كانت تسمِّي من كان يفعل ذلك منافقًا. فيكون -وإن كان مخالفًا في تسميته من كان كذلك بهذا الاسم- مصيبًا تأويلَ قول الله عز وجل"للمتقين".
(١) الأثر ٢٤٩- الحكم بن ظهير -بضم الظاء المعجمة- الفزاري، أبو محمد بن أبي ليلى الكوفي: ضعيف جدًا، رمى بوضع الحديث. قال البخاري في الكبير ١/٢/ ٣٤٢ - ٣٤٣: "تركوه منكر الحديث". وقال ابن أبي حاتم في الجرح ١/٢/ ١١٨ - ١١٩ عن أبي زرعة: "واهي الحديث". وقال ابن حبان في كتاب المجروحين، رقم ٢٣٩: "كان يشتم أصحاب محمد ﷺ، يروى عن الثقات الأشياء الموضوعات".
(٢) هذه الآثار جميعًا ٢٤٧ - ٢٥٠ ذكرها ابن كثير في تفسيره ١: ٧٠، والدر المنثور ١: ٢٤، والشوكاني ١: ٢١.
(٣) في المطبوعة"وقرب تقضيه". يريد: أن ذكر ما انقضى، وانقضاؤه قريب من إخبارك عنه.
(٤) ترجمه: أي فسره المفسرون وبينوه بوضع حرف مكان حرف. انظر ما مضى ٧٠ تعليق ١/٩٣: ٤/ ومواضع أخر.
(٥) ترجمه: أي فسره المفسرون وبينوه بوضع حرف مكان حرف. انظر ما مضى ٧٠ تعليق ١/٩٣: ٤/ ومواضع أخر.
(٦) الأغاني ٢: ٣٢٩/ ١٣: ١٣٤، ١٣٥/١٦: ١٣٤، والخزانة ٢: ٤٧٠، وغيرهما، ويأتي في الطبري ١: ٣١٤، ٤٣٧. يقول الشعر في مقتل ابن عمه معاوية بن عمرو أخى الخنساء. ومالك، هو مالك بن حِمَار الشمخي الفزاري. والخيل هنا: هم فرسان الغارة، وكان معاوية وخفاف غزوَا بني مرة وفزارة. والصميم: الخالص المحض من كل شيء. وأراد معاوية ومقتله يومئذ. ويقال: "فعلت هذا الأمر عمد عين، وعمدًا على عين"، إذا تعمدته مواجهة بجد ويقين. وتيمم: قصد وأمَّ.
(٧) "أقول له"، يعني لمالك بن حِمَار. وأطر الشيء يأطره أطرًا: هو أن تقبض على أحد طرفي الشيء ثم تعوجه وتعطفه وتثنيه. وأراد أن حر الطعنة جعله يتثنى من ألمها، ثم ينحني ليهوى صريعًا إذ أصاب الرمح مقتله. وأرى أن الإشارة في هذا البيت إلى معنى غائب، كأنه قال: "أنا ذلك الذي سمعت به وببأسه". وهذا المعنى يخرج البيت عن أن يكون شاهدًا على ما أراد الطبري.
(٨) في المطبوعة: "كأنه أراد: تأملني أنا ذلك، فرأى أن"ذلك الكتاب" بمعنى"هذا" نظير ما أظهر خفاف من اسمه. . . "، وهو تغيير لا خبر فيه.
(٩) في المطبوعة: "فلذلك أظهر ذلك. . ".
(١٠) الأثر ٢٥٢ - سلام، شيخ الطبري: لم أجد له ترجمة إلا في تاريخ بغداد ٩: ١٩٨ قال: "سلام بن سالم أبو مالك الخزاعي الضرير: حدث عن يزيد بن هارون، وعمر بن سعيد التنوخي، وموسى بن إبراهيم المروزي، والفضل بن جبير الوراق. روى عنه الحسين بن إسماعيل المحاملي". ليس غير. وأما شيخ سلام في هذا الإسناد"خلف بن ياسين الكوفي": فلم أجد إلا ترجمة في الميزان ١: ٢١١ ولسان الميزان ٢: ٤٠٥ لراو اسمه"خلف بن ياسين بن معاذ الزيات"، وهو رجل سخيف كذاب، لا يشتغل به. لا أدري أهو هذا أم غيره؟
(١١) هذه الآثار جميعًا ٢٥١ - ٢٥٨ ساقها ابن كثير ١: ٧١، وبعضها في الدر المنثور ١: ٢٤، والشوكاني ١: ٢٢. وقال ابن كثير بعد سياقتها: "قال ابن أبي حاتم: لا أعلم في هذا خلافًا".
(١٢) ديوان الهذليين ١: ٢٣٢، واللسان (حصر) .
(١٣) الأثر ٥٩ - بيان، بفتح الباء الموحدة والياء التحتية المخففة: هو ابن بشر الأحمسي، ثقة من الثقات، كما قال أحمد. وسفيان، الراوي عنه: هو الثوري. وهذا الأثر نقله السيوطي ١: ٢٤، ونسبه لوكيع والطبري.
(١٤) الخبر ٢٦٠ - نقله ابن كثير ١: ٧١، ونقله السيوطي ١: ٢٤، والشوكاني ١: ٢٢ مع الخبر الآتي ٢٦٣، جعلاه خبرًا واحدًا، وذكراه عن ابن مسعود فقط.
(١٥) حجه يحجه فهو محجوج: غلبه بالحجة فهو مغلوب.
(١٦) يريد بقوله"لمعنى القطع"، أن يقطع عن نعت الكتاب، ويصير حالا.
(١٧) يعني بصاحب هذا القول، الفراء في كتابه معاني القرآن ١: ١٠.
(١٨) في المطبوعة والمخطوطة"ذلك لا شك فيه"، والتصحيح من معاني القرآن للفراء ١: ١١.
(١٩) في المطبوعة"فتنصبها"، والتصحيح من المخطوطة ومعاني القرآن للفراء.
(٢٠) انظر معاني القرآن للفراء ١: ١١ - ١٢.
(٢١) الآثار ٢٦١ - ٢٦٦ ساقها جميعًا ابن كثير في تفسيره ١: ٧١ - ٧٢، وبعضها في الدر المنثور ١: ٢٤، والشوكاني ١: ٢٢.
(٢٢) في المطبوعة: "وذلك أن الله عز وجل إنما وصفهم"، ولا فائدة من زيادة"إنما". ثم جاء في المخطوطة والمطبوعة: "فلم يحصر تقواهم إياه على بعضها من أهل منهم دون بعض"؛ وهو كلام مختلط، وصوابه ما أثبته، وهو معنى الكلام كما ترى بعد.
تفسير القرآن العظيم — ابن كثير (٧٧٤ هـ)
﴿ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ﴾ [البقرة ٢]
قَالَ ابْنُ جُرَيج: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "ذَلِكَ الْكِتَابُ": هَذَا الْكِتَابُ. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالسُّدِّيُّ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَابْنُ جُرَيْجٍ: أَنَّ ذَلِكَ بِمَعْنَى هَذَا، وَالْعَرَبُ تُقَارِضُ بَيْنَ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ مِنْ أَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ فَيَسْتَعْمِلُونَ كُلًّا مِنْهُمَا مَكَانَ الْآخَرِ، وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِهِمْ.
وَ ﴿الْكِتَابُ﴾ الْقُرْآنُ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْكِتَابِ الْإِشَارَةُ إِلَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، كَمَا حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ، فَقَدْ أَبْعَدَ النَّجْعَة وأغْرق(١) فِي النَّزْعِ، وَتَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ.
وَالرَّيْبُ: الشَّكُّ، قَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ الهَمْدانيّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ أُنَاسٍ(٢) مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ لَا شَكَّ فِيهِ.
وَقَالَهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو مَالِكٍ وَنَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ وَعَطَاءٌ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: لَا أَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا.
[وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ الرَّيْبُ فِي التُّهْمَةِ قَالَ جَمِيلٌ:
بُثَيْنَةُ قَالَتْ يَا جَمِيلُ أَرَبْتَنِي ... فَقُلْتُ كِلَانَا يَا بُثَيْنُ مُرِيبُ ...
وَاسْتُعْمِلَ -أَيْضًا-فِي الْحَاجَةِ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ(٣) :
قَضَيْنَا مِنْ تِهَامَةَ كُلَّ رَيْبٍ ... وَخَيْبَرَ ثُمَّ أَجْمَعْنَا السُّيُوفَا](٤)
وَمَعْنَى الْكَلَامِ: أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ -وَهُوَ الْقُرْآنُ-لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّهُ نَزَلَ(٥) مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي السَّجْدَةِ: ﴿الم * تَنزيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [السَّجْدَةِ: ١، ٢] . [وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا خَبَرٌ وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ، أَيْ: لَا تَرْتَابُوا فِيهِ](٦) .
وَمِنَ الْقُرَّاءِ مَنْ يَقِفُ عَلَى قَوْلِهِ: ﴿لَا رَيْبَ﴾ وَيَبْتَدِئُ بِقَوْلِهِ: ﴿فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ وَالْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ أَوْلَى لِلْآيَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّهُ يَصِيرُ قَوْلُهُ: ﴿هُدًى﴾ صِفَةً لِلْقُرْآنِ، وَذَلِكَ أَبْلَغُ مِنْ كَوْنِ: ﴿فِيهِ هُدًى﴾ .
وَ ﴿هُدًى﴾ يَحْتَمِلُ مِنْ حَيْثُ الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا على النعت، ومنصوبًا على الحال.
وَخُصَّتِ الْهِدَايَةُ للمتَّقين. كَمَا قَالَ: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ [فُصِّلَتْ: ٤٤] . ﴿وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا﴾ [الْإِسْرَاءِ: ٨٢] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى اخْتِصَاصِ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّفْعِ بِالْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ فِي نَفْسِهِ هُدًى، وَلَكِنْ لَا يَنَالُهُ إِلَّا الْأَبْرَارُ، كَمَا قَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [يُونُسَ: ٥٧] .
وَقَدْ قَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ يَعْنِي: نُورًا(٧) لِلْمُتَّقِينَ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: هُدًى مِنَ الضَّلَالَةِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: تِبْيَانٌ للمتَّقين. وَكُلُّ ذَلِكَ صَحِيحٌ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ قَالَ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ(٨) .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ أَيْ: الَّذِينَ يَحْذَرُونَ مِنَ اللَّهِ عُقُوبَتَهُ فِي تَرْكِ مَا يَعْرِفُونَ مِنَ الْهُدَى، وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ فِي التَّصْدِيقِ بِمَا جَاءَ بِهِ.
وَقَالَ أَبُو رَوْق، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ قَالَ: الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يتَّقون(٩) الشِّرْكَ بِي، وَيَعْمَلُونَ بِطَاعَتِي.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، قَوْلَهُ: ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ قَالَ: اتَّقوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَأَدَّوْا مَا افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ: سَأَلَنِي الْأَعْمَشُ عَنِ المتَّقين، قَالَ: فَأَجَبْتُهُ. فَقَالَ [لِي](١٠) سَلْ عَنْهَا الْكَلْبِيَّ، فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ. قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى الْأَعْمَشِ، فَقَالَ: نَرَى أَنَّهُ كَذَلِكَ. وَلَمْ يُنْكِرْهُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ هُمُ الَّذِينَ نَعَتَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾ الْآيَةَ وَالَّتِي بَعْدَهَا [الْبَقَرَةِ: ٣، ٤] .
وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَنَّ الْآيَةَ تَعُمّ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ.
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عَقِيلٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ، وَعَطِيَّةَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عَطِيَّةَ السَّعْدِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ المتَّقين حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ بَأْسٌ(١١) . ثم قال الترمذي: حسن غريب(١٢) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِمْرَانَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ، يَعْنِي الرَّازِيَّ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ مَيْمُونٍ أَبِي حَمْزَةَ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ أَبِي وَائِلٍ، فَدَخَلَ عَلَيْنَا رَجُلٌ، يُقَالُ لَهُ: أَبُو عَفِيفٍ، مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذٍ، فَقَالَ لَهُ شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ: يَا أَبَا عَفِيفٍ، أَلَا تُحَدِّثُنَا عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ؟ قَالَ: بَلَى سَمِعْتُهُ يَقُولُ: يُحْبَسُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي بَقِيعٍ وَاحِدٍ، فَيُنَادِي مُنَادٍ: أَيْنَ المتَّقون؟ فَيَقُومُونَ فِي كَنَفٍ مِنَ الرَّحْمَنِ لَا يَحْتَجِبُ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَا يَسْتَتِرُ. قُلْتُ: مَنِ المتَّقون؟ قَالَ: قَوْمٌ اتَّقوا الشِّرْكَ وَعِبَادَةَ الْأَوْثَانِ، وَأَخْلَصُوا لِلَّهِ الْعِبَادَةَ، فَيَمُرُّونَ إِلَى الْجَنَّةِ(١٣) .
وَأَصْلُ التَّقْوَى: التَّوَقِّي مِمَّا يَكْرَهُ لِأَنَّ أَصْلَهَا وَقْوَى مِنَ الْوِقَايَةِ. قَالَ النَّابِغَةُ:
سَقَطَ النَّصِيفُ وَلَمْ تُرِدْ إِسْقَاطَهُ ... فَتَنَاوَلَتْهُ وَاتَّقَتْنَا بِالْيَدِ ...
وَقَالَ الْآخَرُ:
فَأَلْقَتْ قِنَاعًا دُونَهُ الشَّمْسُ وَاتَّقَتْ ... بِأَحْسَنِ مَوْصُولَيْنِ كَفٌّ وَمِعْصَمُ ...
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، سَأَلَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ عَنِ التَّقْوَى، فَقَالَ لَهُ: أَمَا سَلَكْتَ طَرِيقًا ذَا شَوْكٍ؟ قَالَ: بَلَى قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ؟ قَالَ: شَمَّرْتُ وَاجْتَهَدْتُ، قَالَ: فَذَلِكَ التَّقْوَى.
وَقَدْ أَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى ابْنُ الْمُعْتَزِّ فَقَالَ:
خَلِّ الذُّنُوبَ صَغِيرَهَا ... وَكَبِيرَهَا ذَاكَ التُّقَى ...
وَاصْنَعْ كَمَاشٍ فَوْقَ أَرْ ... ضِ الشَّوْكِ يَحْذَرُ مَا يَرَى ...
لَا تَحْقِرَنَّ صَغِيرَةً ... إِنَّ الْجِبَالَ مِنَ الْحَصَى ...
وَأَنْشَدَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَوْمًا:
يُرِيدُ الْمَرْءُ أَنْ يُؤْتَى مُنَاهُ ... وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا مَا أَرَادَا ...
يَقُولُ الْمَرْءُ فَائِدَتِي وَمَالِي ... وَتَقْوَى اللَّهِ أَفْضَلُ مَا اسْتَفَادَا ...
وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَا اسْتَفَادَ الْمَرْءُ بَعْدَ تَقْوَى اللَّهِ خَيْرًا مِنْ زَوْجَةٍ صَالِحَةٍ، إِنْ نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِنْ أَقْسَمَ عَلَيْهَا أَبَرَّتْهُ، وَإِنَّ غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ"(١٤) .
(١) في جـ،:"أغرب".
(٢) في جـ، ط: "ناس".
(٣) هو كعب بن مالك، والبيت في اللسان، مادة "ريب".
(٤) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(٥) في جـ، ط، ب: "منزل".
(٦) زيادة من جـ، ط.
(٧) في جـ، ب: "نور".
(٨) في جـ: "يعني نورا للمؤمنين".
(٩) في جـ: "يتعوذون".
(١٠) زيادة من جـ، ط، ب.
(١١) في ب: "البأس".
(١٢) سنن الترمذي برقم (٢٤٥١) وسنن ابن ماجه برقم (٤٢١٥) .
(١٣) تفسير ابن أبي حاتم (١/٣٣) وفي إسناده ميمون القصاب ضعيف.
(١٤) سنن ابن ماجة برقم (١٨٥٧) من طريق عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاتِكَةِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زيد عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه، وقال البوصيري في الزوائد (٢/٧٠) : "هذا إسناد فيه علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف، وعثمان بن أبي العاتكة مختلف فيه".
الجامع لأحكام القرآن — القرطبي (٦٧١ هـ)
﷽
﴿الۤمۤ (١) ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ (٢)﴾ [البقرة ١-٢]
(بحول الله وكرمه، لا رب سواه) وَأَوَّلُ مَبْدُوءٍ بِهِ
الْكَلَامُ فِي نُزُولِهَا وَفَضْلِهَا وَمَا جَاءَ فِيهَا،
وَهَكَذَا كُلُّ سُورَةٍ إِنْ وَجَدْنَا لَهَا ذَلِكَ، فَنَقُولُ: سُورَةُ الْبَقَرَةِ مَدَنِيَّةٌ، نَزَلَتْ فِي مُدَدٍ شَتَّى. وَقِيلَ: هِيَ أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ، إِلَّا قَوْلَهُ تَعَالَى:" وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ(١) إِلَى اللَّهِ" [البقرة: ٢٨١] فَإِنَّهُ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ، وَنَزَلَتْ يَوْمَ النَّحْرِ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ بِمِنًى، وَآيَاتُ الرِّبَا أَيْضًا مِنْ أَوَاخِرِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ. وَهَذِهِ السُّورَةُ فَضْلُهَا عَظِيمٌ وَثَوَابُهَا جَسِيمٌ. وَيُقَالُ لَهَا: فُسْطَاطُ الْقُرْآنِ، قَالَهُ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ. وَذَلِكَ لِعِظَمِهَا وَبِهَائِهَا، وَكَثْرَةِ أَحْكَامِهَا وَمَوَاعِظِهَا. وَتَعَلَّمَهَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِفِقْهِهَا وَمَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ فِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ فِي ثَمَانِي سِنِينَ كَمَا تَقَدَّمَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: سَمِعْتُ بَعْضَ أَشْيَاخِي يَقُولُ: فِيهَا أَلْفُ أَمْرٍ وَأَلْفُ نَهْيٍ وَأَلْفُ حُكْمٍ وَأَلْفُ خَبَرٍ. وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَعْثًا وَهُمْ ذَوُو عَدَدٍ وَقَدَّمَ عَلَيْهِمْ أَحْدَثَهُمْ سِنًّا لِحِفْظِهِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَقَالَ لَهُ: (اذْهَبْ فَأَنْتَ أَمِيرُهُمْ) أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَصَحَّحَهُ. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: (اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ وَلَا يَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ)، قَالَ مُعَاوِيَةُ:(٢) بَلَغَنِي أَنَّ الْبَطَلَةَ: السَّحَرَةُ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: (لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ). وَرَوَى الدَّارِمِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: مَا مِنْ بَيْتٍ يُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ إِلَّا خَرَجَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ. وَقَالَ: إِنَّ لِكُلِ شي سَنَامًا وَإِنَّ سَنَامَ الْقُرْآنِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ، وَإِنَّ لكل شي لُبَابًا وَإِنَّ لُبَابَ الْقُرْآنِ الْمُفَصَّلُ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الدَّارِمِيُّ. اللُّبَابُ: الْخَالِصُ. وَفِي صَحِيحِ الْبَسْتِيِّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (إِنَّ لِكُلِ شي سَنَامًا وَإِنَّ سَنَامَ الْقُرْآنِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَمَنْ قَرَأَهَا فِي بَيْتِهِ لَيْلًا لَمْ يَدْخُلِ الشَّيْطَانُ بَيْتَهُ ثَلَاثَ لَيَالٍ وَمَنْ قَرَأَهَا نَهَارًا لَمْ يَدْخُلِ الشَّيْطَانُ بَيْتَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ (. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الْبَسْتِيُّ: قَوْلُهُ ﷺ:) لَمْ يَدْخُلِ الشَّيْطَانُ بَيْتَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) أَرَادَ: مَرَدَةَ الشَّيَاطِينِ. وَرَوَى الدَّارِمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: مَنْ قَرَأَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ لَمْ يَدْخُلْ ذَلِكَ الْبَيْتَ شَيْطَانٌ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى يُصْبِحَ، أَرْبَعًا مِنْ أَوَّلِهَا وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ وَآيَتَيْنِ بَعْدَهَا وَثَلَاثًا خَوَاتِيمَهَا، أَوَّلُهَا: ﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ﴾ [البقرة: ٢٨٤]. وَعَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْهُ: لَمْ يَقْرَبْهُ وَلَا أَهْلَهُ يومئذ شيطان ولا شي يَكْرَهُهُ، وَلَا يُقْرَأْنَ عَلَى مَجْنُونٍ إِلَّا أَفَاقَ. وَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ سُبَيْعٍ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ: لَمْ يَنْسَ الْقُرْآنَ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى: لَمْ يَنْسَ مَا قَدْ حَفِظَ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الدَّارِمِيُّ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْمُغِيرَةُ بْنُ سُمَيْعٍ. وَفِي كِتَابِ الِاسْتِيعَابِ لِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: وَكَانَ لَبِيَدُ بْنُ رَبِيعَةَ [بْنِ عامر(٣) بن مالك بن جعفر ابن كِلَابِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ مِنْ شُعَرَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ، أَدْرَكَ الْإِسْلَامَ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ وَتَرَكَ قَوْلَ الشِّعْرِ فِي الْإِسْلَامِ، وَسَأَلَهُ عُمَرُ فِي خِلَافَتِهِ عَنْ شِعْرِهِ وَاسْتَنْشَدَهُ، فَقَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَقَالَ: إِنَّمَا سَأَلْتُكَ عَنْ شِعْرِكَ، فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَقُولَ بَيْتًا مِنَ الشِّعْرِ بَعْدَ إِذْ عَلَّمَنِي اللَّهُ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، فَأَعْجَبَ عُمَرَ قَوْلُهُ، وَكَانَ عَطَاؤُهُ أَلْفَيْنِ فَزَادَهُ خَمْسَمِائَةٍ. وَقَدْ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْأَخْبَارِ: إِنَّ لَبِيدًا لَمْ يَقُلْ شِعْرًا مُنْذُ أَسْلَمَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يَقُلْ فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا قَوْلَهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ إِذْ لَمْ يَأْتِنِي أَجَلِي حَتَّى اكْتَسَيْتُ مِنَ الْإِسْلَامِ سِرْبَالَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَقَدْ قِيلَ إِنَّ هَذَا الْبَيْتَ لِقَرَدَةَ بْنِ نُفَاثَةَ السَّلُولِيِّ، وَهُوَ أَصَحُّ عِنْدِي. وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلِ الْبَيْتُ الَّذِي قَالَهُ فِي الْإِسْلَامِ: مَا عَاتَبَ الْمَرْءَ الْكَرِيمَ كَنَفْسِهِ وَالْمَرْءُ يُصْلِحُهُ الْقَرِينُ الصَّالِحُ وَسَيَأْتِي مَا وَرَدَ فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَخَوَاتِيمِ الْبَقَرَةِ(٤)، وَيَأْتِي فِي أَوَّلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ(٥) زِيَادَةُ بَيَانٍ لِفَضْلِ هَذِهِ السُّورَةِ، إن شاء الله تعالى.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (رب يسر وأعن)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢)
[بيان الأقوال الواردة في الحروف المقطعة التي في أوائل السور]
اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْحُرُوفِ الَّتِي فِي أوائل السور، فَقَالَ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ: هِيَ سِرُّ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ، وَلِلَّهِ فِي كُلِّ كِتَابٍ مِنْ كُتُبِهِ سِرٌّ. فَهِيَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي انْفَرَدَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهِ، وَلَا يَجِبُ(٦) أَنْ يُتَكَلَّمَ فِيهَا، وَلَكِنْ نُؤْمِنُ بِهَا وَنَقْرَأُ كَمَا جَاءَتْ. وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ مِنَ الْمَكْتُومِ الَّذِي لَا يُفَسَّرُ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَمْ نَجِدِ الْحُرُوفَ الْمُقَطَّعَةَ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي أَوَائِلِ السور، ولا ندري ما أراد الله عز وجل بِهَا. قُلْتُ: وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْحُبَابِ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي طَالِبٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْمُنْذِرِ الْوَاسِطِيُّ عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ(٧) قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآنَ فَاسْتَأْثَرَ مِنْهُ بِعِلْمِ مَا شَاءَ، وَأَطْلَعَكُمْ عَلَى مَا شَاءَ، فَأَمَّا مَا اسْتَأْثَرَ بِهِ لِنَفْسِهِ فَلَسْتُمْ بِنَائِلِيهِ فَلَا تَسْأَلُوا عَنْهُ، وَأَمَّا الَّذِي أَطْلَعَكُمْ عَلَيْهِ فَهُوَ الَّذِي تَسْأَلُونَ عَنْهُ وَتُخْبَرُونَ(٨) بِهِ، وَمَا بِكُلِ الْقُرْآنِ تَعْلَمُونَ، وَلَا بِكُلِ مَا تَعْلَمُونَ تَعْمَلُونَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَهَذَا يُوَضِّحُ أَنَّ حُرُوفًا مِنَ الْقُرْآنِ سُتِرَتْ مَعَانِيهَا عَنْ جَمِيعِ الْعَالَمِ، اخْتِبَارًا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَامْتِحَانًا، فَمَنْ آمَنَ بِهَا أُثِيبَ وَسَعِدَ، وَمَنْ كَفَرَ وَشَكَّ أَثِمَ وَبَعُدَ. حَدَّثَنَا أَبُو يُوسُفَ بْنُ يَعْقُوبَ الْقَاضِي حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ حُرَيْثِ بْنِ ظُهَيْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: مَا آمَنَ مُؤْمِنٌ أَفْضَلُ مِنْ إِيمَانٍ بغيب، ثم قرأ: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة: ٣].
قُلْتُ: هَذَا الْقَوْلُ فِي الْمُتَشَابِهِ وَحُكْمِهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي (آلِ عِمْرَانَ) إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى(٩). وَقَالَ جَمْعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ كَبِيرٌ: بَلْ يَجِبُ أَنْ نَتَكَلَّمَ فِيهَا، وَنَلْتَمِسَ الْفَوَائِدَ الَّتِي تَحْتَهَا، وَالْمَعَانِيَ الَّتِي تَتَخَرَّجُ عَلَيْهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى أَقْوَالٍ عَدِيدَةٍ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَلِيٍّ أَيْضًا: أَنَّ الْحُرُوفَ الْمُقَطَّعَةَ فِي الْقُرْآنِ اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمِ، إِلَّا أَنَّا لَا نَعْرِفُ تَأْلِيفَهُ مِنْهَا. وَقَالَ قُطْرُبٌ وَالْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُمَا: هِيَ إِشَارَةٌ إِلَى حُرُوفِ الْهِجَاءِ أَعْلَمَ اللَّهُ بِهَا الْعَرَبَ حِينَ تَحَدَّاهُمْ بِالْقُرْآنِ أَنَّهُ مُؤْتَلَفٌ مِنْ حُرُوفٍ هِيَ الَّتِي مِنْهَا بِنَاءُ كَلَامِهِمْ، لِيَكُونَ عَجْزُهُمْ عَنْهُ أَبْلَغَ فِي الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ إِذْ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَلَامِهِمْ. قَالَ قُطْرُبٌ: كَانُوا يَنْفِرُونَ عِنْدَ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ، فَلَمَّا سَمِعُوا: "الم" وَ "المص" اسْتَنْكَرُوا هَذَا اللَّفْظَ، فَلَمَّا أَنْصَتُوا لَهُ ﷺ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِالْقُرْآنِ الْمُؤْتَلَفِ لِيُثَبِّتَهُ فِي أَسْمَاعِهِمْ وَآذَانِهِمْ وَيُقِيمَ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ قَوْمٌ: رُوِيَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا أَعْرَضُوا عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ بِمَكَّةَ وَقَالُوا:" لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ(١٠) " [فصلت: ٢٦] نَزَلَتْ لِيَسْتَغْرِبُوهَا فَيَفْتَحُونَ لَهَا أَسْمَاعَهُمْ فَيَسْمَعُونَ الْقُرْآنَ بَعْدَهَا فَتَجِبُ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: هِيَ حُرُوفٌ دَالَّةٌ عَلَى أَسْمَاءٍ أُخِذَتْ مِنْهَا وَحُذِفَتْ بَقِيَّتُهَا، كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ: الْأَلِفُ مِنَ اللَّهِ، وَاللَّامُ مِنْ جِبْرِيلَ، وَالْمِيمُ مِنْ مُحَمَّدٍ ﷺ. وَقِيلَ: الْأَلِفُ مِفْتَاح اسْمِهِ اللَّهِ، وَاللَّامُ مِفْتَاح اسْمِهِ لَطِيفٍ، وَالْمِيمُ مِفْتَاح اسْمِهِ مَجِيدٍ. وَرَوَى أَبُو الضُّحَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: "الم" قَالَ: أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ، "الر" أَنَا اللَّهُ أَرَى، "المص" أَنَا اللَّهُ أَفْصِلُ. فَالْأَلِفُ تُؤَدِّي عَنْ مَعْنَى أَنَا، وَاللَّامُ تُؤَدِّي عَنِ اسْمِ اللَّهِ، وَالْمِيمُ تُؤَدِّي عَنْ مَعْنَى أَعْلَمَ. وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ الزَّجَّاجُ وَقَالَ: أَذْهَبُ إِلَى أَنَّ كُلَّ حَرْفٍ مِنْهَا يُؤَدِّي عَنْ مَعْنًى، وَقَدْ تَكَلَّمَتِ الْعَرَبُ بِالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ نَظْمًا لَهَا وَوَضْعًا بَدَلَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي الْحُرُوفُ مِنْهَا، كَقَوْلِهِ:
فَقُلْتُ لَهَا قِفِي فَقَالَتْ قَافْ
أَرَادَ: قَالَتْ وَقَفْتُ. وَقَالَ زُهَيْرٌ:
بِالْخَيْرِ خَيْرَاتٍ وَإِنْ شَرًّا فَا ... وَلَا أُرِيدُ الشَّرَّ إِلَّا أَنْ تَا
أَرَادَ: وَإِنْ شَرًّا فشر. وأراد: إلا أن تشاء.
وَقَالَ آخَرُ:
نَادَوْهُمْ أَلَا الْجِمُوا أَلَا تَا ... قَالُوا جَمِيعًا كُلُّهُمْ أَلَا فَا
أَرَادَ: أَلَا تَرْكَبُونَ، قَالُوا: أَلَا فَارْكَبُوا. وَفِي الْحَدِيثِ: (مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ) قَالَ شَقِيقٌ: هُوَ أَنْ يَقُولَ فِي اقْتُلْ: اقْ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ (كَفَى بِالسَّيْفِ شَا) مَعْنَاهُ: شَافِيًا. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: هِيَ أَسْمَاءٌ لِلسُّوَرِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هِيَ أَقْسَامٌ أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا لِشَرَفِهَا وَفَضْلِهَا، وَهِيَ مِنْ أَسْمَائِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَرَدَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هَذَا الْقَوْلَ فَقَالَ: لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ قَسَمًا لِأَنَّ الْقَسَمَ مَعْقُودٌ عَلَى حُرُوفٍ مِثْلَ: إِنَّ وَقَدْ وَلَقَدْ وَمَا، وَلَمْ يُوجَدْ ها هنا حَرْفٌ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَمِينًا. وَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: مَوْضِعُ الْقَسَمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ فَلَوْ أَنَّ إِنْسَانًا حَلَفَ فَقَالَ: وَاللَّهِ هَذَا الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ، لَكَانَ الْكَلَامُ سَدِيدًا، وَتَكُونُ "لَا" جَوَابَ الْقَسَمِ. فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَ الْكَلْبِيِّ وَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ سَدِيدٌ صَحِيحٌ. فَإِنْ قِيلَ: مَا الْحِكْمَةُ فِي الْقَسَمِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ الْقَوْمُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ عَلَى صِنْفَيْنِ: مُصَدِّقٌ، وَمُكَذِّبٌ، فَالْمُصَدِّقُ يُصَدِّقُ بِغَيْرِ قَسَمٍ، وَالْمُكَذِّبُ لَا يُصَدِّقُ مَعَ الْقَسَمِ؟. قِيلَ لَهُ: الْقُرْآنُ نَزَلَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَالْعَرَبُ إِذَا أَرَادَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُؤَكِّدَ كَلَامَهُ أَقْسَمَ عَلَى كَلَامِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يُؤَكِّدَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ فَأَقْسَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: "الم" أَيْ أَنْزَلْتُ عَلَيْكَ هَذَا الْكِتَابَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: "الم" قَالَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ التِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْدَعَ جَمِيعَ مَا فِي تِلْكَ السُّورَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْقَصَصِ فِي الْحُرُوفِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَلَا يَعْرِفُ ذَلِكَ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ وَلِيٌّ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ السُّورَةِ لِيُفَقِّهَ النَّاسَ. وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا مِنَ الْأَقْوَالِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْوَقْفُ عَلَى هَذِهِ الْحُرُوفِ عَلَى السُّكُونِ لِنُقْصَانِهَا إِلَّا إِذَا أَخْبَرْتَ عَنْهَا أَوْ عَطَفْتَهَا فَإِنَّكَ تُعْرِبُهَا. وَاخْتُلِفَ: هَلْ لَهَا مَحَلٌّ مِنَ الْإِعْرَابِ؟ فَقِيلَ: لَا، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ أَسْمَاءً مُتَمَكِّنَةً، وَلَا أَفْعَالًا مُضَارِعَةً، وَإِنَّمَا هِيَ بِمَنْزِلَةِ حُرُوفِ التَّهَجِّي فَهِيَ مَحْكِيَّةٌ. هَذَا مَذْهَبُ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ.
وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا أَسْمَاءُ السُّوَرِ فَمَوْضِعُهَا عِنْدَهُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهَا عِنْدَهُ خَبَرُ ابْتِدَاءٍ مُضْمَرٍ، أَيْ هَذِهِ "الم"، كَمَا تَقُولُ: هَذِهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ. أَوْ تَكُونُ رَفْعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ ذَلِكَ، كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ ذَلِكَ الرَّجُلُ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ النَّحْوِيُّ: "الم" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، كَمَا تَقُولُ: اقْرَأْ "الم" أَوْ عَلَيْكَ "الم". وَقِيلَ: فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بِالْقَسَمِ، لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّهَا أَقْسَامٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ذلِكَ الْكِتابُ﴾ قِيلَ: الْمَعْنَى هَذَا الْكِتَابُ. وَ "ذلِكَ" قَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي الْإِشَارَةِ إِلَى حَاضِرٍ، وَإِنْ كَانَ مَوْضُوعًا لِلْإِشَارَةِ إِلَى غَائِبٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْإِخْبَارِ عَنْ نَفْسِهِ جَلَّ وَعَزَّ:" ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(١١) "، وَمِنْهُ قَوْلُ خُفَافِ بْنِ نُدْبَةَ:
أَقُولُ لَهُ وَالرُّمْحُ يَأْطِرُ مَتْنَهُ ... تَأَمَّلْ خُفَافًا إِنَّنِي أَنَا ذَلِكَا(١٢)
أَيْ أَنَا هَذَا. فَ "ذلِكَ" إِشَارَةٌ إِلَى الْقُرْآنِ، مَوْضُوعٌ مَوْضِعَ هَذَا، تَلْخِيصُهُ: الم هَذَا الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَعِكْرِمَةَ وَغَيْرِهِمَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها(١٣) إِبْراهِيمَ "... " تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ(١٤) "أَيْ هَذِهِ، لَكِنَّهَا لَمَّا انْقَضَتْ صَارَتْ كَأَنَّهَا بَعُدَتْ فَقِيلَ تِلْكَ. وَفِي الْبُخَارِيِّ" وَقَالَ مَعْمَرٌ ذلِكَ الْكِتابُ هَذَا الْقُرْآنُ". "هُدىً لِلْمُتَّقِينَ" بَيَانٌ وَدَلَالَةٌ، كَقَوْلِهِ: "ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ"(١٥) هَذَا حُكْمُ اللَّهِ. قُلْتُ: وَقَدْ جَاءَ "هَذَا" بِمَعْنَى "ذَلِكَ"، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حَدِيثِ أُمِّ حَرَامٍ: (يَرْكَبُونَ ثَبَجَ(١٦) هَذَا الْبَحْرِ) أَيْ ذَلِكَ الْبَحْرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى بَابِهِ إِشَارَةٌ إِلَى غَائِبٍ. وَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ الْغَائِبِ عَلَى أَقْوَالٍ عَشَرَةٍ، فَقِيلَ: "ذلِكَ الْكِتابُ" أَيِ الْكِتَابُ الَّذِي كَتَبْتُ عَلَى الْخَلَائِقِ بِالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ وَالْأَجَلِ وَالرِّزْقِ لَا رَيْبَ فِيهِ، أَيْ لَا مُبَدِّلَ لَهُ. وَقِيلَ: ذلِكَ الْكِتابُ، أَيِ الَّذِي كَتَبْتُ عَلَى نَفْسِي فِي الْأَزَلِ (أَنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي). وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ أَنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي) فِي رِوَايَةٍ: (سَبَقَتْ). وَقِيلَ:
إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ كَانَ وَعَدَ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِ كِتَابًا لَا يَمْحُوهُ الْمَاءُ، فَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْوَعْدِ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَالَ إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِي بِكَ وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ) الْحَدِيثَ. وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى مَا قَدْ نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ بِمَكَّةَ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمَّا أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ بِمَكَّةَ:" إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ(١٧) قَوْلًا ثَقِيلًا "لَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مُسْتَشْرِفًا لِإِنْجَازِ هَذَا الْوَعْدِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ:" الم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ" [البقرة: ٢ ١] كَانَ فِيهِ مَعْنَى هَذَا الْقُرْآنِ الَّذِي أَنْزَلْتُهُ عَلَيْكَ بِالْمَدِينَةِ، ذَلِكَ الْكِتَابُ الَّذِي وَعَدْتُكَ أَنْ أُوحِيَهُ إِلَيْكَ بِمَكَّةَ. وَقِيلَ: إِنَّ "ذلِكَ" إِشَارَةٌ إِلَى مَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وَ "الم" اسْمٌ لِلْقُرْآنِ، وَالتَّقْدِيرُ هَذَا الْقُرْآنُ ذَلِكَ الْكِتَابُ الْمُفَسَّرُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، يَعْنِي أَنَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ يَشْهَدَانِ بِصِحَّتِهِ وَيَسْتَغْرِقُ مَا فِيهِمَا وَيَزِيدُ عَلَيْهِمَا مَا لَيْسَ فِيهِمَا. وَقِيلَ: إِنَّ "ذلِكَ الْكِتابُ" إِشَارَةٌ إِلَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ كِلَيْهِمَا، وَالْمَعْنَى: الم ذانك الكتابان أو مثل ذلك الْكِتَابَيْنِ، أَيْ هَذَا الْقُرْآنُ جَامِعٌ لِمَا فِي ذَيْنِكَ الْكِتَابَيْنِ، فَعَبَّرَ بِ "ذلِكَ" عَنِ الِاثْنَيْنِ بِشَاهِدٍ مِنَ الْقُرْآنِ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿إِنَّها بَقَرَةٌ لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ﴾ [البقرة: ٦٨] أَيْ عَوَانٌ بَيْنَ تَيْنِكَ: الْفَارِضِ وَالْبِكْرِ، وَسَيَأْتِي(١٨). وَقِيلَ: إِنَّ "ذلِكَ" إِشَارَةٌ إِلَى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: "ذلِكَ" إِشَارَةٌ إِلَى الْقُرْآنِ الَّذِي فِي السَّمَاءِ لَمْ يَنْزِلْ بَعْدُ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ كَانَ وَعَدَ أَهْلَ الْكِتَابِ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ كِتَابًا، فَالْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ الْوَعْدِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: الْمَعْنَى هَذَا الْقُرْآنُ ذَلِكَ الْكِتَابُ الَّذِي كُنْتُمْ تَسْتَفْتِحُونَ بِهِ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا. وَقِيلَ: إِلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ: "الم" الْحُرُوفُ الَّتِي تَحَدَّيْتُكُمْ بِالنَّظْمِ مِنْهَا. وَالْكِتَابُ مَصْدَرٌ مِنْ كَتَبَ يَكْتُبُ إِذَا جَمَعَ، وَمِنْهُ قِيلَ: كَتِيبَةٌ، لِاجْتِمَاعِهَا. وَتَكَتَّبَتِ الْخَيْلُ صَارَتْ كَتَائِبَ. وَكَتَبْتُ الْبَغْلَةَ: إِذَا جَمَعْتُ بَيْنَ شُفْرَيْ رَحِمِهَا بِحَلْقَةٍ أَوْ سَيْرٍ، قَالَ:
لَا تَأْمَنَنَّ فَزَارِيًا حللت به ... على قلوصك واكتبها بأسيار
وَالْكُتْبَةُ (بِضَمِّ الْكَافِ): الْخُرْزَةُ، وَالْجَمْعُ كُتَبٌ. وَالْكُتْبُ: الْخُرْزُ. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
وَفْرَاءُ غَرْفِيَّةٌ أَثَأَى خَوَارِزُهَا ... مُشَلْشِلٌ ضَيَّعَتْهُ بَيْنَهَا الْكُتَبُ(١٩)
وَالْكِتَابُ: هُوَ خَطُّ الْكَاتِبِ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ مَجْمُوعَةً أَوْ مُتَفَرَّقَةً، وَسُمِّيَ كِتَابًا وَإِنْ كَانَ مَكْتُوبًا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
تُؤُمِّلُ رَجْعَةً مِنِّي وَفِيهَا ... كِتَابٌ مِثْلَ مَا لَصِقَ الْغِرَاءُ
وَالْكِتَابُ: الْفَرْضُ وَالْحُكْمُ وَالْقَدَرُ، قال الجعدي:
يا ابنة عَمِّي كِتَابُ اللَّهِ أَخْرَجَنِي ... عَنْكُمْ وَهَلْ أَمْنَعَنَّ اللَّهَ مَا فَعَلَا
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَا رَيْبَ﴾ نَفْيٌ عَامٌّ، وَلِذَلِكَ نُصِبَ الرَّيْبُ بِهِ. وَفِي الرَّيْبِ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ: أَحَدُهَا الشَّكُّ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى:
لَيْسَ فِي الْحَقِّ يَا أُمَيْمَةُ رَيْبٌ ... إِنَّمَا الرَّيْبُ مَا يَقُولُ الْجَهُولُ
وَثَانِيهَا التُّهَمَةُ، قَالَ جَمِيلٌ:
بُثَيْنَةُ قَالَتْ يَا جَمِيلُ أَرَبْتَنِي ... فَقُلْتُ كِلَانَا يَا بُثَيْنُ مُرِيبُ
وثالثها: الحاجة، قال:(٢٠)
قَضَيْنَا مِنْ تَهَامَةَ كُلَّ رَيْبٍ ... وَخَيْبَرَ ثُمَّ أَجْمَعْنَا السُّيُوفَا
فَكِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى لَا شَكٌّ فِيهِ وَلَا ارْتِيَابٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ فِي ذَاتِهِ حَقٌّ وَأَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَصِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ، غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَا مُحْدَثٌ، وَإِنْ وَقَعَ رَيْبٌ لِلْكُفَّارِ. وَقِيلَ: هُوَ خَبَرٌ وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ، أَيْ لَا تَرْتَابُوا، وَتَمَّ الْكَلَامُ كَأَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ الْكِتَابَ حَقًّا. وَتَقُولُ: رَابَنِي هَذَا الْأَمْرُ إِذَا أَدْخَلَ عَلَيْكَ شَكًّا وَخَوْفًا. وَأَرَابَ: صَارَ ذَا رِيبَةٍ، فَهُوَ مُرِيبٌ. وَرَابَنِي أَمْرُهُ. وريب الدهر: صروفه.
[الكلام على هداية القرآن وفيه ست مسائل]
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ﴾ فِيهِ سِتُّ مسائل: الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فِيهِ﴾ الْهَاءُ فِي "فِيهِ" فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بِفِي، وَفِيهِ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ، أَجْوَدُهَا: فِيهِ هُدًى وَيَلِيهِ فِيهُ هُدًى (بِضَمِّ الْهَاءِ بِغَيْرِ وَاوٍ)(٢١) وَهِيَ قِرَاءَةُ الزُّهْرِيِّ وَسَلَّامٍ أَبِي الْمُنْذِرِ. وَيَلِيهِ فِيهِي هُدًى (بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ) وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ. وَيَجُوزُ فِيهُو هُدًى (بِالْوَاوِ). وَيَجُوزُ فِيهْ هُدًى (مُدْغَمًا) وَارْتَفَعَ "هُدىً" عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ "فِيهِ". وَالْهُدَى فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَعْنَاهُ الرُّشْدُ وَالْبَيَانُ، أَيْ فِيهِ كَشْفٌ لِأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَرُشْدٌ وَزِيَادَةُ بَيَانٍ وَهُدًى. الثَّانِيَةُ الْهُدَى هُدَيَانِ: هُدَى دَلَالَةٍ، وَهُوَ الَّذِي تَقْدِرُ عَلَيْهِ الرُّسُلُ وَأَتْبَاعُهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ(٢٢) " [الرعد: ٧]. وقال:" وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ(٢٣) " [الشورى: ٥٢] فَأَثْبَتَ لَهُمُ الْهُدَى الَّذِي مَعْنَاهُ الدَّلَالَةُ وَالدَّعْوَةُ وَالتَّنْبِيهُ، وَتَفَرَّدَ هُوَ سُبْحَانَهُ بِالْهُدَى الَّذِي مَعْنَاهُ التَّأْيِيدُ وَالتَّوْفِيقُ، فَقَالَ لِنَبِيِّهِ ﷺ:" إِنَّكَ لَا تَهْدِي(٢٤) مَنْ أَحْبَبْتَ" [القصص: ٥٦] فالهدى على هذا يجئ بِمَعْنَى خَلْقِ الْإِيمَانِ فِي الْقَلْبِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: ﴿أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٥] وقوله: ﴿وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ﴾ [فاطر: ٨] وَالْهُدَى: الِاهْتِدَاءُ، وَمَعْنَاهُ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الْإِرْشَادِ كَيْفَمَا تَصَرَّفَتْ. قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: وَقَدْ تَرِدُ الْهِدَايَةُ وَالْمُرَادُ بِهَا إِرْشَادُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَسَالِكِ الْجِنَانِ وَالطُّرُقِ الْمُفْضِيَةِ إِلَيْهَا، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْمُجَاهِدِينَ:" فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ(٢٥). سَيَهْدِيهِمْ" [محمد: ٥ ٤] وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ(٢٦) " [الصافات: ٢٣] مَعْنَاهُ فَاسْلُكُوهُمْ إِلَيْهَا. الثَّالِثَةُ الْهُدَى لَفْظٌ مُؤَنَّثٌ قَالَ الْفَرَّاءُ: بَعْضُ بَنِي أَسَدٍ تُؤَنِّثُ الْهُدَى فَتَقُولُ: هَذِهِ هُدًى حَسَنَةٌ. وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: هُوَ مُذَكَّرٌ، وَلَمْ يُعْرَبْ لِأَنَّهُ مَقْصُورٌ وَالْأَلِفُ لَا تَتَحَرَّكُ، وَيَتَعَدَّى بِحَرْفٍ وَبِغَيْرِ حَرْفٍ وَقَدْ مَضَى فِي" الْفَاتِحَةِ(٢٧) "، تَقُولُ: هَدَيْتُهُ الطَّرِيقَ وَإِلَى الطَّرِيقِ وَالدَّارَ وَإِلَى الدَّارِ، أَيْ عَرَّفْتُهُ. الْأُولَى لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَالثَّانِيَةُ حَكَاهَا الْأَخْفَشُ. وَفِي التَّنْزِيلِ:" اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ(٢٨) "وَ" الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا(٢٩) " [الأعراف: ٤٣] وَقِيلَ: إِنَّ الْهُدَى اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ النَّهَارِ، لِأَنَّ النَّاسَ يَهْتَدُونَ فِيهِ لِمَعَايِشِهِمْ وَجَمِيعِ مَآرِبِهِمْ، ومنه قول ابن مقبل: حَتَّى اسْتَبَنْتُ الْهُدَى وَالْبِيدُ هَاجِمَةٌ ... يَخْشَعْنَ فِي الْآلِ غُلْفًا أَوْ يُصَلِّينَا(٣٠)
[الرَّابِعَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى الْمُتَّقِينَ بِهِدَايَتِهِ وَإِنْ كَانَ هُدًى لِلْخَلْقِ أَجْمَعِينَ تَشْرِيفًا لَهُمْ، لِأَنَّهُمْ آمَنُوا وَصَدَّقُوا بِمَا فِيهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي رَوْقٍ أَنَّهُ قَالَ: "هُدىً لِلْمُتَّقِينَ" أَيْ كَرَامَةٌ لَهُمْ، يَعْنِي إِنَّمَا أَضَافَ إِلَيْهِمْ إِجْلَالًا لَهُمْ وَكَرَامَةً لَهُمْ وَبَيَانًا لِفَضْلِهِمْ. وَأَصْلُ "لِلْمُتَّقِينَ": لِلْمُوتَقِيِينَ بِيَاءَيْنِ مُخَفَّفَتَيْنِ، حُذِفَتِ الْكَسْرَةُ مِنَ الْيَاءِ الْأُولَى لِثِقَلِهَا ثُمَّ حُذِفَتِ الْيَاءُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ تَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ فِي اجْتِمَاعِ الْوَاوِ وَالتَّاءِ وَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي التَّاءِ فَصَارَ لِلْمُتَّقِينَ. الْخَامِسَةُ: التَّقْوَى يُقَالُ أَصْلُهَا فِي اللُّغَةِ قِلَّةُ الْكَلَامِ، حَكَاهُ ابْنُ فَارِسٍ. قُلْتُ: وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: (التَّقِيُّ مُلْجَمٌ وَالْمُتَّقِي فَوْقَ الْمُؤْمِنِ وَالطَّائِعِ) وَهُوَ الَّذِي يَتَّقِي بِصَالِحِ عَمَلِهِ وَخَالِصِ دُعَائِهِ عَذَابَ اللَّهِ تَعَالَى، مَأْخُوذٌ مِنَ اتِّقَاءِ الْمَكْرُوهِ بِمَا تَجْعَلُهُ حَاجِزًا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ:
سَقَطَ النَّصِيفُ(٣١) وَلَمْ تُرِدْ إِسْقَاطَهُ ... فَتَنَاوَلَتْهُ وَاتَّقَتْنَا بِالْيَدِ
وَقَالَ آخَرُ:
فَأَلْقَتْ قِنَاعًا دُونَهُ الشَّمْسُ وَاتَّقَتْ ... بِأَحْسَنِ مَوْصُولَيْنِ كَفٍّ وَمِعْصَمِ
وَخَرَّجَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْغَنِيِّ الْحَافِظُ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ زَرْبِيٍّ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قال قال يوما لابن أخيه: يا بن أَخِي تَرَى النَّاسَ مَا أَكْثَرَهُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: لَا خَيْرَ فِيهِمْ إِلَّا تَائِبٌ أَوْ تقي ثم قال: يا بن أَخِي تَرَى النَّاسَ مَا أَكْثَرَهُمْ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: لَا خَيْرَ فِيهِمْ إِلَّا عَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ. وَقَالَ أَبُو يَزِيدَ الْبِسْطَامِيُّ: الْمُتَّقِي مَنْ إِذَا قَالَ قَالَ لِلَّهِ، وَمَنْ إِذَا عَمِلَ عَمِلَ لِلَّهِ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: الْمُتَّقُونَ الَّذِينَ نَزَعَ اللَّهُ عَنْ قُلُوبِهِمْ حُبَّ الشَّهَوَاتِ. وَقِيلَ: الْمُتَّقِي الَّذِي اتَّقَى الشِّرْكَ وَبَرِئَ مِنَ النِّفَاقِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ كَذَلِكَ وَهُوَ فَاسِقٌ. وَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُبَيًّا عَنِ التَّقْوَى، فَقَالَ: هَلْ أَخَذْتَ طَرِيقًا ذَا شَوْكٍ؟ قال: نعم، قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهِ؟ قَالَ: تَشَمَّرْتُ وَحَذِرْتُ، قَالَ: فَذَاكَ التَّقْوَى. وَأَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى ابْنُ الْمُعْتَزِّ فَنَظَمَهُ:
خَلِّ الذُّنُوبَ صَغِيرَهَا ... وَكَبِيرَهَا ذَاكَ التُّقَى
وَاصْنَعْ كَمَاشٍ فَوْقَ أَرْ ... ضِ الشَّوْكِ يَحْذَرُ مَا يَرَى
لَا تُحَقِرَنَّ صَغِيرَةً ... إِنَّ الجبال من الحصى
السادسة التقوى فيها جماع الْخَيْرِ كُلِّهِ، وَهِيَ وَصِيَّةُ اللَّهِ فِي الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَهِيَ خَيْرُ مَا يَسْتَفِيدُهُ الْإِنْسَانُ، كَمَا قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَقَدْ قِيلَ لَهُ: إِنَّ أَصْحَابَكَ يَقُولُونَ الشِّعْرَ وَأَنْتَ مَا حُفِظَ عَنْكَ شي، فَقَالَ:
يُرِيدُ الْمَرْءُ أَنْ يُؤْتَى مُنَاهُ ... وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا مَا أَرَادَا
يَقُولُ الْمَرْءُ فَائِدَتِي وَمَالِي ... وَتَقْوَى اللَّهِ أَفْضَلُ مَا اسْتَفَادَا
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: (مَا اسْتَفَادَ الْمُؤْمِنُ بَعْدَ تَقْوَى اللَّهِ خَيْرًا لَهُ مِنْ زَوْجَةٍ صَالِحَةٍ إِنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ وَإِنْ نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ وَإِنْ أَقْسَمَ عَلَيْهَا أَبَرَّتْهُ وَإِنْ غَابَ عَنْهَا نَصَحَتْهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ (. وَالْأَصْلُ فِي التَّقْوَى: وَقْوَى عَلَى وَزْنِ فَعْلَى فَقُلِبَتِ الْوَاوُ تَاءً مِنْ وَقَيْتُهُ أَقِيِهُ أَيْ مَنَعْتُهُ، وَرَجُلٌ تَقِيٌّ أَيْ خَائِفٌ، أَصْلُهُ وَقَى، وَكَذَلِكَ تُقَاةٌ كَانَتْ فِي الْأَصْلِ وُقَاةٌ، كَمَا قَالُوا: تُجَاهَ وَتُرَاثَ، وَالْأَصْلُ وجاه ووراث.
(١) راجع ج ٣ ص ٣٧٥.
(٢) معاوية هذا، هو أحد رواة سند هذا الحديث.
(٣) الزيادة عن كتاب الاستيعاب (ج ١ ص ٢٣٥) طبع الهند.]
(٤) راجع ج ٣ ص ٢٦٨، ٤٣١.
(٥) راجع ج ٤ ص ٢
(٦) في نسخة من الأصل: (ولا يجوز أن نتكلم فيها ... وتمر كما) إلخ. وفي نسخة: (وتقر كما جاءت).
(٧) قال صاحب تهذيب التهذيب: (في التقريب الربيع بن خثيم، بضم المعجمة وفتح المثلثة. ولكن في الخلاصة بفتح المعجمة والمثلثة بينهما تحتانية ساكنة.
(٨) في نسخة من الأصل: (تجزون به).
(٩) راجع ج ٤ ص ٢
(١٠) راجع ج ١٥ ص ٣٥٦
(١١) سورة السجدة آية ٦.
(١٢) يأطر: يثنى.
(١٣) سورة الانعام آية ٨٣.
(١٤) سورة البقرة آية ٢٥٢.
(١٥) سورة الممتحنة آية ١٠
(١٦) ثبج البحر: وسطه ومعظمه.
(١٧) سورة المزمل آية ٥.
(١٨) آية ٦٨ راجع ص ٤٤٨ من هذا الجزء.
(١٩) قوله: (وفراء) أي واسعة. و (غرفية): مدبوغة بالغرف، وهو نبت تدبغ به الجلود. والثأي والثأي (بسكون الهمزة وفتحها): خرم خرز الأديم. والمشلشل: الذي يكاد يتصل قطره وسيلانه لتتابعه.
(٢٠) هو كعب بن مالك الأنصاري، كما في اللسان مادة (ريب).
(٢١) أي بعد الهاء من (فيه).
(٢٢) راجع ج ٩ ص ٢٨٥.
(٢٣) راجع ج ١٦ ص ٦٠.
(٢٤) راجع ج ١٣ ص ٢٩٩.
(٢٥) راجع ج ١٦ ص ٢٣٠.
(٢٦) راجع ج ١٥ ص ٧٣.
(٢٧) راجع ص ١٤٦ من هذا الجزء.
(٢٨) راجع ص ١٤٦ من هذا الجزء.
(٢٩) راجع ج ٧ ص ٢٠٨
(٣٠) هذا البيت ساقط في جميع الأصول، والزيادة من اللسان مادة (هدى) والبحر المحيط في هذا الموضوع.
(٣١) النصيف: ثوب تتجلل به المرأة فوق ثيابها كلها، سمى نصيفا لأنه نصف بين الناس وبينها فحجز أبصارهم عنها.
معالم التنزيل — البغوي (٥١٦ هـ)
﷽
﴿الۤمۤ (١) ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ (٢) ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ (٣) وَٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ وَمَاۤ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡـَٔاخِرَةِ هُمۡ یُوقِنُونَ (٤) أُو۟لَـٰۤىِٕكَ عَلَىٰ هُدࣰى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ (٥)﴾ [البقرة ١-٥]
سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَدَنِيَّةٌ(١)
وَهِيَ مِائَتَانِ وَثَمَانُونَ وَسَبْعُ آيَاتٍ
* * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿الم﴾ قَالَ الشَّعْبِيُّ وَجَمَاعَةٌ: الم وَسَائِرُ حُرُوفِ الْهِجَاءِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهِ وَهِيَ سِرُّ الْقُرْآنِ. فَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِظَاهِرِهَا وَنَكِلُ الْعِلْمَ فِيهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَفَائِدَةُ ذِكْرِهَا طَلَبُ الْإِيمَانِ بِهَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: فِي كُلِّ كِتَابٍ سِرٌّ وَسِرُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ أَوَائِلُ السُّوَرِ، وَقَالَ عَلِيٌّ: لِكُلِّ كِتَابٍ صَفْوَةٌ وَصَفْوَةُ هَذَا الْكِتَابِ حُرُوفُ (التَّهَجِّي)(٢) وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ: كُنْتُ أَسْأَلُ الشَّعْبِيَّ عَنْ فَوَاتِحِ السُّوَرِ فَقَالَ: يَا دَاوُدُ إِنَّ لِكُلِّ كِتَابٍ سِرًّا وَإِنَّ سِرَّ الْقُرْآنِ فَوَاتِحُ السُّوَرِ فَدَعْهَا وَسَلْ عَمَّا سِوَى ذَلِكَ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ هِيَ مَعْلُومَةُ الْمَعَانِي فَقِيلَ: كُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا مِفْتَاحُ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي كهيعص: الْكَافُ مِنْ كَافِي وَالْهَاءُ مِنْ هَادِي وَالْيَاءُ مِنْ حَكِيمٍ وَالْعَيْنُ مِنْ عَلِيمٍ وَالصَّادُ مِنْ صَادِقٍ. وَقِيلَ فِي المص أَنَا اللَّهُ الْمَلِكُ الصَّادِقُ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ فِي الم: الْأَلِفُ مِفْتَاحُ اسْمِهِ اللَّهِ وَاللَّامُ مِفْتَاحُ اسْمِهِ اللَّطِيفِ، وَالْمِيمُ مِفْتَاحُ اسْمِهِ الْمَجِيدِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: الْأَلِفُ آلَاءُ اللَّهِ وَاللَّامُ لُطْفُهُ، وَالْمِيمُ مُلْكُهُ، وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ مَعْنَى الم: أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ: وَمَعْنَى(٣) المص: أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ وأفضل وَمَعْنَى الر: أَنَا اللَّهُ أَرَى، وَمَعْنَى المر: أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ وَأَرَى. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهَذَا حَسَنٌ فَإِنَّ الْعَرَبَ تَذْكُرُ حَرْفًا مِنْ كَلِمَةٍ تُرِيدُهَا كَقَوْلِهِمْ: قُلْتُ لَهَا: قِفِي لَنَا قَالَتْ: قَافْ(٤)
أَيْ: وَقَفْتُ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ هِيَ أَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى (مُقَطَّعَةٌ)(٥) لَوْ عَلِمَ النَّاسُ تَأْلِيفَهَا لَعَلِمُوا اسْمَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ. أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ الر، وَحم، وَن، فَتَكُونُ الرَّحْمَنَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُهَا إِلَّا أَنَّا لَا نَقْدِرُ عَلَى وَصْلِهَا، وَقَالَ قَتَادَةُ: هَذِهِ الْحُرُوفُ أَسْمَاءُ الْقُرْآنِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ: هِيَ أَسْمَاءُ (السُّوَرِ)(٦) وَبَيَانُهُ: أَنَّ الْقَائِلَ إِذَا قَالَ: قَرَأْتُ المص عَرَفَ السَّامِعُ أَنَّهُ قَرَأَ السُّورَةَ الَّتِي افْتُتِحَتْ بِالمص. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهَا أَقْسَامٌ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّمَا أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ لِشَرَفِهَا وَفَضْلِهَا لِأَنَّهَا (مَبَادِئُ)(٧) كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ، وَمَبَانِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى(٨) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ أَيْ هَذَا الْكِتَابُ وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَقِيلَ: هَذَا فِيهِ مُضْمَرٌ أَيْ هَذَا ذَلِكَ الْكِتَابُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: كَانَ اللَّهُ قَدْ وَعَدَ نَبِيَّهُ ﷺ أَنْ يُنْزِلَ عَلَيْهِ كِتَابًا لَا يَمْحُوهُ الْمَاءُ، وَلَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، فَلَمَّا أَنْزَلَ الْقُرْآنَ قَالَ هَذَا ﴿ذَلِكَ﴾(٩) الْكِتَابُ الَّذِي وَعَدْتُكَ أَنْ أُنْزِلَهُ عَلَيْكَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَعَلَى لِسَانِ النَّبِيِّينَ مِنْ قَبْلِكَ "وَهَذَا" لِلتَّقْرِيبِ "وَذَلِكَ" لِلتَّبْعِيدِ، وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ قَبْلَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ سُوَرًا كَذَّبَ بِهَا الْمُشْرِكُونَ ثُمَّ أَنْزَلَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَقَالَ ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ يَعْنِي مَا تَقَدَّمَ الْبَقَرَةَ مِنَ السُّوَرِ لَا شَكَّ فِيهِ.
وَالْكِتَابُ مَصْدَرٌ وَهُوَ بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ كَمَا يُقَالُ لِلْمَخْلُوقِ خَلْقٌ، وَهَذَا الدِّرْهَمُ ضَرْبُ فُلَانٍ أَيْ مَضْرُوبُهُ. وَأَصْلُ الْكَتْبِ: الضَّمُّ وَالْجَمْعُ، وَيُقَالُ لِلْجُنْدِ: كَتِيبَةٌ لِاجْتِمَاعِهَا، وَسُمِّيَ الْكِتَابُ كِتَابًا لِأَنَّهُ جَمْعُ حَرْفٍ إِلَى حَرْفٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ أَيْ لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنَّهُ الْحَقُّ وَالصِّدْقُ، وَقِيلَ هُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ أَيْ لَا تَرْتَابُوا فِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ﴾ (١٩٧-الْبَقَرَةِ) أَيْ لَا تَرْفُثُوا وَلَا تَفْسُقُوا. قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: فِيهِ بِالْإِشْبَاعِ فِي الْوَصْلِ وَكَذَلِكَ كَلُّ هَاءِ كِنَايَةٍ قَبْلَهَا سَاكِنٌ يُشْبِعُهَا وَصْلًا مَا لَمْ يَلْقَهَا سَاكِنٌ ثُمَّ إِنْ كَانَ السَّاكِنُ قَبْلَ الْهَاءِ يَاءً يُشْبِعُهَا بِالْكَسْرَةِ يَاءً وَإِنْ كَانَ غَيْرَ يَاءٍ يُشْبِعُهَا بِالضَّمِّ وَاوًا وَوَافَقَهُ حَفْصٌ فِي قَوْلِهِ ﴿فِيهِ مُهَانًا﴾ (٦٩-الْفُرْقَانِ) (فَيُشْبِعُهُ)(١٠) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ يُدْغِمُ الْغُنَّةَ عِنْدَ اللَّامِ وَالرَّاءِ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ، زَادَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ عِنْدَ الْيَاءِ وَزَادَ حَمْزَةُ عِنْدَ الْوَاوِ وَالْآخَرُونَ لَا يُدْغِمُونَهَا وَيُخْفِي أَبُو جَعْفَرٍ النُّونَ وَالتَّنْوِينَ عِنْدَ الْخَاءِ وَالْغَيْنِ ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ أَيْ هُوَ هُدًى أَيْ رُشْدٌ وَبَيَانٌ لِأَهْلِ التَّقْوَى، وَقِيلَ هُوَ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ أَيْ هَادِيًا تَقْدِيرُهُ لَا رَيْبَ فِي هِدَايَتِهِ لِلْمُتَّقِينَ وَالْهُدَى مَا يَهْتَدِي بِهِ الْإِنْسَانُ، لِلْمُتَّقِينَ أَيْ لِلْمُؤْمِنِينَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الْمُتَّقِي مَنْ يَتَّقِي الشِّرْكَ وَالْكَبَائِرَ وَالْفَوَاحِشَ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الِاتِّقَاءِ. وَأَصْلُهُ الْحَجْزُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ وَمِنْهُ يُقَالُ اتَّقَى بِتُرْسِهِ أَيْ جَعَلَهُ حَاجِزًا بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَ مَا يَقْصِدُهُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: "كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ"(١١) أَيْ إِذَا اشْتَدَّ الْحَرْبُ جَعَلْنَاهُ حَاجِزًا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْعَدُوِّ، فَكَأَنَّ الْمُتَّقِي يَجْعَلُ امْتِثَالَ أَمْرِ اللَّهِ وَالِاجْتِنَابَ عَمَّا نَهَاهُ حَاجِزًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَذَابِ. قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِكَعْبِ الْأَحْبَارِ(١٢) حَدِّثْنِي عَنِ التَّقْوَى فَقَالَ: هَلْ أَخَذْتَ طَرِيقًا ذَا شَوْكٍ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهِ قَالَ: حَذِرْتُ وَشَمَّرْتُ: قَالَ كَعْبٌ: ذَلِكَ التَّقْوَى. وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: الْمُتَّقِي الَّذِي يَتْرُكُ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا لِمَا بِهِ بَأْسٌ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: التَّقْوَى تَرْكُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَأَدَاءُ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ فَمَا رَزَقَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ خَيْرٌ إِلَى خَيْرٍ. وَقِيلَ هُوَ الِاقْتِدَاءُ بِالنَّبِيِّ ﷺ وَفِي الْحَدِيثِ: "جِمَاعُ التَّقْوَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾ (٩٠-النَّحْلِ) الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: التَّقْوَى أَنْ لَا تَرَى نَفْسَكَ خَيْرًا مِنْ أَحَدٍ. وَتَخْصِيصُ الْمُتَّقِينَ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفٌ لَهُمْ أَوْ لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُتَّقُونَ بِالْهُدَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ﴾ مَوْضِعُ الَّذِينَ خَفْضٌ نَعْتًا لِلْمُتَّقِينَ. يُؤْمِنُونَ: يُصَدِّقُونَ [وَيَتْرُكُ الْهَمْزَةَ أَبُو عَمْرٍو وَوَرْشٌ وَالْآخَرُونَ يَهْمِزُونَهُ وَكَذَلِكَ يَتْرُكَانِ كُلَّ هَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ هِيَ فَاءُ الْفِعْلِ نَحْوَ يُؤْمِنُ وَمُؤْمِنٌ إِلَّا أَحْرُفًا مَعْدُودَةً](١٣) .
وَحَقِيقَةُ الْإِيمَانِ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا﴾ (١٧-يُوسُفَ) [أَيْ بِمُصَدِّقٍ لَنَا](١٤) وَهُوَ فِي الشَّرِيعَةِ: الِاعْتِقَادُ بِالْقَلْبِ وَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ وَالْعَمَلُ بِالْأَرْكَانِ، فَسُمِّيَ الْإِقْرَارُ وَالْعَمَلُ إِيمَانًا؛ لِوَجْهٍ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ، لِأَنَّهُ مِنْ شَرَائِعِهِ.
وَالْإِسْلَامُ: هُوَ الْخُضُوعُ وَالِانْقِيَادُ، فَكُلُّ إِيمَانٍ إِسْلَامٌ وَلَيْسَ كُلُّ إِسْلَامٍ إِيمَانًا، إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ تَصْدِيقٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ (١٤-الْحُجُرَاتِ) وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَكُونُ مُسْتَسْلِمًا فِي الظَّاهِرِ غَيْرَ مُصَدِّقٍ فِي الْبَاطِنِ. وَقَدْ يَكُونُ مُصَدِّقًا فِي الْبَاطِنِ غَيْرَ مُنْقَادٍ فِي الظَّاهِرِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ جَوَابُ النَّبِيِّ ﷺ عَنْهُمَا حِينَ سَأَلَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ مَا أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ بَوَيْهٍ الزَّرَّادُ الْبُخَارِيُّ: أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْخُزَاعِيُّ ثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ الشَّاشِيُّ ثَنَا أَبُو أحمد عيسى ٦/أبْنُ أَحْمَدَ الْعَسْقَلَانِيُّ أَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَنَا كَهَمْسُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ قَالَ: كَانَ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْقَدَرِ، يَعْنِي بِالْبَصْرَةِ، مَعْبَدًا الْجُهَنِيَّ فَخَرَجْتُ أَنَا وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ نُرِيدُ مَكَّةَ فَقُلْنَا: لَوْ لَقِينَا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَسَأَلْنَاهُ عَمَّا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ فَلَقِينَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَاكْتَنَفْتُهُ أَنَا وَصَاحِبِي أَحَدُنَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ سَيَكِلُ الْكَلَامَ إِلَيَّ فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ قِبَلَنَا نَاسٌ يَتَفَقَّرُونَ هَذَا الْعِلْمَ وَيَطْلُبُونَهُ يَزْعُمُونَ أَنْ لَا قَدَرَ إِنَّمَا الْأَمْرُ أُنُفٌ قَالَ: فَإِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي مِنْهُمْ بَرِيءٌ وَإِنَّهُمْ مِنِّي بُرَآءُ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ (لِأَحَدِهِمْ)(١٥) مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا قَبِلَ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ثُمَّ قَالَ:
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: "بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ مَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ فَأَقْبَلَ حَتَّى جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ [وَرُكْبَتُهُ تَمَسُّ(١٦) رُكْبَتَهُ] فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا فَقَالَ: صَدَقْتَ فَتَعَجَّبْنَا مِنْ سُؤَالِهِ وَتَصْدِيقِهِ. ثُمَّ قَالَ: فَمَا الْإِيمَانُ قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرَسُولِهِ وَبِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ فَقَالَ: صَدَقْتَ. ثُمَّ قَالَ: فَمَا الْإِحْسَانُ قَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ قَالَ: صَدَقْتَ ثُمَّ قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ فَقَالَ مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ بِهَا مِنَ السَّائِلِ قَالَ: صَدَقْتَ قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَاتِهَا قَالَ: أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي بُنْيَانِ الْمَدَرِ قَالَ: صَدَقْتَ ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ثَالِثَةٍ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: يَا عُمَرُ هَلْ تَدْرِي مَنِ الرَّجُلُ؟ قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قال: ذلك جبرئيل أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ أَمْرَ دِينِكُمْ وَمَا أَتَانِي فِي صُورَةٍ إِلَّا عَرَفْتُهُ فِيهَا إِلَّا فِي صُورَتِهِ هَذِهِ"(١٧) فَالنَّبِيُّ ﷺ جَعَلَ الْإِسْلَامَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ اسْمًا لِمَا ظَهَرَ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَالْإِيمَانَ اسْمًا لِمَا بَطَنَ مِنَ الِاعْتِقَادِ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ لَيْسَتْ مِنَ الْإِيمَانِ أَوِ التَّصْدِيقَ بِالْقَلْبِ لَيْسَ مِنَ الْإِسْلَامِ بَلْ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ لِجُمْلَةٍ هِيَ كُلُّهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ وَجِمَاعُهَا الدِّينُ، وَلِذَلِكَ قَالَ ذَاكَ جَبْرَائِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ أَمْرَ دِينِكُمْ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ مِنَ الْإِيمَانِ مَا أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الشَّاهِ ثَنَا أَبُو أَحْمَدَ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قُرَيْشِ بْنِ سُلَيْمَانَ ثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى ثَنَا خَلَفُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ جَرِيرٍ الرَّازِيِّ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ "الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ"(١٨) .
وَقِيلَ: الْإِيمَانُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْأَمَانِ، فَسُمِّيَ الْمُؤْمِنُ مُؤْمِنًا لِأَنَّهُ يُؤَمِّنُ نَفْسَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى مُؤْمِنٌ لِأَنَّهُ يُؤَمِّنُ الْعِبَادَ مِنْ عَذَابِهِ(١٩) .
قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿بِالْغَيْبِ﴾: وَالْغَيْبُ مَصْدَرٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الِاسْمِ فَقِيلَ لِلْغَائِبِ غَيْبٌ [كَمَا قِيلَ لِلْعَادِلِ عَدْلٌ وَلِلزَّائِرِ زَوْرٌ. وَالْغَيْبُ مَا كَانَ مَغِيبًا عَنِ الْعُيُونِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْغَيْبُ هَاهُنَا كُلُّ مَا أُمِرْتَ بِالْإِيمَانِ بِهِ فِيمَا غَابَ عَنْ بَصَرِكَ مِثْلَ الْمَلَائِكَةِ وَالْبَعْثِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ. وَقِيلَ الْغَيْبُ هَاهُنَا: هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقِيلَ: الْقُرْآنُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: بِالْآخِرَةِ وَقَالَ زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ: بِالْوَحْيِ. نَظِيرُهُ: ﴿أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ﴾ (٣٥-النَّجْمِ) وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: بِالْقَدَرِ وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ: كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَذَكَرْنَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ ﷺ [وَمَا سَبَقُونَا بِهِ](٢٠) فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّ أَمْرَ مُحَمَّدٍ كَانَ بَيِّنًا لِمَنْ رَآهُ وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا آمَنَ أَحَدٌ قَطُّ إِيمَانًا أَفْضَلَ مِنْ إِيمَانٍ بِغَيْبٍ ثُمَّ قَرَأَ "الم ذَلِكَ الْكِتَابُ" إِلَى قَوْلِهِ "الْمُفْلِحُونَ". قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَوَرْشٌ يُؤْمِنُونَ بِتَرْكِ الْهَمْزَةِ وَكَذَلِكَ أَبُو جَعْفَرٍ بِتَرْكِ كُلِّ هَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ إِلَّا فِي أَنْبِئْهُمْ وَنَبِّئْهُمْ وَنَبِّئْنَا وَيَتْرُكُ أَبُو عَمْرٍو كُلَّهَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ عَلَامَةً لِلْجَزْمِ نَحْوَ نَبِّئْهُمْ وَأَنْبِئْهُمْ وَتَسُؤْهُمْ وَإِنْ نَشَأْ وَنَنْسَأْهَا وَنَحْوَهَا أَوْ يَكُونَ خُرُوجًا مِنْ لُغَةٍ إِلَى أُخْرَى نَحْوَ مُؤْصَدَةٌ وَرِئْيًا. وَيَتْرُكُ وَرْشٌ كُلَّ هَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ كَانَتْ فَاءَ الْفِعْلِ إِلَّا تُؤْوِي وَتُؤْوِيهِ وَلَا يَتْرُكُ مِنْ عَيْنِ الْفِعْلِ: إِلَّا الرُّؤْيَا وَبَابَهُ، إِلَّا مَا كَانَ عَلَى وَزْنِ فِعْلٍ. مِثْلَ: ذِئْبٍ](٢١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ أَيْ يُدِيمُونَهَا وَيُحَافِظُونَ عَلَيْهَا فِي مَوَاقِيتِهَا بِحُدُودِهَا، وَأَرْكَانِهَا وَهَيْئَاتِهَا يُقَالُ: قَامَ بِالْأَمْرِ، وَأَقَامَ الْأَمْرَ إِذَا أَتَى بِهِ مُعْطًى حُقُوقَهُ، وَالْمُرَادُ بِهَا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ ذُكِرَ بِلَفْظِ (الْوُحْدَانِ)(٢٢) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ (٢١٣-الْبَقَرَةِ) يَعْنِي الْكُتُبَ.
وَالصَّلَاةُ فِي اللُّغَةِ: الدُّعَاءُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَصَلِّ عَلَيْهِمْ﴾ (١٠٣-التَّوْبَةِ) أَيِ ادْعُ لَهُمْ، وَفِي الشَّرِيعَةِ اسْمٌ لِأَفْعَالٍ مَخْصُوصَةٍ مِنْ قِيَامٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ وَقُعُودٍ وَدُعَاءٍ وَثَنَاءٍ. وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ﴾ (٥٦-الْأَحْزَابِ) الْآيَةَ إِنَّ الصَّلَاةَ مِنَ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الرَّحْمَةُ وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ الِاسْتِغْفَارُ، وَمِنَ الْمُؤْمِنِينَ: الدُّعَاءُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾ (أَيْ)(٢٣) أَعْطَيْنَاهُمْ وَالرِّزْقُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ حَتَّى الْوَلَدِ وَالْعَبْدِ وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ الْحَظُّ وَالنَّصِيبُ ﴿يُنْفِقُونَ﴾ يَتَصَدَّقُونَ. قَالَ قَتَادَةُ: يُنْفِقُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ. وَأَصْلُ الْإِنْفَاقِ: الْإِخْرَاجُ عَنِ الْيَدِ وَالْمُلْكِ، وَمِنْهُ نِفَاقُ السُّوقِ؛ لِأَنَّهُ تَخْرُجُ فِيهِ السِّلْعَةُ عَنِ الْيَدِ، ومنه: نَفَقَتِ الدَّابَّةُ إِذَا خَرَجَتْ رُوحُهَا. فَهَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمُؤْمِنِينَ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ يَعْنِي الْقُرْآنَ ﴿وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَسَائِرُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَيَتْرُكُ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَقَالُونُ (وَأَبُو عَمْرٍو)(٢٤) وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ وَيَعْقُوبُ كُلَّ مَدَّةٍ تَقَعُ بَيْنَ كُلِّ كَلِمَتَيْنِ. وَالْآخَرُونَ يَمُدُّونَهَا. وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَبِالآخِرَةِ﴾ أي بالدار الآخرة سميت الدنيا دنيا لدنوها من الآخرة وسميت الآخرة آخرة لتأخرها وكونها بعد الدنيا ﴿هُمْ يُوقِنُونَ﴾ أي يستيقنون أنها كائنة، مِنَ الْإِيقَانِ: وَهُوَ الْعِلْمُ. وَقِيلَ: الْإِيقَانُ وَالْيَقِينُ: عِلْمٌ عَنِ اسْتِدْلَالٍ. وَلِذَلِكَ لَا يُسَمَّى اللَّهُ مُوقِنًا وَلَا عِلْمُهُ يَقِينًا إِذْ لَيْسَ عِلْمُهُ عَنِ اسْتِدْلَالٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ﴾ أَيْ أَهْلُ هَذِهِ الصِّفَةِ وَأُولَاءِ كَلِمَةٌ مَعْنَاهَا الْكِنَايَةُ عَنْ جَمَاعَةٍ نَحْوُ: هُمْ، وَالْكَافُ لِلْخِطَابِ كَمَا فِي حَرْفِ ذَلِكَ ﴿عَلَى هُدًى﴾ أَيْ رُشْدٍ وَبَيَانٍ وَبَصِيرَةٍ ﴿مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ أي الناجون ٦/ب وَالْفَائِزُونَ فَازُوا بِالْجَنَّةِ وَنَجَوْا مِنَ النَّارِ، وَيَكُونُ الْفَلَاحُ بِمَعْنَى الْبَقَاءِ أَيْ بَاقُونَ فِي النَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَأَصْلُ الْفَلَاحِ الْقَطْعُ وَالشَّقُّ وَمِنْهُ سُمِّي الزَّرَّاعُ فَلَّاحًا لِأَنَّهُ يَشُقُّ الْأَرْضَ وَفِي الْمَثَلِ: الْحَدِيدُ بِالْحَدِيدِ يُفْلَحُ أَيْ يُشَقُّ فَهُمْ (مَقْطُوعٌ)(٢٥) لَهُمْ بِالْخَيْرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
(١) البقرة: مائتان وثمانون وخمس، وقيل ست، وقيل سبع. (الإتقان - المجلد الأول- ٢٣٥) .
(٢) في ب: الهجاء.
(٣) في أ: المعنى.
(٤) هذا الرجز للوليد بن عقبة، وتمامه: "لا نحسبي أنا نسينا الإيجاف". انظر: تفسير الطبري: ١ / ٢١٢، تفسير الواحدي: ١ / ٢٦.
(٥) في هامش (أ) : مقطعة غير مؤلفة.
(٦) في الأصل: السورة.
(٧) في المطبوع: مباني.
(٨) انظر في هذه الأقوال: تفسير الطبري: ١ / ٢٠٥-٢٢٤، تفسير الواحدي: ١ / ٢٥-٢٦.
(٩) ساقط من (ب) .
(١٠) في ب: فأشبعه.
(١١) رواه مسلم في الجهاد والسير باب في غزوة حنين (١٧٧٦) عن البراء: ٣ / ١٤٠١. وأخرجه المصنف في شرح السنة ٤ / ٣٣.
(١٢) انفرد ابن كثير بأن المسئول هو أبي بن كعب - حاشية ابن كثير.
(١٣) زيادة من (ب) .
(١٤) زيادة من (ب) .
(١٥) في الأصل: لأحد.
(١٦) في الأصل: يمس ركبته.
(١٧) أخرجه البخاري في الإيمان، باب سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام: ١ / ١١٤. ومسلم في الإيمان، باب الإيمان والإسلام والإحسان برقم ٨و٩: ١ / ٣٦-٣٧. وأخرجه المصنف في شرح السنة: ١ / ٨-٩.
(١٨) أخرجه البخاري في الإيمان، باب أمور الإيمان: ١ / ٥٠. ومسلم في الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها برقم (٥٧) : ١ / ٦٣ وأخرجه المصنف في شرح السنة: ١ / ٣٤.
(١٩) راجع بالتفصيل فيما يتعلق بمباحث الإيمان كتاب "الإيمان" لشيخ الإسلام ابن تيمية.
(٢٠) زيادة من "ب".
(٢١) ساقط من حاشية ابن كثير ومثبت على حاشية الخازن ص (٢٥) .
(٢٢) في (ب) : الواحد.
(٢٣) زيادة من (ب) .
(٢٤) زيادة من (ب) .
(٢٥) في ب: المقطوع.
فتح البيان — صديق حسن خان (١٣٠٧ هـ)
﴿ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ﴾ [البقرة ٢]
(الم ذلك الكتاب لا ريب فيه) فأتى أخاه حيي بن أخطب في رجال من اليهود فقال: تعلمون والله لقد سمعت محمداً يتلو فيما أنزل عليه (الم ذلك الكتاب) فقال أنت سمعته فقال نعم، فمشى حيي في أولئك النفر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا يا محمد ألم يذكر أنك تتلو فيما أنزل عليك (آلم ذلك الكتاب) قال بلى قالوا أجاءك بهذا جبريل من عند الله؟ قال نعم، قالوا لقد بعث الله من قبلك الأنبياء ما نعلمه بين لنبي منهم ما مدة ملكه وما أجل أمته غيرك، فقال حيي بن أخطب وأقبل على من كان معه: الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة أفتدخلون في دين نبي إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة؟ ثم أقبل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال يا محمد هل مع هذا غيره قال نعم قال وما ذاك قال (المصَ) قال هذه أثقل وأطول: الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والصاد تسعون، فهذه إحدى وستون ومائة سنة، هل مع هذا يا محمد غيره، قال نعم وما ذاك قال (الر) قال هذه أثقل وأطول: الألف واحدة واللام ثلاثون والراء مائتان، هذه إحدى وثلاثون سنة ومائتان، فهل مع هذا غيره قال نعم (آلمر) قال فهذه أثقل وأطول: الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والراء مائتان فهذه إحدى وسبعون سنة ومائتان، ثم قال لقد لبس علينا أمرك يا محمد حتى ما ندري أقليلاً أعطيت أم كثيراً. ثم قاموا فقال أبو ياسر لأخيه حيي ومن معه من الأحبار ما يدريكم لعله قد جمع هذا لمحمد كله إحدى وسبعون وإحدى وستون ومائة وإحدى وثلاثون ومائتان وإحدى وسبعون ومائتان فذلك سبعمائة وأربع وثلاثون سنة، فقالوا لقد تشابه علينا أمره، فيزعمون أن هذه الآيات نزلت فيهم (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات)(١).
فانظر ما بلغت إليه أفهامهم من هذا الأمر المختص بهم من عدد الحروف مع كونه ليس من لغة العرب في شيء، وتأمل أي موضع أحق بالبيان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا الموضع، فإن هؤلاء الملاعين قد جعلوا ما فهموه عند سماع (الم ذلك الكتاب) من ذلك العدد موجباً للتثبيط عن الإجابة له والدخول في شريعته، فلو كان لذلك معنى يعقل ومدلول يفهم لدفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ظنوه بادىء بدء حتى لا يتأثر عنه ما جاؤوا به من التشكيك على من معهم.
فإن قلت هل ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الفواتح شيء يصلح للتمسك به.
قلت لا أعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تكلم في شيء من معانيها بل غاية ما ثبت عنه هو مجرد عدد حروفها، فأخرج البخاري في تاريخه والترمذي وصححه والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول (الم) حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف "(٢) وله طرق عن ابن مسعود.
وأخرج ابن أبي شيبة والبزار بسند ضعيف عن عوف بن مالك الأشجعي ونحوه مرفوعاً.
فإن قلت هل روي عن الصحابة شيء من ذلك بإسناد متصل بقائله أم ليس إلا ما تقدم من حكاية القرطبي عن ابن عباس وعلي.
قلت قد روي عن ابن مسعود أنه قال (الم) حرف اشتقت من حروف اسم الله وعنه قال هي اسم الله الأعظم، وعن ابن عباس في قوله (الم وحمَ ونّ) قال اسم مقطع وعنه في فواتح السور قال هو قسم أقسمه الله، وهو من أسماء الله.
وعن الربيع بن أنس قال " ألف " مفتاح اسمه الله " ولام " مفتاح اسمه لطيف " وميم " مفتاح اسمه مجيد وقد روي نحو هذه التفاسير عن جماعة من التابعين، فيهم عكرمة والشعبي والسدي وقتادة ومجاهد والحسن.
فإن قلت هل يجوز الاقتداء بأحد من الصحابة قال في تفسير شيء من هذه الفواتح قولاً صح إسناده إليه.
قلت لا لما قدمنا إلا أن يعلم أنه قال ذلك عن علم أخذه عن رسول - صلى الله عليه وسلم -.
فإن قلت هذا مما لا مجال للاجتهاد فيها ولا مدخل للغة العرب فلم لا يكون له حكم الرفع.
قلت تنزيل هذا منزلة المرفوع وإن قال به طائفة من أهل الأصول وغيرهم فليس مما تنشرح له صدور المنصفين، ولا سيما إذا كان في مثل هذا المقام، وهو التفسير لكلام الله سبحانه، فإنه دخول من أعظم الخطر مما لا برهان عليه صحيح إلا مجرد قولهم أنه يبعد من الصحابي كل البعد أن يقول بمحض رأيه فيما لا مجال للاجتهاد فيه، وليس مجرد الاستبعاد مسوغاً للوقوع في خطر الوعيد الشديد.
على أنه يمكن أن يذهب بعض الصحابة إلى تفسير بعض المتشابه كما تجده كثيراً في تفاسيرهم المنقولة عنهم، وتجعل هذه الفواتح من جملة المتشابه.
ثم ههنا مانع آخر؛ وهو أن المروي عن الصحابة في هذا مختلف متناقض، فإن عملنا بما قاله أحدهم دون الآخر كان تحكماً لا وجه له، وإن عملنا بالجميع كان عملاً بما هو مختلف متناقض، ولا يجوز، ثم ههنا مانع غير هذا المانع وهو أنه لو كان شيء مما قالوه مأخوذاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لاتفقوا عليه ولم يختلفوا كسائر ما هو مأخوذ عنه، فلما اختلفوا في هذا علمنا أنه لم يكن مأخوذاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم لو كان عندهم شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا لما تركوا حكايته عنه ورفعه إليه، لا سيما عند اختلافهم واضطراب أقوالهم في مثل هذا الكلام الذي لا مجال للغة العرب فيه ولا مدخل لها.
ولا يقال قد اختلفوا في غيره من الأحكام فيلزم عدا الأخذ به، لأنا نقول اختلافهم في ذلك من قبيل الأخذ بالأخص أو الأعم أو التقدم أو المتأخر، وفي كثير مما اختلفوا فيه إن علموا بالنص تركوا ذلك بخلاف ما هنا، والله أعلم.
والذي أراه لنفسي ولكل من أحب السلامة واقتدى بسلف الأئمة أن لا يتكلم بشيء من ذلك، مع الإعتراف بأن في إنزالها حكمة لله عز وجل لا تبلغها عقولنا، ولا تهتدي إليها أفهامنا، وإذا انتهيت إلى السلامة في مداك فلا تجاوز، وسيأتي لنا عند تفسير قوله تعالى: (منه آيات محكمات هنَّ أم الكتاب
وأخر متشابهات) كلام طويل الذيول وتحقيق تقبله صحيحات الأفهام وسليمات العقول.
(ذلك الكتاب) أي القرآن، وقيل فيه اضمار أي هذا الكتاب الذي وعدتك به أو وعدت به على لسان موسى وعيسى أن أنزله عليك، قال ابن عباس في الآية يعني هذا الكتاب، وبه قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والسدي ومقاتل وزيد بن أسلم وابن جريج، وحكاه البخاري عن أبي عبيدة، والإشارة إلى الكتاب المذكور بعده، والعرب قد تستعمل الإشارة إلا البعيد الغائب، مكان الإشارة إلى القريب الحاضر، ومنه قوله تعالى (ذلك عالم الغيب والشهادة) وقوله (تلك حجتنا آتيناها إبراهيم) وقوله (تلك آيات الكتاب) وقوله (ذلكم حكم الله) قال أبو السعود وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان بعلو شأنه، وكونه في الغاية القاصية من الفضل والشرف، انتهى.
وقيل إن الإشارة إلى غائب، واختلف في ذلك الغائب، فقيل هو الكتاب الذي كتب على الخلائق بالسعادة والشقاوة والأجل والرزق، وقيل الكتاب الذي كتبه الله على نفسه في الأزل كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله " لما قضى الله الخلق كتب في كتاب على نفسه فهو موضوع عنده إن رحمتي تغلب غضبي(٣) " وفي رواية " سبقت " وقيل الإشارة إلى ما قد نزل بمكة، وقيل إلى ما في التوراة والإنجيل، وقيل إلى قوله قبله (الم) ورجحه الزمخشري.
وقد وقع الإختلاف في ذلك إلى تمام عشرة أقوال حسبما حكاه القرطبي وأرجحها ما صدرناه، والكتاب مصدر بمعنى المكتوب وأصله الضم والجمع، ومنه يقال للجند كتيبة لاجتماعها، والكتاب يجمع الحروف بعضها إلى بعض، وهو اسم من أسماء القرآن.
(لا ريب فيه) أي لا شك فيه أنه من عند الله وأنه الحق والصدق، وقيل هو خبر بمعنى النهي أي لا ترتابوا فيه والريب والشك مع التهمة مصدر، وهو قلق النفس واضطرابها، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك "(٤) فإن الشك ريبة وإن الصدق طمأنينة، ومنه ريب الزمان وهو ما يقلق النفوس ويشخص بالقلوب من نوائبه، وقيل الريب هو الشك مطلقاً، وقال ابن أبي حاتم لا أعلم في هذا خلافاً، وقد يستعمل الريب في التهمة والحاجة، حكى ذلك القرطبي، ومعنى هذا النفي العام أن الكتاب ليس بمظنة للريب لوضوح دلالته وضوحاً يقوم مقام البرهان المقتضى لكونه لا ينبغي الإرتياب فيه بوجه من الوجوه.
(هدى) أي رشاد وبيان، وأنه يذكر وهو الكثير وبعضهم يؤنث أي هو هدى أو هذه هدى أو هو هاد لهم إلى الحق، والهدى مصدر، وهذا وزن نادر في المصادر لم يرد منه فيما قيل إلا الهدى والتقى والسرى والبكا بالقصر في لغة، وزاد الشاطبي: لغى بالضم في لغة أيضاً قال الزمخشري: وهو الدلالة الموصلة إلى البغية بدليل وقوع الضلال في مقابلته، انتهى.
قال القرطبي: الهدى هديان، هدى دلالة وهو الذي يقدر عليه الرسل واتباعهم، قال الله تعالى (ولكل قوم هاد) وقال (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) فأثبت لهم الهدى الذي معناه الدلالة والدعوة والتنبيه، وتفرد سبحانه بالهدى الذي معناه التأييد والتوفيق فقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - (إنك لا تهدي من أحببت) فالهدى على هذا يجيء بمعنى خلق الإيمان في القلب، ومنه قوله تعالى (أولئك على هدى من ربهم) وقوله (ولكن الله يهدي من يشاء).
(للمتقين) أي من ثبتت لهم التقوى، وتخصيص الهدى بالمتقين لما أنهم المقتبسون من أنواره المنتفعون بآثاره وإن كانت بهدايته شاملة لكل ناظر من مؤمن وكافر، ولذا أطلقت في قوله (هدى للناس) قاله أبو السعود قال ابن فارس وأصلها في اللغة قلة الكلام، وقال في الكشاف المتقي في اللغة اسم فاعل من قولهم وقاه فاتقى، والوقاية الصيانة، وهو في الشريعة الذي يقي نفسه تعاطي ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك انتهى قال ابن مسعود وهم المؤمنون.
وعن معاذ بن جبل أنه قيل له من المتقون فقال قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا لله العبادة، وعن أبي هريرة أن رجلاً قال له ما التقوى؟ قال هل وجدت طريقاً ذا شوك، قال نعم، قال فكيف صنعت قال إذا رأيت الشوك عدلت عنه أو جاوزته أو قصرت عنه، قال ذلك التقوى، وعن أبي الدرداء قال تمام التقوى أن يتقي الله العبد حتى يتقيه من مثقال ذرة حتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خيفة أن يكون حراماً يكون حجاباً بينه وبين الله وقد روي نحو هذا عن جماعة من التابعين.
وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه والترمذي وحسنه وابن ماجة وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن عطية السعدي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً لما به بأس " فالمصير إلى ما أفاده هذا الحديث واجب، ويكون هذا معنى شرعياً للمتقي أخص من المعنى الذي قدمنا عن صاحب الكشاف زاعماً أنه المعنى الشرعي.
وقد أطال القوم في ذكر تعاريف التقوى ورسوم المتقي لا حاجة لنا إلى التطويل بذكر تلك الأقوال، فالمرفوع يغني عن المرقوع، والصباح يغني عن المصباح.
(١) لم أجده في صحاح الكتب بين يدي.
(٢) الدارمي 2/ 429 - الترمذي 4/ 53 - مشكاة المصابيح/2137 وفي رواية للديلمي 1/ 13
والخطيب في التاريخ 1/ 285 برواية: اقرؤا القرآن فإنكم تؤجرون إليه أما أني لا أقول الم ....
(٣) مسلم/2751 وفي رواية لما خلق الله الخلق ... البخاري/1509.
(٤) النسائي 2/ 334 - الترمذي 2/ 84 - الدارمي 2/ 254 - الحاكم 2/ 13 - مسند أحمد 1/ 200 -
ابو نعيم 6/ 352.
فتح القدير — الشوكاني (١٢٥٠ هـ)
﴿ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ﴾ [البقرة ٢]
الإشارَةُ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ إلى الكِتابِ المَذْكُورِ بَعْدَهُ.
قالَ ابْنُ جَرِيرٍ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: ﴿ذَلِكَ الكِتابُ﴾ هَذا الكِتابُ وبِهِ قالَ مُجاهِدٌ وعِكْرِمَةُ وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ والسُّدِّيُّ ومُقاتِلٌ وزَيْدُ بْنُ أسْلَمَ وابْنُ جُرَيْجٍ، وحَكاهُ البُخارِيُّ عَنْ أبِي عُبَيْدَةَ.
والعَرَبُ قَدْ تَسْتَعْمِلُ الإشارَةَ إلى البَعِيدِ الغائِبِ مَكانَ الإشارَةِ إلى القَرِيبِ الحاضِرِ كَما قالَ خُفافٌ:
أقُولُ لَهُ والرُّمْحُ يَأْطُرُ مَتْنَهُ تَأمَّلْ خُفافًا أنَّنِي أنا ذَلِكا
أيْ أنا هَذا، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذَلِكَ عالِمُ الغَيْبِ والشَّهادَةِ العَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [السجدة: ٦] و﴿وتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إبْراهِيمَ﴾ [الأنعام: ٨٣] ﴿تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ﴾ [البقرة: ٢٥٢] ﴿ذَلِكم حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكم﴾ [الممتحنة: ١٠] وقِيلَ إنَّ الإشارَةَ إلى غائِبٍ، واخْتُلِفَ في ذَلِكَ الغائِبِ، فَقِيلَ: هو الكِتابُ الَّذِي كُتِبَ عَلى الخَلائِقِ بِالسَّعادَةِ والشَّقاوَةِ والأجَلِ والرِّزْقِ.
﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ أيْ لا مُبَدِّلَ لَهُ، وقِيلَ: ذَلِكَ الكِتابُ الَّذِي كَتَبَهُ اللَّهُ عَلى نَفْسِهِ في الأزَلِ أنَّ رَحْمَتَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ، كَما في صَحِيحِمُسْلِمٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «لَمّا قَضى اللَّهُ الخَلْقَ كَتَبَ في كِتابٍ عَلى نَفْسِهِ فَهو مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ: إنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي» .
وفِي رِوايَةٍ سَبَقَتْ.
وقِيلَ: الإشارَةُ إلى ما قَدْ نَزَلَ بِمَكَّةَ، وقِيلَ: إلى ما في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ، وقِيلَ: إشارَةٌ إلى قَوْلِهِ قَبْلَهُ ﴿الم﴾، ورَجَّحَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وقَدْ وقَعَ الِاخْتِلافُ في ذَلِكَ إلى تَمامِ عَشْرَةِ أقْوالٍ حَسْبَما حَكاهُ القُرْطُبِيُّ وأرْجَحُها ما صَدَّرْناهُ، واسْمُ الإشارَةِ مُبْتَدَأٌ، و﴿الكِتابُ﴾ صِفَتُهُ، والخَبَرُ ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ ومَن جَوَّزَ الِابْتِداءَ بِـ ﴿الم﴾ جَعَلَ ذَلِكَ مُبْتَدَأً ثانِيًا، وخَبَرُهُ ﴿الكِتابُ﴾ أوْ هو صِفَتُهُ، والخَبَرُ ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ والجُمْلَةُ خَبَرُ المُبْتَدَأِ.
ويَجُوزُ أنْتَ يَكُونُ المُبْتَدَأُ مُقَدَّرًا وخَبَرُهُ ﴿الم﴾ وما بَعْدَهُ.
والرَّيْبُ مَصْدَرٌ، وهو قَلَقُ النَّفْسِ واضْطِرابُها، وقِيلَ إنَّ الرَّيْبَ الشَّكُّ.
قالَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ: لا أعْلَمُ في هَذا خِلافًا.
وقَدْ يُسْتَعْمَلُ الرَّيْبُ في التُّهْمَةِ والحاجَةِ، حَكى ذَلِكَ القُرْطُبِيُّ.
ومَعْنى هَذا النَّفْيِ العامِّ أنَّ الكِتابَ لَيْسَ بِمَظِنَّةٍ لِلرَّيْبِ لِوُضُوحِ دَلالَتِهِ وُضُوحًا يَقُومُ مَقامَ البُرْهانِ المُقْتَضِي لِكَوْنِهِ لا يَنْبَغِي الِارْتِيابُ فِيهِ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، والوَقْفُ عَلى ﴿فِيهِ﴾ هو المَشْهُورُ.
وقَدْ رُوِيَ عَنْ نافِعٍ وعاصِمٍ الوَقْفُ عَلى ﴿لا رَيْبَ﴾ .
قالَ في الكَشّافِ: ولا بُدَّ لِلْواقِفِ مِن أنْ يَنْوِيَ خَبَرًا ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالُوا لا ضَيْرَ﴾ [الشعراء: ٥٠] وقَوْلُ العَرَبِ: لا بَأْسَ، وهي كَثِيرَةٌ في لِسانِ أهْلِ الحِجازِ، والتَّقْدِيرُ: لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى.
والهُدى مَصْدَرٌ.
قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وهو الدَّلالَةُ المُوصِلَةُ إلى البُغْيَةِ بِدَلِيلِ وُقُوعِ الضَّلالِ في مُقابَلَتِهِ انْتَهى.
ومَحَلُّهُ الرَّفْعُ عَلى الِابْتِداءِ وخَبَرُهُ الظَّرْفُ المَذْكُورُ قَبْلَهُ عَلى ما سَبَقَ.
قالَ القُرْطُبِيُّ: الهُدى هُدَيانِ: هُدى دَلالَةٍ وهو الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ الرُّسُلُ وأتْباعُهم، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ولِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ﴾ [الرعد: ٧] وقالَ: ﴿وإنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: ٥٢] فَأثْبَتَ لَهُمُ الهُدى الَّذِي مَعْناهُ الدَّلالَةُ والدَّعْوَةُ والتَّنْبِيهُ، وتَفَرَّدَ سُبْحانَهُ بِالهُدى الَّذِي مَعْناهُ التَّأْيِيدُ والتَّوْفِيقُ، فَقالَ لِنَبِيِّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: ﴿إنَّكَ لا تَهْدِي مَن أحْبَبْتَ﴾ [القصص: ٥٦] فالهُدى عَلى هَذا يَجِيءُ بِمَعْنى خَلْقِ الإيمانِ في القَلْبِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ عَلى هُدًى مِن رَبِّهِمْ﴾ وقَوْلِهِ: ﴿ولَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشاءُ﴾ انْتَهى.
والمُتَّقِينَ مَن ثَبَتَتْ لَهُمُ التَّقْوى.
قالَ ابْنُ فارِسٍ: وأصْلُها في اللُّغَةِ قِلَّةُ الكَلامِ.
وقالَ في الكَشّافِ: المُتَّقِي في اللُّغَةِ: اسْمُ فاعِلٍ مِن قَوْلِهِمْ وقاهُ فاتَّقى، والوِقايَةُ: الصِّيانَةُ، ومِنهُ: فَرَسٌ واقٍ، وهَذِهِ الدّابَّةُ تَقِي مِن وِجارِها: إذا أصابَها ضَلَعٌ مِن غِلَظِ الأرْضِ ورِقَّةِ الحافِرِ، فَهو يَقِي حافِرَهُ أنْ يُصِيبَهُ أدْنى شَيْءٍ يُؤْلِمُهُ.
وهُوَ في الشَّرِيعَةِ: الَّذِي يَقِي نَفْسَهُ تَعاطِيَ ما يَسْتَحِقُّ بِهِ العُقُوبَةَ مِن فِعْلٍ أوْ تَرْكٍ انْتَهى.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أنَّ ﴿الكِتابُ﴾ القُرْآنُ، ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ لا شَكَّ فِيهِ.
وأخْرَجَ ابْنُ إسْحاقَ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ قالَ: لا شَكَّ فِيهِ.
وأخْرَجَ أحْمَدُ في الزُّهْدِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ أبِي الدَّرْداءِ قالَ: الرَّيْبُ الشَّكُّ.
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتادَةَ مِثْلَهُ، وكَذا ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجاهِدٍ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ في قَوْلِهِ: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ قالَ: نُورٌ لِلْمُتَّقِينَ وهُمُ المُؤْمِنُونَ.
وأخْرَجَ ابْنُ إسْحاقَ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ أيِ الَّذِينَ يَحْذَرُونَ مِنَ اللَّهِ عُقُوبَتَهُ في تَرْكِ ما يَعْرِفُونَ مِنَ الهُدى ويَرْجُونَ رَحْمَتَهُ في التَّصْدِيقِ مِمّا جاءَ مِنهُ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مُعاذِ بْنِ جَبَلٍ أنَّهُ قِيلَ لَهُ: مَنِ المُتَّقُونَ ؟ فَقالَ: قَوْمٌ اتَّقَوُا الشِّرْكَ وعِبادَةَ الأوْثانِ وأخْلَصُوا لِلَّهِ العِبادَةَ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رَجُلًا قالَ لَهُ: ما التَّقْوى ؟ قالَ: هَلْ وجَدْتَ طَرِيقًا ذا شَوْكٍ ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: فَكَيْفَ صَنَعْتَ ؟ قالَ: إذا رَأيْتُ الشَّوْكَ عَدَلْتُ عَنْهُ أوْ جاوَزْتُهُ أوْ قَصَّرْتُ عَنْهُ، قالَ: ذاكَ التَّقْوى.
وأخْرَجَ أحْمَدُ في الزُّهْدِ عَنْ أبِي الدَّرْداءِ قالَ: تَمامُ التَّقْوى أنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ العَبْدُ حَتّى يَتَّقِيَهُ مِن مِثْقالِ ذَرَّةٍ حِينِ يَتْرُكُ بَعْضَ ما يَرى أنَّهُ حَلالٌ خَشْيَةَ أنْ يَكُونَ حِجابًا بَيْنَهُ وبَيْنَ الحَرامِ.
وقَدْ رُوِيَ نَحْوُ ما قالَهُ أبُو الدَّرْداءِ عَنْ جَماعَةٍ مِنَ التّابِعِينَ.
وأخْرَجَ أحْمَدُ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ والبُخارِيُّ في تارِيخِهِ والتِّرْمِذِيُّ وحَسَّنَهُ وابْنُ ماجَهْ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ والبَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ عَنْ عَطِيَّةَ السَّعْدِيِّ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «لا يَبْلُغُ العَبْدُ أنْ يَكُونَ مِنَ المُتَّقِينَ حَتّى يَدَعَ ما لا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا لِما بِهِ البَأْسُ» فالمَصِيرُ إلى ما أفادَهُ هَذا الحَدِيثُ واجِبٌ، ويَكُونُ هَذا مَعْنًى شَرْعِيًّا لِلْمُتَّقِي أخَصَّ مِنَ المَعْنى الَّذِي قَدَّمْناهُ عَنْ صاحِبِ الكَشّافِ زاعِمًا أنَّهُ المَعْنى الشَّرْعِيُّ.
التسهيل لعلوم التنزيل — ابن جُزَيّ (٧٤١ هـ)
﷽
﴿الۤمۤ (١) ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ (٢)﴾ [البقرة ١-٢]
﴿الۤمۤ﴾ اختلف فيه وفي سائر حروف الهجاء في أوائل حروف السور، وهي: المص، والر، والمر، وكهيعص، وطه، وطسم، وطس، ويس، وص، وق، وحم، وحم عسق، ون. فقال قوم: لا تفسر لأنها من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، قال أبو بكر الصديق: لله في كل كتاب سرّ، وسرّه في القرآن فواتح السور، وقال قوم تفسر، ثم اختلفوا فيها، فقيل: هي أسماء الله، وقيل: أشياء أقسم الله بها، وقيل: هي حروف مقطعة من كلمات: فالألف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد ﷺ، ومثل ذلك في سائرها، وإعراب هذه الحروف يختلف بالاختلاف في معناها؛ فيتصور أن تكون في موضع رفع أو نصب أو خفض. فالرفع على أنها مبتدأ أو خبر ابتداء مضمر، والنصب على أنها مفعول بفعل مضمر، والخفض على قول من جعلها مقسماً بها كقولك: اللّهِ لأفعلن ﴿ذَلِكَ ٱلْكِتَٰبُ﴾ هو هنا القرآن، وقيل: التوراة والإنجيل، وقيل: اللوح المحفوظ وهو الصحيح الذي يدل عليه سياق الكلام ويشهد له مواضع من القرآن. والمقصود منها إثبات أن القرآن من عند الله كقوله: ﴿تَنزِيلُ ٱلْكِتَٰبِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ﴾ [السجدة: ٢] يعني القرآن باتفاق، وخبر ذلك: لا ريب فيه، وقيل: خبره الكتاب فعلى هذا ﴿ذَلِكَ ٱلْكِتَٰبُ﴾ جملة مستقلة فيوقف عليه ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ أي: لا شك أنه من عند الله في نفس الأمر في اعتقاد أهل الحق، ولم يعتبر أهل الباطل، وخبر لا ريب: فيه، فيوقف عليه، وقيل: خبرها محذوف فيوقف على ﴿لاَ رَيْبَ﴾. والأول أرجح لتعيّنه في قوله: ﴿لاَ رَيْبَ﴾ في مواضع أخر.
فإن قيل: فهلا قدم قوله فيه على الريب كقوله: ﴿لاَ فِيهَا غَوْلٌ﴾ [الصافات: ٤٧] فالجواب: أنه إنما قصد نفي الريب عنه. ولو قدم فيه: لكان إشارة إلى أن ثمّ كتاب آخر في ريب، كما أن "لا غول فيها" إشارة إلى أن خمر الدنيا فيها غول، وهذا المعنى يبعد قصده فلا يقدم الخبر. ﴿هُدًى﴾ هنا بمعنى الإرشاد لتخصيصه بالمتقين، ولو كان بمعنى البيان لعم كقوله: ﴿هُدًى لِّلنَّاسِ﴾. وإعرابه: خبر ابتداء، أو مبتدأ وخبره: فيه، عندما يقف على لا ريب، أو منصوب على الحال والعامل فيه الإشارة ﴿لِّلْمُتَّقِينَ﴾ مفتعليِن من التقوى، وقد تقدّم معناه في الكتاب، فنتكلم عن التقوى في ثلاثة فصول.
الأول: في فضائلها المستنبطة من القرآن، وهي خمس عشرة: الهدى كقوله: ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢] والنصرة، لقوله: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ﴾ [النحل: ١٢٨] والولاية لقوله: ﴿وَٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلْمُتَّقِينَ﴾ [الجاثية: ١٩] والمحبة لقوله: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ﴾ [براءة: ٤] والمغفرة لقوله: ﴿إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً﴾ [الأنفال: ٢٩] والمخرج من الغم والرزق من حيث لا يحتسب لقوله: ﴿وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً﴾ [الطلاق: ٢] الآية وتيسير الأمور لقوله: ﴿وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً﴾ [الطلاق: ٤] وغفران الذنوب وإعظام الأجور لقوله: ﴿وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً﴾ [الطلاق: ٥] وتقبل الأعمال لقوله: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ﴾ [المائدة: ٢٧] والفلاح لقوله: ﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [البقرة: ١٨٩] والبشرى لقوله: ﴿لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فِي ٱلْحَياةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ ٱللَّهِ ذٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ﴾ [يونس: ٦٤] ودخول الجنة لقوله: ﴿إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ﴾ [القلم: ٣٤] والنجاة من النار لقوله: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ﴾ [مريم: ٧٢].
الفصل الثاني: البواعث على التقوى عشرة: خوف العقاب الأخروي، وخوف العقاب الدنيوي، ورجاء الثواب الدنيوي، ورجاء الثواب الأخروي، وخوف الحساب، والحياء: من نظر الله، وهو مقام المراقبة، والشكر على نعمه بطاعته، والعلم لقوله: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: ٢٨] وتعظيم جلال الله، وهو مقام الهيبة، وصدق المحبة لقول القائل:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه — هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته — إن المحب لمن يحب مطيع
ولله در القائل:
قالت، وقد سألت عن حال عاشقها: — لله صفه ولا تنقص ولا تزد
فقلت: لو كان يظن الموت من ظمإ — وقلت: قف عن ورود الماء لم يرد
الفصل الثالث: درجات التقوى خمس: أن يتقي العبد الكفر، وذلك مقام الإسلام، وأن يتقي المعاصي والحرمات وهو مقام التوبة، وأن يتقي الشبهات، وهو مقام الورع، وأن يتقي المباحات وهو مقام الزهد، وأن يتقي حضور غير الله على قلبه، وهو مقام المشاهدة.
الميسر — مجمع الملك فهد
﴿ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ﴾ [البقرة ٢]
ذلك القرآن هو الكتاب العظيم الذي لا شَكَّ أنه من عند الله، فلا يصحُّ أن يرتاب فيه أحدٌ لوضوحه، ينتفع به المتقون بالعلم النافع والعمل الصالح، وهم الذين يخافون الله، ويتبعون أحكامه.
المختصر — مركز تفسير
﴿ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ﴾ [البقرة ٢]
ذلك القرآن العظيم لا شك فيه، لا من جهة تنزيله، ولا من حيث لفظه ومعناه، فهو كلام الله، يهدي المتقين إلى الطريق الموصل إليه.
تيسير الكريم الرحمن — السعدي (١٣٧٦ هـ)
﴿ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ﴾ [البقرة ٢]
وقوله ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ أي هذا الكتاب العظيم الذي هو الكتاب على الحقيقة، المشتمل على ما لم تشتمل عليه كتب المتقدمين والمتأخرين من العلم العظيم، والحق المبين. فـ ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ ولا شك بوجه من الوجوه، ونفي الريب عنه، يستلزم ضده، إذ ضد الريب والشك اليقين، فهذا الكتاب مشتمل على علم اليقين المزيل للشك والريب. وهذه قاعدة مفيدة، أن النفي المقصود به المدح، لا بد أن يكون متضمنا لضدة، وهو الكمال، لأن النفي عدم، والعدم المحض، لا مدح فيه. فلما اشتمل على اليقين وكانت الهداية لا تحصل إلا باليقين قال: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ والهدى: ما تحصل به الهداية من الضلالة والشبه، وما به الهداية إلى سلوك الطرق النافعة. وقال ﴿هُدًى﴾ وحذف المعمول، فلم يقل هدى للمصلحة الفلانية، ولا للشيء الفلاني، لإرادة العموم، وأنه هدى لجميع مصالح الدارين، فهو مرشد للعباد في المسائل الأصولية والفروعية، ومبين للحق من الباطل، والصحيح من الضعيف، ومبين لهم كيف يسلكون الطرق النافعة لهم، في دنياهم وأخراهم. وقال في موضع آخر: ﴿هُدًى لِلنَّاسِ﴾ فعمم. وفي هذا الموضع وغيره ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ لأنه في نفسه هدى لجميع الخلق.فالأشقياء لم يرفعوا به رأسا. ولم يقبلوا هدى الله، فقامت عليهم به الحجة، ولم ينتفعوا به لشقائهم، وأما المتقون الذين أتوا بالسبب الأكبر، لحصول الهداية، وهو التقوى التي حقيقتها: اتخاذ ما يقي سخط الله وعذابه، بامتثال أوامره، واجتناب النواهي، فاهتدوا به، وانتفعوا غاية الانتفاع. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا﴾ فالمتقون هم المنتفعون بالآيات القرآنية، والآيات الكونية. ولأن الهداية نوعان: هداية البيان، وهداية التوفيق. فالمتقون حصلت لهم الهدايتان، وغيرهم لم تحصل لهم هداية التوفيق. وهداية البيان بدون توفيق للعمل بها، ليست هداية حقيقية [تامة].
﷽
﴿الۤمۤ (١) ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ (٢) ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ (٣) وَٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ وَمَاۤ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡـَٔاخِرَةِ هُمۡ یُوقِنُونَ (٤) أُو۟لَـٰۤىِٕكَ عَلَىٰ هُدࣰى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ (٥)﴾ [البقرة ١-٥]
﴿الۤمۤ﴾
شرح الكلمة:
الۤمۤ: هذه من الحروف المقطعة تكتب الۤمۤ وتقرأ هكذا:
ألِفْ لام مِّيمْ. والسور المفتتحة بالحروف المقطعة تسع وعشرون سورة أولها البقرة هذه وآخرها القلم «نۤ» ومنها الأحادية مثل صۤ. وقۤ، ونۤ، ومنها الثنائية مثل طه، ويسۤ، وحمۤ، ومنها الثلاثية والرباعية والخماسية ولم يثبت في تفسيرها عن النبي ﷺ شيء وكونها من المتشابه الذي استأثر الله تعالى بعلمه أقرب إلى الصواب ولذا يقال فيها: الۤمۤ: الله أعلم بمراده بذلك.
وقد استخرج منها بعض أهل العلم فائدتين: الأولى أنه لما كان المشركون يمنعون سماع القرآن مخافة أن يؤثر في نفوس السامعين كان النطق بهذه الحروف حمۤ. طسۤ. قۤ. كۤهيعۤصۤ وهو منطق غريب عنهم يستميلهم إلى سماع القرآن فيسمعون فيتأثرون وينجذبون فيؤمنون ويسمعون وكفى بهذه الفائدة من فائدة. والثانية لما انكر المشركون كون القرآن كلام الله أوحاه إلى رسوله محمد ﷺ كانت هذه الحروف بمثابة المتحدِّي لهم كأنها تقول لهم: إن هذا القرآن مؤلف من مثل هذه الحروف فألفوا أنتم مثله. ويشهد بهذه الفائدة ذكر لفظ القرآن بعدها غالباً نحو ﴿الۤمۤ ذَلِكَ ٱلْكِتابُ﴾. ﴿الۤر تِلْكَ آياتُ ٱلْكِتابِ﴾ [يونس: ١، يوسف: ١، الحجر: ١]، ﴿طسۤ تِلْكَ آياتُ ٱلْقُرْآنِ﴾ [النمل: ١]، كأنها تقول: إنه من مثل هذه الحروف تألف القرآن فألفوا أنتم نظيره فإن عجزتم فسلموا أنه كلام الله ووحيه وآمنوا به تفلحوا.
﴿ذَلِكَ ٱلْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾
شرح الكلمات:
ذلك: هذا، وإنما عُدل عن لفظ هذا إلى ذلك. لما تفيده الإشارة بلام البعد من علو المنزلة وارتفاع القدر والشأن.
الكتاب: القرآن الكريم الذي يقرأه رسول الله صلى الله علي وسلم على الناس.
لا ريب: لا شك في أنه وحي الله وكلامه أوحاه إلى رسوله.
فيه هدىً: دلالةٌ على الطريق الموصل إلى السعادة والكمال في الدارين.
للمتقين: المتقين أي عذاب الله بطاعته بفعل أوامره واجتناب نواهيه.
معنى الآية:
يخبر تعالى أن ما أنزله على عبده ورسوله من قرآن يمثل كتاباً فخماً عظيماً لا يحتمل الشك ولا يتطرق إليه احتمال كونه غير وحي الله وكتابه بحال، وذلك لإعجازه، وما يحمله من هدى ونور لأهل الإيمان والتقوى يهتدون بهما الى سبل السلام والسعادة والكمال.
هداية الآية:
من هداية الآية:
١- تقوية الإيمان بالله تعالى وكتابه ورسوله، الحث على طلب الهداية من الكتاب الكريم.
٢- بيان فضيلة التقوى وأهلها.
الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون.
والذين يؤمنون بما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون.
أولئك على هدىً من ربهم، وأولئك هم المفلحون.
شرح الجمل:
يؤمنون بالغيب: يصدقون تصديقاً جازماً لكل ما هو غيب لا يدرك بالحواس كالربّ تبارك وتعالى ذاتاً وصفاتٍ والملائكة والبعث، والجنة ونعيمها والنار وعذابها.
ويقيمون الصلاة: يُديمون أداء الصلوات الخمس في أوقاتها مع مراعاة شرائطها وأركانها وسننها ونوافلها الراتبة وغيرها.
ومما رزقناهم ينفقون: من بعض ما آتاهم الله من مال ينفقون وذلك بإخراجهم لزكاة أموالهم وبإنفاقهم على أنفسهم وأزواجهم وأولادهم ووالديهم وتصدقهم على الفقراء والمساكين.
يؤمنون بما أنزل إليك: يصدقون بالوحي الذي أنزل إليك أيها الرسول وهو الكتاب والسنة.
وما أنزل من قبلك: ويصدقون بما أنزل الله تعالى من كتب على الرسل من قبلك كالتوراة والإنجيل والزبور.
وبالآخرة هم يوقنون: وبالحياة في الدار الآخرة وما فيها من حساب وثواب وعقاب هم عالمون متيقنون لا يشكون في شيء من ذلك ولا يرتابون لكامل إيمانهم وعظم اتقائهم.
أولئك على هدى من ربهم: الإشارة إلى أصحاب الصفات الخمس السابقة والإخبار عنهم بأنهم بما هداهم الله تعالى إليه من الإيمان وصالح الأعمال هم متمكنون من الاستقامة على منهج الله المفضي بهم إلى الفلاح.
وأولئك هم المفلحون: الإشارة الى أصحاب الهداية الكاملة والإخبار عنهم بأنهم هم المفلحون الجديرون بالفوز الذي هو دخول الجنة بعد النجاة من النار.
معنى الآيات:
ذكر تعالى في هذه الآيات الثلاث صفات المتقين من الإيمان بالغيب وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والإيمان بما أنزل الله من كتب والإيمان بالدار الآخرة وأخبر عنهم بأنهم لذلك هم على أتم هداية من ربهم، وأنهم هم الفائزون في الدنيا بالطهر والطمأنينة وفي الآخرة بدخول الجنة بعد النجاة من النار.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
دعوة المؤمنين وترغيبهم في الاتصاف بصفات أهل الهداية والفلاح، ليسلكوا سلوكهم فيهتدوا ويفلحوا في دنياهم وأخراهم.
روح المعاني — الآلوسي (١٢٧٠ هـ)
﴿ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ﴾ [البقرة ٢]
﴿ذَلِكَ الكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، وابْتِداءُ كَلامٍ أوْ مُتَعَلِّقَةٌ بِما قَبْلَها، وفِيهِ احْتِمالاتٌ أطالُوا فِيها، وكِتابُ اللَّهِ تَعالى يُحْمَلُ عَلى أحْسَنِ المَحامِلِ، وأبْعَدِها مِنَ التَّكَلُّفِ، وأسْوَغِها في لِسانِ العَرَبِ، وذَلِكَ إشارَةٌ إلى الكِتابِ المَوْعُودِ بِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا﴾ كَما قالَ الواحِدِيُّ، أوْ عَلى لِسانِ مُوسى وعِيسى عَلَيْهِما السَّلامُ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وكانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الآيَةَ، ويُؤَيِّدُهُ ما رُوِيَ عَنْ كَعْبٍ: «(عَلَيْكم بِالقُرْآنِ، فَإنَّهُ فَهْمُ العَقْلِ ونُورُ الحِكْمَةِ، ويَنابِيعُ العِلْمِ، وأحْدَثُ الكُتُبِ بِاللَّهِ عَهْدًا)،» وقالَ في التَّوْراةِ: (يا مُحَمَّدُ، إنِّي مُنَزِّلٌ عَلَيْكَ تَوْراةً حَدِيثَةً تَفْتَحُ بِها أعْيُنًا عُمْيًا، وآذانًا صُمًّا، وقُلُوبًا غُلْفًا)، كَما قالَهُ غَيْرُ واحِدٍ، أوْ إلى ما بَيْنَ أيْدِينا، والإشارَةُ بِذَلِكَ لِلتَّعْظِيمِ، وتَنْزِيلُ البُعْدِ الرُّتَبِيِّ مَنزِلَةَ البُعْدِ الحَقِيقِيِّ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ﴾ كَما اخْتارَهُ في المِفْتاحِ، أوْ لِأنَّهُ لَمّا نَزَلَ عَنْ حَضْرَةِ الرُّبُوبِيَّةِ وصارَ بِحَضْرَتِنا بَعُدَ، ومَن أعْطى غَيْرَهُ شَيْئًا، أوْ أوْصَلَهُ إلَيْهِ، أوْ لاحَظَ وُصُولَهُ عَبَّرَ عَنْهُ بِذَلِكَ، لِأنَّهُ بِانْفِصالِهِ عَنْهُ بَعِيدٌ، أوْ في حُكْمِهِ، وقَدْ قِيلَ: كُلُّ ما لَيْسَ في يَدَيْكَ بَعِيدٌ.
ولَمّا لَمْ يَتَأتَّ هَذا المَعْنى في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وهَذا كِتابٌ أنْزَلْناهُ﴾ لِأنَّهُ إشارَةٌ إلى ما عِنْدَهُ سُبْحانَهُ لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ مَعَ بُعْدِ الدَّرَجَةِ، وهَذا الذِّكْرُ حُرُوفُ التَّهَجِّي في الأوَّلِ، وهي تُقَطَّعُ بِها الحُرُوفُ، وهو لا يَكُونُ إلّا في حَقِّنا، وعَدَمِ ذِكْرِها في الثّانِي، فَلِذا اخْتَلَفَ المَقامانِ، وافْتَرَقَتِ الإشارَتانِ كَما قالَهُ السُّهَيْلِيُّ، وهو عِنْدَ قَوْمٍ تَحْقِيقٌ، ويُرْشِدُكَ إلى ما فِيهِ عِنْدِي نَظَرٌ دَقِيقٌ، وأبْعَدَ بَعْضُهم فَوَجَّهَ البُعْدَ بِأنَّ القُرْآنَ لَفْظٌ، وهو مِن قَبِيلِ الأعْراضِ السَّيّالَةِ الغَيْرِ القارَّةِ، فَكُلُّ ما وُجِدَ مِنهُ اضْمَحَلَّ، وتَلاشى، وصارَ مُنْقَضِيًا غائِبًا عَنِ الحِسِّ، وما هو كَذَلِكَ في حُكْمِ البَعِيدِ، وقِيلَ: لِأنَّ صِيغَةَ البَعِيدِ والقَرِيبِ قَدْ يَتَعاقَبانِ كَقَوْلِهِ تَعالى في قِصَّةِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ﴾ ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنَّ هَذا لَهو القَصَصُ الحَقُّ﴾ ولَهُ نَظائِرُ في الكِتابِ الكَرِيمِ، ونَقَلَهُ الجُرْجانِيُّ عَنْ طائِفَةٍ، وأنْشَدُوا:
أقُولُ لَهُ والرُّمْحُ يَأْطِرُ مَتْنُهُ تَأمَّلْ خِفافًا إنَّنِي أنا ذَلِكا
ولَيْسَ بِنَصٍّ، لِاحْتِمالِ أنْ يَكُونَ المُرادُ إنَّنِي أنا ذَلِكَ الَّذِي كُنْتَ تُحَدَّثُ عَنْهُ وتَسْمَعُ بِهِ، وقَوْلُ الإمامِ الرّازِيِّ: إنَّ ذَلِكَ لِلْبَعِيدِ عُرْفًا لا وضْعًا، فَحَمْلُهُ هُنا عَلى مُقْتَضى الوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، لا العُرْفِيِّ مُخالِفٌ لِما نَفْهَمُهُ مِن كُتُبِ أرْبابِ العَرَبِيَّةِ، وفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ، والقَوْلُ بِأنَّ الإشارَةَ إلى التَّوْراةِ والإنْجِيلِ كَما نُقِلَ عَنْ عِكْرِمَةَ، إنْ كانَ قَدْ ورَدَ فِيهِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ قَبِلْناهُ وتَكَلَّفْنا لَهُ، وإلّا ضَرَبْنا بِهِ الحائِطَ، وما كُلُّ احْتِمالٍ يَلِيقُ، وأغْرَبُ ما رَأيْناهُ في تَوْجِيهِ الإشارَةِ أنَّها إلى الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ في الفاتِحَةِ، كَأنَّهم لَمّا سَألُوا الهِدايَةَ لِذَلِكَ قِيلَ لَهُمْ: ذَلِكَ الصِّراطُ الَّذِي سَألْتُمُ الهِدايَةَ إلَيْهِ، هو الكِتابُ، وهَذا إنْ قَبِلْتَهُ يَتَبَيَّنُ بِهِ وجْهُ ارْتِباطِ سُورَةِ البَقَرَةِ بِسُورَةِ الحَمْدِ عَلى أتَمِّ وجْهٍ، وتَكُونُ الإشارَةُ إلى ما سَبَقَ ذِكْرُهُ، والَّذِي تَنْفَتِحُ لَهُ الآذانُ أنَّهُ إشارَةٌ إلى القُرْآنِ، ووَجْهُ البُعْدِ ما ذَكَرَهُ صاحِبُ المِفْتاحِ، ونُورُ القُرْبِ يَلُوحُ عَلَيْهِ، والمُعْتَبَرُ في أسْماءِ الإشارَةِ هو الإشارَةُ الحِسِّيَّةُ الَّتِي لا يُتَصَوَّرُ تَعَلُّقُها إلّا بِمَحْسُوسٍ مُشاهَدٍ، فَإنْ أُشِيرَ بِها إلى ما يَسْتَحِيلُ إحْساسُهُ نَحْوِ: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ﴾ أوْ إلى مَحْسُوسٍ غَيْرِ مُشاهِدٍ نَحْوِ: (تِلْكَ الجَنَّةِ)، فَلِتَصْيِيرِهِ كالمُشاهَدِ، وتَنْزِيلُ الإشارَةِ العَقْلِيَّةِ مَنزِلَةَ الحِسِّيَّةِ كَما في الرَّضِيِّ فالإشارَةُ هُنا لا تَخْلُو عَنْ لُطْفٍ، وقَوْلُ بَعْضِهِمْ: إنَّ اسْمَ الإشارَةِ إذا كانَ مَعَهُ صِفَةٌ لَهُ لَمْ يَلْزَمْ أنْ يَكُونَ مَحْسُوسًا، وهم مَحْسُوسٌ، والكِتابُ كالكَتْبِ مَصْدَرُ كَتَبَ، ويُطْلَقُ عَلى المَكْتُوبِ، كاللِّباسِ بِمَعْنى المَلْبُوسِ، والكَتْبُ كَما قالَ الرّاغِبُ ضَمُّ أدِيمٍ إلى أدِيمٍ بِالخِياطَةِ، وفي المُتَعارَفِ ضَمُّ الحُرُوفِ بَعْضِها إلى بَعْضٍ، والأصْلُ في الكِتابَةِ النَّظْمُ بِالخَطِّ، وقَدْ يُقالُ ذَلِكَ لِلْمَضْمُومِ بَعْضُهُ إلى بَعْضٍ بِاللَّفْظِ، ولِذا يُسْتَعارُ كُلُّ واحِدٍ لِلْآخَرِ، ولِذا سُمِّيَ كِتابَ اللَّهِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ كِتابًا، والكِتابُ هُنا إمّا باقٍ عَلى المَصْدَرِيَّةِ، وسُمِّيَ بِهِ المَفْعُولُ لِلْمُبالَغَةِ، أوْ هو بِمَعْنى المَفْعُولِ وأُطْلِقَ عَلى المَنظُومِ عِبارَةً قَبْلَ أنْ تُنْظَمَ حُرُوفُهُ الَّتِي يَتَألَّفُ مِنها في الخَطِّ تَسْمِيَةً بِما يَئُولُ إلَيْهِ مَعَ المُناسَبَةِ، وقَوْلُ الإمامِ: إنَّ اشْتِقاقَ الكِتابِ مِن كَتَبْتُ الشَّيْءَ إذا جَمَعْتَهُ وسُمِّيَتِ الكَتِيبَةَ لِاجْتِماعِها فَسُمِّيَ الكِتابُ كِتابًا لِأنَّهُ كالكَتِيبَةِ عَلى عَساكِرِ الشُّبُهاتِ، أوْ لِأنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ جَمِيعُ العُلُومِ، أوْ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى ألْزَمَ فِيهِ التَّكالِيفَ عَلى الخَلْقِ، كَلامٌ مُلَفَّقٌ لا يَخْفى ما فِيهِ، ويُطْلَقُ الكِتابُ كالقُرْآنِ عَلى المَجْمُوعِ المُنَزَّلِ عَلى النَّبِيِّ المُرْسَلِ ﷺ وعَلى القَدْرِ الشّائِعِ بَيْنَ الكُلِّ والجُزْءِ، ولا يَحْتاجُ هُنا إلى ما قِيلَ في دَفْعِ المُغالَطَةِ المَعْرُوفَةِ بِالجِذْرِ الأصَمِّ، ولا أرى فِيهِ بَأْسًا، إنِ احْتَجْتَهُ، واللّامُ في الكِتابِ لِلْحَقِيقَةِ، مِثْلُها فِي: أنْتَ الرَّجُلُ، والمَعْنى: ذَلِكَ هو الكِتابُ الكامِلُ الحَقِيقُ بِأنْ يُخَصَّ بِهِ اسْمُ الكِتابِ لِغايَةِ تَفَوُّقِهِ عَلى بَقِيَّةِ الأفْرادِ في حِيازَةِ كَمالاتِ الجِنْسِ، حَتّى كَأنَّ ما عَداهُ مِنَ الكُتُبِ السَّماوِيَّةِ خارِجٌ مِنهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ، وقالَ ابْنُ عُصْفُورٍ: كُلُّ لامٍ وقَعَتْ بَعْدَ اسْمِ الإشارَةِ وأيْ في النِّداءِ، وإذا الفُجائِيَّةِ فَهي لِلْعَهْدِ الحُضُورِيِّ، وقُرِئَ: (تَنْزِيلُ الكِتابِ)، والرَّيْبُ الشَّكُّ، وأصْلُهُ مَصْدَرُ رابَنِي الشَّيْءُ إذا حَصَلَ فِيكَ الرِّيبَةُ، وهي قَلَقُ النَّفْسِ، ومِنهُ رَيْبُ الزَّمانِ لِنَوائِبِهِ، فَهو مِمّا نُقِلَ مِنَ القَلَقِ إلى ما هو شَبِيهٌ بِهِ، ويُسْتَعْمَلُ أيْضًا لِما يَخْتَلِجُ في القَلْبِ مِن أسْبابِ الغَيْظِ، وقَوْلُ الإمامِ الرّازِيِّ: إنَّ هَذَيْنِ قَدْ يَرْجِعانِ إلى مَعْنى الشَّكِّ لِأنَّ ما يُخافُ مِنَ الحَوادِثِ مُحْتَمَلٌ، فَهو كالمَشْكُوكِ، وكَذَلِكَ ما اخْتَلَجَ في القَلْبِ، فَإنَّهُ غَيْرُ مُسْتَيْقَنٍ مُسْتَيْقَنٍ رَدُّهُ، فالمَنُونُ مِنَ الرَّيْبِ، أوْ يُشَكُّ فِيهِ، ويَخْتَلِجُ في القَلْبِ مِن أسْبابِ الغَيْظِ عَلى الكُفّارِ مَثَلًا، مِمّا لا رَيْبَ فِيهِ، أوْ فِيهِ رَيْبٌ، وفَرَّقَ أبُو زَيْدٍ بَيْنَ رابَنِي، وأرابَنِي فَيُقالُ: رابَنِي مِن فُلانٍ أمْرٌ، إذا كُنْتَ مُسْتَيْقِنًا مِنهُ بِالرَّيْبِ، وإذا أسَأْتَ بِهِ الظَّنَّ، ولَمْ تَسْتَيْقِنْ مِنهُ، قُلْتَ: أرابَنِي، وعَلَيْهِ قَوْلُ بَشّارٍ:
أخُوكَ الَّذِي إنْ رِبْتَهُ قالَ إنَّما ∗∗∗ أرابَ وإنْ عاتَبْتَهُ لانَ جانِبُهُ
وبَعْضُ فَرْقٍ بَيْنَ الرَّيْبِ، والشَّكِّ، بِأنَّ الرَّيْبَ شَكٌّ مَعَ تُهْمَةٍ، وقالَ الرّاغِبُ: الشَّكُّ وُقُوفُ النَّفْسِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ مُتَقابِلَيْنِ، بِحَيْثُ لا يَتَرَجَّحُ أحَدُهُما عَلى الآخَرِ بِأمارَةٍ، والمِرْيَةُ التَّرَدُّدُ في المُتَقابِلَيْنِ، وطَلَبُ الأمارَةِ مِن مَرى الضَّرْعَ أيْ مَسَحَهُ لِلدَّرِّ، والرَّيْبُ أنْ يَتَوَهَّمَ في الشَّيْءِ ثُمَّ يَنْكَشِفُ عَمّا تَوَهَّمَ فِيهِ، وقالَ الجَوْلِيُّ: يُقالُ الشَّكُّ لِما اسْتَوى فِيهِ الِاعْتِقادانِ، أوْ لَمْ يَسْتَوِيا، ولَكِنْ لَمْ يَنْتَهِ أحَدُهُما لِدَرَجَةِ الظُّهُورِ الَّذِي تَنْبَنِي عَلَيْهِ الأُمُورُ، والرَّيْبُ لِما لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ اليَقِينِ، وإنْ ظَهَرَ نَوْعَ ظُهُورٍ، ولِذا حَسُنَ هُنا: ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ لِلْإشارَةِ إلى أنَّهُ لا يَحْصُلُ فِيهِ رَيْبٌ فَضْلًا عَنْ شَكٍّ، ونَفى سُبْحانَهُ الرَّيْبَ فِيهِ مَعَ كَثْرَةِ المُرْتابِينَ - لا كَثَّرَهُمُ اللَّهُ تَعالى - عَلى مَعْنى أنَّهُ في عُلُوِّ الشَّأْنِ، وسُطُوعِ البُرْهانِ بِحَيْثُ لا يَرْتابُ العاقِلُ بَعْدَ النَّظَرِ فِي كَوْنِهِ وحْيًا مِنَ اللَّهِ تَعالى، لا أنْ لا يَرْتابَ فِيهِ حَتّى لا يَصِحَّ، ويَحْتاجَ إلى تَنْزِيلِ وُجُودِ الرَّيْبِ عَنِ البَعْضِ مَنزِلَةَ العَدَمِ لِوُجُودِ ما يُزِيلُهُ، وقِيلَ: إنَّهُ عَلى الحَذْفِ، كَأنَّهُ قالَ: لا سَبَبَ رَيْبٍ فِيهِ، لِأنَّ الأسْبابَ الَّتِي تُوجِبُهُ في الكَلامِ التَّلْبِيسُ والتَّعْقِيدُ والتَّناقُضُ والدَّعاوى العارِيَةُ عَنِ البُرْهانِ، وكُلُّ ذَلِكَ مُنْتَفٍ عَنْ كِتابِ اللَّهِ تَعالى، وقِيلَ: مَعْناهُ النَّهْيُ، وإنْ كانَ لَفْظُهُ خَبَرًا، أيْ لا تَرْتابُوا فِيهِ عَلى حَدِّ ﴿فَلا رَفَثَ ولا فُسُوقَ﴾ وقِيلَ: مَعْناهُ لا رَيْبَ فِيهِ لِلْمُتَّقِينَ، فالظَّرْفُ صِفَةٌ ولِلْمُتَّقِينَ خَبَرٌ، و﴿هُدًى﴾ حالٌ مِنَ الضَّمِيرِ المَجْرُورِ، أيْ لا رَيْبَ كائِنًا فِيهِ لِلْمُتَّقِينَ حالَ كَوْنِهِ هادِيًا، وهي حالٌ لازِمَةٌ فَيُفِيدُ انْتِفاءَ الرَّيْبِ في جَمِيعِ الأزْمِنَةِ والأحْوالِ، ويَكُونُ التَّقْيِيدُ كالدَّلِيلِ عَلى انْتِفاءِ الرَّيْبِ، و(لا) لِنَفْيِ اتِّصافِ الِاسْمِ بِالخَبَرِ، لا لِنَفْيِ قَيْدِ الِاسْمِ، فَلا تَتَوَجَّهُ إلَيْهِ لِيَخْتَلَّ المَعْنى، نَعَمْ هو قَوْلٌ قَلِيلُ الجَدْوى مَعَ أنَّ الغالِبَ في الظَّرْفِ الَّذِي بَعْدَ لا هَذِهِ كَوْنُهُ خَبَرًا، وإنَّما لَمْ يَقُلْ سُبْحانَهُ: لا فِيهِ رَيْبٌ، عَلى حَدِّ ﴿لا فِيها غَوْلٌ﴾ لِأنَّ التَّقْدِيمَ يُشْعِرُ بِما يُبْعِدُ عَنِ المُرادِ، وهو أنَّ كِتابًا غَيْرَهُ فِيهِ الرَّيْبُ، كَما قَصَدَ في الآيَةِ تَفْضِيلَ خَمْرِ الجَنَّةِ عَلى خُمُورِ الدُّنْيا بِأنَّها لا تَغْتالُ العُقُولَ كَما تَغْتالُها، فَلَيْسَ فِيها ما في غَيْرِها مِنَ العَيْبِ، قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وبَعْضُهم لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ: لَيْسَ في الدّارِ رَجُلٌ، ولَيْسَ رَجُلٌ في الدّارِ، حَتّى أنْكَرَ أبُو حَيّانَ إفادَةَ تَقْدِيمِ الخَبَرِ هُنا الحَصْرَ، وهو مِمّا لا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ، وقَرَأ سُلَيْمٌ أبُو الشَّعْثاءِ: (لا رَيْبُ فِيهِ) بِالرَّفْعِ، وهو لِكَوْنِهِ نَقِيضًا لِرَيْبٍ فِيهِ، وهو مُحْتَمَلٌ لِأنْ يَكُونَ إثْباتًا لِفَرْدٍ، ونَفْيُهُ يُفِيدُ انْتِفاءَهُ، فَلا يُوجِبُ الِاسْتِغْراقَ، كَما في القِراءَةِ المَشْهُورَةِ ولِهَذا جازَ: لا رَجُلَ في الدّارِ، بَلْ رَجُلانِ، دُونَ: لا رَجُلَ فِيها، بَلْ رَجُلانِ، فَلا لِعُمُومِ النَّفْيِ لا لِنَفْيِ العُمُومِ، والوَقْفُ عَلى (فِيهِ)، هو المَشْهُورُ، وعَلَيْهِ يَكُونُ الكِتابُ نَفْسُهُ هُدًى، وقَدْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ في التَّنْزِيلِ، وعَنْ نافِعٍ وعاصِمٍ الوَقْفُ عَلى ﴿لا رَيْبَ﴾، ولا رَيْبَ في حَذْفِ الخَبَرِ، وذَهَبَ الزَّجّاجُ إلى جَعْلِ ﴿لا رَيْبَ﴾ بِمَعْنى حَقًّا، فالوَقْفُ عَلَيْهِ تامٌّ إلّا أنَّهُ أيْضًا دُونَ الأوَّلِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ (فِيهِي) بِوَصْلِ الهاءِ ياءً في اللَّفْظِ، وكَذَلِكَ كُلُّ هاءِ كِنايَةٍ قَبْلَها ياءٌ ساكِنَةٌ، فَإنْ كانَ قَبْلَها ساكِنٌ غَيْرُ الياءِ وصَلَها بِالواوِ، ووافَقَهُ حَفْصٌ في ﴿فِيهِ مُهانًا﴾ ومُلاقِيهِ، وسَأُصْلِيهِ، والباقُونَ لا يُشْبَعُونَ، وإذا تَحَرَّكَ ما قَبْلَ الهاءِ أشْبَعُوهُ، وقَرَأ الزُّهْرِيُّ، وابْنُ جُنْدُبٍ بِضَمِّ الهاءِ مِنَ الكِناياتِ في جَمِيعِ القُرْآنِ عَلى الأصْلِ، والهُدى في الأصْلِ مَصْدَرُ هَدى، أوْ عِوَضٌ عَنِ المَصْدَرِ، وكُلٌّ في كَلامِ سِيبَوَيْهِ، ولَمْ يَجِئْ مِنَ المَصادِرِ بِهَذِهِ الزِّنَةِ إلّا قَلِيلٌ كالتُّقى والسُّرى والبُكى بِالقَصْرِ في لُغَةٍ، ولُقًى كَما قالَ الشّاطِبِيُّ وأنْشَدَ:
وقَدْ زَعَمُوا حِلْمًا لُقاكَ فَلَمْ أزِدْ ∗∗∗ بِحَمْدِ الَّذِي أعْطاكَ حِلْمًا ولا عَقْلًا
والمُرادُ مِنهُ هُنا اسْمُ الفاعِلَ بِأحَدِ الوُجُوهِ المَعْرُوفَةِ في أمْثالِهِ، وهو لَفْظٌ مُؤَنَّثٌ عِنْدَ ابْنِ عَطِيَّةَ، ومُذَكَّرٌ عِنْدَ اللِّحْيانِيِّ، وبَنُو أسَدٍ يُؤَنِّثُونَ كَما قالَ الفَرّاءُ، فَهو كالهِدايَةِ، وقَدْ تَقَدَّمَ مَعْناها، وفي الكَشّافِ هي الدِّلالَةُ المُوصِلَةُ إلى البُغْيَةِ، واسْتُدِلَّ عَلَيْهِ بِثَلاثَةِ وُجُوهٍ، الأوَّلُ وُقُوعُ الضَّلالِ في مُقابِلِهِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَعَلى هُدًى أوْ في ضَلالٍ﴾ والضَّلالُ عِبارَةٌ عَنِ الخَيْبَةِ، وعَدَمِ الوُصُولِ إلى البُغْيَةِ، فَلَوْ لَمْ يُعْتَبَرِ الوُصُولُ في مَفْهُومِ الهُدى لَمْ يَتَقابَلا لِجَوازِ الِاجْتِماعِ بَيْنَهُما، والثّانِي أنَّهُ يُقالُ: مَهْدِيٌّ في مَوْضِعِ المَدْحِ كَمُهْتَدٍ، ومَن حَصَلَ لَهُ الدِّلالَةُ مِن غَيْرِ الِاهْتِداءِ لا يُقالُ لَهُ ذَلِكَ، فَعُلِمَ أنَّ الإيصالَ مُعْتَبَرٌ في مَفْهُومِهِ، والثّالِثُ أنَّ اهْتَدى مُطاوِعُ هَدى، ولَنْ يَكُونَ المُطاوِعُ في خِلافِ مَعْنى أصْلِهِ، ألا تَرى إلى نَحْوِ كَسَرَهُ فانْكَسَرَ، وفِيهِ بَحْثٌ، أمّا أوَّلًا فَلِأنَّ المَذْكُورَ في مُقابَلَةِ الضَّلالَةِ هو الهُدى اللّازِمُ بِمَعْنى الِاهْتِداءِ مَجازًا أوِ اشْتِراكًا، وكَلامُنا في المُتَعَدِّي ومُقابِلُهُ الإضْلالُ، ولا اسْتِدْلالَ بِهِ، إذْ رُبَّما يُفَسَّرُ بِالدِّلالَةِ عَلى ما لا يُوَصِّلُ، ولا يَجْعَلُهُ ضالًّا، عَلى أنَّهُ لَوْ فُسِّرَتِ الهِدايَةُ بِمُطْلَقِ الدِّلالَةِ عَلى ما مِن شَأْنِهِ الإيصالُ أوْصَلَ، أمْ لا، وفُسِّرَ الضَّلالُ المُقابِلُ لَها تَقابُلَ الإيجابِ والسَّلْبِ بِعَدَمِ تِلْكَ الدِّلالَةِ المُطْلَقَةِ لَزِمَ مِنهُ عَدَمُ الوُصُولِ، لِأنَّ سَلْبَ الدِّلالَةِ المُطْلَقَةِ سَلْبٌ لِلْمُقَيَّدَةِ، إذْ سَلْبُ الأعَمِّ يَسْتَلْزِمُ سَلْبَ الأخَصِّ، فَلَيْسَ في هَذا التَّقابُلِ ما يُرَجِّحُ المُدَّعى، وأمّا ثانِيًا فَلِأنّا لا نُسَلِّمُ أنَّ الضَّلالَةَ عِبارَةٌ عَنِ الخَيْبَةِ إلَخْ، بَلْ هو العُدُولُ عَنِ الطَّرِيقِ المُوصِلِ إلى البُغْيَةِ، فَيَكُونُ الهُدى عِبارَةٌ عَنِ الدِّلالَةِ عَلى الطَّرِيقِ المُوَصِّلِ، نَعَمْ إنَّ عَدَمَ الوُصُولِ إلى البُغْيَةِ لازِمٌ لِلضَّلالَةِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ اللّازِمُ أعَمَّ، وأما ثالِثًا فَلِأنَّهُ لا يَلْزَمُ مِن عَدَمِ إطْلاقِ المَهْدِيِّ إلّا عَلى المُهْتَدِي أنْ يَكُونَ الوُصُولُ مُعْتَبَرًا في مَفْهُومِ الهُدى، لِجَوازِ غَلَبَةِ المُشْتَقِّ في فَرْدٍ مَفْهُومٌ المُشْتَقُّ مِنهُ، وأمّا رابِعًا فَلِأنّا لا نُسَلِّمُ أنَّ اهْتَدى مُطاوِعُ هَدى، بَلْ هو مِن قَبِيلِ أمَرَهُ فَأْتَمَرَ، مِن تَرَتُّبِ فِعْلٍ يُغايِرُ الأوَّلَ، فَإنَّ مَعْنى هَداهُ فاهْتَدى دَلَّهُ عَلى الطَّرِيقِ المُوَصِّلِ فَسَلَكَهُ، بِدَلِيلِ أنَّهُ يُقالُ: هَداهُ فَلَمْ يَهْتَدِ، عَلى أنَّ جَمْعًا يُعْتَدُّ بِهِمْ قالُوا: لا يَلْزَمُ مِن وُجُودِ الفِعْلِ وُجُودُ مُطاوِعِهِ مُطْلَقًا، فَفي المُخْتارِ: لا يَجِبُ أنْ يُوافِقَ المُطاوِعُ أصْلَهُ، ويَجِبُ في غَيْرِهِ، ويُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما نُرْسِلُ بِالآياتِ إلا تَخْوِيفًا﴾ مَعَ قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿ونُخَوِّفُهم فَما يَزِيدُهم إلا طُغْيانًا﴾ فَقَدْ وُجِدَ التَّخْوِيفُ بِدُونِ الخَوْفِ، ولا يُقالُ: كَسَرْتُهُ فَما انْكَسَرَ، والفَرْقُ بَيْنَهُما مُفَصَّلٌ في عَرُوسِ الأفْراحِ، وأمّا خامِسًا فَلِأنَّ ما ذَكَرَهُ مَعارَضٌ بِما فِيهِ الهِدايَةُ، ولَيْسَ فِيهِ وُصُولٌ إلى البُغْيَةِ، وقَدْ مَرَّ بَعْضُهُ، ولِهَذا اخْتَلَفُوا: هَلْ هي حَقِيقَةٌ في الدِّلالَةِ المُطْلَقَةِ مَجازٌ في غَيْرِها، أوْ بِالعَكْسِ، أوْ هي مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُما، أوْ مَوْضُوعَةٌ لِقَدْرٍ مُشْتَرَكٍ؟ وإلى كُلِّ ذَهَبَ طائِفَةٌ، قِيلَ: والمَذْكُورُ في كَلامِ الأشاعِرَةِ أنَّ المُخْتارَ عِنْدَهم ما ذُكِرَ في الكَشّافِ، وعِنْدَ المُعْتَزِلَةِ ما ذَكَرْناهُ، والمَشْهُورُ هو العَكْسُ، والتَّوْفِيقُ بِأنَّ كَلامَ الأشاعِرَةِ في المَعْنى الشَّرْعِيِّ، والمَشْهُورُ مَبْنِيٌّ عَلى المَعْنى اللُّغَوِيِّ، أوِ العُرْفِيِّ، يَخْدِشُهُ اخْتِيارُ صاحِبِ الكَشّافِ مَعَ تَصَلُّبِهِ في الِاعْتِزالِ ما اخْتارَهُ مَعَ أنَّ الظّاهِرَ في القُرْآنِ المَعْنى الشَّرْعِيُّ، فالأظْهَرُ لِلْمُوَفِّقِ عَكْسُ هَذا التَّوْفِيقِ، والحَقُّ عِنْدَ أهْلِ الحَقِّ أنَّ الهِدايَةَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ المَعْنَيَيْنِ المَذْكُورَيْنِ، وعَدَمِ الإهْلاكِ، وبِهِ يَنْدَفِعُ كَثِيرٌ مِنَ القالِ والقِيلِ، و(المُتَّقِينَ) جَمْعُ مُتَّقٍ اسْمُ فاعِلٍ مِن وقاهُ فاتَّقى، فَفاؤُهُ واوٌ لا تاءٌ، والوِقايَةُ لُغَةُ الصِّيانَةِ مُطْلَقًا، وشَرْعًا صِيانَةُ المَرْءِ نَفْسَهُ عَمّا يَضُرُّ في الآخِرَةِ، والمَراتِبُ مُتَعَدِّدَةٌ لِتَعَدُّدِ مَراتِبِ الضَّرَرِ، فَأُولاها التَّوَقِّي عَنِ الشِّرْكِ، والثّانِيَةُ عَنِ الكَبائِرِ، ومِنها الإصْرارُ عَلى الصَّغائِرِ، والثّالِثَةُ ما أُشِيرَ إلَيْهِ بِما رَواهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ ﷺ: «(لا يَبْلُغُ العَبْدُ أنْ يَكُونَ مِنَ المُتَّقِينَ حَتّى يَدَعَ ما لا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمّا بِهِ بَأْسٌ)،» وفي هَذِهِ المَرْتَبَةِ يُعْتَبَرُ تَرْكُ الصَّغائِرِ، ولِذا قِيلَ:
خَلِّ الذُّنُوبَ كَبِيرَها ∗∗∗ وصَغِيرَها فَهو التُّقى
واصْنَعْ كَماشٍ فَوْقَ أرْ ∗∗∗ ضِ الشَّوْكِ يَحْذَرُ ما يَرى
لا تَحْقِرَنَّ صَغِيرَةً ∗∗∗ إنَّ الجِبالَ مِنَ الحَصى
وفِي هَذِهِ المَرْتَبَةِ اخْتَلَفَتْ عِباراتُ الأكابِرِ فَقِيلَ: التَّقْوى أنْ لا يَراكَ اللَّهُ حَيْثُ نَهاكَ، ولا يَفْقِدَكَ حَيْثُ أمَرَكَ، وقِيلَ: التَّبَرِّي عَنِ الحَوْلِ والقُوَّةِ، وقِيلَ: التَّنَزُّهُ عَنْ كُلِّ ما يَشْغَلُ السِّرَّ عَنِ الحَقِّ، وفي هَذا المَيْدانِ تَراكَضَتْ أرْواحُ العاشِقِينَ، وتَفانَتْ أشْباحُ السّالِكِينَ حَتّى قالَ قائِلُهم:
ولَوْ خَطَرَتْ لِي في سِواكَ إرادَةٌ ∗∗∗ عَلى خاطِرِي سَهْوًا حَكَمْتُ بِرِدَّتِي
وهِدايَةُ الكِتابِ المُبِينِ شامِلَةٌ لِأرْبابِ هَذِهِ المَراتِبِ أجْمَعِينَ، فَإنْ أُرِيدَ بِكَوْنِهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ إرْشادُهُ إيّاهم إلى تَحْصِيلِ المَرْتَبَةِ الأُولى، فالمُرادُ بِهِمُ المُشارِفُونَ مَجازًا لِاسْتِحالَةِ تَحْصِيلِ الحاصِلِ، وإيثارِهِ عَلى العِبارَةِ المُعْرِبَةِ عَنْ ذَلِكَ لِلْإيجازِ، وتَصْدِيرُ السُّورَةِ الكَرِيمَةِ بِذِكْرِ أوْلِيائِهِ تَعالى وتَفْخِيمِ شَأْنِهِمْ، واعْتِبارِ المُشارَفَةِ بِالنَّظَرِ إلى زَمانِ نِسْبَةِ الهُدى، فَلا يُنافِي حُسْنَ التَّعْقِيبِ بِــ ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ﴾، لِأنَّ ذَلِكَ كَما قِيلَ بِالنَّظَرِ إلى زَمانِ إثْباتِ تِلْكَ النِّسْبَةِ، كَما يُقالُ: قُتِلَ قَتِيلًا، دُفِنَ في مَوْضِعِ كَذا، ورُبَّما جُعِلَ التَّقْدِيرُ: هُمُ الَّذِينَ في جَوابِ: مَنِ المُتَّقُونَ؟ وحَمْلُ الكُلِّ عَلى المُشارَفَةِ يَأْباهُ السَّوْقُ، وقَدْ يُقالُ المُتَّقِينَ مَجازٌ بِالمُشارَفَةِ، والصِّفَةُ تَرْشِيحٌ بِلا مُشارَفَةٍ، ولا تَجُوزُ، كَما هو المَعْهُودُ في أمْثالِهِ، أوْ نَقُولُ: هو عَلى حَدِّ نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ الشَّفِيعِ يَوْمَ المَحْشَرِ، فَلا إشْكالَ، وإنْ أُرِيدَ بِهِ إرْشادُهُ إلى تَحْصِيلِ إحْدى المَرْتَبَتَيْنِ الأخِيرَتَيْنِ، فَإنْ عَنى بِالمُتَّقِينَ أصْحابَ المَرْتَبَةِ الأُولى تَعَيَّنَتِ الحَقِيقَةُ، وإنْ عَنى بِهِمْ أصْحابَ إحْدى الطَّبَقَتَيْنِ الأخِيرَتَيْنِ تَعَيَّنَ المَجازُ، لِأنَّ الوُصُولَ إلَيْهِما إنَّما يَتَحَقَّقُ بِهِدايَتِهِ المُرَقِّيَّةِ، وكَذا الحالُ فِيما بَيْنَ المَرْتَبَةِ الثّانِيَةِ والثّالِثَةِ، فَإنْ أُرِيدَ بِالهُدى الإرْشادُ إلى تَحْصِيلِ المَرْتَبَةِ الثّالِثَةِ، فَإنْ عَنى بِالمُتَّقِينَ أصْحابَ المَرْتَبَةِ الثّانِيَةِ تَعَيَّنَتِ الحَقِيقَةُ، وإنْ عَنى بِهِمْ أصْحابَ المَرْتَبَةِ الثّالِثَةِ تَعَيَّنَ المَجازُ، ولَفْظُ الهِدايَةِ حَقِيقَةٌ في جَمِيعِ الصُّوَرِ، وأمّا إنْ أُرِيدَ بِكَوْنِهِ هُدًى لَهم تَثْبِيتُهم عَلى ما هم عَلَيْهِ، وإرْشادُهم إلى الزِّيادَةِ فِيهِ عَلى أنْ يَكُونَ مَفْهُومُها داخِلًا في المَعْنى المُسْتَعْمَلِ فِيهِ، فَهو مَجازٌ لا مَحالَةَ، ولَفْظُ المُتَّقِينَ حَقِيقَةٌ عَلى كُلِّ حالَةٍ، كَذا حَقَّقَهُ مَوْلانا مُفْتِي الدِّيارِ الرُّومِيَّةِ، ومِنهُ يُعْلَمُ انْدِفاعُ ما قِيلَ: إنَّ الهِدايَةَ إنْ فُسِّرَتْ بِالدِّلالَةِ المُوَصِّلَةِ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ دالًّا عَلى تَحْصِيلِ الحاصِلِ، كَأنَّهُ قِيلَ: دِلالَةٌ مُوَصِّلَةٌ إلى المَطْلُوبِ لِلْواصِلِينَ إلَيْهِ، وإنْ فُسِّرَتْ بِالدِّلالَةِ عَلى ما يُوَصِّلُ، كانَ هُناكَ مَحْذُورٌ آخَرُ، فَإنَّ المُهْتَدِيَ إلى مَقْصُودِهِ يَكُونُ دِلالَتُهُ عَلى ما يُوَصِّلُهُ إلَيْهِ لَغْوًا، ووَجْهُ الِانْدِفاعِ ظاهِرٌ، لَكِنْ حَقَّقَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ أنَّ الأظْهَرَ أنَّهُ لا حاجَةَ إلى التَّجَوُّزِ هُنا، لِأنَّهُ إذا قِيلَ: السِّلاحُ عِصْمَةٌ لِلْمُعْتَصِمِ، والمالُ غِنًى لِلْغَنِيِّ، عَلى مَعْنى سَبَبِ غِناهُ وعِصْمَتِهِ، لَمْ يَلْزَمْ أنْ يَكُونَ السِّلاحُ والمالُ سَبَبَيْ عِصْمَةٍ وغِنًى حادِثَيْنِ، غَيْرَ ما هُما فِيهِ، فَما نَحْنُ فِيهِ غَيْرُ مُحْتاجٍ لِلتَّأْوِيلِ، ولَيْسَ مِنَ المَجازِ في شَيْءٍ، إذِ المُتَّقِي مُهْتَدٍ بِهَذا الهُدى حَقِيقَةً، وقَدِ اخْتَلَفَ أهْلُ العَرَبِيَّةِ والأُصُولِ في الوَصْفِ المُشْتَقِّ، هَلْ هو حَقِيقَةٌ في الحالِ، أوِ الِاسْتِقْبالِ؟ وهَلِ المُرادُ زَمانُ النِّسْبَةِ أوِ التَّكَلُّمِ مِن غَيْرِ واسِطَةٍ بَيْنَهُما؟ والَّذِي عَلَيْهِ المُحَقِّقُونَ أنَّهُ زَمانُ النِّسْبَةِ، وقَدْ ذَهَبَ السُّبْكِيُّ والكِرْمانِيُّ إلى أنَّ «(مَن قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلْبُهُ)» حَقِيقَةٌ، وخَطَّأ مَن قالَ أنَّهُ مَجازٌ، ولا يُقالُ: إنَّهُ لا مُفادَ لِإثْباتِ القَتْلِ لِمَقْتُولٍ بِهِ، لِأنَّ قَصْدَ البَلِيغِ بِمَعُونَةِ القَرِينَةِ العَقْلِيَّةِ أنَّ القَتْلَ المُتَّصِفَ بِهِ صادِرٌ عَنْ هَذا القاتِلِ دُونَ غَيْرِهِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: لَمْ يُشارِكْهُ فِيهِ غَيْرُهُ، فَسَلَبُهُ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ، ومِن هُنا جُعِلَ المَعْنى فِيما نَحْنُ فِيهِ: لا هُدى لِلْمُتَّقِينَ إلّا بِكِتابِ اللَّهِ تَعالى المُتَلَأْلِئُ نُورُ هِدايَتِهِ، السّاطِعُ بُرْهانُ دِلالَتِهِ، وإذا عُلِّقَ حُكْمٌ عَلى اسْمِ الإشارَةِ المَوْصُوفِ نَحْوُ: عَصَرْتُ هَذا الخَلَّ مَثَلًا، فَهُناكَ تَعْلِيقانِ في الحَقِيقَةِ، تَعْلِيقُ الحُكْمِ السّابِقِ بِذاتِ المُشارِ إلَيْهِ، وتَعْلِيقُ الإشارَةِ، والمُعْتَبَرُ زَمانُ الإشارَةِ لا زَمانُ الحُكْمِ السّابِقِ، فَإذا صَحَّ إطْلاقُ الخَلِّ عَلى المُشارِ إلَيْهِ واتِّصافُهُ بِالخَلِّيَّةِ مَثَلًا في زَمانِ الإشارَةِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الحُكْمِ السّابِقِ كانَ حَقِيقَةً، وإلّا فَمَجازٌ، فافْهَمْ وتَدَبَّرْ.
ثُمَّ لا يَقْدَحُ في كَوْنِهِ هُدًى ما فِيهِ مِنَ المُجْمَلِ والمُتَشابِهِ، لِأنَّهُ لا يَسْتَلْزِمُ كَوْنُهُ هُدًى هِدايَتَهُ بِاعْتِبارِ كُلِّ جُزْءٍ مِنهُ، فَيَجُوزُ أنْ يُذْكَرَ فِيهِ ما فِيهِ ابْتِلاءٌ لِذَوِي الألْبابِ مِنَ الفُحُولِ بِما لا تَصِلُ إلَيْهِ الأفْهامُ والعُقُولُ، أوْ لِأنَّ ذَلِكَ لا يَنْفَكُّ عَنْ بَيانِ المُرادِ مِنهُ، كَما ذَهَبَ إلَيْهِ الشّافِعِيَّةُ، فَهو بَعْدَ التَّبْيِينِ هُدًى، وتَوَقُّفُ هِدايَتِهِ عَلى شَيْءٍ لا يَضُرُّ فِيها، كَما أنَّهُ عَلى رَأْيٍ مُتَوَقِّفٌ عَلى تَقَدُّمِ الإيمانِ بِاللَّهِ تَعالى، ورَسُولِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَقَدْ نَصَّ الإمامُ عَلى أنَّهُ كُلُّ ما يَتَوَقَّفُ صِحَّةُ كَوْنِ القُرْآنِ حُجَّةً عَلى صِحَّتِهِ لا يَكُونُ القُرْآنُ هُدًى فِيهِ، كَمَعْرِفَةِ ذاتِ اللَّهِ، وصِفاتِهِ، ومَعْرِفَةِ النُّبُوّاتِ، لِئَلّا يَلْزَمَ الدَّوْرُ إلّا أنْ يَكُونَ هُدًى في تَأْكِيدِ ما في العُقُولِ، والِاعْتِدادِ بِهِ، وبَعْضٌ صَحَّحَ أنَّ القُرْآنَ في نَفْسِهِ هُدًى في كُلِّ شَيْءٍ، حَتّى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعالى لِمَن تَأمَّلَ في أدِلَّتِهِ العَقْلِيَّةِ، وحُجَجِهِ اليَقِينِيَّةِ، كَما يُشْعِرُ بِهِ ظاهِرُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى لِلنّاسِ﴾ ويَكُونُ الِاقْتِصارُ عَلى المُتَّقِينَ هُنا بِناءً عَلى تَفْسِيرِنا الهِدايَةَ مَدْحًا لَهُمْ، لِيُبَيِّنَ سُبْحانَهُ أنَّهُمُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا، وانْتَفَعُوا بِهِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿إنَّما أنْتَ مُنْذِرُ مَن يَخْشاها﴾ مَعَ عُمُومِ إنْذارِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وأمّا غَيْرُهم فَلا، ﴿وإذا قَرَأْتَ القُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجابًا مَسْتُورًا﴾ ﴿ولا يَزِيدُ الظّالِمِينَ إلا خَسارًا﴾ وأمّا القَوْلُ بِأنَّ التَّقْدِيرَ: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، والكافِرِينَ، فَحُذِفَ لِدِلالَةِ المُتَّقِينَ عَلى حَدِّ ﴿سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ﴾ فَمِمّا لا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ، هَذا ولا يَخْفى ما في هَذِهِ الجُمَلِ والآياتِ مِنَ التَّناسُقِ فَـ ﴿الم﴾ أشارَتْ إلى ما أشارَتْ، و﴿ذَلِكَ الكِتابُ﴾ قَرَّرَتْ بَعْضَ إشارَتِها بِأنَّهُ الكِتابُ الكامِلُ الَّذِي لا يَحِقُّ غَيْرُهُ أنْ يُسَمّى كِتابًا في جِنْسِهِ، أيْ بابُ التَّحَدِّي والهِدايَةِ، و﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ كالتَّأْكِيدِ لِأحَدِ الرُّكْنَيْنِ، و﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ كالتَّأْكِيدِ لِلرُّكْنِ الآخَرِ.
وخُلاصَتُهُ هو الحَقِيقُ بِأنْ يُتَحَدّى بِهِ لِكَمالِ نَظْمِهِ في بابِ البَلاغَةِ، وكَمالِهِ في نَفْسِهِ، وفِيما هو المَقْصُودُ مِنهُ، وقِيلَ: بِالحَمْلِ عَلى الِاسْتِئْنافِ، كَأنَّهُ سُئِلَ ما بالُهُ صارَ مُعْجِزًا؟ فَأُجِيبَ بِأنَّهُ كامِلٌ بَلَغَ أقْصى الكَمالِ لَفْظًا ومَعْنًى، وهو مَعْنى ﴿ذَلِكَ الكِتابُ﴾ ثُمَّ سُئِلَ عَنْ مُقْتَضى الِاخْتِصاصِ بِكَوْنِهِ هو الكِتابُ الكامِلُ فَأُجِيبَ بِأنَّهُ لا يَحُومُ حَوْلَهُ رَيْبٌ، ثُمَّ لَمّا طُولِبَ بِالدَّلِيلِ عَلى ذَلِكَ اسْتَدَلَّ بِكَوْنِهِ ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ لِظُهُورِ اشْتِمالِهِ عَلى المَنافِعِ الدِّينِيَّةِ والدُّنْيَوِيَّةِ والمَصالِحِ المَعاشِيَّةِ والمَعادِيَّةِ، بِحَيْثُ لا يُنْكِرُهُ إلّا مَن كابَرَ نَفْسَهُ وعانَدَ عَقْلَهُ، وحِسَّهُ، وقَدْ يُقالُ: الإعْجازُ مُسْتَلْزِمٌ غايَةَ الكَمالِ، وغايَةُ كَمالِ الكَلامِ البَلِيغِ بِبُعْدِهِ مِنَ الرَّيْبِ والشُّبَهِ لِظُهُورِ حَقِيقَتِهِ، وذَلِكَ مُقْتَضٍ لِهِدايَتِهِ وإرْشادِهِ، فَإنْ نُظِرَ إلى اتِّحادِ المَعانِي بِحَسَبِ المَآلِ كانَ الثّانِي مُقَرِّرًا لِلْأوَّلِ، فَلِذا تُرِكَ العَطْفُ، وإنْ نُظِرَ إلى أنَّ الأوَّلَ مُقْتَضٍ لِما بَعْدَهُ لِلُزُومِهِ بَعْدَ التَّأمُّلِ الصّادِقِ، فالأوَّلُ لِاسْتِلْزامِهِ ما يَلِيهِ، وكَوْنُهُ في قُوَّتِهِ يَجْعَلُهُ مُنَزَّلًا مِنهُ مَنزِلَةَ بَدَلِ الِاشْتِمالِ لِما بَيْنَهُما مِنَ المُناسَبَةِ والمُلازَمَةِ، فَوِزانُهُ وِزانُ حُسْنِها، في أعْجَبَتْنِي الجارِيَةُ حُسْنُها، وتُرِكَ العَطْفُ حِينَئِذٍ لِشِدَّةِ الِاتِّصالِ بَيْنَ هَذِهِ الجُمَلِ، وفِيها أيْضًا مِنَ النُّكَتِ الرّائِقَةِ، والمَزايا الفائِقَةِ ما لا يَخْفى جَلالَةُ قَدْرِهِ، عَلى مَن مَرَّ ما ذَكَرْناهُ عَلى فِكْرِهِ.
القرآن – تدبّر وعمل — شركة الخبرات الذكية
﷽
﴿الۤمۤ (١) ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ (٢) ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ (٣) وَٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ وَمَاۤ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡـَٔاخِرَةِ هُمۡ یُوقِنُونَ (٤) أُو۟لَـٰۤىِٕكَ عَلَىٰ هُدࣰى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ (٥)﴾ [البقرة ١-٥]
* الوقفات التدبرية
١- ﴿الٓمٓ (١) ذَٰلِكَ ٱلْكِتَٰبُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾
إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بياناً لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، هذا مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها ... ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن، وبيان إعجازه وعظمته، وهذا معلوم بالاستقراء. [ابن كثير: ١/٣٦-٣٧]
السؤال: ما سبب ارتباط الحروف المقطعة بذكر عظمة القرآن وإعجازه؟
٢- ﴿ذَٰلِكَ ٱلْكِتَٰبُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾
لم يقل: هدى للمصلحة الفلانية، ولا للشيء الفلاني؛ لإرادة العموم، وأنه هدى لجميع مصالح الدارين؛ فهو مرشد للعباد في المسائل الأصولية والفروعية، ومُبَيِّن للحق من الباطل، والصحيح من الضعيف، ومبين لهم كيف يسلكون الطرق النافعة لهم في دنياهم وأُخراهم. [السعدي: ٤٠]
السؤال: كيف يستدل بهذه الآية على شمول هداية القرآن لمصالح الدارين؟
٣- ﴿ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ﴾
الإيمان بالغيب حظ القلب، وإقام الصلاة حظ البدن، ﴿ومما رزقناهم ينفقون﴾حظ المال، وهذا ظاهر . [القرطبي: ١/٢٧٤]
السؤال: جمعت الآية بين ثلاثة من مواضع التقوى، فما هي؟
٤- ﴿وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ﴾
لم يقل: يفعلون الصلاة، أو يأتون بالصلاة؛ لأنه لا يكفي فيها مجرد الإتيان بصورتها الظاهرة؛ فإقامة الصلاة: إقامتها ظاهراًً بإتمام أركانها وواجباتها وشروطها، وإقامتها باطناًً بإقامة روحها؛ وهو حضور القلب فيها، وتدبر ما يقوله ويفعله منها. [السعدي: ٤١]
السؤال: لماذا عُبِّر عن فعل الصلاة بالإقامة؟
٥- ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ﴾
وأتى بـ ﴿من﴾ الدالة على التبعيض؛ لينبههم أنه لم يرد منهم إلا جزءاً يسيراً من أموالهم، غير ضار لهم، ولا مثقل، بل ينتفعون هم بإنفاقه، وينتفع به إخوانهم ,وفي قوله: ﴿رزقناهم﴾ إشارة إلى أن هذه الأموال التي بين أيديكم، ليست حاصلة بقوتكم وملككم، وإنما هي رزق الله الذي خولكم، وأنعم به عليكم؛ فكما أنعم عليكم وفضلكم على كثير من عباده فاشكروه بإخراج بعض ما أنعم به عليكم. [السعدي: ٤١]
السؤال: لماذا جيء بـ﴿من﴾ الدالة على التبعيض؟
٦- ﴿ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ﴾
وجه ترتب الإنفاق على الإيمان بالغيب أن المدد غيب؛ لأن الإنسان لما كان لا يطلع على جميع رزقه كان رزقه غيبا، فاذا أيقن بالخلف جاد بالعطية، فمتى أمد بالأرزاق تمت خلافته، وعظم فيها سلطانه، وانفتح له باب إمداد برزق أعلى وأكمل من الأول. [البقاعي: ١/٣٠]
السؤال: ما وجه ترتب الإنفاق على الإيمان بالغيب؟
٧- ﴿وَبِٱلْءَاخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾
واليقين أعلى درجات العلم؛ وهو الذي لا يمكن أن يدخله شك بوجه. [ابن عطية: ١/٨٦]
السؤال: كلما عظم العلم بالآخرة عظم العمل لها, وضح ذلك من الآية.
* التوجيهات
١- من أسباب حصول الهداية بالقرآن تقوى الله تعالى، فقدم دائما مراد الله على هوى نفسك، ﴿ذَٰلِكَ ٱلْكِتَٰبُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾
٢- سعادتك بالفلاح، والفلاح لا يناله إلا من اتصف بهذه الصفات، ﴿ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ (٣) وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلْءَاخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُو۟لَٰٓئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُو۟لَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ﴾
٣- من أهم صفات المؤمنين: ثباتهم على إيمانهم في حال الغيب وحال الشهادة، ومراقبتهم لله على كل الأحوال، ﴿ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ﴾
* العمل بالآيات
١- مبنى التقوى على مخالفة شرع الله لهوى نفسك اختباراًً لإيمانك، فحدد أمراًً في حياتك ترى أنك تقدِّم فيه هوى نفسك على شرع الله سبحانه وتراجع عنه مستغفراً ربك، ﴿ذَٰلِكَ ٱلْكِتَٰبُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾
٢- حاسب نفسك في أمر الصلاة، وتفقد اليوم جوانب التقصير فيها فكمله، وأقمه على الوجه المطلوب شرعاً، ﴿ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ﴾
٣- اختبر إيمانك باليوم الآخر ويقينك به بالإنفاق اليوم من مال الله الذي آتاك، موقناً أن الله تعالى سيخلفه عليك في الدنيا والآخرة، ﴿ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ﴾
* معاني الكلمات
﴿الم﴾ هَذَا الْقُرْآنُ مُؤَلَّفٌ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ، وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ الإِتْيَانَ بِمِثْلِهِ.
﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ مَنْ جَعَلُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَذَابِ اللهِ وِقَايَةً بِفِعْلِ الأَوَامِرِ وَتَرْكِ النَّوَاهِي.
تفسير القرآن الكريم — ابن عثيمين (١٤٢١ هـ)
﷽
﴿الۤمۤ (١) ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ (٢) ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ (٣) وَٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ وَمَاۤ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡـَٔاخِرَةِ هُمۡ یُوقِنُونَ (٤) أُو۟لَـٰۤىِٕكَ عَلَىٰ هُدࣰى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ (٥) إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ سَوَاۤءٌ عَلَیۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ (٦) خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَعَلَىٰ سَمۡعِهِمۡۖ وَعَلَىٰۤ أَبۡصَـٰرِهِمۡ غِشَـٰوَةࣱۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِیمࣱ (٧) وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن یَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِینَ (٨) یُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَمَا یَخۡدَعُونَ إِلَّاۤ أَنفُسَهُمۡ وَمَا یَشۡعُرُونَ (٩)﴾ [البقرة ١-٩]
نبدأ أولًا في الفاتحة، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (١) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: ١ – ٣] إلى آخره.
* أولًا: سورة الفاتحة سميت بذلك لأنه افتُتح بها القرآن الكريم، وقد قيل: إنها أول سورة نزلت كاملة، وقيل: إن أول سورة نزلت كاملة (اقرأ)، وإن الله تعالى كمّلها، ثم جاءت السور، فالله أعلم.
هذه السورة قال العلماء: إنها تشتمل على مجمل معاني القرآن؛ في التوحيد، والأحكام، والجزاء، وطرق بني آدم، وغير ذلك، ولهذا سميت أم القرآن، والأمّ هو المرجع، المرجع للشيء يسمى أُمًّا، وهذه السورة لها مميزات تتميز بها عن غيرها؛ منها: أنها ركن في الصلوات التي هي أفضل أركان الإسلام بعد الشهادتين، فلا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب.
ومنها: أنها رقية، إذا قُرئ بها على المريض شفي بإذن الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال للذي قرأها على اللديغ قال له: « وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟»(١).
وقد ابتدع بعض الناس اليوم في هذه السورة بدعة وصاروا يختمون بها الدعاء ويبتدئون بها الخطب أو الأحوال، وهذا غلط، تجد مثلا إذا دعا ثم دعا ثم دعا قال بعد ذلك: الفاتحة، إيش الفاتحة؟ من أين جاء بها؟ أو بعض الناس يبتدئ بها في خطبه أو في أحواله، وهذا أيضا غلط؛ لأن العبادات مبناها على التوقيف والاتباع.
يقول الله عز وجل: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، ولا حاجة إلى الكلام عن البسملة من حيث المعنى ولا من حيث الإعراب؛ لأنها تكررت علينا كثيرًا، لكن الكلام: هل البسملة آية من الفاتحة أو لا؟
في هذا خلاف بين العلماء:
فمنهم من يقول: إنها آية من الفاتحة، ويقرأ بها جهرًا في الصلاة الجهرية، ويرى أنه لا تصح الصلاة إلا بقراءة البسملة لأنها من الفاتحة.
ومنهم من يقول: إنها ليست من الفاتحة، وهذا القول هو الحق، ودليل هذا: النص، وسياق السورة.
أما النص: فقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: « قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ؛ فَإِذَا قَالَ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ قَالَ: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ قَالَ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَإِذَا قَالَ: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ - إِلَى آخِرِهِ - قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ»(٢)، وهذا كالنص على أن البسملة ليست من الفاتحة.
أما من حيث السياق: فالفاتحة سبع آيات بالاتفاق، وإذا أردت أن توزع سبع الآيات على موضوع السورة وجدت أن نصفها هو قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، وهي الآية التي قال الله فيها: « قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ»؛ لأن ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ واحدة، ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ الثانية، ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ الثالثة، وكلها حق لله. ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ الرابعة، يعني وسط الآن، وهي قسمان: قسم منها حق لله، وقسم حق للعبد. ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ للعبد، ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ للعبد، ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ للعبد.
ثم من جهة السياق من حيث اللفظ: لو قلنا: إن البسملة آية لزم أن تكون الآية السابعة طويلة على قدر، كم؟ على قدر آيتين، لزم أن تكون طويلة على قدر آيتين، شوف ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾، كم من سطر عندكم؟ سطرين. ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ سطر عندي، ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ أقل من سطر، ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ كذلك، و ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ كذلك، فكيف يكون هناك تناسب مع أن بعض الآيات أقل من السطر وهذه سطران، فالصواب الذي لا شك فيه أن البسملة ليست منها، كما أنها - أي البسملة - ليست من بقية السور.
قال الله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الحمد) وصف المحمود بالكمال الذاتي والوصفي والفعلي، فهو كامل في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله، فهو وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم، ولا بد من هذا القيد؛ قال أهل العلم: لأن مجرد الوصف بالكمال بدون محبة ولا تعظيم لا يسمى حمدا، وإنما يسمى مدحا، ولهذا يقع من إنسان لا يحب الممدوح لكنه يريد أن ينال منه شيئا، تجد بعض الشعراء يقف أمام الخلفاء ثم يأتي لهم بأوصاف عظيمة، لا محبةً فيه ولكنْ محبةً في المال الذي يعطونه أو خوفًا منهم، لكن حمْدنا لربنا عز وجل محبة وتعظيم، فلذلك صار لا بد من القيد في الحمد أنه وصف المحمود بالكمال، إيش؟ مع المحبة والتعظيم.
وقوله: ﴿لِلَّهِ﴾ الله عز وجل، هذا اللفظ علم على ربنا عز وجل لا يسمى به غيره، وهو علم تتبعه الأعلام الأخرى، أي تتبعه الأسماء، ولهذا دائما يأتي متبوعا، إلا في مواضع قليلة مثل قوله تعالى: ﴿صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [إبراهيم ١، ٢] فإن هذه الكلمة تابعة لما قبلها، وهو قليل.
وقوله: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الرب هو ما اجتمع فيه ثلاثة أوصاف: الخلق، والملك، والتدبير، فهو الخالق عز وجل، وهو المدبر لجميع الأمور، وهو المالك لكل شيء.
و﴿الْعَالَمِينَ﴾ قال العلماء: كل من سوى الله فهو من العالَم، ووُصفوا بذلك لأنهم عَلَم على خالقهم سبحانه وتعالى.
﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ الرحمن صفة للفظ الجلالة، والرحيم صفة أخرى، والرحمن هو ذو الرحمة الواسعة، والرحيم هو ذو الرحمة الواصلة، فالرحمن وصْفُه، والرحيم فِعْله، ولو أنه جيء بالرحيم وحده وبالرحمن وحده لشمل الوصف والفعل، لكن إذا اقترنا فُسِّر الرحمن بالوصف، والرحيم بالفعل ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾. وفي ذكر ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ بعد ذكر الربوبية دليل على أن ربوبيته تبارك وتعالى مبنية على الرحمة، الرحمة للخلق، الرحمة الواسعة الواصلة.
﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة ٤] مالك: صفة لرب، ويوم الدين: هو يوم القيامة، والدين هنا بمعنى إيش؟ الجزاء، بمعنى الجزاء، يعني أنه سبحانه وتعالى مالك لذلك اليوم الذي يجازَى فيه الخلائق، فلا مالك غيره في ذلك اليوم.
فإن قال قائل: أليس مالك الدين والدنيا؟ فالجواب: بلى، لكن ظهور ملكوته وملكه وسلطانه إنما يكون في ذلك اليوم؛ لأن الله تعالى ينادي ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾ [غافر ١٦]؟ فلا يجيب أحد فيقول: ﴿لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [غافر ١٦]. في الدنيا يظهر الملوك، بل يظهر ملوك يعتقد شعوبهم أنه لا مالك إلا هم، فالشيوعيون مثلا لا يرون أن هناك ربا للسماوات والأرض، يرون أنها حياة، أرحام تدفع وأرض تبلع، وأن ربهم هو رئيسهم، طيب، إذن خُص ملكه بيوم الدين لأنه يظهر فيه ملكوته وملكه. وفي قراءة سبعية ﴿مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾(٣) والملك أخص من المالك؛ لأن الملك هو ذو السلطة المطلقة، ولا يسمى ملك إلا مَن تحته رعية، أما مالك فهو ليس له سلطة مطلقة، ثم هو لا يحتاج إلى أن يكون تحته رعية، ولهذا تجد الفقير الصعلوك يملك بقرته، يملك شاته، لكن في الجمع بين القراءتين فائدة عظيمة، وهو أن ملكه جل وعلا ملك حقيقي؛ لأن من الخلق من يكون ملكا ولكن ليس بمالك، يسمى ملكا اسما وليس له من التدبير شيء، ومن الناس من يكون مالكا ولا يكون ملكا، كعامة الناس، لكن الرب عز وجل مالك ملك.
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة ٥]، نعبد، ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ لو طلبنا إعراب ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ فبماذا تجيبون؟
* طالب: مفعول به مقدم.
* الشيخ: أنه مفعول به مقدم، ولماذا انفصل مع إمكان الوصل، يعني يمكن أن يقول: نعبدك، فنقول: لو وصلنا فات أمر مهم، ألا وهو الحصر، فهنا لما قدمناه للحصر لزم أن يُفصل، لو قلت: ك نعبد، ما يستقيم الكلام وليس بلغة عربية. ﴿إِيَّاكَ﴾ يعني لا سواك، ﴿نَعْبُدُ﴾ أي نتذلل له أكمل ذل، ولهذا تجد المؤمنين -جعلني الله وإياكم منهم- يضعون أشرف ما في أجسامهم في موطئ الأقدام ذلّا لله عز وجل، يسجد على التراب، تمتلئ جبهته من التراب، يسجد على موطئ الأقدام،كل هذا ذلّا لله، ولو أن إنسانا قال: أنا أعطيك الدنيا كلها واسجد لي، ما وافق المؤمن أبدا؛ لأن هذا الذل لله عز وجل، والعبادة تتضمن القيام بكل ما أمر الله به، وترْك كل ما نهى الله عنه؛ لأن من لم يكن كذلك فليس بعابد، لو لم يفعل الأمر، يعني لو لم يفعل المأمورَ به فهل يكون عابدا حقا؟ أبدا، ولو لم يترك المنهي عنه ما كان عبدا حقا، العبد الذي يوافق المعبود في مراده الشرعي، إذن فالعبادة تستلزم أن يقوم الإنسان بكل ما أُمر به، وأن يترك كل ما نُهي عنه، ولكن هل قيامك هذا يمكن أن يكون بغير معونة الله؟ لا، لا يمكن، ولهذا قال: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، يعني لا نستعين إلا إياك على العبادة، والله سبحانه وتعالى يجمع بين العبادة والاستعانة أو التوكل في مواطن عدة من القرآن الكريم؛ لأنه لا قيام بالعبادة على الوجه الأكمل إلا بمعونة الله، والتفويض إليه، والتوكل عليه.
﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة ٦] ﴿الصِّرَاطَ﴾ فيها قراءتان: بالسين(٤) وبالصاد الخالصة؛ ﴿السِّرَاطَ﴾ و﴿الصِّرَاطَ﴾، والمراد بالصراط هنا: الطريق، والمراد بالهداية: هداية الإرشاد وهداية التوفيق، فأنت بقولك: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ تسأل الله تعالى علما وعملا، ولهذا جاءت متعدية بنفسها إلى المفعول لا بحرف (إلى) الدال على الغاية، عرفتم؟ فيشمل الهداية إلى الطريق، وهذا بالعلم، والهداية في الطريق، وهذا بالعمل والتوفيق.
وقوله: ﴿الْمُسْتَقِيمَ﴾ الذي لا اعوجاج فيه، وهذا الصراط الذي لا اعوجاج فيه بيّن الله تعالى في هذه الآية قوله: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة ٧]، ففي هذه الآية بيّن الله عز وجل أصناف الناس أنها ثلاثة: الذين أنعم الله عليهم، والمغضوب عليهم، وإيش؟ والضالون، فمن هؤلاء؟ الذين أنعم الله عليهم هم الذين علموا الحق وعملوا به، والذين غضب الله عليهم هم الذين علموا الحق ولم يعملوا به، والضالون هم الذين عملوا بغير علم، جاهلون، يريدون الحق ويريدون العبادة لكنهم جاهلون تعبّدوا لله بغير علم، انظر كيف قدم المغضوب عليهم على الضالين لأن مخالفتهم لطريق الذين أنعم الله عليهم أشد؛ لأنهم خالفوا عن علم، والمخالف عن علم أشد كبرا واستكبارا وعقوبة من الذين خالفوا عن غير علم، وكلتا الطائفتين ضالة، وذلك لأنهم ليسوا على هدى من الله.
وفي قوله: ﴿أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ قراءتان كذلك (عليهم) ضم الهاء وكسرها أي ﴿صِرَاطَ الذَّيِنَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهُمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهُمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ قراءة سبعية(٥)، ولكن أكرر ما قلته سابقا أن القراءات التي ليست في المصحف لا ينبغي أن نقرأ بها عند العامة؛ لسببين بل لأسباب ثلاثة، السبب الأول: أن العامة إذا رأوا هذا القرآن العظيم الذي قد ملأ قلوبهم تعظيمُه، إذا رأوه مرة كذا ومرة كذا تنزل منزلته لا شك، تهبط عندهم؛ لأنهم عوام لا يفرقون، فينبغي أن يبقى القرآن الكريم محترما لا يُغيَّر فيه بشيء، ثانيا: أن القارئ يُتهم بأنه لا يعرف، العامي ما الذي يعلم؟! لو يأتي إنسان يقرأ عليه مثلا بقراءة غير التي في مصحفه لكان يهجم عليه وربما يضربه، ربما يطرده من المسجد، القرآن عند العامة محترم جدا، وهو عندنا والحمد لله، لكن إذا أتيت بما لا يعرف العامي فيا ويلك منه، وهذه مفسدة أن الناس يستهينونك ويقولون: هذا ما فيه خير، هذا ما يعرف ولا يقرأ، نعم، الآن لو تقرأ عند العامي ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهُمْ﴾ نعم، قال: هذا ما يعرف يضم اسم (...) يقول عليهم، ليش ما قال ﴿عَلَيْهِمْ﴾ بالكسرة.
المفسدة الثالثة: أنك إذا قرأت عند العوام وأحسن العامي بك الظن، وقال هذا: إنه لم يقرأ إلا عن علم، ثم حاول أن يقلدك مرة أخرى فقد يخطئ، ثم يقرأ القرآن لا على قراءة المصحف، ولا على قراءة التالي الذي قرأها، وهذه مفسدة، ولهذا قال علِيّ: «حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يُكذَّب الله ورسوله »(٦)؟
وقال ابن مسعود: إنك لم تحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة(٧)،« عمر بن الخطاب مع هشام بن الحكم ماذا فعل به حين قرأ في سورة الفرقان بقراءة لم يسمعها عمر؟ نعم جبذه وتلّه وخاصمه، وأنكر قراءته، حتى وصلا إلى النبي ﷺ وقال: « اقْرَأْ». فقرأ، فقال: « هَكَذَا أُنْزِلَتْ». قال لعمر: « اقْرَأْ». فقرأ، قال: « هَكَذَا أُنْزِلَتْ»(٨)؛ لأن القرآن في الأول نزل على سبعة أحرف، فإذا كان عمر رضي الله عنه فعل ما فعل بصحابي، فما بالك بعامي يسمعك تقرأ غير قراءتك، نعم؟ يا ويلك منه، والحمد لله، ما دام أن العلماء متفقون على أنه لا يجب أن يقرأ الإنسان بكل قراءة، وأنه لو اقتصر على واحدة من القراءات فلا بأس، هدأ الفتنة وأسبابها، والسورة فيها فوائد عظيمة، وقد شرحها ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين شرحا لا تجده في غيره من الكتب، شرحا عظيما. الحمد لله رب العالمين.
* من فوائد الآية الكريمة ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾: إثبات الحمد لله عز وجل الكامل، وإثبات استحقاقه واختصاصه بذلك، أما الكامل فمن صيغة (أل) ﴿الْحَمْدُ﴾، وأما الاختصاص والاستحقاق فمن اللام ﴿لِلَّهِ﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: تقديم وصف الله تعالى بالألوهية على وصفه بالربوبية، لم يقل: لرب العالمين، ولكنه قال: ﴿لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، وهذا إما لأن (الله) هو الاسم العلم الخاص به والذي تتبعه جميع الأسماء، وإما أن يقال: لأن الألوهية قدمها الله عز وجل على ذكر ربوبيته سبحانه وتعالى؛ لأن الذين جاءت إليهم الرسل ينكرون الألوهية فقط.
* ومن فوائدها: عموم ربوبية الله تعالى لجميع العالم؛ لقوله: ﴿الْعَالَمِينَ﴾ وسبق لنا في التفسير أن المراد بالعالَم مَن سوى الله عز وجل، كل المخلوقات النامي وغير النامي، والعاقل وغير العاقل.
﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ * من فوائد هذه الآية: إثبات هذين الاسمين الكريمين: الرحمن والرحيم، وإثبات ما تضمناه من الرحمة التي هي الوصف، والرحمة التي هي الفعل.
* ومن فوائدها: أن ربوبية الله عز وجل مبنية على الرحمة؛ لأنه لما قال: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ كأن سائلًا يسأل: ما نوع هذه الربوبية؟ هل هي ربوبية أخذ وانتقام، أو ربوبية رحمة وإنعام؟ قال: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾.
* ومن فوائد الآية التي بعدها ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ أو ﴿مَلِكِ﴾ : إثبات ملك الله عز وجل وملكوته ليوم الدين، وإنما خص ذلك لما ذكرناه في التفسير من أنه في ذلك اليوم تتلاشى جميع الملكيات والملوك أيضا.
* ومن فوائدها: إثبات البعث؛ لقوله: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾.
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ من فوائدها: إخلاص العبادة لله، في قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، ووجه الإخلاص تقديم المعمول.
* ومن فوائدها أيضا: إخلاص الاستعانة لله عز وجل؛ لقوله: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ حيث قدم المفعول.
فإن قال قائل: كيف يقال: إخلاص الاستعانة لله وقد جاء في قوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة ٢] إثبات المعونة من غير الله عز وجل؟
قلنا: الاستعانة نوعان: استعانة تفويض، بمعنى أنك تعتمد على الله عز وجل وتتبرأ من حولك وقوتك، وهذا خاص بالله عز وجل، واستعانة بمعنى المشاركة فيما تريد أن تقوم به، فهذه ليست عبادة، ولهذا قال الله تعالى: ﴿تَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾.
فإن قال قائل: وهل الاستعانة بالمخلوق جائزة في جميع الأحوال؟ قلنا: لا، الاستعانة بالمخلوق إنما تجوز حيث كان المستعان قادرا عليها، وأما إذا لم يكن قادرا فإنه لا يجوز أن تستعين به، فلو أن أحدا من الناس استعان بقبر فإن هذا حرام، بل هو شرك؛ لأن صاحب القبر لا يغني عن نفسه شيئا، فكيف ينفعك؟! ولو استعان بغائب في أمر لا يقدر عليه، مثل أن يعتقد أن الولي الذي في شرق الدنيا يعينه على مهمته في بلده، فهذا أيضا شرك شركا أكبر؛ لأنه لا يقدر على أن يعينك وهو هناك.
فإن قال قائل: وهل الاستعانة بالمخلوق جائزة؟ قلنا: الأولى أن لا تفعل، فالإنسان مأمور أن يعين أخاه، لكن الغير لا ينبغي أن يستعين؛ لأن الاستعانة بغيره من باب السؤال المذموم، لكن أنت إذا رأيت أخاك قد احتاج إلى معونة فأنت مأمور بأن تعينه، ولكن لو استعنته فإنه ليس حراما، ليس حراما عليك، إنما هو ترك للأولى، إلا إذا علمت أن استعانتك به مما يسره وينشرح له صدره، فهنا إذا استعنته تكون محسنا إليه، ولا يعد هذا من المسألة المذمومة، كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام« حين دخل بيته ووجد البرمة على النار فيها اللحم، فلما قُدِّم له الطعام قال: « أَلَمْ أَرَ الْبُرْمَةَ عَلَى النَّارِ؟»، قالوا: بلى يا رسول الله، لكن هذا لحم تُصُدِّق به على بريرة، فقال: « هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا مِنْهَا هَدِيَّةٌ»(٩)، أرأيتم بريرة في هذه الحال هل سيكون هذا الأمر شاقا عليها؟ أبدا، بل ستُسَر به وتفرح، فأنت مثلا إذا استعنت بأخيك في حاجة من الحوائج وأنت تعلم أنه يُسَر بهذا ويفرح فإن استعانتك به تكون إحسانا إليه، لكن لو استعنت بشخص يرى أن استعانتك به أثقل عليه من جبل أحد، هل تستعينه؟ لا؛ لأن هذا فيه إحراج عليه، وفيه إذلال لك أيضا.
ومن فوائد قوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ لجوء الإنسان إلى الله عز وجل بعد استعانته على العبادة أن يهديه الصراط المستقيم؛ لأنه لا بد في العبادة من إخلاص يدل عليه ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، ومن استعانة لتقوى على العبادة؛ لقوله: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، ومن اتباع للشريعة في قوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾، فصارت هذه الآيات الثلاث متضمنة للدين كله: عبادة، والثاني: استعانة، والثالث: اتباع؛ لأن الصراط المستقيم هو الشريعة التي جاءت بها الرسل، وبالنسبة لنا هي الشريعة التي جاء بها مَن؟ نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ويعني هذا أن نتبع الرسول عليه الصلاة والسلام.
* ومن فوائد الآية الكريمة: بلاغة القرآن، حيث حُذف حرف الجر من ﴿اهْدِنَا﴾، يعني لم يقل: اهدنا إلى، بل قال: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ﴾، والفائدة من ذلك لأجل أن يتضمن طلب الهداية التي هي دلالة العلم وهداية التوفيق؛ لأن الهداية تنقسم إلى قسمين: هداية علم وإرشاد، وهداية توفيق وعمل؛ فالأولى ليس فيها إلا مجرد الدلالة، والله سبحانه وتعالى قد هدى كل أحد، الثانية فيها التوفيق للهدى واتباع الشريعة، وهذه قد يُحرَمها بعض الناس، قال الله تعالى: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ [فصلت ٤١] ﴿هَدَيْنَاهُمْ﴾ يعنى بيّنّا لهم الحق ودللناهم عليه، ولكنهم لم يوفَّقوا له، فلهذا حُذفت (إلى) ليكون طلب الهداية في هذه الآية شاملا لهداية العلم والإرشاد وهداية التوفيق والاتباع.
* ومن فوائدها: أن الصراط ينقسم إلى قسمين: مستقيم، ومعوج، فما كان موافقا للحق فهو مستقيم، قال الله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ﴾ [الأنعام ١٥٣]، وما كان مخالفا له فهو معوج.
ثم قال: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ إلى آخره.
* من فوائد هذه الآية الكريمة: ذكر التفصيل بعد الإجمال ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ لأن التفصيل بعد الإجمال فيه فائدة؛ فإن النفس إذا جاءها الكلام مجملا تترقب وتتشوف لإيش؟ للتفصيل والبيان، فقال: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾، ثم فيه أيضا الفائدة الثانية، وهو بيان أن الذين أنعم الله عليهم على الصراط المستقيم.
* ومن فوائدها أيضا هي وما بعدها: انقسام الناس إلى ثلاثة أقسام: قسم أنعم الله عليهم، وقسم آخر غضب الله عليهم، وقسم ضالون؛ فالذين أنعم الله عليهم سبق أنهم الذين علموا الحق واتبعوه، وأما المغضوب عليهم فهم الذين علموا الحق وخالفوه، وأما الضالون فهم الذين جهلوا الحق. وأسباب الضلال والخروج عن الصراط المستقيم إما الجهل أو العناد، فمن الذي سبب خروجهم العناد؟ هم المغضوب عليهم وعلى رأسهم اليهود، والآخرون الذين سبب خروجهم الجهل هم كل من لا يعلم الحق، وعلى رأسهم النصارى، وهذا بالنسبة لحالهم قبل البعثة، أعني النصارى، أما بعد البعثة فقد علموا الحق، فصاروا هم واليهود سواء، كلهم مغضوب عليهم بل هم أشد؛ لأنهم يؤمنون بالنسخ، أعني النصارى، ولهذا يؤمنون بأن شريعة عيسى ناسخة لشريعة موسى، واليهود لا يؤمنون بذلك فهم على جادة باطلة، وأولئك تناقضوا فآمنوا بنسخ الشرائع في مَن؟ في عيسى بالنسبة لشريعة موسى، ولم يؤمنوا بنسخ الشرائع في شريعة محمد ﷺ بالنسبة لشريعة عيسى، فكانوا متناقضين، وكان طريقهم أخبث من طريق اليهود.
وعلى كل حال السورة هذه عظيمة، ولا يمكن لا لي ولا لغيري أن يحيط بمعانيها العظيمة، لكن هذا قطرة من بحر.
ثم قال تعالى بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة ١، ٢].
هذه تسمى سورة البقرة؛ لأنه ذُكرت فيها البقرة، واعلم أن التسمية تكون بأدنى ملابسة، ولذلك تجد بعض السور فيها كلام كثير عن موضوع معين ولا تسمى به السورة، وفيها كلام قليل تسمى به السورة، وتسمية السور منها ما هو توقيفي، ومنها ما هو اجتهادي، فقد سمّى النبي ﷺ، سمى سورة البقرة وآل عمران(١٠) وغيرهما كثيرا، وفي بعضها التسمية توقيفية.
أما البسملة فقد سبق الكلام عليها، وبيّنّنا أنها آية مستقلة يؤتى بها في ابتداء كل سورة سوى (براءة).
قال الله تعالى: ﴿الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ (الم) هذه الكلمة مكونة من ثلاثة أحرف هجائية: ألف، ولام، وميم، فما معنى هذه الحروف التي تركبت منها هذه الكلمة؟ كثير من المفسرين يقول: الله أعلم بما أراد، وهذا لا شك أنه تأدُّب مع الله عز وجل، وإمساك عما لا يعلمه الإنسان. ومنهم من جعلها رموزا لأشياء معينة إما من أسماء الله أو غيرها من الحوادث، وهذا لم يَبْن ما قاله على علم، ومنهم من قال: إنها حروف هجائية ليس لها معنى، ولا نعلم لها معنى حسب مقتضى اللغة العربية، والقرآن الكريم نزل باللغة العربية، وعلى هذا فمن حقنا أن نقول: ليس لها معنى، بناء على أن القرآن عربي وأن مثل هذه الحروف المركبة ليس لها معنى، وهذا قول مجاهد رحمه الله، وهو إمام التابعين في التفسير، وهو القول الذي تقتضيه الأدلة، ولكن يبقى النظر لماذا جاء الله بها وهي ليس لها معنى حسب اللغة العربية؟ نقول: إشارة إلى أن هذا القرآن الكريم الذي أعجزكم أيها العرب لم يأت بجديد من كلامكم، بل أتى بما ترتبون منه كلامكم وتبنونه، أنتم كلامكم حروف: ألف، باء، تاء، ثاء، إلى آخره، هل القرآن جاء بشيء زائد؟ لا، ومع ذلك عجزتم أن تركبوا مثله، أعجزكم.
وقد ذكر الله تعالى إعجاز القرآن على أربعة أوجه: إعجاز بكل القرآن، وإعجاز بعشر سور منه، وإعجاز بسورة منه، وإعجاز بمثله، كلها تكررت في القرآن، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾، وقال تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ﴾ [هود ١٣] وقال تعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ﴾، [الإسراء: ٨٨] وقال تعالى: ﴿فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِين﴾ [الطور ٣٤]، وقد تحدى الله عز وجل الخلق على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ولو بآية واحدة، كما تحداهم على أن يخلقوا أدنى مخلوقات الله، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَه﴾ [الحج ٧٣].
فالقول الراجح في هذه المسألة أعني الحروف الهجائية التي تُبتدأ بها بعض السور أنه ليس لها معنى، ولكن لها مغزى، وهو أن هذا القرآن الكريم لم يأت بجديد في الحروف التي جاء بها، بل هو جاء بالحروف التي تركّبون منها كلامكم ومع ذلك أعجزكم، ولهذا تجد السور المبدوءة بهذه الحروف الهجائية يأتي من بعدها ذكر القرآن أو شيء لا يكون إلا بوحي، فمثلا: ﴿الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ جاء بعدها ذكر القرآن، ﴿الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾ [الروم ١ - ٣] لم يأت فيها ذكر القرآن، ولكن جاء بعدها ما لا يمكن إلا بوحي.
﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ يجوز أن نجعل (الكتاب) خبر (ذا)، ويجوز أن نجعلها نعتا أو عطف بيان، فإن جعلناها خبر (ذا) صار قوله: (لا ريب فيه) جملة مستأنفة، وإن جعلناه بدلا أو عطف بيان صارت (لا ريب فيه) إيش؟ خبر اسم الإشارة، والكتاب المشار إليه هو القرآن، وسمي كتابًا لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ، ومكتوب في الصحف التي بأيدي الملائكة، ﴿كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ﴾ [عبس ١١ - ١٥]، ومكتوب في المصاحف التي بين أيدينا.
﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ (لا ريب)، ما معنى الريب؟ الشك، هكذا فسره أكثر العلماء، أن الريب هو الشك، لكن شيخ الإسلام رحمه الله(١١) له رأي في مثل هذه الألفاظ المترادفة؛ يقول: لا يوجد في اللغة العربية كلمة مرادفة لأخرى من كل وجه، لا بد أن يكون بينهما فرق، فالريب هنا ليس مطابقا للشك في إزائه من كل وجه؛ لأن الريب، يقول: شك مع قلق وارتياب، فهو إذن أخص من الشك، لكن لا مانع أن نفسر الكلمة بما هو قريب منها، لا سيما إذا كان المخاطَب لا يتصور الفرق.
وقوله: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ (لا) نافية للجنس، فيشمل أدنى ريب، يعني ما فيه أدنى ريب.
وقوله: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ الهدى بمعنى الدلالة، القرآن نفسه لا يهدي هداية توفيق، لكنه يهدي هداية دلالة؛ ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾. في آية أخرى ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاس﴾ [البقرة ١٨٥] فأي فرق بين هذا وهذا؟ نقول: أما كونه هدى للناس فهذا هو الأصل، أن القرآن يمكن أن يهتدي به كل أحد، وأما إضافة الهدى إلى المتقين فلأن المتقين هم الذين انتفعوا به فصار هدى لهم، ومَن المتقون؟ الذين قاموا بأوامر الله وتركوا نواهي الله.
في هذه الآية الكريمة بيان أن كلام الله عز وجل حروف، خلافا لمن قال: إن كلامه هو المعنى القائم بالنفس، ونحن نشرح ذلك: أصول الخلاف في هذا القرآن الكريم أو في كلام الله عمومًا:
أولا: من قال: إن كلام الله هو المعنى القائم بنفسه، وما يُنقل من كلامه أو يسمع فهو عبارة عنه وليس هو كلام الله، بل عبارة عنه، وهو مخلوق.
والثاني قال: إن الله تعالى لا يتكلم، وكلامه مخلوق كسائر مخلوقاته.
ومنهم من قال: إن الله يتكلم بحرف وصوت، وليس كلامه هو المعنى فقط، بل كلامه اللفظ والمعنى. وهذا الذي قبله مذهب المعتزلة والجهمية، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، ومذهبهم هو الحق؛ لأن الأدلة تدل عليه، قال الله تعالى في موسى: ﴿وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا﴾ [مريم ٥٢] فلما كان بعيدا قال: ﴿نَادَيْنَاهُ﴾؛ لأن النداء يكون للبعيد، ولما قرب يعني لما قربه الله قال: ﴿قَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا﴾، أي: بصوت ليس نداء، وفي الحديث الصحيح:« أَنَّ اللهَ يُنَادِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ: يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، فَيُنَادِي بِصَوْتٍ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إِلَى النَّارِ(١٢) »، وهذا أمر لا يشك فيه إنسان، ولولا أن الخلاف وقع فيه ما كنا نتكلم فيه، لكن وقع ولا بد من بيان الحق، المعتزلة يقولون: القرآن مخلوق من المخلوقات، أصوات يخلقها الله وحروف تكتب فهو كسائر المخلوقات، ولا شك أننا إذا قلنا بهذا أبطلنا الأمر والنهي؛ لأن الأمر يكون صوتا سُمع على هذا الوجه، قولوا: صوت سُمع على هذا الوجه، يعني كأنه صدى، أرأيت الآن الشمس والقمر والجبال مخلوقة على هذا الوجه، هم يقولون: هذا صوت خُلق على هذا الوجه، كصوت الرعد.
الأشعرية يقولون: الكلام معنى قائم بنفسه، لكن خلق أصواتا، فإذا قلنا: إن الأوامر والنواهي مخلوقة، بطل الأمر والنهي؛ لأن (قل) خلق الله كلمة على صورة (قل) ولا تفيد أمرا، ﴿لَا تَقْرَبُوا الزِّنَا﴾ [الإسراء ٣٢] خلق الله تعالى حروفا على هذا الشكل فلا تفيد نهيا، ولهذا صدق من قال: إن القائلين بخلق القرآن سواء جعلوه عبارة عن كلام الله أو هو كلام الله، إنهم أبطلوا الأمر والنهي والشرائع كلها.
* * *
* الطالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم ﴿الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ﴾ [البقرة ١ - ٧]
* الشيخ: ﴿وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ قف.
* الطالب: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [البقرة ٧]
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال ربنا عز وجل: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿الم﴾، البسملة سبق لنا الكلام عليها فلا حاجة للإعادة، أما قوله: ﴿الم﴾ فإنها حروف هجائية، وسبق الكلام عليها إذن، ولا حاجة للمناقشة ولا للإعادة.
﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ قوله: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ إن جعلنا ﴿الْكِتَابُ﴾ صفة لـ(ذا) صار ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ خبر. وإن جعلنا ﴿الْكِتَابُ﴾ خبرا؛ ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾، صارت الجملة استئنافية محلها النصب على الحال، يعني حال كونه منتفيا عنه الريبة. وقوله: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾، أي: لا شك، وتفسير الريب بالشك إنما هو للتقريب، ونفي الشك هنا الشك في ثبوته، يعني لا شك في ثبوته، وأنه من عند الله.
ثانيا: لا شك فيما تضمنه من الأخبار، فكل خبر في القرآن الكريم فإنه لا شك فيه عند كل مؤمن، بل هو حق ثابت. وقوله: ﴿فِيهِ﴾ قيل: إنها خبر (لا) النافية، وقيل: إنه خبر مقدم لقوله: ﴿هُدًى﴾، ولكن الأولى أن يكون خبرا لـ(لا) النافية. وقوله: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ تكون حالا من الكتاب يعني حال كونه ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾، وهو هدى للمتقين من الناحيتين: العلمية والعملية، أما العلمية فهي هداية الدلالة، فإن مصدر العلم هو هذا القرآن الكريم، هو الذي يهديك إلى الحق ويدلك عليه، ويهديك إلى الباطل ويبينه لك ويحذرك منه، أما الثاني فهو هداية العمل، فإن المتقين هم الذين اهتدوا به عملا.
وقوله: ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ اسم فاعل، والفعل منه (اتقى)، ومعنى اتقى: اتخذ وقاية من عذاب الله، وهذا لا يكون إلا بفعل الأوامر واجتناب النواهي، وعلى هذا فأشمل الحدود في التقوى أنها اتخاذ وقاية من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه، فهي فعل الأوامر واجتناب النواهي.
واعلم أن التقوى تُقرن تارة بالبر، كقوله: ﴿تَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة ٢]، وتارة تُقرن بالإيمان، كما في هذه الآية: ﴿لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾، وتارة تُذكر وحدها، فإن ذُكرت وحدها شملت الدين كله؛ لأن الدين كله وقاية من عذاب الله، وإن اقترنت بالبر صار البر فعل الأوامر، والتقوى ترك النواهي، فهي تفسَّر في كل سياق بحسبه.
ثم قال: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾، هذه من صفات المتقين أنهم يؤمنون بالغيب، أي يقرّون به ويعترفون به، والمراد بالغيب هنا ما غاب عن الناس مما أخبر الله به ورسوله، سواء كان ذلك فيما يتعلق بصفات الله، أو فيما يتعلق بعباد الله فيما مضى، أو فيما يتعلق بعباد الله في المستقبل، يؤمنون به، فيؤمنون بالله عز وجل بأسمائه وصفاته، بألوهيته، ربوبيته، يؤمنون كذلك بما أخبر الله به من الأمم السابقين، يؤمنون بما أخبر الله به من المستقبل من علم الآخرة؛ لأن كل هذا داخل في قوله: ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾. ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾، نعم هل يدخل في الإيمان بالغيب الإيمان بالملائكة؟ نعم؛ لأنهم عالم غيببي.
﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾، أي: يأتون بها قائمة لا اعوجاج فيها، وذلك بالقيام بواجباتها واجتناب محظوراتها، وقوله: ﴿الصَّلَاةَ﴾ يشمل صلاة الفريضة والنافلة؛ لأنها هنا اسم جنس يشمل كل الصلاة.
﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُون﴾ (مما رزقناهم) جار ومجرور متعلق بـ(ينفقون)، المعنى: مما أعطيناهم ينفقون، وأول ما يدخل في ذلك الزكاة، إنفاق الزكاة؛ فإنهم يقومون بها، وعلى هذا تكون الآية من جنس الآيات الأخرى التي فيها ﴿يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ [المائدة ٥٥].
﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ ﴿أُولَئِكَ﴾ المشار إليهم المتقون الذين اهتدوا بالقرآن. ﴿عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾، ﴿عَلَى هُدًى﴾ أي: على طريق مستقيم من الله عز وجل، هداهم الله تعالى علما وهداهم الله عملا.
﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾، هذا أيضا من صفاتهم.
﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ الآية هنا معطوفة على ما سبق عطفَ صفات لا ذوات، والأصل في المعطوفات أن تكون ذواتًا، لكن هنا العطف عطف صفات؛ لأن الذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك هم الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة، وعطف الصفات بعضها على بعض أمر لا يُستغرب لا في القرآن ولا في لغة العرب، قال الله تعالى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (٤) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى﴾ [الأعلى ١ - ٥]، فهذا عطف صفات بعضها على بعض.
﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ وهو القرآن، وربما نقول: إنه أشمل من القرآن؛ لقوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة﴾ [النساء ١١٣] فهو القرآن والسنة، ﴿وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ من الكتب كالتوراة والإنجيل.
﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ قوله: ﴿بِالْآخِرَةِ﴾ جار ومجرور متعلق بـ﴿يُوقِنُونَ﴾، وأتى بكلمة ﴿هُمْ﴾ للتوكيد، وإلا لو حُذفت وقيل: وبالآخرة يوقنون، استقام الكلام، لكن من أجل التوكيد أُتي بالضمير (هم)، وقوله: ﴿يُوقِنُونَ﴾، أي: يؤمنون إيمانا لا شك فيه ولا يتطرق إليه الاحتمال؛ لأن اليقين هو العلم القطعي، هذه من صفاتهم.
﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ ﴿أُولَئِكَ﴾، المشار إليه المتقون الذين يؤمنون بما سبق، ﴿عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِم﴾ أي: على صراط من الله عز وجل، وقال: ﴿مِنْ رَبِّهِم﴾؛ لإفادة أن منة الله عليهم بهذا منة خاصة، فهي ربوبية خاصة لهم ليست الربوبية العامة.
﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، كرر ﴿أُولَئِكَ﴾؛ للتنويه بفضلهم وعلو مرتبتهم، وقوله: ﴿هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ يقول العلماء إن (هم) هنا ضمير فصل، وهو ضمير لا محل له من الإعراب؛ لأنه إنما أُتِي به للتوكيد، قالوا: وفوائده ثلاثة: الفائدة الأولى: التوكيد، والثانية: الحصر الذي هو التخصيص، الثالثة: إفادة أن ما بعده خبر وليس صفة، ولهذا سمي ضمير فصل، يعني أن الفلاح محصور فيهم، والفلاح هو الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب.
نرجع إلى هذه الآيات نجد أن الله سبحانه وتعالى ذكر فيها ما يدل على عدة فوائد، أولا: بيان أن هذا القرآن الكريم هو من الحروف التي يتكلم بها العرب؛ لقوله: ﴿الم﴾، كما بينّا ذلك واضحا في التفسير.
* ومن فوائد هذه الآيات: علو مرتبة القرآن؛ لقوله: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾، فأشار إليه إشارة البعيد مع قربه، فإنه بين أيدينا إشارة إلى علو مرتبته، وهو واللهِ أعلى مراتب القول، إن خير الحديث كتاب الله، كما كان الرسول ﷺ يعلنه في كل جمعة يقول على المنبر: « إِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ»(١٣).
* ومن فوائد هذه الآيات: أنه لا يجوز لأحد أن يرتاب في هذا القرآن، وأن القرآن ليس محلا للريبة، المعنى الأول لا يجوز لأحد أن يرتاب في هذا القرآن على تقدير أن النفي هنا بمعنى؟
* طالب: النهي.
* الشيخ: النهي، والثاني: أن هذا القرآن ليس محلا للريبة، على تقدير أن (لا) نافية، وقد بيننا لكم في التفسير أن قوله: ﴿لَا رَيْبَ فِيه﴾ فيها قولان للعلماء، القول الأول: أن النفي هنا بمعنى النهي، وأن المعنى: لا ترتابوا فيه. والقول الثاني: أن النفي هنا على بابه، والمعنى أن القرآن لا ريب فيه ولا إشكال فيه، واضح يا جماعة؟ إذن من الفوائد تحريم الارتياب في القرآن وبيان أنه ليس محلا للريبة.
* ومن فوائد هذه الآيات: أن القرآن هدى للمتقين، وهو واضح في الآية ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾، ويترتب على هذه الفائدة أنك إذا رأيت الله قد منّ عليك بفهم كتابه والعمل به، فاعلم أنك ممن؟ ممن يا جماعة؟ من المتقين؛ لأن الله قال: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾، فإذا رأيت من نفسك أن الله من عليك بالعلم والعمل بكتابه فأبشر فإنك من المتقين.
ويتفرع أيضا على هذا فائدة أخرى: إذا رأيت الغفلة وعدم الانتفاع بالقرآن فاحذر؛ فإن هذا يدل على نقص تقواك؛ لأنه لو كانت تقواك كاملة لكان هذا القرآن هدى لك، ويتفرع على هذا أيضا: الحث على التقوى، وأنها سبب للاهتداء بالقرآن، وأنك كلما اتقيت الله ازددت انتفاعا بالقرآن واهتداء به.
* ومن فوائد الآيات: فضيلة الإيمان بالغيب، وإن شئت فقل: إن الإيمان حقيقة هو الإيمان بالغيب؛ لقوله: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾؛ لأن الإيمان بالشهادة ما هو إيمان، الإيمان بالشهادة المحسوسة ليس إيمانا، أي نعم، والدليل: أن فرعون كان ينكر رب العالمين، ويقول لموسى: ما رب العالمين؟ ولما أدركه الغرق قال: ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ﴾ [يونس ٩٠]، وفي هذا من الذل ما فيه، كان بالأول يقتل بني إسرائيل إذا لم يوافقوه، والآن صار تبعا لهم، ما قال: آمنت بالله أو برب العالمين، آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل، فأتى باسم الموصول الدال على التفخيم والتعظيم، ثم بـ ﴿الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ﴾؛ ليقول: أنا تابع لهم مؤمن بما يؤمنون به، وهذا غاية ما يكون من الذل، انتبهوا لهذه النقطة.
طيب، هل هذا الإيمان الذي جرى من فرعون في تلك الساعة هل هو إيمان نافع؟ لا، ولهذا قيل له: ﴿آلْآنَ﴾؟ ما فيه فائدة، ﴿آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [يونس ٩١]، وهذا حق.
الإيمان بالشيء الشاهد؛ تشوف هذا الباب تقول: هذا باب، أومن بأن هذا باب؟ نعم؟ هذا إيمان؟
* الطلبة: لا.
* الشيخ: لو قلت: أنا أومن بأن حولي رجالا يطلبون العلم، هذا إيمان؟ هو إيمان؟
* الطلبة: ليس إيمانًا.
* الشيخ: أما حولي رجالا، صحيح ليس إيمانًا؛ لأنه مشاهد، أما يطلبون العلم، فهو إيمان؛ لأنه مبني على ظني فيما يريدون بطلب العلم، وهل هم حريصون أو يحضرون بالأبدان دون القلوب، أو ما أشبه ذلك، على كل حال اجعلوها إن شاء الله إيمانا، لا تجعلوها إيمانا بالغيب، اجعلوها إيمانا بالمحسوس.
من فوائد هذه الآيات الكريمة: فضيلة الصلاة، وأنها أعلى أنواع الأعمال البدنية، ولهذا تأتى دائما بعد الإيمان؛ لقوله: ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾.
* ومن فوائدها: الحث على إقامة الصلاة، وأن الإنسان يأتي بها كاملة على الوجه الذي يرضي الرب عز وجل الذي فرضها على عباده، أما أن يصلي صلاة لا روح فيها، أو صلاة لا تجزئ رسميا أو ما أشبه ذلك، فهذا ليس بمقيم للصلاة، أفهمتم؟ يعني ربما يجيء إنسان يصلي صلاة من أتقن ما يكون ظاهريا، فهذا باعتبار الرسم أقامها، قائم يقوم بخشوع في الرأس، في الركوع يطمئن، وفي السجود يطمئن، لكن قلبه في وادٍ، وجسمه في وادٍ، هل أقامها؟ لا، ما أقامها، هي قشر، قشر منتفخ لكن تطلع ما فيه لب؛ لعدم الخشوع، ولهذا تجد الناس كثيرا منهم يخرج من الصلاة لا يحس بنفسه أنه كره المنكر ولا كره الفحشاء، مع أن الله يقول: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت ٤٥]، لكن لا يحس بذلك؛ لأنها قشور صلاة، نسأل الله أن يعيننا وإياكم على الخشوع في الصلاة؛ لأنه الآن أشد ما نجاهد عليه هو هذا، يعني قضية الرسم بأن الإنسان يأتي بالصلاة باطمئنان ظاهري هذا شيء سهل، لكن الكلام على اللب وهو الخشوع هذا أمر صعب، لكن حاول مرة بعد أخرى، كلما جذب الشيطان قلبك رده، وثِق أنه من حين ما تجذبه إلى الصلاة ترده إلى الصلاة سوف يرده، سوف يجد هناك تجاذب، لكن استمر، وإن شاء الله في النهاية يزول، طيب من إقامة الصلاة الطمأنينة فيها التي قد افتقدها بعض الناس، ولا سيما في الركنين ما بين الركوع والسجود، وما بين السجودين، هذان الركنان مظلومان عند بعض الناس، تجده يقول: سمع الله لمن حمده، الله أكبر، إيش قلت؟ اطمأن؟ ما اطمأن، هذا لا صلاة له، لو يصلي إلى يوم الدين ما فيه صلاة؛ لأن «الرسول قال للرجل: « ثُمَّ ارْفَعْ - يعني من الركوع- حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا»(١٤)، وفي لفظ « حَتَّى تَطْمَئِنَّ قَائِمًا»(١٥)، لا بد من الطمأنينة، وعلى كل حال لا حاجة إلى أن نأتي على الصلاة بجميع ما يُخل فيها بعض الناس؛ لأنها معروفة.
من فوائد هذه الآيات الكريمة: فضيلة الإنفاق في سبيل الله، فضيلة إنفاق المال؛ لقوله: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾.
* ومن فوائدها: أن صدقة الغاصب باطلة، من أين تؤخذ؟ ﴿مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾؛ لأن الغاصب لا يملك المال الذي تصدق به فلا تُقبل صدقته.
* ومن فوائدها: الإشارة إلى ذم البخل؛ لقوله: ﴿مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾، هل أنت حصّلت المال بكسبك؟ لا، الذي أعطاك المال هو الله، ﴿مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾ ولم يقل: مما كسبوا، قال: ﴿مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾، وحتى ما كسبه الإنسان هو بتيسير الله، وكم من إنسان ضرب أبواب الرزق من كل جانب ولكن لم يوفق، إذن من فوائد هذه الآية الكريمة: فضيلة الإنفاق، لكن هنا أطلق بل هنا أجمل المنفَق فيه؛ قال: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ يعني بيّن المنفَق منه ولم يبيّن المنفَق فيه، نقول: نعم، لكنها بُيّنت في آيات كثيرة، ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ﴾ [البقرة ٢١٥] الجواب: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾، أي شيء ينفقون؟ ﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ﴾، كأنه قال: اسألوا عن ماذا تنفقون؟ نعم، اسألوا فيم تنفقون؟ ﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ﴾، ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾، عن إيش؟ قولوا يا جماعة؟
* الطلبة: (...)
* الشيخ: وإيش ينفقون؟ ماذا ينفقون، فقال الله عز وجل: ﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ﴾، فبيّن ما ينفَق فيه؛ لأنه هو المهم، كثير من الناس ربما يخرج نصف ماله لكن في سبيل الطاغوت، والشيء النافع في سبيل الله، أي فيما يرضي الله عز وجل، لكن قد يقال: إن قوله: ﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ﴾، قد يقول قائل: فيه إشارة إلى المنفَق منه، وهو أن يكون الإنفاق خيرا، على كل حال الآية هنا أجمل الله فيها الإنفاق: ﴿مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾، فأجمل، فيقال: إن هذا المجمل مبين في نصوص أخرى من القرآن والسنة.
* * *
* الطالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٧) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ [البقرة ٦ - ١٠]
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ﴾، قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُون﴾، هذه عطف على ما سبق في قوله: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾، يعني ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ﴾، وقد سبق أن قلنا: إنه يجوز عطف الصفات بعضها على بعض كما في قوله تعالى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى﴾ [الأعلى ١ - ٤]، مع أن الأصل في الصفات أن لا تكون معطوفة.
* من فوائد الآية: الثناء على الذين يؤمنون بما أنزل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وما أنزل من قبله، وأن هذا من خصال المتقين؛ لقوله: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾.
ومن فوائد الآية أيضا: الثناء على الموقنين بالآخرة، وقد سبق في التفسير أنه ليس المراد بالإيقان بالآخرة أن تؤمن بأن هناك يوما يُبعث الناس فيه، بل تؤمن بكل ما جاء في الكتاب والسنة مما يقع في ذلك اليوم، بل إن شيخ الإسلام رحمه الله قال: يدخل في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلي الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت(١٦).
ثم قال عز وجل: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ هذا أيضا بيان حالهم ومآلهم؛ أما حالهم فقال: ﴿عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾ أي: على علم وبينة، ففيه دليل على سلامة هؤلاء في منهجهم، لقوله: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾.
* ومن فوائدها أيضا: أن ربوبية الله عز وجل تكون خاصة وعامة؛ لأن قوله: ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾ إضافته إلى هؤلاء فقط، لكنها ربوبية خاصة اقتضت العناية التامة بهم.
* ومن فوائدها أيضا: أن مآل هؤلاء هو الفلاح؛ لقوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.
* ومن فوائدها: أن الفلاح خاص بهم؛ لأن هذه الجملة: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ تفيد الحصر.
ثم قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُون﴾، هذا بيان للقسم الثاني من الناس؛ لأن هذه السورة ذكر الله أصناف الناس وأقسامهم، الأول: المؤمنون الخلّص، والثاني: الكفار الخلص في هذه الآية.
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، كفروا بمن؟ كفروا بكل ما يجب الإيمان به؛ كفروا بالله، كفروا برسله، كفروا بملائكته، كفروا بكتبه، كفروا باليوم الآخر، كفروا بالقدر خيره وشره، أو ما أشبه ذلك، المهم أنه عام بكل ما يجب الإيمان به، فإذا كفروا به فهؤلاء كفار.
طيب وإن كفروا ببعضه؟ فكذلك؛ لقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (١٥٠) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ [النساء ١٥٠، ١٥١]
وقوله: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾، هذه جملة مسبوكة بمصدر دون أن يوجد حرف مصدري؛ لأن الجملة التي تُسبك في المصدر يعني تُحوَّل إلى مصدر لا بد أن تقترن بحرف مصدري، مثل: (أنّ) و(أنْ) و(ما) المصدرية و(لو) المصدرية، لكن هذه سُبكت بمصدر مع أنها ليس فيها شيء من أدوات المصدر، لكن إذا جاء السواء ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ فهذه تُسبك بمصدر، فالتقدير: سواء عليهم إنذارك أم عدمه، والمراد بهؤلاء الكفار الذين حقت عليهم كلمة العذاب، فهؤلاء لا يؤمنون سواء أنذرهم أم لم ينذرهم؛ لأنه قد خُتم على قلوبهم ـ والعياذ بالله ـ وليس المراد بهذا أن لا يدعوهم الرسول عليه الصلاة والسلام، بل المراد أن يتسلى إذا لم يؤمنوا فيقال: هؤلاء قد طبع الله على قلوبهم فلا يؤمنون.
وقوله: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ﴾، ﴿سَوَاءٌ﴾ بمعنى مستوٍ عليهم إنذارك وعدمه، وقوله: ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ﴾ الإنذار هو الإعلام بتخويف وترهيب، ﴿أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ هذا القسم الثاني.
هذه (أم) هنا متصلة أو منقطعة؟
* طالب: متصلة.
* الشيخ: هذه متصلة؛ لأن المتصلة هي التي تأتي بين شيئين متعادلين كما هنا، والمنقطعة التي تأتي بين شيئين منفصلين، هذا فرق معنوي، والفرق اللفظي: المتصلة يصح أن يحل محلها (أو)، والمنقطعة لا يصح أن يحل محلها (أو)، بل يحل محلها (بل)، ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُون﴾ الجملة هذه خبر ثاني، أين الخبر الأول؟ ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ هذه هي الخبر الأول، وقوله: ﴿لَا يُؤْمِنُون﴾ الخبر الثاني.
في هذه الآية الكريمة تسلية الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين يرده الكفار ولا يقبلون دعوته.
وفيها أيضا: أن من حقت عليه كلمة العذاب فإنه لا يؤمن مهما كان المنذِر والداعي؛ لأنه لا يستفيد، قد خُتم على قلبه، ﴿أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ﴾ [الزمر ١٩] يعني هؤلاء لهم النار وانتهى أمرهم، ولا يمكن أن تنقذهم.
* من فوائد الآية الكريمة: أن الإنسان إذا كان لا يشعر بالخوف عند الموعظة ولا بالإقبال على الله فإن فيه شبها مِمن؟ من الكفار الذين لا يتعظون بالمواعظ ولا يؤمنون عند الدعوة إلى الله.
قال الله تعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ الختم بمعنى الطبع، وأصله من الختم الذي هو الخاتم؛ لأنه عند انتهاء القول في الكتابة يُختم القول بالكتابة، يعني أنه انتهى الأمر، فهؤلاء ختم الله على قلوبهم؛ وأيضا يشبه وعاء النفقة إذا خُتم عليه بالشمع الأحمر كما يقولون فإن أمره منتهٍ. ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾، يعني: وختم على سمعهم، وإذا ختم على القلوب صارت لا تفقه، وعلى السمع صارت لا تسمع سماعا ينفع.
قال: ﴿وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ هذه جملة مستأنفة، والغشاوة الغطاء، فإذا كان على الأبصار غشاوة صارت لا تبصر، فخُتمت الطرق الثلاثة للهدى، وهي: القلب، والثاني: السمع لما يقال، والثالث: البصر فيما يُرى، فالأبواب الثلاثة كلها سُدت، قال الله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّه﴾ [الجاثية ٢٣] لا أحد.
فإن قال قائل: هذا الختم هل له سبب أو هو ابتلاء وامتحان من الله؟
فالجواب: أن له سببا بيّنه الله تعالى في قوله: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الأنعام ١١٠]، وبقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [الصف ٥] فإذا رأيت أحدا قد ضل فاعلم أنه هو السبب في ضلال نفسه.
﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، ﴿وَلَهُمْ﴾ أي لهؤلاء الكفار الذين بقوا على كفرهم لهم عذاب عظيم، وهو عذاب النار، وعظمه الله تعالى لأنه لا يوجد أشد من عذاب النار، أعاذنا الله وإياكم منها بكرمه وجوده.
انتهى الكلام على الصنف الثاني من أصناف الخلق وهم الكفار الخلّص الصرحاء.
في هذه الآية الكريمة الأخيرة دليل على أن القلوب محل الوعي؛ لقوله: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾، يعني: فلا يصل إليها الخير.
وفيها أيضا من فوائدها: أن طرق الهدى إما بالسمع وإما بالبصر؛ لأن الهدى قد يكون بالسمع وقد يكون بالبصر؛ بالسمع فيما يقال، وبالبصر فيما يشاهَد، وهكذا آيات الله عز وجل تكون مقروءة مسموعة، وتكون بيّنة مشهودة.
* ومن فوائد هذه الآية: وعيد هؤلاء الكفار بالعذاب العظيم؛ لقوله: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾.
ثم قال عز وجل: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِين﴾، ﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾ (مِن) هنا للتبعيض؛ وعلامة (مِن) التي للتبعيض أن يحل محلها (بعض)، فهنا لو في غير القرآن لو قال: وبعض الناس يقول، لكان الكلام مستقيما، إذن (مِن) للتبعيض ﴿مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ﴾ (مَن) هذه مبتدأ مؤخر، ﴿مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، لكن يقول ذلك بلسانه، أما في قلبه فلا، ولهذا قال: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾، بمؤمنين في إيش؟
* الطلبة: (...)
* الشيخ: ما سمعت.
* الطلبة: (...).
* الشيخ: طيب، وما هم بمؤمنين في قلوبهم، لكن بلسانهم يقولون: آمنا بالله وباليوم الآخر، بل قد قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ﴾، بعد ﴿وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِم﴾ [المنافقون ٤]، فهم يفتنون الناس برؤيتهم وبسماع أقوالهم، لكن لا خير فيهم، ومن أراد أن يعرف صفات المنافقين فعليه بكتاب مدارج السالكين ، ذكر ابن القيم رحمه الله جمع صفاتهم في مقال واحد، فمن أراد أن يراجعها فليراجع.
يقول: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، ذكر الإيمان بالله؛ لأنه هو المبتدى سبحانه وتعالى، يعني الذي ابتدأت منه الأمور، واليوم الآخر؛ لأنه هو المنتهى، والإنسان إذا آمن بالله وباليوم الآخر استقام، ولهذا يقرن الله تعالى دائما بين الإيمان به واليوم الآخر دون الإيمان بالملائكة والكتب والرسل؛ لأن حقيقة الأمر أن من لم يؤمن باليوم الآخر فإنه لن يؤمن بالله؛ لأنه ماذا يحصّل؟ ماذا ينتظر؟ إذا كان لا يؤمن باليوم الآخر فلن يؤمن بالله.
قال: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ هذا تكذيب لهم في قولهم: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، كقول الله تعالى مكذبا لهم: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [المنافقون ١، ٢].
ثم قال: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة ٩]، وفي قراءة: ﴿وَمَا يُخَادِعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ . ﴿يُخَادِعُونَ﴾ المخادعة: مُفَاعَلَة من الخداع، والخداع والمكر والكيد كلها معان متقاربة، ويشملها هذا التعريف: التوصل إلى الإيقاع بالخصم من حيث لا يشعر، هذا الخداع وهذا المكر، يتوصل إلى الإيقاع بالخصم من حيث لا يشعر، هذا هو الخداع، هؤلاء إذا قالوا إنهم مؤمنون قالوا: غنمنا الآن، يقولون: غنمنا؛ لأننا خدعنا محمدا وأصحابه، ولكنهم في الحقيقة هل خدعوا الرسول وأصحابه؟ خدعوا الله، ولهذا قال: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ وعلى رأس الذين آمنوا رسول الله ﷺ، قال تعالى: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ يخدعون أنفسهم في الواقع؛ لأنهم غروها، حيث أظهروا خلاف ما يبطنون، وهم يعلمون أن ما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام حق، لكنهم لم يؤمنوا به، بل أنكروه فخدعوا أنفسهم بذلك، فإن قال قائل: ما وجه خداعهم لله والذين آمنوا؟ قلنا: وجه خداعهم أنهم إذا أظهروا الإيمان سَلِمت أموالهم.
هذا الخداع وهذا المكر يتوصل إلى الإيقاع بالخصم من حيث لا يشعر، هذا هو الخداع، هؤلاء إذا قالوا إنهم مؤمنون، غنمنا الآن، يقولون: غنمنا؛ لأنا خدعنا محمدًا وأصحابه، ولكنهم في الحقيقة هل خدعوا الرسول وأصحابه؟ لا، خدعوا الله؟ ولهذا قال: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة ٩]، وعلى رأس الذين آمنوا رسول الله ﷺ. قال تعالى: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾، يخدعون أنفسهم في الواقع؛ لأنهم غروها حيث أظهروا خلاف ما يبطنون وهم يعلمون أن ما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام حق؛ لكنهم لم يؤمنوا به، بل أنكروه فخدعوا أنفسهم بذلك. فإن قال قائل: ما وجه خداعهم لله والذين آمنوا؟ قلنا: وجه خداعهم أنهم إذا أظهروا الإيمان سلمت أموالهم ورقابهم من القتل، وصار لهم حرمة، فيقولون: خدعنا محمدًا وأصحابه، حيث قالوا إنهم مؤمنون، وليسوا بمؤمنين، لكنهم بقولهم هذا نجوا من المعاملة كما يعامل الكفار.
قال تعالى: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾، أي أنهم لا شعور لهم يتبين به أنهم خادعون لأنفسهم؛ لأن على أبصارهم غشاوة، وقلوبهم مختوم عليها وكذلك السمع.
* طالب: أحيانًا يعلَّق الفلاح والإيمان والتدبر على القلب في القرآن، وأحيانًا يربط ذلك بالعقل، ما العلاقة؟
* الشيخ: مثل؟
* الطالب: ﴿مَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة ٢٦٩].
* الشيخ: أي العقول؟ لكن المراد بالعقول هنا عقول الرشد لا عقول الإدراك.
* الطالب: والقلب يا شيخ؟
* الشيخ: والقلب هو محل العقل، ولهذا قال تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا﴾ [الحج ٤٦] ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج ٤٦].
* الشيخ: نعم.
* طالب: امتنع النبي ﷺ عن قتل المنافقين حتى لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه، فالناس في هذا طرفان ووسط، فبعض الناس يتابع الناس في كل شيء، يراقبهم، وبعضهم يقول: ما علي في الناس ما دمت أسير في الدرب الصحيح، ما هو الضابط في مراقبة الناس؟
* الشيخ: الضابط أن الإنسان مؤتمن على دينه، ولا يحمل الإنسان أن يراقب أحدا في دينه أبدًا، اللهم إلا إذا كان هناك شبهة قوية وأراد أن يتأكد، وإلا فلا يجب؛ لأن الأصل أن المسلم محترم، محترم في عرضه، محترم في ماله، محترم في نفسه.
* الطالب: لا، بعض الناس يا شيخ إذا قلت له: لا تفعل هكذا، كان الناس يظنون بك كذا وكذا، يقول: أنا ما على في الناس، خل الناس يقولون اللي يقولوه؟
* الشيخ: يعني هو قصده يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟
* الطالب: لا، أي شيء حتى في المعاملات العادية.
* الشيخ: لا يمنع، الذي ينبغي للإنسان يكون مبتعدا عن هذا الأمر؛ لأن الرسول عليه ﷺ يقول: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحِي فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» . »(١٧)
* الطالب: شيخ قول الله تعالى: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الأنعام ١١٠] ألا يؤيد يا شيخ قول من قال من العلماء أنه لا تُقبل من تكررت ردته لقوله: ﴿أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾؟
* الشيخ: نعم، إن أخذ، لكن أحيانًا يمن الله على من يشاء من عباده، فتكرر الردة ويمن الله عليه بالإيمان الصادق، ونحن نقول: الذي تتكرر ردته لا بد أن يحتاط الإنسان له، ليس بمجرد أن يقول إنه آمن وأنه تاب يُرفع عنه القتل، بل ننظر، نعم.
* طالب: يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة٣] ما في دليل هنا على كفر تارك الصلاة؟
* الشيخ: إيش وجهه؟
* الطالب: وجهه أن الله عز وجل ذكر: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ لفظ الآية الإيمان (...).
* الشيخ: كيف؟
* الطالب: بعد ذلك ذكر ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾؟
* الشيخ: الزكاة؟
* الطالب: نعم، لفظ الآية: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ شرط (...).
* الشيخ: هذا ليس واضحا، عندي فيها أدلة غير هذا.
* طالب: غفر الله لكم، سؤال في التفسير الذي مضى، شيخ هل نثبت صفة التهكم لله بقول الله تعالى: ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ﴾ [النساء ١٣٨]؟
* الشيخ: لا، إذا قلنا معنى بشر فيما يسوء جرت اللغة العربية أن المقصود بذلك التهكم بهم، فالرسول لو بشرهم بهذا ليس بشرهم بما يسرهم بل متهكما بهم.
* طالب: الله سبحانه وتعالى كثيرا ما يذكر الاستفهام في القرآن على سبيل التهكم للكفار فهل يصح ذكر..؟
* الشيخ: مقتضى اللغة العربية أن يقال هذا الاستفهام للتهكم، فالله يتهكم بهم.
* طالب: (...)
* الشيخ: نعم، صيغة فعلية.
* طالب: أبو الحسن كان أشعريًّا أم معتزليًّا؟
* الشيخ: كان معتزليًّا، ثم بعد أربعين سنة من الاعتزال اتصل بعبد الله بن سعيد بن كُلّاب مؤسس مذهب الكلابية وأخذ منه بعض الشيء، وبقي على ذلك مدة ليست طويلة، ثم وفقه الله عز وجل إلى أن أخذ بقول الإمام أحمد رحمه الله.
* طالب: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة ١٣]
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾
* في هذه الآية الكريمة فوائد، منها: النص على هذا الصنف من الناس وهم المنافقون، ﴿مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾.﴾
* ومن فوائدها: نفي الوصف على من لم يتحقق فيه من جانب؛ لأنهم يقولون إنهم مؤمنون، ولكن مؤمنون بالظاهر وليسوا مؤمنين بالباطن، ولهذا قال: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾، أي باطنًا.
* ومن فوائدها: أن الاستسلام الظاهر إذا لم يكن مبنيًّا على عقيدة فإنه لغو لا فائدة منه؛ لقوله: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾.﴾
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن من قلب الحقائق وادعى ما لم يكن عليه من الأوصاف ففيه شبه بمن؟ بالمنافقين، ولهذا جعل النبي ﷺ آية المنافق ثلاثًا، منها: «إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ». »(١٨)
* ومن فوائد هذه الآية وما بعدها: أن المنافقين يخادعون الله والذين آمنوا، فيُستفاد من ذلك أن المخادعة من صفات المنافقين. فإن قال قائل: التورية فيها نوع مخادعة، فهل يكون المورّي متصفا بصفات المنافقين؛ لأنه أظهر خلاف ما يريد؟ فالجواب أن يقال: التورية إذا كان لها مقصود صحيح خرجت عن مشابهة المنافقين، وإذا لم يكن لها مقصود صحيح فإنه يُخشى أن يكون الإنسان مشابها للمنافقين، ولهذا حرم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله التورية إلا لحاجة أو ضرورة(١٩)، ولكن أكثر العلماء يقولون: إن التورية من غير ظالم لا بأس بها.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ جواز عطف غير الله على الله بحرف يقتضي المشاركة؛ لقوله: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾، ولم يقل: ثم الذين آمنوا، ووجه ذلك أن العلة واحدة، فمخادعتهم لله مخادعة للمؤمنين، ومخادعتهم للمؤمنين مخادعة لله عز وجل، بخلاف الأمور الكونية، فيجب أن تذكر ما سوى الله معطوفًا بـ(ثم)؛ لأن الأمور الكونية تتعلق بالربوبية، وما يتعلق بالربوبية فإنّ فعلَنا فيه تابع لفعل الله عز وجل، بخلاف الأمور الشرعية، ولهذا قال الله تعالى في آيات كثيرة، أو نسب الشيء إليه وإلى رسوله بالواو في آيات كثيرة، لكنها في أمور شرعية.
* ومن فوائد هذه الآية: أن من خادع الله والمؤمنين فإنما يخادع نفسه؛ لأنهم سوف يعاملونه بالظاهر، ويستمر على هذا الباطل، وهذه لا شك أنه خداع للنفس، حيث يظن أنه على صواب فيستمر في عمله فيخدع نفسه بذلك.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن هؤلاء المنافقين يخادعون الله والذين آمنوا، وهم في الحقيقة يخدعون أنفسهم، لكن ليس عندهم شعور في أنفسهم، ولذلك استمروا على هذا، ولو شعروا أنهم يخدعون أنفسهم ما استمروا على ذلك.
ثم قال الله سبحانه وتعالى: ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾
البسملة تقدم لنا الكلام عليها مرارًا وتكرارًا، وقلنا: إن الجار والمجرور متعلق بمحذوف، وهذا المحذوف يقدر فعلًا متأخرًا مناسبًا، كذا؟ يقدر فعلا متأخرا مناسبا، فإذا قلت: (باسم اللهِ) وأنت تريد أن تأكل كيف تقدر الفعل؟ باسم الله آكل، طيب، قلنا: إنه يجب أن يقدر أن يكون متعلقا بمحذوف، لماذا؟ لماذا لا نقول إنه غير متعلق؟ لأن الجار والمجرور لا بد له من متعلق يتعلق به،
لَا بُدَّ لِلْجَارِ مِنَ التَّعَلُّقِ ∗∗∗ بِفِعْلٍ اوْ مَعْنَاهُ نَحْوِ مُرْتَقِي
لأن الجار والمجرور معمول وبمنزلة المفعول به فلا بد له من عامل، لماذا قدرناه فعلا متأخرا؟
لفائدتين: الفائدة الأولى: التبرك بتقديم اسم الله عز وجل.
والفائدة الثانية: الحصر؛ لأن تأخير العامل يفيد الحصر، كأنك تقول: لا آكل باسم أحد متبركا به ومستعينا إلا باسم الله عز وجل، لماذا قدرناه فعلا؟ لأن الأصل في العمل الأفعال، وهذه يعرفها أهل النحو، الأصل في العمل الأفعال؛ ولذلك لا تعمل الأسماء إلا بشروط، اسم الفاعل يعمل عمل الفعل بشروط، المصدر يعمل عمل الفعل بشروط، اسم المفعول يعمل عمل الفعل بشروط، الفعل يعمل بشروط؟ لا؛ لأنه هو الأصل في العمل، ولهذا نقدره فعلًا، لماذا قدرناه خاصا؟ لأنه أدل على المقصود، أدل على المقصود ممكن أن نقدر: باسم الله أبتدئ، لكن تبتدئ أيش؟ ما ندري، تبتدئ أكل، تبتدئ شرب، تبتدئ وضوء، تبتدئ عمل، ما ندري، إذا قلت: باسم الله آكل وعينت الفعل صار أدل على المقصود؛ ولهذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام: «مَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ»(٢٠) أو قال: «عَلَى اسْمِ اللَّهِ» فخص الفعل، إذن نقول: الجار والمجرور متعلق بمحذوف، كمِّل.
* طلبة: مناسب.
* الشيخ: متأخر..
* الطلبة: مناسب.
* الشيخ: فعل مناسب للمقام. أما ﴿اللَّهِ﴾ فهو علم على ذات الله سبحانه وتعالى، على الذات المقدسة لا يكون إلا له، وهو أصل الأسماء، ولهذا تأتي الأسماء تابعة له، بسم الله الرحمن الرحيم، تأتي تابعة له.
﴿الرَّحْمَن﴾ ذو الرحمة الواسعة، ولهذا جاء على صفة على وزن فعلان الذي يدل على الامتلاء والسعة.
﴿الرَّحِيم﴾ الموصل للرحمة من يشاء من عباده؛ ولهذا جاءت على وزن فعيل الدال على وقوع الفعل، فهنا رحمة هي صفته هذه دل عليها ﴿الرَّحْمَن﴾، ورحمة هي فعله أي إيصال الرحمة إلى المرحوم دل عليها ﴿الرَّحِيم﴾.
الرحمن الرحيم اسمان من أسماء الله يدلان على الذات، وعلى صفة الرحمة، وعلى الأثر أو الحكم الدال عليه ذلك المعنى، ولَّا لا؟ إذن اجتمع في هذين الاسمين كل ما يجب أن يتعلق بالإيمان باسم الله؛ لأن الإيمان باسم الله لا بد أن يكون أن تؤمن بالاسم وأيش بعد؟ والصفة والأثر الذي هو الحكم المترتب على هذا، فنقول: الله رحمن ذو رحمة يرحم، كلها موجودة في القرآن ﴿الرَّحْمَنِ﴾ كما ترون، ذو الرحمة: ﴿وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ﴾ [الأنعام ١٣٣]، يرحم: ﴿يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ﴾ [العنكبوت ٢١]. ﴿الرَّحْمَن﴾ اسم دال على الرحمة، وهي رحمة حقيقية دل عليها السمع والعقل، ما أدري كلام اللغة عربي ولَّا غير عربي؟
* الطلبة: عربي.
* الشيخ: عربي، دل عليه السمع والعقل، وأيش معنى السمع؟
* الطلبة: النص.. النصوص.
* الشيخ: النصوص الكتاب والسنة، العقل: النظر والاعتبار، دلالة السمع على رحمة الله كثيرة ما تحصى، دلالة النظر أن نقول: كم في العالم من نعمة؟ كم في العالم من نعمة؟ وأيش الجواب؟ لا تحصى ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ [النحل ١٨]. كذا لا تحصى بأنواعها وأجناسها فضلا عن أفرادها، هذه النعم وأيش تدل عليه؟ تدل على أن المنعم راحم، تدل على أن المنعم راحم، ولولا الرحمة ما حصلت النعمة، وكم في العالم من اندفاع نقمة، أليس كذلك؟ بماذا؟
من آثار الرحمة، لولا الرحمة ما اندفعت النقمة، ومن عجب أن قوما يدعون العقل يقولون: إن الرحمة لا يدل عليها العقل، بل العقل يدل على خلافها، أعوذ بالله، لأيش؟ قال: لأن الرحمة انعطاف، ولين، وخضوع، ورقة، وهذا لا يليق بالله عز وجل، شوف الشيطان، لا يليق، صحيح لا يليق؟ نقول: الرحمة بهذا المعنى من هي رحمته؟
* طالب: الإنسان.
* الشيخ: رحمة المخلوق، لكن رحمة الخالق ليست كرحمة المخلوق، ثم إننا نمنع أن تكون الرحمة كما زعمتم حتى في المخلوق، يأتي ملك تام السلطان لا يخشى أحدا إلا الله ويرحم هذا الفقير، هل نقول: رحمته هذه تنافي ما عنده من السلطان والعظمة اللائقة به؟ أبدا ما تنافي، ولا يقال: والله هذا ملك مهين، إنه يرحم الفقراء، ويرحم الضعفاء، لا، بل يعد هذا من كماله، ثم نقول لهم: العقل دل عليه، العقل دل عليه، نمنع قولكم إن العقل لا يدل، ونقول: إن العقل دل عليه، لو تسأل عامي في السوق بعد أن نزل المطر في الليل وخرج الناس يمشون في المطر ونقع المطر وهواء المطر والرطوبة، تلقي عامي تقول: ما شاء الله نزل البارحة مطر، إي وقال: الله، الحمد لله، رحمة الله واسعة، رحمة الله واسعة، وأيش عرفنا إن هذا المطر منين؟ من الرحمة، لكن يقولون: الإرادة ثبتت بالعقل، إرادة الله ثبتت بالعقل، طيب بماذا؟
قالوا: ثبتت بالتخصيص، إنه خص هذا، اجعل هذا سماء، واجعل هذه أرض، وهذه بقرة، وهذه شاة، وهذه بعير، وهذا حمار إلى آخره، الذي خصص هذا من هذا هو الإرادة، إذن فيه إرادة لله دل عليها التخصيص، اسأل طالب علم ما هو عامي؟ قل: كيف تستدل بالعقل على الإرادة على إرادة الله وأيش بيقول لك؟ ما يستطيع، ربما يستطيع يقول: أستدل على إرادة الله، ها الكون هذا كله بإرادة الله، لكن ما يقول كلمة تخصيص ولا يدل على الإرادة، كذا ولَّا لا؟
ومع ذلك الرحمة ما دل عليها العقل عندهم، والإرادة دل عليها العقل، ونحن نقول: إن الإرادة والرحمة كلتاهما دل عليها العقل ولا شك في هذا.
البسملة ذكرنا فيما سبق أنها آية من القرآن لا شك، مستقلة، لا تابعة لا للتي قبلها ولا للتي بعدها، مستقلة، لكن يؤتى بها لابتداء السورة، يؤتى بها لابتداء السورة، كل سورة تبتدئ بالبسملة إلا واحدة من السور وهي براءة، فإنه لم يثبت عند الصحابة أن الرسول ﷺ ابتدأها بالبسملة؛ ولذلك جعلوا فاصلا بينها وبين الأنفال ولم يجعلوا بسملة؛ لأنهم ترددوا هل هي من بقية الأنفال أو هي مستقلة، فقالوا: نجعل الفاصل ولا نجعل البسملة، إنما البسملة آية مستقلة تبتدئ بها كل سورة حتى الفاتحة وهي أول السور تبتدئ بها، وهل هي من السورة؟ قلنا: لا، وعلى هذا فما يوجد في المصحف الآن المرقم في الفاتحة خاصة فيها رقم واحد على أنها أول آية من الفاتحة هو قول مرجوح، والراجح أنها ليست آية من الفاتحة، وقد مر علينا بيان رجحان هذا القول.
* طالب: شيخ، ندعو الله أن ينصرنا على الكافرين ونحن ما نستطيع أن نقاتلهم ولكن ندعو الله ولا نقاتلهم إما أن يقوينا فنقاتلهم أو ينصرنا عليهم؟
* الشيخ: إي نعم، هو يسأل، يقول: نحن ندعو الله أن ينصرنا على القوم الكافرين، واحنا ما عندنا سلاح نقاوم به، نقول: النصرة على القوم الكافرين بأن يهيئ الله لنا أسلحة نقاومهم بها، أو يدمر أسلحتهم، تدمير أسلحتهم نصر لنا ولَّا لا.
* طالب: شيخ، الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر ٩] خلاف العلماء في كون البسملة آية أو غير آية، ألا يؤدي ذلك إلى حذف البسملة؟
* الشيخ: لا لا، أعوذ بالله! هل حذفت من المصحف؟ حفظت.
* طالب: (...)
* الشيخ: لا لا نقول: آية بالاتفاق أنها آية، لكن هل هي من السورة اللي بعدها أو لأ، الخلاف في العدد.
* * *
* طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم ﴿الم (١) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ﴾ [آل عمران ١ - ٤]
* الشيخ: ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ تبع للي قبلها.
* طالب: ﴿وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾ [آل عمران٣، ٤].
* الشيخ: بس، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، تقدم الكلام على البسملة إعرابا ومعنى ومحلًا، وتقدم الكلام أيضًا على الحروف الهجائية التي ابتدئت بها السور.
الحروف الهجائية التي ابتدأ الله بها بعض السور قيل: إنها رموز وإشارات إلى أشياء، وعينها بعض المفسرين، وقيل: إنها حروف لا ندري ما معناها، فالله أعلم بما أراد بها، وقيل: بل هي حروف هجائية ليس لها معنى، وهذا القول هو الصحيح؛ وذلك لأن هذا القرآن نزل باللسان العربي المبين، واللسان العربي لا يعطي هذه الحروف الهجائية معنى، وإذا كان لا يعطيها معنى فبمقتضى نزوله به أن لا يكون لها معنى، لكن قال بعض حذاق العلماء: إن لها مغزى؛ أي هذه الحروف لها مغزى وهو: أن هذا القرآن الذي أعجز فصحاء البلاغة العرب العرباء إنما كان بالحروف التي هم يعرفونها، ويركبون كلامهم منها ومع ذلك أعجزهم، يعني لو جاء بلسان غير عربي لقالوا: نعجز عنه، لكن جاء باللسان العربي الذي يُكَوِّنون كلامهم بالحروف التي كان بها هذا القرآن، قال: ولهذا لا تكاد تجد سورة مبدوءة بهذه الحروف الهجائية إلا وبعدها ذكر القرآن، وهذا ما قاله الزمخشري وشيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من أهل العلم.
وقوله: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ هذه جملة مكونة من مبتدأ وخبر، فالله مبتدأ، وجملة ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ خبر المبتدأ، لكن هذه الجملة جملة أيضًا، لكنها تسمى عند النحويين جملة صغرى؛ لأن الخبر إذا وقع جملة فهو جملة صغرى، والكبرى: مجموع المبتدأ والخبر.
وقوله: ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ خبران آخران. ﴿الْحَيُّ﴾ خبر ل﴿اللَّهُ﴾ ثان، و﴿الْقَيُّومُ﴾ خبر ثالث.
فقوله: ﴿اللَّهُ﴾ علم على الذات المقدسة، علم على الرب عز وجل، وأصله الإله بمعنى المألوه، وحذفت الهمزة تخفيفا كما حذفت الهمزة من خير وشر في مثل قول الرسول ﷺ: «خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا، وَشَرُّهَا آخِرُهَا»(٢١) أي أخيرها وأشرها، وكما حذفت الهمزة أيضًا من: الناس، وأصلها: أناس.
﴿اللَّهُ﴾ علم على الذات المقدسة، وهو أعلم المعارف على الإطلاق، هو أعلم المعارف على الإطلاق، ومعناه: المعبود حبًّا وتعظيمًا، فهو فعال بمعنى مفعول، وما أكثر ما يأتي فعال بمعنى مفعول، كغراس بمعنى مغروس، وبناء بمعنى مبني.
وقوله: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ أي: لا معبود حق إلا هو، فإله اسم لا النافية للجنس، وخبرها محذوف تقديره: حق، وهناك آلهة باطلة ولكنها آلهة وضعت عليها الأسماء بدون حق، كما قال الله تعالى: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا﴾ [يوسف ٤٠].
وقال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (٢١) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ﴾ [النجم ١٩ - ٢٣].
وبهذا التقدير للخبر في ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ يزول الإشكال، وهو أنه كيف ينفى الإله في مثل هذه الجملة ويثبت في مثل قوله: ﴿فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [هود ١٠١]؟
والجمع: أن تلك الآلهة أيش؟ باطلة، وأما الإله في: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ فهو إله حق ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ﴾ [الحج ٦٢].
وقوله: ﴿هو﴾ هذا ضمير وليس اسمًا، بدليل قوله: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ [محمد ١٩] هذا علم ولَّا ضمير؟
* الطلبة: علم.
* الشيخ: علم، وبدليل قوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء ٢٥] وأنا هنا ضمير، فعلى هذا نقول: أنا وهو في قوله: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا﴾ [النحل ٢] وقوله: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ كلاهما ضمير رفع منفصل، كلاهما ضمير رفع منفصل، فكما أن الذاكر لا يقول: لا إله إلا أنا، أو كما أن الذاكر لا يجعل أنا اسما لله فلا يجوز أن يجعل هو اسما لله، وبهذا نعرف بطلان ذكر الصوفية الذين يذكرون الله بلفظ: هو هو، ويرون أن هذا الذكر أفضل الأذكار، وهو ذكر باطل.
وقوله: ﴿الْحَيُّ﴾ أل هنا للاستغراق؛ أي الكامل الحياة، وحياة الله عز وجل كاملة في وجودها، وكاملة في زمنها، فهو حي لا أول له، ولا نهاية له، حياته لم تسبق بعدم ولا يلحقها زوال، هي أيضًا كاملة حال وجودها، لا يدخلها نقص بوجه من الوجوه، فهو كامل في سمعه، وعلمه، وقدرته، وجميع صفاته.
إذا رأينا الآدمي، بل إذا رأينا غير الله عز وجل وجدنا أنه ناقص في حياته زمنًا ووجودًا، فحياته مسبوقة بماذا؟ بعدم، ملحوقة بزوال وفناء، هي أيضًا ناقصة في وجودها، هل هو كامل السمع؟ الحي ليس كامل السمع، ولا البصر، ولا العلم، ولا القدرة، كل حي فهو ناقص، إذن حياته ناقصة في الوجود والزمن، ففي الزمن مسبوقة بعدم وملحوقة بزوال، وفي الوجود ناقصة في جميع الصفات. وقوله: ﴿الْقَيُّومُ﴾ على وزن فيعول، وهو مأخوذ من القيام، ومعناه: القائم بنفسه، القائم على غيره، القائم بنفسه فلا يحتاج إلى أحد، والقائم على غيره فكل أحد محتاج إليه، وفي الجمع بين الاسمين الكريمين: ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ في الجمع بينهما استغراق لجميع ما يوصف الله به لجميع الكمالات، ففي ﴿الْحَيّ﴾ كمال الصفات، وفي ﴿الْقَيُّومُ﴾ كمال الأفعال، وفيهما جميعا كمال الذات. ﴿الْحَيُّ﴾ كمال الصفات، ﴿الْقَيُّومُ﴾ كمال الأفعال، وباجتماعهما كمال الذات، فهو كامل الصفات والأفعال والذات.
* * *
* طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم ﴿الم (١) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (٤) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾ [آل عمران ١ - ٥].
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، سبق لنا تفسير قوله تعالى: ﴿الم (١) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ وبينا أن القول الراجح في ﴿ألم﴾ وأخواتها.
* طالب: ما اختاروا (...) أنها -الحروف المقطعة- لا معنى لها؟
* الشيخ: لا، هو ما قال لا معنى لها.
* طالب: ألا تدل على المغزى أن هذا القرآن الذي يعجزكم أنه مكون من هذه الحروف لذلك كلما ذكر الحروف يذكر بعدها شيء من القرآن من ذكره أو (...)؟
* الشيخ: طيب.
* الطالب: قلنا إن القرآن نزل باللغة العربية.
* الشيخ: لا لا.
* طالب: هي لا معنى لها بذاتها، ولكن لها مغزى.
* الشيخ: ولكن لها مغزى، طيب. ما هو الدليل على أنه ليس لها معنى في ذاتها؟
* طالب: الدليل أنها دائمًا يعقبها في القرآن..
* الشيخ: الدليل على أنه ليس لها معنى؟
* طالب: أن القرآن بلسان عربي مبين، وهذه الحروف بلسان عربي مبين ليس لها معنى.
* الشيخ: صح، الدليل أن القرآن نزل باللسان العربي المبين وهذه الحروف ليس لها معنى في اللغة العربية في ذاتها، إذن ليس لها معنى. طيب ما الدليل على أن لها مغزى؟
* طالب: هذه الحروف يعقبها القرآن.
* الشيخ: ذكر القرآن والتحدث عنه.
* الطالب: ثاني شيء: يعني إن هذه الحروف التي أنتم تعرفونها وتتحدثون بها يعني القرآن الكريم مركب منها.
* الشيخ: كان منها أحسن من كلمة مركب كان منها. قوله: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُو﴾ ما معناها؟
* طالب: لا معبود بحق إلا الله سبحانه وتعالى.
* الشيخ: لا معبود بحق؟ لا معبود حق إلا الله. لماذا لا نقول: إن النفي مسلط على ما بعد إلا؟ يعني لا إله إلا الله، ما يوجد إله إلا الله؟
* طالب: لأنه توجد آلهة لكن هي باطلة، يعني نحصرها بحق.
* الشيخ: أحسنت، نعم، نقول: لا يمكن أن ننفي الألوهية مطلقا؛ لأن غير الله قد يسمى إلها.
ما هو الدليل على إطلاق الإله على غير الله؟
* طالب: قوله تعالى: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا﴾ [مريم ٨١].
* الشيخ: نعم، ﴿وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ﴾ [الإسراء ٣٩]، ﴿فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [هود ١٠١].
﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ ذكرنا أنهما يشتملان على اسم الله الأعظم، فلماذا؟
* طالب: لأن لها معنيان: المعنى الزمني لم يسبقه العدم.
* الشيخ: لا.
* طالب: لأنهما اسمان يتضمنان الصفات الفعلية والذاتية.
* الشيخ: صح، الكمال الذاتي والفعلي، ففي ﴿الْحَيُّ﴾ الكمال الذاتي، و﴿الْقَيُّومُ﴾ الكمال الفعلي؛ لذلك كانا متضمنين لجميع الكمال، الذاتي والفعلي. ﴿الْحَيُّ﴾ تفسيره؟
* طالب: الحي الذي لا يموت ولا..
* الشيخ: يعني ذو الحياة الكاملة التي لم تُسبق؟
* الطالب: بعدم.
* الشيخ: ولا يَلحقها؟
* الطالب: زوال.
* الشيخ: زوال. ﴿الْقَيُّومُ﴾؟
* طالب: هو القائم بنفسه، والقائم على..
* الشيخ: على غيره، القائم بنفسه والقائم على غيره. الدليل على قيامه بنفسه؟
* طالب: أن الله سبحانه وتعالى غني عن العالمين لا يحتاج إلى أحد.
* الشيخ: نعم
* طالب: أما الدليل أن كل ما سواه..
* الشيخ: إذن وصف الغنى مثل و﴿هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ ﴿فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [التغابن ٦] هذا قيامه بنفسه، قيامه على غيره ما هو الدليل؟
* طالب: أن العباد كلهم فقراء إلى الله سبحانه وتعالى.
* الشيخ: ما هو الدليل؟ ما هو التعليل؟
* الطالب: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ﴾ [فاطر ١٥].
* الشيخ: وغيره، فيه آية صريحة في الموضوع؟
* طالب: قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ [الرعد ٣٣]
* الشيخ: صحيح، قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ يعني كمن لا يقوم بنفسه. تصريف القيوم في اللغة العربية؟ تصريف القيوم في اللغة العربية كيف هو؟
* طالب: على وزن فيعول.
* الشيخ: على وزن فيعول، وماذا تدل عليه هذه الصيغة؟
* طالب: تدل على (...) سبحانه وتعالى.
* الشيخ: لا، هذه الصيغة؛ لأن أصلها قائم حولت إلى قيوم، فحول فاعل إلى فيعول؟
* طالب: يقوم على غيره ويقوم بنفسه.
* طالب آخر: تدل على الكثرة والمبالغة.
* الشيخ: المبالغة، صح.
* * *
قال الله تعالى: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ [آل عمران ٣] ﴿نَزَّلَ﴾ التنزيل يكون من أعلى إلى أسفل، ويكون بالتدريج شيئًا فشيئًا؛ كما قال الله تعالى: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا﴾ [الإسراء ١٠٦]، وقال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ [الفرقان ٣٢].
يعني نزلناه ليس جملة واحدة، فقوله: ﴿نزل﴾ يفيد أن هذا القرآن من عند الله، وأنه نزل أيش؟ بالتدريج ليس مرة واحدة، وقوله: ﴿عَلَيْكَ﴾ الضمير يعود على الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد بين الله تعالى في آية أخرى أنه نزل على قلب الرسول ﷺ؛ ليكون أدل على وعيه لهذا القرآن الذي نزل عليه.
وقوله: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ الكتاب هو هذا القرآن، وهو فعال بمعنى مفعول؛ لأنه مكتوب، فهو كتاب؛ لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ؛ كما قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ﴾ [الواقعة ٧٧، ٧٨] اللوح المحفوظ، وهو كتاب في الصحف التي بأيدي الملائكة ﴿فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ﴾ [عبس ١٢، ١٣]، وهو كتاب في الصحف التي بأيدينا.
(١) متفق عليه، البخاري (٢٢٧٦)، ومسلم (٢٢٠١ / ٦٥) من حديث أبي سعيد الخدري.
(٢) أخرجه مسلم (٣٩٥) (٣٨).
(٣) وهي قراءة: نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وحمزة. راجع التيسير في القراءات السبع (ص٢٧).
(٤) وهي قراءة قنبل عن ابن كثير، والباقون بالصاد الخالصة. راجع التيسير في القراءات السبع (ص٢٧).
(٥) قراءة حمزة بضم الهاء، والباقون بكسرها. انظر التيسير (ص٢٧).
(٦) أخرجه البخاري (١٢٧).
(٧) أخرجه مسلم في المقدمة (٥).
(٨) متفق عليه. البخاري (٢٤١٩)، ومسلم (٨١٨ / ٢٧١) من حديث عمر بن الخطاب.
(٩) متفق عليه، البخاري (٥٢٧٩)، ومسلم (١٥٠٤ / ١٤) من حديث عائشة.
(١٠) أخرج مسلم في صحيحه (٨٠٤ / ٢٥٢) من حديث أبي أمامة مرفوعا: «اقرءوا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران».
(١١) انظر مجموع الفتاوى (٢٠ / ٤٢٣).
(١٢) متفق عليه، البخاري (٣٣٤٨)، ومسلم (٢٢٢ / ٣٧٩) من حديث أبي سعيد الخدري.
(١٣) أخرجه مسلم (٨٦٧ / ٤٣) من حديث جابر بن عبد الله.
(١٤) متفق عليه، البخاري (٧٥٧)، ومسلم (٣٩٧ / ٤٥) من حديث أبي هريرة.
(١٥) أخرجه ابن ماجه (١٠٦٠)، وأحمد (١٨٩٩٧).
(١٦) العقيدة الواسطية (ص٩٣).
(١٧) أخرجه البخاري (٣٤٨٤) من حديث أبي مسعود البدري.
(١٨) متفق عليه، أخرجه البخاري (٣٣)، ومسلم (٥٩/١٠٧) من حديث أبي هريرة.
(١٩) انظر: أعلام الموقعين لابن القيم (٣/٢٣٤) ط. دار الجيل.
(٢٠) متفق عليه؛ البخاري (٩٨٥) ومسلم (١٩٦٠ / ١)، من حديث جندب بن سفيان.
(٢١) أخرجه مسلم (٤٤٠ / ١٣٢)، من حديث أبي هريرة.
مفاتيح الغيب — فخر الدين الرازي (٦٠٦ هـ)
﴿ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ﴾ [البقرة ٢]
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذَلِكَ الكِتابُ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: المُشارُ إلَيْهِ هَهُنا حاضِرٌ، و”ذَلِكَ“ اسْمٌ مُبْهَمٌ يُشارُ بِهِ إلى البَعِيدِ، والجَوابُ عَنْهُ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: لا نُسَلِّمُ أنَّ المُشارَ إلَيْهِ حاضِرٌ، وبَيانُهُ مِن وُجُوهٍ:
أحَدُها: ما قالَهُ الأصَمُّ: وهو أنَّ اللَّهَ تَعالى أنْزَلَ الكِتابَ بَعْضَهُ بَعْدَ بَعْضٍ، فَنَزَلَ قَبْلَ سُورَةِ البَقَرَةِ سُوَرٌ كَثِيرَةٌ، وهي كُلُّ ما نَزَلَ بِمَكَّةَ مِمّا فِيهِ الدَّلالَةُ عَلى التَّوْحِيدِ وفَسادِ الشِّرْكِ وإثْباتِ النُّبُوَّةِ وإثْباتِ المَعادِ، فَقَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ﴾ إشارَةٌ إلى تِلْكَ السُّوَرِ الَّتِي نَزَلَتْ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ، وقَدْ يُسَمّى بَعْضُ القُرْآنِ قُرْآنًا، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وإذا قُرِئَ القُرْآنُ فاسْتَمِعُوا لَهُ﴾ [الأعْرافِ: ٢٠٤] وقالَ حاكِيًا عَنِ الجِنِّ: ﴿إنّا سَمِعْنا قُرْآنًا عَجَبًا﴾ [الجِنِّ: ١] وقَوْلُهُ: ﴿إنّا سَمِعْنا كِتابًا أُنْزِلَ مِن بَعْدِ مُوسى﴾ [الأحْقافِ: ٣٠] وهم ما سَمِعُوا إلّا البَعْضَ، وهُو الَّذِي كانَ قَدْ نَزَلَ إلى ذَلِكَ الوَقْتِ.
وثانِيها: أنَّهُ تَعالى وعَدَ رَسُولَهُ عِنْدَ مَبْعَثِهِ أنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِ كِتابًا لا يَمْحُوهُ الماحِي، وهو عَلَيْهِ السَّلامُ أخْبَرَ أُمَّتَهُ بِذَلِكَ ورَوَتِ الأُمَّةُ ذَلِكَ عَنْهُ، ويُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: ﴿إنّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾ [ المُزَّمِّلِ: ٥] وهَذا في سُورَةِ المُزَّمِّلِ، وهي إنَّما نَزَلَتْ في ابْتِداءِ المَبْعَثِ.
وثالِثُها: أنَّهُ تَعالى خاطَبَ بَنِي إسْرائِيلَ، لِأنَّ سُورَةَ البَقَرَةِ مَدَنِيَّةٌ، وأكْثَرُها احْتِجاجٌ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ، وقَدْ كانَتْ بَنُو إسْرائِيلَ أخْبَرَهم مُوسى وعِيسى عَلَيْهِما السَّلامُ أنَّ اللَّهَ يُرْسِلُ مُحَمَّدًا ﷺ ويُنْزِلُ عَلَيْهِ كِتابًا فَقالَ تَعالى: ﴿ذَلِكَ الكِتابُ﴾ أيِ الكِتابُ الَّذِي أخْبَرَ الأنْبِياءُ المُتَقَدِّمُونَ بِأنَّ اللَّهَ تَعالى سَيُنْزِلُهُ عَلى النَّبِيِّ المَبْعُوثِ مِن ولَدِ إسْماعِيلَ.
ورابِعُها: أنَّهُ تَعالى لَمّا أخْبَرَ عَنِ القُرْآنِ بِأنَّهُ في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ بِقَوْلِهِ: ﴿وإنَّهُ في أُمِّ الكِتابِ لَدَيْنا﴾ [الزُّخْرُفِ: ٤] وقَدْ كانَ عَلَيْهِ السَّلامُ أخْبَرَ أُمَّتَهُ بِذَلِكَ، فَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ أنْ يَقُولَ تَعالى: ﴿ذَلِكَ الكِتابُ﴾ لِيُعْلِمَ أنَّ هَذا المُنَزَّلَ هو ذَلِكَ الكِتابُ المُثْبَتُ في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ.
وخامِسُها: أنَّهُ وقَعَتِ الإشارَةُ بِذَلِكَ إلى ”الم“ بَعْدَ ما سَبَقَ التَّكَلُّمُ بِهِ وانْقَضى، والمُنْقَضِي في حُكْمِ المُتَباعَدِ. وسادِسُها: أنَّهُ لَمّا وصَلَ مِنَ المُرْسِلِ إلى المُرْسَلِ إلَيْهِ وقَعَ في حَدِّ البُعْدِ، كَما تَقُولُ لِصاحِبِكَ - وقَدْ أعْطَيْتَهُ شَيْئًا - احْتَفِظْ بِذَلِكَ. وسابِعُها: أنَّ القُرْآنَ لَمّا اشْتَمَلَ عَلى حِكَمٍ عَظِيمَةٍ وعُلُومٍ كَثِيرَةٍ يَتَعَسَّرُ اطِّلاعُ القُوَّةِ البَشَرِيَّةِ عَلَيْها بِأسْرِها - والقُرْآنُ وإنْ كانَ حاضِرًا نَظَرًا إلى صُورَتِهِ لَكِنَّهُ غائِبٌ نَظَرًا إلى أسْرارِهِ وحَقائِقِهِ - فَجازَ أنْ يُشارَ إلَيْهِ كَما يُشارُ إلى البَعِيدِ الغائِبِ.
المَقامُ الثّانِي: سَلَّمْنا أنَّ المُشارَ إلَيْهِ حاضِرٌ، لَكِنْ لا نُسَلِّمُ أنَّ لَفْظَةَ ”ذَلِكَ“ لا يُشارُ بِها إلّا إلى البَعِيدِ، بَيانُهُ أنَّ ذَلِكَ وهَذا حَرْفا إشارَةٍ، وأصْلُهُما ”ذا“؛ لِأنَّهُ حَرْفٌ لِلْإشارَةِ، قالَ تَعالى: ﴿مَن ذا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ [البَقَرَةِ: ٢٤٥] ومَعْنى ”ها“ تَنْبِيهٌ، فَإذا قَرُبَ الشَّيْءُ أُشِيرَ إلَيْهِ فَقِيلَ: هَذا، أيْ تَنَبَّهْ أيُّها المُخاطَبُ لِما أشَرْتُ إلَيْهِ فَإنَّهُ حاضِرٌ لَكَ بِحَيْثُ تَراهُ، وقَدْ تَدْخُلُ الكافُ عَلى ”ذا“ لِلْمُخاطَبَةِ واللّامُ لِتَأْكِيدِ مَعْنى الإشارَةِ فَقِيلَ: ”ذَلِكَ“ فَكَأنَّ المُتَكَلِّمَ بالِغٌ في التَّنْبِيهِ لِتَأخُّرِ المُشارِ إلَيْهِ عَنْهُ، فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ لَفْظَةَ ذَلِكَ لا تُفِيدُ البُعْدَ في أصْلِ الوَضْعِ، بَلِ اخْتُصَّ في العُرْفِ بِالإشارَةِ إلى البَعِيدِ لِلْقَرِينَةِ الَّتِي ذَكَرْناها، فَصارَتْ كالدّابَّةِ، فَإنَّها مُخْتَصَّةٌ في العُرْفِ بِالفَرَسِ، وإنْ كانَتْ في أصْلِ الوَضْعِ مُتَناوِلَةً لِكُلِّ ما يَدِبُّ عَلى الأرْضِ، وإذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: إنّا نَحْمِلُهُ هَهُنا عَلى مُقْتَضى الوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، لا عَلى مُقْتَضى الوَضْعِ العُرْفِيِّ، وحِينَئِذٍ لا يُفِيدُ البُعْدَ؛ ولِأجْلِ هَذِهِ المُقارَبَةِ يُقامُ كُلُّ واحِدٍ مِنَ اللَّفْظَيْنِ مَقامَ الآخَرِ قالَ تَعالى: ﴿واذْكُرْ عِبادَنا إبْراهِيمَ وإسْحاقَ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿وكُلٌّ مِنَ الأخْيارِ﴾ [ص: ٤٥-٤٨] ثُمَّ قالَ: ﴿هَذا ذِكْرٌ﴾ [ص: ٤٩] وقالَ: ﴿وعِنْدَهم قاصِراتُ الطَّرْفِ أتْرابٌ﴾ ﴿هَذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الحِسابِ﴾ [ص: ٥٢، ٥٣] وقالَ: ﴿وجاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالحَقِّ ذَلِكَ ما كُنْتَ مِنهُ تَحِيدُ﴾ [ق: ١٩] وقالَ: ﴿فَأخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الآخِرَةِ والأُولى﴾ ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَن يَخْشى﴾ [النّازِعاتِ: ٢٥، ٢٦] وقالَ: ﴿ولَقَدْ كَتَبْنا في الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أنَّ الأرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ﴾ [الأنْبِياءِ: ١٠٥] ثُمَّ قالَ: ﴿إنَّ في هَذا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عابِدِينَ﴾ [الأنْبِياءِ: ١٠٦] وقالَ: ﴿فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ المَوْتى﴾ [البَقَرَةِ: ٧٣] أيْ هَكَذا يُحْيِي اللَّهُ المَوْتى، وقالَ: ﴿وما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسى﴾ [طه: ١٧] أيْ ما هَذِهِ الَّتِي بِيَمِينِكَ واللَّهُ أعْلَمُ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: لِمَ ذَكَّرَ اسْمَ الإشارَةِ والمُشارُ إلَيْهِ مُؤَنَّثٌ، وهو السُّورَةُ ؟ الجَوابُ: لا نُسَلِّمُ أنَّ المُشارَ إلَيْهِ مُؤَنَّثٌ؛ لِأنَّ المُؤَنَّثَ إمّا المُسَمّى أوِ الِاسْمُ، والأوَّلُ باطِلٌ، لِأنَّ المُسَمّى هو ذَلِكَ البَعْضُ مِنَ القُرْآنِ وهو لَيْسَ بِمُؤَنَّثٍ، وأمّا الِاسْمُ فَهو (الم) وهو لَيْسَ بِمُؤَنَّثٍ، نَعَمْ ذَلِكَ المُسَمّى لَهُ اسْمٌ آخَرُ وهو السُّورَةُ وهو مُؤَنَّثٌ، لَكِنَّ المَذْكُورَ السّابِقَ هو الِاسْمُ الَّذِي لَيْسَ بِمُؤَنَّثٍ وهو (الم)، لا الَّذِي هو مُؤَنَّثٌ وهو السُّورَةُ.
* * *
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: اعْلَمْ أنَّ أسْماءَ القُرْآنِ كَثِيرَةٌ: أحَدُها: الكِتابُ، وهو مَصْدَرٌ كالقِيامِ والصِّيامِ، وقِيلَ: فِعالٌ بِمَعْنى مَفْعُولٌ كاللِّباسِ بِمَعْنى المَلْبُوسِ، واتَّفَقُوا عَلى أنَّ المُرادَ مِنَ الكِتابِ القُرْآنُ قالَ: ﴿كِتابٌ أنْزَلْناهُ إلَيْكَ﴾ [ص: ٢٩] والكِتابُ جاءَ في القُرْآنِ عَلى وُجُوهٍ:
أحَدُها: الفَرْضُ ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصاصُ﴾ [البَقَرَةِ: ١٧٨] ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ﴾ [البَقَرَةِ: ١٨٢ ) ﴿إنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلى المُؤْمِنِينَ كِتابًا مَوْقُوتًا﴾ [النِّساءِ: ١٠٣] .
وثانِيها: الحُجَّةُ والبُرْهانُ ﴿فَأْتُوا بِكِتابِكم إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ [الصّافّاتِ: ١٥٧] أيْ بُرْهانِكم.
وثالِثُها: الأجَلُ ﴿وما أهْلَكْنا مِن قَرْيَةٍ إلّا ولَها كِتابٌ مَعْلُومٌ﴾ [الحِجْرِ: ٤] أيْ أجَلٌ.
ورابِعُها: بِمَعْنى مُكاتَبَةِ السَّيِّدِ عَبْدَهُ ﴿والَّذِينَ يَبْتَغُونَ الكِتابَ مِمّا مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ﴾ [النُّورِ: ٣٣] وهَذا المَصْدَرُ فِعالٌ بِمَعْنى المُفاعَلَةِ كالجِدالِ والخِصامِ والقِتالِ بِمَعْنى المُجادَلَةِ والمُخاصَمَةِ والمُقاتَلَةِ، واشْتِقاقُ الكُتُبِ مِن كَتَبْتُ الشَّيْءَ إذا جَمَعْتَهُ، وسُمِّيَتِ الكَتِيبَةُ لِاجْتِماعِها، فَسُمِّيَ الكِتابُ كِتابًا لِأنَّهُ كالكَتِيبَةِ عَلى عَساكِرِ الشُّبُهاتِ، أوْ لِأنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ جَمِيعُ العُلُومِ، أوْ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى ألْزَمَ فِيهِ التَّكالِيفَ عَلى الخَلْقِ.
وثانِيها: القُرْآنُ ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ والجِنُّ عَلى أنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذا القُرْآنِ﴾ [الإسْراءِ: ٨٨] ﴿إنّا جَعَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ [الزخرف: ٣] ﴿شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ﴾ [البقرة: ١٨٥]، ﴿إنَّ هَذا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هي أقْوَمُ﴾ [الإسراء: ٩] ولِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ قَوْلانِ:
أحَدُهُما: قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ القُرْآنَ والقِراءَةَ واحِدٌ، كالخُسْرانِ والخَسارَةِ واحِدٌ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿فَإذا قَرَأْناهُ فاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ [القِيامَةِ: ١٨] أيْ تِلاوَتَهُ، أيْ إذا تَلَوْناهُ عَلَيْكَ فاتَّبِعْ تِلاوَتَهُ.
الثّانِي وهو قَوْلُ قَتادَةَ: أنَّهُ مَصْدَرٌ مِن قَوْلِ القائِلِ: قَرَأْتُ الماءَ في الحَوْضِ إذا جَمَعْتَهُ، وقالَ سُفْيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: سُمِّيَ القُرْآنُ قُرْآنًا لِأنَّ الحُرُوفَ جُمِعَتْ فَصارَتْ كَلِماتٍ، والكَلِماتُ جُمِعَتْ فَصارَتْ آياتٍ، والآياتُ جُمِعَتْ فَصارَتْ سُوَرًا، والسُّوَرُ جُمِعَتْ فَصارَتْ قُرْآنًا، ثُمَّ جُمِعَ فِيهِ عُلُومُ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ. فالحاصِلُ أنَّ اشْتِقاقَ لَفْظِ القُرْآنِ إمّا مِنَ التِّلاوَةِ أوْ مِنَ الجَمْعِيَّةِ.
وثالِثُها: الفُرْقانُ ﴿تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ﴾ [الفُرْقانِ: ١] ﴿وبَيِّناتٍ مِنَ الهُدى والفُرْقانِ﴾ [البَقَرَةِ: ١٨٥] واخْتَلَفُوا في تَفْسِيرِهِ، فَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأنَّ نُزُولَهُ كانَ مُتَفَرِّقًا أنْزَلَهُ في نَيِّفٍ وعِشْرِينَ سَنَةً، ودَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وقُرْآنًا فَرَقْناهُ لِتَقْرَأهُ عَلى النّاسِ عَلى مُكْثٍ ونَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا﴾ [الإسْراءِ: ١٠٦] ونَزَلَتْ سائِرُ الكُتُبِ جُمْلَةً واحِدَةً، ووَجْهُ الحِكْمَةِ فِيهِ ذَكَرْناهُ في سُورَةِ الفُرْقانِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ﴾ [الفُرْقانِ: ٣٢] وقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ، والحَلالِ والحَرامِ، والمُجْمَلِ والمُبَيَّنِ، والمُحْكَمِ والمُؤَوَّلِ، وقِيلَ: الفُرْقانُ هو النَّجاةُ، وهو قَوْلُ عِكْرِمَةَ والسُّدِّيِّ، وذَلِكَ لِأنَّ الخَلْقَ في ظُلُماتِ الضَّلالاتِ فَبِالقُرْآنِ وجَدُوا النَّجاةَ، وعَلَيْهِ حَمَلَ المُفَسِّرُونَ قَوْلَهُ: ﴿وإذْ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ والفُرْقانَ لَعَلَّكم تَهْتَدُونَ﴾ [البَقَرَةِ: ٥٣] .
ورابِعُها: الذِّكْرُ، والتَّذْكِرَةُ، والذِّكْرى، أمّا الذِّكْرُ: ﴿وهَذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أنْزَلْناهُ﴾ [الأنْبِياءِ: ٥٠] ﴿إنّا نَحْنُ نَزَّلْنا الذِّكْرَ﴾ [الحِجْرِ: ٩] . ﴿وإنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ ولِقَوْمِكَ﴾ [الزُّخْرُفِ: ٤٤] وفِيهِ وجْهانِ:
أحَدُهُما: أنَّهُ ذِكْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى ذَكَّرَ بِهِ عِبادَهُ فَعَرَّفَهم تَكالِيفَهُ وأوامِرَهُ.
والثّانِي: أنَّهُ ذِكْرٌ وشَرَفٌ وفَخْرٌ لِمَن آمَنَ بِهِ، وأنَّهُ شَرَفٌ لِمُحَمَّدٍ ﷺ، وأُمَّتِهِ، وأمّا التَّذْكِرَةُ فَقَوْلُهُ: ﴿وإنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الحاقَّةِ: ٤٨] وأمّا الذِّكْرى فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وذَكِّرْ فَإنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ﴾ [الذّارِياتِ: ٥٥] .
وخامِسُها: التَّنْزِيلُ ﴿وإنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ العالَمِينَ﴾ ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ﴾ [الشُّعَراءِ: ١٩٢-١٩٣] .
وسادِسُها: الحَدِيثُ ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أحْسَنَ الحَدِيثِ كِتابًا﴾ [الزُّمَرِ: ٢٣] سَمّاهُ حَدِيثًا؛ لِأنَّ وُصُولَهُ إلَيْكَ حَدِيثٌ، ولِأنَّهُ تَعالى شَبَّهَهُ بِما يُتَحَدَّثُ بِهِ، فَإنَّ اللَّهَ خاطَبَ بِهِ المُكَلَّفِينَ.
وسابِعُها: المَوْعِظَةُ ﴿ياأيُّها النّاسُ قَدْ جاءَتْكم مَوْعِظَةٌ مِن رَبِّكُمْ﴾ [يُونُسَ: ٥٧] وهو في الحَقِيقَةِ مَوْعِظَةٌ لِأنَّ القائِلَ هو اللَّهُ تَعالى، والآخِذُ جِبْرِيلُ، والمُسْتَمْلِي مُحَمَّدٌ ﷺ، فَكَيْفَ لا تَقَعُ بِهِ المَوْعِظَةُ.
وثامِنُها: الحُكْمُ، والحِكْمَةُ، والحَكِيمُ، والمُحْكَمُ، أمّا الحُكْمُ فَقَوْلُهُ: ﴿وكَذَلِكَ أنْزَلْناهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا﴾ [الرَّعْدِ: ٣٧] وأمّا الحِكْمَةُ فَقَوْلُهُ: ﴿حِكْمَةٌ بالِغَةٌ﴾ [القَمَرِ: ٥] ﴿واذْكُرْنَ ما يُتْلى في بُيُوتِكُنَّ مِن آياتِ اللَّهِ والحِكْمَةِ﴾ [الأحْزابِ: ٣٤] وأمّا الحَكِيمُ فَقَوْلُهُ: ﴿يس﴾ ﴿والقُرْآنِ الحَكِيمِ﴾ [يس: ١، ٢] وأمّا المُحْكَمُ فَقَوْلُهُ: ﴿كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ﴾ [هود: ١] واخْتَلَفُوا في مَعْنى الحِكْمَةِ، فَقالَ الخَلِيلُ: هو مَأْخُوذٌ مِنَ الإحْكامِ والإلْزامِ، وقالَ المُؤَرِّجُ: هو مَأْخُوذٌ مِن حِكْمَةِ اللِّجامِ؛ لِأنَّها تَضْبِطُ الدّابَّةِ، والحِكْمَةُ تَمْنَعُ مِنَ السَّفَهِ.
وتاسِعُها: الشِّفاءُ ﴿ونُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ ما هو شِفاءٌ ورَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الإسراء: ٨٢] وقَوْلُهُ: ﴿وشِفاءٌ لِما في الصُّدُورِ﴾ [يُونُسَ: ٥٧] وفِيهِ وجْهانِ:
أحَدُهُما: أنَّهُ شِفاءٌ مِنَ الأمْراضِ.
والثّانِي: أنَّهُ شِفاءٌ مِن مَرَضِ الكُفْرِ، لِأنَّهُ تَعالى وصَفَ الكُفْرَ والشَّكَّ بِالمَرَضِ، فَقالَ: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ [البَقَرَةِ: ١٠] وبِالقُرْآنِ يَزُولُ كُلُّ شَكٍّ عَنِ القَلْبِ، فَصَحَّ وصْفُهُ بِأنَّهُ شِفاءٌ.
وعاشِرُها: الهُدى، والهادِي: أمّا الهُدى فَلِقَوْلِهِ: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البَقَرَةِ: ٢] ﴿هُدًى لِلنّاسِ﴾ [البَقَرَةِ: ١٨٥] ﴿وشِفاءٌ لِما في الصُّدُورِ وهُدًى ورَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [يُونُسَ: ٥٧] وأمّا الهادِي ﴿إنَّ هَذا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هي أقْوَمُ﴾ [الإسراء: ٩] وقالَتِ الجِنُّ: ﴿إنّا سَمِعْنا قُرْآنًا عَجَبًا﴾ ﴿يَهْدِي إلى الرُّشْدِ﴾ [الجِنِّ: ١] .
الحادِيَ عَشَرَ: الصِّراطُ المُسْتَقِيمُ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ في تَفْسِيرِهِ: إنَّهُ القُرْآنُ، وقالَ: ﴿وأنَّ هَذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فاتَّبِعُوهُ﴾ [الأنْعامِ: ١٥٣] .
والثّانِيَ عَشَرَ: الحَبْلُ: ﴿واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا﴾ [آلِ عِمْرانَ: ١٠٣] في التَّفْسِيرِ: إنَّهُ القُرْآنُ، وإنَّما سُمِّيَ بِهِ لِأنَّ المُعْتَصِمَ بِهِ في أُمُورِ دِينِهِ يَتَخَلَّصُ بِهِ مِن عُقُوبَةِ الآخِرَةِ ونَكالِ الدُّنْيا، كَما أنَّ المُتَمَسِّكَ بِالحَبْلِ يَنْجُو مِنَ الغَرَقِ والمَهالِكِ، ومِن ذَلِكَ سَمّاهُ النَّبِيُّ ﷺ عِصْمَةً فَقالَ: ”«إنَّ هَذا القُرْآنَ عِصْمَةٌ لِمَنِ اعْتَصَمَ بِهِ» “ لِأنَّهُ يَعْصِمُ النّاسَ مِنَ المَعاصِي.
الثّالِثَ عَشَرَ: الرَّحْمَةُ ﴿ونُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ ما هو شِفاءٌ ورَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الإسْراءِ: ٨٢] وأيُّ رَحْمَةٍ فَوْقَ التَّخْلِيصِ مِنَ الجَهالاتِ والضَّلالاتِ.
الرّابِعَ عَشَرَ: الرُّوحُ ﴿وكَذَلِكَ أوْحَيْنا إلَيْكَ رُوحًا مِن أمْرِنا﴾ [الشُّورى: ٥٢] ﴿يُنَزِّلُ المَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِن أمْرِهِ﴾ [النَّحْلِ: ٢] وإنَّما سُمِّيَ بِهِ لِأنَّهُ سَبَبٌ لِحَياةِ الأرْواحِ، وسُمِّيَ جِبْرِيلُ بِالرُّوحِ ﴿فَأرْسَلْنا إلَيْها رُوحَنا﴾ [مَرْيَمَ: ١٧] وعِيسى بِالرُّوحِ ﴿ألْقاها إلى مَرْيَمَ ورُوحٌ مِنهُ﴾ [النِّساءِ: ١٧١] .
الخامِسَ عَشَرَ: القَصَصُ ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أحْسَنَ القَصَصِ﴾ [يُوسُفَ: ٣] سُمِّيَ بِهِ لِأنَّهُ يَجِبُ اتِّباعُهُ ﴿وقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ﴾ [القَصَصِ: ١١] أيِ اتَّبِعِي أثَرَهُ؛ أوْ لِأنَّ القُرْآنَ يَتَتَبَّعُ قَصَصَ المُتَقَدِّمِينَ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ هَذا لَهو القَصَصُ الحَقُّ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ٦٢] .
السّادِسَ عَشَرَ: البَيانُ، والتِّبْيانُ، والمُبِينُ: أمّا البَيانُ فَقَوْلُهُ: ﴿هَذا بَيانٌ لِلنّاسِ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ١٣٨] والتِّبْيانُ فَهو قَوْلُهُ: ﴿ونَزَّلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ تِبْيانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النَّحْلِ: ٨٩] وأمّا المُبِينُ فَقَوْلُهُ: ﴿تِلْكَ آياتُ الكِتابِ المُبِينِ﴾ [يُوسُفَ: ١] .
السّابِعَ عَشَرَ: البَصائِرُ ﴿هَذا بَصائِرُ مِن رَبِّكُمْ﴾ [الأعْرافِ: ٢٠٣] أيْ هي أدِلَّةٌ يُبْصَرُ بِها الحَقُّ تَشْبِيهًا بِالبَصَرِ الَّذِي يَرى طَرِيقَ الخَلاصِ.
الثّامِنَ عَشَرَ: الفَصْلُ ﴿إنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ﴾ ﴿وما هو بِالهَزْلِ﴾ [الطّارِقِ: ١٣-١٤] واخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقِيلَ مَعْناهُ القَضاءُ، لِأنَّ اللَّهَ تَعالى يَقْضِي بِهِ بَيْنَ النّاسِ بِالحَقِّ قِيلَ لِأنَّهُ يَفْصِلُ بَيْنَ النّاسِ يَوْمَ القِيامَةِ فَيَهْدِي قَوْمًا إلى الجَنَّةِ ويَسُوقُ آخَرِينَ إلى النّارِ، فَمَن جَعَلَهُ إمامَهُ في الدُّنْيا قادَهُ إلى الجَنَّةِ، ومَن جَعَلَهُ وراءَهُ ساقَهُ إلى النّارِ.
التّاسِعَ عَشَرَ: النُّجُومُ ﴿فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ﴾ [الواقِعَةِ: ٧٥] ﴿والنَّجْمِ إذا هَوى﴾ [النَّجْمِ: ١] لِأنَّهُ نَزَلَ نَجْمًا نَجْمًا.
العِشْرُونَ: المَثانِي: ﴿مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾ [الزُّمَرِ: ٢٣] قِيلَ لِأنَّهُ ثَنّى فِيهِ القَصَصَ والأخْبارَ.
الحادِي والعِشْرُونَ: النِّعْمَةُ: ﴿وأمّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ [الضُّحى: ١١] قالَ ابْنُ عَبّاسٍ يَعْنِي بِهِ القُرْآنَ.
الثّانِي والعِشْرُونَ: البُرْهانُ ﴿قَدْ جاءَكم بُرْهانٌ مِن رَبِّكُمْ﴾ [النِّساءِ: ١٧٤] وكَيْفَ لا يَكُونُ بُرْهانًا وقَدْ عَجَزَتِ الفُصَحاءُ عَنْ أنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ.
الثّالِثُ والعِشْرُونَ: البَشِيرُ والنَّذِيرُ، وبِهَذا الِاسْمِ وقَعَتِ المُشارَكَةُ بَيْنَهُ وبَيْنَ الأنْبِياءِ قالَ تَعالى في صِفَةِ الرُّسُلِ: ﴿مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ﴾ [البَقَرَةِ: ٢١٣] وقالَ في صِفَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿إنّا أرْسَلْناكَ شاهِدًا ومُبَشِّرًا ونَذِيرًا﴾ [الفَتْحِ: ٨] وقالَ في صِفَةِ القُرْآنِ في حم السَّجْدَةِ ﴿بَشِيرًا ونَذِيرًا فَأعْرَضَ أكْثَرُهُمْ﴾ [فُصِّلَتْ: ٤] يَعْنِي مُبَشِّرًا بِالجَنَّةِ لِمَن أطاعَ وبِالنّارِ مُنْذِرًا لِمَن عَصى، ومِن هَهُنا نَذْكُرُ الأسْماءَ المُشْتَرَكَةَ بَيْنَ اللَّهِ تَعالى وبَيْنَ القُرْآنِ.
الرّابِعُ والعِشْرُونَ: القَيِّمُ ﴿قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا﴾ [الكَهْفِ: ٢] والدِّينُ أيْضًا قَيِّمٌ ﴿ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ﴾ [التَّوْبَةِ: ٣٦] واللَّهُ سُبْحانَهُ هو القَيُّومُ ﴿اللَّهُ لا إلَهَ إلّا هو الحَيُّ القَيُّومُ﴾ [البَقَرَةِ: ٢٥٥] وإنَّما سُمِّيَ قَيِّمًا لِأنَّهُ قائِمٌ بِذاتِهِ في البَيانِ والإفادَةِ.
الخامِسُ والعِشْرُونَ: المُهَيْمِنُ ﴿وأنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتابِ ومُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ [المائِدَةِ: ٤٨] وهو مَأْخُوذٌ مِنَ الأمِينِ، وإنَّما وُصِفَ بِهِ لِأنَّهُ مَن تَمَسَّكَ بِالقُرْآنِ أمِنَ الضَّرَرَ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، والرَّبُّ المُهَيْمِنُ أنْزَلَ الكِتابَ المُهَيْمِنَ عَلى النَّبِيِّ الأمِينِ لِأجْلِ قَوْمٍ هم أُمَناءُ اللَّهِ تَعالى عَلى خَلْقِهِ كَما قالَ: ﴿وكَذَلِكَ جَعَلْناكم أُمَّةً وسَطًا لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ﴾ [البَقَرَةِ: ١٤٣] .
السّادِسُ والعِشْرُونَ: الهادِي ﴿إنَّ هَذا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هي أقْوَمُ﴾ [الإسْراءِ: ٩] وقالَ: ﴿يَهْدِي إلى الرُّشْدِ﴾ [الجِنِّ: ٢] واللَّهُ تَعالى هو الهادِي لِأنَّهُ جاءَ في الخَبَرِ ”النُّورُ الهادِي“ .
السّابِعُ والعِشْرُونَ: النُّورُ ﴿اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [النُّورِ: ٣٥] وفي القُرْآنِ ﴿واتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ﴾ [الأعْرافِ: ١٥٧] يَعْنِي القُرْآنَ وسُمِّيَ الرَّسُولُ نُورًا ﴿قَدْ جاءَكم مِنَ اللَّهِ نُورٌ وكِتابٌ مُبِينٌ﴾ [المائِدَةِ: ١٥] يَعْنِي مُحَمَّدًا وسُمِّيَ دِينُهُ نُورًا ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأفْواهِهِمْ﴾ [الصَّفِّ: ٨] وسُمِّيَ بَيانُهُ نُورًا ﴿أفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإسْلامِ فَهو عَلى نُورٍ مِن رَبِّهِ﴾ [الزُّمَرِ: ٢٢] وسُمِّيَ التَّوْراةُ نُورًا ﴿إنّا أنْزَلْنا التَّوْراةَ فِيها هُدًى ونُورٌ﴾ [المائِدَةِ: ٤٤] وسُمِّيَ الإنْجِيلُ نُورًا ﴿وآتَيْناهُ الإنْجِيلَ فِيهِ هُدًى ونُورٌ﴾ [المائِدَةِ: ٤٦] وسَمّى الإيمانَ نُورًا ﴿يَسْعى نُورُهم بَيْنَ أيْدِيهِمْ﴾ [الحَدِيدِ: ١٢] .
الثّامِنُ والعِشْرُونَ: الحَقُّ: ورَدَ في الأسْماءِ ”الباعِثُ الشَّهِيدُ الحَقُّ“ والقُرْآنُ حَقٌّ ﴿وإنَّهُ لَحَقُّ اليَقِينِ﴾ [الحاقَّةِ: ٥١] فَسَمّاهُ اللَّهُ حَقًّا؛ لِأنَّهُ ضِدُّ الباطِلِ فَيُزِيلُ الباطِلَ كَما قالَ: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلى الباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإذا هو زاهِقٌ﴾ [الأنْبِياءِ: ١٨] أيْ ذاهِبٌ زائِلٌ. التّاسِعُ والعِشْرُونَ: العَزِيزُ ﴿وإنَّ رَبَّكَ لَهو العَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [الشُّعَراءِ: ٩] وفي صِفَةِ القُرْآنِ ﴿وإنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ﴾ [فُصِّلَتْ: ٤١] والنَّبِيُّ عَزِيزٌ ﴿لَقَدْ جاءَكم رَسُولٌ مِن أنْفُسِكم عَزِيزٌ عَلَيْهِ﴾ والأُمَّةُ عَزِيزَةٌ ﴿ولِلَّهِ العِزَّةُ ولِرَسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المُنافِقُونَ: ٨] فَرُبَّ عَزِيزٍ أنْزَلَ كِتابًا عَزِيزًا عَلى نَبِيٍّ عَزِيزٍ لِأُمَّةٍ عَزِيزَةٍ، ولِلْعَزِيزِ مَعْنَيانِ:
أحَدُهُما: القاهِرُ، والقُرْآنُ كَذَلِكَ؛ لِأنَّهُ هو الَّذِي قَهَرَ الأعْداءَ وامْتَنَعَ عَلى مَن أرادَ مُعارَضَتَهُ.
والثّانِي: أنْ لا يُوجَدَ مِثْلُهُ.
الثَّلاثُونَ: الكَرِيمُ ﴿إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ﴾ ﴿فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ﴾ [الواقِعَةِ: ٧٧] واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى سَمّى سَبْعَةَ أشْياءَ بِالكَرِيمِ ﴿ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ﴾ [الِانْفِطارِ: ٦٠] إذْ لا جَوادَ أجْوَدُ مِنهُ، والقُرْآنُ بِالكَرِيمِ، لِأنَّهُ لا يُسْتَفادُ مِن كِتابٍ مِنَ الحِكَمِ والعُلُومِ ما يُسْتَفادُ مِنهُ، وسَمّى مُوسى كَرِيمًا ﴿وجاءَهم رَسُولٌ كَرِيمٌ﴾ [الدُّخانِ: ١٧] وسَمّى ثَوابَ الأعْمالِ كَرِيمًا ﴿فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وأجْرٍ كَرِيمٍ﴾ [يس: ١١] وسَمّى عَرْشَهُ كَرِيمًا ﴿لا إلَهَ إلّا هو رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ﴾ [النَّمْلِ: ٢٦] لِأنَّهُ مَنزِلُ الرَّحْمَةِ، وسَمّى جِبْرِيلَ كَرِيمًا ﴿إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ [الحاقَّةِ: ٤٠] ومَعْناهُ أنَّهُ عَزِيزٌ، وسَمّى كِتابَ سُلَيْمانَ كَرِيمًا ﴿إنِّي أُلْقِيَ إلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ﴾ [النَّمْلِ: ٢٩] فَهو كِتابٌ كَرِيمٌ مِن رَبٍّ كَرِيمٍ نَزَلَ بِهِ مَلَكٌ كَرِيمٌ عَلى نَبِيٍّ كَرِيمٍ لِأجْلِ أُمَّةٍ كَرِيمَةٍ، فَإذا تَمَسَّكُوا بِهِ نالُوا ثَوابًا كَرِيمًا.
الحادِي والثَّلاثُونَ: العَظِيمُ: ﴿ولَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعًا مِنَ المَثانِي والقُرْآنَ العَظِيمَ﴾ [الحِجْرِ: ٨٧] واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى سَمّى نَفْسَهُ عَظِيمًا فَقالَ: ﴿وهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ﴾ [البَقَرَةِ: ٢٥٥] وعَرْشَهُ عَظِيمًا ﴿وهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ﴾ [التَّوْبَةِ: ١٢٩] وكِتابَهُ عَظِيمًا ﴿والقُرْآنَ العَظِيمَ﴾ [الحِجْرِ: ٨٧] ويَوْمَ القِيامَةِ عَظِيمًا ﴿لِيَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ ﴿يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبِّ العالَمِينَ﴾ [المُطَفِّفِينَ: ٥-٦] والزَّلْزَلَةَ عَظِيمَةً ﴿إنَّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ [الحَجِّ: ١] وخُلُقَ الرَّسُولِ عَظِيمًا ﴿وإنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القَلَمِ: ٤] والعِلْمَ عَظِيمًا ﴿وكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النِّساءِ: ١١٣] وكَيْدَ النِّساءِ عَظِيمًا ﴿إنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾ [يُوسُفَ: ٢٨] وسِحْرَ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ عَظِيمًا ﴿وجاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾ [الأعْرافِ: ١١٦] وسَمّى نَفْسَ الثَّوابِ عَظِيمًا ﴿وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ مِنهم مَغْفِرَةً وأجْرًا عَظِيمًا﴾ [الفَتْحِ: ٢٩] وسَمّى عِقابَ المُنافِقِينَ عَظِيمًا ﴿ولَهم عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ١٧٦] .
الثّانِي والثَّلاثُونَ: المُبارَكُ: ﴿وهَذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ﴾ [الأنْبِياءِ: ٥٠] وسَمّى اللَّهُ تَعالى بِهِ أشْياءَ، فَسَمّى المَوْضِعَ الَّذِي كَلَّمَ فِيهِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ مُبارَكًا ﴿فِي البُقْعَةِ المُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ﴾ [القَصَصِ: ٣٠] وسَمّى شَجَرَةَ الزَّيْتُونِ مُبارَكَةً ﴿يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ﴾ [التَّوْبَةِ: ٣٥] لِكَثْرَةِ مَنافِعِها، وسَمّى عِيسى مُبارَكًا ﴿وجَعَلَنِي مُبارَكًا﴾ [مَرْيَمَ: ٣١] وسَمّى المَطَرَ مُبارَكًا ﴿ونَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكًا﴾ [ق: ٩] لِما فِيهِ مِنَ المَنافِعِ، وسَمّى لَيْلَةَ القَدْرِ مُبارَكَةً ﴿إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ﴾ [الدُّخانِ: ٣] فالقُرْآنُ ذِكْرٌ مُبارَكٌ أنْزَلَهُ مَلَكٌ مُبارَكٌ في لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ عَلى نَبِيٍّ مُبارَكٍ لِأُمَّةٍ مُبارَكَةٍ.
* * *
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: في بَيانِ اتِّصالِ قَوْلِهِ: ﴿الم﴾ بِقَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ الكِتابُ﴾ قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: إنْ جَعَلْتَ ﴿الم﴾ اسْمًا لِلسُّورَةِ فَفي التَّأْلِيفِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: أنْ يَكُونَ ﴿الم﴾ مُبْتَدَأً و﴿ذَلِكَ﴾ مُبْتَدَأً ثانِيًا و﴿الكِتابُ﴾ خَبَرَهُ والجُمْلَةُ خَبَرُ المُبْتَدَأِ الأوَّلِ، ومَعْناهُ أنَّ ذَلِكَ هو الكِتابُ الكامِلُ، كَأنَّ ما عَداهُ مِنَ الكُتُبِ في مِقابَلَتِهِ ناقِصٌ، وإنَّهُ الَّذِي يَسْتَأْهِلُ أنْ يَكُونَ كِتابًا كَما تَقُولُ: هو الرَّجُلُ، أيِ الكامِلُ في الرُّجُولِيَّةِ الجامِعُ لِما يَكُونُ في الرِّجالِ مِن مُرْضِياتِ الخِصالِ، وأنْ يَكُونَ الكِتابُ صِفَةً، ومَعْناهُ هو ذَلِكَ الكِتابُ المَوْعُودُ، وأنْ يَكُونَ ﴿الم﴾ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أيْ هَذِهِ ﴿الم﴾ ويَكُونَ ﴿ذَلِكَ الكِتابُ﴾ خَبَرًا ثانِيًا أوْ بَدَلًا عَلى أنَّ الكِتابَ صِفَةٌ، ومَعْناهُ هو ذَلِكَ، وأنْ تَكُونَ هَذِهِ ﴿الم﴾ جُمْلَةً و﴿ذَلِكَ الكِتابُ﴾ جُمْلَةً أُخْرى وإنْ جُعِلَتْ ﴿الم﴾ بِمَنزِلَةِ الصَّوْتِ كانَ ﴿ذَلِكَ﴾ مُبْتَدَأً وخَبَرُهُ ﴿الكِتابُ﴾ أيْ ذَلِكَ الكِتابُ المُنَزَّلُ هو الكِتابُ الكامِلُ، أوِ الكِتابُ صِفَةٌ والخَبَرُ ما بَعْدَهُ، أوْ قُدِّرَ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفٌ، أيْ هو يَعْنِي المُؤَلَّفَ مِن هَذِهِ الحُرُوفِ ذَلِكَ الكِتابُ وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ ﴿الم﴾ ﴿تَنْزِيلُ الكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ﴾ [السَّجْدَةِ: ٢] وتَأْلِيفُ هَذا ظاهِرٌ.
* *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ فِيهِ مَسْألَتانِ:
المَسْألَةُ الأُولى: الرَّيْبُ قَرِيبٌ مِنَ الشَّكِّ، وفِيهِ زِيادَةٌ، كَأنَّهُ ظَنُّ سُوءٍ، تَقُولُ رابَنِي أمْرُ فُلانٍ إذا ظَنَنْتَ بِهِ سُوءًا، ومِنها قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«دَعْ ما يَرِيبُكَ إلى ما لا يَرِيبُكَ» “ فَإنْ قِيلَ: قَدْ يُسْتَعْمَلُ الرَّيْبُ في قَوْلِهِمْ: ”رَيْبُ الدَّهْرِ“ و”رَيْبُ الزَّمانِ“ أيْ حَوادِثُهُ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المَنُونِ﴾ [الطُّورِ: ٣٠] ويُسْتَعْمَلُ أيْضًا في مَعْنى ما يَخْتَلِجُ في القَلْبِ مِن أسْبابِ الغَيْظِ كَقَوْلِ الشّاعِرِ:
قَضَيْنا مِن تِهامَةَ كُلَّ رَيْبٍ وخَيْبَرَ ثُمَّ أجْمَعْنا السُّيُوفا
قُلْنا: هَذانِ قَدْ يَرْجِعانِ إلى مَعْنى الشَّكِّ، لِأنَّ ما يُخافُ مِن رَيْبِ المَنُونِ مُحْتَمَلٌ، فَهو كالمَشْكُوكِ فِيهِ، وكَذَلِكَ ما اخْتَلَجَ بِالقَلْبِ فَهو غَيْرُ مَتَيَقَّنٍ، فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ المُرادُ مِنهُ نَفْيُ كَوْنِهِ مَظِنَّةً لِلرَّيْبِ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، والمَقْصُودُ أنَّهُ لا شُبْهَةَ في صِحَّتِهِ، ولا في كَوْنِهِ مِن عِنْدِ اللَّهِ، ولا في كَوْنِهِ مُعْجِزًا. ولَوْ قُلْتَ: المُرادُ لا رَيْبَ في كَوْنِهِ مُعْجِزًا عَلى الخُصُوصِ كانَ أقْرَبَ لِتَأْكِيدِ هَذا التَّأْوِيلِ بِقَوْلِهِ: ﴿وإنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا﴾ [البَقَرَةِ: ٢٣] وهَهُنا سُؤالاتٌ:
السُّؤالُ الأوَّلُ: طَعَنَ بَعْضُ المُلْحِدَةِ فِيهِ فَقالَ: إنْ عَنى أنَّهُ لا شَكَّ فِيهِ عِنْدَنا فَنَحْنُ قَدْ نَشُكُّ فِيهِ، وإنْ عَنى أنَّهُ لا شَكَّ فِيهِ عِنْدَهُ فَلا فائِدَةَ فِيهِ. الجَوابُ: المُرادُ أنَّهُ بَلَغَ في الوُضُوحِ إلى حَيْثُ لا يَنْبَغِي لِمُرْتابٍ أنْ يَرْتابَ فِيهِ، والأمْرُ كَذَلِكَ؛ لِأنَّ العَرَبَ مَعَ بُلُوغِهِمْ في الفَصاحَةِ إلى النِّهايَةِ عَجَزُوا عَنْ مُعارَضَةِ أقْصَرِ سُورَةٍ مِنَ القُرْآنِ، وذَلِكَ يَشْهَدُ بِأنَّهُ بَلَغَتْ هَذِهِ الحُجَّةُ في الظُّهُورِ إلى حَيْثُ لا يَجُوزُ لِلْعاقِلِ أنْ يَرْتابَ فِيهِ.
السُّؤالُ الثّانِي: لِمَ قالَ هَهُنا: ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ وفي مَوْضِعٍ آخَرَ ﴿لا فِيها غَوْلٌ﴾ [الصّافّاتِ: ٤٧] ؟ الجَوابُ: لِأنَّهم يُقَدِّمُونَ الأهَمَّ فالأهَمَّ، وهَهُنا الأهَمُّ نَفْيُ الرَّيْبِ بِالكُلِّيَّةِ عَنِ الكِتابِ، ولَوْ قُلْتَ: لا فِيهِ رَيْبٌ لَأوْهَمَ أنَّ هُناكَ كِتابًا آخَرَ حَصَلَ الرَّيْبُ فِيهِ لا هَهُنا، كَما قَصَدَ في قَوْلِهِ: ﴿لا فِيها غَوْلٌ﴾ تَفْضِيلَ خَمْرِ الجَنَّةِ عَلى خُمُورِ الدُّنْيا، فَإنَّها لا تَغْتالُ العُقُولَ كَما تَغْتالُها خَمْرَةُ الدُّنْيا.
السُّؤالُ الثّالِثُ: مِن أيْنَ يَدُلُّ قَوْلُهُ: ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ عَلى نَفْيِ الرَّيْبِ بِالكُلِّيَّةِ ؟ الجَوابُ: قَرَأ أبُو الشَّعْثاءِ ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ بِالرَّفْعِ. واعْلَمْ أنَّ القِراءَةَ المَشْهُورَةَ تُوجِبُ ارْتِفاعَ الرَّيْبِ بِالكُلِّيَّةِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿لا رَيْبَ﴾ نَفْيٌ لِماهِيَّةِ الرَّيْبِ ونَفْيُ الماهِيَّةِ يَقْتَضِي نَفْيَ كُلِّ فَرْدٍ مِن أفْرادِ الماهِيَّةِ، لِأنَّهُ لَوْ ثَبَتَ فَرْدٌ مِن أفْرادِ الماهِيَّةِ لَثَبَتَتِ الماهِيَّةُ، وذَلِكَ يُناقِضُ نَفْيَ الماهِيَّةِ، ولِهَذا السِّرِّ كانَ قَوْلُنا: ”لا إلَهَ إلّا اللَّهُ“ نَفْيًا لِجَمِيعِ الآلِهَةِ سِوى اللَّهِ تَعالى. وأمّا قَوْلُنا: ”لا رَيْبُ فِيهِ“ بِالرَّفْعِ فَهو نَقِيضٌ لِقَوْلِنا: ”رَيْبَ فِيهِ“ وهو يُفِيدُ ثُبُوتَ فَرْدٍ واحِدٍ، فَذَلِكَ النَّفْيُ يُوجِبُ انْتِفاءَ جَمِيعِ الأفْرادِ لِيَتَحَقَّقَ التَّناقُضُ.
الوَقْفُ عَلى ”فِيهِ“:
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: الوَقْفُ عَلى ﴿فِيهِ﴾ هو المَشُهُورُ، وعَنْ نافِعٍ وعاصِمٍ أنَّهُما وقَفا عَلى ﴿لا رَيْبَ﴾ ولا بُدَّ لِلْواقِفِ مِن أنْ يَنْوِيَ خَبَرًا، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ: ﴿قالُوا لا ضَيْرَ﴾ [الشُّعَراءِ: ٥٠] وقَوْلُ العَرَبِ: لا بَأْسَ، وهي كَثِيرَةٌ في لِسانِ أهْلِ الحِجازِ؛ والتَّقْدِيرُ: (لا رَيْبَ فِيهِ فِيهِ هُدًى) . واعْلَمْ أنَّ القِراءَةَ الأُولى أوْلى؛ لِأنَّ عَلى القِراءَةِ الأُولى يَكُونُ الكِتابُ نَفْسُهُ هُدًى، وفي الثّانِيَةِ لا يَكُونُ الكِتابُ نَفْسُهُ هُدًى، بَلْ يَكُونُ فِيهِ هُدًى، والأوَّلُ أوْلى لِما تَكَرَّرَ في القُرْآنِ مِن أنَّ القُرْآنَ نُورٌ وهُدًى، واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ فِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: في حَقِيقَةِ الهُدى: الهُدى عِبارَةٌ عَنِ الدَّلالَةِ، وقالَ صاحِبُ الكَشّافِ: الهُدى هو الدَّلالَةُ المُوَصِّلَةُ إلى البُغْيَةِ، وقالَ آخَرُونَ: الهُدى هو الِاهْتِداءُ والعِلْمُ. والَّذِي يَدُلُّ عَلى صِحَّةِ القَوْلِ الأوَّلِ وفَسادِ القَوْلِ الثّانِي والثّالِثِ أنَّهُ لَوْ كانَ كَوْنُ الدَّلالَةِ مُوَصِّلَةً إلى البُغْيَةِ مُعْتَبَرًا في مُسَمّى الهُدى لامْتَنَعَ حُصُولُ الهُدى عِنْدَ عَدَمِ الِاهْتِداءِ، لِأنَّ كَوْنَ الدَّلالَةِ مُوَصِّلَةً إلى الِاهْتِداءِ حالَ عَدَمِ الِاهْتِداءِ مُحالٌ، لَكِنَّهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهم فاسْتَحَبُّوا العَمى عَلى الهُدى﴾ [فُصِّلَتْ: ١٧] أثْبَتَ الهُدى مَعَ عَدَمِ الِاهْتِداءِ، ولِأنَّهُ يَصِحُّ في لُغَةِ العَرَبِ أنْ يُقالَ: هَدَيْتُهُ فَلَمْ يَهْتَدِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى قَوْلِنا، واحْتَجَّ صاحِبُ الكَشّافِ بِأُمُورٍ ثَلاثَةٍ:
أوَّلُها: وُقُوعُ الضَّلالَةِ في مُقابَلَةِ الهُدى، قالَ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدى﴾ [البَقَرَةِ: ١٦] وقالَ: ﴿لَعَلى هُدًى أوْ في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [سَبَأٍ: ٢٤] .
وثانِيها: يَقُولُ مَهْدِيٌّ في مَوْضِعِ المَدْحِ كَمُهْتَدٍ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِن شَرْطِ الهُدى كَوْنُ الدَّلالَةِ مُوَصِّلَةً إلى البُغْيَةِ لَمْ يَكُنِ الوَصْفُ بِكَوْنِهِ مَهْدِيًّا مَدْحًا؛ لِاحْتِمالِ أنَّهُ هُدِيَ فَلَمْ يَهْتَدِ.
وثالِثُها: أنَّ اهْتَدى مُطاوِعُ هَدى، يُقالُ: هَدَيْتُهُ فاهْتَدى، كَما يُقالُ: كَسَرْتُهُ فانْكَسَرَ، وقَطَعْتُهُ فانْقَطَعَ، فَكَما أنَّ الِانْكِسارَ والِانْقِطاعَ لازِمانِ لِلْكَسْرِ والقَطْعِ، وجَبَ أنْ يَكُونَ الِاهْتِداءُ مِن لَوازِمِ الهُدى.
والجَوابُ عَنِ الأوَّلِ: أنَّ الفَرْقَ بَيْنَ الهُدى وبَيْنَ الِاهْتِداءِ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ، فَمُقابِلُ الهُدى هو الضَّلالُ، ومُقابِلُ الِاهْتِداءِ هو الإضْلالُ، فَجَعْلُ الهُدى في مُقابَلَةِ الضَّلالِ مُمْتَنِعٌ.
وعَنِ الثّانِي: أنَّ المُنْتَفِعَ بِالهُدى سُمِّيَ مَهْدِيًّا، وغَيْرُ المُنْتَفِعِ بِهِ لا يُسَمّى مَهْدِيًّا؛ ولِأنَّ الوَسِيلَةَ إذا لَمْ تُفْضِ إلى المَقْصُودِ كانَتْ نازِلَةً مَنزِلَةَ المَعْدُومِ.
وعَنِ الثّالِثِ: أنَّ الِائْتِمارَ مُطاوِعُ الأمْرِ، يُقالُ: أمَرْتُهُ فائْتَمَرَ، ولَمْ يَلْزَمْ مِنهُ أنْ يَكُونَ مِن شَرْطِ كَوْنِهِ آمِرًا حُصُولُ الِائْتِمارِ، فَكَذا هَذا لا يَلْزَمُ مِن كَوْنِهِ هُدًى أنْ يَكُونَ مُفْضِيًا إلى الِاهْتِداءِ، عَلى أنَّهُ مُعارَضٌ بِقَوْلِهِ: هَدَيْتُهُ فَلَمْ يَهْتَدِ، ومِمّا يَدُلُّ عَلى فَسادِ قَوْلِ مَن قالَ: الهُدى هو العِلْمُ خاصَّةً أنَّ اللَّهَ تَعالى وصَفَ القُرْآنَ بِأنَّهُ هُدًى ولا شَكَّ أنَّهُ في نَفْسِهِ لَيْسَ بِعِلْمٍ، فَدَلَّ عَلى أنَّ الهُدى هو الدَّلالَةُ لا الِاهْتِداءُ والعِلْمُ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: المُتَّقِي في اللُّغَةِ اسْمُ فاعِلٍ مِن قَوْلِهِمْ وقاهُ فاتَّقى، والوِقايَةُ فَرْطُ الصِّيانَةِ، إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: إنَّ اللَّهَ تَعالى ذَكَرَ المُتَّقِي هَهُنا في مَعْرِضِ المَدْحِ، ومَن يَكُونُ كَذَلِكَ أوْلى بِأنْ يَكُونَ مُتَّقِيًا في أُمُورِ الدُّنْيا، بَلْ بِأنْ يَكُونَ مُتَّقِيًا فِيما يَتَّصِلُ بِالدِّينِ، وذَلِكَ بِأنْ يَكُونَ آتِيًا بِالعِباداتِ مُحْتَرِزًا عَنِ المَحْظُوراتِ. واخْتَلَفُوا في أنَّهُ هَلْ يَدْخُلُ اجْتِنابُ الصَّغائِرِ في التَّقْوى ؟ فَقالَ بَعْضُهم: يَدْخُلُ كَما يَدْخُلُ الصَّغائِرُ في الوَعِيدِ، وقالَ آخَرُونَ: لا يَدْخُلُ، ولا نِزاعَ في وُجُوبِ التَّوْبَةِ عَنِ الكُلِّ، إنَّما النِّزاعُ في أنَّهُ إذا لَمْ يَتَوَقَّ الصَّغائِرَ هَلْ يَسْتَحِقُّ هَذا الِاسْمَ ؟ فَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - أنَّهُ قالَ: ”«لا يَبْلُغُ العَبْدُ دَرَجَةَ المُتَّقِينَ حَتّى يَدَعَ ما لا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمّا بِهِ البَأْسُ» “ وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: أنَّهُمُ الَّذِينَ يَحْذَرُونَ مِنَ اللَّهِ العُقُوبَةَ في تَرْكِ ما يَمِيلُ الهَوى إلَيْهِ، ويَرْجُونَ رَحْمَتَهُ بِالتَّصْدِيقِ بِما جاءَ مِنهُ. واعْلَمْ أنَّ التَّقْوى هي الخَشْيَةُ، قالَ في أوَّلِ النِّساءِ: ﴿ياأيُّها النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ﴾ [النِّساءِ: ١] ومِثْلُهُ في أوَّلِ الحَجِّ، وفي الشُّعَراءِ: ﴿إذْ قالَ لَهم أخُوهم نُوحٌ ألا تَتَّقُونَ﴾ [هُودٍ: ١٠٦] يَعْنِي ألا تَخْشَوْنَ اللَّهَ، وكَذَلِكَ قالَ هُودٌ، وصالِحٌ، ولُوطٌ، وشُعَيْبٌ لِقَوْمِهِمْ، وفي العَنْكَبُوتِ قالَ إبْراهِيمُ لِقَوْمِهِ: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ واتَّقُوهُ﴾ [نُوحٍ: ٣] يَعْنِي اخْشَوْهُ، وكَذا قَوْلُهُ: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ١٠٢] ﴿وتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزّادِ التَّقْوى﴾ [البَقَرَةِ: ١٩٧] ﴿واتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا﴾ [البَقَرَةِ: ٤٨] واعْلَمْ أنَّ حَقِيقَةَ التَّقْوى، وإنْ كانَتْ هي الَّتِي ذَكَرْناها، إلّا أنَّها قَدْ جاءَتْ في القُرْآنِ، والغَرَضُ الأصْلِيُّ مِنها الإيمانُ تارَةً، والتَّوْبَةُ أُخْرى، والطّاعَةُ ثالِثَةً، وتَرْكُ المَعْصِيَةِ رابِعًا، والإخْلاصُ خامِسًا، أمّا الإيمانُ فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وألْزَمَهم كَلِمَةَ التَّقْوى﴾ [الفَتْحِ: ٢٦] أيِ التَّوْحِيدَ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهم لِلتَّقْوى﴾ [الحُجُراتِ: ٣] وفي الشُّعَراءِ ﴿قَوْمَ فِرْعَوْنَ ألا يَتَّقُونَ﴾ [الشُّعَراءِ: ١١] أيْ ألا يُؤْمِنُونَ، وأمّا التَّوْبَةُ فَقَوْلُهُ: ﴿ولَوْ أنَّ أهْلَ القُرى آمَنُوا واتَّقَوْا﴾ [الأعْرافِ: ٩٦] أيْ تابُوا، وأمّا الطّاعَةُ فَقَوْلُهُ في النَّحْلِ: ﴿أنْ أنْذِرُوا أنَّهُ لا إلَهَ إلّا أنا فاتَّقُونِ﴾ [النَّحْلِ: ٢] وفِيهِ أيْضًا: ﴿أفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ﴾ [النَّحْلِ: ٥٢] وفي المُؤْمِنِينَ ﴿وأنا رَبُّكم فاتَّقُونِ﴾ [المُؤْمِنُونَ: ٥٢] وأمّا تَرْكُ المَعْصِيَةِ فَقَوْلُهُ: ﴿وأْتُوا البُيُوتَ مِن أبْوابِها واتَّقُوا اللَّهَ﴾ [البَقَرَةِ: ١٨٩] أيْ فَلا تَعْصُوهُ، وأمّا الإخْلاصُ فَقَوْلُهُ في الحَجِّ: ﴿فَإنَّها مِن تَقْوى القُلُوبِ﴾ [الحَجِّ: ٣٢] أيْ مِن إخْلاصِ القُلُوبِ، فَكَذا قَوْلُهُ: ﴿وإيّايَ فاتَّقُونِ﴾ [البَقَرَةِ: ٤١] واعْلَمْ أنَّ مَقامَ التَّقْوى مَقامٌ شَرِيفٌ، قالَ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا والَّذِينَ هم مُحْسِنُونَ﴾ [النَّحْلِ: ١٢٨] وقالَ: ﴿إنَّ أكْرَمَكم عِنْدَ اللَّهِ أتْقاكُمْ﴾ [الحُجُراتِ: ١٣] وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«مَن أحَبَّ أنْ يَكُونَ أكْرَمَ النّاسِ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ، ومَن أحَبَّ أنْ يَكُونَ أقْوى النّاسِ فَلْيَتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ، ومَن أحَبَّ أنْ يَكُونَ أغْنى النّاسِ فَلْيَكُنْ بِما في يَدِ اللَّهِ أوْثَقَ مِمّا في يَدِهِ» “، وقالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ: التَّقْوى تَرْكُ الإصْرارِ عَلى المَعْصِيَةِ، وتَرْكُ الِاغْتِرارِ بِالطّاعَةِ. قالَ الحَسَنُ: التَّقْوى أنْ لا تَخْتارَ عَلى اللَّهِ سِوى اللَّهِ، وتَعْلَمَ أنَّ الأُمُورَ كُلَّها بِيَدِ اللَّهِ. وقالَ إبْراهِيمُ بْنُ أدْهَمَ: التَّقْوى أنْ لا يَجِدَ الخَلْقُ في لِسانِكَ عَيْبًا، ولا المَلائِكَةُ في أفْعالِكَ عَيْبًا، ولا مَلِكُ العَرْشِ في سِرِّكَ عَيْبًا، وقالَ الواقِدِيُّ: التَّقْوى أنْ تُزَيِّنَ سِرَّكَ لِلْحَقِّ كَما زَيَّنْتَ ظاهِرَكَ لِلْخَلْقِ، ويُقالُ: التَّقْوى أنْ لا يَراكَ مَوْلاكَ حَيْثُ نَهاكَ، ويُقالُ: المُتَّقِي مَن سَلَكَ سَبِيلَ المُصْطَفى، ونَبَذَ الدُّنْيا وراءَ القَفا، وكَلَّفَ نَفْسَهُ الإخْلاصَ والوَفا، واجْتَنَبَ الحَرامَ والجَفا، ولَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُتَّقِي فَضِيلَةٌ إلّا ما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ كَفاهُ؛ لِأنَّهُ تَعالى بَيَّنَ أنَّ القُرْآنَ هُدًى لِلنّاسِ في قَوْلِهِ: ﴿شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى لِلنّاسِ﴾ [البَقَرَةِ: ١٨٥] ثُمَّ قالَ هَهُنا في القُرْآنِ: إنَّهُ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ المُتَّقِينَ هم كُلُّ النّاسِ، فَمَن لا يَكُونُ مُتَّقِيًا كَأنَّهُ لَيْسَ بِإنْسانٍ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: في السُّؤالاتِ: السُّؤالُ الأوَّلُ: كَوْنُ الشَّيْءِ هُدًى ودَلِيلًا لا يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ شَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ، فَلِماذا جَعَلَ القُرْآنَ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ فَقَطْ ؟ وأيْضًا فالمُتَّقِي مُهْتَدٍ، والمُهْتَدِي لا يَهْتَدِي ثانِيًا، والقُرْآنُ لا يَكُونُ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ. الجَوابُ: القُرْآنُ كَما أنَّهُ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ودَلالَةٌ لَهم عَلى وُجُودِ الصّانِعِ، وعَلى دِينِهِ وصِدْقِ رَسُولِهِ، فَهو أيْضًا دَلالَةٌ لِلْكافِرِينَ، إلّا أنَّ اللَّهَ تَعالى ذَكَرَ المُتَّقِينَ مَدْحًا لِيُبَيِّنَ أنَّهم هُمُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا وانْتَفَعُوا بِهِ كَما قالَ: ﴿إنَّما أنْتَ مُنْذِرُ مَن يَخْشاها﴾ [النّازِعاتِ: ٤٥] وقالَ: ﴿إنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ﴾ [يس: ١١] وقَدْ كانَ عَلَيْهِ السَّلامُ مُنْذِرًا لِكُلِّ النّاسِ، فَذَكَرَ هَؤُلاءِ النّاسَ لِأجْلِ أنَّ هَؤُلاءِ هُمُ الَّذِينَ انْتَفَعُوا بِإنْذارِهِ، وأمّا مَن فَسَّرَ الهُدى بِالدَّلالَةِ المُوَصِّلَةِ إلى المَقْصُودِ فَهَذا السُّؤالُ زائِلٌ عَنْهُ؛ لِأنَّ كَوْنَ القُرْآنِ مُوَصِّلًا إلى المَقْصُودِ لَيْسَ إلّا في حَقِّ المُتَّقِينَ. السُّؤالُ الثّانِي: كَيْفَ وصَفَ القُرْآنَ كُلَّهُ بِأنَّهُ هُدًى وفِيهِ مُجْمَلٌ ومُتَشابِهٌ كَثِيرٌ؛ ولَوْلا دَلالَةُ العَقْلِ لَما تَمَيَّزَ المُحْكَمُ عَنِ المُتَشابِهِ، فَيَكُونُ الهُدى في الحَقِيقَةِ هو الدَّلالَةُ العَقْلِيَّةُ لا القُرْآنُ، ومِن هَذا نُقِلَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّهُ قالَ لِابْنِ عَبّاسٍ حِينَ بَعَثَهُ رَسُولًا إلى الخَوارِجِ: لا تَحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِالقُرْآنِ، فَإنَّهُ خَصْمٌ ذُو وجْهَيْنِ، ولَوْ كانَ هُدًى لَما قالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ ذَلِكَ فِيهِ؛ ولِأنّا نَرى جَمِيعَ فِرَقِ الإسْلامِ يَحْتَجُّونَ بِهِ، ونَرى القُرْآنَ مَمْلُوءًا مِن آياتٍ بَعْضُها صَرِيحٌ في الجَبْرِ وبَعْضُها صَرِيحٌ في القَدَرِ، فَلا يُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بَيْنَهُما إلّا بِالتَّعَسُّفِ الشَّدِيدِ، فَكَيْفَ يَكُونُ هُدًى ؟
الجَوابُ: أنَّ ذَلِكَ المُتَشابِهَ والمُجْمَلَ لَمّا لَمْ يَنْفَكَّ عَمّا هو المُرادُ عَلى التَّعْيِينِ - وهو إمّا دَلالَةُ العَقْلِ أوْ دَلالَةُ السَّمْعِ - صارَ كُلُّهُ هُدًى. السُّؤالُ الثّالِثُ: كُلُّ ما يَتَوَقَّفُ صِحَّةُ كَوْنِ القُرْآنِ حُجَّةً عَلى صِحَّتِهِ لَمْ يَكُنِ القُرْآنُ هُدًى فِيهِ، فَإذَنِ اسْتَحالَ كَوْنُ القُرْآنِ هُدًى في مَعْرِفَةِ ذاتِ اللَّهِ تَعالى وصِفاتِهِ، وفي مَعْرِفَةِ النُّبُوَّةِ، ولا شَكَّ أنَّ هَذِهِ المَطالِبَ أشْرَفُ المَطالِبِ، فَإذا لَمْ يَكُنِ القُرْآنُ هُدًى فِيها فَكَيْفَ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعالى هُدًى عَلى الإطْلاقِ ؟
الجَوابُ: لَيْسَ مِن شَرْطِ كَوْنِهِ هُدًى أنْ يَكُونَ هُدًى في كُلِّ شَيْءٍ، بَلْ يَكْفِي فِيهِ أنْ يَكُونَ هُدًى في بَعْضِ الأشْياءِ، وذَلِكَ بِأنْ يَكُونَ هُدًى في تَعْرِيفِ الشَّرائِعِ، أوْ يَكُونَ هُدًى في تَأْكِيدِ ما في العُقُولِ، وهَذِهِ الآيَةُ مِن أقْوى الدَّلائِلِ عَلى أنَّ المُطْلَقَ لا يَقْتَضِي العُمُومَ، فَإنَّ اللَّهَ تَعالى وصَفَهُ بِكَوْنِهِ هُدًى مِن غَيْرِ تَقْيِيدٍ في اللَّفْظِ، مَعَ أنَّهُ يَسْتَحِيلُ أنْ يَكُونَ هُدًى في إثْباتِ الصّانِعِ وصِفاتِهِ وإثْباتِ النُّبُوَّةِ، فَثَبَتَ أنَّ المُطْلَقَ لا يُفِيدُ العُمُومَ.
السُّؤالُ الرّابِعُ: الهُدى هو الَّذِي بَلَغَ في البَيانِ والوُضُوحِ إلى حَيْثُ بَيَّنَ غَيْرَهُ، والقُرْآنُ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإنَّ المُفَسِّرِينَ ما يَذْكُرُونَ آيَةً إلّا وذَكَرُوا فِيها أقْوالًا كَثِيرَةً مُتَعارِضَةً، وما يَكُونُ كَذَلِكَ لا يَكُونُ مُبَيِّنًا في نَفْسِهِ، فَضْلًا عَنْ أنْ يَكُونَ مُبَيِّنًا لِغَيْرِهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ هُدًى ؟ قُلْنا: مَن تَكَلَّمَ في التَّفْسِيرِ بِحَيْثُ يُورِدُ الأقْوالَ المُتَعارِضَةَ، ولا يُرَجِّحُ واحِدًا مِنها عَلى الباقِي، يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ هو هَذا السُّؤالُ، وأمّا نَحْنُ فَقَدَ رَجَّحْنا واحِدًا عَلى البَواقِي بِالدَّلِيلِ فَلا يَتَوَجَّهُ عَلَيْنا هَذا السُّؤالُ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: مَحَلُّ ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ الرَّفْعُ؛ لِأنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أوْ خَبَرٌ مَعَ ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ لِـ ﴿ذَلِكَ﴾، أوْ مُبْتَدَأٌ إذا جُعِلَ الظَّرْفُ المُتَقَدِّمُ خَبَرًا عَنْهُ، ويَجُوزُ أنْ يُنْصَبَ عَلى الحالِ، والعامِلُ فِيهِ الإشارَةُ، أوِ الظَّرْفُ، والَّذِي هو أرْسَخُ عِرْقًا في البَلاغَةِ أنْ يَضْرِبَ عَنْ هَذا المَجالِ صَفْحًا، وأنْ يُقالَ: إنَّ قَوْلَهُ: ﴿الم﴾ جُمْلَةٌ بِرَأْسِها، أوْ طائِفَةٌ مِن حُرُوفِ المُعْجَمِ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِها، و﴿ذَلِكَ الكِتابُ﴾ جُمْلَةٌ ثانِيَةٌ، و﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ ثالِثَةٌ و﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ رابِعَةٌ، وقَدْ أُصِيبَ بِتَرْتِيبِها مَفْصِلُ البَلاغَةِ ومُوجِبُ حُسْنِ النَّظْمِ، حَيْثُ جِيءَ بِها مُتَناسِقَةً هَكَذا مِن غَيْرِ حَرْفِ نَسَقٍ، وذَلِكَ لِمَجِيئِها مُتَآخِيَةً آخِذًا بَعْضُها بِعُنُقِ بَعْضٍ، والثّانِيَةُ مُتَّحِدَةٌ بِالأُولى، وهَلُمَّ جَرًّا إلى الثّالِثَةِ، والرّابِعَةِ.
بَيانُهُ: أنَّهُ نُبِّهَ أوَّلًا عَلى أنَّهُ الكَلامُ المُتَحَدّى بِهِ، ثُمَّ أُشِيرَ إلَيْهِ بِأنَّهُ الكِتابُ المَنعُوتُ بِغايَةِ الكَمالِ، فَكانَ تَقْرِيرُ الجِهَةِ التَّحَدِّي ثُمَّ نَفى عَنْهُ أنْ يَتَشَبَّثَ بِهِ طَرَفٌ مِنَ الرَّيْبِ، فَكانَ شَهادَةً بِكَمالِهِ، ثُمَّ أخْبَرَ عَنْهُ بِأنَّهُ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، فَقَرَّرَ بِذَلِكَ كَوْنَهُ يَقِينًا لا يَحُومُ الشَّكُّ حَوْلَهُ، ثُمَّ لَمْ يَخْلُ كُلُّ واحِدَةٍ مِن هَذِهِ الأرْبَعِ بَعْدَ أنْ رُتِّبَتْ هَذا التَّرْتِيبَ الأنِيقَ مِن نُكْتَةٍ، فَفي الأُولى الحَذْفُ والرَّمْزُ إلى الغَرَضِ بِألْطَفِ وجْهٍ، وفي الثّانِيَةِ ما في التَّعْرِيفِ مِنَ الفَخامَةِ، وفي الثّالِثَةِ ما في تَقْدِيمِ الرَّيْبِ عَلى الظَّرْفِ، وفي الرّابِعَةِ الحَذْفُ ووَضْعُ المَصْدَرِ الَّذِي هو هُدًى مَوْضِعَ الوَصْفِ الَّذِي هو هادٍ، وإيرادُهُ مُنَكَّرًا.
زاد المسير — ابن الجوزي (٥٩٧ هـ)
﴿ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ﴾ [البقرة ٢]
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذَلِكَ﴾ فِيهِ قَوْلانِ.
أحَدُهُما: أنَّهُ بِمَعْنى هَذا، وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٍ، وعِكْرِمَةَ، والكِسائِيُّ، وأبِي عُبَيْدَةَ، والأخْفَشِ. واحْتَجَّ بَعْضُهم بُقَوْلِ خِفافِ بْنِ نُدْبَةَ.
أقُولُ لَهُ والرُّمْحُ يَأْطُرُ مَتْنَهُ تَأمَّلْ خِفافًا إنَّنِي أنا ذَلِكا
أيْ: أنا هَذا. وقالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ. إنَّما أرادَ: أنا ذَلِكَ الَّذِي تَعْرِفُهُ.
والثّانِي: أنَّهُ إشارَةٌ إلى غائِبٍ.
ثُمَّ فِيهِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ.
أحَدُها: أنَّهُ أرادَ بِهِ ما تَقَدَّمَ إنْزالُهُ عَلَيْهِ مِنَ القُرْآَنِ.
والثّانِي: أنَّهُ أرادَ بِهِ ما وعَدَهُ أنْ يُوحِيَهُ إلَيْهِ في قَوْلِهِ: ﴿سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا﴾ [المُزَّمِّلِ: ٥ ] .
والثّالِثُ: أنَّهُ أرادَ بِذَلِكَ ما وعَدَ بِهِ أهِلَ الكُتُبِ السّالِفَةِ، لِأنَّهم وُعِدُوا بِنَبِيٍّ وكِتابٍ.
وَ ﴿الكِتابُ﴾ . القُرْآَنُ. وسُمِّيَ كِتابًا، لِأنَّهُ جُمِعَ بَعْضُهُ إلى بَعْضٍ. ومِنهُ الكَتِيبَةُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاجْتِماعِ بَعْضِها إلى بَعْضٍ. ومِنهُ: كَتَبْتُ البَغْلَةَ.
***
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ الرَّيْبُ: الشَّكُّ. والهُدى: الإرْشادُ. والمُتَّقُونَ: المُحْتَرِزُونَ مِمّا اتَّقَوْهُ.
وَفَرَّقَ شَيْخُنا عَلِيُّ بْنُ عَبِيدِ اللَّهِ بَيْنَ التَّقْوى والوَرَعِ، فَقالَ: التَّقْوى: أخْذُ عِدَةٍ، والوَرَعُ: دَفَعُ شُبْهَةٍ، فالتَّقْوى: مُتَحَقِّقُ السَّبَبِ، والوَرَعُ: مَظْنُونُ المُسَبِّبِ.
واخْتَلَفَ العُلَماءُ في مَعْنى هَذِهِ الآيَةِ عَلى ثَلاثَةِ أقْوالٍ.
أحَدُها: أنَّ ظاهِرَها النَّفْيُ، ومَعْناها النُّهى، وتَقْدِيرُها: لا يَنْبَغِي لِأحَدٍ أنْ يَرْتابَ بِهِ لِإتْقانِهِ وإحْكامِهِ. ومِثْلُهُ: ﴿ما كانَ لَنا أنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ﴾ [ يُوسُفَ: ٣٨ ] . أيْ: ما يَنْبَغِي لَنا. ومِثْلُهُ: ﴿فَلا رَفَثَ ولا فُسُوقَ﴾ [ البَقَرَةِ: ١٩٦ ] وهَذا مَذْهَبُ الخَلِيلِ، وابْنُ الأنْبارِيِّ.
والثّانِي: أنَّ مَعْناها: لا رَيْبَ فِيهِ أنَّهُ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ. قالَهُ المُبَرِّدُ.
والثّالِثُ: أنَّ مَعْناها: لا رَيْبَ فِيهِ أنَّهُ مِن عِنْدِ اللَّهِ، قالَهُ مُقاتِلٌ في آَخَرِينَ.
فَإنْ قِيلَ: فَقَدِ ارْتابَ بِهِ قَوْمٌ. فالجَوابُ أنَّهُ حَقٌّ في نَفْسِهِ، فَمَن حَقَّقَ النَّظَرَ فِيهِ عَلِمَ.
قالَ الشّاعِرُ:
لَيْسَ في الحَقِّ يا أُمامَةُ رَيْبٌ [إنَّما الرَّيْبُ ما يَقُولُ الكَذُوبُ ]
فَإنْ قِيلَ: فالمُتَّقِي مُهْتَدٍ، فَما فائِدَةُ اخْتِصاصِ الهِدايَةِ بِهِ؟
فالجَوابُ مِن وجْهَيْنِ. أحَدُهُما: أنَّهُ أرادَ المُتَّقِينَ، والكافِرِينَ، فاكْتَفى بِذِكْرِ أحَدِ الفَرِيقَيْنِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ﴾ [ النَّحْلِ: ٨١ ] . أرادَ: والبَرْدُ.
والثّانِي: أنَّهُ خَصَّ المُتَّقِينَ لِانْتِفاعِهِمْ بِهِ، كَقَوْلِهِ: ﴿إنَّما أنْتَ مُنْذِرُ مَن يَخْشاها﴾ [ النّازِعاتُ: ٤٥ ] . وكانَ مُنْذِرًا لِمَن يَخْشى ولِمَن لا يَخْشى.
النكت والعيون — الماوردي (٤٥٠ هـ)
﴿ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ﴾ [البقرة ٢]
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذَلِكَ الكِتابُ﴾ فِيهِ ثَلاثَةُ تَأْوِيلاتٍ: أحَدُها: يَعْنِي التَّوْراةَ والإنْجِيلَ، لِيَكُونَ إخْبارًا عَنْ ماضٍ.
والثّانِي: يَعْنِي بِهِ ما نَزَلَ مِنَ القُرْآنِ قَبْلَ هَذا بِمَكَّةَ والمَدِينَةِ، وهَذا قَوْلُ الأصَمِّ.
والثّالِثُ: يَعْنِي هَذا الكِتابَ، وقَدْ يُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ في الإشارَةِ إلى حاضِرٍ، وإنْ كانَ مَوْضُوعًا لِلْإشارَةِ إلى غائِبٍ، قالَ خُفافُ بْنُ نُدْبَةَ
أقُولُ لَهُ والرُّمْحُ يَأْطِرُ مَتْنُهُ تَأمَّلْ خُفافًا إنَّنِي أنا ذَلِكا
وَمَن قالَ بِالتَّأْوِيلِ الأوَّلِ: أنَّ المُرادَ بِهِ التَّوْراةُ والإنْجِيلُ، اخْتَلَفُوا في المُخاطَبِ بِهِ عَلى قَوْلَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ المُخاطَبَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ، أيْ ذَلِكَ الكِتابُ الَّذِي ذَكَرْتُهُ في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ، هو الَّذِي أنْزَلْتُهُ عَلَيْكَ يا مُحَمَّدُ.
والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ المُخاطَبَ بِهِ اليَهُودُ والنَّصارى، وتَقْدِيرُهُ: أنَّ ذَلِكَ الَّذِي وعَدْتُكم بِهِ هو هَذا الكِتابُ، الَّذِي أنْزَلْتُهُ عَلى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ السَّلامُ.
قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ وفِيهِ تَأْوِيلانِ: أحَدُهُما: أنَّ الرَّيْبَ هو الشَّكُّ، وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ، ومِنهُ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزِّبَعْرى:
لَيْسَ في الحَقِّ يا أُمَيْمَةُ رَيْبٌ ∗∗∗ إنَّما الرَّيْبُ ما يَقُولُ الجَهُولُ
والتَّأْوِيلُ الثّانِي: أنَّ الرَّيْبَ التُّهْمَةُ ومِنهُ قَوْلُ جَمِيلٍ:
بُثَيْنَةُ قالَتْ: يا جَمِيلُ أرَبْتَنِيُ ∗∗∗ فَقُلْتُ: كِلانا يا بُثَيْنَ مُرِيبُ
قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ يَعْنِي بِهِ هُدًى مِنَ الضَّلالَةِ.
وَفي المُتَّقِينَ ثَلاثَةُ تَأْوِيلاتٍ:
أحَدُها: أنَّهُمُ الَّذِينَ اتَّقَوْا ما حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وأدَّوْا ما افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ، وهَذا قَوْلُ الحَسَنِ البَصْرِيِّ.
والثّانِي: أنَّهُمُ الَّذِينَ يَحْذَرُونَ مِنَ اللَّهِ تَعالى عُقُوبَتَهُ ويَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وهَذا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ.
والثّالِثُ: أنَّهُمُ الَّذِينَ اتَّقَوُا الشِّرْكَ وبَرِئُوا مِنَ النِّفاقِ وهَذا فاسِدٌ، لِأنَّهُ قَدْ يَكُونُ كَذَلِكَ، وهو فاسِقٌ وإنَّما خَصَّ بِهِ المُتَّقِينَ، وإنْ كانَ هُدًى لِجَمِيعِ النّاسِ، لِأنَّهم آمَنُوا وصَدَّقُوا بِما فِيهِ.
أضواء البيان — محمد الأمين الشنقيطي (١٣٩٤ هـ)
﴿ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ﴾ [البقرة ٢]
﷽
سُورَةُ البَقَرَةِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾
صَرَّحَ في هَذِهِ الآيَةِ بِأنَّ هَذا القُرْآنَ ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾، ويُفْهَمُ مِن مَفْهُومِ الآيَةِ - أعْنِي مَفْهُومَ المُخالَفَةِ المَعْرُوفِ بِدَلِيلِ الخِطابِ - أنَّ غَيْرَ المُتَّقِينَ لَيْسَ هَذا القُرْآنُ هُدًى لَهم، وصَرَّحَ بِهَذا المَفْهُومِ في آياتٍ أُخَرَ
• كَقَوْلِهِ: ﴿قُلْ هو لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وشِفاءٌ والَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ في آذانِهِمْ وقْرٌ وهو عَلَيْهِمْ عَمًى﴾ [فصلت: ٤٤]
• وقَوْلِهِ: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ ما هو شِفاءٌ ورَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ولا يَزِيدُ الظّالِمِينَ إلّا خَسارًا﴾
• وقَوْلِهِ: ﴿وَإذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنهم مَن يَقُولُ أيُّكم زادَتْهُ هَذِهِ إيمانًا فَأمّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهم إيمانًا وهم يَسْتَبْشِرُونَ﴾ ﴿وَأمّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهم رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ وماتُوا وهم كافِرُونَ﴾ [التوبة: ١٢٤، ١٢٥]
• وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنهم ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ طُغْيانًا وكُفْرًا﴾ الآيَتَيْنِ [المائدة: ٦٤، ٦٨] .
وَمَعْلُومٌ أنَّ المُرادَ بِالهُدى في هَذِهِ الآيَةِ الهُدى الخاصُّ؛ الَّذِي هو التَّفَضُّلُ بِالتَّوْفِيقِ إلى دِينِ الحَقِّ، لا الهُدى العامُّ؛ الَّذِي هو إيضاحُ الحَقِّ.
⁕ ⁕ ⁕
* قال المؤلف في (دفع إيهام الإضطراب عن آيات الكتاب):
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ .
هَذِهِ نَكِرَةٌ في سِياقِ النَّفْيِ رُكِّبَتْ مَعَ ”لا“، فَبُنِيَتْ عَلى الفَتْحِ.
والنَّكِرَةُ إذا كانَتْ كَذَلِكَ فَهي نَصٌّ في العُمُومِ، كَما تَقَرَّرَ في عِلْمِ الأُصُولِ و ”لا“ هَذِهِ الَّتِي هي نَصٌّ في العُمُومِ هي المَعْرُوفَةُ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ: ”لا“ الَّتِي لِنَفْيِ الجِنْسِ، أمّا ”لا“ العامِلَةُ عَمَلَ لَيْسَ فَهي ظاهِرَةٌ في العُمُومِ لا نَصٌّ فِيهِ، وعَلَيْهِ فالآيَةُ نَصٌّ في نَفْيِ كُلِّ فَرْدٍ مِن أفْرادِ الرَّيْبِ عَنْ هَذا القُرْءانِ العَظِيمِ، وقَدْ جاءَ في آياتٍ أُخَرَ ما يَدُلُّ عَلى وُجُودِ الرَّيْبِ فِيهِ لِبَعْضٍ مِنَ النّاسِ، كالكُفّارِ الشّاكِّينَ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا﴾ [ ٢ ] .
وَكَقَوْلِهِ: ﴿وارْتابَتْ قُلُوبُهم فَهم في رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾ [التوبة: ٤٥] .
وَكَقَوْلِهِ: ﴿بَلْ هم في شَكٍّ يَلْعَبُونَ﴾ [الدخان: ٩] .
وَوَجْهُ الجَمْعِ في ذَلِكَ أنَّ القُرْءانَ بالَغَ مِن وُضُوحِ الأدِلَّةِ وظُهُورِ المُعْجِزَةِ ما يَنْفِي تَطَرُّقَ أيِّ رَيْبٍ إلَيْهِ، ورَيْبُ الكُفّارِ فِيهِ إنَّما هو لِعَمى بَصائِرِهِمْ، كَما بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أفَمَن يَعْلَمُ أنَّما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحَقُّ كَمَن هو أعْمى﴾ [الرعد: ١٩]، فَصَرَّحَ بِأنَّ مَن لا يَعْلَمُ أنَّهُ الحَقُّ أنَّ ذَلِكَ إنَّما جاءَهُ مِن قِبَلِ عَماهُ، ومَعْلُومٌ أنَّ عَدَمَ رُؤْيَةِ الأعْمى لِلشَّمْسِ لا يُنافِي كَوْنَها لا رَيْبَ فِيها لِظُهُورِها:
إذا لَمْ يَكُنْ لِلْمَرْءِ عَيْنٌ صَحِيحَةٌ فَلا غَرْوَ أنْ يَرْتابَ والصُّبْحُ مُسْفِرٌ
وَأجابَ بَعْضُ العُلَماءِ: بِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ خَبَرٌ أُرِيدَ بِهِ الإنْشاءُ، أيْ: لا تَرْتابُوا فِيهِ، وعَلَيْهِ فَلا إشْكالَ.
***
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ .
خَصَّصَ في هَذِهِ الآيَةِ هُدى هَذا الكِتابِ بِالمُتَّقِينَ، وقَدْ جاءَ في آيَةٍ أُخْرى ما يَدُلُّ عَلى أنَّ هُداهُ عامٌّ لِجَمِيعِ النّاسِ، وهي قَوْلُهُ تَعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى لِلنّاسِ﴾ الآيَةَ [البقرة: ١٨٥] . ووَجْهُ الجَمْعِ بَيْنَهُما أنَّ الهُدى يُسْتَعْمَلُ في القُرْءانِ اسْتِعْمالَيْنِ: أحَدُهُما عامٌّ، والثّانِي خاصٌّ، أمّا الهُدى العامُّ فَمَعْناهُ إبانَةُ طَرِيقِ الحَقِّ وإيضاحُ المَحَجَّةِ، سَواءٌ سَلَكَها المُبَيَّنَ لَهُ أمْ لا، ومِنهُ بِهَذا المَعْنى قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَأمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ﴾ [فصلت: ١٧]، أيْ بَيَّنّا لَهم طَرِيقَ الحَقِّ عَلى لِسانِ نَبِيِّنا صالِحٍ عَلَيْهِ وعَلى نَبِيِّنا الصَّلاةُ والسَّلامُ، مَعَ أنَّهم لَمْ يَسْلُكُوها بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿فاسْتَحَبُّوا العَمى عَلى الهُدى﴾ [فصلت: ١٧] .
وَمِنهُ أيْضًا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ﴾ [الإنسان: ٣]، أيْ بَيَّنّا لَهُ طَرِيقَ الخَيْرِ والشَّرِّ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: ﴿إمّا شاكِرًا وإمّا كَفُورًا﴾ [الإنسان: ٣] .
وَأمّا الهُدى الخاصُّ فَهو تَفَضُّلُ اللَّهِ بِالتَّوْفِيقِ عَلى العَبْدِ، ومِنهُ بِهَذا المَعْنى قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدى اللَّهُ﴾ الآيَةَ [ ٦ ] .
وَقَوْلُهُ: ﴿فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإسْلامِ﴾ [الأنعام: ١٢٥] .
فَإذا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فاعْلَمْ أنَّ الهُدى الخاصَّ بِالمُتَّقِينَ هو الهُدى الخاصُّ، وهو التَّفَضُّلُ بِالتَّوْفِيقِ عَلَيْهِمْ، والهُدى العامُّ لِلنّاسِ هو الهُدى العامُّ، وهو إبانَةُ الطَّرِيقِ وإيضاحُ المَحَجَّةِ، وبِهَذا يَرْتَفِعُ الإشْكالُ أيْضًا بَيْنَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّكَ لا تَهْدِي مَن أحْبَبْتَ﴾ [القصص: ٥٦]، مَعَ قَوْلِهِ: ﴿وَإنَّكَ لَتَدْعُوهم إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: ٥٢]، لِأنَّ الهُدى المَنفِيَّ عَنْهُ ﷺ هو الهُدى الخاصُّ، لِأنَّ التَّوْفِيقَ بِيَدِ اللَّهِ وحْدَهُ: ومَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [المائدة: ٤١] .
والهُدى المُثْبَتُ لَهُ هو الهُدى العامُّ الَّذِي هو إبانَةُ الطَّرِيقِ، وقَدْ بَيَّنَها ﷺ حَتّى تَرَكَها مَحَجَّةً بَيْضاءَ لَيْلُها كَنَهارِها: ﴿واللَّهُ يَدْعُو إلى دارِ السَّلامِ ويَهْدِي مَن يَشاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [يونس: ٢٥] .
تفسير الجلالين — المحلّي والسيوطي (٨٦٤، ٩١١ هـ)
﴿ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ﴾ [البقرة ٢]
﴿ذَلِك﴾ أيْ هَذا ﴿الكِتاب﴾ الَّذِي يَقْرَؤُهُ مُحَمَّد. ﴿لا رَيْب﴾ لا شَكَّ ﴿فِيهِ﴾ أنَّهُ مِن عِنْد اللَّه وجُمْلَة النَّفْي خَبَر مُبْتَدَؤُهُ ذَلِك والإشارَة بِهِ لِلتَّعْظِيمِ ﴿هُدًى﴾ خَبَر ثانٍ أيْ هادٍ ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ الصّائِرِينَ إلى التَّقْوى بِامْتِثالِ الأَوامِر واجْتِناب النَّواهِي لِاتِّقائِهِمْ بِذَلِكَ النّار
تفسير ابن قيّم الجوزيّة — ابن القيم (٧٥١ هـ)
﴿ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ﴾ [البقرة ٢]
وَهَذا يتَضَمَّن أمريْن أحدهما أنه يهدي بِهِ من اتَّقى ما خطه قبل نزُول الكتاب فَإن النّاس على اخْتِلاف مللهم ونحلهم قد اسْتَقر عِنْدهم أن الله سُبْحانَهُ يكره الظُّلم والفَواحِش والفساد في الأرْض ويمقت فاعل ذَلِك ويُحب العدْل والإحْسان والجود والصدق والإصلاح في الأرْض ويُحب فاعل ذَلِك فَلَمّا نزل الكتاب أثاب سُبْحانَهُ أهل البر بِأن وفقهم للْإيمان بِهِ جَزاء لَهُم على برهم وطاعتهم وخذل أهل الفُجُور والفُحْش والظُّلم بِأن حال بَينهم وبَين الاهتداء بِهِ والأمر الثّانِي أن العَبْد إذا آمن بِالكتاب واهتدى بِهِ مُجملا وقبل أوامره وصدق بأخباره كانَ ذَلِك سَببا لهداية أُخْرى تحصل لَهُ على التَّفْصِيل فَإن الهِدايَة لا نِهايَة لَها ولَو بلغ العَبْد فِيها ما بلغ ففوق هدايته هِدايَة أُخْرى وفَوق تِلْكَ الهِدايَة هِدايَة أُخْرى إلى غير غايَة فَكلما اتَّقى العَبْد ربه ارْتقى إلى هِدايَة أُخْرى فَهو في مزِيد هِدايَة ما دامَ في مزِيد من التَّقْوى وكلما فوّت خطا من التَّقْوى فاتَهُ حَظّ من الهِدايَة بِحَسبِهِ فَكلما اتَّقى زاد هداه وكلما اهْتَدى زادَت تقواه قالَ تَعالى ﴿قَدْ جاءَكم مِنَ اللَّهِ نُورٌ وكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ ويُخْرِجُهم مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ بِإذْنِهِ ويَهْدِيهِمْ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ وقالَ تَعالى ﴿اللَّهُ يَجْتَبِي إلَيْهِ مَن يَشاءُ ويَهْدِي إلَيْهِ مَن يُنِيبُ﴾ وقالَ ﴿سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشى﴾ وقالَ ﴿وَما يَتَذَكَّرُ إلّا مَن يُنِيبُ﴾ وقالَ ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهم بِإيمانِهِمْ﴾ فهداهم أولا للْإيمان فَلَمّا آمنُوا هداهُم للْإيمان هِدايَة بعد هِدايَة ونَظِير هَذا قَوْله ﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهتدوا هدى﴾.
* (فائدة)
الفرق بين الشك والريب من وجوه:
أحدها: أنه يقال شك مريب لا يقال ريب مشكك.
الثاني: أن يقال رابني أمر كذا ولا يقال شككني.
الثالث: أنه يقال رابه يريبه إذا أزعجه وأقلقه ومنه قول النبي ﷺ وقد مر بظني خافت في أصل شجرة "لا يريبه أحد" ولا يحسن هنا لا يشككه أحد.
الرابع: أنه لا يقال للشاك في طلوع الشمس أو في غروبها أو دخول الشهر أو وقت الصلاة هو مرتاب في ذلك وأن كان شاكا فيه.
الخامس: إن الريب ضد الطمأنينة واليقين فهو قلق واضطراب وانزعاج كما أن اليقين والطمأنينة ثبات واستقرار.
السادس: يقال رابني مجيئه وذهابه وفعله ولا يقال شككني فالشك سبب الريب فإنه يشك أولا فيوقعه شكه في الريب فالشك مبتد االريب كما أن العلم مبتدأ اليقين الاستنجاء.
(فائدة أخرى)
قوله: "هذا بصائر من ربكم" عام مطلق، وقوله: "وهدى ورحمة لقوم يوقنون" خاص بأهل اليقين.
ونظير ذلك قوله ﴿يا أيُّها النّاسُ قَدْ جاءَتْكم مَوْعِظَة مِن رَبِّكم وشِفاءٌ لَمِا فِى الصُّدُورِ وهُدى ورَحْمَةٌ لِلْمُؤمِنِينَ﴾ [يونس: ٥٧].
ونظيره في الخصوص قوله تعالى: ﴿هُدًى لِلْمُتّقِينَ﴾ وقوله: ﴿يَهْدِى بِهِ اللهُ مَنِ اتَبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ﴾ [المائدة: ١٦].
ونظيره أيضا قوله: ﴿هذا بَيانٌ لِلنّاسِ وهُدًى ومَوْعِظَةٌ لِلْمُتّقِينَ﴾ [آل عمران: ١٣٨].
وقد أخبر أنه هدى عام لجميع المكلفين. فقال: ﴿إنْ يَتّبِعُونَ إلا الظَّنَّ وما تَهْوى الأنْفُسُ ولَقَدْ جاءهم مِن رَبِّهِمُ الهُدْى﴾ [النجم: ٢٣].
فأخبر سبحانه أن القرآن بصائر لجميع الناس. والبصائر جمع بصيرة، وهى فعيلة بمعنى مفعلة، أي مبصرة لمن تبصر. ومنه قوله تعالى: ﴿وَآتَيْنا ثُمودَ النّاقَةَ مُبْصِرَةً﴾ [الإسراء: ٥٩].
أي مبينة موجبة للتبصر. وفعل الإبصار يستعمل لازما ومتعديا. يقال: أبصرته، بمعنى أريته، وأبصرته، بمعنى رأيته، فمبصرة في الآية: بمعنى مرئية، لا بمعنى رائية، والذين ظنوها بمعنى رائية غلطوا في الآية، وتحيروا في معناها.
فإنه يقال: بصر به، وأبصره، فيعدى بالباء تارة، والهمزة تارة. ثم يقال: أبصرته كذا، أي أريته إياه، كما يقال: بصرته به. وبصر هو به.
فهاهنا بصيرة، وتبصرة، ومبصرة. فالبصيرة: المبينة التي تبصر، والتبصرة مصدر مثل التذكرة، وسمى بها ما يوجب التبصرة، فيقال: هذه الآية تبصرة، لكونها آلة التبصر، وموجبه.
فالقرآن بصيرة وتبصرة، وهدى وشفاء، ورحمة، بمعنى عام، وبمعنى خاص. ولهذا يذكر الله سبحانه هذا وهذا، فهو هدى للعالمين، وموعظة للمتقين، وهدى للمتقين، وشفاء للعالمين، وشفاء للمؤمنين، وموعظة للعالمين، وموعظة للمتقين، فهو في نفسه هدى ورحمة، وشفاء وموعظة.
فمن اهتدى به واتعظ واشتفى، كان بمنزلة من استعمل الدواء الذي يحصل به الشفاء فهو دواء له بالفعل. وإن لم يستعمله، فهو دواء له بالقوة، وكذلك الهدى.
فالقرآن هدى بالفعل لمن اهتدى به، وبالقوة لمن يهتد به، فإنما يهتدى به ويرحم ويتعظ المتقون الموقنون.
والهدى في الأصل: مصدر هدى يهدى هدى.
فمن لم يعمل بعلمه لم يكن مهتديا، كما في الأثر "من ازداد علما ولم يزدد هدى لم يزدد من الله تعالى إلا بعدا" ولكن يسمى هدى، لأن من شأنه أن يهدى.
وهذا أحسن من قول من قال: إنه هدى، بمعنى هاد، فهو مصدر بمعنى الفاعل، كعدل بمعنى العادل، وزور بمعنى الزائر، ورجل صوم أي بمعنى صائم، فإن الله سبحانه قد أخبر أنه يهدى به.
فالله الهادى، وكتابه الهدى الذي يهدى به على لسان رسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم.
فهاهنا ثلاثة أشياء: فاعل وقابل وآله. فالفاعل: هو الله تعالى، والقابل: قلب العبد، والآلة: هو الذي يحصل به الهدى، وهو الكتاب المنزل، والله سبحانه يهدى خلقه هدى، كما يقال: دلهم دلالة، وأرشدهم إرشادا، وبين لهم بيانا.
والمقصود: أن المحل القابل هو قلب العبد المتقى، المنيب إلى ربه، الخائف منه، الذي يبتغى رضاه، ويهرب من سخطه، فإذا هداه الله فكأنه وصل أثر فعله إلى محل قابل، فيتأثر به، فصار هدى له وشفاء ورحمة وموعظة بالوجود والفعل والقبول، وإذا لم يكن المحل قابلا وصل إليه الهدى فلم يؤثر فيه، كما يصل الغذاء إلى محل غير قابل للاغتذاء، فإنه لا يؤثر فيه شيئا، بل لا يزيده إلا ضعفا وفسادا إلى فساده، كما قال تعالى في السورة التي نزلها: ﴿فَأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهم إيمانًا وهم يَسْتَبْشِروُنَ وأمّا الّذِينَ فِى قُلُوبِهمْ مَرَضٌ فَزادَتْهم رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ﴾ [التوبة: ١٢٤-١٢٥]، وقال: ﴿وَنُنَزَّلُ مِنَ القُرْآنِ ما هو شِفاءٌ ورَحْمَةٌ لِلْمُؤمِنِينَ، ولا يزِيدُ الظّالمِينَ إلا خَسارًا﴾ [الإسراء: ٨٢].
فتخلف الاهتداء يكون لعدم قبول المحل تارة، ولعدم آلة الهدى تارة، ولعدم فعل الفاعل، وهو الهادى تارة، ولا يحصل الهدى على الحقيقة إلا عند اجتماع هذه الأمور الثلاثة.
وقد قال سبحانه: ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ، ولَوْ أسْمَعَهم لَتَوَلّوْا وهم مُعْرِضُونَ﴾ [الأنفال: ٢٣].
فأخبر سبحانه أنه قطع عنهم مادة الاهتداء، وهو إسماع قلوبهم وإفهامها ما ينفعها، لعدم قبول المحل، فإنه لا خير فيه، فإن الرجل إنما ينقاد للحق بالخير الذي فيه، والميل إليه، والطلب له، ومحبته، والحرص عليه، والفرح بالظفر به، وهؤلاء ليس في قلوبهم شيء من ذلك، فوصل الهدى إليها ووقع عليها كما يصل الغيث النازل من السماء ويقع على الأرض الغليظة العالية، والتي لا تمسك ماء، ولا تنبت كلاء، فلا هى قابلة للماء ولا للنبات، فالماء في نفسه رحمة وحياة، ولكن ليس فيها قبول له.
ثم أكد الله هذا المعنى في حقهم بقوله: ﴿وَلَوْ أسْمَعَهم لَتَوَلّوْا وهم مُعْرِضُونَ﴾ [الأنفال: ٢٣].
فأخبر أن فيهم مع عدم القبول والفهم آفة أخرى، وهى الكبر والإعراض، وفساد القصد، فلو فهموا لم ينقادوا، ولم يتبعوا الحق. ولم يعملوا به، فالهدى في حق هؤلاء هدى بيان وإقامة حجة، لا هدى توفيق وإرشاد، فلم يتصل الهدى في حقهم بالرحمة.
وأما المؤمنون: فاتصل الهدى في حقهم بالرحمة، فصار القرآن لهم هدى ورحمة ولأولئك هدى بلا رحمة.
والرحمة المقارنة للهدى في حق المؤمنين عاجلة وآجلة.
فأما العاجلة فما يعطيهم الله تعالى في الدنيا من محبة الخير والبر، وذوق طعم الإيمان، ووجد حلاوته، والفرح والسرور بأن هداهم الله تعالى لما أضل عنه غيرهم، ولما اختلف فيه من الحق، فهم يتقلبون في نور هداه، ويمشون به في الناس، ويرون غيرهم متحيرا في الظلمات، فهم أشد الناس فرحا بما آتاهم ربهم من الهدى، قال تعالى: ﴿قلْ بِفَضْل اللهِ وبِرَحْمَتِهِ فَبِذلكَ فَلْيَفْرَحُوا هو خَيْرٌ مَّمِا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: ٥٨].
فأمر سبحانه عباده المؤمنين المهتدين أن يفرحوا بفضله ورحمته.
نظم الدرر — البقاعي (٨٨٥ هـ)
﴿ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ﴾ [البقرة ٢]
ولَمّا كانَ مَعْنى ﴿الم﴾ [البقرة: ١] هَذا كِتابٌ مِن جِنْسِ حُرُوفِكُمُ الَّتِي قَدْ فُقْتُمْ في التَّكَلُّمِ بِها سائِرَ الخَلْقِ، فَما عَجَزْتُمْ عَنِ الإتْيانِ بِسُورَةٍ مِن مِثْلِهِ إلّا لِأنَّهُ كَلامُ اللَّهِ أنْتَجَ ذَلِكَ كَمالَهُ، فَأُشِيرَ إلَيْهِ بِأداةِ البُعْدِ ولامِ الكَمالِ في قَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ الكِتابُ﴾ لِعُلُوِّ مِقْدارِهِ بِجَلالَةِ آثارِهِ وبُعْدِ رُتْبَتِهِ عَنْ نَيْلِ المَطْرُودِينَ. ولَمّا عُلِمَ كَمالُهُ أشارَ إلى تَعْظِيمِهِ بِالتَّصْرِيحِ بِما يُنْتِجُهُ ويَسْتَلْزِمُهُ ذَلِكَ التَّعْظِيمُ فَقالَ: ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ أيْ في شَيْءٍ مِن مَعْناهُ ولا نَظْمِهِ في نَفْسِ الأمْرِ عِنْدَ مَن تَحَقَّقَ بِالنَّظَرِ، فالمَنفِيُّ كَوْنُهُ مُتَعَلِّقًا لِلرَّيْبِ ومَظِنَّةً لَهُ، ولَمْ يُقَدَّمِ الظَّرْفُ لِأنَّهُ كانَ يُفِيدُ الِاخْتِصاصَ فَيُفْهَمُ أنَّ غَيْرَهُ مِنَ الكُتُبِ مَحَلُّ الرَّيْبِ.
قالَ الحَرالِّيُّ: ”ذا“ اسْمٌ مَدْلُولُهُ المُشارُ إلَيْهِ، واللّامُ مَدْلُولُهُ مَعَها بُعْدُ ما الكِتاب مِنَ الكَتْبِ وهو وصْلُ الشَّيْءِ المُنْفَصِلِ بِوُصْلَةٍ خَفِيَّةٍ مَن أصِلِهِ كالخَرَزِ في الجِلْدِ بِقَدٍّ مِنهُ، والخَيّاطَةُ في الثَّوْبِ بِشَيْءٍ مِن جِنْسِهِ لِيَكُونَ أقْرَبَ لِصُورَةِ اتِّصالِهِ الأوَّلِ، فَسُمِّيَ بِهِ ما ألْزَمَهُ النّاسَ مِنَ الأحْكامِ وما أثْبَتَ بِالرُّقُومِ مِنَ الكَلامِ، ”لا“ لِنَفْيِ ما هو مُمْتَنِعٌ مُطْلَقًا أوْ في وقْتٍ، ”الرَّيْبُ“ التَّرَدُّدُ بَيْنَ مَوْقِعَيْ تُهْمَةٍ بِحَيْثُ يَمْتَنِعُ مِنَ الطُّمَأْنِينَةِ عَلى كُلِّ واحِدٍ مِنهُما. انْتَهى. وأصْلُهُ قَلَقُ النَّفْسِ واضْطِرابُها، ومِنهُ رَيْبُ الزَّمانِ لِنَوائِبِهِ المُقْلِقَةِ، ولَمّا كانَ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الهُدى قالَ: ﴿هُدًى﴾ وخَصَّ المُنْتَفِعِينَ لِأنَّ الألَدَّ لا دَواءَ لَهُ، والمُتَعَنِّتَ لا يَرُدُّهُ شَيْءٌ، فَقالَ: ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ أيِ الَّذِينَ جُبِلُوا في أصْلِ الخِلْقَةِ عَلى التَّقْوى؛ فافْهَمْ ذَلِكَ أنَّ غَيْرَهم لا يَهْتَدِي بِهِ، بَلْ يَرْتابُ، وإنْ كانَ لَيْسَ مَوْضِعًا لِلرَّيْبِ أصْلًا.
قالَ الحَرالِّيُّ: جَمْعُ المُتَّقِي، وهو المُتَوَقِّفُ عَنِ الإقْدامِ عَلى كُلِّ أمْرٍ لِشُعُورِهِ بِتَقْصِيرِهِ عَنِ الِاسْتِبْدادِ وعِلْمِهِ بِأنَّهُ غَيْرُ مُسْتَغْنٍ بِنَفْسِهِ فَهو مُتَّقٍ لِوَصْفِهِ وحُسْنِ فِطْرَتِهِ، والمُتَّقِي كَذا مُتَوَقِّفٌ لِأجْلِ ذَلِكَ، والتَّقْوى أصْلٌ يَتَقَدَّمُ الهُدى وكُلَّ عِبادَةٍ، لِأنَّها فِطْرَةُ تَوَقُّفٍ تَسْتَحِقُّ الهُدى وكُلَّ خَيْرٍ، وهي وصِيَّةُ اللَّهِ [ لِأهْلِ الكِتابِ ] . انْتَهى.
جامع البيان — الإيجي (٩٠٥ هـ)
﷽
﴿الۤمۤ (١) ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ (٢) ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ (٣) وَٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ وَمَاۤ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡـَٔاخِرَةِ هُمۡ یُوقِنُونَ (٤) أُو۟لَـٰۤىِٕكَ عَلَىٰ هُدࣰى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ (٥) إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ سَوَاۤءٌ عَلَیۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ (٦) خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَعَلَىٰ سَمۡعِهِمۡۖ وَعَلَىٰۤ أَبۡصَـٰرِهِمۡ غِشَـٰوَةࣱۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِیمࣱ (٧)﴾ [البقرة ١-٧]
﴿الم﴾: أوائل مثل هذه السورة مما استأتر الله بعلمه وهو المنقول عن الخلفاء الأربعة وغيرهم أو أسماء السور أو أقسام أقسم بها لشرفها لأنها مباني كتبه المنزلة أو أنا الله أعلم، ﴿ذَلِكَ الكتابُ﴾: أي: هذا القرآن مصدر بمعنى المفعول ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾: لا شك أنه من عند الله لو تأمل عاقل فيه لا يشك وقيل بمعنى النهي أي: لا ترتابوا، ﴿هُدًى﴾: بيان ونور ﴿لِّلْمُتَّقِينَ﴾: الصائرين إلى الإيمان وترك الشرك أو مزيد هداية لهم، ﴿الذِينَ يُؤْمِنُونَ﴾: يصدقون ﴿بِالغَيب﴾: أي ما هو غائب كأمور الآخرة والقدر أو محمد عليه الصلاة والسلام من غير رؤيته، ﴿ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾، يعدلون أركان الصلوات الخمس أو يواظبون عليها، ﴿ومِمّا رَزَقاهم يُنفقونَ﴾: أعطيناهم يصرفون في الخير أو المراد الزكاة، ﴿والّذِينَ يُؤْمِنُون بِما أُنزِلَ إلَيْكَ﴾: هذا في مؤمني أهل الكتاب أو عام كالأول، ﴿وما أنزِلَ مِن قَبْلِكَ﴾ سائر الكتب، ﴿وبِالآخِرَةِ﴾ الدار الآخرة ﴿هم يُوقِنُونَ﴾ لا يشكون أصلًا، ﴿أُولَئِكَ﴾ من هذه صفته، ﴿عَلى هُدًى﴾: أي: مستقر ومستعل على بيان ونور ﴿مِّن ربهِمْ وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾: الفائزون بمطالبهم. ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾: ستروا الحق وهجروا التوحيد ﴿سَواءٌ﴾: مصدر وصف به ﴿عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ تخويفك وعدمه فهو مبتدأ وسواء خبره والهمزة وأم مجردتان لمعنى الاستواء في علم المستفهم كأنه قيل في جواب أأنذِرهم أم لا المستويان في علمك مستويان في عدم النفع ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾، جملة مفسرة ومؤكدة، ﴿خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ﴾، أي: طبع واستوثق بضرب الخاتم على قلوبهم، ﴿وعلى سَمْعِهِمْ﴾، أي: مواضعه أو أطلق مجازًا على العضو وكذا البصر ووحد السمع لأنه مصدر والمسموع ليس إلا الصوت بخلاف المعقولات والمبصرات فإنها أنواع من الجواهر والأعراض، ﴿وعَلى أبْصارِهِمْ غشاوَة﴾: غطاء والحاصل أنه أحدث فيهم شيئًا يمرنهم على حب الكفر لا يفقهون الحق ولا يسمعون ولا يبصرون، ﴿ولَهم عَذابٌ عَظِيم﴾: في الآخرة.
أنوار التنزيل — البيضاوي (٦٨٥ هـ)
﴿ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ﴾ [البقرة ٢]
﴿ذَلِكَ الكِتابُ﴾ ذَلِكَ إشارَةٌ إلى (الم) إنْ أُوِّلَ بِالمُؤَلَّفِ مِن هَذِهِ الحُرُوفِ أوْ فُسِّرَ بِالسُّورَةِ أوِ القُرْآنِ فَإنَّهُ لِما تُكُلِّمَ بِهِ وتُقْضى، أوْ وصَلَ مِنَ المُرْسِلِ إلى المُرْسَلِ إلَيْهِ صارَ مُتَباعِدًا أُشِيرَ إلَيْهِ بِما يُشارُ بِهِ إلى البَعِيدِ وَتَذْكِيرِهِ، مَتى أُرِيدَ بِ (الم) السُّورَةُ لِتَذْكِيرِ الكِتابِ فَإنَّهُ خَبَرُهُ أوْ صِفَتُهُ الَّذِي هو هُوَ، أوْ إلى الكِتابِ فَيَكُونُ صِفَتَهُ والمُرادُ بِهِ الكِتابُ المَوْعُودُ إنْزالُهُ بِنَحْوِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا﴾ . أوْ في الكُتُبِ المُتَقَدِّمَةِ. وهو مَصْدَرٌ سُمِّي بِهِ المَفْعُولُ لِلْمُبالَغَةِ.
وَقِيلَ فِعالٌ بِمَعْنى المَفْعُولِ كاللِّباسِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلى المَنظُومِ عِبارَةٌ قَبْلَ أنْ يُكْتَبَ لِأنَّهُ مِمّا يَكْتَبُ. وأصْلُ الكُتُبِ الجَمْعُ ومِنهُ الكَتِيبَةُ.
﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ مَعْناهُ أنَّهُ لِوُضُوحِهِ وسُطُوعِ بُرْهانِهِ بِحَيْثُ لا يَرْتابُ العاقِلُ بَعْدَ النَّظَرِ الصَّحِيحِ في كَوْنِهِ وحْيًا بالِغًا حَدَّ الإعْجازِ، لا أنَّ أحَدًا لا يَرْتابُ فِيهِ، ألا تَرى إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا﴾ . الآيَةَ فَإنَّهُ ما أبْعَدَ عَنْهُمُ الرَّيْبَ بَلْ عَرَّفَهُمُ الطَّرِيقَ المُرِيحَ لَهُ، وهو أنْ يَجْتَهِدُوا في مُعارَضَةِ نَجْمٍ مِن نُجُومِهِ ويَبْذُلُوا فِيها غايَةَ جُهْدِهِمْ حَتّى إذا عَجَزُوا عَنْها تَحَقَّقَ لَهم أنْ لَيْسَ فِيهِ مَجالٌ لِلشُّبْهَةِ ولا مَدْخَلٌ لِلرِّيبَةِ.
وَقِيلَ: مَعْناهُ لا رَيْبَ فِيهِ لِلْمُتَّقِينَ. وهُدًى حالٌ مِنَ الضَّمِيرِ المَجْرُورِ، والعامِلُ فِيهِ الظَّرْفُ الواقِعُ صِفَةً لِلْمَنفِيِّ. والرَّيْبُ في الأصْلِ مَصْدَرُ رابَنِي الشَّيْءُ إذا حَصَّلَ فِيكَ الرِّيبَةَ، وهي قَلَقُ النَّفْسِ واضْطِرابُها، سُمِّيَ بِهِ الشَّكُّ لِأنَّهُ يُقْلِقُ النَّفْسَ ويُزِيلُ الطُّمَأْنِينَةَ.
وَفِي الحَدِيثِ «دَعْ ما يُرِيبُكَ إلى ما لا يُرِيبُكَ»
فَإنَّ الشَّكَّ رِيبَةٌ والصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ، ومِنهُ رَيْبُ الزَّمانِ لِنَوائِبِهِ.
﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ يَهْدِيهِمْ إلى الحَقِّ، والهُدى في الأصْلِ مَصْدَرٌ كالسُّرى والتُّقى ومَعْناهُ الدَّلالَةُ.
وَقِيلَ: الدَّلالَةُ المُوصِلَةُ إلى البُغْيَةِ لِأنَّهُ جُعِلَ مُقابِلَ الضَّلالَةِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإنّا أوْ إيّاكم لَعَلى هُدًى أوْ في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ ولِأنَّهُ لا يُقالُ مَهْدِيٌّ إلّا لِمَنِ اهْتَدى إلى المَطْلُوبِ. واخْتِصاصُهُ بِالمُتَّقِينَ لِأنَّهُمُ المُهْتَدُونَ بِهِ والمُنْتَفِعُونَ بِنَصِّهِ، وإنْ كانَتْ دَلالَتُهُ عامَّةً لِكُلِّ ناظِرٍ مِن مُسْلِمٍ أوْ كافِرٍ وبِهَذا الِاعْتِبارِ قالَ تَعالى: ﴿هُدًى لِلنّاسِ﴾ . أوْ لِأنَّهُ لا يَنْتَفِعُ بِالتَّأمُّلِ فِيهِ إلّا مِن صَقَلَ العَقْلَ واسْتَعْمَلَهُ في تَدَبُّرِ الآياتِ والنَّظَرِ في المُعْجِزاتِ، وتَعَرُّفِ النُّبُوّاتِ، لِأنَّهُ كالغِذاءِ الصّالِحِ لِحِفْظِ الصِّحَّةِ فَإنَّهُ لا يَجْلِبُ نَفْعًا ما لَمْ تَكُنِ الصِّحَّةُ حاصِلَةً، وإلَيْهِ أشارَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ ما هو شِفاءٌ ورَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ولا يَزِيدُ الظّالِمِينَ إلا خَسارًا﴾ . ولا يَقْدَحُ ما فِيهِ مِنَ المُجْمَلِ والمُتَشابِهِ في كَوْنِهِ هُدًى لِما لَمْ يَنْفَكَّ عَنْ بَيانٍ يُعَيِّنُ المُرادُ مِنهُ.
والمُتَّقِي اسْمُ فاعِلٍ مِن قَوْلِهِمْ وقاهُ فاتَّقى. والوِقايَةُ: فَرْطُ الصِّيانَةِ. وهو في عُرْفِ الشَّرْعِ اسْمٌ لِمَن يَقِي نَفْسَهُ مِمّا يَضُرُّهُ في الآخِرَةِ، ولَهُ ثَلاثُ مَراتِبَ:
الأُولى: التَّوَقِّي مِنَ العَذابِ المُخَلَّدِ بِالتَّبَرِّي مِنَ الشِّرْكِ وعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَألْزَمَهم كَلِمَةَ التَّقْوى﴾ .
الثّانِيَةُ: التَّجَنُّبُ عَنْ كُلِّ ما يُؤْثِمُ مِن فِعْلٍ أوْ تَرْكٍ حَتّى الصَّغائِرِ عِنْدَ قَوْمٍ وهو المُتَعارَفُ بِاسْمِ التَّقْوى في الشَّرْعِ، وهو المَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلَوْ أنَّ أهْلَ القُرى آمَنُوا واتَّقَوْا﴾ .
الثّالِثَةُ: أنْ يَتَنَزَّهَ عَمّا يَشْغَلُ سِرَّهُ عَنِ الحَقِّ ويَتَبَتَّلُ إلَيْهِ بِشَراشِرَهُ وهو التَّقْوى الحَقِيقِيُّ المَطْلُوبُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ﴾ وقَدْ فَسَّرَ قَوْلَهُ: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ هاهُنا عَلى الأوْجُهِ الثَّلاثَةِ.
واعْلَمْ أنَّ الآيَةَ تَحْتَمِلُ أوْجُهًا مِنَ الإعْرابِ: أنْ يَكُونَ (الم) مُبْتَدَأً عَلى أنَّهُ اسْمٌ لِلْقُرْآنِ. أوِ السُّورَةِ. أوْ مُقَدَّرٌ بِالمُؤَلَّفِ مِنها، وذَلِكَ خَبَرُهُ وإنْ كانَ أخَصَّ مِنَ المُؤَلَّفِ مُطْلَقًا، والأصْلُ أنَّ الأخَصَّ لا يُحْمَلُ عَلى الأعَمِّ لِأنَّ المُرادَ بِهِ المُؤَلَّفُ الكامِلُ في تَأْلِيفِهِ البالِغِ أقْصى دَرَجاتِ الفَصاحَةِ ومَراتِبِ البَلاغَةِ، والكِتابُ صِفَةُ ذَلِكَ.
وَأنْ يَكُونَ (الم) خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ و (ذَلِكَ) خَبَرًا ثانِيًا أوْ بَدَلًا و ﴿الكِتابُ﴾ صِفَتُهُ، و ﴿لا رَيْبَ﴾ في المَشْهُورَةِ مَبْنِيٌّ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنى مِن مَنصُوبِ المَحَلِّ عَلى أنَّهُ اسْمُ لا النّافِيَةِ لِلْجِنْسِ العامِلَةِ عَمَلَ إنَّ، لِأنَّها نَقِيضَتُها ولازِمَةٌ لِلْأسْماءِ لُزُومَها. وفي قِراءَةِ أبِي الشَّعْثاءِ مَرْفُوعٌ بِلا الَّتِي بِمَعْنى لَيْسَ وفِيهِ خَبَرُهُ ولَمْ يُقَدَّمْ كَما قُدِّمَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا فِيها غَوْلٌ﴾ لِأنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ تَخْصِيصَ نَفْيِ الرَّيْبِ بِهِ مِن بَيْنِ سائِرِ الكُتُبِ كَما قُصِدَ ثَمَّةَ، أوْ صِفَتُهُ و ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ خَبَرُهُ. وهُدًى نُصِبَ عَلى الحالِ، أوِ الخَبَرُ مَحْذُوفٌ كَما في لا ضَيْرَ، فَلِذَلِكَ وقَفَ عَلى ﴿لا رَيْبَ﴾، عَلى أنَّ فِيهِ خَبَرَ هُدًى قُدِّمَ عَلَيْهِ لِتَنْكِيرِهِ والتَّقْدِيرُ: لا رَيْبَ فِيهِ، فِيهِ هُدًى، وأنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُبْتَدَأً و ﴿الكِتابُ﴾ خَبَرُهُ عَلى مَعْنى: أنَّهُ الكِتابُ الكامِلُ الَّذِي يَسْتَأْهِلُ أنْ يُسَمّى كِتابًا، أوْ صِفَتُهُ وما بَعْدَهُ خَبَرُهُ والجُمْلَةُ خَبَرُ ﴿الم﴾ .
والأوْلى أنْ يُقالَ إنَّها أرْبَعُ جُمَلٍ مُتَناسِقَةٍ تَقَرِّرُ اللّاحِقَةُ مِنها السّابِقَةَ ولِذَلِكَ لَمْ يَدْخُلِ العاطِفُ بَيْنَها. فَ﴿الم﴾، جُمْلَةٌ دَلَّتْ عَلى أنَّ المُتَحَدّى بِهِ هو المُؤَلَّفُ مِن جِنْسِ ما يُرَكِّبُونَ مِنهُ كَلامَهُمْ، و ﴿ذَلِكَ الكِتابُ﴾ جُمْلَةٌ ثانِيَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِجِهَةِ التَّحَدِّي، و ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾، جُمْلَةٌ ثالِثَةٌ تَشْهَدُ عَلى كَمالِهِ بِأنَّ الكِتابَ المَنعُوتَ بِغايَةِ الكَمالِ إذْ لا كَمالَ أعْلى مِمّا لِلْحَقِّ واليَقِينِ. و ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾، بِما يُقَدَّرُ لَهُ مُبْتَدَأُ جُمْلَةٍ رابِعَةٍ تُؤَكِّدُ كَوْنَهُ حَقًّا لا يَحُومُ الشَّكُّ حَوْلَهُ بِأنَّهُ ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾، أوْ تَسْتَتْبِعُ السّابِقَةُ مِنها اللّاحِقَةَ اسْتِتْباعَ الدَّلِيلِ لِلْمَدْلُولِ، وبَيانُهُ أنَّهُ لَمّا نُبِّهَ أوَّلًا عَلى إعْجازِ المُتَحَدّى بِهِ مِن حَيْثُ إنَّهُ مِن جِنْسِ كَلامِهِمْ وقَدْ عَجَزُوا عَنْ مُعارَضَتِهِ، اسْتُنْتِجَ مِنهُ أنَّهُ الكِتابُ البالِغُ حَدَّ الكَمالِ واسْتَلْزَمَ ذَلِكَ أنْ لا يَتَشَبَّثَ الرَّيْبُ بِأطْرافِهِ إذْ لا أنْقَصَ مِمّا يَعْتَرِيهِ الشَّكُّ والشُّبْهَةُ، وما كانَ كَذَلِكَ كانَ لا مَحالَةَ ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾، وفي كُلِّ واحِدَةٍ مِنها نُكْتَةٌ ذاتُ جَزالَةٍ فَفي الأُولى الحَذْفُ والرَّمْزُ إلى المَقْصُودِ مَعَ التَّعْلِيلِ، وفي الثّانِيَةِ فَخامَةُ التَّعْرِيفِ، وفي الثّالِثَةِ تَأْخِيرُ الظَّرْفِ حَذَرًا عَنْ إبْهامِ الباطِلِ، وفي الرّابِعَةِ الحَذْفُ والتَّوْصِيفُ بِالمَصْدَرِ لِلْمُبالَغَةِ وإيرادُهُ مُنْكَرًا لِلتَّعْظِيمِ، وتَخْصِيصُ الهُدى بِالمُتَّقِينَ بِاعْتِبارِ الغايَةِ تَسْمِيَةَ المَشارِفِ لِلتَّقْوى مُتَّقِيًا إيجازًا وتَفْخِيمًا لِشَأْنِهِ.
التحرير والتنوير — ابن عاشور (١٣٩٣ هـ)
﴿ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ﴾ [البقرة ٢]
﴿ذَلِكَ الكِتابُ﴾
مَبْدَأُ كَلامٍ لا اتِّصالَ لَهُ في الإعْرابِ بِحُرُوفِ الم كَما عَلِمْتَ مِمّا تَقَدَّمَ عَلى جَمِيعِ الِاحْتِمالاتِ كَما هو الأظْهَرُ.
وقَدْ جَوَّزَ صاحِبُ الكَشّافِ عَلى احْتِمالِ أنْ تَكُونَ حُرُوفُ الم مَسُوقَةً مَساقَ التَّهَجِّي لِإظْهارِ عَجْزِ المُشْرِكِينَ عَنِ الإتْيانِ بِمِثْلِ بَعْضِ القُرْآنِ، أنْ يَكُونَ اسْمُ الإشارَةِ مُشارًا بِهِ إلى الم بِاعْتِبارِهِ حَرْفًا مَقْصُودًا لِلتَّعْجِيزِ، أيْ ذَلِكَ المَعْنى الحاصِلِ مِنَ التَّهَجِّي أيْ ذَلِكَ الحُرُوفُ بِاعْتِبارِها مِن جِنْسِ حُرُوفِكم هي الكِتابُ أيْ مِنها تَراكِيبُهُ فَما أعْجَزَكم عَنْ مُعارَضَتِهِ، فَيَكُونُ الم جُمْلَةً مُسْتَقِلَّةً مَسُوقَةً لِلتَّعْرِيضِ واسْمُ الإشارَةِ مُبْتَدَأً والكِتابُ خَبَرًا.
وعَلى الأظْهَرِ تَكُونُ الإشارَةُ إلى القُرْآنِ المَعْرُوفِ لَدَيْهِمْ يَوْمَئِذٍ. واسْمُ الإشارَةِ مُبْتَدَأٌ والكِتابُ بَدَلٌ وخَبَرُهُ ما بَعْدَهُ، فالإشارَةُ إلى الكِتابِ النّازِلِ بِالفِعْلِ وهي السُّوَرُ المُتَقَدِّمَةُ عَلى سُورَةِ البَقَرَةِ؛ لِأنَّ كُلَّ ما نَزَلْ مِنَ القُرْآنِ فَهو المُعَبَّرُ عَنْهُ بِأنَّهُ القُرْآنُ ويَنْضَمُّ إلَيْهِ ما يَلْحَقُ بِهِ، فَيَكُونُ الكِتابُ عَلى هَذا الوَجْهِ أُطْلِقَ حَقِيقَةً عَلى ما كُتِبَ بِالفِعْلِ، ويَكُونُ قَوْلُهُ الكِتابِ عَلى هَذا الوَجْهِ خَبَرًا عَنِ اسْمِ الإشارَةِ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ الإشارَةُ إلى جَمِيعِ القُرْآنِ ما نَزَلَ مِنهُ وما سَيَنْزِلُ لِأنَّ نُزُولَهُ مُتَرَقَّبٌ فَهو حاضِرٌ في الأذْهانِ فَشَبَّهَ بِالحاضِرِ في العِيانَ، فالتَّعْرِيفُ فِيهِ لِلْعَهْدِ التَّقْدِيرِيِّ والإشارَةُ إلَيْهِ لِلْحُضُورِ التَّقْدِيرِيِّ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الكِتابَ حِينَئِذٍ بَدَلًا أوْ بَيانًا مِن ذَلِكَ والخَبَرُ هو لا رَيْبَ فِيهِ.
ويَجُوزُ الإتْيانُ في مِثْلِ هَذا بِاسْمِ الإشارَةِ المَوْضُوعِ لِلْقَرِيبِ والمَوْضُوعِ لِلْبَعِيدِ، قالَ الرَّضِيُّ: وُضِعَ اسْمُ الإشارَةِ لِلْحُضُورِ والقُرْبِ لِأنَّهُ لِلْمُشارِ إلَيْهِ حِسًّا ثُمَّ يَصِحُّ أنْ يُشارَ بِهِ إلى الغائِبِ فَيَصِحُّ الإتْيانُ بِلَفْظِ البُعْدِ لِأنَّ المَحْكِيَّ عَنْهُ غائِبٌ، ويَقِلُّ أنْ يُذْكَرَ بِلَفْظِ الحاضِرِ القَرِيبِ فَتَقُولُ جاءَنِي رَجُلٌ فَقُلْتُ لِذَلِكَ الرَّجُلِ وقُلْتُ لِهَذا الرَّجُلِ، وكَذا يَجُوزُ لَكَ في الكَلامِ المَسْمُوعِ عَنْ قَرِيبٍ أنْ تُشِيرَ إلَيْهِ بِلَفْظِ الغَيْبَةِ والبُعْدِ كَما تَقُولُ: واللَّهِ وذَلِكَ قَسَمٌ عَظِيمٌ، لِأنَّ اللَّفْظَ زالَ سَماعُهُ فَصارَ كالغائِبِ ولَكِنَّ الأغْلَبَ في هَذا الإشارَةُ بِلَفْظِ الحُضُورِ فَتَقُولُ: وهَذا قَسَمٌ عَظِيمٌ اهـ، أيِ الأكْثَرُ في مِثْلِهِ الإتْيانُ بِاسْمِ إشارَةِ البَعِيدِ ويَقِلُّ ذِكْرُهُ بِلَفْظِ الحاضِرِ، وعَكْسُ ذَلِكَ في الإشارَةِ لِلْقَوْلِ. وابْنُ مالِكٍ في التَّسْهِيلِ سَوّى بَيْنَ الإتْيانِ بِالقَرِيبِ والبَعِيدِ في الإشارَةِ لِكَلامٍ مُتَقَدِّمٍ إذْ قالَ: وقَدْ يَتَعاقَبانِ أيِ اسْمُ القَرِيبِ والبَعِيدِ مُشارًا بِهِما إلى ما ولِياهُ أيْ مِنَ الكَلامِ، ومَثَلَّهُ شارِحُهُ بِقَوْلِهِ تَعالى بَعْدَ قِصَّةِ عِيسى ﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآياتِ والذِّكْرِ الحَكِيمِ﴾ [آل عمران: ٥٨] ثُمَّ قالَ ﴿إنَّ هَذا لَهْوَ القَصَصُ الحَقُّ﴾ [آل عمران: ٦٢] فَأشارَ مَرَّةً بِالبَعِيدِ ومَرَّةً بِالقَرِيبِ والمُشارُ إلَيْهِ واحِدٌ، وكَلامُ ابْنِ مالِكٍ أوْفَقُ بِالِاسْتِعْمالِ إذْ لا يَكادُ يُحْصَرُ ما ورَدَ مِنَ الِاسْتِعْمالَيْنِ فَدَعْوى الرَّضِيِّ قِلَّةَ أنْ يُذْكَرَ بِلَفْظِ الحاضِرِ دَعْوى عَرِيضَةٌ.
وإذا كانَ كَذَلِكَ كانَ حُكْمُ الإشارَةِ إلى غائِبٍ غَيْرِ كَلامٍ مِثْلَ الإشارَةِ إلى الكَلامِ في جَوازِ الوَجْهَيْنِ لِكَثْرَةِ كِلَيْهِما أيْضًا، فَفي القُرْآنِ: ﴿فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذا مِن شِيعَتِهِ وهَذا مِن عَدُوِّهِ﴾ [القصص: ١٥] فَإذا كانَ الوَجْهانِ سَواءٌ كانَ ذَلِكَ الِاسْتِعْمالُ مَجالًا لِتَسابُقِ البُلَغاءِ ومُراعاةِ مُقْتَضَياتِ الأحْوالِ، ونَحْنُ قَدْ رَأيْناهم يَتَخَيَّرُونَ في مَواقِعِ الإتْيانِ بِاسْمِ الإشارَةِ ما هو أشَدُّ مُناسَبَةً لِذَلِكَ المَقامِ فَدَلَّنا عَلى أنَّهم يَعْرِفُونَ مُخاطِبِيهِمْ بِأغْراضٍ لا قِبَلَ لِتَعَرُّفِها إلّا إذا كانَ الِاسْتِعْمالُ سَواءً في أصْلِ اللُّغَةِ لِيَكُونَ التَّرْجِيحُ لِأحَدِ الِاسْتِعْمالَيْنِ لا عَلى مَعْنى مِثْلَ زِيادَةِ التَّنْبِيهِ في اسْمِ الإشارَةِ البَعِيدِ كَما هُنا، وكَما قالَ خُفافُ بْنُ نَدْبَةَ:
أقُولُ لَهُ والرُّمْحُ يَأْطُرُ مَتْنَهُ تَأمَّلْ خُفافًا إنَّنِي أنا ذَلِكَ
وقَدْ يُؤْتى بِالقَرِيبِ لِإظْهارِ قِلَّةِ الِاكْتِراثِ كَقَوْلِ قَيْسِ بْنِ الخَطِيمِ في الحَماسَةِ:
مَتى يَأْتِ هَذا المَوْتُ لا يَلْفِ حاجَةً ∗∗∗ لِنَفْسِيَ إلّا قَدْ قَضَيْتُ قَضاءَها
فَلا جَرَمَ أنْ كانَتِ الإشارَةُ في الآيَةِ بِاسْتِعْمالِ اسْمِ الإشارَةِ لِلْبَعِيدِ لِإظْهارِ رِفْعَةِ شَأْنِ هَذا القُرْآنِ لِجَعْلِهِ بَعِيدَ المَنزِلَةِ.
وقَدْ شاعَ في الكَلامِ البَلِيغِ تَمْثِيلُ الأمْرِ الشَّرِيفِ بِالشَّيْءِ المَرْفُوعِ فِي عِزَّةِ المَنالِ لِأنَّ الشَّيْءَ النَّفِيسَ عَزِيزٌ عَلى أهْلِهِ فَمِنَ العادَةِ أنْ يَجْعَلُوهُ في المُرْتَفَعاتِ صَوْنًا لَهُ عَنِ الدُّرُوسِ وتَناوُلِ كَثْرَةِ الأيْدِي والِابْتِذالِ، فالكِتابُ هُنا لَمّا ذُكِرَ في مَقامِ التَّحَدِّي بِمُعارَضَتِهِ بِما دَلَّتْ عَلَيْهِ حُرُوفُ التَّهَجِّي في الم كانَ كالشَّيْءِ العَزِيزِ المَنالِ بِالنِّسْبَةِ إلى تَناوُلِهِمْ إيّاهُ بِالمُعارَضَةِ أوْ لِأنَّهُ لِصِدْقِ مَعانِيهِ ونَفْعِ إرْشادِهِ بِعِيدٌ عَمَّنْ يَتَناوَلُهُ بِهُجْرِ القَوْلِ كَقَوْلِهِمُ افْتَراهُ وقَوْلِهِمْ ﴿أساطِيرُ الأوَّلِينَ﴾ [الأنعام: ٢٥] ولا يَرِدُ عَلى هَذا قَوْلُهُ ﴿وهَذا كِتابٌ أنْزَلْناهُ﴾ [الأنعام: ٩٢] فَذَلِكَ لِلْإشارَةِ إلى كِتابٍ بَيْنَ يَدَيْ أهْلِهِ لِتَرْغِيبِهِمْ في العُكُوفِ عَلَيْهِ والِاتِّعاظِ بِأوامِرِهِ ونَواهِيِهِ. ولَعَلَّ صاحِبَ الكَشّافِ بَنى عَلى مِثْلِ ما بَنى عَلَيْهِ الرَّضِيُّ فَلَمْ يَعُدَّ ”ذَلِكَ الكِتابُ“ تَنْبِيهًا عَلى التَّعْظِيمِ أوِ الِاعْتِبارِ، فَلِلَّهِ دَرُّ صاحِبِ المِفْتاحِ إذْ لَمْ يُغْفِلْ ذَلِكَ فَقالَ في مُقْتَضَياتِ تَعْرِيفِ المُسْنَدِ إلَيْهِ بِالإشارَةِ: أوْ أنْ يَقْصِدَ بِبُعْدِهِ تَعْظِيمَهُ كَما تَقُولُ في مَقامِ التَّعْظِيمِ ذَلِكَ الفاضِلُ وأُولَئِكَ الفُحُولُ وكَقَوْلِهِ عَزَّ وعَلا ﴿الم﴾ [البقرة: ١] ﴿ذَلِكَ الكِتابُ﴾ ذَهابًا إلى بُعْدِهِ دَرَجَةً.
وقَوْلُهُ: ”الكِتابُ“ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ اسْمِ الإشارَةِ لِقَصْدِ بَيانِ المُشارِ إلَيْهِ لِعَدَمِ مُشاهَدَتِهِ، فالتَّعْرِيفُ فِيهِ إذَنْ لِلْعَهْدِ، ويَكُونُ الخَبَرُ هو جُمْلَةُ: ”لا رَيْبَ فِيهِ“، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الكِتابُ خَبَرًا عَنِ اسْمِ الإشارَةِ ويَكُونُ التَّعْرِيفُ تَعْرِيفُ الجِنْسِ فَتُفِيدُ الجُمْلَةُ قَصْرَ حَقِيقَةِ الكِتابِ عَلى القُرْآنِ بِسَبَبِ تَعْرِيفِ الجُزْئَيْنِ فَهو إذَنْ قَصْرٌ ادِّعائِيٌ ومَعْناهُ ذَلِكَ هو الكِتابُ الجامِعُ لِصِفاتِ الكَمالِ في جِنْسِ الكُتُبِ بِناءً عَلى أنَّ غَيْرَهُ مِنَ الكُتُبِ إذا نُسِبَتْ إلَيْهِ كانَتْ كالمَفْقُودِ مِنها وصْفَ الكِتابِ لِعَدَمِ اسْتِكْمالِها جَمِيعِ كَمالاتِ الكُتُبِ، وهَذا التَّعْرِيفُ قَدْ يُعَبِّرُ عَنْهُ النُّحاةُ في تَعْدادِ مَعانِي لامِ التَّعْرِيفِ بِمَعْنى الدَّلالَةِ عَلى الكَمالِ فَلا يَرِدُ أنَّهُ كَيْفَ يُحْصَرُ الكِتابُ في أنَّهُ الم أوْ في السُّورَةِ أوْ نَحْوِ ذَلِكَ إذْ لَيْسَ المَقامُ مَقامَ الحَصْرِ وإنَّما هو مَقامُ التَّعْرِيفِ لا غَيْرَ، فَفائِدَةُ التَّعْرِيفِ والإشارَةِ ظاهِرِيَّةٌ ولَيْسَ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ لَغْوًا بِحالٍ وإنْ سَبَقَ لِبَعْضِ الأوْهامِ عَلى بَعْضٍ احْتِمالٌ.
والكِتابُ فِعالٌ بِمَعْنى المَكْتُوبِ إمّا مَصْدَرُ كاتَبَ المَصُوغُ لِلْمُبالَغَةِ في الكِتابَةِ، فَإنَّ المَصْدَرَ يَجِيءُ بِمَعْنى المَفْعُولِ كالخَلْقِ، وإمّا فِعالٌ بِمَعْنى مَفْعُولٍ كَلِباسٍ بِمَعْنى مَلْبُوسٍ وعِمادٍ بِمَعْنى مَعْمُودٍ بِهِ.
واشْتِقاقُهُ مِن كَتَبَ بِمَعْنى جَمَعَ وضَمَّ لِأنَّ الكِتابَ تُجْمَعُ أوْراقُهُ وحُرُوفُهُ، فَإنَّ النَّبِيءَ ﷺ أمَرَ بِكِتابَةِ كُلِّ ما يَنْزِلُ مِنَ الوَحْيِ وجَعَلَ لِلْوَحْيِ كِتابًا، وتَسْمِيَةُ القُرْآنِ كِتابًا إشارَةٌ إلى وُجُوبِ كِتابَتِهِ لِحِفْظِهِ.
وكِتابَةُ القُرْآنِ فَرْضُ كِفايَةٍ عَلى المُسْلِمِينَ.
* * *
﴿لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾
حالٌ مِنَ الكِتابِ أوْ خَبَرٌ أوَّلٌ أوْ ثانٍ عَلى ما مَرَّ قَرِيبًا.
والرَّيْبُ الشَّكُّ وأصْلُ الرَّيْبِ القَلَقُ واضْطِرابُ النَّفْسِ، ورَيْبُ الزَّمانِ ورَيْبُ المَنُونِ نَوائِبُ ذَلِكَ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المَنُونِ﴾ [الطور: ٣٠] ولَمّا كانَ الشَّكُّ يَلْزَمُهُ اضْطِرابُ النَّفْسِ وقَلَقُها غَلَبَ عَلَيْهِ الرَّيْبُ فَصارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً يُقالُ رابَهُ الشَّيْءُ إذا شَكَّكَهُ أيْ بِجَعْلِ ما أوْجَبَ الشَّكَّ في حالِهِ فَهو مُتَعَدٍّ، ويُقالُ أرابَهُ كَذَلِكَ إذِ الهَمْزَةُ لَمْ تُكْسِبْهُ تَعْدِيَةً زائِدَةً فَهو مِثْلُ لَحِقَ وألْحَقَ، وزَلَقَهُ وأزْلَقَهُ وقَدْ قِيلَ إنَّ أرابَ أضْعَفُ مِن رابَ أرابَ بِمَعْنى قُرْبِهِ مِن أنْ يَشُكَّ قالَهُ أبُو زَيْدٍ، وعَلى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُما قالَ بَشّارٌ:
أخُوكَ الَّذِي إنْ رِبْتَهُ قالَ إنَّما أرَبْتَ وإنْ عاتَبْتَهُ لانَ جانِبُهُ
وفِي الحَدِيثِ «دَعْ ما يُرِيبُكَ إلى ما لا يُرِيبُكَ» أيْ دَعِ الفِعْلَ الَّذِي يُقَرِّبُكَ مِنَ الشَّكِّ في التَّحْرِيمِ إلى فِعْلٍ آخَرَ لا يَدْخُلُ عَلَيْكَ في فِعْلِهِ شَكٌّ في أنَّهُ مُباحٌ.
ولَمْ يَخْتَلِفْ مُتَواتِرُ القُرّاءِ في فَتْحِ لا رَيْبَ نَفْيًا لِلْجِنْسِ عَلى سَبِيلِ التَّنْصِيصِ وهو أبْلَغُهُ لِأنَّهُ لَوْ رُفِعَ لاحْتَمَلَ نَفْيُ الفَرْدِ دُونَ الجِنْسِ فَإنْ كانَتِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ إلى الحُرُوفِ المُجْتَمِعَةِ في الم عَلى إرادَةِ التَّعْرِيضِ بِالمُتَحَدَّيْنَ وكانَ قَوْلُهُ: ”الكِتابُ“ خَبَرًا لِاسْمِ الإشارَةِ عَلى ما تَقَدَّمَ كانَ قَوْلُهُ لا رَيْبَ نَفْيًا لِرَيْبٍ خاصٍّ وهو الرَّيْبُ الَّذِي يَعْرِضُ في كَوْنِ هَذا الكِتابِ مُؤَلَّفًا مِن حُرُوفِ كَلامِهِمْ فَكَيْفَ عَجَزُوا عَنْ مِثْلِهِ، وكانَ نَفْيُ الجِنْسِ فِيهِ حَقِيقَةً ولَيْسَ بِادِّعاءٍ، فَتَكُونُ جُمْلَةُ لا رَيْبَ مُنَزَّلَةً مَنزِلَةَ التَّأْكِيدِ لِمُفادِ الإشارَةِ في قَوْلِهِ ذَلِكَ الكِتابُ وعَلى هَذا الوَجْهِ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَجْرُورُ وهو قَوْلُهُ فِيهِ مُتَعَلِّقًا بِرَيْبٍ عَلى أنَّهُ ظَرْفُ لَغْوٍ فَيَكُونُ الوَقْفُ عَلى قَوْلِهِ فِيهِ وهو مُخْتارُ الجُمْهُورِ عَلى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وتُنْذِرَ يَوْمَ الجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ﴾ [الشورى: ٧] وقَوْلِهِ ﴿رَبَّنا إنَّكَ جامِعُ النّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ﴾ [آل عمران: ٩] ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فِيهِ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا خَبَرًا لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ ومَعْنى (في) هو الظَّرْفِيَّةُ المَجازِيَّةُ العُرْفِيَّةُ تَشْبِيهًا لِدَلالَةِ اللَّفْظِ بِاحْتِواءِ الظَّرْفِ فَيَكُونُ تَخْطِئَةً لِلَّذِينَ أعْرَضُوا عَنِ اسْتِماعِ القُرْآنِ فَقالُوا ﴿لا تَسْمَعُوا لِهَذا القُرْآنِ﴾ [فصلت: ٢٦] اسْتِنْزالًا لِطائِرِ نُفُورِهِمْ كَأنَّهُ قِيلَ هَذا الكِتابُ مُشْتَمِلٌ عَلى شَيْءٍ مِنَ الهُدى فاسْمِعُوا إلَيْهِ ولِذَلِكَ نَكَّرَ الهُدى أيْ فِيهِ شَيْءٌ مِن هُدًى عَلى حَدِّ قَوْلِ النَّبِيءِ ﷺ لِأبِي ذَرٍّ («إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جاهِلِيَّةٌ» ) ويَكُونُ خَبَرُ (لا) مَحْذُوفًا لِظُهُورِهِ أيْ لا رَيْبَ مَوْجُودٌ، وحَذْفُ الخَبَرِ مُسْتَعْمَلٌ كَثِيرًا في أمْثالِهِ نَحْوَ قالُوا لا ضَيْرَ وقَوْلُ العَرَبِ لا بَأْسَ، وقَوْلُ سَعْدِ بْنِ مالِكٍ:
مَن صَدَّ عَنْ نِيرانِها ∗∗∗ فَأنا ابْنُ قَيْسٍ لا بَراحَ
أيْ لا بَقاءَ في ذَلِكَ، وهو اسْتِعْمالٌ مَجازِيٌّ فَيَكُونُ الوَقْفُ عَلى قَوْلِهِ لا رَيْبَ وفي الكَشّافِ أنَّ نافِعًا وعاصِمًا وقَفا عَلى قَوْلِهِ رَيْبَ وإنْ كانَتِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ إلى الكِتابِ بِاعْتِبارِ كَوْنِهِ كالحاضِرِ المُشاهَدِ وكانَ قَوْلُهُ الكِتابُ بَدَلًا مِنَ اسْمِ الإشارَةِ لِبَيانِهِ فالمَجْرُورُ مِن قَوْلِهِ فِيهِ ظَرْفُ لَغْوٍ مُتَعَلِّقٌ بِرَيْبَ وخَبَرُ لا مَحْذُوفٌ عَلى الطَّرِيقَةِ الكَثِيرَةِ في مِثْلِهِ، والوَقْفُ عَلى قَوْلِهِ فِيهِ، فِيهِ مَعْنى نَفْيِ وُقُوعِ الرَّيْبِ في الكِتابِ عَلى هَذا الوَجْهِ نَفْيِ الشَّكِّ في أنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى لِأنَّ المَقْصُودَ خِطابُ المُرْتابِينَ في صِدْقِ نِسْبَتِهِ إلى اللَّهِ تَعالى وسَيَجِيءُ خِطابُهم بِقَوْلِهِ ﴿وإنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِن مِثْلِهِ﴾ [البقرة: ٢٣] فارْتِيابُهم واقِعٌ مُشْتَهِرٌ، ولَكِنْ نَزَلَ ارْتِيابُهم مَنزِلَةَ العَدَمِ لِأنَّ في دَلائِلِ الأحْوالِ ما لَوْ تَأمَّلُوهُ لَزالَ ارْتِيابُهم فَنَزَلَ ذَلِكَ الِارْتِيابُ مَعَ دَلائِلَ بُطْلانِهِ مَنزِلَةَ العَدَمِ.
قالَ صاحِبُ المِفْتاحِ: ويَقْلِبُونَ القَضِيَّةَ مَعَ المُنْكِرِ إذا كانَ مَعَهُ ما إنْ تَأمَّلَهُ ارْتَدَعَ فَيَقُولُونَ لِمُنْكِرِ الإسْلامِ: الإسْلامُ حَقٌّ وقَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ في حَقِّ القُرْآنِ لا رَيْبَ فِيهِ وكَمْ مِن شَقِيٍّ مُرْتابٍ فِيهِ وارِدٌ (عَلى هَذا) فَيَكُونُ المُرَكَّبُ الدّالُّ عَلى النَّفْيِ المُؤَكَّدِ لِلرَّيْبِ مُسْتَعْمَلًا في مَعْنى عَدَمِ الِاعْتِدادِ بِالرَّيْبِ لِمُشابَهَةِ حالِ المُرْتابِ في وهْنِ رَيْبِهِ بِحالِ مَن لَيْسَ بِمُرْتابٍ أصْلًا عَلى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ.
ومِنَ المُفَسِّرِينَ مَن فَسَّرَ قَوْلَهُ تَعالى ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ بِمَعْنى أنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ما يُوجِبُ ارْتِيابًا في صِحَّتِهِ أيْ لَيْسَ فِيهِ اضْطِرابٌ ولا اخْتِلافٌ فَيَكُونُ الرَّيْبُ هُنا مَجازًا في سَبَبِهِ ويَكُونُ المَجْرُورُ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا خَبَرَ لا فَيَنْظُرُ إلى قَوْلِهِ تَعالى ﴿أفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ ولَوْ كانَ مِن عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: ٨٢] أيْ أنَّ القُرْآنَ لا يَشْتَمِلُ عَلى كَلامٍ يُوجِبُ الرِّيبَةَ في أنَّهُ مِن عِنْدِ الحَقِّ رَبِّ العالَمِينَ، مِن كَلامٍ يُناقِضُ بَعْضُهُ بَعْضًا أوْ كَلامٍ يُجافِي الحَقِيقَةَ والفَضِيلَةَ أوْ يَأْمُرُ بِارْتِكابِ الشَّرِّ والفَسادِ أوْ يَصْرِفُ عَنِ الأخْلاقِ الفاضِلَةِ، وانْتِفاءِ ذَلِكَ عَنْهُ يَقْتَضِي أنَّ ما يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ القُرْآنُ إذا تَدَبَّرَ فِيهِ المُتَدَبِّرُ وجَدَهُ مُفِيدًا اليَقِينَ بِأنَّهُ مِن عِنْدِ اللَّهِ والآيَةُ هُنا تَحْتَمِلُ المَعْنَيَيْنِ فَلْنَجْعَلْهُما مَقْصُودَيْنِ مِنها عَلى الأصْلِ الَّذِي أصَّلْناهُ في المُقَدِّمَةِ التّاسِعَةِ.
وهَذا النَّفْيُ لَيْسَ فِيهِ ادِّعاءٌ ولا تَنْزِيلٌ فَهَذا الوَجْهُ يُغْنِي عَنْ تَنْزِيلِ المَوْجُودِ مَنزِلَةَ المَعْدُومِ فَيُفِيدُ التَّعْرِيضَ بِما بَيْنَ يَدَيْ أهْلِ الكِتابِ يَوْمَئِذٍ مِنَ الكُتُبِ فَإنَّها قَدِ اضْطَرَبَتْ أقْوالُها وتَخالَفَتْ لِما اعْتَراها مِنَ التَّحْرِيفِ وذَلِكَ لِأنَّ التَّصَدِّيَ لِلْأخْبارِ بِنَفْيِ الرَّيْبِ عَنِ القُرْآنِ مَعَ عَدَمِ وُجُودِ قائِلٍ بِالرَّيْبِ فِيما تَضَمَّنَهُ أيْ بِرَيْبٍ مُسْتَنِدٍ لِمُوجِبِ ارْتِيابٍ إذْ قُصارى ما قالُوهُ فِيهِ أقْوالٌ مُجْمَلَةٌ مِثْلَ هَذا سِحْرٌ، هَذا أساطِيرُ الأوَّلِينَ، يَدُلُّ ذَلِكَ التَّحَدِّي عَلى أنَّ المُرادَ التَّعْرِيضُ لا سِيَّما بَعْدَ قَوْلِهِ ذَلِكَ الكِتابُ كَما تَقُولُ لِمَن تَكَلَّمَ بَعْدَ قَوْمٍ تَكَلَّمُوا في مَجْلِسٍ وأنْتَ ساكِتٌ: هَذا الكَلامُ صَوابٌ تُعَرِّضُ بِغَيْرِهِ.
وبِهَذا الوَجْهِ أيْضًا يَتَسَنّى اتِّحادُ المَعْنى عِنْدَ الوَقْفِ لَدى مَن وقَفَ عَلى ”فِيهِ“ ولَدى مَن وقَفَ عَلى ”رَيْبَ“، لِأنَّهُ إذا اعْتَبَرَ الظَّرْفَ غَيْرَ خَبَرٍ وكانَ الخَبَرُ مَحْذُوفًا أمْكَنَ الِاسْتِغْناءُ عَنْ هَذا الظَّرْفِ مِن هاتِهِ الجُمْلَةِ، وقَدْ ذَكَرَ الكَشّافُ أنَّ الظَّرْفَ وهو قَوْلُهُ: ”فِيهِ“ لَمْ يُقَدَّمْ عَلى المَسْنَدِ إلَيْهِ وهو رَيْبٌ أيْ عَلى احْتِمالِ أنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنِ اسْمٍ لا كَما قُدِّمَ الظَّرْفُ في قَوْلِهِ: ”لا فِيها غُولٌ“ لِأنَّهُ لَوْ قُدِّمَ الظَّرْفُ هُنا لَقَصَدَ أنَّ كِتابًا آخَرَ فِيهِ الرَّيْبُ اهـ.
يَعْنِي لِأنَّ التَّقْدِيمَ في مِثْلِهِ يُفِيدُ الِاخْتِصاصَ فَيَكُونُ مُفِيدًا أنَّ نَفْيَ الرَّيْبِ عَنْهُ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ وأنَّ غَيْرَهُ مِنَ الكُتُبِ فِيهِ الرَّيْبُ وهو غَيْرُ مَقْصُودٍ هُنا. ولَيْسَ الحَصْرُ في قَوْلِهِ: ”لا رَيْبَ فِيهِ“ بِمَقْصُودٍ لِأنَّ السِّياقَ خِطابٌ لِلْعَرَبِ المُتَحَدَّيْنَ بِالقُرْآنِ ولَيْسُوا مِن أهْلِ كِتابٍ حَتّى يُرَدَّ عَلَيْهِمْ. وإنَّما أُرِيدَ أنَّهم لا عُذْرَ لَهم في إنْكارِهِمْ أنَّهُ مِن عِنْدِ اللَّهِ إذْ هم قَدْ دُعُوا إلى مُعارَضَتِهِ فَعَجَزُوا. نَعَمْ يُسْتَفادُ مِنهُ تَعْرِيضٌ بِأهْلِ الكِتابِ الَّذِينَ آزَرُوا المُشْرِكِينَ وشَجَّعُوهم عَلى التَّكْذِيبِ بِهِ بِأنَّ القُرْآنَ لِعُلُوِّ شَأْنِهِ بَيْنَ نُظَرائِهِ مِنَ الكُتُبِ لَيْسَ فِيهِ ما يَدْعُو إلى الِارْتِيابِ في كَوْنِهِ مُنَزَّلًا مِنَ اللَّهِ إثارَةً لِلتَّدَبُّرِ فِيهِ هَلْ يَجِدُونَ ما يُوجِبُ الِارْتِيابَ فِيهِ وذَلِكَ يَسْتَطِيرُ جاثِمَ إعْجابِهِمْ بِكِتابِهِمُ المُبَدَّلِ المُحَرَّفِ فَإنَّ الشَّكَّ في الحَقائِقِ رائِدُ ظُهُورِها. والفَجْرُ بِالمُسْتَطِيرِ بَيْنَ يَدَيْ طُلُوعِ الشَّمْسِ بَشِيرٌ بِسُفُورِها. وقَدْ بَنى كَلامَهُ عَلى أنَّ الجُمْلَةَ المُكَيَّفَةَ بِالقَصْرِ في حالَةِ الإثْباتِ لَوْ دَخَلَ عَلَيْها نَفْيٌ وهي بِتِلْكَ الكَيْفِيَّةِ أفادَ قَصْرَ النَّفْيَ لا نَفْيَ القَصْرِ، وأمْثِلَةُ صاحِبِ المِفْتاحِ في تَقْدِيمِ المُسْنَدِ لِلِاخْتِصاصِ سَوّى فِيها بَيْنَ ما جاءَ بِالإثْباتِ وما جاءَ بِالنَّفْيِ.
وعِنْدِي فِيهِ نَظَرٌ سَأذْكُرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى، لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهم وحُكْمُ حَرَكَةِ هاءِ الضَّمِيرِ أوْ سُكُونِها مُقَرَّرَةٌ في عِلْمِ القِراءاتِ في قِسْمِ أُصُولِها.
وقَوْلُهُ ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ الهُدى اسْمُ مَصْدَرِ الهَدْيِ لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ في لُغَةِ العَرَبِ إلّا سُرًى وتُقًى وبُكًى ولُغًى مَصْدَرُ لَغى في لُغَةٍ قَلِيلَةٍ. وفِعْلُهُ هَدى هَدْيًا يَتَعَدّى إلى المَفْعُولِ الثّانِي بِإلى ورُبَّما تَعَدّى إلَيْهِ بِنَفْسِهِ عَلى طَرِيقَةِ الحَذْفِ المُتَوَسَّعِ فِيما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: ٦] .
والهُدى عَلى التَّحْقِيقِ هو الدَّلالَةُ الَّتِي مِن شَأْنِها الإيصالُ إلى البُغْيَةِ وهَذا هو الظّاهِرُ في مَعْناهُ لِأنَّ الأصْلَ عَدَمُ التَّرادُفِ فَلا يَكُونُ هَدى مُرادِفًا لِدَلَّ ولِأنَّ المَفْهُومَ مِنَ الهُدى الدَّلالَةُ الكامِلَةُ وهَذا مُوافِقٌ لِلْمَعْنى المَنقُولِ إلَيْهِ الهُدى في العُرْفِ الشَّرْعِيِّ. وهو أسْعَدُ بِقَواعِدِ الأشْعَرِيِّ لِأنَّ التَّوْفِيقَ الَّذِي هو الإيصالُ عِنْدَ الأشْعَرِيِّ مِن خَلْقِ اللَّهِ تَعالى في قَلْبِ المُوَفَّقِ فَيُناسِبُ تَفْسِيرَ الهِدايَةِ بِما يَصْلُحُ لَهُ لِيَكُونَ الَّذِي يَهْدِي يُوصِلُ الهِدايَةَ الشَّرْعِيَّةَ. فالقُرْآنُ هُدًى ووَصْفُهُ بِالمَصْدَرِ لِلْمُبالَغَةِ أيْ هو هادٍ.
والهُدى الشَّرْعِيُّ هو الإرْشادُ إلى ما فِيهِ صَلاحُ العاجِلِ الَّذِي لا يَنْقُضُ صَلاحَ الآجِلِ. وأثَرُ هَذا الهُدى هو الِاهْتِداءُ فالمُتَّقُونَ يَهْتَدُونَ بِهَدْيِهِ والمُعانِدُونَ لا يَهْتَدُونَ لِأنَّهم لا يَتَدَبَّرُونَ، وهَذا مَعْنًى لا يُخْتَلَفُ فِيهِ وإنَّما اخْتَلَفَ المُتَكَلِّمُونَ في مَنشَأِ حُصُولِ الِاهْتِداءِ وهي مَسْألَةٌ لا حاجَةَ إلَيْها في فَهْمِ الآيَةِ. وتَفْصِيلُ أنْواعِ الهِدايَةِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿اهْدِنا الصِّراطَ﴾ [الفاتحة: ٦] ومَحَلُّ هُدًى إنْ كانَ هو صَدْرُ جُمْلَةٍ أنْ يَكُونَ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هو ضَمِيرُ الكَتابِ فَيَكُونُ المَعْنى الإخْبارُ عَنِ الكِتابِ بِأنَّهُ الهُدى وفِيهِ مِنَ المُبالَغَةِ في حُصُولِ الهِدايَةِ بِهِ ما يَقْتَضِيِهِ الإخْبارُ بِالمَصْدَرِ لِلْإشارَةِ إلى بُلُوغِهِ الغايَةَ في إرْشادِ النّاسِ حَتّى كانَ هو عَيْنُ الهُدى تَنْبِيهًا عَلى رُجْحانِ هُداهُ عَلى هُدى ما قَبْلَهُ مِنَ الكُتُبِ، وإنْ كانَ الوَقْفُ عَلى قَوْلِهِ لا رَيْبَ وكانَ الظَّرْفُ هو صَدْرَ الجُمْلَةِ المُوالِيَةِ وكانَ قَوْلُهُ هُدًى مُبْتَدَأً خَبَرُهُ الظَّرْفُ المُتَقَدِّمُ قَبْلَهُ فَيَكُونُ إخْبارًا بِأنَّ فِيهِ هُدًى فالظَّرْفِيَّةُ تَدُلُّ عَلى تَمَكُّنِ الهُدى مِنهُ فَيُساوِي ذَلِكَ في الدَّلالَةِ عَلى التَّمَكُّنِ الوَجْهَ المُتَقَدِّمَ الَّذِي هو الإخْبارُ عَنْهُ بِأنَّهُ عَيْنُ الهُدى. والمُتَّقِي مَنِ اتَّصَفَ بِالِاتِّقاءِ وهو طَلَبُ الوِقايَةِ، والوِقايَةُ الصِّيانَةُ والحِفْظُ مِنَ المَكْرُوهِ فالمُتَّقِي هو الحَذِرُ المُتَطَلِّبُ لِلنَّجاةِ مِن شَيْءٍ مَكْرُوهٍ مُضِرٍّ، والمُرادُ هُنا المُتَّقِينَ اللَّهَ، أيِ الَّذِينَ هم خائِفُونَ غَضَبَهُ واسْتَعَدُّوا لِطَلَبِ مَرْضاتِهِ واسْتِجابَةِ طَلَبِهِ فَإذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ القُرْآنُ اسْتَمَعُوا لَهُ وتَدَبَّرُوا ما يَدْعُو إلَيْهِ فاهْتَدَوْا.
والتَّقْوى الشَّرْعِيَّةُ هي امْتِثالُ الأوامِرِ واجْتِنابُ المَنهِيّاتِ مِنَ الكَبائِرِ وعَدَمُ الِاسْتِرْسالِ عَلى الصَّغائِرِ ظاهِرًا وباطِنًا أيِ اتِّقاءُ ما جَعَلَ اللَّهُ الِاقْتِحامَ فِيهِ مُوجِبًا غَضَبَهُ وعِقابَهُ، فالكَبائِرُ كُلُّها مُتَوَعَّدٌ فاعِلُها بِالعِقابِ دُونَ اللَّمَمِ.
والمُرادُ مِنَ الهُدى ومِنَ المُتَّقِينَ في الآيَةِ مَعْناهُما اللُّغَوِيُّ فالمُرادُ أنَّ القُرْآنَ مِن شَأْنِهِ الإيصالُ إلى المَطالِبِ الخَيْرِيَّةِ وأنَّ المُسْتَعِدِّينَ لِلْوُصُولِ بِهِ إلَيْها هُمُ المُتَّقُونَ أيْ هُمُ الَّذِينَ تَجَرَّدُوا عَنِ المُكابَرَةِ ونَزَّهُوا أنْفُسَهم عَنْ حَضِيضِ التَّقْلِيدِ لِلْمُضِلِّينَ وخَشُوا العاقِبَةَ وصانُوا أنْفُسَهم مِن خَطَرِ غَضَبِ اللَّهِ هَذا هو الظّاهِرُ، والمُرادُ بِالمُتَّقِينَ المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وبِمُحَمَّدٍ وتَلَقَّوُا القُرْآنَ بِقُوَّةٍ وعَزَمٍ عَلى العَمَلِ بِهِ كَما سَتَكْشِفُ عَنْهُمُ الأوْصافُ الآتِيَةُ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ﴾ [البقرة: ٣] إلى قَوْلِهِ ﴿مِن قَبْلِكَ﴾ [البقرة: ٤] وفي بَيانِ كَوْنِ القُرْآنِ هُدًى وكَيْفِيَّةِ صِفَةِ المُتَّقِي مَعانٍ ثَلاثَةٌ: الأوَّلُ أنَّ القُرْآنَ هُدًى في زَمَنِ الحالِ لِأنَّ الوَصْفَ بِالمَصْدَرِ عِوَضٌ عَنِ الوَصْفِ بِاسْمِ الفاعِلِ وزَمَنُ الحالِ هو الأصْلُ في اسْمِ الفاعِلِ والمُرادُ حالُ النُّطْقِ. والمُتَّقُونَ هُمُ المُتَّقُونَ في الحالِ أيْضًا لِأنَّ اسْمَ الفاعِلِ حَقِيقَةً في الحالِ كَما قُلْنا، أيْ أنَّ جَمِيعَ مَن نَزَّهَ نَفْسَهُ وأعَدَّها لِقَبُولِ الكَمالِ يَهْدِيهِ هَذا الكِتابُ، أوْ يَزِيدُهُ هُدًى كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿والَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهم هُدًى وآتاهم تَقْواهُمْ﴾ [محمد: ١٧] الثّانِي أنَّهُ هُدًى في الماضِي أيْ حَصَلَ بِهِ هُدًى أيْ بِما نَزَلَ مِنَ الكِتابِ، فَيَكُونُ المُرادُ مِنَ المُتَّقِينَ مَن كانَتِ التَّقْوى شِعارَهم أيْ أنَّ الهُدى ظَهَرَ أثَرُهُ فِيهِمْ فاتَّقَوْا وعَلَيْهِ فَيَكُونُ مَدْحًا لِلْكِتابِ بِمُشاهَدَةِ هَدْيِهِ وثَناءً عَلى المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا بِهِ. وإطْلاقُ المُتَّقِينَ عَلى المُتَّصِفِينَ بِالتَّقْوى فِيما مَضى، وإنْ كانَ غَيْرُ الغالِبِ في الوَصْفِ بِاسْمِ الفاعِلِ، إطْلاقٌ يَعْتَمِدُ عَلى قَرِينَةِ سِياقِ الثَّناءِ عَلى الكِتابِ. الثّالِثُ أنَّهُ هُدًى في المُسْتَقْبَلِ لِلَّذِينَ سَيَتَّقُونَ في المُسْتَقْبَلِ وتَعَيَّنَ عَلَيْهِ هُنا قَرِينَةُ الوَصْفِ بِالمَصْدَرِ في هُدًى لِأنَّ المَصْدَرَ لا يَدُلُّ عَلى زَمانٍ مُعَيَّنٍ.
حَصَلَ مِن وصْفِ الكِتابِ بِالمَصْدَرِ مِن وفْرَةِ المَعانِي ما لا يَحْصُلُ، لَوْ وُصِفَ بِاسْمِ الفاعِلِ.
فَقِيلَ هادٍ لِلْمُتَّقِينَ، فَهَذا ثَناءٌ عَلى القُرْآنِ وتَنْوِيهٌ بِهِ وتَخَلُّصٌ لِلثَّناءِ عَلى المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ انْتَفَعُوا بِهَدْيِهِ، فالقُرْآنُ لَمْ يَزَلْ ولَنْ يَزالَ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، فَإنَّ جَمِيعَ أنْواعِ هِدايَتِهِ نَفَعَتِ المُتَّقِينَ في سائِرِ مَراتِبِ التَّقْوى، وفي سائِرِ أزْمانِهِ وأزْمانِهِمْ عَلى حَسَبِ حِرْصِهِمْ ومَبالِغِ عِلْمِهِمْ واخْتِلافِ مُطالِبِهِمْ، فَمِن مُنْتَفِعٍ بِهَدْيِهِ في الدِّينِ. ومِن مُنْتَفِعٍ في السِّياسَةِ وتَدْبِيرِ أُمُورِ الأُمَّةِ. ومِن مُنْتَفِعٍ بِهِ في الأخْلاقِ والفَضائِلِ، ومِن مُنْتَفِعٍ بِهِ في التَّشْرِيعِ والتَّفَقُّهِ في الدِّينِ. وكُلُّ أُولَئِكَ مِنَ المُتَّقِينَ وانْتِفاعُهم بِهِ عَلى حَسَبِ مَبالِغِ تَقْواهم. وقَدْ جَعَلَ أئِمَّةُ الأُصُولِ الِاجْتِهادَ في الفِقْهِ مِنَ التَّقْوى، فاسْتَدَلُّوا عَلى وُجُوبِ الِاجْتِهادِ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿فاتَّقُوا اللَّهَ ما اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: ١٦] فَإنْ قَصَّرَ بِأحَدٍ سَعْيُهُ عَنْ كَمالِ الِانْتِفاعِ بِهِ، فَإنَّما ذَلِكَ لِنَقْصٍ فِيهِ لا في الهِدايَةِ، ولا يَزالُ أهْلُ العِلْمِ والصَّلاحِ يَتَسابَقُونَ في التَّحْصِيلِ عَلى أوْفَرِ ما يَسْتَطِيعُونَ مِنَ الِاهْتِداءِ بِالقُرْآنِ.
وتَلْتَئِمُ الجُمَلُ الأرْبَعُ كَمالَ الِالتِئامِ: فَإنَّ جُمْلَةَ الم تَسْجِيلٌ لِإعْجازِ القُرْآنِ وإنْحاءٍ عَلى عامَّةِ المُشْرِكِينَ عَجْزِهِمْ عَنْ مُعارَضَتِهِ وهو مُؤَلَّفٌ مِن حُرُوفِ كَلامِهِمْ وكَفى بِهَذا نِداءً عَلى تَعَنُّتِهِمْ.
وجُمْلَةُ ذَلِكَ الكِتابِ تَنْوِيهٌ بِشَأْنِهِ وأنَّهُ بالِغٌ حَدَّ الكَمالِ في أحْوالِ الكُتُبِ، فَذَلِكَ مُوَجَّهٌ إلى الخاصَّةِ مِنَ العُقَلاءِ أنْ يَقُولَ لَهم هَذا كِتابٌ مُؤَلَّفٌ مِن حُرُوفِ كَلامِهِمْ، وهو بالِغٌ حَدَّ الكَمالِ مِن بَيْنِ الكُتُبِ، فَكانَ ذَلِكَ مِمّا يُوَفِّرُ دَواعِيَكم عَلى اتِّباعِهِ والِافْتِخارِ بِأنْ مُنِحْتُمُوهُ فَإنَّكم تَعُدُّونَ أنْفُسَكم أفْضَلَ الأُمَمِ، فَكَيْفَ لا تُسْرِعُونَ إلى مُتابَعَةِ كِتابٍ نَزَلَ فِيكم هو أفْضَلُ الكُتُبِ فَوِزانُ هَذا وِزانُ قَوْلِهِ تَعالى ﴿أنْ تَقُولُوا إنَّما أُنْزِلَ الكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنا﴾ [الأنعام: ١٥٦] إلى قَوْلِهِ ”ورَحْمَةٌ“ ومَوَجَّهٌ إلى أهْلِ الكِتابِ بِإيقاظِهِمْ إلى أنَّهُ أفْضَلُ مِمّا أُوتُوهُ.
وجُمْلَةُ: ”لا رَيْبَ“ إنْ كانَ الوَقْفُ عَلى قَوْلِهِ: ”لا رَيْبَ“ تَعْرِيضٌ بِكُلِّ المُرْتابِينَ فِيهِ مِنَ المُشْرِكِينَ وأهْلِ الكِتابِ أيْ أنَّ الِارْتِيابَ في هَذا الكِتابِ نَشَأ عَنِ المُكابَرَةِ، وأنْ لا رَيْبَ فَإنَّهُ الكِتابُ الكامِلُ، وإنْ كانَ الوَقْفُ عَلى قَوْلِهِ فِيهِ كانَ تَعْرِيضًا بِأهْلِ الكِتابِ في تَعَلُّقِهِمْ بِمُحَرَّفِ كِتابَيْهِمْ مَعَ ما فِيهِما مِن مَثارِ الرَّيْبِ والشَّكِّ مِنَ الِاضْطِرابِ الواضِحِ الدّالِّ عَلى أنَّهُ مِن صُنْعِ النّاسِ، قالَ تَعالى ﴿أفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ ولَوْ كانَ مِن عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: ٨٢] وقالَ في الكَشّافِ ثُمَّ لَمْ تَخْلُ كُلُّ واحِدَةٍ مِن هَذِهِ الأرْبَعِ بَعْدَ أنْ نُظِّمَتْ هَذا التَّنْظِيمَ السِّرِّيَّ مِن نُكْتَةٍ ذاتِ جَزالَةٍ: فَفي الأُولى الحَذْفُ والرَّمْزُ إلى الغَرَضِ بِألْطَفِ وجْهٍ، وفي الثّانِيَةِ ما في التَّعْرِيفِ مِنَ الفَخامَةِ، وفي الثّالِثَةِ ما في تَقْدِيمِ الرَّيْبِ عَلى الظَّرْفِ، وفي الرّابِعَةِ الحَذْفُ ووَضْعُ المَصْدَرِ - وهو الهُدى - مَوْضِعَ الوَصْفِ وإيرادُهُ مُنَكَّرًا والإيجازُ في ذِكْرِ المُتَّقِينَ ا هـ.
فالتَّقْوى إذَنْ بِهَذا المَعْنى هي أساسُ الخَيْرِ، وهي بِالمَعْنى الشَّرْعِيِّ الَّذِي هو غايَةُ المَعْنى اللُّغَوِيِّ جُمّاعُ الخَيْراتِ. قالَ ابْنُ العَرَبِيِّ لَمْ يَتَكَرَّرْ لَفْظٌ في القُرْآنِ مِثْلَما تَكَرَّرَ لَفْظُ التَّقْوى اهْتِمامًا بِشَأْنِها.
مدارك التنزيل — النسفي (٧١٠ هـ)
﴿ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ﴾ [البقرة ٢]
﴿ذَلِكَ الكِتابُ﴾ أيْ: ذَلِكَ الكِتابُ الَّذِي وُعِدُوا بِهِ عَلى لِسانِ مُوسى وعِيسى عَلَيْهِما السَلامُ، أوْ ذَلِكَ إشارَةٌ إلى الم. وإنَّما ذُكِّرَ اسْمُ الإشارَةِ، والمُشارُ إلَيْهِ مُؤَنَّثٌ، وهو السُورَةُ، لِأنَّ الكِتابَ إنْ كانَ خَبَرَهُ كانَ ذَلِكَ في مَعْناهُ، ومُسَمّاهُ مُسَمّاهُ، فَجازَ إجْراءُ حُكْمِهِ عَلَيْهِ بِالتَذْكِيرِ، وإنْ كانَ صِفَتَهُ فالإشارَةُ بِهِ إلى الكِتابِ صَرِيحًا، لِأنَّ اسْمَ الإشارَةِ مُشارٌ بِهِ إلى الجِنْسِ الواقِعِ صِفَةً لَهُ. تَقُولُ: هِنْدٌ ذَلِكَ الإنْسانُ، أوْ ذَلِكَ الشَخْصُ فَعَلَ كَذا. ووَجَّهَ تَأْلِيفِ ذَلِكَ الكِتابِ مَعَ "الم" إنْ جَعَلْتَ "الم" اسْمًا لِلسُّورَةِ أنْ يَكُونَ "الم" مُبْتَدَأً، وذَلِكَ مُبْتَدَأً ثانِيًا، والكِتابُ خَبَرُهُ، والجُمْلَةُ خَبَرٌ لِلْمُبْتَدَأِ الأوَّلِ، ومَعْناهُ: أنَّ ذَلِكَ هو الكِتابُ الكامِلُ، كَأنَّ ما عَداهُ مِنَ الكُتُبِ في مُقابَلَتِهِ ناقِصٌ، كَما تَقُولُ: هو الرَجُلُ، أيِ: الكامِلُ في الرُجُولِيَّةِ، الجامِعُ لِما يَكُونُ في الرِجالِ مِن مَرْضِيّاتِ الخِصالِ. وأنْ يَكُونَ "الم" خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أيْ: هَذِهِ "الم" جُمْلَةٌ، وذَلِكَ الكِتابُ جُمْلَةٌ أُخْرى. وإنْ جَعَلْتَ "الم" بِمَنزِلَةِ الصَوْتِ، كانَ ذَلِكَ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ الكِتابُ، أيْ: ذَلِكَ الكِتابُ المُنَزَّلُ هو الكِتابُ الكامِلُ ﴿لا رَيْبَ﴾ لا شَكَّ، وهو مَصْدَرُ رابَنِي: إذا حَصَلَ فِيكَ الرِيبَةُ وحَقِيقَةُ الرِيبَةِ: قَلَقُ النَفْسِ واضْطِرابُها ومِنهُ قَوْلُهُ ﷺ: « "دَعْ ما يَرِيبُكَ إلى ما لا يَرِيبُكَ، فَإنَّ الشَكَّ رِيبَةٌ، وإنَّ الصِدْقَ طُمَأْنِينَةٌ". » أيْ: فَإنَّ كَوْنَ الأمْرِ مَشْكُوكًا فِيهِ مِمّا تَقْلُقُ لَهُ النَفْسُ ولا تَسْتَقِرُّ، وكَوْنُهُ صَحِيحًا صادِقًا مِمّا تَطْمَئِنُّ لَهُ وتَسْكُنُ. ومِنهُ: رَيْبُ الزَمانِ، وهُوَ: ما يُقْلِقُ النُفُوسَ، ويُشَخِّصُ بِالقُلُوبِ مِن نَوائِبِهِ. وإنَّما نَفى الرَيْبَ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِغْراقِ، وقَدِ ارْتابَ فِيهِ كَثِيرٌ، لِأنَّ المَنفِيَّ كَوْنُهُ مُتَعَلِّقًا لِلرَّيْبِ، ومَظِنَّةً لَهُ، لِأنَّهُ مِن وُضُوحِ الدَلالَةِ لَهُ وسُطُوعِ البُرْهانِ، بِحَيْثُ لا يَنْبَغِي لِمُرْتابٍ أنْ يَقَعَ فِيهِ، لا أنَّ أحَدًا لا يَرْتابُ، وإنَّما لَمْ يَقُلْ: لا فِيهِ رَيْبٌ، كَما قالَ: ﴿لا فِيها غَوْلٌ﴾ [الصافّاتُ: ٤٧]، لِأنَّ المُرادَ في إيلاءِ الرَيْبِ حَرْفَ النَفْيِ، نَفْيُ الرَيْبِ عَنْهُ، وإثْباتُ أنَّهُ حَقٌّ لا باطِلٌ كَما يَزْعُمُ الكُفّارُ. ولَوْ أوْلى الظَرْفَ لَبَعُدَ عَنِ المُرادِ، وهو أنَّ كِتابًا آخَرَ فِيهِ رَيْبٌ لا فِيهِ، كَما قَصَدَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا فِيها غَوْلٌ﴾ [الصافّاتُ: ٤٧] فَفِيهِ تَفْضِيلُ خَمْرِ الجَنَّةِ عَلى خُمُورِ الدُنْيا بِأنَّها لا تَغْتالُ العُقُولَ كَما تَغْتالُها هي.
والوَقْفُ عَلى فِيهِ هو المَشْهُورُ. وعَنْ نافِعٍ وعاصِمٍ أنَّهُما وقَفا عَلى لا رَيْبَ، ولا بُدَّ لِلْواقِفِ مِن أنْ يَنْوِيَ خَبَرًا، والتَقْدِيرُ: لا رَيْبَ فِيهِ ﴿فِيهِ هُدًى﴾ فِيهِ بِإشْباعِ كُلِّ هاءٍ، مَكِّيٌّ. ووافَقَهُ حَفْصٌ في ﴿فِيهِ مُهانًا﴾ [الفَرْقانُ: ٦٩] وهو الأصْلُ، كَقَوْلِكَ: مَرَرْتُ بِهِ، ومِن عِنْدِهِ، وفي دارِهِ، وكَما لا يُقالُ: في دارِهِ، ومِن عِنْدِهِ، وجَبَ ألّا يُقالَ: فِيهِ. قالَ سِيبَوَيْهِ: ما قالَهُ مُؤَدٍّ إلى الجَمْعِ بَيْنَ ثَلاثَةِ أحْرُفٍ سِواكَنَ الياءِ قَبْلَ الهاءِ والهاءِ إذِ الهاءُ المُتَحَرِّكَةُ في كَلامِهِمْ بِمَنزِلَةِ الساكِنَةِ، لِأنَّ الهاءَ خَفِيَّةٌ والخَفِيُّ قَرِيبٌ مِنَ الساكِنِ، والياءُ بَعْدَها. والهُدى مَصْدَرٌ عَلى فِعْلٍ كالبُكاءِ، وهو الدَلالَةُ المُوصِلَةُ إلى البُغْيَةِ، بِدَلِيلِ وُقُوعِ الضَلالَةِ في مُقابَلَةِ في قَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَلالَةَ بِالهُدى﴾ [البَقَرَةِ: ١٦]. وإنَّما قِيلَ: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ والمُتَّقُونَ مُهْتَدُونَ، لِأنَّهُ كَقَوْلِكَ لِلْعَزِيزِ المُكَرَّمِ: أعَزَّكَ اللهُ وأكْرَمَكَ، تُرِيدُ طَلَبَ الزِيادَةِ عَلى ما هو ثابِتٌ فِيهِ واسْتَدامَتَهُ، كَقَوْلِهِ: ﴿اهْدِنا الصِراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتِحَةُ: ٦] ولِأنَّهُ سَمّاهم عِنْدَ مُشارِفَتِهِمْ لِاكْتِساءِ لِباسِ التَقْوى مُتَّقِينَ، كَقَوْلِهِ ﷺ: « "مَن قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ". » وقَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما-: إذا أرادَ أحَدُكُمُ الحَجَّ فَلْيُعَجِّلْ فَإنَّهُ يَمْرَضُ المَرِيضُ. فَسَمّى المُشارِفَ لِلْقَتْلِ والمَرَضِ قَتِيلًا ومَرِيضًا. ولَمْ يَقُلْ: هُدًى لِلضّالِّينَ، لِأنَّهم فَرِيقانِ: فَرِيقٌ عَلِمَ بَقاءَهم عَلى الضَلالَةِ، وفَرِيقٌ عَلِمَ أنَّ مَصِيرَهم إلى الهُدى، وهو هُدًى لِهَؤُلاءِ فَحَسْبُ، فَلَوْ جِيءَ بِالعِبارَةِ المُفْصِحَةِ عَنْ ذَلِكَ لَقِيلَ: هُدًى لِلصّائِرِينَ إلى الهُدى بَعْدَ الضَلالِ، فاخْتَصَرَ الكَلامَ بِإجْرائِهِ عَلى الطَرِيقَةِ الَّتِي ذَكَرْنا، فَقِيلَ: هَدًى لِلْمُتَّقِينَ مَعَ أنَّ فِيهِ تَصْدِيرًا لِلسُّورَةِ، الَّتِي هي أُولى الزَهْراوَيْنِ، وسَنامُ القُرْآنِ، بِذِكْرِ أوْلِيائِهِ تَعالى.
والمُتَّقِي في اللُغَةِ اسْمُ فاعِلٍ، مِن قَوْلِهِمْ: وقاهُ فاتَّقى، فَفاؤُها واوٌ ولامُها ياءٌ، وإذا بَنَيْتَ مِن ذَلِكَ افْتَعَلَ قَلَبْتَ الواوَ تاءً، وأدْغَمْتَها في التاءِ الأُخْرى، فَقُلْتَ: اتَّقى، والوِقايَةُ: فَرْطُ الصِيانَةِ، وفي الشَرِيعَةِ: مَن يَقِي نَفْسَهُ تَعاطِيَ ما يَسْتَحِقُّ بِهِ العُقُوبَةَ مِن فِعْلٍ أوْ تَرْكٍ. ومَحَلُّ هُدًى الرَفْعُ، لِأنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أوْ خَبَرٌ مَعَ لا رَيْبَ فِيهِ لِذَلِكَ، أوِ النَصْبُ عَلى الحالِ مِنَ الهاءِ في "فِيهِ". والَّذِي هو أرْسَخُ عَرْقًا في البَلاغَةِ أنْ يُقالَ قَوْلُهُ: ﴿الم﴾ جُمْلَةٌ بِرَأْسِها، أوْ طائِفَةٌ مِن حُرُوفِ المُعْجَمِ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِها، و﴿ذَلِكَ الكِتابُ﴾ جُمْلَةٌ ثانِيَةٌ و﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ ثالِثَةٌ و﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ رابِعَةٌ.
وَقَدْ أُصِيبَ بِتَرْتِيبِها مَفْصِلُ البَلاغَةِ، حَيْثُ جِيءَ بِها مُتَناسِقَةً هَكَذا مِن غَيْرِ حَرْفِ عَطْفٍ، وذَلِكَ لِمَجِيئِها مُتَآخِيَةً آخِذًا بَعْضُها بِعُنُقِ بَعْضٍ، فالثانِيَةُ مُتَّحِدَةٌ بِالأُولى مُعْتَنِقَةٌ لَها وهَلُمَّ جَرًّا إلى الثالِثَةِ والرابِعَةِ. بَيانُ ذَلِكَ: أنَّهُ نَبَّهَ أوَّلًا عَلى أنَّهُ الكَلامُ المُتَحَدّى بِهِ، ثُمَّ أُشِيرَ إلَيْهِ بِأنَّهُ الكِتابُ المَنعُوتُ بِغايَةِ الكَمالِ، فَكانَ تَقْرِيرَ الجِهَةِ التَحَدِّي، ثُمَّ نَفى عَنْهُ أنْ يَتَشَبَّهَ بِهِ طَرَفٌ مِنَ الرَيْبِ، فَكانَ شَهادَةً وتَسْجِيلًا بِكَمالِهِ، لِأنَّهُ لا كَمالَ أكْمَلُ مِمّا لِلْحَقِّ واليَقِينِ، ولا نَقْصَ أنْقَصُ مِمّا لِلْباطِلِ والشُبْهَةِ. وقِيلَ لِعالِمٍ: فِيمَ لَذَّتُكَ؟ قالَ: في حُجَّةٍ تَتَبَخْتَرُ اتِّضاحًا، وفى شُبْهَةٍ تَتَضاءَلُ افْتِضاحًا.
ثُمَّ أخْبَرَ عَنْهُ بِأنَّهُ ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ فَقَرَّرَ بِذَلِكَ كَوْنَهُ يَقِينًا لا يَحُومُ الشَكُّ حَوْلَهُ وحَقًّا ﴿لا يَأْتِيهِ الباطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ولا مِن خَلْفِهِ﴾ ثُمَّ لَمْ تَخْلُ كُلُّ واحِدَةٍ مِنَ الأرْبَعِ بَعْدَ أنْ رُتِّبَتْ هَذا التَرْتِيبَ الأنِيقَ، ونُظِمَتْ هَذا النَظْمَ الرَشِيقَ مِن نُكْتَةٍ ذاتِ جَزالَةٍ. فَفي الأوْلى الحَذْفُ والرَمْزُ إلى المَطْلُوبِ بِألْطَفِ وجْهٍ، وفي الثانِيَةِ ما في التَعْرِيفِ مِنَ الفَخامَةِ، وفي الثالِثَةِ ما في تَقْدِيمِ الرَيْبِ عَلى الظَرْفِ، وفي الرابِعَةِ الحَذْفُ، ووَضْعُ المَصْدَرِ، الَّذِي هو هُدًى، مَوْضِعَ الوَصْفِ، الَّذِي هو هادٍ، كَأنَّ نَفْسُهُ هِدايَةً، وإيرادُهُ مُنَكَّرًا، فَفِيهِ إشْعارٌ بِأنَّهُ هُدًى لا يُكْتَنَهُ كُنْهُهُ، والإيجازُ في ذِكْرِ المُتَّقِينَ كَما مَرَّ.
تفسير القرآن — السمعاني (٤٨٩ هـ)
﴿ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ﴾ [البقرة ٢]
قَوْله عز وَجل: ﴿ذَلِك الْكتاب لَا ريب فِيهِ﴾ ، أما قَوْله: ﴿ذَلِك الْكتاب﴾ أَي: هَذَا الْكتاب، كَمَا قَالَ الْقَائِل: (أَقُول لَهُ وَالرمْح يأطر مَتنه ... تَأمل خفافا إِنَّنِي أَنا ذلكا)
[أَي] : أنني أَنا هَذَا. وَقيل: هَذَا مُضْمر فِيهِ، وَمَعْنَاهُ: هَذَا ذَلِك الْكتاب الَّذِي وعدتك يَا مُحَمَّد أَن أنزلهُ عَلَيْك على لِسَان الَّذين قبلك، و " هَذَا " للتقريب و " ذَلِك " للتبعيد.
فَأَما ﴿الْكتاب﴾ هُوَ الْقُرْآن، وَالْكتاب بِمَعْنى الْمَكْتُوب كَمَا يُقَال: " ضرب الْأَمِير " أَي: مضروبه.
﴿لَا ريب فِيهِ﴾ أَي: لَا شكّ فِيهِ. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ أخبر قَالَ: " لَا ريب فِيهِ " وَقد ارتاب فِيهِ كثير من النَّاس، وَخبر الله تَعَالَى لَا يكون بِخِلَاف مخبره؟ يُقَال: مَعْنَاهُ أَنه الْحق والصدق لَا شكّ فِيهِ.
وَقيل: هُوَ خبر بِمَعْنى النهى، أَي: لَا ترتابوا فِيهِ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿هدى لِلْمُتقين﴾ وَالْهدى بِمَعْنى الرشد وَالْبَيَان.
وَأما المتقون مَأْخُوذ من الاتقاء وَالتَّقوى. وَأَصله الحجز بَين شَيْئَيْنِ، وَمِنْه يُقَال: اتَّقى بترسه، أَي: جعله حاجزا بَين نَفسه وَبَين مَا قصد بِهِ من الْمَكْرُوه. وَفِي الْخَبَر " كُنَّا إِذا احمر الْبَأْس اتقينا برَسُول الله ". أَي: " اشتدت الْحَرْب " جَعَلْنَاهُ حاجزا بَيْننَا وَبَين الْعَدو.
فَكَأَن المتقى يَجْعَل امْتِثَال أَمر الله والاجتناب عَن نَهْيه حاجزا بَينه وَبَين الْعَذَاب فيتحرز بِطَاعَة الله عَن عُقُوبَة الله.
فَإِن قَالَ قَائِل: لم خص الْمُتَّقِينَ بِالذكر وَهُوَ هدى لجَمِيع الْمُؤمنِينَ؟ قيل: إِنَّمَا خصهم بِالذكر تَشْرِيفًا، أَو لأَنهم هم المنتفعون بِالْهدى، حَيْثُ نزلُوا منزل التَّقْوَى دون غَيرهم، فَلهَذَا خصهم بِهِ.
الهداية إلى بلوغ النهاية — مكي بن أبي طالب (٤٣٧ هـ)
﴿ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ﴾ [البقرة ٢]
قوله عز وجل: ﴿ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ﴾.
أكثر أهل التفسير على أن "ذلك" بمعنى "هذا".
كما تقول للرجل وهو يحدثك: "ذلك، والله الحق"، أي هذا والله الحق.
قال الله جل ذكره: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾ [ق: ١٩]. أي هذا ما كنت منه تحيد. وقال: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ [البقرة: ١٩٦]، أي هذه عشرة كاملة. وقال: ﴿ذٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ﴾ [البقرة: ١٩٦]. أي هذا الحكم لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام.
وقال: ﴿إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ﴾ [ص: ٦٤] أي إن هذا وهو كثير في كلام العرب والقرآن.
وقيل: إن ﴿ذٰلِكَ﴾ على بابها للإشارة إلى شيء معلوم. واختلف في ذلك المشار إليه. ما هو؟
فقيل: إن ﴿ذٰلِكَ﴾ إشارة إلى ما نزل من القرآن قبل سورة البقرة.
وقال الكسائي: "﴿ذٰلِكَ﴾ إشارة إلى الرسالة والقرآن وعمّا في السماء".
وقيل: إشارة إلى اللوح المحفوظ.
وحكى الطبري أن بعض المفسرين قال: "﴿ذٰلِكَ﴾: إشارة إلى التوراة والإنجيل". وقيل: ﴿ذٰلِكَ﴾: إشارة إلى ما وعد به النبي ﷺ من أنه سينزل عليه كتاب فوقعت الإشارة على ما تقدم من الوعد.
وجيء باللام في ﴿ذٰلِكَ﴾ للتأكيد في بعد الإشارة.
وقال الكسائي: "جيء بها لئلا يتوهم أن ﴿ذٰلِكَ﴾ مضاف إلى الكاف".
وقيل: جيء بها عوضاً عن المحذوف من "ذا"، لأن أصل "ذا" أن يكون على ثلاثة أحرف، لأن أقل الأسماء ما يأتي على ثلاثة أحرف.
وقال علي بن سليمان: "جيء باللام لتدل على شدة التراخي، وكسرت لئلا تشبه لام الملك.
وقيل: كسرت لأنها بدل من همزة مكسورة لأن أصل "ذا" "ذاء" على ثلاثة أحرف بهمزة مكسورة، ومن العرب من يقول في "ذلك" "ذاءك" بالهمز حكاه الفراء وغيره، قال: "وإنما أبدلوا من الهمزة لاماً لأن "ذاء" خرج عن لفظ المضاف، وليس بمضاف، واللام من أدوات المضاف، فأبدلوا من الهمزة لاماً وكسرت لأن الهمزة كانت مكسورة لالتقاء الساكنين".
كان أصل ذا أن يكون بألفين ليكون على ثلاثة أحرف إذ هي أقل أصول الأسماء فأبدلت الألف الثانية همزة وكسرت لسكونها وسكون الألف قبلها. وقد قال الكسائي: "إنما أبدلوا من الهمزة لاماً لئلا تشبه المضاف"
وقيل: إنما كسرت اللام لالتقاء الساكنين لأنها اجتلبت ساكنة، وقبلها الألف من "ذا" ساكنة، وكسرت اللام لالتقاء الساكنين.
والاسم من "ذلك"، ذا وقيل: الاسم الذال، وزيدت الألف للتقوية. ولا موضع للكاف من الإعراب، إنما هي للخطاب، ولو كان لها موضع من الإعراب لكانت في موضع خفض بالإضافة على ظاهر اللفظ.
و "ذا" لا يضاف في شيء من كلام العرب، لأنه معرفة، ولأن اللام تفصل بينهما، ولأن المعنى على غير معنى الإضافة.
والكتاب مشتق من الكتيبة وهي الخيل المجتمعة، يقال: "تَكتَّب القَوْمُ" إذا اجتمعوا. فسمي المكتوب كتاباً لاجتماع بعض الحروف إلى بعض. ومنه قول العرب: "كُتِبَتْ القِرْبَة" إذا جُمِعَتْ خُرَزاً إلى خُرَز، وكَتَبْتُ البَغلَةَ" إذا جَمَعْتَ بين شُفْرَيْهَا بِحَلْقَة.
قوله عز وجل: ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾.
الهاء تعود على (الكتاب) . وقيل على ﴿ذٰلِكَ﴾.
وقيل: على ﴿الۤـمۤ﴾ على أن تكون ﴿الۤـمۤ﴾ إسماً من أسماء القرآن.
وقيل: هي راجعة على ﴿هُدًى﴾ مقدمة عليه، يراد به التقديم. أي ذلك الكتاب هدى لا ريب فيه، أي في الهدى. ورجوعها على ﴿ٱلْكِتَابُ﴾ أبينها.
والكتاب القرآن هو نفي عام نفى الله جل ذكره أن يكون فيه شك عند من وفقه الله، وقد ارتاب فيه من خذله الله ولم يوفقه، ولذلك قال: ﴿وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا﴾ [البقرة: ٢٣]. معناه: وإن كنتم على زعمكم في شك من ذلك فأتوا ببرهان على ذلك، فقد أتيناكم بما لا ريب فيه لمن وفق.
والريب مصدر "رَابَني الأَمْرُ رَيْباً".
وحكى المبرد: "رَابَني الشيء تبينت فيه الريبة، وأَرَابَنِي إذا لم أتبينها فيه".
وحكى غيره: "أَرَابَ الرجل في نفسه، ورَابَ غيره".
* * *
وقوله: ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾.
الهدى: الرشد والبيان.
والتقى: اسم جامع لكل خصلة محمودة العاقبة، ومن اتقى الشرك فهو من المتقين، وهو أعظم التقى، وأصله من التَّوقّي وهو التستر، فكأن التقي يستر على جميع ما يذم عليه. وقد فسرنا إعراب هذا وما شابهه في كتاب "تفسير مشكل الإعراب"، فأخلينا هذا الكتاب من بسط الإعراب لئلا يطول إلا أن يقع نادر من الإعراب فنذكره على شرطنا المتقدم. فاعلم ذلك.
محاسن التأويل — القاسمي (١٣٣٢ هـ)
﴿ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ﴾ [البقرة ٢]
القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[٢ ] ﴿ذَلِكَ الكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾
أيْ: هَذا القُرْآنُ لا شَكَّ أنَّهُ مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى كَما قالَ تَعالى في السَّجْدَةِ: ﴿الم﴾ [السجدة: ١] ﴿تَنْـزِيلُ الكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِن رَبِّ العالَمِينَ﴾ [السجدة: ٢] قالَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ: اخْتِصاصُ ذَلِكَ بِالإشارَةِ لِلْبَعِيدِ حُكْمٌ عُرْفِيٌّ لا وضْعِيٌّ، فَإنَّ العَرَبَ تُعارِضُ بَيْنَ اسْمَيِ الإشارَةِ. فَيَسْتَعْمِلُونَ كُلًّا مِنهُما مَكانَ الآخَرِ، وهَذا مَعْرُوفٌ في كَلامِهِمْ. وفي التَّنْزِيلِ مِن ذَلِكَ آياتٌ كَثِيرَةٌ، ومَن جَرى عَلى أنَّ ذَلِكَ إشارَةٌ لِلْبَعِيدِ يَقُولُ: إنَّما صَحَّتِ الإشارَةُ بِذَلِكَ هُنا إلى ما لَيْسَ بِبَعِيدٍ، لِتَعْظِيمِ المُشارِ إلَيْهِ، ذَهابًا إلى بُعْدِ دَرَجَتِهِ وعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ ومَنزِلَتِهِ في الهِدايَةِ والشَّرَفِ.
والرَّيْبُ في الأصْلِ: مَصْدَرُ رابَنِي إذا حَصَلَ فِيكَ الرِّيبَةُ. وحَقِيقَتُها: قَلَقُ النَّفْسِ واضْطِرابُها. ثُمَّ اسْتُعْمِلَ في مَعْنى الشَّكِّ مُطْلَقًا، أوْ مَعَ تُهْمَةٍ. لِأنَّهُ يُقْلِقُ النَّفْسَ ويُزِيلُ الطُّمَأْنِينَةَ.
وفِي الحَدِيثِ: ««دَعْ ما يَرِيبُكَ إلى ما لا يَرِيبُكَ»» .
ومَعْنى نَفْيِهِ عَنِ الكِتابِ، أنَّهُ في عُلُوِّ الشَّأْنِ، وسُطُوعِ البُرْهانِ، بِحَيْثُ لَيْسَ فِيهِ مَظِنَّةُ أنْ يُرْتابَ في حَقِيقَتِهِ، وكَوْنِهِ وحْيًا مُنَزَّلًا مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى. والأمْرُ كَذَلِكَ، لِأنَّ العَرَبَ، مَعَ بُلُوغِهِمْ في الفَصاحَةِ إلى النِّهايَةِ، عَجَزُوا عَنْ مُعارَضَةِ أقْصَرِ سُورَةٍ مِنَ القُرْآنِ. وذَلِكَ يَشْهَدُ بِأنَّهُ بَلَغَتْ هَذِهِ الحُجَّةُ في الظُّهُورِ إلى حَيْثُ لا يَجُوزُ لِلْعاقِلِ أنْ يَرْتابَ فِيهِ، لا أنَّهُ لا يَرْتابُ فِيهِ أحَدٌ أصْلًا.
" هُدًى لِلْمُتَّقِينَ" أيْ: هادٍ لَهم ودالٌّ عَلى الدِّينِ القَوِيمِ المُفْضِي إلى سَعادَتَيِ الدّارَيْنِ.
قالَ النّاصِرُ في الِانْتِصافِ: الهُدى يُطْلَقُ في القُرْآنِ عَلى مَعْنَيَيْنِ: (أحَدُهُما) الإرْشادُ وإيضاحُ سَبِيلِ الحَقِّ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهم فاسْتَحَبُّوا العَمى عَلى الهُدى﴾ [فصلت: ١٧] وعَلى هَذا يَكُونُ الهُدى لِلضّالِّ بِاعْتِبارِ أنَّهُ رَشَدٌ إلى الحَقِّ، سَواءٌ حَصَلَ لَهُ الِاهْتِداءُ أوْ لا.
و(الآخَرُ): خَلَقَ اللَّهُ تَعالى الِاهْتِداءَ في قَلْبِ العَبْدِ، ومِنهُ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهِ﴾ [الأنعام: ٩٠] فَإذا ثَبَتَ وُرُودُهُ عَلى المَعْنَيَيْنِ فَهو في هَذِهِ الآيَةِ يَحْتَمِلُ أنْ يُرادَ بِهِ المَعْنَيانِ جَمِيعًا. وعَلى الأوَّلِ، فَتَخْصِيصُ الهُدى بِالمُتَّقِينَ لِلتَّنْوِيهِ بِمَدْحِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ أنَّهم هُمُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا وانْتَفَعُوا بِهِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿إنَّما أنْتَ مُنْذِرُ مَن يَخْشاها﴾ [النازعات: ٤٥] وقالَ: ﴿إنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ﴾ [يس: ١١] وقَدْ كانَ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ، مُنْذِرًا لِكُلِّ النّاسِ، فَذَكَرَ هَؤُلاءِ لِأجْلِ أنَّهم هُمُ الَّذِينَ انْتَفَعُوا بِإنْذارِهِ. وهَذِهِ الآيَةُ نَظِيرُ آيَةِ: ﴿قُلْ هو لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وشِفاءٌ والَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ في آذانِهِمْ وقْرٌ وهو عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنادَوْنَ مِن مَكانٍ بَعِيدٍ﴾ [فصلت: ٤٤] ﴿ونُنَـزِّلُ مِنَ القُرْآنِ ما هو شِفاءٌ ورَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ولا يَزِيدُ الظّالِمِينَ إلا خَسارًا﴾ [الإسراء: ٨٢] وكَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يا أيُّها النّاسُ قَدْ جاءَتْكم مَوْعِظَةٌ مِن رَبِّكم وشِفاءٌ لِما في الصُّدُورِ وهُدًى ورَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: ٥٧] إلى غَيْرِ ذَلِكَ، مِمّا دَلَّ عَلى أنَّ النَّفْعَ بِهِ لا يَنالُهُ إلّا الأبْرارُ، والمُرادُ بِالمُتَّقِينَ -هُنا- مَن نَعَتَهُمُ اللَّهُ تَعالى بِقَوْلِهِ.
الجواهر الحسان — الثعالبي (٨٧٥ هـ)
﷽
﴿الۤمۤ (١) ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ (٢) ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ (٣)﴾ [البقرة ١-٣]
(١)
هذه السورة مدنيّة نزلت في مدد شتّى، وفيها آخر آية نزلت على رسول الله ﷺ، وهي: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة: 281] ، ويقال لسورة البقرة: «فسطاط القرآن» ، وذلك لعظمها وبهائها، وما تضمّنت من الأحكام والمواعظ، وفيها خمسمائة حكم، وخمسة عشر مثلا، وروي أنّ رسول الله ﷺ قال: «أعطيت سورة البقرة من الذّكر الأوّل، وأعطيت طه والطّواسين(٢) من ألواح موسى(٣) ، وأعطيت فاتحة الكتاب وخواتم سورة البقرة من تحت العرش»(٤) .
ت: وها أنا إن شاء الله أذكر أصل الحديث بكماله لما اشتمل عليه من الفوائد العظيمة.
خرّج الحاكم أبو عبد الله(٥) في «المستدرك على الصحيحين» عن معقل بن يسار(٦) رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: «أعملوا بالقرآن أحلّوا حلاله، وحرّموا حرامه، واقتدوا به، ولا تكفروا بشيء منه، وما تشابه عليكم منه فردّوه إلى الله وإلى أولي العلم من بعدي كي ما يخبرونكم، وآمنوا بالتّوراة والإنجيل والزّبور وما أوتي النّبيّون من ربّهم، وليسعكم القرآن وما فيه من البيان، فإنّه شافع مشفّع، وما حل»
مصدّق، وإنّي أعطيت سورة البقرة من الذّكر الأوّل وأعطيت طه والطّواسين والحواميم(٧) من الواح موسى، وأعطيت فاتحة الكتاب من تحت العرش»(٨) ، ما حل بالمهملة، أي:
ساع، وقيل: خصم. انتهى من «السّلاح» .
وفي الحديث الصحيح، عن النبيّ ﷺ أنه قال: «تجيء البقرة وآل عمران يوم القيامة كأنّهما غيايتان(٩) ، بينهما شرق، أو غمامتان سوداوان، أو كأنّهما ظلّة من طير صوافّ تجادلان عن صاحبهما»(١٠) .
ت: أصل الحديث في صحيح مسلم عن أبي أمامة الباهليّ(١١) رضي اللَّه عنه قَالَ: سَمِعْتُ رسُولَ اللَّهِ ﷺ يقول: «اقرءوا القرآن فإنّه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه اقرءوا الزّهراوين البقرة وآل عمران فإنّهما يأتيان كأنّهما غمامتان، أو كأنّهما غيايتان، أو كأنّهما فرقان(١٢) من طير صوّاف يحاجّان عن أصحابهما، اقرءوا سورة البقرة فإنّ أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة» ، قال معاوية(١٣) : بلغني أنّ البطلة: السّحرة(١٤) ، فقوله ﷺ: «غمامتان» ، يعني: سحابتين بيضاوين، والغيايتان بالغين المعجمة.
أبو عبيد: الغياية كلّ شيء أظلّ الإنسان فوق رأسه، وهو مثل السحابة، وفرقان بكسر الفاء، أي: جماعتان. انتهى من «السلاح» .
وروى أبو هريرة عنه ﷺ، أنه قال: «لكلّ شيء سنام، وسنام القرآن سورة البقرة فيها آية هي سيّدة آي القرآن، هي آية الكرسيّ»(١٥) ، وفي «البخاريّ» أنه ﷺ قال: «من قرأ بالآيتين مِنْ آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ/ فِي لَيْلَةٍ، كَفَتَاهُ»(١٦) وروى أبو هريرة عنه ﷺ أنه قال: 9 ب «البيت الّذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشّيطان»(١٧) .
ت: وعن ابن عبّاس قال: بينما جبريل قاعد عند النبيّ ﷺ سمع نقيضا من فوقه، فقال له: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قطّ إلّا اليوم، وقال: أبشر بنورين أوتيتهما، لم يؤتهما نبيّ قبلك فاتحة الكتاب، وخواتم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منها إلّا أعطيته» رواه مسلم، والنسائيّ(١٨) ، والنقيض بالنون والقاف: هو الصوت انتهى من «السلاح» .
وعدد آي سورة البقرة مائتان، وخمس وثمانون آية، وقيل: وستّ وثمانون آية، وقيل: وسبع وثمانون.
قوله تعالى: الم: اختلف في الحروف التي في أوائل السور على قولين(١٩) فقال الشَّعْبِيُّ، وسفيانُ الثوريُّ، وجماعةٌ من المحدِّثين: هي سر اللَّه في القرآن، وهي من المتشابه الذي انفرد اللَّه بعلمه، ولا يجب أن يُتكلَّم فيها، ولكن يؤمن بها، وتُمَرُّ كما جاءت(٢٠) ، وقال الجمهور من العلماء، بل يجب أن يُتكلَّم فيها، وتلتمس الفوائد التي تحتها، والمعاني التي تتخرَّج عليها، واختلفوا في ذلك على اثنَيْ عَشَرَ قولاً.
فقال عليٌّ، وابن عَبَّاس رضي اللَّه عنهما: الحروف المقطَّعة في القرآن: هي اسم اللَّه الأعظم إلا أنا لا نعرف تأليفه منها(٢١) .
وقال ابن عبَّاس أيضًا: هي أسماء اللَّه أقسم بها(٢٢) ، وقال أيضًا: هي حروف تدلُّ على: أَنَا اللَّهُ أعلم، أنا الله أرى(٢٣) ، وقال قوم: هي حسابُ أَبِي جَاد(٢٤) لتدلَّ على مدَّة ملّة محمّد ﷺ كما ورد في حديث حُيَيِّ بن أَخْطب(٢٥) ، وهو قول أبي العالية وغيره(٢٦) .
ت: وإِليه مال السُّهَيْلِيُّ(٢٧) في «الرَّوْضِ الأُنُفِ» ، فانظره.
قوله تعالى: ذلِكَ الْكِتابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ: الاسمُ من «ذَلِكَ» : الذال، والألف، واللام لبعد المشار إليه، والكاف للخطاب.
واختلف في «ذَلِكَ» هنا فقيل: هو بمعنى «هَذَا» ، وتكون الإشارة إلى هذه الحروف من القرآن، وذلك أنه قد يشار بذلك إلى حاضرٍ تعلَّق به بعضُ غَيْبَةٍ، وقيل: هو على بابه، إِشارةً إِلى غائب.
واختلفوا في ذلك الغائب فقيل: ما قد كان نزل من القرآن، وقيل غير ذلك انظره.
ولا رَيْبَ فِيهِ: معناه: لا شكّ فيه، وهُدىً: معناه إِرشادٌ وبيانٌ، وقوله:
لِلْمُتَّقِينَ: اللفظ مأخوذ من «وقى» ، والمعنى: الذين يَتَّقُونَ اللَّه تعالى بامتثال أوامره، واجتناب معاصيه، كان ذلك وقايةً بينهم وبين عذابه.
قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ.
يُؤْمِنُونَ: معناه يُصَدِّقون، وقوله: بِالْغَيْبِ قالت طائفةٌ: معناه: يُصَدِّقون، إِذا غَابُوا وَخَلَوْا، لا كالمنافقين الَّذين يؤمنون إذَا حضروا، ويكْفُرُونَ إِذا غابوا، وقال آخرون: معناه:
يصدِّقون بما غاب عنهم مما أخبرتْ به الشرائعُ، وقوله: يُقِيمُونَ الصَّلاةَ معناه:
يظهرونها ويثبتونها كما يقال: أُقِيمَتِ السُّوقُ.
ت: وقال أبو عبد اللَّه النَّحْوِيُّ في اختصاره لتفسيرِ الطَّبَرِيِّ: إِقامة الصلاة إتمام الركوع، والسجود، والتلاوة، والخشوع، والإِقبال عليها. انتهى.
قال ص(٢٨) : يقيمون الصلاةَ من التقويمِ ومنه: أَقَمْتُ العُودَ، أو الإِْدَامَةِ ومنه: قامتِ السُّوقُ، أو التشميرِ والنهوضِ ومنه: قام بالأمر. انتهى.
وقوله تعالى/: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ: الرزْقُ(٢٩) عند أهل السنة ما صحّ الانتفاع 10 أ به، حلالا كان أو حراما، ويُنْفِقُونَ: معناه هنا: يؤْتُونَ ما ألزمهُمُ الشرعُ من زكاةٍ، وما ندبهم إِلَيْهِ من غير ذلك.
(١) هذه السورة مترامية أطرافها، وأساليبها ذات أفنان، قد جمعت من وشائج أغراض السور ما كان مصداقا لتلقيبها فسطاط القرآن. فلا تستطيع إحصاء محتوياتها بحسان. وعلى الناظر أن يترقب تفاصيل منها فيما يأتي لنا من تفسيرها، ولكن هذا لا يحجم بنا عن التعرض إلى لائحات منها. وقد حيكت بنسج المناسبات والاعتبارات البلاغية من لحمة محكمة في نظم الكلام، وسدى متين من فصاحة الكلمات.
ومعظم أغراضها ينقسم إلى قسمين: قسم يثبت سمو هذا الدين على ما سبقه وعلو هديه وأصول تطهيره النفوس، وقسم يبين شرائع هذا الدين لأتباعه وإصلاح مجتمعهم.
وكان أسلوبها أحسن ما يأتي عليه أسلوب جامع لمحاسن الأساليب الخطابية وأساليب الكتب التشريعية وأساليب التذكير والموعظة. يتجدد بمثله نشاط السامعين بتفنن الأفانين، ويحضر لنا من أغراضها أنها ابتدئت بالرمز إلى تحدي العرب المعاندين تحديا إجماليا بحروف التهجي المفتتح بها رمزا يقتضي استشرافهم لما يرد بعده، وانتظارهم لبيان مقصده، فأعقب بالتنويه بشأن القرآن، فتحول الرمز إيماء إلى بعض المقصود من ذلك الرمز له أشد وقعا على نفوسهم، فتبقى في انتظار ما يتعقبه من صريح التعجيز الذي سيأتي بعد قوله: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة: 23] الآيات.
فعدل بهم إلى ذات جهة التنويه بفائق صدق هذا الكتاب وهديه، وتخلص إلى تصنيف الناس تجاه تلقيهم هذا الكتاب وانتفاعهم بهديه أصنافا أربعة، وكانوا قبل الهجرة صنفين بحسب اختلاف أحوالهم في ذلك التلقي، وإذ قد كان أخص الأصناف انتفاعا بهديه هم المؤمنين بالغيب المقيمين الصلاة يعني المسلمين- ابتدئ بذكرهم، ولما كان أشد الأصناف عنادا وحقدا صنفي المشركين الصرحاء، والمنافقين، لف الفريقان لفا واحدا، فقورعوا بالحجج الدامغة والبراهين الساطعة، ثم خص بالإطناب صنف أهل النفاق تشويها لنفاقهم وإعلانا لدخائلهم، ورد مطاعنهم، ثم كان خاتمة ما قرعت من أنوفهم صريح التحدي الذي رمز إليه بدءا تحديا يلجئهم إلى الاستكانة ويخرس ألسنتهم عن التطاول والإبانة، ويلقي في قرارات أنفسهم مذلة الهزيمة وصدق الرسول الذي تحداهم، فكان ذلك من رد العجز على الصدر، فاتسع المجال لدعوة المنصفين إلى عبادة الرب الحق الذي خلقهم وخلق السماوات والأرض، وأنعم عليهم بما في الأرض جميعا، وتخلص إلى صفة بدء خلق الإنسان فإن في ذلك تذكيرا لهم بالخلق الأول قبل أن توجد أصنامهم التي يزعمونها من صالحي قوم نوح ومن بعدهم، ومنّه على النوع بتفضيل أصلهم على مخلوقات هذا العالم وبمزيته بعلم ما لم يعلمه أهل الملأ الأعلى، وكيف نشأت عداوة الشيطان له ولنسله لتهيئة نفوس السامعين لاتهام شهواتها ولمحاسبتها على دعواتها، فهذه المنة التي شملت كل الأصناف الأربعة المتقدم ذكرها كانت مناسبة للتخلص إلى منة عظمى تخص الفريق الرابع وهم أهل الكتاب الذين هم أشد الناس مقاومة لهدي القرآن، وأنفذ الفرق قولا في عامة العرب لأن أهل الكتاب يومئذ هم أهل-- العلم، ومظنة اقتداء العامة لهم من قوله: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي [البقرة: 40] الآيات، فأطنب في تذكيرهم بنعم الله وأيامه لهم، ووصف ما لاقوا به نعمه الجمة من الانحراف عن الصراط السوي انحرافا بلغ بهم حد الكفر، وذلك جامع لخلاصة تكوين أمة إسرائيل وجامعتهم في عهد موسى ثم ما كان من أهم أحداثهم مع الأنبياء الذين قفوا موسى إلى أن تلقوا دعوة الإسلام بالحسد والعداوة حتى على الملك جبريل وبيان أخطائهم لأن ذلك يلقي في النفوس شكا في تأهلهم للاقتداء بهم. وذكر من ذلك نموذجا من أخلاقهم في تعلق الحياة وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ [البقرة: 96] ومحاولة العمل بالسحر وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ [البقرة: 102] إلخ، وأذى النبي بموجبة الكلام لا تَقُولُوا راعِنا [البقرة: 104] .
ثم قرن اليهود والنصارى والمشركين في قرن حسدهم المسلمين والسخط على الشريعة الجديدة ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ- إلى قوله- وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:
105- 112] ثم ما أثير من الخلاف بين اليهود والنصارى، وادعاء كل فريق أنه هو المحق وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ- إلى- يَخْتَلِفُونَ [البقرة: 112] ثم خص المشركين بأنهم أظلم هؤلاء الأصناف الثلاثة لأنهم منعوا المسلمين من ذكر الله في المسجد الحرام، وسمحوا بذلك في خرابه، وأنهم تشابهوا في ذلك هم واليهود والنصارى واتحدوا في كراهية الإسلام.
والاحتراز عن إجابتها في الذين كفروا منهم، وأن الإسلام على أساس ملة إبراهيم وهو التوحيد، وأن اليهودية والنصرانية ليستا ملة إبراهيم، وأن من ذلك الرجوع إلى استقبال الكعبة، ادخره الله للمسلمين آية على أن الإسلام هو القائم على أساس الحنيفية، وذكر شعائر الله بمكة، وإبكات أهل الكتاب في طعنهم على تحويل القبلة، وإن العناية بتزكية النفوس أجدر من العناية باستقبال الجهات: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [البقرة: 177] وذكروا بنسخ الشرائع لصلاح الأمم، وأنه لا بدع في نسخ شريعة التوراة أو الإنجيل بما هو خير منهما. ثم عاد إلى محاجة المشركين بآثار صنعة الله إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ [البقرة: 164] إلخ ومحاجة المشركين في يوم يتبرءون فيه من قادتهم، وإبطال مزاعم دين الفريقين في محرمات من الأكل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ [البقرة: 172] وقد كمل ذلك بذكر صنف من الناس قليل، وهم المشركون الذين لم يظهروا الإسلام ولكنهم أظهروا مودة المسلمين وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [البقرة: 204] .
ولما قضى حق ذلك كله بأبدع بيان وأوضح برهان انتقل إلى قسم تشريعات الإسلام إجمالا بقوله:
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [البقرة: 177] ثم تفصيلا: القصاص، الوصية، الصيام، الاعتكاف، الحج، الجهاد، ونظام المعاشرة والعائلة والمعاملات المالية، والإنفاق في سبيل الله والصدقات، والمسكرات، واليتامى، والمواريث، والبيوع، والربا، والديون، والإشهاد، والرهن، والنكاح، وأحكام النساء والعدة والطلاق، والرضاع، والنفقات، والأيمان.
وختمت السورة بالدعاء المتضمن لخصائص الشريعة الإسلامية، وذلك من جوامع الكلم فكان هذا الختام تذليلا وفذلكة: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ [البقرة: 284] الآيات.
وكانت في خلال ذلك كله أغراض شتى سيقت في معرض الاستطراد في متفرق المناسبات تجديدا-
(٢) وهي السور المبدوءة ب «طس» أو «طسم» .
(٣) «موسى» اسم عبراني معرب عن «موشى» ، «مو» بالعبرانية: الماء، و «شى» الشجر، سمي به لأنه أخذ من بين الماء والشجر. وهو اسم نبي بني إسرائيل عليه الصلاة والسلام، وهو علم أعجمي لا يقضى عليه بالاشتقاق، وإنما يشتق «موسى الحديد» . ينظر: «التبيان» (1/ 63) .
وهو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسماعيل بن إبراهيم الخليل.
«الكامل» لابن الأثير (1/ 169) .
(٤) أخرجه الحاكم (1/ 561) ، (2/ 259) ، وعنه البيهقي في «شعب الإيمان» (2/ 485) ، رقم (2478) ، كلاهما من طريق عبيد الله بن أبي حميد، عن أبي المليح، عن معقل بن يسار به مرفوعا.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
وتعقبه الذهبي فقال: عبيد الله، قال أحمد: تركوا حديثه.
(٥) محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نعيم بن الحكم، الضبي، الطهماني، الحافظ أبو عبد الله، الحاكم النيسابوري المعروف بابن البيع، صاحب «المستدرك» ، وغيره من الكتب المشهورة، كان مولده سنة (321) ، ورحل في طلب الحديث، وسمع الكثير على شيوخ يزيدون على ألفين، وتفقه على أبي علي بن أبي هريرة وأبي الوليد النيسابوري وأبي سهل الصعلوكي وغيرهم، أخذ عنه أبو بكر البيهقي وصنف المصنفات الكثيرة. مات سنة (405) . انظر: «طبقات ابن قاضي شهبة» (1/ 193) ، «لسان الميزان» (5/ 232) .
(٦) معقل بن يسار المزني، أبو علي، بايع تحت الشجرة. له أربعة وثلاثون حديثا، اتفقا على حديث، وانفرد البخاري بآخر، ومسلم بحديثين وعنه عمران بن حصين. مات في خلافة معاوية.
ينظر: «الخلاصة» (3/ 45) ، و «تهذيب التهذيب» (10/ 235) ، و «الثقات» (3/ 392) .
(٧) يعني السور المبدوءة ب «حم» .
(٨) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (3/ 578) كتاب «معرفة الصحابة» باب معقل بن يسار وسكت عنه هو والذهبي.
(٩) الغياية: السحابة المنفردة، أو هي كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه. ينظر: «النهاية» (3/ 403) ، و «لسان العرب» (3332) .
(١٠) سيأتي تخريجه.
(١١) هو: صدي بن عجلان بن الحارث وقيل: عجلان بن وهب ... أبو أمامة. الباهلي. السهمي. سكن «مصر» ثم انتقل منها فسكن «حمص» من الشام، ومات بها، وكان من المكثرين في الرواية، وأكثر حديثه عند الشاميين. وقال ابن الأثير في موضع آخر. روى عنه سليم بن عامر الجنائزي، والقاسم أبو عبد الرحمن، وأبو غالب حزور، وشرحبيل بن مسلم، ومحمد بن زياد، وغيرهم. توفي سنة (81) .
ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (3/ 16) ، (6/ 16) ، «الإصابة» (7/ 9) ، «الاستيعاب» (4/ 1602) «تجريد أسماء الصحابة» (2/ 148) ، «بقي بن مخلد» (17) ، «الطبقات الكبرى» (1/ 415) .
(١٢) الفرقان: القطعتان. ينظر: «النهاية» (3/ 440) .
(١٣) هو: معاوية بن صخر (أبي سفيان) بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف أبو عبد الرحمن.
القرشي. الأموي. أمه: هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، قيل: ولد قبل البعثة بخمس سنين، وقيل: بسبع، وقيل: بثلاث عشرة، والقول الأول أشهر على الصحيح من الأقوال. وهو خال المؤمنين، وكاتب النبي ﷺ وهو الذي طالب بدم عثمان، فكان من الحروب بينه وبين عليّ ما كان، وإسلامه وحروبه وإمارته شهيرة جدّا، ولا يتسع المقام للحديث عنه. توفي في رجب سنة (60) هـ.
ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (5/ 209) ، «الإصابة» (6/ 112) ، «الاستيعاب» (3/ 1416) ، «الاستبصار» (40، 67) ، «الكاشف» (3/ 157) ، «الأعلام» (7/ 261) ، «شذرات الذهب» (1/ 418) ، «العبر» (1/ 549) ، «العقد الثمين» (7/ 227) ، «تهذيب التهذيب» (10/ 207) ، «تهذيب الكمال» (3/ 1344) ، «التاريخ الكبير» (7/ 326) .
(١٤) أخرجه مسلم (1/ 553) ، كتاب «صلاة المسافرين» ، باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة، حديث (252) ، وأحمد (5/ 249) ، والطبراني في «الكبير» (8/ 139) ، رقم (7544) ، والبيهقي في «السنن الكبرى» (2/ 395) ، كتاب «الصلاة» ، باب المعاهدة على قراءة القرآن، وفي «شعب الإيمان» (2/ 451) ، رقم (2372) ، والبغوي في «شرح السنة» (3/ 19- بتحقيقنا) ، كلهم من طريق معاوية بن سلام، عن أخيه زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام أنه سمع أبا أمامة، فذكره.
وللحديث شاهد من حديث النواس بن سمعان الكلابي: أخرجه مسلم (1/ 553) كتاب «صلاة المسافرين» ، باب فضل قراءة القرآن، وسورة البقرة، حديث (253) ، والترمذي (5/ 160) ، كتاب «فضائل القرآن» ، باب ما جاء في سورة آل عمران، حديث (2883) . والبيهقي في «شعب الإيمان» (2373) ، عن النواس بن سمعان بنحو حديث أبي أمامة.
(١٥) أخرجه الترمذي (5/ 157) ، كتاب «فضائل القرآن» ، باب ما جاء في فضل سورة البقرة وآية الكرسي، حديث (2878) ، وعبد الرزاق (3/ 376- 377) ، رقم (6019) ، والحميدي (2/ 437) ، رقم (994) ، والحاكم (1/ 560- 561) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (2/ 452) ، رقم (2375) ، وابن عدي في «الكامل» (2/ 637) . كلهم من طريق حكيم بن جبير، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعا. -[.....]- وقال الترمذي: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث حكيم بن جبير، وقد تكلم شعبة في حكيم بن جبير وضعفه اه.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه والشيخان لم يخرجا عن حكيم لوهن في رواياته، وإنما تركاه لغلوه في التشيع. ووافقه الذهبي.
قلت: والشيخان لم يتركا حكيم لتشيعه فقط، إنما لضعفه أيضا.
فقال الحافظ في «التقريب» (1468) : ضعيف، رمي بالتشيع، ولأول الحديث شاهد من حديث سهل بن سعد: أخرجه أبو يعلى (13/ 547) ، رقم (7554) ، وابن حبان (1727- موارد) ، والعقيلي في «الضعفاء» (2/ 6) ، وأبو نعيم في «تاريخ أصبهان» (1/ 101) ، والطبراني في «الكبير» (6/ 163) ، رقم (5864) كلهم من طريق خالد بن سعيد المدني، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد به.
وخالد بن سعيد، قال العقيلي: لا يتابع على حديثه.
وقال: وفي فضل سورة البقرة رواية أحسن من هذا الإسناد وأصلح.
والنسائي في «الكبرى» (5/ 14) ، كتاب «فضائل القرآن» ، باب الآيتان من سورة البقرة، حديث (8020) ، والحميدي (1/ 215) ، رقم (452) ، وعبد الرزاق (3/ 377) ، رقم (6021) ، وابن خزيمة (2/ 180) ، رقم (1141) ، كلهم من طريق سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن علقمة، عن أبي مسعود به مرفوعا. وعند بعضهم: قال عبد الرحمن: ثم لقيت أبا مسعود في الطواف فسألته عنه، فحدثني أن رسول الله ﷺ ... ، وذكر الحديث وللحديث طرق أخرى واختلاف فيها تكلم عليها الحافظ علي بن عمر الدارقطني في كتابه القيم «العلل الواردة في الأحاديث النبوية» (6/ 171- 174) .
(١٦) أخرجه البخاري (8/ 672) ، كتاب «فضائل القرآن» : باب فضل سورة البقرة، حديث (5009) ، ومسلم (1/ 555) ، كتاب «صلاة المسافرين» : باب فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة (255/ 807) ، وأبو داود (1/ 444) ، كتاب «الصلاة» ، باب تحزيب القرآن، حديث (1397) ، والترمذي (5/ 159) ، كتاب «فضائل القرآن» ، باب ما جاء في آخر سورة البقرة، حديث (2881) ، والنسائي في «الكبرى» ، (5/ 9) كتاب «فضائل القرآن» ، باب سورة كذا وسورة كذا، حديث (8003) ، و (5/ 14) ، باب الآيتان من آخر سورة البقرة، حديث (8018) ، وأحمد (4/ 121، 122) ، وعبد بن حميد في «المنتخب من المسند» (ص 105- 106) ، رقم (233) ، وعبد الرزاق (3/ 377) ، رقم (6020) ، والدارمي (1/ 288) ، وسعيد بن منصور (475) ، وابن الضريس في «فضائل القرآن» (ص- 83) ، رقم (161) ، والطبراني في «الكبير» (17/ 204- 205) رقم (550، 552) ، والبيهقي في «السنن الكبرى» ، (3/ 20) ، كتاب «الصلاة» ، باب كم يكفي الرجل قراءة القرآن في ليله، وفي «شعب الأيمان» (2/ 462) ، رقم (2405، 2406) ، كلهم من طريق منصور، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: كنت أحدّث عن أبي مسعود حديثا فلقيته وهو يطوف بالبيت، فسألته، فحدث عن النبي ﷺ أنه قال: «من قرأ الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة في ليلة كفتاه» .
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
قلت: والذي حدث عبد الرحمن بن يزيد بهذا الحديث هو علقمة بلا شك فأخرجه البخاري (8/ 712) ، كتاب «فضائل القرآن» ، باب في كم يقرأ القرآن، حديث (5051) .
(١٧) الحديث بهذا اللفظ عن عبد الله بن المغفل ذكره الهيثمي في «معجم الزوائد» (6/ 315) ، وقال: رواه الطبراني، وفيه عدي بن الفضل، وهو ضعيف.
أما الحديث الذي ورد عن أبي هريرة في هذا المعنى، فأخرجه مسلم (1/ 539) من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعا: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر فإن الشيطان يفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة» .
(١٨) أخرجه مسلم (1/ 554) ، كتاب: «الإيمان» ، باب: في ذكر سدرة المنتهى، حديث (254/ 806) ، والنسائي في «الكبرى» (5/ 15) ، كتاب «فضائل القرآن» ، باب «الآيتان من آخر سورة البقرة» ، حديث (8021) ، والبغوي في «شرح السنة» (2/ 23- بتحقيقنا) ، من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس به.
(١٩) إنه مما علم باستقراء كتاب الله تعالى أن تسعا وعشرين سورة من القرآن الكريم قد افتتحت بحروف مقطعة، من جنس كلام العرب.
وبداية، فإن هذه الحروف لم ينقل عن العرب دلالات لها، ولو كانت لها دلالات لتواتر النقل عليها، ولنقل ذلك علماء الصحابة وأئمتهم، وهذا الأمر- أعني افتتاح السور بها- لهو في حد ذاته نوع من التحدي للقيام بالكشف عن أسرارها والتفكر فيها.
ولما لم يذكر عن الغرب لها دلالات فقد كان للعلماء بشأنها موقفان: أولهما: ذهب الشعبي وسفيان الثوري، وجماعة من أهل الحديث إلى أنها سر الله في القرآن، وهي من المتشابه. وثانيهما: وهو ما ذهب إليه الجمهور من أهل العلم: أنه يجب أن يتكلم فيها، وتلتمس الفوائد التي تحتها والمعاني التي تتخرج عليها.
وقد كان لابن عباس ترجمان القرآن النصيب الأوفر من الأقوال في هذه الأحرف.
وجاء المفسرون من بعده، فاتسعوا في تحديد معاني هذه الفواتح، فقد ذكروا منها: أنها: -- 1- اسم الله الأعظم.
2- قسم أقسم الله به وهو من أسمائه.
3- أسماء للسور التي وردت فيها.
4- اسم من أسماء القرآن.
5- فواتح يفتح الله بها القرآن.
6- لكل كتاب سر، وسر القرآن فواتحه.
7- حروف مقطعة من أسماء وأفعال، كل حرف من ذلك لمعنى غير معنى الحرف الآخر.
8- حروف هجاء موضوع.
9- حروف يشتمل كل حرف منها على معان شتى مختلفة.
10- ابتدئت بذلك السور ليفتح لاستماعه أسماع المشركين.
11- علامات لأهل الكتاب أنه سينزل على محمد كتاب يفتتح بالحروف المقطعة.
12- حروف من حساب الجمل.
ينظر: «البرهان» (1/ 169) ، و «جامع البيان» (1/ 205) ، و «المحرر الوجيز» (1/ 81) ، و «مفاتيح الغيب» (2/ 3) ، و «البحر المحيط» (1/ 154) .
(٢٠) ذكره السمرقندي في تفسيره (1/ 87) ، والبغوي (1/ 44) ، وابن عطية الأندلسي (1/ 82) ، والقرطبي (1/ 133- 134) .
(٢١) أخرجه ابن جرير (1/ 119) ، (233) مختصرا. وذكره السمرقندي في «تفسيره» (1/ 87) ، عن علي بلفظ «وهو اسم من أسماء الله تعالى» . وابن عطية في «تفسيره» (1/ 82) ، وابن كثير (1/ 36) ، القرطبي (1/ 134) ، والسيوطي في «الدر» (1/ 54) ، بلفظ «اسم الله أعظم» ، وعزاه لابن جريج وابن أبي حاتم.
(٢٢) أخرجه ابن جرير (1/ 119) (236) ، وذكره ابن عطية الأندلسي في «تفسيره» (1/ 82) ، والبغوي (1/ 44) ، بلفظ «أنها أقسام» عن ابن عباس، والماوردي في «تفسيره» (1/ 64) وابن كثير (1/ 36) ، والسيوطي في «الدر» (1/ 54) ، وعزاه لابن مردويه.
(٢٣) أخرجه ابن جرير (1/ 119) برقم (239) بلفظ: «أنا الله أعلم» . وفي (6/ 525) برقم (17534) ، -- بلفظ: «أنا الله أرى» . والسيوطي في «الدر» (1/ 54) ، بلفظ: «أنا الله أعلم» ، وعزاه لوكيع، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس. وفي (3/ 534) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، والبيهقي في «الأسماء والصفات» ، وابن النجار في «تاريخه» ، وذكره القرطبي (1/ 135) ، وابن كثير (1/ 36) ، وابن عطية الأندلسي في «تفسيره» (1/ 82) .
(٢٤) وأبو جاد: الكلمة الأولى من الكلمات الثماني التي تجمع حروف الهجاء العربية. ويقال: أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- لقي أعرابيّا فسأله: هل تحسن القراءة؟ فقال: نعم، قال: فاقرأ أم القرآن، فقال الأعرابي: والله ما أحسن البنات فكيف الأم؟!، فضربه عمر، وأسلمه إلى الكتّاب، فمكث حينا ثم هرب، ولما رجع إلى أهله أنشدهم [الوافر] :
أتيت مهاجرين فعلموني ... ثلاثة أسطر متتابعات
وخطوا لي أبا جاد وقالوا ... تعلم سعفصا وقريشيات
وما أنا والكتابة والتهجي ... وما حظ البنين مع البنات
ينظر: «المعجم الكبير» (1/ 22، 23) .
(٢٥) حييّ بن أخطب النضري: جاهلي، من الأشداء العتاة. كان ينعت ب «سيد الحاضر والبادي» . أدرك الإسلام، وآذى المسلمين فأسروه يوم «قريظة» . ثم قتلوه. ينظر: «سيرة ابن هشام» (2/ 148- 149) ، «تهذيب الأسماء» (1/ 171) ، و «الأعلام» (2/ 292) .
(٢٦) ذكره ابن عطية الأندلسي (1/ 82) والسيوطي في «الدر» (1/ 56) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.
(٢٧) عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد الخثعمي السهيلي: حافظ، عالم باللغة والسير، ضرير. ولد في «مالقة» ، وعمي وعمره (17 سنة) . ونبغ فاتصل خبره بصاحب «مراكش» فطلبه إليها وأكرمه، فأقام يصنّف كتبه، من كتبه «الروض الأنف» في شرح «السيرة النبوية» لابن هشام، وغيرها من الكتب في التفسير. ولد سنة (508 هـ.) ، وتوفي سنة (581 هـ.) .
انظر: «وفيات الأعيان» (1/ 28) ، «نكت الهميان» (187) ، «زاد المسافر» (96) «الأعلام» (3/ 313) .
(٢٨) «المجيد» ص 84.
(٢٩) اختلف العلماء في تعريف الرزق في عرف الشرع، فقال أبو الحسين البصري من المعتزلة: الرزق هو تمكين الحيوان من الانتفاع بالشيء والحظر على غيره أن يمنعه من الانتفاع به، فإذا قلنا: قد رزقنا الله تعالى الأموال. فمعنى ذلك أنه مكننا من الانتفاع بها، وإذا سألناه تعالى أن يرزقنا مالا فإنا نقصد بذلك أن يجعلنا بالمال أخص.
واعلم أن المعتزلة لما فسروا الرزق بذلك لا جرم قالوا: الحرام لا يكون رزقا.
وقال الأشاعرة: الحرام قد يكون رزقا، وحجتهم من وجهين:
الأول: أن الرزق في أصل اللغة هو الحظ والنصيب على ما بيناه، فمن انتفع بالحرام، فذلك الحرام صار حظا ونصيبا، فوجب أن يكون رزقا له.
الثاني: أنه تعالى قال: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هود: 6] وقد يعيش الرجل طول عمره لا يأكل إلا من السرقة، فوجب أن يقال: إنه طول عمره لم يأكل من رزقه شيئا.
وقد احتج المعتزلة بالكتاب، والسنة، والمعنى:
أما الكتاب فعدة وجوه:
أحدها: قوله تعالى: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [البقرة: 3] مدحهم الله تعالى على الإنفاق مما رزقهم، فلو كان الحرام رزقا لوجب أن يستحقوا المدح إذا أنفقوا من الحرام، وهذا باطل بالاتفاق.
ثانيها: قالوا: لو كان الحرام رزقا لجاز أن ينفق الغاصب منه لقوله سبحانه: وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ [المنافقون: 10] ، وقد أجمع المسلمون على أنه لا يجوز للغاصب أن ينفق مما أخذه، بل يجب عليه-- رده فدل ذلك على أن الحرام لا يكون رزقا.
ثالثها: استدلوا بقوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ [يونس: 59] . فبين سبحانه أن من حرم رزق الله فهو مفتر على الله فثبت أن الحرام لا يكون رزقا.
وأما السنة، فما رواه أبو الحسين البصري بإسناده عن صفوان بن أمية قال: كنا عند رسول الله ﷺ إذ جاءه عمرو بن قرة، فقال له: يا رسول الله! إن الله كتب علي الشقوة، فلا أراني أرزق إلا من دفّي بكفي، فائذن لي في الغناء من غير فاحشة، فقال عليه السلام «لا إذن لك ولا كرامة ولا نعمة، كذبت، أي عدو الله: لقد رزقك الله رزقا طيبا فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله، أما إنك لو قلت بعد هذه المقدمة شيئا ضربتك ضربا وجيعا» وأما المعنى، فإن الله تعالى منع المكلف من الانتفاع بالحرام، وأمر غيره بمنعه من الانتفاع به، ومن منع من أخذ الشيء والانتفاع به لا يقال: إنه رزقه إياه ألا ترى أنه لا يقال: إن السلطان قد رزق جنده مالا قد منعهم من أخذه، وإنما يقال: إنه رزقهم ما مكنهم من أخذه ولا يمنعهم منه ولا أمر بمنعهم منه، أجاب أصحابنا عن التمسك بالآيات بأنه وإن كان الكل من الله، لكنه كما يقال: يا خالق المحدثات والعرش والكرسي، ولا يقال: يا خالق الكلاب والخنازير، وقال: عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ [الإنسان: 6] فخص اسم العباد بالمتقين، وإن كان الكفار أيضا من العباد، وكذلك هاهنا خص اسم الرزق بالحلال على سبيل التشريف وإن كان الحرام رزقا أيضا، وأجابوا عن التمسك بالخبر بأنه حجة لنا لأن قوله عليه السلام: «فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه» صريح في أن الرزق قد يكون حراما. وأجابوا عن المعنى بأن هذه المسألة محض اللغة، وهو أن الحرام هل يسمى رزقا أم لا؟ ولا مجال للدلائل العقلية في الألفاظ. والله أعلم. ينظر:
«الفخر الرازي» (2/ 28، 29) .
بحر العلوم — السمرقندي (٣٧٣ هـ)
﷽
﴿الۤمۤ (١) ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ (٢)﴾ [البقرة ١-٢]
مدنية وهي مائتان وست وثمانون آية
قال الفقيه: حدّثني أبي رحمه الله قال: حدثني محمد بن حامد قال: حدّثنا علي بن إسحاق قال: حدثنا محمد بن مروان، عن عطاء بن السائب، عن أبي الضحى، عن ابن عباس في قوله تعالى: الم يعني: أنا الله أعلم. ومعنى قول ابن عباس أنا الله أعلم يعني الألف: أنا، واللام: الله، والميم: أعلم، لأن القرآن نزل بلغة العرب، والعرب قد كانت تذكر حرفاً وتريد به تمام الكلمة ألا ترى إلى قول القائل:
قُلْتُ لَهَا قِفِي لَنَا قَالَتْ قَاف ... لاَ تَحْسَبِي أَنَّا نَسِينَا الإِيجَاف
يعني بالقاف: قد وقفت.
وقال الكلبي: هذا قسم، أقسم الله تعالى بالقرآن أن هذا الكتاب الذي أنزل على قلب محمد ﷺ، هو الكتاب الذي نزل من عند الله تعالى لا ريب فيه. وقال بعض أهل اللغة: إن هذا الذي قال الكلبي لا يصح، لأن جواب القسم معقود على حروف مثل: إن، وقد، ولقد، وما، واللام وهنا لم نجد حرفاً من هذه الحروف، فلا يجوز أن يكون يميناً. ولكن الجواب أن يقال: موضع القسم قوله لاَ رَيْبَ فِيهِ، فلو أن إنساناً حلف فقال: والله هذا الكتاب لا ريب فيه، لكان الكلام سديداً، وتكون «لا» جواباً للقسم، فثبت أن قول الكلبي صحيح سديد. فإن قيل: إيش الحكمة في القسم من الله تعالى، وكان القوم في ذلك الزمان على صنفين، مصدق ومكذب فالمصدق يصدق بغير قسم، والمكذب لا يصدق مع القسم. قيل له: القرآن نزل بلغة العرب، والعرب إذا أراد بعضهم أن يؤكد كلامه، أقسم على كلامه، فالله تعالى أراد أن يؤكد عليهم الحجة فأقسم أن القرآن من عنده.
وقد قيل الم: الألف: الله تعالى، واللام: جبريل، والميم: محمد ﷺ ويكون معناه: الله الذي أنزل جبريل على محمد بهذا القرآن لاَ رَيْبَ فِيهِ.
وقال بعضهم: كل حرف هو افتتاح اسم من أسماء الله تعالى. فالألف مفتاح اسمه: الله، واللام مفتاح اسمه: اللطيف، الميم مفتاح اسمه: مجيد ويكون معناه: الله اللطيف المجيد أنزل الكتاب.
وروي عن محمد بن كعب بن علي الترمذي أنه قال: إن الله تعالى أودع جميع ما في تلك السورة من الأحكام والقصص في الحروف التي ذكرها في أول السورة، ولا يعرف ذلك إلاَّ نبي أو ولي، ثم بين ذلك في جميع السور ليفقه الناس. وروي عن الشعبي أنه قال: إن الله تعالى سراً جعله في كتبه، وإن سره في القرآن هو الحروف المقطعة. وروي عن عمر وعثمان وابن مسعود- رضي الله عنهم- أنهم قالوا: الحروف المقطعة من المكتوم الذي لا يفسر وعن علي رضي الله عنه: هو اسم من أسماء الله تعالى، فرقت حروفه في السور. يعني أن هاهنا قد ذكر الم وذكر: الر في موضع آخر وذكرٍ: حم في موضع آخر وذكر:
ن في موضع، فإذا جمعت يكون (الرحمن) ، وكذلك سائر الحروف إذا جمع يصير اسماً من أسماء الله.
وذكر قطرب: أن المشركين كانوا لا يستمعون القرآن، كما قال الله تعالى: وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: 26] فأراد أن يسمعهم شيئاً لم يكونوا سمعوه، ليحملهم ذلك إلى الاستماع حتى تلزمهم الحجة. وقال بعضهم: أن المشركين كانوا يقولون: لا نفقه هذا القرآن، لأنهم قالوا: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ [فصلت: 5] فأراد الله أن يبين لهم أن القرآن مركب على الحروف التي ركبت عليها ألسنتكم، يعني هو على لغتكم، ما لكم لا تفقهون؟ وإنما أراد بذكر الحروف تمام الحروف، كما أن الرجل يقول: علمت ولدي: أ، ب، ت، ث، وإنما يريد جميع الحروف ولم يرد به الحروف الأربعة خاصة.
وقال بعضهم: هو من شعار السور وكان اليهود أعداء الله فسروه على حروف الجمل، لأنه ذكر أن جماعة من اليهود، منهم كعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، وأبو ياسر بن أخطب، وشعبة بن عمرو، ومالك بن الصيف دخلوا على رسول الله ﷺ وقالوا: بلغنا أنك قرأت: الم ذلِكَ الْكِتابُ فإن كنت صادقاً، فيكون بقاء أمتك إحدى وسبعين سنة، لأن الألف: واحد، واللام: ثلاثون، والميم: أربعون، فضحك رسول الله ﷺ ثم قالوا له: وهل غير هذا؟ قال: نعم. المص فقالوا: هذا أكثر لأن (ص) تسعون. فقالوا: هل غير هذا؟
قال: نعم. الر فقالوا: هذا أكثر، لأن (الراء) : مائتان، ثم ذكر المر فقالوا: خلطت علينا يا محمد لا ندري أبالقليل نأخذ أم بالكثير؟ وإنما أدركوا من القرآن مقدار عقولهم، وكل إنسان يدرك العلم بمقدار عقله. وكل ما ذكر في القرآن من الحروف المقطعة، فتفسيره نحو ما ذكرنا هاهنا والله أعلم بالصواب.
قوله عز وجل: ذلِكَ الْكِتابُ أي هذا الكتاب لا رَيْبَ فِيهِ أي لا شك فيه أنه مني، لم يختلقه محمد من تلقاء نفسه. وقد يوضع ذلك بمعنى هذا، كما قال القائل:
أقول له والرمح يأْطِرُ مَتْنَه ... تَأمَّلْ خِفَافاً أَنَّنِي أَنَا ذَلِكَا
يعني هذا. وقال بعضهم: معناه ذلك الكتاب الذي كنت وعدتك يوم الميثاق أن أوحيه إليك، وقال بعضهم: معناه ذلك الكتاب الذي وعدت في التوراة والإنجيل أن أنزل على محمد ﷺ.
وروي عن زيد بن أسلم أنه قال: أراد بالكتاب اللوح المحفوظ، يعني الكتاب ثبت في اللوح المحفوظ.
وقوله: لاَ رَيْبَ فِيهِ أي لا شك فيه أنه من الله تعالى ولم يختلقه محمد من تلقاء نفسه. فإن قيل: كيف يجوز أن يقال: لا شك فيه؟ وقد شك فيه كثير من الناس وهم الكفار والمنافقون؟ قيل له: معناه لا شك فيه عند المؤمنين وعند العقلاء. وقيل: معناه لا شك فيه، أي لا ينبغي أن يشك فيه، لأن القرآن معجز فلا ينبغي أن يشك فيه أنه من الله تعالى.
قوله عز وجل: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ أي بياناً لهم من الضلالة للمتقين الذين يتقون الشرك والكبائر والفواحش. فهذا القرآن بيان لهم من الضلالة، وبيان لهم من الشبهات، وبيان الحلال من الحرام. فإن قيل: فيه بيان لجميع الناس، فكيف أضاف إلى المتقين خاصة؟ قيل له: لأن المتقين هم الذين ينتفعون بالبيان، ويعملون به فإذا كانوا هم الذين ينتفعون، صار في الحقيقة حاصل البيان لهم. روي عن أبي روق أنه قال: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ أي كرامة لهم. يعني إنما أضاف إليهم إجلالاً وكرامة لهم، وبيانا لفضلهم.
الكشف والبيان — الثعلبي (٤٢٧ هـ)
﷽
﴿الۤمۤ (١) ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ (٢) ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ (٣) وَٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ وَمَاۤ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡـَٔاخِرَةِ هُمۡ یُوقِنُونَ (٤) أُو۟لَـٰۤىِٕكَ عَلَىٰ هُدࣰى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ (٥) إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ سَوَاۤءٌ عَلَیۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ (٦) خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَعَلَىٰ سَمۡعِهِمۡۖ وَعَلَىٰۤ أَبۡصَـٰرِهِمۡ غِشَـٰوَةࣱۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِیمࣱ (٧)﴾ [البقرة ١-٧]
مدنية: وهي مائتان وست وثمانون آية في العدد الكوفي وهي سند أمير المؤمنين علي عليه السّلام وهي خمسة وعشرون ألف [حرف] وخمسمائة حرف، وستّة آلاف ومائة وإحدى وعشرون كلمة
أخبرنا عبد الله بن حامد بقراءتي عليه، أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف، حدثنا يعقوب ابن سفيان الصغير، حدثنا يعقوب بن سفيان الكبير، حدثنا هشام بن عمّار، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا شعيب بن زرين عن عطاء الخراساني، عن عكرمة، قال: أول سورة نزلت بالمدينة سورة البقرة.
فضلها:
أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد الطبراني بها، أخبرنا دعلج بن أحمد الشجري ببغداد، حدثنا محمد بن أحمد بن هارون، حدثنا خندف عن علي، حدثنا حسّان بن إبراهيم، حدثنا خالد بن شعيب المزني، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله ﷺ: «إنّ لكل شيء سناما، وسنام القرآن سورة البقرة، من قرأها في بيته ليلا لم يدخله شيطان ثلاث ليال، ومن قرأها في بيته نهارا لم يدخل في بيته شيطان ثلاثة أيام»(١) [59] .
وأخبرنا محمد بن القاسم بن أحمد المرتّب بقراءتي عليه، حدثنا أبو عمرو بن مطرف، حدثنا أبو عبد الله محمد بن المسيب، حدثنا عبد الله بن الحسين، حدثنا يوسف بن الأسباط، حدثنا حسن بن المهاجر عن عبد الله بن يزيد عن أبيه، قال: قال رسول الله ﷺ: «تعلموا البقرة، فإنّ أخذها بركة، وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة»(٢) [60] .
أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن الحسن المقري، حدثنا أبو أحمد عبد الله بن علي الحافظ، أخبرنا محمد بن يحيى بن مندة، حدثنا أبو مصعب، حدثنا عمران بن طلحة الليثي عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: بعث النبي ﷺ بعثا ثم تتبعهم يستقرئهم، فجاء إنسان منهم فقال: «ماذا معك من القرآن؟» حتى أتى على آخرهم، وهو أحدثهم سنّا، فقال: «ما معك من القرآن؟» قال: كذا وكذا وسورة البقرة، فقال: «اخرجوا وهذا عليكم أمين» ، قالوا: يا رسول الله هو أحدثنا سنّا، قال: «معه سورة البقرة»(٣) [61] .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى: الم: اختلف العلماء في الحروف المعجمة المفتتحة بها السور، فذهب كثير منهم إلى أنّها من المتشابهات التي استأثر الله بعلمها، فنحن نؤمن بتنزيلها ونكل إلى الله تأويلها.
قال أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) : في كل كتاب سر، وسر القرآن أوائل السور.
وقال علي بن أبي طالب عليه السّلام: إنّ لكل كتاب صفوة، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجّي.
وفسّره الآخرون، فقال سعيد بن جبير: هي أسماء الله مقطّعة، لو أحسن الناس تأليفها لعلموا اسم الله الأعظم، ألا ترى أنّك تقول: الر(٤) وتقول: حم(٥) وتقول: ن(٦) فيكون الرَّحْمنُ، وكذلك سائرها على هذا الوجه، إلّا أنّا لا نقدر على وصلها والجمع بينها.
وقال قتادة: هي أسماء القرآن.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هي أسماء للسور المفتتحة بها.
وقال ابن عباس: هي أقسام أقسم الله بها، وروي أنّه ثناء أثنى الله به على نفسه.
وقال أبو العالية: ليس منها حرف إلّا وهو(٧) مفتاح لاسم من أسماء الله عز وجل، وليس منها حرف إلّا وهو في الآية وبلائه»
، وليس منها حرف إلّا في مدّة قوم وآجال آخرين.
وقال عبد العزيز بن يحيى: معنى هذه الحروف أنّ الله ذكرها، فقال: اسمعوها مقطعة، حتى إذا وردت عليكم مؤلفة كنتم قد عرفتموها قبل ذلك، وكذلك تعلم الصبيان أولا مقطعة، وكان الله أسمعهم مقطعة مفردة، ليعرفوها إذا وردت عليهم، ثم أسمعهم مؤلّفة.
وقال أبو روق: إنّها تكتب للكفار، وذلك أنّ رسول الله ﷺ كان يجهر بالقراءة في الصلوات كلّها، وكان المشركون يقولون: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ.
فربما صفّقوا وربما صفّروا وربما لفظوا ليغلّطوا النبي ﷺ، فلمّا رأى رسول الله ذلك أسرّ في الظهر والعصر وجهر في سائرها، وكانوا يضايقونه ويؤذونه، فأنزل الله تعالى هذه الحروف المقطعة، فلمّا سمعوها بقوا متحيرين متفكّرين، فاشتغلوا بذلك عن إيذائه وتغليطه، فكان ذلك سببا لاستماعهم وطريقا إلى انتفاعهم.
وقال الأخفش: إنّما أقسم الله بالحروف المعجمة لشرفها وفضلها، ولأنّها مباني كتبه المنزلة بالألسن المختلفة، ومباني أسمائه الحسنى وصفاته العليا، وأصول كلام الأمم بما يتعارفون ويذكرون الله ويوحّدونه، وكأنّه أقسم بهذه الحروف إنّ القرآن كتابه وكلامه لا رَيْبَ فِيهِ.
وقال النقيب: هي النبهة والاستئناف ليعلم أنّ الكلام الأول قد انقطع، كقولك: ولا إنّ زيدا ذهب.
وأحسن الأقاويل فيه وأمتنها أنّها إظهار لإعجاز القرآن وصدق محمد ﷺ وذلك أنّ كل حرف من هذه الحروف الثمانية والعشرين.
والعرب تعبّر ببعض الشيء عن كلّه كقوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ(٨) أي صلّوا لا يصلّون، وقوله: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ(٩) فعبر بالركوع والسجود عن الصلاة إذ كانا من أركانها، وقال: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ(١٠) أراد جميع أبدانكم.
وقال: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ أي الأنف فعبّر باليد عن الجسد، وبالأنف عن الوجه.
وقال الشاعر في امرأته:
لما رأيت أمرها في خطي ... وفنكت في كذب ولط
أخذت منها بقرون شمط ... فلم يزل ضربي بها ومعطي(١١)
فعبّر بلفظة «خطي» عن جملة حروف أبجد.
ويقول القائل: (أب ت ث) وهو لا يريد هذه الأربعة الأحرف دون غيرها، بل يريد جميعها وقرأت الْحَمْدُ لِلَّهِ، وهو يريد جميع السورة، ونحوها كثير، وكذلك عبّر الله بهذه الحروف عن جملة حروف التهجّي، والإشارة فيه أنّ الله تعالى نبّه العرب وتحدّاهم، فقال: إنّي قد نزّلت هذا الكتاب من جملة الثمانية والعشرين التي هي لغتكم ولسانكم، وعليها مباني كلامكم، فإن كان محمد هو النبي يقوله من تلقاء نفسه، فأتوا بمثله أو بعشر سور مثله أو بسورة مثله، فلمّا عجزوا عن ذلك بعد الإجهاد ثبت أنّه معجزة.
هذا قول المبرّد وجماعة من أهل المعاني، فإن قيل: فهل يكون حرفا واحدا عودا للمعنى؟
وهل تجدون في كلام العرب أن يقال: الم زيد قائم؟ وحم عمرو ذاهب؟ قلنا: نعم، هذا عادة العرب يشيرون بلفظ واحد إلى جميع الحروف ويعبّرون به عنه.
قال الراجز:
قلت لها قفي فقالت قاف ... لا تحسبي أنّا نسينا الإيجاف(١٢)
أي قف أنت.
وأنشد سيبويه لغيلان:
نادوهم ألا ألجموا ألا تا ... قالوا جميعا كلّهم ألا فا(١٣)
أي لا تركبون فقالوا: ألا فاركبوا.
وأنشد قطرب في جارية:
قد وعدتني أم عمرو أن تا ... تدهن رأسي وتفليني تا
أراد أن تأتي وتمسح(١٤)
وأنشد الزجّاج:
بالخير خيرات وإن شرّا فا ... ولا أريد الشرّ إلّا أن تا(١٥)
أراد بقوله (فا) : وإن شرا فشر له، وبقوله: تا إلا أن تشاء.
قال الأخفش: هذه الحروف ساكنة لأنّ حروف الهجاء لا تعرب، بل توقف على كلّ حرف على نيّة السكت، ولا بدّ أن تفصل بالعدد في قولهم واحد- اثنان- ثلاثة- أربعة.
قال أبو النجم:
أقبلت من عند زياد كالخرف ... تخط رجلاي بخط مختلف(١٦)
تكتبان في الطريق لام الألف فإذا أدخلت حرفا من حروف العطف حركتها.
وأنشد أبو عبيدة:
إذا اجتمعوا على ألف وواو ... وياء هاج بينهم جدال(١٧)
وهذه الحروف تذكّر على اللفظ وتؤنّث على توهم الكلمة.
قال كعب الأحبار: خلق الله العلم من نور أخضر، ثم أنطقه ثمانية وعشرين حرفا من أصل الكلام، وهيّأها بالصوت الذي سمع وينطق به، فنطق بها العلم فكان أوّل ذلك كلّه [.....](١٨) فنظرت إلى بعضها فتصاغرت وتواضعت لربّها تعالى، وتمايلت هيبة له، فسجدت فصارت همزة، فلمّا رأى الله تعالى تواضعها مدّها وطوّلها وفضّلها، فصارت ألفا، فتلفظه بها، ثم جعل القلم ينطق حرفا حرفا(١٩) إلى ثمانية وعشرين حرفا، فجعلها مدار الكلام والكتب والأصوات واللغات والعبادات كلّها إلى يوم القيامة، وجميعها كلّها في أبجد.
وجعل الألف لتواضعها مفتاح أول أسمائه، ومقدّما على الحروف كلّها، فأمّا قوله عزّ وجلّ: الم فقد اختلف العلماء في تفسيرها.
عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قول الله تعالى: الم قال: أنا الله أعلم.
أبو روق عن الضحاك في قوله الم: أنا الله أعلم.
مجاهد وقتادة: الم اسم من أسماء القرآن.
الربيع بن أنس: (ألف) مفتاح اسم الله، و (لام) مفتاح اسمه لطيف، و (ميم) مفتاح اسمه مجيد.
خالد عن عكرمة قال: الم قسم.
محمد بن كعب: (الألف) آلاء الله، و (اللام) لطفه، و (الميم) ملكه.
وفي بعض الروايات عن ابن عباس: (الألف) الله، و (اللام) جبرئيل، أقسم الله بهم إنّ هذا الكتاب لا رَيْبَ فِيهِ
، ويحتمل أن يكون معناه على هذا التأويل: أنزل الله هذا الكتاب على لسان جبريل إلى محمد ﷺ.
وقال أهل الإشارة: (ألف) : أنا، (لام) : لي، (ميم) : منّي.
وعن علي بن موسى الرضا عن جعفر الصادق، وقد سئل عن قوله: الم فقال: في الألف ست صفات من صفات الله: الابتداء لأنّ الله تعالى ابتدأ جميع الخلق، و (الألف) .
ابتداء الحروف، والاستواء: فهو عادل غير جائر، و (الألف) مستو في ذاته، والانفراد: والله فرد والألف فرد، واتصال الخلق بالله، والله لا يتصل بالخلق، فهم يحتاجون إليه وله غنى عنهم.
وكذلك الألف لا يتصل بحرف، فالحروف متصلة: وهو منقطع عن غيره، والله باين بجميع صفاته من خلقه، ومعناه من الألفة، فكما أنّ الله سبب إلفة الخلق، فكذلك الألف عليه تألفت الحروف وهو سبب إلفتها.
وقالت الحكماء: عجز عقول الخلق في ابتداء خطابه، وهو محل الفهم، ليعلموا أن لا سبيل لأحد إلى معرفة حقائق خطابه إلّا بعلمهم، فالعجز عن معرفة الله حقيقة خطابه.
وأما محل الم من الإعراب فرفع بالابتداء وخبره فيما بعده.
وقيل: الم ابتداء، وذلِكَ ابتداء آخر والْكِتابُ خبره، وجملة الكلام خبر الابتداء الأول.
ذلِكَ: قرأت العامة ذلِكَ بفتح الذال، وكذلك هذه وهاتان، وأجاز أبو عمرو الإمالة في هذه، (ذ) للاسم، واللام عماد، والكاف خطاب، وهو إشارة إلى الغائب.
والْكِتابُ: بمعنى المكتوب كالحساب والعماد.
قال الشاعر:
بشرت عيالي إذ رأيت صحيفة ... أتتك من الحجج تتلى كتابها(٢٠)
أو مكتوبها، فوضع المصدر موضع الاسم، كما يقال للمخلوق خلق، وللمصور تصوير، وقال: دراهم من ضرب الأمير، أي هي مضروبة، وأصله من الكتب، وهو ضم الحروف بعضها إلى بعض، مأخوذ من قولهم: كتب الخرز، إذا خرزته قسمين، ويقال للخرز كتبة وجمعها كتب.
قال ذو المرّجة:
وفراء غرفية أثاي خوارزها ... مشلشل ضيعته فبينها الكتب(٢١)
ويقال: كتبت البغل، إذا حرمت من سفرتها الخلقة، ومنه قيل للجند كتيبة، وجمعها كتائب.
قال الشاعر:
وكتيبة جاءوا ترفل ... في الحديد لها ذخر
واختلفوا في هذا الْكِتابُ قال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد والضحاك ومقاتل:
هو القرآن، وعلى هذا القول يكون (ذلِكَ) بمعنى (هذا) كقول الله تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ(٢٢) أي هذه.
وقال خفاف بن ندبه السلمي:
إن تك خيلي قد أصيب صميمها ... فعمدا على عين تيممت مالكا(٢٣)
أقول له الرمح يأطر متنه ... تأمل خفافا إنني أنا ذالكا(٢٤)
يريد [هذا] .
وروى أبو الضحى عن ابن عباس قال: معناه ذلِكَ الْكِتابُ الذي أخبرتك أن أوجّه إليك.
وقال عطاء بن السائب: ذلِكَ الْكِتابُ الذي وعدتكم يوم الميثاق.
وقال يمان بن رئاب: ذلِكَ الْكِتابُ الذي ذكرته في التوراة والإنجيل.
وقال سعيد بن جبير: هو اللوح المحفوظ.
عكرمة: هو التوراة والإنجيل والكتب المتقدّمة.
وقال الفراء: إنّ الله تعالى وعد نبيه أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء ولا يخلق على كثرة الردّ، فلمّا أنزل القرآن قال: هو الكتاب الذي وعدتك.
وقال ابن كيسان: تأويله أنّ الله تعالى أنزل قبل البقرة بضع عشرة سورة(٢٥) كذّب بكلها المشركون ثم أنزل سورة البقرة بعدها فقال: ذلِكَ الْكِتابُ يعني ما تقدم البقرة من القرآن.
وقيل: ذلِكَ الْكِتابُ الذي كذب به مالك بن الصيف اليهودي.
لا رَيْبَ فِيهِ: لا شكّ فيه، إنّه من عند الله.
قال: هُدىً: أي هو هدى، وتم الكلام عند قوله فِيهِ، وقيل: «هو» نصب على الحال، أي هاديا تقديره لا ريب في هدايته للمتقين.
قال أهل المعاني: ظاهره نفي وباطنه نهي، أي لا ترتابوا فيه، كقوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ(٢٦) : أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا في الهدى، والبيان وما يهتدي به ويستبين به الإنسان.
فصل في التقوى
هُدىً لِلْمُتَّقِينَ: اعلم أنّ التقوى أصله وقى(٢٧) من وقيت، فجعلت الواو تاء، كالتكلان فأصله وكلان من وكلت، والتخمة أصلها وخمة من وخم معدته إذا لم يستمرئ.
واختلف العلماء في معنى التقوى وحقيقة المتقي،
فقال رسول الله ﷺ: «جماع التقوى في قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ...(٢٨) الآية»(٢٩) [62] .
قال ابن عباس: المتقي الذي يتقي الشرك والكبائر والفواحش.
وقال ابن عمر: التقوى أن لا يرى [نفسه] خيرا من أحد.
وقال الحسن: المتقي الذي يقول لكل من رآه هذا خير مني.
وقال عمر بن الخطاب لكعب الأحبار: حدّثني عن التقوى، فقال: هل أخذت طريقا ذا شوك؟ قال: نعم، وقال: فما عملت فيه؟ قال: حذرت وتشمّرت، فقال كعب: ذلك التقوى، ونظمه ابن المعتز فقال:
خلّ الذنوب صغيرها ... وكبيرها ذاك التقى
واضع كماش فوق أر ... ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحتقرنّ صغيرة ... إنّ الجبال من الحصا(٣٠)
وقال عمر بن عبد العزيز: ليس التقوى قيام النهار وقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك، ولكن التقوى ترك ما حرّم الله وأداء ما افترض الله، فما رزق بعد ذلك فهو خير على خير.
وقيل لطلق بن حبيب: أجمل لنا التقوى؟ فقال: التقوى عمل يطلبه الله على نور من الله رجاء ثواب الله، والتقوى ترك معصية الله على نور من الله مخافة عقاب الله.
وقال بكر بن عبد الله: لا يكون الرجل تقيا حتى يكون يتقي الطمع، ويتقي الغضب.
وقال عمر بن عبد العزيز: المتقي لمحرم لا تحرم، يعني في الحرم.
وقال شهر بن حوشب: المتقي الذي يترك ما لا يأتمن به حذرا لما به بأس.
وروي عن النبي ﷺ أنّه قال: إنّما سمي المتقون؟ لتركهم ما لا بأس به حذرا للوقوع فيما به بأس(٣١) .
وقال سفيان الثوري والفضيل: هو الذي يحب للناس ما يحب لنفسه.
وقال الجنيد بن محمد: ليس المتقي الذي يحب الناس ما يحب لنفسه، إنّما المتقي الذي يحب للناس أكثر مما يحب لنفسه، أتدرون ما وقع لأستاذي سري بن المفلّس؟ سلّم عليه ذات يوم صديق له فردّ عليه، وهو عابس لم يبشّ له، فقلت له في ذلك فقال: بلغني أنّ المرء المسلم إذا سلّم على أخيه وردّ عليه أخوه قسمت بينهما مائة رحمة، فتسعون لأجلهما، وعشرة للآخر فأحببت أن يكون له التسعون.
محمد بن علي الترمذي: هو الذي لا خصم له.
السري بن المفلّس: هو الذي يبغض نفسه.
الشبلي: هو الذي يبغي ما دون الله.
قال جعفر الصادق: أصدق كلمة قالت العرب قول لبيد:
ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل(٣٢)
الثوري: هو الذي اتّقى الدنيا وأقلها.
محمد بن يوسف المقري: مجانبة كل ما يبعدك عن الله.
القاسم بن القاسم: المحافظة على آداب الشريعة.
وقال أبو زيد: هو التورّع عن جميع الشبهات.
وقال أيضا: المتقي من إذا قال قال لله، وإذا سكت سكت لله، وإذا ذكر ذكر لله تعالى.
الفضيل: يكون العبد من المتقين حتى يأمنه عدوّه كما يأمنه صديقه.
وقال سهل: المتقي من تبرّأ من حوله وقوّته.
وقال: التقوى أن لا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك من حيث أمرك.
وقيل: هو الاقتداء بالنبي ﷺ.
وقيل: هو أن تتقي بقلبك عن الغفلات، وبنفسك من الشهوات، وبحلقك من اللذات، وبجوارحك من السيئات، فحينئذ يرجى لك الوصول لما ملك الأرض والسموات.
أبو القاسم (حكيم) : هو حسن الخلق.
وقال بعضهم: يستدل على تقوى الرجل بثلاث: بحسن التوكّل فيما لم ينل، وحسن الرضا فيما قد نال، وحسن الصبر على ما فات.
وقيل: المتقي من اتّقى متابعة هواه.
وقال مالك: حدثنا وهب بن كيسان أنّ بعض فقهاء أهل المدينة كتب إلى عبد الله بن الزبير أنّ لأهل التقى علامات يعرفون بها: الصبر عند البلاء، والرضا بالقضاء، والشكر عند النعمة، والتذلل لأحكام القرآن.
وقال ميمون بن مهران: لا يكون الرجل تقيا حتى يكون أشدّ محاسبة لنفسه من الشريك الشحيح والسلطان الجائر.
وقال أبو تراب: بين يدي التقوى عقبات، من لا يجاوزها لا ينالها، اختيار الشدة على النعمة، واختيار القول على الفضول، واختيار الذلّ على العزّ، واختيار الجهد على الراحة، واختيار الموت على الحياة.
وقال بعض الحكماء: لا يبلغ الرجل سنام التقوى إلّا إذا كان بحيث لو جعل ما في قلبه على طبق، فيطاف به في السوق لم يستحي من شيء عليها.
وقيل: التقوى أن تزيّن سرّك للحقّ، كما تزيّن علانيتك للخلق.
وقال أبو الدرداء:
يريد المرء أن يعطى مناه ... ويأبى الله إلّا ما أرادا
يقول(٣٣) المرء فائدتي وذخري ... وتقوى الله أفضل ما استفادا(٣٤)
فصل في الإيمان
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ اعلم أنّ حقيقة الإيمان هي التصديق بالقلب، لأن الخطاب الذي توجّه عليها بلفظ آمنوا إنّما هو بلسان العرب، ولم يكن العرب يعرفون(٣٥) الإيمان غير التصديق، والنقل في اللغة لم يثبت فيه، إذ لو صح النقل عن اللغة لروي عن ذلك، كما روي في الصلاة التي أصلها الدعاء.
إذا كان الأمر كذلك وجب علينا أن نمتثل الأمر على ما يقتضيه لسانهم، كقوله تعالى في قصة يعقوب عليه السّلام وبنيه وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا(٣٦) : أي بمصدق لنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ، ويدل عليه من هذه الآية أنّه لما ذكر الإيمان علّقه بالغيب، ليعلم أنّه تصديق الخبر فيما أخبر به من الغيب، ثم أفرده بالذكر عن سائر الطاعات اللازمة للأبدان وفي الأموال فقال: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ والدليل عليه أيضا أنّ الله تعالى حيث ما ذكر الإيمان [نسبه](٣٧) إلى القلب فقال: مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ(٣٨) ، وقال: وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ»
، وقال: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ(٣٩) ، ونحوها كثير.
فأما محل الإسلام من الإيمان فهو كمحل الشمس من الضوء: كل شمس ضوء، وليس كل ضوء شمسا(٤٠) ، وكل مسك طيب، وليس كل طيب مسكا، كذلك كل إيمان إسلام وليس كل إسلام إيمانا، إذا لم يكن تصديقا لأن الإسلام هو الانقياد والخضوع، يدل عليه قوله تعالى:
قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا(٤١) من خوف السيف،
وقول النبي ﷺ:
«الإيمان سرا»(٤٢) [63] وأشار إلى صدره «والإسلام علانية»(٤٣) [64]
، وقوله ﷺ: «يا معشر من أسلم بلسانه، ولم يدخل الإيمان في قلبه»(٤٤) [65] .
وكذلك اختلف جوابه لجبرائيل في الإسلام والإيمان، فأجاب في الإيمان بالتصديق، وفي الإسلام بشرائع الإيمان، وهو ما
روى أبو بريده، وهو يحيى بن معمر قال: أول من قال في القدر بالبصرة سعيد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجّين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله ﷺ فسألناه عما يقول هو: ما في القدر؟ فوافقنا عبد الله ابن عمر بن الخطاب داخلا المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله فظننت أن صاحبي سيكل الكلام لي، فقلت: أبا عبد الرحمن، إنّه قد ظهر قبلنا أناس يقرءون القرآن ويفتقرون [إلى](٤٥) العلم وذكر من لسانهم أنّهم يزعمون أن لا قدر، وأنّ الأمر أنف، فقال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنّهم برءاء مني، والذي يحلف به عبد الله ابن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر.
ثم قال: أخبرنا أبي عمر بن الخطاب قال: بينما نحن عند رسول الله ﷺ ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي ﷺ وأسند ركبته إلى ركبته، ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ قال رسول الله ﷺ: «الإسلام أن يشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّ محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصوم شهر رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا» ، قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدّقه! قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وتؤمن بالقدر خيره وشره» .
قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: «أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك» ، قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» ، قال: فأخبرني عن إماراتها؟ قال: «أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاة الشاة شاهقون في البنيان» ، قال: ثم انطلق، فلبث علينا ثم قال: يا عمر من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «فإنّه جبرائيل عليه السّلام أتاكم ليعلمكم دينكم»(٤٦) .
ثم يسمى اقرار اللسان وأعمال الأبدان إيمانا بوجه من المناسبة وضرب من المقاربة لأنها من شرائعه وتوابعه وعلاماته وإماراته كما نقول: رأيت الفرح في وجه فلان، ورأيت علم زيد في تصنيفه وإنّما الفرج والعلم في القلب،
وقال رسول الله ﷺ: «الإيمان بضع وسبعون بابا، أدناها إماطة الأذى عن الطريق، وأعلاها شهادة(٤٧) أن لا إله إلّا الله» [66](٤٨) .
وعن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان» [67](٤٩) .
الحسن بن علي قال: حدثني علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: قال رسول الله ﷺ:
«الإيمان معرفة بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان» [68](٥٠) .
وعن علي بن الحسين زين العابدين قال: حدثنا أبي سيد شباب أهل الجنة قال: حدثنا أبي سيد الأوصياء قال: حدثنا محمّد سيد الأنبياء قال: «الإيمان قول مقول وعمل معمول وعرفان بالعقول واتباع الرسول» [72](٥١) .
وامّا الغيب فهو ما كان مغيّبا عن العيون محصّلا في القلوب وهو مصدر وضع موضع الاسم فقيل للغائب غيب، كما قيل للصائم: صوم، وللزائر: زور، وللعادل: عدل.
الربيع بن أبي العالية يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ قال: يؤمنون بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وجنته وناره ولقائه، ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث، فهذا غيب كلّه.
عمر بن الأسود عن عطاء بن أبي رباح: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ قال: بالله، من آمن بالله فقد آمن بالغيب(٥٢) .
سفيان عن عاصم بن أبي النجود في قوله يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ قال: الغيب: القرآن. وقال الكلبي: بما نزل من القرآن وبما لم يجيء بعد.
الضحاك: الغيب لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وما جاء به محمّد ﷺ، وقال زرّ بن حبيش وابن جريج وابن واقد: يعني بالوحي، نظيره قوله تعالى: أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى(٥٣) وقوله: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً(٥٤) وقوله: وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ(٥٥) .
الحسن: يعني بالآخرة. عبد الله بن هاني: هو ما غاب عنهم من علوم القرآن.
وروى زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) انه قال: كنت مع النبي ﷺ جالسا فقال: «أتدرون أي أهل الأيمان أفضل؟» قالوا: يا رسول الله الملائكة، قال:
«هم كذلك وحقّ لهم ذلك وما يمنعهم وقد أنزلهم الله تعالى بالمنزلة التي أنزلهم، بل غيرهم» .
قلنا: يا رسول الله الأنبياء؟ قال: «هم كذلك وحقّ لهم ذلك وما يمنعهم، بل غيرهم» ، قلنا: يا رسول الله فمن هم؟ قال: «أقوام يأتون من بعدي هم في أصلاب الرجال فيؤمنون بي ولم يرونني، يجدون الورق المعلّق فيعملون بما فيه فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيمانا» [73](٥٦) .
وروى حسن إن الحرث بن قيس عن عبد الله بن مسعود: عند الله يحتسب ما سبقتمونا إليه يا أصحاب محمد من رؤية رسول الله ﷺ، فقال عبد الله بن مسعود: نحن عند الله نحتسب إيمانكم بمحمد ﷺ ولم تروه، ثم قال عبد الله: إنّ أمر محمد كان بيّنا لمن رآه والذي لا اله الّا هو ما آمن مؤمن أفضل من إيمان الغيب، ثمّ قرأ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ أي يديمونها ويأتمونها ويحافظون عليها بمواقيتها وركوعها وسجودها وحقوقها وحدودها، وكل من واظب على شيء وقام به فهو مقيم له يقال أقام فلان الحجّ بالناس، وأقام القوم [سوقهم](٥٧) ولم يعطلوها قال الشاعر:
فلا تعجل بأمرك واستدمه ... فما صلّى عصاك [كمستديم](٥٨)
أي أراد بالصلاة هاهنا الصلوات الخمس، فذكرها بلفظ الواحد، كقوله: فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ(٥٩) أراد الكتب، وأصل الصلاة في اللغة: الدّعاء، ثمّ ضمّت إليها [عبادة] سميت مجموعها صلاة لأن الغالب على هذه العبادة الدّعاء.
وقال أبو حاتم الخارزمي: اشتقاقها من الصّلا وهو النار، فأصله من الرفق وحسن المعاناة للشيء وذلك إنّ الخشبة المعوجّة إذا أرادوا تقويمها [سحنوها بالنار] قوموها [بين خشبتين] فلذلك المصلّي ينبغي أن يتأنى في صلاته ويحفظ حدودها ظاهرا وباطنا ولا يعجّل فيها ولا يخفّ [ولا يعرف] قال الشاعر:
فلا تعجّل بأمرك واستدمه ... فما صلّى عصاك كمستديم
أي ما قوّم أمرك كالمباني.
وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ أعطيناهم، والرزق عند أهل السنّة: ما صحّ الانتفاع به، فإن كان طعاما فليتغدّى به، وان كان لباسا فلينقى والتوقي، وإن كان مسكنا فللانتفاع به سكنى، وقد ينتفع المنتفع بما هيّئ الانتفاع به على الوجهين: حلالا وحراما، فلذلك قلنا إنّ الله رزق الحلال والحرام، [وأصل الرزق] في اللغة: هو الحظ والبخت.
يُنْفِقُونَ يتصدقون، وأصل الإنفاق: الإخراج عن اليد أو عن الملك. يقال: نفق المبيع إذا كثر مشتروه وأسرع خروجه، ونفقت الدابة إذا خرجت روحها، ونافقاء اليربوع من ذلك لأنه إذا أتي من قبل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه فانتفق وأنفق إن خرج منه(٦٠) ، والنفق: سرب في الأرض له مخلص إلى مكان آخر يخرج إليه.
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ: أي يصدّقون بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ: يا محمد يعني القرآن وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ: يعني الكتب المتقدمة مثل صحف إبراهيم وموسى والزّبور والإنجيل وغيرها.
وَبِالْآخِرَةِ أي بالدار الآخرة، وسمّيت آخرة لأنّها تكون بعد الدّنيا ولأنّها أخّرت حتى تفنى الدنيا ثم تكون.
هُمْ يُوقِنُونَ يعلمون ويتيقّنون أنها كائنة، ودخل (هُمْ) تأكيدا، يسمّيه الكوفيون عمادا والبصريون فصلا.
أُولئِكَ أهل هذه الصفة، وأولاء: اسم مبني على الكسر، ولا واحد له من لفظه، والكاف خطاب، ومحل أُولئِكَ رفع بالابتداء وخبره في قوله: عَلى هُدىً رشد وبيان وصواب. مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ ابتدائان وهُمُ عماد الْمُفْلِحُونَ خبر الابتداء وهم الناجون الفائزون فازوا بالجنّة ونجوا من النار، وقيل: هم الباقون في الثواب والنعيم المقيم.
وأصل الفلاح في اللغة: البقاء. قال لبيد:
نحلّ بلادا كلها حل قبلنا ... ونرجو فلاحا بعد عاد وحمير(٦١)
وقال آخر:
لو كان حي مدرك الفلاح ... أدركه ملاعب الرماح
أبو براء يدرة المسياح(٦٢)
وقال مجاهد: أربع آيات من أول هذه السورة نزلت في المؤمنين، وآيتان بعدهما نزلت في الكافرين، وثلاث عشرة آية بعدها نزلت في المنافقين.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا: يعني مشركي العرب، وقال الضحّاك: نزلت في أبي جهل وخمسة من أهل بيته. وقال الكلبي: يعني اليهود، وقيل: المنافقون.
والكفر: هو الجحود والإنكار.
وأصله من الكفر وهو التغطية والسّتر، ومنه قيل للحراث: كافر لأنّه [يستر البذر] ، قال الله تعالى: أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ(٦٣) : يعني الزرّاع، وقيل للبحر: كافر، ولليل: كافر. قال لبيد:
حتى إذا ألقت يدا في كافر ... وأجن عورات الثغور ظلامها(٦٤)
في ليلة كفر النجوم غمامها(٦٥) ومنه: المتكفّر بالسلاح، وهو الشاكي الذي غطّى السلاح جميع بدنه.
فيسمى الكافر كافرا لأنه ساتر للحق ولتوحيد الله ونعمه ولنبوّة أنبيائه.
سَواءٌ عَلَيْهِمْ: أي واحد عليهم ومتساوي لديهم، وهو اسم مشتق من التساوي.
أَأَنْذَرْتَهُمْ: أخوّفتهم وحذّرتهم.
قال أهل المعاني: الإنذار والإعلام مع تحذير، يقال: أنذرتهم فنذروا، أي أعلمتهم فعلموا، وفي المثل: وقد أعذر من أنذر، وفي قوله: أَأَنْذَرْتَهُمْ وأخواتها أربع قراءات:
تحقيق الهمزتين وهي لغة تميم وقراءة أهل الكوفة لأنها ألف الاستفهام دخلت على ألف القطع وحذف الهمزة التي وصلت بفاء الفعل وتعويض مده منها كراهة الجمع بين الهمزتين وهي لغة أهل الحجاز، وإدخال ألف بين الهمزتين وهي قراءة أهل الشام في رواية هشام وإحدى الروايتين عن أبي عمرو.
قال الشاعر:
تطاولت فاستشرقت قرابته ... فقلن له: أأنت زيد لا بل قمر(٦٦)
والأخبار اكتفاء بجواب الاستفهام، وهي قراءة الزهري.
أَمْ: حرف عطف على الاستفهام.
لَمْ: حرف جزم لا يلي إلّا الفصل لأنّ الجزم مختص بالأفعال.
تُنْذِرْهُمْ: تحذرهم لا يُؤْمِنُونَ وهذه الآية خاصّة فيمن حقّت عليه كلمة العذاب في سابق علم الله، وظاهرها إنشاء ومعناها إخبار، ثمّ ذكر سبب تركهم للإيمان فقال:
خَتَمَ اللَّهُ: أي طبع عَلى قُلُوبِهِمْ والختم والطبع بمعنى واحد وهما التغطية للشيء [والاستيثاق](٦٧) من أن يدخله شيء آخر.
فمعنى الآية: طبع الله على قلوبهم وأغلقها وأقفلها فليست تعي خبرا ولا تفهمه. يدل عليه قوله: أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها(٦٨) .
وقال بعضهم: معنى الطبع والختم: حكم الله عليهم بالكفر والشقاوة كما يقال للرجل:
ختمت عليك أن لا تفلح أبدا.
وَعَلى سَمْعِهِمْ: فلا يسمعون الحق ولا ينتفعون به، وإنما وحّده لأنه مصدر، والمصادر لا تثنّى ولا تجمع، وقيل: أراد سمع كل واحد منهم كما يقال: آتني برأس كبشين، أراد برأس كل واحد منهما، قال الشاعر:
كلوا في نصف بطنكم تعيشوا ... فإن زمانكم زمن خميص(٦٩)
وقال سيبويه: توحيد السمع يدل على الجمع لأنه لا توحيد جمعين كقوله تعالى:
يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ»
يعني الأنوار.
قال الراعي:
بها جيف الحسرى فأما عظامها ... فبيض وأما جلدها فصليب(٧٠)
وقرأ ابن عبلة: وعلى أسماعهم، وتم الكلام عند قوله وَعَلى سَمْعِهِمْ.
ثم قال: وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ: أي غطاء وحجاب، فلا يرون الحق، ومنه غاشية السرج، وقرأ المفضل بن محمد الضبي: غِشاوَةً بالنصب كأنّه أضمر له فعلا أو جملة على الختم: أي وختم على أبصارهم غشاوة. يدل عليه قوله تعالى: وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً(٧١) .
وقرأ الحسن: غُشاوَةٌ بضم الغين، وقرأ الخدري: غَشاوَةٌ بفتح الغين، وقرأ أصحاب عبد الله: غشوة بفتح الغين من غير ألف.
وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ: القتل والأسر في الدنيا، والعذاب الأليم في العقبى، والعذاب كلّ ما يعنّي الإنسان ويشقّ عليه، ومنه: عذّبه السواط ما فيها من وجود الألم، وقال الخليل:
العذاب ما يمنع الإنسان من مراده، ومنه: الماء العذب لأنه يمنع من العطش، ثم نزلت في المنافقين: عبد الله بن أبي بن سلول الخزرجي، ومعتب بن بشر، وجدّ بن قيس وأصحابهم حين قالوا: تعالوا إلى خلة نسلم بها من محمد وأصحابه ونكون مع ذلك مستمسكين بديننا، فأجمعوا على أن يقرّوا كلمة الإيمان بألسنتهم واعتقدوا خلافها وأكثرهم من اليهود. فقال الله:
(١) كنز العمّال: 1/ 565، ح 2549.
(٢) مسند أحمد: 5/ 352.
(٣) سنن الترمذي: 4/ 234، بتفاوت.
(٤) سورة الحجر: 1.
(٥) سورة الدخان: 1.
(٦) سورة القلم: 1.
(٧) في المخطوط: وهي.
(٨) سورة المرسلات: 48.
(٩) سورة العلق: 19.
(١٠) سورة آل عمران: 182.
(١١) تفسير الطبري: 1/ 132، ولسان العرب: 10/ 480.
(١٢) شرح شافية ابن الحاجب: 4/ 264، والبيت الأوّل موجود في تفسير القرطبي: 1/ 155.
(١٣) تفسير القرطبي: 1/ 156.
(١٤) لسان العرب: 1/ 164 وفيه: تفليني وا.
(١٥) لسان العرب: 15/ 288.
(١٦) لسان العرب: 698.
(١٧) شرح الرضي على الكافية: 1/ 68.
(١٨) كلمة غير مقروءة.
(١٩) في الأصل: حرف حرف.
(٢٠) جامع البيان للطبري: 3/ 341.
(٢١) الصحاح: 1/ 208.
(٢٢) سورة الأنعام: 83.
(٢٣) لسان العرب: 3/ 302.
(٢٤) جامع البيان للطبري: 1/ 143.
(٢٥) في المخطوط: سورا.
(٢٦) سورة البقرة: 197.
(٢٧) في المخطوط: وقوي.
(٢٨) سورة النحل: 90.
(٢٩) تفسير مجمع البيان: 1/ 82.
(٣٠) تفسير القرطبي: 1/ 162.
(٣١) تفسير مجمع البيان: 1/ 83.
(٣٢) لسان العرب: 5/ 351.
(٣٣) في المخطوط: ويقول.
(٣٤) الدرّ المنثور: 1/ 25.
(٣٥) في المخطوط: يعرف.
(٣٦) سورة يوسف: 17.
(٣٧) زيادة اقتضاها السياق.
(٣٨) سورة المائدة: 41.
(٣٩) سورة المجادلة: 22.
(٤٠) في المخطوط: شمس.
(٤١) سورة الحجرات: 14.
(٤٢) تفسير مجمع البيان: 1/ 86.
(٤٣) تفسير مجمع البيان: 1/ 86.
(٤٤) كنز العمّال: 3/ 585، ح 8021.
(٤٥) زيادة اقتضاها السياق.
(٤٦) صحيح مسلم: 1/ 28- 29 بطوله.
(٤٧) في المصدر: وارفعها قول.
(٤٨) مسند أحمد: 2/ 445، وكنز العمّال: 1/ 36.
(٤٩) صحيح مسلم: 1/ 46.
(٥٠) المعجم الأوسط: 6/ 226.
(٥١) تفسير مجمع البيان: 1/ 86.
(٥٢) تفسير ابن كثير: 1/ 43.
(٥٣) سورة النجم: 35.
(٥٤) سورة الجن: 26.
(٥٥) سورة التكوير: 24.
(٥٦) مسند أبي يعلى: 1/ 147.
(٥٧) زيادة عن تفسير الطبري: 1/ 152 والمخطوط ممسوح.
(٥٨) تاج العروس: 8/ 295.
(٥٩) سورة البقرة: 213.
(٦٠) راجع كتاب العين: 5/ 178.
(٦١) تفسير الطبري: 1/ 182.
(٦٢) تاج العروس: 2/ 146 لسان العرب: 2/ 454 وفيه: (أبا براء مدرة السياح) ، والمسياح: من يسيح بالنميمة والشر في الأرض.
(٦٣) سورة الحديد: 20.
(٦٤) لسان العرب: 5/ 147.
(٦٥) جامع البيان للطبري: 1/ 162.
(٦٦) كذا في المخطوط، ولم نجده.
(٦٧) المخطوط غير مقروء وما أثبتناه من تفسير القرطبي: 1/ 186.
(٦٨) سورة محمد: 24.
(٦٩) زاد المسير: 1/ 22.
(٧٠) قائله علقمة بن عبدة راجع ديوانه: 27 وتفسير الطبري: 4/ 324.
(٧١) سورة الجاثية: 23.
الكشاف — الزمخشري (٥٣٨ هـ)
﴿ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ﴾ [البقرة ٢]
فإن قلت: لم صحت الإشارة بذلك إلى ما ليس ببعيد؟(١) قلت: وقعت الإشارة إلى الم بعد ما سبق التكلم به وتقضى، والمتقضى في حكم المتباعد، وهذا في كل كلام. يحدّث الرجل بحديث ثم يقول: وذلك ما لا شك فيه. ويحسب الحاسب ثم يقول: فذلك كذا وكذا.
وقال اللَّه تعالى: (لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) . وقال: (ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) ، ولأنه لما وصل من المرسل إلى المرسل إليه، وقع في حد البعد، كما تقول لصاحبك وقد أعطيته شيئا: احتفظ بذلك. وقيل معناه: ذلك الكتاب الذي وعدوا به. فإن قلت: لم ذكر اسم الإشارة- والمشار إليه مؤنث وهو السورة-؟(٢) قلت: لا أخلو من أن أجعل الكتاب خبره أو صفته. فإن جعلته خبره، كان ذلك في معناه ومسماه مسماه، فجاز إجراء حكمه عليه في التذكير، كما أجرى عليه في التأنيث في قولهم: من كانت أمّك. وإن جعلته صفته، فإنما أشير به إلى الكتاب صريحاً لأنّ اسم الإشارة مشار به إلى الجنس الواقع صفة له. تقول:
هند ذلك الإنسان، أو ذلك الشخص فعل كذا. وقال الذبياني:
نُبِّئْتُ نُعْمَى على الهِجْرانِ عاتِبةً ... سُقْيَا ورُعْيَا لِذَاكَ العاتِبِ الزَّارِى(٣) فإن قلت: أخبرنى عن تأليف ذلِكَ الْكِتابُ مع (الم) . قلت: إن جعلت (الم) اسما للسورة ففي التأليف وجوه: أن يكون (الم) مبتدأ، و (ذلِكَ) . مبتدأ ثانيا، و (الْكِتابُ) خبره، والجملة خبر المبتدأ الأوّل. ومعناه: أنّ ذلك الكتاب هو الكتاب الكامل، كأن ما عداه من الكتب في مقابلته ناقص، وأنه الذي يستأهل أن يسمى كتابا، كما تقول: هو الرجل، أى الكامل في الرجولية، الجامع لما يكون في الرجال من مرضيات الخصال. وكما قال:
هُمّ الْقَوْمُ كلُّ الْقَوْمِ يا أُمَّ خَالِدِ(٤)
وأن يكون الكتاب صفة. ومعناه: هو ذلك الكتاب الموعود، وأن يكون (الم) خبر مبتدإ محذوف، أى هذه الم، ويكون ذلك خبرا ثانيا أو بدلا، على أن الكتاب صفة، وأن يكون: هذه الم جملة، وذلك الكتاب جملة أخرى. وإن جعلت الم بمنزلة الصوت، كان ذلك مبتدأ خبره الكتاب، أى ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل. أو الكتاب صفة والخبر ما بعده، أو قدّر مبتدأ محذوف، أى هو- يعنى المؤلف من هذه الحروف- ذلك الكتاب. وقرأ عبد اللَّه: الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه. وتأليف هذا ظاهر.
والريب: مصدر رابنى، إذا حصل فيك الريبة. وحقيقة الريبة: قلق النفس واضطرابها.
ومنه ما روى الحسن بن على قال: سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك(٥) فإن الشك ريبة، وإنّ الصدق طمأنينة» أى فإن كون الأمر مشكوكا فيه مما تقلق له النفس ولا تستقرّ. وكونه صحيحا صادقا مما تطمئن له وتسكن. ومنه: ريب الزمان، وهو ما يقلق النفوس ويشخص بالقلوب من نوائبه. ومنه أنه مر بظبي حاقف(٦) فقال:
«لا يربه أحد بشيء(٧) . فإن قلت: كيف نفى الريب على سبيل الاستغراق؟ وكم من مرتاب فيه؟ قلت: ما نفى أنّ أحدا لا يرتاب فيه(٨) وإنما المنفي كونه متعلقا للريب ومظنة له لأنه من وضوح الدلالة وسطوع البرهان بحيث لا ينبغي لمرتاب أن يقع فيه. ألا ترى إلى قوله تعالى:
(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) ، فما أبعد وجود الريب منهم؟ وإنما عرفهم الطريق إلى مزيل الريب، وهو أن يحزروا أنفسهم ويروزوا قواهم في البلاغة، هل تتم للمعارضة أم تتضاءل دونها؟ فيتحققوا عند عجزهم أن ليس فيه مجال للشبهة ولا مدخل للريبة. فإن قلت: فهلا قدّم الظرف على الريب، كما قدّم على الغول في قوله تعالى:
(لا فِيها غَوْلٌ) ؟ قلت: لأنّ القصد في إيلاء الريب حرف النفي، نفى الريب عنه، وإثبات أنه حق وصدق لا باطل وكذب، كما كان المشركون يدّعونه، ولو أولى الظرف لقصد إلى ما يبعد عن المراد، وهو أنّ كتابا آخر فيه الريب لا فيه، كما قصد في قوله: (لا فِيها غَوْلٌ) تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها هي، كأنه قيل: ليس فيها ما في غيرها من هذا العيب والنقيصة: وقرأ أبو الشعثاء: (لا ريب فيه) بالرفع: والفرق بينها وبين المشهورة، أنّ المشهورة توجب الاستغراق، وهذه تجوّزه. والوقف على: (فِيهِ) هو المشهور. وعن نافع وعاصم أنهما وقفا على: (لا رَيْبَ) ولا بد للواقف من أن ينوى خبرا.
ونظيره قوله تعالى: (قالُوا لا ضَيْرَ) ، وقول العرب: لا بأس، وهي كثيرة في لسان أهل الحجاز.
والتقدير: لا ريب فيه.
فِيهِ هُدىً الهدى مصدر على فعل، كالسرى والبكى، وهو الدلالة الموصلة إلى البغية، بدليل وقوع الضلالة في مقابلته. قال اللَّه تعالى: (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) .
وقال تعالى: (لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) . ويقال: مهدى، في موضع المدح كمهتد ولأن اهتدى مطلوع هدى- ولن يكون المطاوع في خلاف معنى أصله- ألا ترى إلى نحو:
غمه فاغتم، وكسره فانكسر، وأشباه ذلك: فإن قلت: فلم قيل: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ والمتقون مهتدون؟(٩) قلت: هو كقولك للعزيز المكرم: أعزك اللَّه وأكرمك، تريد طلب الزيادة إلى ما هو ثابت فيه واستدامته، كقوله: (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) . ووجه آخر، وهو أنه سماهم عند مشارفتهم لاكتساء لباس التقوى: متقين، كقول رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «من قتل قتيلا فله سلبه»(١٠) وعن ابن عباس: «إذا أراد أحدكم الحج فليعجل فإنه يمرض المريض وتضل الضالة، وتكتفّ الحاجة»(١١) فسمى المشارف للقتل والمرض والضلال: قتيلا ومريضاً وضالا. ومنه قوله تعالى: (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) ، أى صائراً إلى الفجور والكفر. فإن قلت: فهلا قيل هدى للضالين؟ قلت: لأن الضالين فريقان: فريق علم بقاؤهم على الضلالة وهم المطبوع على قلوبهم، وفريق علم أنّ مصيرهم إلى الهدى فلا يكون هدى للفريق الباقين على الضلالة، فبقى أن يكون هدى لهؤلاء، فلو جيء بالعبارة المفصحة عن ذلك لقيل: هدى للصائرين إلى الهدى بعد الضلال، فاختصر الكلام باجرائه على الطريقة التي ذكرنا، فقيل: هدى للمتقين. وأيضاً فقد جعل ذلك سلما إلى تصدير السورة التي هي أولى الزهراوين وسنام القرآن وأول المثاني، بذكر أولياء اللَّه والمرتضين من عباده.
والمتقى في اللغة اسم فاعل، من قولهم: وقاه فاتقى. والوقاية: فرط الصيانة. ومنه: فرس واق، وهذه الدابة تقى من وجاها، إذا أصابه ضلع(١٢) من غلظ الأرض ورقة الحافر، فهو يقي حافره أن يصيبه أدنى شيء يؤلمه. وهو في الشريعة الذي يقي نفسه تعاطى ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك. واختلف في الصغائر(١٣) وقيل الصحيح أنه لا يتناولها، لأنها تقع مكفرة عن مجتنب الكبائر. وقيل: يطلق على الرجل اسم المؤمن لظاهر الحال، والمتقى لا يطلق إلا عن خبرة، كما لا يجوز إطلاق العدل إلا على المختبر.
ومحل (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) الرفع، لأنه خبر مبتدإ محذوف، أو خبر مع (لا رَيْبَ فِيهِ) لذلك، أو مبتدأ إذا جعل الظرف المقدّم خبراً عنه. ويجوز أن ينصب على الحال، والعامل فيه معنى الإشارة أو الظرف. والذي هو أرسخ عرقا في البلاغة أن يضرب عن هذه المحال صفحاً، وأن يقال إن قوله: (الم) جملة برأسها، أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها. و (ذلِكَ الْكِتابُ) جملة ثانية. و (لا رَيْبَ فِيهِ) ثالثة. و (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) رابعة.
وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة وموجب حسن النظم، حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير حرف نسق، وذلك لمجيئها متآخية آخذا بعضها بعنق بعض. فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها، وهلم جراً إلى الثالثة والرابعة. بيان ذلك أنه نبه أولا على أنه الكلام المتحدّى به، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال. فكان تقريراً لجهة التحدي، وشدّاً من أعضاده. ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب، فكان شهادة وتسجيلا بكماله، لأنه لا كمال أكمل مما للحق واليقين، ولا نقص أنقص مما للباطل والشبهة. وقيل لبعض العلماء:
فيم لذتك؟ فقال: في حجة تتبختر اتضاحا، وفي شبهة تتضاءل افتضاحا. ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين، فقرّر بذلك كونه يقيناً لا يحوم الشك حوله، وحقا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ثم لم تخل كل واحدة من الأربع، بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق، ونظمت هذا النظم السرى، من نكتة ذات جزالة. ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه وأرشقه. وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة. وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف. وفي الرابعة الحذف. ووضع المصدر الذي هو «هدى» موضع الوصف الذي هو «هاد» وإيراده منكراً. والإيجاز في ذكر المتقين.
زادنا اللَّه اطلاعا على أسرار كلامه، وتبيينا لنكت تنزيله، وتوفيقاً للعمل بما فيه.
(١) قال محمود رحمه اللَّه: «إن قلت لم صحت الاشارة بذلك إلى ما ليس ببعيد ... الخ» ؟ قال أحمد رحمه اللَّه:
ولأن البعد هنا باعتبار علو المنزلة، وبعد مرتبة المشار إليه من مرتبة كل كتاب سواه كما يقطعون بثم للاشعار بتراخي المراتب، وقد يكون المعطوف سابقا في الوجود على المعطوف عليه وسيأتى أمثاله.
(٢) قال محمود رحمه اللَّه: «فان قلت: لم ذكر اسم الاشارة ... الخ» ؟ قال أحمد رحمه اللَّه: ولو مثل ذلك بقول القائل: حصان كانت دابتك، لكان أقوم وأسلم من الفرق بما في لفظ «من» من الإبهام الصالح للمذكور والمؤنث. ومثل هذا قوله تعالى: (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ) فيمن وصل الكلام فجعل (هُمُ الْعَدُوُّ) جملة في موضع المفعول الثاني للحسبان، وعدل عن أن يقول: هي العدو، نظراً إلى المفعول الثاني الذي هو في المعنى خبر عن الصيحة، فذكر وجمع لما كان المبتدأ هو الخبر في المعنى. وقد وجه الشيخ أبو عمرو قول الزمخشري، وتسمى الجملة بالتاء والياء عقيب قوله: والكلام هو المركب من كلمتين- بهذا التوجيه
(٣) عوجوا فحيوا لنعم دمنة الدار ... ماذا يحيون من نؤى وأحجار
لقد أرانى ونعمى لاهيين بها ... والدهر والعيش لم يهمم بإمرار
نبئت نعمى على الهجران عاتبة ... سقيا ورعيا لذاك العاتب الزاري
للنابغة الذبياني. والعوج: عطف رأس البعير بالزمام. ونعم: اسم محبوبته. والدمنة: ما تلبد من البعر والرماد والقمامة، والمراد مطلق الآثار. والنؤى: الحاجز حول الخباء لئلا يدخله الماء. والمراد بالأحجار: الأثافى التي تنصب عليها القدور، أو بقية الجدران، وهم بالشيء: أراده، وأصله الإدغام، وفكه هنا لغة، أى لم يهم كل منهما.
والإمرار: صيرورة الشيء مرا، والاحلاء: صيرورته حلوا، وجعل الطعم مراً، وجعله حلواً، ويروى زارية بدل عاتبة. والزاري: العائب، يقال: زرى عليه يزرى إذا عاب عليه. وقوله ماذا تحيون: استشعار للخطأ في الأمر بالتحية ورجوع عنه لأنه لا يجدى شيئا. و «من» بيان لماذا، وفيه معنى التحقير، ونعمى: عطف على ضمير النصب، والواو للحال، أى والحال أن الدهر والعيش لم يتغير كل منهما إلى البؤس، شبههما بما تصح منه الارادة على طريق الكناية، فأسند لهما الهم تخييلا، أو استعار الهم المشارفة والقرب تصريحا، وشبههما بالمطعوم فأثبت لهما الإمرار، أو استعاره لتكدرهما ونغصهما بجامع كراهية النفس لكل. وعلى الهجران: أى مع هجرانها، أو لأحل هجرانى لها. وسقيا، ورعيا: منصوبان على المصدرية، أى سقاها اللَّه ورعاها. وذلك إشارة إلى الإنسان أو الشخص وهي المراد، ووصفها بما للذكر تعظيما لها وتفخيما لشأنها.
(٤) وإن الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كل القوم يا أم خالد
للأشهب بن رميلة. وقيل لحريث بن مخفض. والذي: أصله الذين، فحذفت النون تخفيفاً. وروى: وإن الألى، وهو بمعنى الذين، وهم المذكورون في أول الأبيات وهو:
ألم تر أنى بعد عمرو ومالك ... وعروة وابن الهول لست بخالد
وحانت: أتى حين هلاكها، وهو كناية عن الهلاك. ويقال: حان حينا: هلك، وأحانه اللَّه: أهلكه فهو حقيقة. وفلج- بالفتح- اسم موضع بطريق البصرة، ودماؤهم: نفوسهم. وهم القوم كل القوم: أى هم المختصون بجميع صفات الرجال الحميدة دون غيرهم.
(٥) أخرجه الترمذي في آخر الطب، والحاكم في الأحكام وفي البيوع. والطبراني والبزار. ورواه البيهقي في الشعب بلفظ «فان الشر ريبة والخير طمأنينة»
(٦) قوله «أنه مر بظبي حاقف» لعله: أنه صلى اللَّه عليه وسلم الخ. وفي الصحاح أنه عليه السلام مر بظبي حاتف في ظل شجرة، وهو الذي انحنى وتثنى في نومه اه (ع)
(٧) أخرجه في الموطأ. والنسائي في الحج. وابن حبان من رواية عمر بن سلمة الضمري عن البهرى: أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم خرج يريد مكة وهو محرم، حتى إذا كان بالاثاية بين الرويثة والعرج، إذا ظبى حاتف في ظل وفيه سهم. فأمر رجلا أن يقف عنده لا يريبه أحد من الناس حتى يجاوزوه. ولإسحاق في مسنده: فقال لبعض القوم: «كن حتى يمر الناس ولا يريبه أحد بشيء» اه. البهرى وقع في مسند أبى يعلى أن اسمه مخول، ولفظه: تبعت حبائل لي بالأبواء فوقع فيها ظبى، فأقلت والحبل في رجله، فخرجت أقفوه فسبقني إليه رجل فاحتضنها، ثم ترافعنا إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم فجعله بيننا نصفين.
(٨) قوله «أن أحداً لا يرتاب فيه» لعله أن أحداً يرتاب فيه. وقد يقال المراد ما نفى الريب على معنى أن أحداً لا يرتاب فيه. (ع)
(٩) قال محمود رحمه اللَّه: «فان قلت: فلم قيل هدى للمتقين والمتقون مهتدون ... الخ» . قال أحمد رحمه اللَّه: الهدى يطلق في القرآن على معنيين: أحدهما الإرشاد وإيضاح سبيل الحق. ومنه قوله تعالى: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) . وعلى هذا يكون الهدى للضال باعتبار أنه رشد إلى الحق، سواء حصل له الاهتداء أولا.
والآخر خلق اللَّه تعالى الاهتداء في قلب العبد، ومنه: (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) فإذا ثبت وروده على المعنيين فهو في هذه الآية يحتمل أن يراد به المعنيان جميعاً. وأما قول الزمخشري: إن القرآن لا يكون هدى للمعلوم بقاؤهم على الضلالة، فإنما يستقيم إذا أريد بالهدى خلق الاهتداء في قلوبهم. وأما إذا أريد معناه الأول، فلا يمتنع أن اللَّه تعالى أرشد الخلق أجمعين، وبين للناس ما نزل إليهم، فمنهم من اهتدى، ومنهم من حقت عليهم الضلالة. هذا مذهب أهل السنة.
(١٠) متفق عليه من حديث أبى قتادة. وفيه قصته. وغلط الطيبي فقرأه لأبى داود عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما، والذي فيه أنه قال يوم بدر «من قتل قتيلا فله كذا أو كذا» لم يقل «فله سلبه» .
(١١) موقوف. عزاه الطيبي لأبى داود وحده مرفوعا وقال: ليس فيه الزيادات، يعنى قوله: فيه يمرض إلى آخره. انتهى. والحديث بتمامه عند ابن ماجة، وأحمد وإسحاق في مسنديهما مرفوعا، وفيه أبو إسرائيل المكي، وهو صدوق سيئ الحفظ.
(١٢) قوله «من وجاها إذا أصابه ضلع» في الصحاح: الوجي: الوجع في الحافر. والضلع: الميل والاعوجاج:
والظلع: غمز في مشية البعير. (ع)
(١٣) قال محمود رحمه اللَّه: «واختلف في الصغائر ... الخ» . قال أحمد رحمه اللَّه: ومن تمنى القدرية على اللَّه تعالى اعتقادهم أن الصغائر ممحوة عنهم ما اجتنبوا الكبائر، وأنه يجب أن يعفو اللَّه عنها لمجتنب الكبائر، كما يجب عندهم أن لا يعفو عن مرتكب الكبائر، وهذا هو الخطأ الصراح، والمحادة لآيات اللَّه البينات وسنن رسوله صلى اللَّه عليه وسلم الصحاح. والحق أن غفران الصغائر- وإن اجتنبت الكبائر- موكول إلى المشيئة، كما أن غفران الكبائر موكول إليها أيضا. ومن لا يعتقد ذلك وهم القدرية يضطرون إلى الوقوف عند قوله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) فانه ناطق بالمؤاخذة بالصغائر. ويتحيرون عند قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) فانه مصرح بمغفرة الكبائر. أما أهل السنة فقد ألفوا بين هاتين الآيتين بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) فان التقييد بالمشيئة في هذه يقضى على الآيتين المطلقتين.
إرشاد العقل السليم — أبو السعود (٩٨٢ هـ)
﴿ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ﴾ [البقرة ٢]
﴿ذَلِكَ﴾: "ذا" اسْمُ إشارَةٍ؛ واللّامُ عِمادٌ جِيءَ بِهِ لِلدَّلالَةِ عَلى بُعْدِ المُشارِ إلَيْهِ؛ والكافُ لِلْخِطابِ؛ والمُشارُ إلَيْهِ هو المُسَمّى؛ فَإنَّهُ مُنْزَلٌ مَنزِلَةَ المُشاهَدِ بِالحِسِّ البَصَرِيِّ؛ وما فِيهِ مِن مَعْنى البُعْدِ؛ مَعَ قُرْبِ العَهْدِ بِالمُشارِ إلَيْهِ؛ لِلْإيذانِ بِعُلُوِّ شَأْنِهِ؛ وكَوْنِهِ في الغايَةِ القاصِيَةِ مِنَ الفَضْلِ والشَّرَفِ؛ إثْرَ تَنْوِيهِهِ بِذِكْرِ اسْمِهِ؛ وما قِيلَ مِن أنَّهُ بِاعْتِبارِ التَّقَصِّي؛ أوْ بِاعْتِبارِ الوُصُولِ مِنَ المُرْسِلِ إلى المُرْسَلِ إلَيْهِ؛ في حُكْمِ المُتَباعِدِ؛ وإنْ كانَ مُصَحِّحًا لِإيرادِهِ؛ لَكِنَّهُ بِمَعْزِلٍ مِن تَرْجِيحِهِ عَلى إيرادِ ما وُضِعَ لِلْإشارَةِ إلى القَرِيبِ؛ وتَذْكِيرُهُ عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِ المُسَمّى هي السُّورَةَ؛ لِأنَّ المُشارَ إلَيْهِ هو المُسَمّى بِالِاسْمِ المَذْكُورِ؛ مِن حَيْثُ هو مُسَمًّى بِهِ؛ لا مِن حَيْثُ هو مُسَمًّى بِالسُّورَةِ؛ ولَئِنِ ادُّعِيَ اعْتِبارُ الحَيْثِيَّةِ الثّانِيَةِ في الأوَّلِ؛ بِناءً عَلى أنَّ التَّسْمِيَةَ لِتَمْيِيزِ السُّوَرِ بَعْضِها مِن بَعْضٍ؛ فَذَلِكَ لِتَذْكِيرِ ما بَعْدَهُ؛ وهو - عَلى الوَجْهِ الأوَّلِ - مُبْتَدَأٌ عَلى حِدَةٍ؛ وعَلى الوَجْهِ الثّانِي مُبْتَدَأٌ ثانٍ.
وَقَوْلُهُ - عَزَّ وعَلا -: ﴿الكِتابُ﴾؛ إمّا خَبَرٌ لَهُ؛ أوْ صِفَةٌ؛ أمّا إذا كانَ خَبَرًا لَهُ فالجُمْلَةُ عَلى الوَجْهِ الأوَّلِ مُسْتَأْنَفَةٌ؛ مُؤَكِّدَةٌ لِما أفادَتْهُ الجُمْلَةُ الأُولى مِن نَباهَةِ شَأْنِ المُسَمّى؛ لا مَحَلَّ لَها مِنَ الإعْرابِ؛ وعَلى الوَجْهِ الثّانِي في مَحَلِّ الرَّفْعِ؛ عَلى أنَّها خَبَرٌ لِلْمُبْتَدَإ الأوَّلِ؛ واسْمُ الإشارَةِ مُغْنٍ عَنِ الضَّمِيرِ الرّابِطِ؛ و"الكِتابُ" إمّا مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ المَفْعُولُ مُبالَغَةً؛ كالخَلْقِ والتَّصْوِيرِ لِلْمَخْلُوقِ والمُصَوَّرِ؛ وإمّا "فِعالٌ" بُنِيَ لِلْمَفْعُولِ؛ كَـ "اللِّباسُ"؛ مِن "الكَتْبُ"؛ الَّذِي هو ضَمُّ الحُرُوفِ بَعْضِها إلى بَعْضٍ؛ وأصْلُهُ الجَمْعُ؛ والضَّمُّ في الأُمُورِ البادِيَةِ لِلْحِسِّ البَصَرِيِّ؛ ومِنهُ "الكَتِيبَةُ" لِلْعَسْكَرِ؛ كَما أنَّ أصْلَ القِراءَةِ الجَمْعُ والضَّمُّ في الأشْياءِ الخافِيَةِ عَلَيْهِ؛ وإطْلاقُ "الكِتابُ" عَلى المَنظُومِ عِبارَةً لِما أنَّ مَآلَهُ الكِتابَةُ؛ والمُرادُ بِهِ - عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِ المُسَمّى هي السُّورَةَ - جَمِيعُ القرآن الكَرِيمِ؛ وإنْ لَمْ يَتِمَّ نُزُولُهُ عِنْدَ نُزُولِ السُّورَةِ؛ إمّا بِاعْتِبارِ تَحَقُّقِهِ في عِلْمِ اللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ -؛ أوْ بِاعْتِبارِ ثُبُوتِهِ في اللَّوْحِ؛ أوْ بِاعْتِبارِ نُزُولِهِ جُمْلَةً إلى السَّماءِ الدُّنْيا؛ حَسْبَما ذُكِرَ في فاتِحَةِ الكِتابِ. واللّامُ لِلْعَهْدِ؛ والمَعْنى: أنَّ هَذِهِ السُّورَةَ هي الكِتابُ؛ أيِ العُمْدَةُ القُصْوى مِنهُ؛ كَأنَّهُ في إحْرازِ الفَضْلِ كُلُّ الكِتابِ المَعْهُودِ الغَنِيِّ عَنِ الوَصْفِ بِالكَمالِ؛ لِاشْتِهارِهِ بِهِ فِيما بَيْنَ الكُتُبِ؛ عَلى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ ﷺ: « "الحَجُّ عَرَفَةُ"؛» وعَلى تَقْدِيرِ كَوْنِ المُسَمّى كُلَّ القرآن فالمُرادُ بِالكِتابِ الجِنْسُ؛ واللّامُ لِلْحَقِيقَةِ؛ والمَعْنى: أنَّ ذَلِكَ هو الكِتابُ الكامِلُ الحَقِيقُ بِأنْ يُخَصَّ بِهِ اسْمُ الكِتابِ؛ لِغايَةِ تَفَوُّقِهِ عَلى بَقِيَّةِ الأفْرادِ في حِيازَةِ كَمالاتِ الجِنْسِ؛ كَأنَّ ما عَداهُ مِنَ الكُتُبِ السَّماوِيَّةِ خارِجٌ مِنهُ؛ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ؛ كَما يُقالُ: هو الرَّجُلُ؛ أيِ الكامِلُ في الرُّجُولِيَّةِ؛ الجامِعُ لِما يَكُونُ في الرِّجالِ مِن مَراضِي الخِصالِ؛ وعَلَيْهِ قَوْلُ مَن قالَ:
∗∗∗ هُمُ القَوْمُ كُلُّ القَوْمِ يا أُمَّ خالِدِ
فالمَدْحُ كَما تَرى مِن جِهَةِ حَصْرِ كَمالِ الجِنْسِ في فَرْدٍ مِن أفْرادِهِ؛ وفي الصُّورَةِ الأُولى مِن جِهَةِ حَصْرِ كَمالِ الكُلِّ في الجُزْءِ؛ ولا مَساغَ هُناكَ لِحَمْلِ الكِتابِ عَلى الجِنْسِ؛ لِما أنَّ فَرْدَهُ المَعْهُودَ هو مَجْمُوعُ القرآن؛ المُقابِلُ لِسائِرِ أفْرادِهِ؛ مِنَ الكُتُبِ السَّماوِيَّةِ؛ لا بَعْضُهُ الَّذِي يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الكِتابِ؛ بِاعْتِبارِ كَوْنِهِ جُزْءًا لِهَذا الفَرْدِ؛ لا بِاعْتِبارِ كَوْنِهِ جُزْئِيًّا لِلْجِنْسِ عَلى حِيالِهِ؛ ولِأنَّ حَصْرَ الكَمالِ في السُّورَةِ مُشْعِرٌ بِنُقْصانِ سائِرِ السُّوَرِ؛ وإنْ لَمْ يَكُنِ الحَصْرُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْها؛ لِتَحْقِيقِ المُغايَرَةِ بَيْنَهُما؛ هَذا عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِ "الكِتابُ"؛ خَبَرًا لِـ "ذَلِكَ"؛ وأمّا إذا كانَ صِفَةً لَهُ فَـ "ذَلِكَ الكِتابُ"؛ عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِ "الـم"؛ خَبَرَ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ؛ إمّا خَبَرٌ ثانٍ؛ أوْ بَدَلٌ مِنَ الخَبَرِ الأوَّلِ؛ أوْ مُبْتَدَأٌ مُسْتَقِلٌّ خَبَرُهُ ما بَعْدَهُ؛ وعَلى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ مُبْتَدَأً؛ إمّا خَبَرٌ لَهُ؛ أوْ مُبْتَدَأٌ ثانٍ خَبَرُهُ ما بَعْدَهُ؛ والجُمْلَةُ خَبَرٌ لِلْمُبْتَدَإ الأوَّلِ؛ والمُشارُ إلَيْهِ عَلى كِلا التَّقْدِيرَيْنِ هو المُسَمّى؛ سَواءٌ كانَ هي السُّورَةَ؛ أوِ القرآن؛ ومَعْنى البُعْدِ ما ذُكِرَ مِنَ الإشْعارِ بِعُلُوِّ شَأْنِهِ؛ والمَعْنى: ذَلِكَ الكِتابُ العَجِيبُ الشَّأْنِ؛ البالِغُ أقْصى مَراتِبِ الكَمالِ؛ وقِيلَ: المُشارُ إلَيْهِ هو الكِتابُ المَوْعُودُ؛ فَمَعْنى البُعْدِ حِينَئِذٍ ظاهِرٌ؛ خَلا أنَّهُ إنْ كانَ المُسَمّى هي السُّورَةَ يَنْبَغِي أنْ يُرادَ بِالوَعْدِ ما في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿إنّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا﴾؛ كَما قِيلَ: وإنْ كانَ هو القرآن فَهو ما في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ؛ هَذا عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِ "الـم"؛ اسْمًا لِلسُّورَةِ؛ أوِ القرآن؛ وأمّا عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِها مَسْرُودَةً عَلى نَمَطِ التَّعْدِيدِ فَـ "ذَلِكَ"؛ مُبْتَدَأٌ؛ و"الكِتابُ"؛ إمّا خَبَرُهُ؛ أوْ صِفَتُهُ؛ والخَبَرُ ما بَعْدَهُ؛ عَلى نَحْوِ ما سَلَفَ؛ أوْ يُقَدَّرُ مُبْتَدَأٌ؛ أيْ: المُؤَلَّفُ مِن هَذِهِ الحُرُوفِ ذَلِكَ الكِتابُ؛ وقُرِئَ: "الـم تَنْزِيلُ الكِتابِ"؛ وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾؛ إمّا في مَحَلِّ الرَّفْعِ؛ عَلى أنَّهُ خَبَرٌ لِـ "ذَلِكَ الكِتابُ"؛ عَلى الصُّوَرِ الثَّلاثِ المَذْكُورَةِ؛ أوْ عَلى أنَّهُ خَبَرٌ ثانٍ لِـ "الـم"؛ أوْ لِـ "ذَلِكَ"؛ عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِ "الكِتابُ"؛ خَبَرَهُ؛ أوْ لِلْمُبْتَدَإ المُقَدَّرِ آخِرًا؛ عَلى رَأْيِ مَن يُجَوِّزُ كَوْنَ الخَبَرِ الثّانِي جُمْلَةً؛ كَما في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿فَإذا هي حَيَّةٌ تَسْعى﴾؛ وإمّا في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى الحالِيَّةِ مِن "ذَلِكَ"؛ أوْ مِن "الكِتابُ"؛ والعامِلُ مَعْنى الإشارَةِ؛ وإمّا جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ؛ لا مَحَلَّ لَها مِنَ الإعْرابِ؛ مُؤَكِّدَةٌ لِما قَبْلَها؛ وكَلِمَةُ "لا" نافِيَةٌ لِلْجِنْسِ؛ مُفِيدَةٌ لِلِاسْتِغْراقِ؛ عامِلَةٌ عَمَلَ "إنَّ"؛ بِحَمْلِها عَلَيْها؛ لِكَوْنِها نَقِيضًا لَها؛ ولازِمَةً لِلِاسْمِ لُزُومَها؛ واسْمُها مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْحِ؛ لِكَوْنِهِ مُفْرَدًا نَكِرَةً؛ لا مُضافًا؛ ولا شَبِيهًا بِهِ؛ وأمّا ما ذَكَرَهُ الزَّجّاجُ مِن أنَّهُ مُعْرَبٌ وإنَّما حُذِفَ التَّنْوِينُ لِلتَّخْفِيفِ فَمِمّا لا تَعْوِيلَ عَلَيْهِ؛ وسَبَبُ بِنائِهِ تَضَمُّنُهُ لِمَعْنى "مِن" الِاسْتِغْراقِيَّةِ؛ لا أنَّهُ مُرَكَّبٌ مَعَها تَرْكِيبَ "خَمْسَةَ عَشَرَ" كَما تُوُهِّمَ؛ وخَبَرُها مَحْذُوفٌ؛ أيْ: "لا رَيْبَ مَوْجُودٌ"؛ أوْ نَحْوُهُ؛ كَما في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿لا عاصِمَ اليَوْمَ مِن أمْرِ اللَّهِ﴾؛ والظَّرْفُ صِفَةٌ لِاسْمِها؛ ومَعْناهُ: نَفْيُ الكَوْنِ المُطْلَقِ وسَلْبُهُ عَنِ الرَّيْبِ المَفْرُوضِ في الكِتابِ؛ أوِ الخَبَرُ هو الظَّرْفُ؛ ومَعْناهُ: سَلْبُ الكَوْنِ فِيهِ عَنِ الرَّيْبِ المُطْلَقِ؛ وقَدْ جُعِلَ الخَبَرُ المَحْذُوفُ ظَرْفًا؛ وجُعِلَ المَذْكُورُ خَبَرًا لِما بَعْدَهُ؛ وقُرِئَ: "لا رَيْبٌ فِيهِ"؛ عَلى أنَّ "لا" بِمَعْنى "لَيْسَ"؛ والفارِقُ بَيْنَهُ وبَيْنَ الأوَّلِ أنَّ ذَلِكَ مُوجِبٌ لِلِاسْتِغْراقِ؛ وهَذا مُجَوِّزٌ لَهُ؛ والرَّيْبُ في الأصْلِ مَصْدَرُ "رابَنِي"؛ إذا حَصَلَ فِيكَ الرِّيبَةُ؛ وحَقِيقَتُها قَلَقُ النَّفْسِ؛ واضْطِرابُها؛ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ في مَعْنى الشَّكِّ مُطْلَقًا؛ أوْ مَعَ تُهْمَةٍ؛ لِأنَّهُ يُقْلِقُ النَّفْسَ؛ ويُزِيلُ الطُّمَأْنِينَةَ؛ وفي الحَدِيثِ ﴿دَعْ ما يَرِيبُكَ إلى ما لا يَرِيبُكَ﴾؛ ومَعْنى نَفْيِهِ عَنِ الكِتابِ أنَّهُ في عُلُوِّ الشَّأْنِ وسُطُوعِ البُرْهانِ بِحَيْثُ لَيْسَ فِيهِ مَظِنَّةٌ أنْ يُرْتابَ في حَقِيقَتِهِ وكَوْنِهِ وحْيًا مُنَزَّلًا مِن عِنْدِ اللَّهِ (تَعالى)؛ لا أنَّهُ لا يَرْتابُ فِيهِ أحَدٌ أصْلًا؛ ألا يُرى كَيْفَ جُوِّزَ ذَلِكَ في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿وَإنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا﴾؛ إلَخْ..؟ فَإنَّهُ في قُوَّةِ أنْ يُقالَ: وإنْ كانَ لَكم رَيْبٌ فِيما نَزَّلْنا؛ أوْ إنِ ارْتَبْتُمْ فِيما نَزَّلْنا؛.. إلَخْ.. إلّا أنَّهُ خُولِفَ في الأُسْلُوبِ؛ حَيْثُ فُرِضَ كَوْنُهم في الرَّيْبِ؛ لا كَوْنُ الرَّيْبِ فِيهِ؛ لِزِيادَةِ تَنْزِيهِ ساحَةِ التَّنْزِيلِ عَنْهُ؛ مَعَ نَوْعِ إشْعارٍ بِأنَّ ذَلِكَ مِن جِهَتِهِمْ؛ لا مِن جِهَتِهِ العالِيَةِ؛ ولَمْ يُقْصَدْ هَهُنا ذَلِكَ الإشْعارُ؛ كَما لَمْ يُقْصَدِ الإشْعارُ بِثُبُوتِ الرَّيْبِ في سائِرِ الكُتُبِ؛ لِيَقْتَضِيَ المَقامُ تَقْدِيمَ الظَّرْفِ؛ كَما في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿لا فِيها غَوْلٌ﴾ .
﴿هُدًى﴾: مَصْدَرٌ مِن "هَداهُ"؛ كَـ "السُّرى"؛ و"البُكى"؛ وهو الدَّلالَةُ بِلُطْفٍ عَلى ما يُوصِلُ إلى البُغْيَةِ؛ أيْ ما مِن شَأْنِهِ ذَلِكَ؛ وقِيلَ: هي الدَّلالَةُ المُوصِلَهُ إلَيْها؛ بِدَلِيلِ وُقُوعِ الضَّلالَةِ في مُقابَلَتِهِ؛ في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدى﴾؛ وقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿وَإنّا أوْ إيّاكم لَعَلى هُدًى أوْ في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾؛ ولا شَكَّ في أنَّ عَدَمَ الوُصُولِ مُعْتَبَرٌ في مَفْهُومِ الضَّلالِ؛ فَيُعْتَبَرُ الوُصُولُ في مَفْهُومِ مُقابِلِهِ؛ ومِن ضَرُورَةِ اعْتِبارِهِ فِيهِ اعْتِبارُهُ في مَفْهُومِ الهُدى المُتَعَدِّي؛ إذْ لا فَرْقَ بَيْنَهُما إلّا مِن حَيْثُ التَّأْثِيرُ والتَّأثُّرُ؛ ومُحَصِّلُهُ أنَّ الهُدى هو التَّوْجِيهُ المُوصِلُ؛ لِأنَّ اللّازِمَ هو التَّوَجُّهُ المُوصِلُ؛ بِدَلِيلِ أنَّ مُقابِلَهُ الَّذِي هو الضَّلالُ تَوَجُّهٌ غَيْرُ مُوصِلٍ قَطْعًا؛ وهَذا - كَما تَرى - مَبْنِيٌّ عَلى أمْرَيْنِ: اعْتِبارِ الوُصُولِ وُجُوبًا في مَفْهُومِ اللّازِمِ؛ واعْتِبارِ وُجُودِ اللّازِمِ وُجُوبًا في مَفْهُومِ المُتَعَدِّي؛ وكِلا الأمْرَيْنِ بِمَعْزِلٍ مِنَ الثُّبُوتِ؛ أمّا الأوَّلُ فَلِأنَّ مَدارَ التَّقابُلِ بَيْنَ الهُدى والضَّلالِ لَيْسَ هو الوُصُولَ وعَدَمَهُ؛ عَلى الإطْلاقِ؛ بَلْ هُما مُعْتَبَرانِ في مَفْهُومَيْهِما عَلى وجْهٍ مَخْصُوصٍ بِهِ؛ لِيَتَحَقَّقَ التَّقابُلُ بَيْنَهُما؛ وتَوْضِيحُهُ أنَّ الهُدى لا بُدَّ فِيهِ مِنَ اعْتِبارِ تَوَجُّهٍ عَنْ عِلْمٍ إلى ما مِن شَأْنِهِ الإيصالُ إلى البُغْيَةِ؛ كَما أنَّ الضَّلالَ لا بُدَّ فِيهِ مِنَ اعْتِبارِ الجَوْرِ عَنِ القَصْدِ إلى ما لَيْسَ مِن شَأْنِهِ الإيصالُ قَطْعًا؛ وهَذِهِ المَرْتَبَةُ مِنَ الِاعْتِبارِ مُسَلَّمَةٌ بَيْنَ الفَرِيقَيْنِ؛ ومُحَقِّقَةٌ لِلتَّقابُلِ بَيْنَهُما؛ وإنَّما النِّزاعُ في أنَّ إمْكانَ الوُصُولِ إلى البُغْيَةِ هَلْ هو كافٍ في تَحَصُّلِ مَفْهُومِ الهُدى؛ أوْ لا بُدَّ فِيهِ مِن خُرُوجِ الوُصُولِ مِنَ القُوَّةِ إلى الفِعْلِ؛ كَما أنَّ عَدَمَ الوُصُولِ بِالفِعْلِ مُعْتَبَرٌ في مَفْهُومِ الضَّلالِ قَطْعًا؛ إذا تَقَرَّرَ هَذا نَقُولُ: إنْ أُرِيدَ بِاعْتِبارِ الوُصُولِ بِالفِعْلِ في مَفْهُومِ الهُدى اعْتِبارُهُ مُقارِنًا لَهُ في الوُجُودِ زَمانًا؛ حَسَبَ اعْتِبارِ عَدَمِهِ في مَفْهُومِ مُقابِلِهِ؛ فَذَلِكَ بَيِّنُ البُطْلانِ؛ لِأنَّ الوُصُولَ غايَةٌ لِلتَّوَجُّهِ المَذْكُورِ؛ فَيَنْتَهِي بِهِ قَطْعًا لِاسْتِحالَةِ التَّوَجُّهِ إلى تَحْصِيلِ الحاصِلِ؛ وما يَبْقى بَعْدَ ذَلِكَ هو إمّا تَوَجُّهٌ إلى الثَّباتِ عَلَيْهِ؛ وإمّا تَوَجُّهٌ إلى زِيادَتِهِ؛ ولِأنَّ التَّوَجُّهَ إلى المَقْصِدِ تَدْرِيجِيٌّ؛ والوُصُولَ إلَيْهِ دَفْعِيٌّ؛ فَيَسْتَحِيلُ اجْتِماعُهُما في الوُجُودِ ضَرُورَةً؛ وأمّا عَدَمُ الوُصُولِ فَحَيْثُ كانَ أمْرًا مُسْتَمِرًّا - مِثْلَ ما يَقْتَضِيهِ مِنَ الضَّلالِ - وجَبَ مُقارَنَتُهُ لَهُ في جَمِيعِ أزْمِنَةِ وُجُودِهِ؛ إذْ لَوْ فارَقَهُ في آنٍ مِن آناتِ تِلْكَ الأزْمِنَةِ لَقارَنَهُ في ذَلِكَ الآنِ مُقابَلَةَ الَّذِي هو الوُصُولُ؛ فَما فَرَضْناهُ ضَلالًا لا يَكُونُ ضَلالًا؛ وإنْ أُرِيدَ اعْتِبارُهُ مِن حَيْثُ إنَّهُ غايَةٌ لَهُ واجِبَةُ التَّرَتُّبِ عَلَيْهِ لَزِمَ أنْ يَكُونَ التَّوَجُّهُ المُقارِنُ لِغايَةِ الجِدِّ في السُّلُوكِ إلى ما مِن شَأْنِهِ الوُصُولُ عِنْدَ تَخَلُّفِهِ عَنْهُ؛ لِمانِعٍ خارِجِيٍّ؛ كاخْتِرامِ المَنِيَّةِ مَثَلًا مِن غَيْرِ تَقْصِيرٍ؛ ولا جَوْرٍ مِن قِبَلِ المُتَوَجِّهِ؛ ولا خَلَلٍ مِن جِهَةِ المَسْلَكِ ضَلالًا؛ إذْ لا واسِطَةَ بَيْنَهُما؛ مَعَ أنَّهُ جَوْرٌ فِيهِ عَنِ القَصْدِ أصْلًا؛ فَبَطَلَ اعْتِبارُ وُجُوبِ الوُصُولِ في مَفْهُومِ اللّازِمِ قَطْعًا؛ وَتَبَيَّنَ مِنهُ عَدَمُ اعْتِبارِهِ في مَفْهُومِ المُتَعَدِّي حَتْمًا؛ وأمّا اعْتِبارُ وُجُودِ اللّازِمِ فِيهِ وُجُوبًا - وهو الأمْرُ الثّانِي - فَبَيانُهُ مَبْنِيٌّ عَلى تَمْهِيدِ أصْلٍ؛ وهو أنَّ فِعْلَ الفاعِلِ حَقِيقَةً هو الَّذِي يَصْدُرُ عَنْهُ؛ ويَتِمُّ مِن قِبَلِهِ؛ لَكِنْ.. لَمّا لَمْ يَكُنْ لَهُ في تَحَقُّقِهِ في نَفْسِهِ بُدٌّ مِن تَعَلُّقِهِ بِمَفْعُولِهِ اعْتُبِرَ ذَلِكَ في مَدْلُولِ اسْمِهِ قَطْعًا؛ ثُمَّ لِما كانَ لَهُ بِاعْتِبارِ كَيْفِيَّةِ صُدُورِهِ عَنْ فاعِلِهِ؛ وكَيْفِيَّةِ تَعَلُّقِهِ بِمَفْعُولِهِ؛ وغَيْرُ ذَلِكَ آثارٌ شَتّى مُتَرَتِّبَةٌ عَلَيْهِ؛ مُتَمايِزَةٌ في أنْفُسِها؛ مُسْتَقِلَّةٌ بِأحْكامٍ مُقْتَضِيَةٍ لِإفْرادِها بِأسْماءٍ خاصَّةٍ؛ وعُرِضَ لَهُ - بِالقِياسِ إلى كُلِّ أثَرٍ مِن تِلْكَ الآثارِ - إضافَةٌ خاصَّةٌ مُمْتازَةٌ عَمّا عَداها مِنَ الإضافاتِ العارِضَةِ لَهُ - بِالقِياسِ إلى سائِرِها -؛ وكانَتْ تِلْكَ الآثارُ تابِعَةً لَهُ في التَّحَقُّقِ؛ غَيْرَ مُنْفَكَّةٍ عَنْهُ أصْلًا - إذْ لا مُؤَثِّرَ لَها سِوى فاعِلِهِ -؛ عُدَّتْ مِن مُتَمِّماتِهِ؛ واعْتُبِرَتِ الإضافَةُ العارِضَةُ لَهُ بِحَسَبِها داخِلَةً في مَدْلُولِهِ؛ كالِاعْتِمادِ المُتَعَلِّقِ بِالجِسْمِ مَثَلًا؛ وُضِعَ لَهُ - بِاعْتِبارِ الإضافَةِ العارِضَةِ لَهُ مِنَ انْكِسارِ ذَلِكَ الجِسْمِ الَّذِي هو أثَرٌ خاصٌّ لِذَلِكَ الِاعْتِمادِ - اسْمُ الكَسْرِ؛ وبِاعْتِبارِ الإضافَةِ العارِضَةِ لَهُ مِنَ انْقِطاعِهِ الَّذِي هو أثَرٌ آخَرُ لَهُ؛ اسْمُ القَطْعِ.. إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الإضافاتِ العارِضَةِ لَهُ بِالقِياسِ إلى آثارِهِ اللّازِمَةِ لَهُ؛ وهَذا أمْرٌ مُطَّرِدٌ في آثارِهِ الطَّبِيعِيَّةِ؛ وأمّا الآثارُ الَّتِي لَهُ مُدْخَلٌ في وُجُودِها في الجُمْلَةِ مِن غَيْرِ إيجابٍ لَها تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ تارَةً؛ وتُفارِقُهُ أُخْرى؛ بِحَسَبِ وُجُودِ أسْبابِها المُوجِبَةِ لَها؛ وعَدَمِها؛ كالآثارِ الِاخْتِيارِيَّةِ الصّادِرَةِ عَنْ مُؤَثِّراتِها بِواسِطَةِ كَوْنِهِ داعِيًا إلَيْها؛ فَحَيْثُ كانَتْ تِلْكَ الآثارُ مُسْتَقِلَّةً في أنْفُسِها؛ مُسْتَنِدَةً إلى مُؤَثِّراتِها؛ غَيْرَ لازِمَةٍ لَهُ لُزُومَ الآثارِ الطَّبِيعِيَّةِ التّابِعَةِ لَهُ؛ لَمْ تَعُدْ مِن مُتَمِّماتِهِ؛ ولَمْ تُعْتَبَرِ الإضافَةُ العارِضَةُ لَهُ بِحَسَبِها داخِلَةً في مَدْلُولِهِ؛ كالإضافَةِ العارِضَةِ لِلْأمْرِ؛ بِحَسَبِ امْتِثالِ المَأْمُورِ؛ والإضافَةِ العارِضَةِ لِلدَّعْوَةِ؛ بِحَسَبِ إجابَةِ المَدْعُوِّ؛ فَإنَّ الِامْتِثالَ؛ والإجابَةَ - وإنْ عُدّا مِن آثارِ الأمْرِ والدَّعْوَةِ؛ بِاعْتِبارِ تَرَتُّبِهِما عَلَيْهِما غالِبًا؛ لَكِنَّهُما حَيْثُ كانا فِعْلَيْنِ اخْتِيارِيَّيْنِ لِلْمَأْمُورِ؛ والمَدْعُوِّ؛ مُسْتَقِلَّيْنِ في أنْفُسِهِما؛ غَيْرَ لازِمَيْنِ لِلْأمْرِ والدَّعْوَةِ - لَمْ يُعَدّا مِن مُتَمِّماتِهِما؛ ولَمْ يُعْتَبَرِ الإضافَةُ العارِضَةُ لَهُما بِحَسَبِهِما داخِلَةً في مَدْلُولِ اسْمِ الأمْرِ والدَّعْوَةِ؛ بَلْ جُعِلا عِبارَةً عَنْ نَفْسِ الطَّلَبِ المُتَعَلِّقِ بِالمَأْمُورِ والمَدْعُوِّ؛ سَواءٌ وُجِدَ الِامْتِثالُ والإجابَةُ أوْ لا؛ إذا تَمَهَّدَ هَذا نَقُولُ: كَما أنَّ الِامْتِثالَ والإجابَةَ فِعْلانِ مُسْتَقِلّانِ في أنْفُسِهِما؛ صادِرانِ عَنِ المَدْعُوِّ والمَأْمُورِ بِاخْتِيارِهِما؛ غَيْرُ لازِمَيْنِ لِلْأمْرِ والدَّعْوَةِ لُزُومَ الآثارِ الطَّبِيعِيَّةِ التّابِعَةِ لِلْأفْعالِ المُوجِبَةِ لَها - وإنْ كانا مُتَرَتِّبَيْنِ عَلَيْهِما في الجُمْلَةِ -؛ كَذَلِكَ هُدى المَهْدِيِّ - أيْ تَوَجُّهُهُ إلى ما ذُكِرَ مِنَ المَسْلَكِ - فِعْلٌ مُسْتَقِلٌّ لَهُ؛ صادِرٌ عَنْهُ بِاخْتِيارِهِ؛ غَيْرُ لازِمٍ لِلْهِدايَةِ - أعْنِي التَّوْجِيهَ إلَيْهِ - لُزُومَ ما ذُكِرَ مِنَ الآثارِ الطَّبِيعِيَّةِ؛ وإنْ كانَ مُتَرَتِّبًا عَلَيْها في الجُمْلَةِ؛ فَلَمّا لَمْ يُعَدّا مِن مُتَمِّماتِ الأمْرِ والدَّعْوَةِ؛ ولَمْ يُعْتَبَرِ الإضافَةُ العارِضَةُ لَهُما بِحَسَبِهِما داخِلَةً في مَدْلُولِهِما؛ عُلِمَ أنَّهُ لَمْ يُعَدَّ الهُدى اللّازِمُ مِن مُتَمِّماتِ الهِدايَةِ؛ ولَمْ يُعْتَبَرِ الإضافَةُ العارِضَةُ لَها بِحَسَبِهِ داخِلَةً في مَدْلُولِها إنْ قِيلَ: لَيْسَ الهُدى بِالنِّسْبَةِ إلى الهِدايَةِ كالِامْتِثالِ والإجابَةِ بِالقِياسِ إلى أصْلَيْهِما؛ فَإنَّ تَعَلُّقَ الأمْرِ والدَّعْوَةِ بِالمَأْمُورِ والمَدْعُوِّ لا يَقْتَضِي إلّا اتِّصافَهُما بِكَوْنِهِما مَأْمُورًا ومَدْعُوًّا؛ ولَيْسَ مِن ضَرُورَتِهِ اتِّصافُهُما بِالِامْتِثالِ والإجابَةِ؛ إذْ لا تَلازُمَ بَيْنَهُما وبَيْنَ الأوَّلَيْنِ أصْلًا؛ بِخِلافِ الهُدى بِالنِّسْبَةِ إلى الهِدايَةِ؛ فَإنَّ تَعَلُّقَها بِالمَهْدِيِّ يَقْتَضِي اتِّصافَهُ بِهِ؛ لِأنَّ تَعَلُّقَ الفِعْلِ المُتَعَدِّي المَبْنِيِّ لِلْفاعِلِ بِمَفْعُولِهِ يَدُلُّ عَلى اتِّصافِهِ بِمَصْدَرِهِ المَأْخُوذِ مِنَ المَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ قَطْعًا؛ وهو مُسْتَلْزِمٌ لِاتِّصافِهِ بِمَصْدَرِ الفِعْلِ اللّازِمِ؛ وهَلْ هو إلّا اعْتِبارُ وُجُودِ اللّازِمِ في مَدْلُولِ المُتَعَدِّي حَتْمًا؛ قُلْنا: كَما أنَّ تَعَلُّقَ الأمْرِ والدَّعْوَةِ بِالمَأْمُورِ والمَدْعُوِّ لا يَسْتَدْعِي إلّا اتِّصافَهُما بِما ذُكِرَ؛ مِن غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلِامْتِثالِ والإجابَةِ إيجابًا وسَلْبًا؛ كَذَلِكَ تَعَلُّقُ الهِدايَةِ الَّتِي هي عِبارَةٌ عَنِ الدَّلالَةِ المَذْكُورَةِ بِالمَهْدِيِّ لا يَسْتَدْعِي إلّا اتِّصافَهُ بِالمَدْلُولِيَّةِ الَّتِي هي عِبارَةٌ عَنِ المَصْدَرِ المَأْخُوذِ مِنَ المَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ؛ مِن غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِقَبُولِ تِلْكَ الدَّلالَةِ؛ كَما هو مَعْنى الهُدى اللّازِمِ؛ ولا لِعَدَمِ قَبُولِهِ؛ بَلِ الهِدايَةُ عَيْنُ الدَّعْوَةِ إلى طَرِيقِ الحَقِّ؛ والِاهْتِداءُ عَيْنُ الإجابَةِ؛ فَكَيْفَ يُؤْخَذُ في مَدْلُولِها؟ واسْتِلْزامُ الِاتِّصافِ بِمَصْدَرِ الفِعْلِ المُتَعَدِّي المَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ؛ لِلِاتِّصافِ بِمَصْدَرِ الفِعْلِ اللّازِمِ مُطْلَقًا؛ إنَّما هو في الأفْعالِ الطَّبِيعِيَّةِ؛ كالمَكْسُورِيَّةِ والِانْكِسارِ؛ والمَقْطُوعِيَّةِ والِانْقِطاعِ؛ وأمّا الأفْعالُ الِاخْتِيارِيَّةُ فَلَيْسَتْ كَذَلِكَ؛ كَما تَحَقَّقْتَهُ فِيما سَلَفَ؛ إنْ قِيلَ: التَّعَلُّمُ مِن قَبِيلِ الأفْعالِ الِاخْتِيارِيَّةِ؛ مَعَ أنَّهُ مُعْتَبَرٌ في مَدْلُولِ التَّعْلِيمِ قَطْعًا؛ فَلْيَكُنِ الهُدى مَعَ الهِدايَةِ كَذَلِكَ؛ قُلْنا: لَيْسَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ فِعْلًا اخْتِيارِيًّا عَلى الإطْلاقِ؛ ولا لِكَوْنِ التَّعْلِيمِ عِبارَةً عَنْ تَحْصِيلِ العِلْمِ لِلْمُتَعَلِّمِ كَما قِيلَ؛ فَإنَّ المُعَلَّمَ لَيْسَ بِمُسْتَقِلٍّ في ذَلِكَ؛ فَفي إسْنادِهِ إلَيْهِ ضَرْبُ تَجَوُّزٍ؛ بَلْ لِأنَّ كُلًّا مِنهُما مُفْتَقِرٌ في تَحَقُّقِهِ وتَحَصُّلِهِ إلى الآخَرِ؛ فَإنَّ التَّعْلِيمَ عِبارَةٌ عَنْ إلْقاءِ المَبادِئِ العِلْمِيَّةِ عَلى المُتَعَلِّمِ؛ وسَوْقِها إلى ذِهْنِهِ شَيْئًا فَشَيْئًا؛ عَلى تَرْتِيبٍ يَقْتَضِيهِ الحالُ؛ بِحَيْثُ لا يُساقُ إلَيْهِ بَعْضٌ مِنها إلّا بَعْدَ تَلَقِّيهِ لِبَعْضٍ آخَرَ؛ فَكُلٌّ مِنهُما مُتَمِّمٌ لِلْآخَرِ؛ مُعْتَبَرٌ في مَدْلُولِهِ؛ وأمّا الهُدى الَّذِي هو عِبارَةٌ عَنِ التَّوَجُّهِ المَذْكُورِ فَفِعْلٌ اخْتِيارِيٌّ؛ يَسْتَقِلُّ بِهِ فاعِلُهُ؛ لا دَخْلَ لِلْهِدايَةِ فِيهِ سِوى كَوْنِها داعِيَةً إلى إيجادِهِ بِاخْتِيارِهِ؛ فَلَمْ يَكُنْ مِن مُتَمِّماتِها؛ ولا مُعْتَبَرًا في مَدْلُولِها؛ إنْ قِيلَ: التَّعْلِيمُ نَوْعٌ مِن أنْواعِ الهِدايَةِ؛ والتَّعَلُّمُ نَوْعٌ مِن أنْواعِ الِاهْتِداءِ؛ فَيَكُونُ اعْتِبارُهُ في مَدْلُولِ التَّعْلِيمِ اعْتِبارًا لِلْهُدى في مَدْلُولِ الهِدايَةِ؛ قُلْنا: إطْلاقُ الهِدايَةِ عَلى التَّعْلِيمِ إنَّما هو عِنْدَ وُضُوحِ المَسْلَكِ؛ واسْتِبْدادِ المُتَعَلِّمِ بِسُلُوكِهِ؛ مِن غَيْرِ دَخْلٍ لِلتَّعْلِيمِ فِيهِ؛ سِوى كَوْنِهِ داعِيًا إلَيْهِ؛ وقَدْ عَرَفْتَ جَلِيَّةَ الأمْرِ عَلى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ؛ إنْ قِيلَ: ألَيْسَ تَخَلُّفُ الهُدى عَنِ الهِدايَةِ كَتَخَلُّفِ التَّعَلُّمِ عَنِ التَّعْلِيمِ؛ فَحَيْثُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَعْلِيمًا في الحَقِيقَةِ؛ فَلْيَكُنِ الهِدايَةُ أيْضًا كَذَلِكَ؛ ولْيُحْمَلْ تَسْمِيَةُ ما لا يَسْتَتْبِعُ الهُدى بِها عَلى التَّجَوُّزِ؛ قُلْنا: شَتّانَ بَيْنَ التَّخَلُّفَيْنِ؛ فَإنَّ تَخَلُّفَ التَّعَلُّمِ عَنِ التَّعْلِيمِ يَكُونُ لِقُصُورٍ فِيهِ؛ كَما أنَّ تَخَلُّفَ الِانْكِسارِ عَنِ الضَّرْبِ الضَّعِيفِ لِذَلِكَ؛ وأمّا تَخَلُّفُ الهُدى عَنِ الهِدايَةِ فَلَيْسَ لِشائِبَةِ قُصُورٍ مِن جِهَتِها؛ بَلْ إنَّما هو لِفَقْدِ سَبَبِهِ المُوجِبِ لَهُ مِن جِهَةِ المَهْدِيِّ؛ بَعْدَ تَكامُلِ ما يَتِمُّ مِن قِبَلِ الهادِي؛ وبِهَذا التَّحْرِيرِ اتَّضَحَ طَرِيقُ الهِدايَةِ؛ وتَبَيَّنَ أنَّها عِبارَةٌ عَنْ مُطْلَقِ الدَّلالَةِ عَلى ما مِن شَأْنِهِ الإيصالُ إلى البُغْيَةِ؛ بِتَعْرِيفِ مَعالِمِهِ؛ وتَبْيِينِ مَسالِكِهِ؛ مِن غَيْرِ أنْ يُشْتَرَطَ في مَدْلُولِها الوُصُولُ؛ ولا القَبُولُ؛ وأنَّ الدَّلالَةَ المُقارِنَةَ لَهُما - أوْ لِأحَدِهِما -؛ والمُفارِقَةَ عَنْهُما؛ كُلُّ ذَلِكَ - مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ قَيْدِ المُقارَنَةِ وعَدَمِها - أفْرادٌ حَقِيقِيَّةٌ لَها؛ وأنَّ ما في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿إنَّكَ لا تَهْدِي مَن أحْبَبْتَ﴾؛ وقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ﴾؛ ونَحْوِ ذَلِكَ مِمّا اعْتُبِرَ فِيهِ الوُصُولُ مِن قَبِيلِ المَجازِ؛ وانْكَشَفَ أنَّ الدَّلالاتِ التَّكْوِينِيَّةَ المَنصُوبَةَ في الأنْفُسِ؛ والآفاقِ؛ والبَياناتِ التَّشْرِيعِيَّةِ الوارِدَةِ في الكُتُبِ السَّماوِيَّةِ عَلى الإطْلاقِ؛ بِالنِّسْبَةِ إلى كافَّةِ البَرِيَّةِ؛ بَرِّها وفاجِرِها؛ هِداياتٌ حَقِيقِيَّةٌ فائِضَةٌ مِن عِنْدِ اللَّهِ سُبْحانَهُ؛ والحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهَذا؛ وما كُنّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أنْ هَدانا اللَّهُ.
﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾: أيِ المُتَّصِفِينَ بِالتَّقْوى حالًا أوْ مَآلًا؛ وتَخْصِيصُ الهُدى بِهِمْ لِما أنَّهُمُ المُقْتَبِسُونَ مِن أنْوارِهِ؛ المُنْتَفِعُونَ بِآثارِهِ؛ وإنْ كانَ ذَلِكَ شامِلًا لِكُلِّ ناظِرٍ؛ مِن مُؤْمِنٍ وكافِرٍ؛ وبِذَلِكَ الِاعْتِبارِ قالَ اللَّهُ (تَعالى): ﴿هُدًى لِلنّاسِ﴾؛ والمُتَّقِي اسْمُ فاعِلٍ مِن بابِ الِافْتِعالِ؛ مِنَ الوِقايَةِ؛ وهي فَرْطُ الصِّيانَةِ؛ والتَّقْوى في عُرْفِ الشَّرْعِ عِبارَةٌ عَنْ كَمالِ التَّوَقِّي عَمّا يَضُرُّهُ في الآخِرَةِ؛ قالَ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -: « "جِماعُ التَّقْوى في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ والإحْسانِ﴾» الآيَةُ.. وعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ أنَّهُ: تَرْكُ ما حَرَّمَ اللَّهُ؛ وأداءُ ما فَرَضَ اللَّهُ؛ وعَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ: المُتَّقِي مَن يَتْرُكُ ما لا بَأْسَ بِهِ؛ حَذَرًا مِنَ الوُقُوعِ فِيما فِيهِ بَأْسٌ؛ وعَنْ أبِي يَزِيدَ أنَّ التَّقْوى هو التَّوَرُّعُ عَنْ كُلِّ ما فِيهِ شُبْهَةٌ؛ وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَنِيفٍ أنَّهُ مُجانَبَةُ كُلِّ ما يُبْعِدُكَ عَنِ اللَّهِ (تَعالى)؛ وعَنْ سَهْلٍ: المُتَّقِي مَن تَبَرَّأ عَنْ حَوْلِهِ وقدرته؛ وقِيلَ: التَّقْوى أنْ لا يَراكَ اللَّهُ حَيْثُ نَهاكَ؛ ولا يَفْقِدَكَ حَيْثُ أمَرَكَ؛ وعَنْ مَيْمُونِ بْنِ مَهْرانَ: لا يَكُونُ الرَّجُلُ تَقِيًّا حَتّى يَكُونَ أشَدَّ مُحاسَبَةً لِنَفْسِهِ مِنَ الشَّرِيكِ الشَّحِيحِ؛ والسُّلْطانِ الجائِرِ؛ وعَنْ أبِي تُرابٍ: بَيْنَ يَدَيِ التَّقْوى خَمْسُ عَقَباتٍ؛ لا يَنالُهُ مَن لا يُجاوِزُهُنَّ: إيثارُ الشِّدَّةِ عَلى النِّعْمَةِ؛ وإيثارُ الضَّعْفِ عَلى القُوَّةِ؛ وإيثارُ الذُّلِّ عَلى العِزَّةِ؛ وإيثارُ الجُهْدِ عَلى الرّاحَةِ؛ وإيثارُ المَوْتِ عَلى الحَياةِ؛ وعَنْ بَعْضِ الحُكَماءِ أنَّهُ: لا يَبْلُغُ الرَّجُلُ سَنامَ التَّقْوى إلّا أنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَوْ جُعِلَ ما في قَلْبِهِ في طَبَقٍ؛ فَطِيفَ بِهِ في السُّوقِ؛ لَمْ يَسْتَحْيِ مِمَّنْ يَنْظُرُ إلَيْهِ؛ وقِيلَ: التَّقْوى أنْ تُزَيِّنَ سِرَّكَ لِلْحَقِّ؛ كَما تُزَيِّنُ عَلانِيَتَكَ لِلْخَلْقِ؛ والتَّحْقِيقُ أنَّ لِلتَّقْوى ثَلاثَ مَراتِبَ: الأُولى: التَّوَقِّي عَنِ العَذابِ المُخَلِّدِ بِالتَّبَرُّؤِ عَنِ الكُفْرِ؛ وعَلَيْهِ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿وَألْزَمَهم كَلِمَةَ التَّقْوى﴾؛ والثّانِيَةُ: التَّجَنُّبُ عَنْ كُلِّ ما يُؤْثِمُ مِن فِعْلٍ؛ أوْ تَرْكٍ؛ حَتّى الصَّغائِرِ عِنْدَ قَوْمٍ؛ وهو المُتَعارَفُ بِالتَّقْوى في الشَّرْعِ؛ وهو المَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿وَلَوْ أنَّ أهْلَ الكِتابِ آمَنُوا واتَّقَوْا﴾؛ والثّالِثَةُ: أنْ يَتَنَزَّهَ عَنْ كُلِّ ما يَشْغَلُ سِرَّهُ عَنِ الحَقِّ - عَزَّ وجَلَّ -؛ ويَتَبَتَّلَ إلَيْهِ بِكُلِّيَّتِهِ؛ وهو التَّقْوى الحَقِيقِيُّ المَأْمُورُ بِهِ في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ﴾؛ ولِهَذِهِ المَرْتَبَةِ عَرْضٌ عَرِيضٌ؛ يَتَفاوَتُ فِيهِ طَبَقاتُ أصْحابِها؛ حَسَبَ تَفاوُتِ دَرَجاتِ اسْتِعْداداتِهِمُ الفائِضَةِ عَلَيْهِمْ بِمُوجِبِ المَشِيئَةِ الإلَهِيَّةِ؛ المَبْنِيَّةِ عَلى الحِكَمِ الأبِيَّةِ؛ أقْصاها ما انْتَهى إلَيْهِ هِمَمُ الأنْبِياءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ - حَيْثُ جَمَعُوا بِذَلِكَ بَيْنَ رِياسَتَيِ النُّبُوَّةِ والوِلايَةِ؛ وما عاقَهُمُ التَّعَلُّقُ بِعالَمِ الأشْباحِ عَنِ العُرُوجِ إلى مَعالِمِ الأرْواحِ؛ ولَمْ يَصُدَّهُمُ المُلابَسَةُ بِمَصالِحِ الخَلْقِ عَنْ الِاسْتِغْراقِ في شُئُونِ الحَقِّ؛ لِكَمالِ اسْتِعْدادِ نُفُوسِهِمُ الزَّكِيَّةِ المُؤَيَّدَةِ بِالقُوَّةِ القُدْسِيَّةِ.
وَهِدايَةُ الكِتابِ المُبِينِ شامِلَةٌ لِأرْبابِ هَذِهِ المَراتِبِ أجْمَعِينَ؛ فَإنْ أُرِيدَ بِكَوْنِهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ إرْشادُهُ إيّاهم إلى تَحْصِيلِ المَرْتَبَةِ الأُولى ونَيْلِها؛ فالمُرادُ بِهِمُ المُشارِفُونَ لِلتَّقْوى مَجازًا؛ لِاسْتِحالَةِ تَحْصِيلِ الحاصِلِ إيثارُهُ عَلى العِبارَةِ المُعْرِبَةِ عَنْ ذَلِكَ؛ لِلْإيجازِ. وتَصْدِيرُ السُّورَةِ الكَرِيمَةِ بِذِكْرِ أوْلِيائِهِ (تَعالى)؛ وتَفْخِيمِ شَأْنِهِمْ؛ وإنْ أُرِيدَ بِهِ إرْشادُهُ إلى تَحْصِيلِ إحْدى المَرْتَبَتَيْنِ الأخِيرَتَيْنِ؛ فَإنْ عَنى بِالمُتَّقِينَ أصْحابَ الطَّبَقَةِ الأُولى تَعَيَّنَتِ الحَقِيقَةُ؛ وإنْ عَنى بِهِمْ أصْحابَ إحْدى الطَّبَقَتَيْنِ الأخِيرَتَيْنِ تَعَيَّنَ المَجازُ؛ لِأنَّ الوُصُولَ إلَيْهِما إنَّما يَتَحَقَّقُ بِهِدايَتِهِ المُتَرَقَّبَةِ؛ وكَذا الحالُ فِيما بَيْنَ المَرْتَبَةِ الثّانِيَةِ والثّالِثَةِ؛ فَإنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالهُدى الإرْشادُ إلى تَحْصِيلِ المَرْتَبَةِ الثّالِثَةِ؛ فَإنْ عَنى بِالمُتَّقِينَ أصْحابَ المَرْتَبَةِ الثّانِيَةِ تَعَيَّنَتِ الحَقِيقَةُ؛ وإنْ عَنى بِهِمْ أصْحابَ المَرْتَبَةِ الثّالِثَةِ تَعَيَّنَ المَجازُ؛ ولَفْظُ "الهِدايَةُ" حَقِيقَةٌ في جَمِيعِ الصُّوَرِ؛ وأمّا إنْ أُرِيدَ بِكَوْنِهِ هُدًى لَهم تَثْبِيتُهم عَلى ما هم عَلَيْهِ؛ أوْ إرْشادُهم إلى الزِّيادَةِ فِيهِ؛ عَلى أنْ يَكُونَ مَفْهُومُها داخِلًا في المَعْنى المُسْتَعْمَلِ فِيهِ؛ فَهو مَجازٌ لا مَحالَةَ؛ ولَفْظُ "المُتَّقِينَ" حَقِيقَةٌ عَلى كُلِّ حالٍ؛ واللّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِهُدًى؛ أوْ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ صِفَةً لَهُ؛ أوْ حالًا مِنهُ؛ ومَحَلُّ "هُدًى" الرَّفْعُ؛ عَلى أنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ - أيْ: هو هُدًى -؛ أوْ خَبَرٌ مَعَ "رَيْبَ فِيهِ"؛ لِـ "ذَلِكَ الكِتابُ"؛ أوْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ الظَّرْفُ المُقَدَّمُ؛ كَما أُشِيرَ إلَيْهِ؛ أوِ النَّصْبُ عَلى الحالِيَّةِ مِن "ذَلِكَ"؛ أوْ مِن "الكِتابُ"؛ والعامِلُ مَعْنى الإشارَةِ؛ أوْ مِنَ الضَّمِيرِ في "فِيهِ"؛ والعامِلُ ما في الجارِّ
والمَجْرُورِ مِن مَعْنى الفِعْلِ المَنفِيِّ؛ كَأنَّهُ قِيلَ: لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ الرَّيْبُ حالَ كَوْنِهِ هادِيًا؛ عَلى أنَّهُ قَيْدٌ لِلنَّفْيِ لا لِلْمَنفِيِّ؛ وحاصِلُهُ: انْتَفى الرَّيْبُ فِيهِ حالَ كَوْنِهِ هادِيًا؛ وتَنْكِيرُهُ لِلتَّفْخِيمِ؛ وحَمْلُهُ عَلى "الكِتابُ"؛ إمّا لِلْمُبالَغَةِ؛ كَأنَّهُ نَفْسُ الهُدى؛ أوْ لِجَعْلِ المَصْدَرِ بِمَعْنى الفاعِلِ؛ هَذا.. والَّذِي يَسْتَدْعِيهِ جَزالَةُ التَّنْزِيلِ في شَأْنِ تَرْتِيبِ هَذِهِ الجُمَلِ أنْ تَكُونَ مُتَناسِقَةً؛ تُقَرِّرُ اللّاحِقَةُ مِنها السّابِقَةَ؛ ولِذَلِكَ لَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَها عاطِفٌ؛ فَـ "الـم"؛ جُمْلَةٌ بِرَأْسِها؛ عَلى أنَّها خَبَرٌ لِمُبْتَدَإٍ مُضْمَرٍ؛ أوْ طائِفَةٌ مِن حُرُوفِ المُعْجَمِ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِها؛ دالَّةٌ عَلى أنَّ المُتَحَدّى بِهِ هو المُؤَلَّفُ مِن جِنْسِ ما يُؤَلِّفُونَ مِنهُ كَلامَهُمْ؛ و"ذَلِكَ الكِتابُ"؛ جُمْلَةٌ ثانِيَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِجِهَةِ التَّحَدِّي؛ لِما دَلَّتْ عَلَيْهِ مِن كَوْنِهِ مَنعُوتًا بِالكَمالِ الفائِقِ؛ ثُمَّ سَجَّلَ عَلى غايَةِ فَضْلِهِ بِنَفْيِ الرَّيْبِ فِيهِ؛ إذْ لا فَضْلَ أعْلى مِمّا لِلْحَقِّ واليَقِينِ؛ و"هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ"؛ مَعَ ما يُقَدَّرُ لَهُ مِنَ المُبْتَدَإ جُمْلَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِكَوْنِهِ حَقًّا لا يَحُومُ حَوْلَهُ شائِبَةُ شَكٍّ ما؛ ودالَّةٌ عَلى تَكْمِيلِهِ بَعْدَ كَمالِهِ؛ أوْ يَسْتَتْبِعُ السّابِقَةَ مِنها اللّاحِقَةُ اسْتِتْباعَ الدَّلِيلِ لِلْمَدْلُولِ؛ فَإنَّهُ لَمّا نَبَّهَ أوَّلًا عَلى إعْجازِ المُتَحَدّى بِهِ؛ مِن حَيْثُ إنَّهُ مِن جِنْسِ كَلامِهِمْ؛ وقَدْ عَجَزُوا عَنْ مُعارَضَتِهِ بِالمَرَّةِ؛ ظَهَرَ أنَّهُ الكِتابُ البالِغُ أقْصى مَراتِبِ الكَمالِ؛ وذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِكَوْنِهِ في غايَةِ النَّزاهَةِ عَنْ مَظِنَّةِ الرَّيْبِ؛ إذْ لا أنْقَصَ مِمّا يَعْتَرِيهِ الشَّكُّ؛ وما كانَ كَذَلِكَ كانَ لا مَحالَةَ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ؛ وفي كُلٍّ مِنها مِنَ النُّكَتِ الرّائِقَةِ؛ والمَزايا الفائِقَةِ ما لا يَخْفى جَلالَةُ شَأْنِهِ؛ حَسْبَما تَحَقَّقْتَهُ.
التفسير البسيط — الواحدي (٤٦٨ هـ)
﴿ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ﴾ [البقرة ٢]
وقوله تعالى: ﴿ذَالِكَ اَلكِتَبُ﴾. قال أبو الهيثم(١): (ذا) اسم كل مشار إليه يراه المتكلم والمخاطب كقولك: ذا الرجل، وذا الفرس، فإذا(٢) بعد المشار إليه زادوا (كافا) فقالوا: ذاك(٣) الرجل، وهذه (الكاف) ليست في موضع نصب ولا خفض(٤) ولا رفع، إنما أشبهت كاف (أخاك) و (عصاك) فتوهم السامع أنها في موضع خفض(٥)، فلما دخل فيها هذا اللبس زادوا (لاما) فقالوا: ذلك أخوك(٦)، فإن اللام إذا دخلت ذهبت بمعنى الإضافة. و (ذا) مبني(٧)، نصبه وخفضه ورفعه سواء، لأن فيه معنى الإشارة إلى معرفة فكأنه قد تضمن معنى من الحروف(٨). وهذا الذي ذكره أبو الهيثم في ذلك، إجماع من النحويين(٩).
وقال الزجاج(١٠): كسرت (اللام) في (ذلك) لالتقاء الساكنين(١١)، قال: ولم يذكر الكوفيون كسرة هذه (اللام).
قال أبو الفتح الموصلي(١٢):
(اللام) قد تزاد في الكلمة مبنية(١٣) معها، غير مفارقة لها، كقولهم: (ذلك) و (ألالك)(١٤)، و (هنالك) و (عبدل)(١٥)، و (زيدل)(١٦)، و (فيشله)(١٧). والذي يدل على زيادة (اللام) في هذه الحروف قولهم: (ذاك)(١٨) بمعنى: (ذلك)، و (أولئك) بمعنى: (ألالك)(١٩)، و (هناك) بمعنى: (هنالك)، ومعنى (عبدل) كمعنى (عبد)(٢٠)، ومعنى: (زيدل) كمعنى: (زيد)(٢١)، ومعنى: (فيشلة) كمعنى(٢٢): (فيشة)(٢٣).
وأما(٢٤) (الكاف) فهي في (ذاك)، و (ذلك)، و (تلك)، و (تانك)(٢٥)، و (ذانك)، و (أولئك) حرف يفيد الخطاب، وليست باسم(٢٦).
والدليل(٢٧) على ذلك ثبوت النون [في (ذانك، وتانك) ولو كانت اسما لوجب حذف النون](٢٨) قبلها، وجرها بالإضافة، كما تقول: غلاماك وصاحباك.
والعرب قد تزيد (الكاف) للخطاب كقولهم: (النجاءك) أي: انج، ولو كانت(٢٩) (الكاف) اسما لما جازت إضافة ما فيه (الألف واللام) إليهما(٣٠)، وكذلك قولهم: أبصرك زيدا. ولا يجوز أن تكون (الكاف) اسما لأن هذا الفعل لا يتعدى إلى ضمير المأمور(٣١)، ألا ترى أنك لا تقول: أضربك، ولا أقتلك، إذا أمرته بضرب نفسه وقتله إياها(٣٢).
وزاد غيره بيانا فقال: (الكاف) في (ذلك) حرف، وفي (غلامك) وأشباهه اسم، الدليل على هذا أنك تؤكد (الكاف) في غلامك، كما تؤكد الاسم، فتقول: جاءني غلامك نفسك، ولا تؤكد (الكاف) في ذلك، فلا يجوز أن تقول: ذلك نفسك، على معنى تأكيد (الكاف) بالنفس(٣٣).
قوله تعالى: ﴿الْكِتَابُ﴾ يقال: كتب يكتب كتابًا وكَتْبًا وكتابةً. و (الكتاب) أيضا اسم لما كتب، وهو من باب تسمية المفعول بالمصدر، وهو كثير(٣٤). وأصل (الكتب) في اللغة جمعك بين الشيئين، يقال: اكتب بغلتك، وهو أن يضم بين شفريها بحلقة(٣٥)، ومن ذلك سميت (الكتيبة) لأنها تكتبت واجتمعت(٣٦).
ويقال: كتبت السقاء أكتبه كَتْبًا إذا خرزته(٣٧). وهي الكُتْبة وجمعها كُتَب للخروز(٣٨). ومنه قيل: كتبت الكتاب، لأنه يجمع حرفا إلى حرف(٣٩).
فأما التفسير فقوله(٤٠): ﴿ذلك﴾ يجوز أن يكون بمعنى: (هذا) عند كثير من المفسرين وأهل المعاني(٤١).
قال الفراء: وإنما يجوز (ذلك) بمعنى: (هذا) لما مضى، وقرب وقت تقضيه، أو تقضي ذكره، فأما الموجود الحاضر(٤٢) فلا يقال فيه (ذلك)(٤٣) مثاله أنك تقول(٤٤): قد قدم فلان، فيقول السامع: قد بلغنا ذلك، وبلغنا هذا الخبر، فصلحت فيه (هذا)، لأنه قرب من جوابه(٤٥)، فصار كالحاضر الذي تشير(٤٦) إليه، وصلحت (ذلك) لانقضائه، والمنقضي كالغائب(٤٧).
وتقول: أنفقت ثلاثة وثلاثة، فذلك ستة، وإن شئت قلت: فهذا ستة، وقد قال الله عز وجل: ﴿فَحَشَرَ فَنَادَى﴾ [النازعات: 23] تْم قال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾ [النازعات: 26]، وقال: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ﴾(٤٨) [الأنبياء: 105]، ثم قال: ﴿إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا﴾ [الأنبياء: 106](٤٩).
وقال محمد بن جرير: أشار بقوله: ﴿ذلك﴾ إلى ما تقدم ومضى من قوله: ﴿الم﴾ لأن كل ما تقضى(٥٠) وقرب تقضيه من الأخبار فهو في حكم الحاضر، كالرجل يحدث الرجل الحديث، فيقول السامع: (إن ذلك لكما(٥١) قلت)، و (هذا والله كما قلت)، فيخبر مرة عنه بمعنى الغائب(٥٢)، إذا كان قد تقضى، ومرة بالحاضر لقرب جوابه من كلامه، كأنه غير متقض(٥٣)، فكذلك لما ذكر الله سبحانه ﴿الم﴾ التي ذكرنا تصرفها في وجوهها من المعاني، قال: يا محمد هذا الذي ذكرته وبينته لك: الكتاب، [فحسن وضع (ذلك) في موضع (هذا)(٥٤) وروى عن ابن عباس أنه قال: معنا ذلك الكتاب](٥٥) الذي أخبرتك أنى أوحيه(٥٦) إليك(٥٧).
وقال يمان بن رباب(٥٨): ذلك(٥٩) الكتاب الذي ذكرته في التوراة(٦٠) والإنجيل(٦١).
وهذان القولان(٦٢) متقاربان، والأول(٦٣) اختيار ابن الانباري، والثاني(٦٤) اختيار الزجاج(٦٥).
أما ابن الانباري فقال: إنما قال عز(٦٦) ذكره: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾، فأشار إلى غائب، لأنه(٦٧) أراد هذه الكلمات يا محمد: ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أوحيه إليك، لأن الله تعالى لما أنزل على نبيه ﷺ ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾ [المزمل: 5]، كان عليه السلام واثقا بوعد الله إياه، فلما أنزل عليه ﴿الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ [البقرة:1، 2]. دله على(٦٨) الوعد المتقدم(٦٩).
وقال الزجاج: القرآن، ذلك الكتاب الذي وعدوا به على لسان موسى وعيسى(٧٠).
فجعل ﴿الم﴾ بمعنى القرآن، لأنه من القرآن فهو قرآن.
والمراد بالكتاب هاهنا: القرآن في(٧١) قول ابن عباس، والحسن، وقتادة، ومجاهد والضحاك، ومقاتل(٧٢).
والمراد به المفعول(٧٣)، كقولهم: الخلق، يريدون: المخلوق(٧٤)، لا الحدث الذي هو اختراع وإبداع.
وهذا(٧٥) أرجح عندي من قول من قال: إنه سمي به لما فرض فيه(٧٦)، وأوجب العمل به(٧٧)، ألا ترى أن جميع التنزيل مكتوب، وليس كله فروضًا، وإذا كان كذلك كان العام(٧٨) الشامل [بجميع المسمى أولى مما كان بخلاف ذلك. فإن جعلت ﴿الم﴾ متعلقا بما بعده، فهو ابتداء، وخبره](٧٩) ﴿ذلك﴾، والكتاب تفسير وبيان(٨٠) للمشار إليه(٨١). ويصح أن يقال: ﴿الم﴾ ابتداء، ﴿وذلك﴾ ابتداء آخر، و ﴿الكتاب﴾ خبره، وجملة الكلام خبر الابتداء الأول. وإن(٨٢) جعلت ﴿الم﴾ منقطعًا مما بعده، فـ ﴿ذلك﴾ ابتداء، وخبره ﴿هُدًى﴾(٨٣).
وقوله تعالى: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾. الريب: الشك يقال: رابني فلن يريبني أي: علمت من الريبة، وأرابني(٨٤) أوهمنيها ولم يحققها(٨٥)، وقال:
أَخُوكَ الذي إنْ رِبْتَهُ قَالَ إنَّمَا ... أرَابَ وإنْ عَاتَبْتَهُ(٨٦) لاَنَ جَانِبُه(٨٧)
أراد أنه(٨٨) مع اليقين بالريبة يتوهمها(٨٩) منك، جريا على حكم المودة، هذا قول جمهور أهل اللغة(٩٠).
وقال سيبويه: (أراب) الرجل أي: صار صاحب ريبة. كما قالوا: ألام أي: استحق أن يلام(٩١). وأما (رابني) فمعناه: جعل في ريبة(٩٢)، كما تقول: قطعت النخل، أي: أوصلت إليه القطع، واستعملته فيه(٩٣).
وقال أبو زيد(٩٤): قد رابني من فلان أمر رأيته منه رَيْبًا، إذا كنت مستيقنا منه بالريبة، فإذا أسأت به الظن ولم تستيقن بالريبة منه قلت: قد أرابني من فلان أمر هو فيه، إذا ظننته من غير أن تستيقنه(٩٥). وقوم على أن: (راب) و (أراب) بمعنى واحد(٩٦)، وينشدون قول الهذلي(٩٧): كأنَّما أَرَبْتُهُ بِرَيْبِ(٩٨)
والحذاق(٩٩) على الفرق بينهما، كما أخبرتك، قال الأزهري: والقول في (راب وأراب) قول أبي زيد(١٠٠).
وموضح (ريب) نصب(١٠١)، قال سيبويه: (لا) تعمل فيما بعدها فتنصبه، ونصبها لما بعدها كنصب (إن) إلا أنها تنصب بغير تنوين(١٠٢). وإنما شبه (لا) بـ (إن)، لأن (إن) للتحقيق في الإثبات، و (لا) في النفي، فلما كان (لا) تقتضي(١٠٣) تحقيق النفي، كما تقتضي (إن) تحقيق الإثبات أجري مجراه. وزعم سيبويه أنها مع ما بعدها بمنزلة شيء واحد(١٠٤)؛ لأنها جواب لما يكون بمنزلة شيء واحد، ولذلك لم ينون وبني على الفتحة، كأنها جواب قول القائل: هل من رجل في الدار؟، فـ (من) مع رجل كشيء واحد. فإن قيل: فما(١٠٥) أنكرت أن يكون جواب هل رجل في الدار؟ قيل: معنى (لا رجل في الدار)، عمهم(١٠٦) النفي، لا يجوز أن يكون في الدار رجل، ولا أكثر منه، وكذلك (هل من رجل في الدار) استفهام عن الواحد وأكثر منه.
فإن قلت: (هل رجل في الدار) أو (لا رجلٌ في الدار)، جاز أن يكون في الدار رجلان، لأنك إنما أخبرت أنه ليس فيها واحد، فيجوز أن يكون فيها أكثر منه، فإذا قلت: (لا رجلَ في الدار)، فهو نفي عام، وكذلك ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾(١٠٧) وموضع ﴿لا رَيْبَ﴾ رفع بالابتداء عند سيبويه، لأنه بمنزلة خمسة(١٠٨) عشر(١٠٩)، إذا ابتدأت به، ولهذا جاز العطف عليه بالرفع في قوله:
لا أُمَّ لي إنْ(١١٠) كان ذَاكَ ولا أَبُ(١١١) ومن نصب المعطوف(١١٢) فهو عاطف على اللفظ(١١٣). وسنستقصي الكلام في هذا عند قوله: ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ (197)﴾ [البقرة: 197]، إن شاء الله.
وقوله تعالى: ﴿فِيهِ﴾. يجوز(١١٤): أن تجعله خبرا للابتداء الذي هو ﴿لَا رَيْبَ﴾ ويجوز: أن تجعله صفة لقوله ﴿لَا رَيْبَ﴾، وإذا جعلته صفة أضمرت الخبر، كأنه قيل: لا ريب فيه واقع أو كائن، فإن جعلته خبرا كان موضعه رفعا من وجهين:
أحدهما: بكونه خبرًا(١١٥) للمبتدأ(١١٦). والثاني: من حيث كان خبر إن رفعا(١١٧)، وقد ذكرنا أن (لا) بمنزلة (إن).
وإن جعلت (فيه) صفة، ولم تجعله خبرا، كان موضعه نصبا في قول من وصف على اللفظ(١١٨)، [كما عطف(١١٩) على اللفظ](١٢٠) في قوله:
فلا أبَ وابْنًا مِثْلُ مَرْوانَ(١٢١)
ومن وصفه على الموضع(١٢٢)، كما عطف على الموضع في قوله:
لا أمَّ لي إنْ كان ذَاكَ ولا أَبُ(١٢٣)
كان موضعه على هذا رفعا(١٢٤). وفي قوله: ﴿فِيهِ﴾: قراءتان، إشباع (الهاء) حتى تلحق به (ياء) وكذلك في (الهاء) المضمومة(١٢٥) مثل (منهو) و (عنهو)، وهو مذهب ابن كثير(١٢٦).
والباقون يقتصرون على الضمة والكسرة(١٢٧).
وأصل (الهاء) في ﴿فيه﴾ الضم، لأن الأصل (فيهو) كما ذكرنا في (عليهو) ثم كسرت (الهاء) للعلة التي ذكرنا في (عليهم)(١٢٨) فمن اقتصر على الضمة والكسرة قال: إن (الهاء) حرف خفي(١٢٩)، فإذا اكتنفها(١٣٠) ساكنان من حروف اللين صار كأن الساكنين قد التقيا(١٣١)؛ لخفاء (الهاء)، وأنهم لم يعتدّوا بها حاجزًا(١٣٢) للخفاء في مواضع.
ألا ترى أن من قال: (رُدُّ)، فأتبع الضمة الضمة، فإذا وصل الفعل بضمير(١٣٣) المؤنث قال: (ردَّها)، فلم يتبع الضم الضم، كما كان يتبع قبل، لأنه جعله بمنزلة (رُدَّا) وفي (رُدَّا) لا يمكن إتباع الضم الضم، وفي (رُدَّها)(١٣٤) جعلت الدال(١٣٥) في حكم الملازمة للألف، إذ(١٣٦) لم يعتد بها حاجزا، كذلك إذا لم يعتد بها في نحو (فيهي)، و (عصاهو)، و (خذوهو) صار كأن الساكنين قد التقيا. ولهذه العلة -أيضًا- حذف حرف اللين بعد (الهاء) من حذف، وإن كان الساكن الذي قبلها ليس من حروف اللين نحو: (منه) و (عنه)(١٣٧).
ومثل (الهاء)(١٣٨) في أنه(١٣٩) لما كان حرفا خفيًّا لم يعتدوا به حاجزًا (النون)، وذلك في قولهم: (هو(١٤٠) ابن عمي دِنْيا)(١٤١) و (قِنْيَة)(١٤٢)، لما كانت (النون) خفية صارت (الواو) كأنها وليت الكسرة، فقلبتها كما قلبتها في (غازية)، و (محنية)(١٤٣)، ولو كان مكان (النون)(١٤٤) حرف غيره لم يكن فيما بعده القلب، نحو: (جرو) و (عدوة)(١٤٥). فهذا(١٤٦) مثل (الهاء) في أنه للخفاء لم يعتد به حاجزا(١٤٧).
وأما ابن كثير: فإنه يتبع هذه (الهاء) في الوصل (الواو) و (الياء)(١٤٨) ويسوى بين حروف اللين وبين(١٤٩) غيرها من الحروف، إذا(١٥٠) وقعت قبل (الهاء) وحجته: أن (الهاء) وإن كانت خفية(١٥١) فليس يخرجها(١٥٢) ذلك من أن تكون كغيرها من حروف المعجم التي لاخفاء فيها، نحو: (الدال) و (الصاد) و (الهاء).
و (النون) عند الجميع في وزن الشعر بمنزلة الدال والصاد(١٥٣)، وإذا كان كذلك كان حجزها [بين الساكنين كحجز](١٥٤) غيرها(١٥٥).
وقوله تعالى ﴿هُدًى﴾:
قال سيبويه: قلّما(١٥٦) يكون ما ضم أوله من المصدر إلا منقوصًا، لأن (فُعَل) لا تكاد(١٥٧) تراه مصدرًا من غير بنات(١٥٨) (الياء) و (الواو)(١٥٩) كالهُدى والسُّرى، والنُّهى(١٦٠)، والتُّقَى، والقِرى، والقِلَى(١٦١)، وقالوا: كِسْوَة، ورِشْوَة، وجِذْوَة، وصُوَّة(١٦٢)، وإذا(١٦٣) جمعوا جمعوها على (فِعَل) و (فُعَل)، ومنهم من يضم في الواحد ويكسر في الجمع(١٦٤)، ويجوز(١٦٥) الكسر في واحده، والضم في الجمع(١٦٦)، وهذا مما يدلك على اشتراكهما.
وقال أناس من النحويين(١٦٧): إنه قد تجرى الأسماء التي ليست بمصادر مجرى المصادر فيقولون: جلس جلسة، وركب ركبة، ويقولون: عجبت من دهنك لحيتك(١٦٨)، وينشدون:
وبعد عطائك المائة الرتاعا(١٦٩)
فيجري(١٧٠) مجرى الإعطاء، وقال لبيد(١٧١): بَادَرْتُ حَاجَتَها(١٧٢) الدَّجَاج(١٧٣)
وفسروه على حاجتي(١٧٤) إليها(١٧٥)، فأضيف إلى المفعول كما يضاف المصدر إليه، فعند هؤلاء (الهُدى والسُّرى والتُّقَى) أسماء أجريت مجرى المصادر(١٧٦)، وليست مصادر(١٧٧) حقيقة.
وزعم الأخفش: أن من العرب(١٧٨) من يؤنث الهدى(١٧٩).
ومعنى الهدى: البيان، لأنه قد قوبل به الضلال في قوله عز وجل ﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾ [البقرة: 198]، [أي من قبل هداه](١٨٠).
وقوله تعالى: ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾. الاتقاء في اللغة: الحجز بين الشيئين، يقال: اتقاه بترسه، أي: جعل الترس حاجزا بينه وبينه، واتقاه بحقه، إذا وفاه(١٨١)، فجعل الإعطاء وقاية بينه وبين خصمه عن نيله إياه بيده أو لسانه، ومنه (التقية في الدين) بجعل ما يظهره حاجزا بينه وبين ما يخشاه من المكروه(١٨٢)، ومنه الحديث: كنا إذا احمرّ البأس اتقينا برسول الله ﷺ، وكان أقربنا إلى العدو(١٨٣). فالمتقي هو الذي يتحرز بطاعته عن العقوبة، ويجعل اجتنابه عما نهى، وفعله ما(١٨٤) أمر، حاجزًا بينه وبين العقوبة التي توعد(١٨٥) بها العصاة.
وكان (اتقى)(١٨٦) في الأصل (اوْتقى)(١٨٧) لأنه (افتعل)(١٨٨) من الوقاية، وأصل هذا الباب بالواو(١٨٩)، كالاتزان(١٩٠) من الوزن، والاتضاح من الوضوح، إلا أن الواو صارت (ياء) لانكسار ما قبلها وهي ساكنة، ثم اندغمت (الياء) في (تاء)(١٩١) الافتعال بعدما صارت (تاء)، فتولدت التشديدة لذلك(١٩٢).
وقال أبو الفتح الموصلي(١٩٣): إن (افْتَعَل) إذا كانت فاؤه (واوا)، فإن (واوه) تقلب(١٩٤) (تاء)، وتدغم في (تاء) (افْتَعَل) مثل (اتَّعد)(١٩٥) و (اتَّلج) (اتَّصف).
والعلة في قلب هذه الواو (تاء)، أنهم لو لم يقلبوها (تاء) لوجب أن يقلبوها إذا انكسر ما قبلها (ياء)، فيقولوا:(١٩٦) (ايتقى)(١٩٧) وإذا(١٩٨) انضم ما قبلها ردت إلى (الواو) فقالوا: (مُوتَق)(١٩٩)، وإذا انفتح ما قبلها قلبت (ألفا)، فقالوا: (ياتقي)(٢٠٠)، فلما(٢٠١) كانوا لو لم يقلبوها (تاء) صائرين من قلبها(٢٠٢) مرة (ياء) ومرة (ألفا)، ومرة (واوا)، أرادوا أن يقلبوها حرفا جلدا تغير أحوال ما قبله، وهو باق بحاله، وكانت (التاء)(٢٠٣) قريبة المخرج من (الواو)، لأنها من أصول الثنايا، والواو من الشفة، فأبدلوها (تاء) وأدغموها في لفظ ما بعدها وهو (التاء) وقالوا: اتقى(٢٠٤)، وقد فعلوا هذا أيضًا في (الياء) وأجروها مجرى (الواو) فقالوا في (افتعل) من اليسر: أتسر(٢٠٥)، ومن اليبس: اتبس(٢٠٦)، لهذه العلة(٢٠٧).
وإدغام (الياء) في (التاء) على هذه الجهة، إنما يجوز إذا كانت(٢٠٨) في كلمة واحدة، فإذا التقتا من كلمتين لم يجز الإدغام، نحو قولك: (في تبيانه)، و (في تمثاله)، وذلك أنه(٢٠٩) لو أجرى(٢١٠) الكلام هاهنا على الإدغام، أشبه الألف واللام. هذا هو الأصل، ثم صارت التاء لازمة حتى صارت كالأصلية(٢١١)، لأنه لا يجوز إظهار(٢١٢) هذا الإدغام في حال(٢١٣).
وقد بني على هذا الإدغام أسماء كثيرة، وهي: التُّخَمَة والتُّجَاه(٢١٤)، والتُّرَاث، والتّقوى، والتُّكْلَان، والتُّكَلَة، والتُّؤَدَة، والتُّهمَة(٢١٥).
الحراني(٢١٦) عن ابن السكيت(٢١٧) يقال: اتَّقَاه بِحَقِّه يَتَّقِيه، وتَقَاهُ يَتَّقِيه، وأنشد عن الأصمعي(٢١٨) قال:
أنشدني عيسى بن عمر(٢١٩):
جَلَاهَا الصَّيْقَلُونَ فَأخْلَصوهَا ... خِفَافاً كُلُّهَا يَتَّقِي بِأَثْرِ(٢٢٠) أي: كلها يستقبلك بفرنده(٢٢١).
وقال أوس بن حجر:
تَقَاكَ بِكَعْب وَاحِدٍ وَتَلَذُّهُ ... يَدَاكَ إذَا مَا هُزَّ بالكَفِّ يَعْسِلُ(٢٢٢)
أي اتقاك، ومعناه: جعل بينك وبينه كعبا واحدا(٢٢٣)، يصف رمحا، يقول(٢٢٤):كأنه كعب واحد، إذا هززته اهتز(٢٢٥) كله. وقال أبو سعيد السكري(٢٢٦): تقاك: وليك منه كعب.
قال: ويقال: إبلك(٢٢٧) اتقت كبارها بصغارها، أي جعلت الصغار مما يليك(٢٢٨) ووقت أنفسها بها.
وقوله: (تقاك) تقديره(٢٢٩) (تَعَلَكَ)(٢٣٠) والأصل: (اتَقَاك)، فحذف (فاء) الفعل المدغمة، فسقطت همزة الوصل المجتلبة لسكونها(٢٣١). وقولهم في المضارع (يتقى) تقديره (يَتَعِل)(٢٣٢).
قال الأزهري: اتَّقَى كان في الأصل (اوْتَقَى) فأدغمت الواو في التاء وشددت فقيل (اتَّقَى) ثم حذفوا ألف الوصل، والواو التي انقلبت تاء، فقيل: تَقَى يَتَقِى، بمعنى(٢٣٣): استقبل الشيء بالشيء وتوقاه.
قال السكري: وتَقَى يَتَقِى بفتح (التاء) شاذ جدا، لأنه لا يقال: تَضح بمعنى اتَّضح(٢٣٤)، ولا تَزَن بمعنى اتَّزَن(٢٣٥).
قال(٢٣٦) الأزهري: وإذا قالوا: تَقِيَ يَتْقَى(٢٣٧) فالمعنى: أنه صار تقيا(٢٣٨).
والمراد بالمتقين في هذه الآية: المؤمنون، كذلك قال أهل التفسير في قوله: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ أي: للمؤمنين(٢٣٩)، كأنه قال: القرآن بيان وهدى لمن اتقى الشرك، فخص المؤمنين بأن الكتاب بيان لهم دون الكفار الذين لم يهتدوا بهذا الكتاب، فأما من آمن ولم يجتنب الكبائر، فهو داخل في جملة المتقين(٢٤٠) أيضًا لأنه آمن بموجب الكتاب، واتقى الشرك.
وقيل: إن الكتاب بيان بنفسه ودلالة على الحق، ولكنه أضافه إلى المؤمنين خصوصا، لانتفاعهم به، والكافر لو تأمل القرآن لوجده بيانا، فهو في كونه بيانا في نفسه لا يتخصص بقوم دون قوم، ولكنه أضيف إلى المؤمنين على الخصوص لانتفاعهم به دون الكفار(٢٤١) كقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا﴾ [النازعات: 45]، وكان ﷺ منذرا لمن يخشى ولمن لم يخش.
وقال ابن الأنباري: معناه: هدى للمتقين والكافرين، فاكتفى بأحد(٢٤٢) الفريقين من(٢٤٣) الآخر، كقوله: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ [النحل: 81] وقوله: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ [آل عمران: 113] أراد وأخرى غير قائمة(٢٤٤).
وقال أبو ذؤيب(٢٤٥):
فَمَا أَدْرى أَرُشْدٌ طِلابُهَا(٢٤٦)
(وأراد: أم غيّ).
والدليل على هذا: أنه قال في موضع آخر: ﴿هُدًى لِّلنَّاسَ﴾(٢٤٧) فجعله هدى للناس عاما، على أنه ليس في الإخبار أنه ﴿هُدًى للِمُتَّقِينَ﴾ ما يدل على أنه ليس هدى لغيرهم.
فأما إعراب ﴿هُدًى﴾ فقال أبو إسحاق(٢٤٨): موضعه نصب من وجهين: أحدهما: أن يكون منصوبا على الحال من قولك: القرآن ذلك الكتاب هدى، فيكون حالا من الكتاب، كأنك قلت: هاديا؛ لأن (هدى) جاء بعد تمام الكلام، والعامل فيه يكون معنى الإشارة في ذلك(٢٤٩).
والثاني: أن يكون منصوبا على الحال من (الهاء) في قوله: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ كأنك قلت: لا شك فيه هاديا، والعامل فيه معنى ريب(٢٥٠).
والفراء يسمي الحال هاهنا: قطعا(٢٥١)، لأنه قال(٢٥٢): تجعل ﴿الكتاب﴾ خبرا لـ ﴿ذلك﴾ وتنصب ﴿هدى﴾(٢٥٣) على القطع، لأن ﴿هدى﴾ نكرة اتصلت بمعرفة، والنكرة لا تكون دليلا على معرفة.
قال: وإن شئت قطعته(٢٥٤) من الهاء التي(٢٥٥) في ﴿فيه﴾، كأنك قلت: لا شك فيه هاديا.
قال أبو إسحاق(٢٥٦): ويجوز أن يكون موضعه رفعا من جهات:
إحداها: أن يكون(٢٥٧) خبرا بعد خبر، كأنه قال: (ذلك الكتاب هدى)، أي قد جمع أنه الكتاب الموعود، وأنه هدى، كما تقول: هذا حلو حامض، أي قد جمع الطعمين(٢٥٨).
ويجوز: أن يكون رفعا على إضمار (هو) كأنه لما تم الكلام قيل: هو هدى(٢٥٩).
ويجوز: أن يكون الوقف على قولك(٢٦٠): ﴿لَا رَيْبَ﴾، [أي: ذلك الكتاب لا ريب](٢٦١) ولا شك(٢٦٢)، كأنك قلت: ذلك الكتاب حقا، لأن (لا شك) بمعنى: حق، ثم قيل(٢٦٣) بعد (فيه هدى)(٢٦٤).
فإن قيل: كيف قال: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾(٢٦٥)، وقد ارتاب فيه المرتابون؟ قيل: معناه أنه حق في نفسه وصدق، وإن ارتاب المبطلون(٢٦٦)، كما(٢٦٧) قال الشاعر: ليس في الحق يا أُمَيمةَ(٢٦٨) رَيْبٌ ... إنَّما الرَّيْبُ ما يَقُول الكَذُوبُ(٢٦٩)
فنفى الريب عن الحق، وإن كان المتقاصر في العلم يرتاب(٢٧٠). ويجوز: أن يكون خبرا في معنى النهي(٢٧١)، ومعناه: لا ترتابوا(٢٧٢)، كقوله: ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ(٢٧٣) وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾(٢٧٤) [البقرة: 197].
(١) قول أبي الهيثم ذكره الأزهري في (التهذيب) في مواضع متعددة أخذ الواحدي منه بالاختصار وجمعه مع بعضه. قال الأزهري: أخبرني المنذرى عن أبي الهيثم أنه قال: ذا اسم كل مشار إليه ..) "التهذيب" (ذا) 2/ 1258.
(٢) قال الأزهري: قال أبو الهيثم فيما أخبرني عنه المنذري: (إذا بعد المشار إليه من المخاطب، وكان المخاطب بعيدا ممن يشار إليه، (زادوا) (كافا) فقالوا. ذاك أخوك ..) "التهذيب" تفسير (ذاك وذلك) 2/ 1258.
(٣) في (ج): (ذلك).
(٤) في "التهذيب": (ليست في موضع خفض ولا نصب، إنما أشبهت ..) 2/ 1258.
(٥) في "التهذيب": (فتوهم السامعون أن قول القائل: ذاك أخوك كأنها في موضع خفض لاشباهها (كاف)، (أخاك). وليس ذلك كذلك، إنما تلك (كاف) ضمت إلى (ذا) لبعد (ذا) من المخاطب، فلما دخل ...) "التهذيب" 2/ 1258.
(٦) في "التهذيب": (وفي الجماعة: أولئك اخوتك). مراتب المشار اليه عند بعضهم اثنتان:
الأولى: القربى ويشار لها بذا.
الثانية: البعدى سواء كان البعد قليلاً أو كثيرًا ويشار لها بذاك. وعلى هذا الرأي زيدت اللام لرفع اللبس، كما ذكر الواحدي، أو لتأكيد بعد المشار إليه. أما عند الجمهور فمراتب المشار إليه ثلاث: قريب يشار له بذا، ومتوسط يشار له بذاك، وبعيد ويشار له بذلك، وعلى هذا: اللام لبعد المشار اليه، وليست لرفع اللبس. انظر "حاشية الصبان" 1/ 139، 142.
(٧) في (ب): (مبين).
(٨) هذا الكلام عن أبي الهيثم بمعناه، "التهذيب" 2/ 1258.
(٩) انظر "التهذيب" حيث نقل الأزهري عن بعض الأئمة2/ 1258 - 1259، وانظر "معاني القرآن" للزجاج 1/ 30.
(١٠) قول الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 31، إلا قوله: (قال: ولم يذكر الكوفيون ...
إلخ)، ونقله الأزهري في "التهذيب"، 15/ 34، 35.
(١١) المراد بالساكنين: (الألف) من (ذا) واللام التي بعدها. انظر "المعاني" للزجاج 1/ 31.
(١٢) كلام أبي الفتح في "سر صناعة الإعراب" 1/ 321، وقد تصرف المؤلف فيه، ونقله بالمعنى مع الاختصار. قال أبو الفتح: (وإذا كانت اللام زائدة فهي على ضربين: أحدهما: أن تزاد في الكلمة مبنية معها غير مفارقة لها، والآخر أن تزاد فيها لمعنى، ولا تكون من صيغة الكلمة ....).
(١٣) في (ب): (مبينة).
(١٤) كذا في (أ)، وفي (ب)، (ج): (إلا لك) وفي "سر صناعة الإعراب" (أولا لك) 1/ 321. وهذا هو الصواب، ولعل ما أثبت في النسخ اختلاف في الرسم.
(١٥) في (ب): (عندك).
(١٦) في (ب): (زيدك).
(١٧) في (ج): (فشيله). في "اللسان": (الفيشلة) كالفيشه، واللام فيها عند بعضهم زائدة، وقيل اللام أصل. والفيشة: أعلى الهامة، أو الكمرة، أو الذكر المنتفخ. "اللسان" (فيش) 6/ 3499.
(١٨) في (ب): (ذلك).
(١٩) كذا في (أ) وفي (ب)، (ج) (بدون تشكيل)، وفي "سر صناعة الإعراب" (أولالك) وهو الصواب، وانظر التعليق في الصفحة قبلها.
(٢٠) في (ب): (ومعنى عندك كمعنى عند).
(٢١) في (ب): (ومعنى زيد كمعنى زيدك).
(٢٢) في (ب): (بمعنى).
(٢٣) انظر. "سر صناعة الإعراب" 1/ 322، (معنى الفيشة) مر قريبا.
(٢٤) الكلام عن (الكاف) أخذه المؤلف عن أبي الفتح من موضع آخر 1/ 309، بتصرف واختصار.
(٢٥) في (ب): (تاتك).
(٢٦) انظر: "الأصول في النحو" 2/ 127.
(٢٧) "سر صناعة الإعراب" 1/ 315.
(٢٨) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٢٩) "سر صناعة الإعراب" 1/ 309 - 310.
(٣٠) انظر "الكتاب" 1/ 245.
(٣١) عند أبي الفتح: (لا يجوز أن تكون (الكاف) اسما لأن هذا الفعل لا يتعدى إلى ضمير المأمور به ..) 1/ 311.
(٣٢) انظر كلام أبي الفتح 1/ 310، 311.
(٣٣) ذكره سيبويه. انظر: "الكتاب" 1/ 245، وانظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 30، "تهذيب اللغة" (ذاك) 2/ 1259.
(٣٤) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (كتب) 4/ 3597، "معجم مقاييس اللغة" (كتب) 5/ 158، "الكشف" للثعلبي 1/ 42/ب.
(٣٥) في (ب): (لحلقة).
(٣٦) في (ب): (فاجتمعت). ذكره الأزهري عن شمر، "تهذيب اللغة" 4/ 3097.
(٣٧) في (ب): (جررته). ذكره الأزهري عن أبي عبيد عن أبي زيد. "التهذيب" (كتب) 2/ 2079.
(٣٨) في (ب): (للحزور). الأزهري عن الليث، "التهذيب" 2/ 2079.
(٣٩) الأزهري عن شمر 2/ 2079.
(٤٠) في (ب). (وقوله).
(٤١) انظر: الطبري 1/ 96، "معاني القرآن" للفراء 1/ 10، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 29، ونسب القول فيه للأخفش وأبي عبيدة، و"مجاز القرآن" 1/ 28، وابن عطية 1/ 141.
(٤٢) الموجود الحاضر لا يقال فيه (ذلك) لأنك تراه بعينه، بل تشير له بهذا، الدالة على الحاضر في الذهن. انظر "معاني القرآن" للفراء1/ 11.
(٤٣) في (ج): (ذاك).
(٤٤) في "معاني القرآن" للفراء: (يصلح (ذلك) من جهتين، وتصلح فيه (هذا) من جهة، فأما أحد الوجهين من (ذاك) فعلى معنى: هذِه الحروف يا أحمد، ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أوحيه إليك. والآخر أن يكون (ذلك) على معنى يصلح فيه (هذا) لأن قوله: (هذا) و (ذلك) يصلحان في كل كلام، إذا ذكر ثم أتبعته بأحدهما بالإخبار عنه. ألا ترى أنك تقول: قد قدم فلان ... الخ.) 1/ 10.
(٤٥) في (ب): (حركه).
(٤٦) في (ب): (يشير).
(٤٧) وقال الفراء (.. ولو كان شيئًا قائمًا يُرى لم يجز مكان (ذلك)، (هذا) ولا مكان (هذا)، (ذلك) ..) "معاني القرآن" 1/ 10، وقد نقل الواحدي كلامه بتصرف.
(٤٨) في (ج) تصحيف في الآية (من بعد ما الذكر).
(٤٩) الكلام بنصه في "معاني القرآن" للزجاج 1/ 30. وانظر "معاني القرآن" للفراء 1/ 11.
(٥٠) في (ب). (ما يقضى). في الطبري: (لأن كل ما تقضى بقرب تقضيه ..) وفي الحاشية في المطبوعة (وقرب تقضيه) يريد: أن ذكر ما نقضى، وانقضاؤه قريب من إخبارك عنه. (تفسير الطبري) 1/ 96.
(٥١) في (ب): (كما).
(٥٢) أي إذا أشار إليه بـ (ذلك) وبمعنى الحاضر إذا أشار إليه بـ (هذا).
(٥٣) في (ب). (مقتض) وفي الطبري: (منقض).
(٥٤) "تفسير الطبري" 1/ 96، وذكر المؤلف كلام الطبري بتصرف واختصار، واختار== الطبري هذا القول وهو: أن (ذلك) بمعنى (هذا) 1/ 96، ورجحه ابن كثير، وقال: ذكره ابن جريج عن ابن عباس، وهو قول مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والسدي، ومقاتل بن حيان، وزيد بن أسلم، وابن جريج 1/ 42.
(٥٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٥٦) في (ب): (أوجه).
(٥٧) ذكره الثعلبي عن أبي الضحى عن ابن عباس1/ 43/أ، وذكره أبو الليث في "تفسيره" ولم يسنده لأحد 1/ 89، وانظر "البحر المحيط" 1/ 36، والقرطبي 1/ 137، "زاد المسير" 1/ 23.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: هذا الكتاب. الطبري 1/ 96.
(٥٨) (يمان بن رباب) مكانه بياض في (ب)، وفي (أ): (رياب) بالياء و (رباب) بالباء في (ج) وهو عند الثعلبي 1/ 43 أ، ولم أجد (يمان بن رباب) ولا (رياب) سوى ما ذكره البغدادي في "هدية العارفين" قال: (اليمان بن رباب البصري من رءوساء الخوارج، له: "إثبات إمامة أبي بكر الصديق". و"أحكام المؤمنين".) ولم يذكر سنة وفاته. "هدية العارفين" 1/ 735، فلا أدرى هل هو المذكور، أو شخص غيره؟ والله أعلم.
(٥٩) في (ب): (كل).
(٦٠) في (ج): (التوريه).
(٦١) ذكره الثعلبي في "تفسيره" بعد قول ابن عباس السابق، "تفسير الثعلبي" 1/ 43أ، وذكر الزجاج بمعناه ولم ينسبه 1/ 39، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 23، القرطبي 1/ 137، وأبو حيان في "البحر" ونسبه لابن رئاب 1/ 36.
(٦٢) أي: قول ابن عباس وقول يمان بن رباب.
(٦٣) أي قول ابن عباس: ذلك الكتاب الذي أخبرتك أني أوحيه إليك.
(٦٤) وهو قول يمان: ذلك الكتاب الذي ذكرته في التوراة والإنجيل.
(٦٥) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 29.
(٦٦) في (ب): (عن).
(٦٧) في (ب): (كأنه).
(٦٨) في (ب): (ذله الوعد).
(٦٩) ذكر نحوه ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 23، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 1/ 137 - 138.
(٧٠) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 29.
(٧١) في (ب): (فهو في).
(٧٢) ذكره الثعلبي فىِ "تفسيره" 1/ 43 ب، وذكر ابن أبي حاتم قول الحسن، وابن عباس 1/ 34، وانظر: "تفسير الطبري" 1/ 96، و"ابن كثير" 1/ 42.
(٧٣) أي: المكتوب. انظر الثعلبي 1/ 42/ ب.
(٧٤) في ج (الخلوق)، وهذا المعنى ذكره الثعلبي 1/ 42 ب.
(٧٥) في (أ)، (ج): (قال: وهذا أرجح .. إلخ) واخترت ما في (ب) لأني لم أجد لوجود (قال) معنى. فكلام الزجاج قد انتهى، وما بعده أخذه عن الثعلبي بمعناه ولم يصرح باسمه، وليس الكلام بعد (قال) في "تفسيره"، ولم يكن من نهج الواحدي أن يفتتح قوله هو بـ (قال) لذلك اعتبرتها زيادة في (أ)، (ج).
(٧٦) في (ب): (به).
(٧٧) أي أن المراد بالكتاب: المكتوب، بمعنى المفعول، أرجح ممن قال: إنه سمي كتابا لما فرض فيه، وأوجب العمل به، فإن الكتاب يطلق على معان كثيرة منها: الفرض، والأمر، والجعل. انظر "مشكل القرآن" لابن قتيبة ص 11، "معرفة اشتقاق أسماء نطق بها القرآن" لأبي بكر محمد بن عزيز السجستاني 1/ 461 رسالة ماجستير، "تهذيب اللغة" (كتب) 4/ 3097، "تفسير الرازي" 2/ 14، والقرطبي 1/ 138.
(٧٨) أي أن الكتاب بمعنى المكتوب.
(٧٩) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٨٠) أي: عطف بيان، أو بدل. انظر "معاني القرآن" للزجاج 1/ 35، "إعراب القرآن" للنحاس1/ 128، "تفسير ابن عطية" 1/ 143.
(٨١) (إليه) ساقط من (ج).
(٨٢) في (ب): (فإن).
(٨٣) "تفسير الثعلبي" 1/ 42 ب، وانظر "إيضاح الوقف والابتداء" لابن الأنباري 1/ 484، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 30 - 33، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 128، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 17،15، وقد ذكر الواحدي بعض الوجوه في إعراب (الم. ذلك الكتاب).
(٨٤) في (ب): (فأرابني).
(٨٥) ذكره الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 31، والأزهري، وقال: وأنشد أبو زيد ثم ذكر البيت. "تهذيب اللغة" (راب) 2/ 1306 - 1307.
(٨٦) في (ب): (عاينته).
(٨٧) نسب البيت للفرزدق، ولم أجده في "ديوانه"، ونسب للمتلمس، ولبشار، وهو الصحيح، حيث ورد في "ديوانه" من قصيدة يمدح بها عمر بن هبيرة قوله: (أراب) كذا ورد في جميع النسخ، وفي "الديوان" وغيره من المصادر (اربت) ومعناه: أخوك الذي إن ربته بريبة قال: أنا الذي أربت، أي: أنا صاحب الريبة، وروي (أربت) بفتح التاء، أي: أوجبت له الريبة. وقوله: (عاتبته) كذا وردت عند الزجاج، وفي المصادر الأخرى (لاينته) بمعنى: عاتبته، انظر "ديوان بشار" ص 44، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 31، "تهذيب اللغة" (راب) 2/ 1306 - 1307، "اللسان" (ريب) 3/ 1788 - 1789.
(٨٨) في (ب): (به).
(٨٩) في (ب): (سموهمها).
(٩٠) انظر: "التهذيب" (راب) 2/ 1306 - 1307، "معجم مقاييس اللغة" (ريب) 2/ 463، "الصحاح" (ريب) 1/ 141، "اللسان" (ريب) 3/ 1788 - 1789.
(٩١) في (ب) (تلام).
(٩٢) في "الكتاب" (وأما رابني فإنه يقول: جعل لي ريبة ..) 4/ 60.
(٩٣) "الكتاب" 4/ 60، والنص في "الحجة" لأبي علي1/ 179.
(٩٤) في (ب) (يزيد). وأبو زيد هو سعيد بن أوس بن ثابت الأنصاري، صاحب النحو واللغة، توفي سنة خمس عشرة ومائتين. انظر "طبقات النحويين واللغويين" ص156، "تاريخ بغداد" 9/ 77، "إبناه الرواة" 2/ 30.
(٩٥) ذكره أبو علي في "الحجة" 1/ 179، ونحوه عند الأزهري قال: هذا قول أبي زيد (راب) 15/ 252، ولم أجده في "نوادر أبي زيد".
(٩٦) انظر: "تهذيب اللغة" (راب) 2/ 1306 - 1307، "الصحاح" (ريب) 1/ 141، "اللسان" (ريب) 3/ 1788 - 1789.
(٩٧) في ج (الهزلي). و (الهذلي) هو خالد بن زهير الهذلي أحد شعراء الهذليين المشهورين عشق امرأة كان يأتيها أبو ذؤيب الهذلي خاله، وجرت بينهما أشعار في ذلك منها، "بيت الشاهد" وقتل خالد بسبب تلك المرأة في قصة طويلة. انظر "شرح أشعار الهذليين" للسكري 1/ 207، "الخزانة" للبغدادي 5/ 76 - 86.
(٩٨) البيت من رجز لخالد بن زهير، يخاطب أبا ذؤيب، ويروى (كأنني) والأبيات في أشعار الهذليين:
ياقوم ما بال أبي ذؤيب ... يمس رأسي ويشم ثوبي
كأنني أتوته بريب
انظر "شرح أشعار الهذليين" 1/ 207، "الحجة" لأبي على 1/ 180، "تهذيب اللغة" (أتى) 1/ 116 - 117، "المخصص" 12/ 303، 14/ 24، 28، "الصحاح" 1/ 141، "اللسان" (ريب) 3/ 1788 - 1789، "الخزانة" 5/ 84.
(٩٩) في (ب): (فالحلاف).
(١٠٠) في "التهذيب" (قول أبي زيد أحسن) 2/ 1306.
(١٠١) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 31، وانظر "مشكل إعراب القرآن" 1/ 16.
(١٠٢) أي مبنى على الفتح لأن (لا) نافية للجنس، "الكتاب" 2/ 274، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 31، والعبارة للزجاج، وانظر "مشكل إعراب القرآن" 1/ 16.
(١٠٣) في (ب): (يقتضي).
(١٠٤) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 31، "الكتاب" 2/ 274، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 16، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 128.
(١٠٥) في (ب): (مما).
(١٠٦) في "المعاني" للزجاج (عموم) 1/ 32، ولعله أصوب.
(١٠٧) الكلام للزجاج، انظر "المعاني" 1/ 32، وانظر "الكتاب" 2/ 274 - 276، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 129.
(١٠٨) في (ب): (خمس).
(١٠٩) قال سيبويه: (لا وما عملت فيه في موضع ابتداء) "الكتاب" 2/ 275، 284، وانظر "مشكل إعراب القرآن" 1/ 16.
(١١٠) في (ب): (وان).
(١١١) اختلف في نسبة البيت، فقيل: لضمرة بن ضمرة، وقيل: لهمام بن مرة، وقيل: لبعض مذحج، وقيل: لزرافة الباهلي، وقيل: لهني بن أحمر، وفيه أقوال أخرى. قيل: إن هذا الشاعر كان بارًّا بأمه، وكان له أخ تؤثره عليه، فقال هذِه الأبيات، والشطر الأول:
هذا وجدكم الصغار بعينه
والشاهد فيه: رفع الاسم الثاني مع فتح الأول، إما بإلغاء الثانية ورفع ما بعدها بالعطف== على محل الأولى مع اسمها، فخبرهما واحد، وعلى هذا استشهد به الواحدي. وهناك تقدير آخر: وهو أن تكون الثانية عاملة عمل ليس، فيكون لكل واحدة خبر يخصها. انظر "الخزانة" 2/ 38 - 41، وقد ورد البيت عند سيبويه 2/ 292، وفي "المقتضب" 4/ 371، "شرح المفضل" 2/ 115، "شرح أبيات سيبويه" للنحاس ص54، "الحجة" لأبي علي 1/ 190، "الهمع" 5/ 288، "اللسان" (حيس) 2/ 1069.
(١١٢) في (ب): (العطوف).
(١١٣) انظر "الكتاب" 2/ 291، 292، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 31، 265، "المشكل" لمكي1/ 16، "الدر المصون" للسمين1/ 80، "شرح المفصل" لابن يعيش 2/ 109.
(١١٤) أخذه عن أبي علي الفارسي، "الحجة" 1/ 189.
(١١٥) في (ب): (خبر).
(١١٦) في "الحجة" (وإن جعلته خبرا كان موضعه رفعا في قياس قول سيبويه من حيث يرتفع خبر المبتدأ ....) 1/ 189، فيكون خبر لـ (لا) مع اسمها، حيث أنهما في محل رفع مبتدأ.
(١١٧) في "الحجة": (.. وعلى قول أبي الحسن موضعه رفع من حيث كان خبر (إن) == رفعا ..) 1/ 189، فجعل (لا) بمنزلة (إن) وجعل خبرها مرفوعا مثل خبر (إن).
(١١٨) يقول: إن جعلت (فيه) صفة جاز فيها النصب على الوصف للفظ اسم (لا) وهو (ريب) كما عطف عليه بالنصب في قول الشاعر: (فلا أب وابنا ...) وجاز رفع الصفة على موضع (لا ريب) كما عطف عليه بالرفع كما سبق.
(١١٩) في (ج) (ثم أعطف).
(١٢٠) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(١٢١) في (أ)، ج (مثل مر) والجملة ساقطة من ب. والبيت من شواهد سيبويه، وهو:
لا أب وابنا مثل مروان وابنه ... إذا هو بالمجد ارتدى وتأزرا
يقول لا أب وابنا مثل مروان ابن الحكم وابنه عبد الملك، لشهرتهما صارا كاللابسين لرداء المجد، والشاهد عطف (ابن) مع تنوينه على لفظ اسم (لا). انظر "الكتاب" 2/ 285، "الحجة" 1/ 189، "شرح المفصل" 2/ 110، "المقتضب" 4/ 372، "الهمع" 5/ 287.
(١٢٢) في (ج) (ومن وصف على اللفظ الموضع).
(١٢٣) مر تخريج البيت قريبًا. انظر ص 39.
(١٢٤) في ج (رفع).
(١٢٥) في (أ)، (ج) (المضموم).
(١٢٦) انظر: "السبعة" لابن مجاهد ص 132، "الحجة" 1/ 177. وابن كثير هو عبد الله == أبو معبد العطار الداري الفارسي الأصل، إمام أهل مكة في القراءة، من التابعين، أحد السبعة الذين أثبت ابن مجاهد قراءتهم في كتابه. (45 - 120)، انظر ترجمته في "معرفة القراء الكبار" 1/ 86، "غاية النهاية" 1/ 443.
(١٢٧) انظر: "السبعة" ص131،130، "الحجة" 1/ 175 - 177، "الكشف" لمكي 1/ 42.
(١٢٨) إشارة إلى ما سبق في الفاتحة في القراءات في قوله (عليهم) وانظر العلة التي ذكرها أبو علي في "الحجة" 1/ 207.
(١٢٩) نقل المؤلف من "الحجة"، قال أبو علي: (ومما يحسن الحذف هاهنا -مع ما ذكرنا من اجتماع المتشابهة- أن (الهاء) حرف خفي ..... إلخ) "الحجة" 1/ 209.
(١٣٠) في (ج): (فإذا كثفها).
(١٣١) في (ب). (التقتا).
(١٣٢) كلمة (حاجزا) ليست عند أبي علي1/ 209.
(١٣٣) في (ب): (لضمير).
(١٣٤) عبارة أبي علي: (.. بمنزلة (ردَّا)، فكما لم يعتد بها هاهنا، وجعلت الدال في حكم الملازقة للألف، كذلك إذا لم يعتد بها في نحو: فيهي ..) "الحجة" 1/ 209.
(١٣٥) في (ب): (الدار).
(١٣٦) في (ب): (إذا).
(١٣٧) انظر بقية كلام أبي علي في "الحجة" 1/ 209.
(١٣٨) "الحجة" 1/ 210، والمعنى: مثل الهاء النون في كونه حرفا خفيا لا يعتد به حاجزا.
(١٣٩) في (ب): (إيه).
(١٤٠) في (ب): (هط).
(١٤١) يقال: هو ابن عمه دُنْيَا مقصور، ودِنْيَةً ودِنْياً منون وغير منون، إذا كان ابن عمه لَحَّا أي أقرب من غيره ويقال ذلك في ابن العمة وابن الخال والخالة. انقلبت فيها (الواو)، (ياء) لمجاورة الكسرة، ولأن (النون) حاجز ضعيف. انظر "تهذيب اللغة" (دنا) 2/ 1233، و"اللسان" (دنا) 3/ 1436.
(١٤٢) في "الحجة": (وفي قولهم: "هو ابن عمي دنيا" وفي "غنية") 1/ 210، والقنية والقنوة بكسر القاف وضمها بالياء وبالواو: الكسبة، وهي كل ما اكتسبه الإنسان لنفسه ولم يعده للتجارة، وإذا كانت واوية الأصل فقد جرى فيها القلب، وعلى هذا سار أبو علي وتبعه الواحدي، ومنهم من قال أصلها يائية فلا تغيير فيها. انظر: "الحجة" 1/ 210، "تهذيب اللغة" (قنا) 3/ 3050، "مقاييس اللغة" 5/ 29، "سر صناعة الإعراب" 2/ 736، "اللسان" (قنا) 6/ 2759.
(١٤٣) الحنو: الاعوجاج، و (المحنية). منحنى الوادي. انظر "اللسان" (حنا) 2/ 1034 - 1035. وأصل (غازية): (غازوة) و (محنية): (محنوة) قلبت الواو فيهما ياء للكسرة قبلها. انظر "سر صناعة الإعراب" 2/ 587، 588.
(١٤٤) (النون) ساقط من (ب).
(١٤٥) (العدوة): صلابة من شاطئ الوادي. انظر "معجم مقاييس اللغة" (عدو) 4/ 252.
(١٤٦) أي (النون) في مثل (دنيا) و (قنية).
(١٤٧) "الحجة" 1/ 210.
(١٤٨) قال أبو علي في "الحجة": (الحجة لابن كثير في إتباعه هذِه (الهاء) في الوصل (الواو) أو (الياء) وتسويته بين حروف اللين وبين غيرها من الحروف إذا وقعت قبل (الهاء) من حجته أن (الهاء) وإن كانت خفية ... إلخ) 1/ 211.
(١٤٩) (بين) ساقط من (ب).
(١٥٠) في (ب): (وإذا).
(١٥١) في (ب): (خفيفة).
(١٥٢) في (ب): (مخرجها).
(١٥٣) عبارة أبي علي في "الحجة": (.. من حروف المعجم التي لا خفاء فيها - نحو: == الراء والضاد -وإن كان في الراء تكرير وفي الضاد استطالة- وإذا كان كذلك كان حجزها بين الساكنين كحجز غيرها من الحروف التي لا خفاء فيها .. إلخ). "الحجة" 1/ 211.
(١٥٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ج).
(١٥٥) "الحجة"1/ 211، وانظر: "الكشف" لمكي 1/ 42، 43.
(١٥٦) (قل) ساقط من (ب).
(١٥٧) في (ب): (لا يكاد).
(١٥٨) في (ب): (من غير أن تران).
(١٥٩) (غير بنات الواو والياء، أي: الصحيح اللام، فـ (فُعَل) لا يكون مصدرا في الصحيح اللام إلا قليلا، والمعتل يجري مجرى الصحيح.
انظر "الحجة" 1/ 180، وانظر كلام سيبويه في "الكتاب" 4/ 46.
(١٦٠) (النهى) ساقط من (ب).
(١٦١) في "الحجة": (قالوا: هَدَيْته هُدى ولم يكن هذا في غير (هدى)، وذلك لأن (الفِعَل) لا يكون مصدراً في هديته، فصار (هُدى) عوضا منه، قالوا: قريته قِرى وقليته قِلَى فأشركوا بينهما في هذا ..) 1/ 181 فأشركوا بين (فُعَل) و (فِعَل) انظر "الكتاب" 4/ 46.
(١٦٢) (الصوة) جماعة السباع، والحجر يكون علامة في الطريق، ومختلف الريح وصوت الصدى، وما غلظ وارتفع من الأرض. انظر "اللسان" (صوى) 14/ 471، "القاموس" ص 1304.
(١٦٣) في (ب): (فإذا).
(١٦٤) فيقولون: رشوة ورشا. انظر: "الكتاب" 4/ 46.
(١٦٥) في (ب): (ونحوه).
(١٦٦) في أ (الجميع). مثال المكسور في الواحد والمضموم في الجمع: (رشوة ورشا) "الكتاب" 4/ 46.
(١٦٧) في "الحجة". (ويقويه -أيضًا- أن ناسًا من النحويين يزعمون أنه قد يجري الأسماء التي ليست لمصادر ... إلخ) 1/ 182.
(١٦٨) قوله. (جلسة) و (ركبة) و (دهن) ليست مصادر وأجريت مجرى المصادر.
(١٦٩) البيت من قصيدة للقطامي يمدح بها زفر بن الحارث الكلابي، وصدر البيت:
أَكُفْراً بَعْدَ رَدِّ المَوْتِ عَنِّي
يقول: لا أكفر معروفك بعد أن أطلقتني من الأسر، وأعطيتني مائة من الإبل الرتاع أي الراعية، ورد البيت في "الشعر والشعراء" ص 483، "الحجة" 1/ 182، "الخصائص" 2/ 221، "شرح المفصل" 1/ 20، "شرح شذور الذهب" ص 491، "الهمع" 3/ 103، "الخزانة" 8/ 136، والشاهد: إعمال العطاء على أنه بمعنى الإعطاء.
(١٧٠) في (ب): (فتجرى) وفي "الحجة": (فيجرونه مجرى الإعطاء) 1/ 182.
(١٧١) هو لبيد بن ربيعة بن مالك بن كلاب العامري، كان من شعراء الجاهلية وأدرك الإسلام وأسلم، وقدم على رسول الله ﷺ في وفد بني كلاب، مات بالكوفة في خلافة معاوية، وهو ابن مائة وسبع وخمسين سنة. انظر: "الشعر والشعراء" ص167، "طبقات ابن سعد" 6/ 33، "الإصابة" 3/ 326، "الخزانة" 2/ 246.
(١٧٢) في (ب): (باكرت حنامها).
(١٧٣) البيت من معلقة لبيد وتمامه:
بادرتُ حاجَتها الدجاجَ بسحرة ... لِأُعَلَّ منها حين هبّ نيامُها
ويروى (باكرت) يذكر الخمر يقول: سابقت صياح الدجاج لحاجتي إليها، لِأُعَلَّ منها: أي أسقي منها مرة بعد مرة، حين هب نيامها، انظر "شرح ديوان لبيد" ص 315، "الحجة" 1/ 182، "المعاني الكبير" 1/ 453، "شرح القصائد المشهورات" للنحاس1/ 163، "اللسان" (بكر) 1/ 332، "الخزانة" 3/ 104.
(١٧٤) (حاجتي) ساقط من (ب).
(١٧٥) في "الحجة". (وفسروه على باكرت حاجتي إليها ..) وروايته للبيت (باكرت) 1/ 183.
(١٧٦) فتضاف للمفعول كما يضاف المصدر إليه. انظر "الحجة" 1/ 183.
(١٧٧) في (ج): (مصاد).
(١٧٨) هم بنو أسد. انظر (المذكر والمؤنث) للفراء ص 87.
(١٧٩) في "الحجة": وقال أبو الحسن: زعموا أن من العرب من يؤنث الهدى. "الحجة" 1/ 183، وانظر: "معاني القرآن" للاخفش 1/ 179.
(١٨٠) ما بين المعقوفين ساقط من (ب) والكلام أخذه عن أبي علي في "الحجة" 1/ 186، وانظر: "الطبري" 1/ 98، "معاني الزجاج" 1/ 33، "تفسير أبي الليث" 1/ 90.
(١٨١) في (ب): (وقاه).
(١٨٢) انظر: "تهذيب اللغة" (تقي)، (وقى) 1/ 44، "الصحاح" (وقى) 6/ 2527، "اللسان" (وقى) 8/ 4902، (لباب التفاسير) للكرماني 1/ 111، (رسالة دكتوراه).
(١٨٣) أخرجه مسلم في "صحيحه" في قصة غزوة حنين وفيه: (... قال البراء: كنا والله إذا أحمر البأس نتقى به وإن الشجاع منا للذي يحاذى به، يعني رسول الله ﷺ) مسلم 1776/ 79، كتاب الجهاد، غزوة حنين، وذكره البيهقي في "دلائل النبوة" 5/ 135.
(١٨٤) في (ب): (عما أمر) تصحيف.
(١٨٥) في (ب): (يدعو).
(١٨٦) في (ب): (من في).
(١٨٧) بكسر الهمزة وسكون الواو.
(١٨٨) في (ج): (لا افتعل).
(١٨٩) في (ج): (من الواو).
(١٩٠) في (ب): (كالا يزان).
(١٩١) في (ب): (مما).
(١٩٢) انظر. "تهذيب اللغة" (تقى) 1/ 444، "الصحاح" (وقى) 6/ 2526، "سر صناعة الإعراب" 1/ 147.
(١٩٣) "سر صناعة الإعراب" 1/ 147.
(١٩٤) في (ج): (تقلب الفاتا).
(١٩٥) في (ب): (ما اتعد).
(١٩٦) في جميع النسخ (فيقولون). وفي "سر صناعة الإعراب" (فيقولوا) وفي الحاشية قال: في ل (فيقولون) 1/ 147.
(١٩٧) عند أبي الفتح فيقولوا: (أيتزن، ايتعد، ايتلج) 1/ 147، فلم يرد لفظ (أيتقى).
(١٩٨) في (ج): (إذا) مكررة.
(١٩٩) عند أبي الفتح (مُوتَعِد) و (مُوتَزِن) و (مُوتَلج) 1/ 147.
(٢٠٠) عند أبي الفتح: يَا تَعِدُ، ويَا تَزِنُ، ويَا تَلِجُ 1/ 148.
(٢٠١) في (ج): (فكانوا).
(٢٠٢) في جميع النسخ (قبلها): والتصحيح من "سر صناعة الإعراب" 1/ 148.
(٢٠٣) في (ب): (الباء).
(٢٠٤) في (ب): (أتقا) وعند أبي الفتح (أتعد، واتزن) 1/ 148.
(٢٠٥) في (ب): (السر).
(٢٠٦) في (ج): (التبس).
(٢٠٧) عند أبي الفتح: (.. وذلك لأنهم كرهوا انقلابها (واوا) متى انضم ما قبلها في نحو: (موتبس) وألفا في (يا تبس)، فأجروها مجرى الواو فقالوا: اتَّبَس وأتَّسَر. ومن العرب من لا يبدلهما (تاء) ويجري عليهما من القلب ماتنكبه الآخرون فيقول: إيتَعد أيتَزن ايتبس ... واللغة الأولى أكثر وأقيس ...)، "سر صناعة الإعراب" 1/ 148، وانظر "المنصف" 1/ 222، 228.
(٢٠٨) كذا ورد في جميع النسخ ولعل الأولى (إذا كانتا).
(٢٠٩) (أنه) ساقط من (ج).
(٢١٠) في (ب): (أجرا).
(٢١١) في (ب): (كالا مطيه).
(٢١٢) في (ب): (إظهارها).
(٢١٣) انظر "تهذيب اللغة" (تقى) 1/ 444.
(٢١٤) في (ب): (التحافه).
(٢١٥) انظر: "الكتاب" 4/ 332.
(٢١٦) أبو شعيب عبد الله بن الحسن الحراني اللغوي، لغوي صدوق، أخذ عن ابن السكيت، ونقل عنه الأزهري في "التهذيب" من طريق المنذري، توفي سنة خمس وتسعين ومائتين. انظر ترجمته في: "تاريخ بغداد" 13/ 536، "إنباه الرواه" 2/ 115، "سير أعلام النبلاء"13/ 536.
(٢١٧) أبو يوسف يعقوب بن إسحاق السكيت، النحوي اللغوي، كان موثقا بروايته، مات سنة أربع وأربعين ومائتين. انظر ترجمته في: "تاريخ بغداد" 14/ 273، "وفيات الأعيان" 6/ 395، "إنباه الرواة" 4/ 50، "معجم الأدباء" 20/ 50.
(٢١٨) في "التهذيب": (وأخبرني المنذري، عن الحراني، عن ابن السكيت، قال: يقال: اتقاه ... الخ. وأنشد ثم ذكر بيتين غير ما ذكر المؤلف، ثم قال: وقال الأصمعي: أنشدني عيسى بن عمر) (التهذيب) (تقى) 1/ 444، وانظر كلام ابن السكيت في "إصلاح المنطق" ص 24.
(٢١٩) ورد اسمه في "التهذيب": (عيسى بن عمرو) وهو تصحيف، والصحيح (ابن عمر) وهو عيسى بن عمر البصري الثقفي المقرئ النحوي، كان في طبقة أبي عمرو بن العلاء، وعنه أخذ الخليل، توفي سنة تسع وأربعين ومائة. انظر ترجمته في: "طبقات النحويين واللغويين" ص 40، "نزهة الألباء" ص 28، "إنباه الرواة" 2/ 374، "معجم الأدباء" 4/ 519، "وفيات الأعيان" 3/ 486.
(٢٢٠) البيت لخفاف بن ندبة، يذكر السيف. والصيقلون: جمع صيقل وهو شحاذ السيوف == وجلاؤها، يقول: جلوا تلك السيوف حتى إذا انظر الناظر إليها اتصل شعاعها بعينه فلم يتمكن من النظر إليها، فكلها يستقبلك بفرنده، و (يتقى) مخفف (يتقى) وهذا مكان الشاهد من البيت. ورد البيت في (إصلاح المنطق) ص 23، "تهذيب اللغة" (تقى) 1/ 444، "الصحاح" (وقى) 6/ 2527، "معجم مقاييس اللغة" (أثر) 1/ 56، "الخصائص" 2/ 286، "اللسان" (أثر) 1/ 26، (وقى) 8/ 4902.
(٢٢١) في (ج): (بفيرنده). (إصلاح المنطق) ص 4، "التهذيب" (تقى) 1/ 444.
(٢٢٢) يصف رمحاً يقول: اتقاك برمح تلذه يداك: أي لا يثقلهما، إذا هز بالكف يعسل أي. يضطرب ويهتز. ورد البيت في "إصلاح المنطق" ص 24، "الخصائص" 2/ 286، "الصحاح" (عسل) 5/ 1765، (وقى) 5/ 2527، "المحكم" 1/ 170، "اللسان" (عسل) 5/ 2946، (وقى) 15/ 403، (أساس البلاغة) (كعب) 2/ 312، "الحجة" لأبي علي3/ 28.
(٢٢٣) (واحدا) ساقط من (ب).
(٢٢٤) في (ب). (يقال).
(٢٢٥) في (ب): (يهتر) في (ج): (كأنه يقول كأنه كعب).
(٢٢٦) هو الحسن بن الحسين بن عبد الله بن عبد الرحمن بن العلاء بن أبي صفرة بن المهلب بن أبي صفرة السكري النحوي، كان ثقة دينا صادقا، انتشر عنه من كتب الأدب شيء كثير (212 - 275 هـ). انظر ترجمته في: "تاريخ بغداد" 7/ 296، "معجم الأدباء" 2/ 478، "إنباه الرواة" 1/ 291، "نزهة الألباء" ص 160.
(٢٢٧) في (ب): (ابنك).
(٢٢٨) في (ب): (للصفار ما يليك).
(٢٢٩) في (ج): (تقريره).
(٢٣٠) في (ب): (تعلل).
(٢٣١) في "الحجة" لأبي علي: (... وأعللتها بالحذف كما أعللتها بالقلب، وليس ذلك بالمطرد وقولهم في المضارع ... إلخ) 3/ 29.
(٢٣٢) انظر قول السكري في "الحجة" لأبي علي3/ 29.
(٢٣٣) في "التهذيب" (بمعنى: توقي). "التهذيب" (تقى) 1/ 444.
(٢٣٤) في (ب): (بفتح معنى الفتح).
(٢٣٥) انظر "اللسان" (وقى) 8/ 4902.
(٢٣٦) (قال) ساقط من (أ) و (ج).
(٢٣٧) في (ب): (تقى يقي).
(٢٣٨) "تهذيب اللغة" (تقى) 1/ 444.
(٢٣٩) ذكر ابن جرير بسنده عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي ﷺ (للمتقين): هم المؤمنون، 1/ 100، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 42/ أ.
(٢٤٠) رجح ابن جرير: أن المراد عموم التقوى، ولا تخص معنى دون معنى، ثم قال: فقد تبين إذا فساد قول من زعم أن تأويل ذلك إنما هو. الذين اتقوا الشرك وبرئوا من النفاق، لأنه قد يكون كذلك، وهو فاسق غير مستحق أن يكون من المتقين ... الخ. "تفسير الطبري" 1/ 101، وانظر "تفسير أبي الليث" 1/ 90، وابن عطية 1/ 144
(٢٤١) ذكره أبو الليث في "تفسيره" 1/ 90، ونحوه في القرطبي 1/ 140 - 141، "زاد المسير" 1/ 24.
(٢٤٢) في (ب): (بإحدى).
(٢٤٣) في (ب): (عن).
(٢٤٤) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ولم ينسبه لابن الأنباري 1/ 24.
(٢٤٥) هو خويلد بن خالد الهذلي، شاعر مجيد مخضرم، أدرك الإسلام وقدم المدينة عند وفاة النبي ﷺ وأسلم، توفي في غزوة افريقية مع ابن الزبير، انظر ترجمته في "الشعر والشعراء" ص 435، "الاستيعاب" 4/ 65، "معجم الأدباء" 3/ 306، "الخزانة" 1/ 422.
(٢٤٦) جزء من بيت لأبي ذؤيب الهذلي، من الطويل. وتمامه:
عصاني إليها القلب إني لأمره ... سميع فما أدرى أرشد طلابها
يقول: إن قلبه عصاه فلا يقبل منه، فيذهب إليها قلبه سفها، فأنا اتبع ما يأمرني به، فما أدرى أرشد أم غي. ويروى البيت (عصيت إليها القلب ...). ورد البيت عند الفراء في "معاني القرآن" 1/ 230، وابن قتيبة في "المشكل" ص 215، والسكري في "شرح أشعار الهذليين" 1/ 43، وابن هشام في "مغني اللبيب" 1/ 14، 43، 2/ 628، والبغدادي في "خزانة الأدب" 11/ 251
(٢٤٧) سورة آل عمران: 4، كما ورد هذا في ذكر الكتاب الذي أنزل على موسى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ﴾ [الأنعام: 91].
(٢٤٨) "معاني القرآن" 1/ 33.
(٢٤٩) من قوله: فيكون حالا من الكتاب ... إلى (في ذلك) ليس في "المعاني" 1/ 33.
(٢٥٠) ذكر قول الزجاج بمعناه 1/ 33، وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 180، "إملاء ما من به الرحمن" للعكبري1/ 16، "مشكل إعراب القرآن" المكي 1/ 17.
(٢٥١) وبهذا أخذ الكوفيون. انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 130.
(٢٥٢) "معاني القرآن" للفراء 1/ 45، وانظر "تفسير الطبري" 1/ 99، وقد رد الطبري على الفراء قوله.
(٢٥٣) (هدى) ساقط من (أ) و (ج) وثابت في (ب)، "معاني القرآن" للفراء 1/ 12.
(٢٥٤) عبارة الفراء: (وإن شئت نصبت (هدى) على القطع من الهاء التي في (فيه) ...) 1/ 12.
(٢٥٥) في (ب): (إلى).
(٢٥٦) "معاني القرآن" 1/ 33.
(٢٥٧) في (ب): (تكون).
(٢٥٨) تعقب أبو علي الفارسي الزجاج في هذا وقال: فالقول في هذا على هذا الوجه مشكل ... ثم شرح وجه إشكاله. انظر: "الحجة" 1/ 198.
(٢٥٩) عبارة الزجاج: (.. كأنه لما تم الكلام فقيل: ﴿الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ قيل: هو هدى) 1/ 33.
(٢٦٠) في (ج): (قوله).
(٢٦١) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٢٦٢) عبارة الزجاج كما في المطبوع: (ويجوز أن يكون رفعه على قولك: (ذلك الكتاب لا ريب فيه) كأنك قلت: ذلك الكتاب حقا ... إلخ) فلعل وجود (فيه) في المطبوع تصحيف. والله أعلم. انظر "المعاني" 1/ 33.
(٢٦٣) (قيل) ساقط من (ب).
(٢٦٤) انتهى كلام الزجاج. أنظر "المعاني" 1/ 33، وانظر "معاني القرآن" للفراء ص 44، "تفسير الطبري" 1/ 99، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 129 - 130، "المشكل" لمكي1/ 17، و"إملاء ما من به الرحمن" 1/ 11.
(٢٦٥) (فيه) ساقط من (ب).
(٢٦٦) ذكره بمعناه أبو الليث 1/ 90، وابن الجوزي في "زاد المسير" واستشهد بالبيت 1/ 24.
(٢٦٧) (كما) ساقط من (ب).
(٢٦٨) في (ب): (أمية).
(٢٦٩) البيت لعبد الله بن الزبعرى ورد في الماوردي 1/ 67، رسالة دكتوراة "زاد المسير" 1/ 24، والقرطبي1/ 138، "البحر المحيط" 1/ 33، "الدر المصون" 1/ 86.
(٢٧٠) أي فالاعتبار لمن كان معه من الأدلة ما لو تأمله المنصف المحق لم يرتب فيه، ولا
اعتبار لمن وجد منه الريب، لأنه لم ينظر حق النظر. "الفتوحات الإلهية" 1/ 11.
(٢٧١) في (ب): (الأمر).
(٢٧٢) في (ب): (لا يرتابوا).
(٢٧٣) في (ب) لفظ (ولا فسوق) مكرر.
(٢٧٤) ذكر هذا الكلام ابن الجوزي في "زاد المسير"، ونسبه للخليل، وابن الأنباري 10/ 23، وقد أجاب الواحدي عن السؤال بجوابين، وهناك جواب ثالث: وهو أنه مخصوص والمعنى (لا ريب فيه عند المؤمنين)، والجواب الأول أحسنها. ذكر ذلك الجمل في "الفتوحات الإلهية" 1/ 11.
تفسير القرآن العظيم مسندًا — ابن أبي حاتم الرازي (٣٢٧ هـ)
﴿ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ﴾ [البقرة ٢]
قَوْلُهُ ﴿ذَلِكَ الكِتابُ﴾ آيَةُ: ٢
[٥٣] بِهِ عَنْ عِكْرِمَةَ: ﴿ذَلِكَ الكِتابُ﴾ قالَ: هَذا الكِتابُ قالَ: وهَكَذا فَسَّرَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ والسُّدِّيُّ ومُقاتِلُ بْنُ حَيّانَ وزَيْدُ بْنُ أسْلَمَ.
قَوْلُهُ: ﴿الكِتابُ﴾
[٥٤] حَدَّثَنا الحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبّاحِ، ثَنا أسْباطُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ الهُذَلِيِّ - يَعْنِي أبا بَكْرٍ - عَنِ الحَسَنِ، في قَوْلِ اللَّهِ: ﴿الكِتابُ﴾ قالَ: القُرْآنُ قالَ أبُو مُحَمَّدٍ: ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مِثْلُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾
[٥٥] حَدَّثَنا أبِي، ثَنا أبُو اليَمانِ الحَكَمُ بْنُ نافِعٍ، ثَنا حُرَيْزُ بْنُ عُثْمانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبِي عَوْفٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَسْعُودٍ الفَزارِيِّ، عَنْ أبِي الدَّرْداءِ قالَ: الرَّيْبُ - يَعْنِي الشَّكَّ - مِنَ الكُفْرِ. قالَ أبُو مُحَمَّدٍ: ولا أعْلَمُ في هَذا الحَرْفِ اخْتِلافًا بَيْنَ المُفَسِّرِينَ مِنهُمُ ابْنُ عَبّاسٍ، وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وأبُو مالِكٍ، ونافِعٌ مَوْلى ابْنِ عُمَرَ، وعَطاءُ بْنُ أبِي رَباحٍ، وأبُو العالِيَةِ، والرَّبِيعُ بْنُ أنَسٍ، وقَتادَةُ، ومُقاتِلُ بْنُ حَيّانَ، والسُّدِّيُّ، وإسْماعِيلُ بْنُ أبِي خالِدٍ.
قَوْلُهُ: ﴿هُدًى﴾
اخْتُلِفَ في تَفْسِيرِهِ عَلى أوْجُهٍ: فَمِنهم مَن قالَ: هُدًى مِنَ الضَّلالَةِ.
[٥٦] حَدَّثَنا الحَسَنُ بْنُ أبِي الرَّبِيعِ، أنا عَبْدُ الرَّزّاقِ، أخْبَرَنِي الثَّوْرِيُّ، عَنْ بَيانٍ.
[٥٧] وحَدَّثَنا أبِي، ثَنا أبُو نُعَيْمٍ، وعِيسى بْنُ جَعْفَرٍ، قالا: ثَنا سُفْيانُ، عَنْ بَيانٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، في قَوْلِهِ: ﴿هُدًى﴾ قالَ: مِنَ الضَّلالَةِ.
ومَن فَسَّرَهُ عَلى نُورٍ:
[٥٨] حَدَّثَنا أبُو زُرْعَةَ، ثَنا عَمْرُو بْنُ حَمّادِ بْنِ طَلْحَةَ القَنّادُ، ثَنا أسْباطُ بْنُ نَصْرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ: " وأمّا ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ نُورٌ لِلْمُتَّقِينَ.
ومَن فَسَّرَهُ عَلى تِبْيانٍ لِلْمُتَّقِينَ:
[٥٩] حَدَّثَنا أبُو زُرْعَةَ، ثَنا يَحْيى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ، ثَنا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ عَطاءِ بْنِ دِينارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ تِبْيانٌ لِلْمُتَّقِينَ.
قَوْلُهُ: ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾
[٦٠] حَدَّثَنا أحْمَدُ بْنُ سِنانٍ، ثَنا أبُو النَّضْرِ هاشِمُ بْنُ القاسِمِ، ثَنا أبُو عَقِيلٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَقِيلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ، وعَطِيَّةَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عَطِيَّةَ السَّعْدِيِّ، وكانَ مِن أصْحابِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لا يَكُونُ الرَّجُلُ مِنَ المُتَّقِينَ حَتّى يَدَعَ ما لا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا لِما بِهِ البَأْسُ».
الوَجْهُ الثّانِي:
[٦١] حَدَّثَنا أبِي، ثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِمْرانَ، ثَنا إسْحاقُ بْنُ سُلَيْمانَ الرّازِيُّ، عَنِ المُغِيرَةِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ مَيْمُونٍ أبِي حَمْزَةَ، قالَ: كُنْتُ جالِسًا عِنْدَ أبِي وائِلٍ فَدَخَلَ عَلَيْنا رَجُلٌ يُقالُ لَهُ: أبُو عَفِيفٍ مِن أصْحابِ مُعاذٍ. فَقالَ لَهُ شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ: يا أبا عَفِيفٍ، ألا تُحَدِّثُنا عَنْ مُعاذِ بْنِ جَبَلٍ ؟ قالَ: بَلى، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: يُحْبَسُ النّاسُ يَوْمَ القِيامَةِ في بَقِيعٍ واحِدٍ فَيُنادِي مُنادٍ: أيْنَ المُتَّقُونَ؟ فَيَقُومُونَ في كَنَفِ الرَّحْمَنِ، لا يَحْتَجِبُ اللَّهُ مِنهم ولا يَسْتَتِرُ، قُلْتُ: مَنِ المُتَّقُونَ؟ قالَ قَوْمٌ اتَّقَوُا الشِّرْكَ وعِبادَةَ الأوْثانِ، وأخْلَصُوا لِلَّهِ العِبادَةَ؛ فَيَمُرُّونَ إلى الجَنَّةِ.
الوَجْهُ الثّالِثُ:
[٦٢] حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، أنْبَأ أبُو غَسّانَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو زُنَيْجٌ، ثَنا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحاقَ، قالَ: فِيما حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أبِي مُحَمَّدٍ، مَوْلى زَيْدِ بْنِ ثابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، قالَ: يَقُولُ اللَّهُ سُبْحانَهُ وبِحَمْدِهِ: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ أيِ الَّذِينَ يَحْذَرُونَ مِنَ اللَّهِ عُقُوبَتَهُ في تَرْكِ ما يَعْرِفُونَ مِنَ الهُدى ويَرْجُونَ رَحْمَتَهُ بِالتَّصْدِيقِ بِما جاءَ مِنهُ.
والوَجْهُ الرّابِعُ:
[٦٣] حَدَّثَنا أبُو زُرْعَةَ، ثَنا عَمْرُو بْنُ حَمّادِ بْنِ طَلْحَةَ القَنّادُ، ثَنا أسْباطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ نُورٌ لِلْمُتَّقِينَ، وهُمُ المُؤْمِنُونَ.
[٦٤] حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، ثَنا العَبّاسُ بْنُ الوَلِيدِ، ثَنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتادَةَ، في قَوْلِهِ: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ مَن هُمْ؟ نَعَتَهُمُ اللَّهُ، فَأثْبَتَ نَعْتَهم ووَصْفَهم. قالَ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ.
الدر المنثور — جلال الدين السيوطي (٩١١ هـ)
﴿ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ﴾ [البقرة ٢]
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذَلِكَ الكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ﴾ .
أخْرَجَ الفِرْيابِيُّ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ الضُّرَيْسِ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ عَنْ مُجاهِدٍ قالَ: مِن أوَّلِ البَقَرَةِ أرْبَعُ آياتٍ في نَعْتِ المُؤْمِنِينَ، وآيَتانِ في نَعْتِ الكافِرِينَ، وثَلاثَ عَشْرَةَ آيَةً في نَعْتِ المُنافِقِينَ، ومِن أرْبَعِينَ آيَةً إلى عِشْرِينَ ومِائَةٍ في بَنِي إسْرائِيلَ.
وأخْرَجَ وكِيعٌ عَنْ مُجاهِدٍ قالَ: هَؤُلاءِ الآياتُ الأرْبَعُ في أوَّلِ سُورَةِ “ البَقَرَةِ “ إلى ﴿المُفْلِحُونَ﴾ [البقرة: ٥] نَزَلَتْ في نَعْتِ المُؤْمِنِينَ، واثْنَتانِ مِن بَعْدِها إلى ﴿عَظِيمٌ﴾ [البقرة: ٧] نَزَلَتْ في نَعْتِ الكافِرِينَ، وإلى العِشْرِينَ نَزَلَتْ في المُنافِقِينَ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أنَسٍ قالَ: أرْبَعُ آياتٍ مِن فاتِحَةِ سُورَةِ “ البَقَرَةِ “ في الَّذِينَ آمَنُوا، وآيَتانِ في قادَةِ الأحْزابِ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ﴿الم﴾ [البقرة: ١] حَرْفُ اسْمِ اللَّهِ و﴿الكِتابُ﴾ القُرْآنُ ﴿لا رَيْبَ﴾ لا شَكَّ فِيهِ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ الكِتابُ﴾ قالَ: هَذا الكِتابُ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ الأنْبارِيِّ في ”المَصاحِفِ“ عَنْ عِكْرِمَةَ، مِثْلَهُ.
وأخْرَجَ ابْنُ إسْحاقَ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ قالَ: لا شَكَّ فِيهِ.
وأخْرَجَ أحْمَدُ في ”الزُّهْدِ“، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ أبِي الدَّرْداءِ قالَ الرَّيْبُ الشَّكُّ مِنَ الكُفْرِ.
وأخْرَجَ الطَّسْتِيُّ في ”مَسائِلِهِ“ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ”أنَّ نافِعَ بْنَ الأزْرَقِ قالَ لَهُ: أخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ قالَ: لا شَكَّ فِيهِ قالَ: وهَلْ تَعْرِفُ العَرَبُ ذَلِكَ؟ قالَ: نَعَمْ، أما سَمِعْتَ ابْنَ الزِّبَعْرى وهو يَقُولُ:
لَيْسَ في الحَقِّ يا أُمامَةُ رَيْبٌ إنَّما الرَّيْبُ ما يَقُولُ الكَذُوبُ
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ قالَ: لا شَكَّ فِيهِ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجاهِدٍ مِثْلَهُ.
* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ .
أخْرَجَ وكِيعٌ، وابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ في قَوْلِهِ: ﴿هُدًى﴾ قالَ: مِنَ الضَّلالَةِ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ في قَوْلِهِ: ﴿هُدًى﴾ قالَ: نُورٌ ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ قالَ: هُمُ المُؤْمِنُونَ.
وأخْرَجَ ابْنُ إسْحاقَ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ أيِ الَّذِينَ يَحْذَرُونَ مِنَ اللَّهِ عُقُوبَتَهُ في تَرْكِ ما يَعْرِفُونَ مِنَ الهُدى ويَرْجُونَ رَحْمَتَهُ في التَّصْدِيقِ بِما جاءَ مِنهُ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ قالَ: لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَتَّقُونَ الشِّرْكَ ويَعْمَلُونَ بِطاعَتِي.
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ قالَ: جَعَلَهُ اللَّهُ هُدًى وضِياءً لِمَن صَدَّقَ بِهِ ونُورًا لِلْمُتَّقِينَ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مُعاذِ بْنِ جَبَلٍ قالَ: يُحْبَسُ النّاسُ يَوْمَ القِيامَةِ بَقِيعٍ واحِدٍ فَيُنادِي مُنادٍ: أيْنَ المُتَّقُونَ فَيَقُومُونَ في كَنَفٍ مِنَ الرَّحْمَنِ لا يَحْتَجِبُ اللَّهُ مِنهم ولا يَسْتَتِرُ، قِيلَ: مَنِ المُتَّقُونَ؟ قالَ: قَوْمٌ اتَّقَوُا الشِّرْكَ وعِبادَةَ الأوْثانِ وأخْلَصُوا لِلَّهِ العِبادَةَ فَيَمُرُّونَ إلى الجَنَّةِ.
وأخْرَجَ أحْمَدُ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ والبُخارِيُّ في“ تارِيخِهِ ”، والتِّرْمِذِيُّ وحَسَّنَهُ، وابْنُ ماجَهْ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ والبَيْهَقِيُّ في“ الشُّعَبِ ”عَنْ عَطِيَّةَ السَّعْدِيِّ وكانَ مِنَ الصَّحابَةِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لا يَبْلُغُ العَبْدُ المُؤْمِنُ أنْ يَكُونَ مِنَ المُتَّقِينَ حَتّى يَدَعَ ما لا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا لِما بِهِ بَأْسٌ» .
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا في كِتابِ“ التَّقْوى ”عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أنَّ رَجُلًا قالَ لَهُ: ما التَّقْوى؟ قالَ: اتَّخَذْتَ طَرِيقًا ذا شَوْكٍ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: فَكَيْفَ صَنَعْتَ قالَ: إذا رَأيْتُ الشَّوْكَ عَدَلْتُ عَنْهُ أوْ جاوَزْتُهُ أوْ قَصَرْتُ عَنْهُ قالَ: ذاكَ التَّقْوى.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وابْنُ أبِي الدُّنْيا، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ أنَّهُ قِيلَ لَهُ: ألا تَجْمَعُ لَنا التَّقْوى في كَلامٍ يَسِيرٍ نَرْوِيهِ قالَ: التَّقْوى العَمَلُ بِطاعَةِ اللَّهِ، عَلى نُورٍ مِنَ اللَّهِ رَجاءَ رَحْمَةِ اللَّهِ، والتَّقْوى تَرْكُ مَعاصِي اللَّهِ عَلى نُورٍ مِنَ اللَّهِ مَخافَةَ عَذابِ اللَّهِ.
وأخْرَجَ أحْمَدُ في“ الزُّهْدِ ”، وابْنُ أبِي الدُّنْيا عَنْ أبِي الدَّرْداءِ قالَ: تَمامُ التَّقْوى أنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ العَبْدُ حَتّى يَتَّقِيَهُ مِن مِثْقالِ ذَرَّةٍ وحَتّى يَتْرُكَ بَعْضَ ما يَرى أنَّهُ حَلالُ، خَشْيَةَ أنْ يَكُونَ حَرامًا، يَكُونُ حِجابًا بَيْنَهُ وبَيْنَ الحَرامِ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا عَنِ الحَسَنِ قالَ: ما زالَتِ التَّقْوى بِالمُتَّقِينَ حَتّى تَرَكُوا كَثِيرًا مِنَ الحَلالِ مَخافَةَ الحَرامِ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا عَنْ سُفْيانَ الثَّوْرِيِّ قالَ: إنَّما سُمُّوا المُتَّقِينَ لِأنَّهُمُ اتَّقَوْا ما لا يُتَّقى.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ المُبارَكِ قالَ: لَوْ أنَّ رَجُلًا اتَّقى مِائَةَ شَيْءٍ ولَمْ يَتَّقِ شَيْئًا واحِدًا، لَمْ يَكُنْ مِنَ المُتَّقِينَ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وابْنُ أبِي الدُّنْيا عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: تَمامُ التَّقْوى أنْ تَبْتَغِيَ عِلْمَ ما لَمْ تَعْلَمْ مِنها إلى ما قَدْ عَلِمْتَ مِنها.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا عَنْ أبِي رَجاءٍ قالَ: مَن سَرَّهُ أنْ يَكُونَ مُتَّقِيًا فَلْيَكُنْ أذَلَّ مِن قُعُودِ إبِلٍ كُلُّ مَن أتى عَلَيْهِ أرْغاهُ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا مِن طَرِيقِ مالِكِ بْنِ أنَسٍ، عَنْ وهْبِ بْنِ كَيْسانَ قالَ: كَتَبَ رَجُلٌ إلى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِمَوْعِظَةٍ، أمّا بَعْدُ، فَإنَّ لِأهْلِ التَّقْوى عَلاماتٍ يُعْرَفُونَ بِها ويَعْرِفُونَها مِن أنْفُسِهِمْ، مَن صَبَرَ عَلى البَلاءِ، ورَضِيَ بِالقَضاءِ وشَكَرَ النَّعْماءَ وذَلَّ لِحُكْمِ القُرْآنِ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا عَنِ ابْنِ المُبارَكِ قالَ: قالَ داوُدُ لِابْنِهِ سُلَيْمانَ عَلَيْهِما السَّلامُ: يا بُنَيَّ إنَّما تَسْتَدِلُّ عَلى تَقْوى الرَّجُلِ بِثَلاثَةِ أشْياءَ، بِحُسْنِ تَوَكُّلِهِ عَلى اللَّهِ فِيما نابَهُ، وبِحُسْنِ رِضاهُ فِيما أتاهُ، وبِحُسْنِ زُهْدِهِ فِيما فاتَهُ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا عَنْ سَهْمِ بْنِ مِنجابٍ قالَ: مَعْدِنٌ مِنَ التَّقْوى لا يَزالُ لِسانُكَ رَطْبًا مِن ذِكْرِ اللَّهِ.
وأخْرَجَ أحْمَدُ في“ الزُّهْدِ ”، وابْنُ أبِي الدُّنْيا عَنْ سَعِيدِ بْنِ أبِي سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ قالَ: بَلَغَنا أنَّ رَجُلًا جاءَ إلى عِيسى فَقالَ: يا مُعَلِّمَ الخَيْرِ كَيْفَ أكُونُ تَقِيًّا لِلَّهِ كَما يَنْبَغِي لَهُ؟ قالَ: بِيَسِيرٍ مِنَ الأمْرِ، تُحِبُّ اللَّهَ بِقَلْبِكَ كُلِّهِ وتَعْمَلُ بِكَدْحِكَ وقُوَّتِكَ ما اسْتَطَعْتَ وتَرْحَمُ ابْنَ جِنْسِكَ كَما تَرْحَمُ نَفْسَكَ، قالَ: مَنِ ابْنُ جِنْسِي يا مُعَلِّمَ الخَيْرِ؟ قالَ: ولَدُ آدَمَ كُلُّهم وما لا تُحِبُّ أنْ يُؤْتى إلَيْكَ فَلا تَأْتِهِ إلى أحَدٍ، فَأنْتَ تَقِيٌّ لِلَّهِ حَقًّا.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا عَنْ إياسِ بْنِ مُعاوِيَةَ قالَ: رَأْسُ التَّقْوى ومُعْظَمُهُ ألّا تَعْبُدَ شَيْئًا دُونَ اللَّهِ ثُمَّ تَتَفاضَلُ النّاسُ بِالتُّقى والنُّهى.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: فَواتِحُ التَّقْوى حُسْنُ النِّيَّةِ وخَواتِمُها التَّوْفِيقُ، والعَبْدُ فِيما بَيْنَ ذَلِكَ بَيْنَ هِلْكاتٍ وشُبُهاتٍ، ونَفْسٍ تَحْطِبُ عَلى سَلْوِها وعَدُوٍّ مَكِيدٍ غَيْرِ غافِلٍ ولا عاجِزٍ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا عَنْ مُحْرِزٍ الطُّفاوِيِّ قالَ: كَيْفَ يَرْجُو مَفاتِيحَ التَّقْوى مَن يُؤْثِرُ عَلى الآخِرَةِ الدُّنْيا.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ قالَ: لَيْسَ تَقْوى اللَّهِ بِصِيامِ النَّهارِ ولا بِقِيامِ اللَّيْلِ والتَّخْلِيطِ فِيما بَيْنَ ذَلِكَ، ولَكِنَّ تَقْوى اللَّهِ تَرْكُ ما حَرَّمَ اللَّهُ وأداءُ ما افْتَرَضَ اللَّهُ فَمَن رُزِقَ بَعْدَ ذَلِكَ خَيْرًا فَهو خَيْرٌ إلى خَيْرٍ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الفِرْيابِيِّ قالَ: قُلْتُ لِسُفْيانَ أرى النّاسَ يَقُولُونَ: سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ وأنْتَ تَنامُ اللَّيْلَ؟! فَقالَ لِي: اسْكُتْ، مِلاكُ هَذا الأمْرِ التَّقْوى.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا عَنْ شَبِيبِ بْنِ شَيْبَةَ قالَ: تَكَلَّمَ رَجُلٌ مِنَ الحُكَماءِ عِنْدَ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ مَرْوانَ، فَوَصَفَ المُتَّقِيَ فَقالَ: رَجُلٌ آثَرَ اللَّهَ عَلى خَلْقِهِ وآثَرَ الآخِرَةَ عَلى الدُّنْيا، ولَمْ تَكْرِثْهُ المُطالِبُ ولَمْ تَمْنَعْهُ المَطامِعُ، نَظَرَ بِبَصَرِ قَلْبِهِ إلى مَعالِي إرادَتِهِ فَسَما نَحْوَها مُلْتَمِسًا لَها، فَدَهْرُهُ مَخْزُونٌ يَبِيتُ إذا نامَ النّاسُ ذا شُجُونٍ ويُصْبِحُ مَغْمُومًا في الدُّنْيا مَسْجُونٌ، قَدِ انْقَطَعَتْ مِن هِمَّتِهِ الرّاحَةُ دُونَ مَنِيَّتِهِ فَشِفاؤُهُ القُرْآنُ ودَواؤُهُ الكَلِمَةُ مِنَ الحِكْمَةِ والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ لا يَرى مِنها الدُّنْيا عِوَضًا، ولا يَسْتَرِيحُ إلى لَذَّةٍ سِواها، فَقالَ عَبْدُ المَلِكِ: أشْهَدُ أنَّ هَذا أرْخى بالًا مِنّا وأنْعَمُ عَيْشًا.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وأبُو نُعَيْمٍ في“ الحِلْيَةِ " عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرانَ قالَ: لا يَكُونُ الرَّجُلُ مِنَ المُتَّقِينَ حَتّى يُحاسِبَ نَفْسَهُ أشَدَّ مِن مُحاسَبَةِ شَرِيكِهِ؛ حَتّى يَعْلَمَ مِن أيْنَ مَطْعَمُهُ ومِن أيْنَ مَلْبَسُهُ ومِن أيْنَ مَشْرَبُهُ أمِن حِلٍّ ذَلِكَ، أمْ مِن حَرامٍ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ، أنَّهُ لَمّا ولِيَ حَمِدَ اللَّهَ وأثْنى عَلَيْهِ، ثُمَّ قالَ: أُوصِيكم بِتَقْوى اللَّهِ فَإنَّ تَقْوى اللَّهِ خَلَفٌ مِن كُلِّ شَيْءٍ ولَيْسَ مِن تَقْوى اللَّهِ خَلَفٌ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ قالَ: أيُّها النّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ فَإنَّهُ لَيْسَ مِن هالِكٍ إلّا لَهُ خَلَفٌ إلّا التَّقْوى.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا عَنْ قَتادَةَ قالَ: لَمّا خَلَقَ اللَّهُ الجَنَّةَ قالَ لَها: تَكَلَّمِي. قالَتْ: طُوبى لِلْمُتَّقِينَ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا عَنْ مالِكِ بْنِ دِينارٍ قالَ: القِيامَةُ عُرْسُ المُتَّقِينَ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ الرَّحَبِيِّ قالَ: قِيلَ لِأبِي الدَّرْداءِ: إنَّهُ لَيْسَ أحَدٌ لَهُ بَيْتٌ في الأنْصارِ إلّا قالَ شِعْرًا فَما لَكَ لا تَقُولُ؟ قالَ: وأنا قُلْتُ فاسْتَمِعُوهُ:
يُرِيدُ المَرْءُ أنْ يُعْطى مُناهُ ويَأْبى اللَّهُ إلّا ما أرادا
يَقُولُ المَرْءُ فائِدَتِي وذُخْرِي ∗∗∗ وتَقْوى اللَّهِ أفْضَلُ ما اسْتَفادا
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ أبِي العَفِيفِ- وكانَ مِن أصْحابِ مُعاذِ بْنِ جَبَلٍ- قالَ: يَدْخُلُ أهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ عَلى أرْبَعَةِ أصْنافٍ، المُتَّقِينَ ثُمَّ الشّاكِرِينَ ثُمَّ الخائِفِينَ، ثُمَّ أصْحابِ اليَمِينِ.
تفسير القرآن العزيز — ابن أبي زمنين (٣٩٩ هـ)
﴿ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ﴾ [البقرة ٢]
﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ يَعْنِي: هَذَا الْكتاب لَا شكّ فِيهِ. ﴿هدى لِلْمُتقين﴾: الَّذين يَتَّقُونَ الشّرك.
الوجيز — الواحدي (٤٦٨ هـ)
﴿ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ﴾ [البقرة ٢]
﴿ذلك الكتاب﴾ أَيْ: هذا الكتاب يعني: القرآن ﴿لا ريب فيه﴾ أي: لاشك فيه أَيْ: إنَّه صدقٌ وحقٌّ وقيل لفظه لفظ خبرٍ ويُراد به النهي عن الارتياب قال: ﴿فلا رفث ولا فسوق﴾ ولا ريب فيه أنَّه ﴿هدىً﴾ : بيانٌ ودلالةٌ ﴿للمتقين﴾ : للمؤمنين الذين يتَّقون الشِّرْك في تخصيصه كتابه بالهدى للمتقين دلالةٌ على أنَّه ليس بهدىً لغيرهم وقد قال: ﴿والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر﴾
البحر المحيط — أبو حيان (٧٤٥ هـ)
﴿ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ﴾ [البقرة ٢]
﴿ذَلِكَ﴾ ذا: اسْمُ إشارَةٍ ثُنائِيُّ الوَضْعِ لَفْظًا، ثُلاثِيُّ الأصْلِ، لا أُحادِيُّ الوَضْعِ، وألِفُهُ لَيْسَتْ زائِدَةً، خِلافًا لِلْكُوفِيِّينَ والسُّهَيْلِيِّ، بَلْ ألِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ ياءٍ، ولامُهُ خِلافًا لِبَعْضِ البَصْرِيِّينَ في زَعْمِهِ أنَّها مُنْقَلِبَةٌ مِن واوٍ مِن بابِ طَوَيْتُ وهو مَبْنِيٌّ. ويُقالُ فِيهِ: ذا وذائِهِ وهو يَدُلُّ عَلى القُرْبِ، فَإذا دَخَلَتِ الكافُ فَقُلْتَ: ذاكَ دَلَّ عَلى التَّوَسُّطِ، فَإذا أدْخَلْتَ اللّامَ فَقُلْتَ: ذَلِكَ دَلَّ عَلى البُعْدِ، وبَعْضُ النَّحْوِيِّينَ رُتْبَةُ المُشارِ إلَيْهِ عِنْدَهُ قُرْبٌ وبُعْدٌ، فَمَتى كانَ مُجَرَّدًا مِنَ اللّامِ والكافِ كانَ لِلْقُرْبِ، ومَتى كانَتا فِيهِ أوْ إحْداهُما كانَ لِلْبُعْدِ، والكافُ حَرْفُ خِطابٍ تُبَيِّنُ أحْوالَ المُخاطَبِ مِن إفْرادٍ وتَثْنِيَةٍ وجَمْعٍ وتَذْكِيرٍ وتَأْنِيثٍ كَما تُبَيِّنُها إذا كانَ ضَمِيرًا، وقالُوا: ألِكَ في مَعْنى ذَلِكَ ؟ ولِاسْمِ الإشارَةِ أحْكامٌ ذُكِرَتْ في النَّحْوِ.
﴿الكِتابُ﴾ يُطْلَقُ بِإزاءِ مُعانِ العَقْدِ المَعْرُوفِ بَيْنَ العَبْدِ وسَيِّدِهِ عَلى مالٍ مُؤَجَّلٍ مُنَجَّمٍ لِلْعِتْقِ ﴿والَّذِينَ يَبْتَغُونَ الكِتابَ مِمّا مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ﴾ [النور: ٣٣]، وعَلى الفَرْضِ ﴿إنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلى المُؤْمِنِينَ كِتابًا مَوْقُوتًا﴾ [النساء: ١٠٣]، ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصاصُ﴾ [البقرة: ١٧٨]، ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ﴾ [البقرة: ١٨٣] وعَلى الحُكْمِ، قالَهُ الجَوْهَرِيُّ، لَأقْضِيَنَّ بَيْنَكُما بِكِتابِ اللَّهِ، كِتابُ اللَّهِ أحَقُّ، وعَلى القَدْرِ:
يا ابْنَةَ عَمِّي كِتابُ اللَّهِ أخْرَجَنِي عَنْكم وهَلْ أمْنَعَنَّ اللَّهَ ما فَعَلا.
أيْ قَدَرُ اللَّهِ، وعَلى مَصْدَرِ كَتَبْتُ تَقُولُ: كَتَبْتُ كِتابًا وكُتُبًا، ومِنهُ ﴿كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ [النساء: ٢٤]، وعَلى المَكْتُوبِ كالحِسابِ بِمَعْنى المَحْسُوبِ، قالَ:
بَشَرْتُ عِيالِي إذْ رَأيْتُ صَحِيفَةً ∗∗∗ أتَتْكَ مِنَ الحَجّاجِ يُتْلى كِتابُها.
﴿لا﴾ نافِيَةٌ، والنَّفْيُ أحَدُ أقْسامِها، وقَدْ تَقَدَّمَتْ.
﴿رَيْبَ﴾ الرَّيْبُ: الشَّكُّ بِتُهْمَةٍ، رابَ حَقَّقَ التُّهْمَةَ، قالَ:
لَيْسَ في الحَقِّ يا أُمَيَّةَ رَيْبُ ∗∗∗ إنَّما الرَّيْبُ ما يَقُولُ الكَذُوبُ.
وحَقِيقَةُ الرَّيْبِ قَلَقُ النَّفْسِ: «دَعْ ما يَرِيبُكَ إلى ما لا يَرِيبُكَ»، فَإنَّ الشَّكَّ رِيبَةٌ وإنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ، ومِنهُ: أنَّهُ مَرَّ بِظَنِّي خافِقٌ فَقالَ: لا يَرِبْهُ أحَدٌ بِشَيْءٍ، ورَيْبُ الدَّهْرِ: صَرْفُهُ وخَطْبُهُ.
﴿فِيهِ﴾ في لِلْوِعاءِ حَقِيقَةً أوْ مَجازًا، وزِيدَ لِلْمُصاحَبَةِ ولِلتَّعْلِيلِ ولِلْمُقايَسَةِ ولِمُوافَقَةِ عَلى والباءِ مِثْلُ ذَلِكَ زَيْدٌ في المَسْجِدِ ﴿ولَكم في القِصاصِ حَياةٌ﴾ [البقرة: ١٧٩]، ﴿ادْخُلُوا في أُمَمٍ﴾ [الأعراف: ٣٨]، ﴿لَمَسَّكم في ما أفَضْتُمْ﴾ [النور: ١٤]، ﴿فِي الحَياةِ الدُّنْيا وفي الآخِرَةِ﴾ [يونس: ٦٤]، ﴿فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾ [طه: ٧١]، ﴿يَذْرَؤُكم فِيهِ﴾ [الشورى: ١١]، أيْ يُكَثِّرُكم بِهِ. الهاءُ المُتَّصِلَةُ بِفي مِن فِيهِ ضَمِيرٌ غائِبٌ مُذَكَّرٌ مُفْرَدٌ، وقَدْ يُوصَلُ بِياءٍ، وهي قِراءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ، وحُكْمُ هَذِهِ الهاءِ بِالنِّسْبَةِ إلى الحَرَكَةِ والإسْكانِ والِاخْتِلاسِ والإشْباعِ في كُتُبِ النَّحْوِ.
﴿هُدًى﴾ الهُدى: مَصْدَرُ هَدى، وتَقَدَّمَ مَعْنى الهِدايَةِ، والهُدى مُذَكَّرٌ وبَنُو أسَدٍ يُؤَنِّثُونَهُ، يَقُولُونَ: هَذِهِ هَدًى حَسَنَةٌ، قالَهُ الفَرّاءُ في كِتابِ المُذَكَّرِ والمُؤَنَّثِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الهُدى لَفْظٌ مُؤَنَّثٌ، وقالَ اللِّحْيانِيُّ: هو مُذَكَّرٌ. انْتَهى كَلامُهُ. قالَ ابْنُ سِيدَهْ: والهُدى اسْمٌ مِن أسْماءِ النَّهارِ، قالَ ابْنُ مُقْبِلٍ:
حَتى اسْتَبَنْتُ الهُدى والبِيدُ هاجِمَةُ ∗∗∗ يَخْضَعْنَ في الآلِ غُلْفًا أو يُصَلِّينا.
وهُوَ عَلى وزْنِ فُعَلٍ كالسُّرى والبُكى. وزَعَمَ بَعْضُ أكابِرِ نُحاتِنا أنَّهُ لَمْ يَجِئْ مِن فُعَلٍ مَصْدَرٌ سِوى هَذِهِ الثَّلاثَةِ، ولَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَقَدْ ذَكَرَ لِي شَيْخُنا اللُّغَوِيُّ الإمامُ في ذَلِكَ رَضِيُّ الدِّينِ أبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يُوسُفَ الشّاطِبِيُّ أنَّ العَرَبَ قالَتْ: لَقِيتُهُ لُقًى، وأنْشَدَنا لِبَعْضِ العَرَبِ:
وقَدْ زَعَمُوا حُلْمًا لِقاكَ ولَمْ أزِدْ ∗∗∗ بِحَمَدِ الَّذِي أعْطاكَ حِلْمًا ولا عَقْلًا.
وقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ غَيْرُهُ مِنَ اللُّغَوِيِّينَ، وفُعَلٌ يَكُونُ جَمْعًا مَعْدُولًا وغَيْرَ مَعْدُولٍ، ومُفْرَدًا وعَلَمًا مَعْدُولًا وغَيْرَ مَعْدُولٍ، واسْمَ جِنْسٍ لِشَخْصٍ ولِمَعْنًى وصِفَةً مَعْدُولَةً وغَيْرَ مَعْدُولَةٍ، مِثْلُ ذَلِكَ: جُمَعٌ وغُرَفٌ وعُمَرٌ وأُدَدٌ ونُغَرٌ وهُدًى وفُسَقٌ وحُطَمٌ.
﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ المُتَّقِي اسْمُ فاعِلٍ مِنِ اتَّقى، وهو افْتَعَلَ مِن وقى بِمَعْنى حَفَظَ وحَرَسَ، وافْتَعَلَ هُنا لِلِاتِّخاذِ أيِ اتَّخَذَ وِقايَةً، وهو أحَدُ المَعانِي الاِثْنى عَشَرَ الَّتِي جاءَتْ لَها افْتَعَلَ، وهو: الِاتِّخاذُ، والتَّسَبُّبُ، وفِعْلُ الفاعِلِ بِنَفْسِهِ، والتَّخَيُّرُ، والخَطْفَةُ، ومُطاوَعَةُ افَّعَلَ، وفَعَّلَ، ومُوافَقَةُ تَفاعَلَ، وتَفَعَّلَ، واسْتَفْعَلَ، والمُجَرَّدُ، والإغْناءُ عَنْهُ، مِثْلُ ذَلِكَ: اطَّبَخَ، واعْتَمَلَ واضْطَرَبَ، وانْتَخَبَ، واسْتَلَبَ، وانْتَصَفَ مُطاوِعُ أنْصَفَ، واغْتَمَّ مُطاوِعُ غَمَمْتُهُ، واجْتَوَرَ وابْتَسَمَ، واعْتَصَمَ، واقْتَدَرَ، واسْتَلَمَ الحَجَرَ. وإبْدالُ الواوِ في اتَّقى تاءً وحَذْفُها مَعَ هَمْزَةِ الوَصْلِ قَبْلَها فَيَبْقى تَقى مَذْكُورٌ في عِلْمِ التَّصْرِيفِ.
* * *
(فَأمّا هَذِهِ الحُرُوفُ المُقَطَّعَةُ أوائِلُ السُّوَرِ) فَجُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ عَلى أنَّها حُرُوفٌ مُرَكَّبَةٌ ومُفْرَدَةٌ، وغَيْرُهم يَذْهَبُ إلى أنَّها أسْماءٌ عُبِّرَ بِها عَنْ حُرُوفِ المُعْجَمِ الَّتِي يُنْطَقُ بِالألِفِ واللّامِ مِنها في نَحْوِ: قالَ، والمِيمِ في نَحْوِ: مَلَكَ، وبَعْضُهم يَقُولُ: إنَّها أسْماءُ السُّوَرِ، قالَهُ زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ. وقالَ قَوْمٌ: إنَّها فَواتِحُ لِلتَّنْبِيهِ والِاسْتِئْنافِ لِيُعْلَمَ أنَّ الكَلامَ الأوَّلَ قَدِ انْقَضى. قالَ مُجاهِدٌ: هي في فَواتِحِ السُّوَرِ كَما يَقُولُونَ في أوَّلِ الإنْشادِ لِشَهِيرِ القَصائِدِ. بَلْ ولا بَلْ نَحا هَذا النَّحْوَ أبُو عُبَيْدَةَ والأخْفَشُ. وقالَ الحَسَنُ: هي أسْماءُ السُّوَرِ وفَواتِحُها، وقَوْمٌ: إنَّها أسْماءُ اللَّهِ أقْسامٌ أقْسَمَ اللَّهُ بِها لِشَرَفِها وفَضْلِها. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وقَوْمٍ: هي حُرُوفٌ مُتَفَرِّقَةٌ دَلَّتْ عَلى مَعانٍ مُخْتَلِفَةٍ، وهَؤُلاءِ اخْتَلَفُوا في هَذِهِ المَعانِي، فَقالَ قَوْمٌ: يَتَألَّفُ مِنها اسْمُ اللَّهِ الأعْظَمُ، قالَهُ عَلِيٌّ وابْنُ عَبّاسٍ، إلّا أنّا لا نَعْرِفُ تَأْلِيفَهُ مِنها، أوِ اسْمُ مَلَكٍ مِن مَلائِكَتِهِ، أوْ نَبِيٍّ مِن أنْبِيائِهِ، لَكِنْ جَهِلْنا طَرِيقَ التَّأْلِيفِ. وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هي أسْماءُ اللَّهِ - تَعالى - مُقَطَّعَةٌ، لَوْ أحْسَنَ النّاسُ تَأْلِيفَها تَعَلَّمُوا اسْمَ اللَّهِ الأعْظَمَ. وقالَ قَتادَةُ: هي أسْماءُ القُرْآنِ كالفُرْقانِ. وقالَ أبُو العالِيَةِ: لَيْسَ مِنها حَرْفٌ إلّا وهو مِفْتاحُ اسْمٍ مِن أسْماءِ اللَّهِ - تَعالى - . وقِيلَ: هي حُرُوفٌ تَدُلُّ عَلى مُدَّةِ المِلَّةِ، وهي حِسابُ أبِي جادٍ، كَما ورَدَ في حَدِيثِ حُيَيِّ بْنِ أخْطَبَ. ورُوِيَ هَذا عَنْ أبِي العالِيَةِ وغَيْرِهِ. وقِيلَ: مُدَّةُ الأُمَمِ السّالِفَةِ، وقِيلَ: مُدَّةُ الدُّنْيا. وقالَ أبُو العالِيَةِ أيْضًا: لَيْسَ مِنها حَرْفٌ إلّا وهو في مُدَّةِ قَوْمٍ وآجالِ آخَرِينَ. وقِيلَ: هي إشارَةٌ إلى حُرُوفِ المُعْجَمِ، كَأنَّهُ قالَ لِلْعَرَبِ: إنَّما تَحَدَّيْتُكم بِنَظْمٍ مِن هَذِهِ الحُرُوفِ الَّتِي عَرَفْتُمْ. وقالَ قُطْرُبٌ وغَيْرُهُ: هي إشارَةٌ إلى حُرُوفِ المُعْجَمِ، كَأنَّهُ يَقُولُ لِلْعَرَبِ: إنَّما تَحَدَّيْتُكم بِنَظْمٍ مِن هَذِهِ الحُرُوفِ الَّتِي عَرَفْتُمْ، فَقَوْلُهُ: ﴿الم﴾ [البقرة: ١] بِمَنزِلَةِ: أ ب ت ث، لِيَدُلَّ بِها عَلى التِّسْعَةِ وعِشْرِينَ حَرْفًا. وقالَ قَوْمٌ: هي تَنْبِيهٌ كَما في النِّداءِ. وقالَ قَوْمٌ: إنَّ المُشْرِكِينَ لَمّا أعْرَضُوا عَنْ سَماعِ القُرْآنِ بِمَكَّةَ نَزَلَتْ لِيَسْتَغْرِبُوها فَيَفْتَحُونَ لَها أسْماعَهم فَيَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ بَعْدَها فَتَجِبُ عَلَيْهِمُ الحُجَّةَ. وقِيلَ: هي أمارَةٌ لِأهْلِ الكِتابِ أنَّهُ سَيَنْزِلُ عَلى مُحَمَّدٍ ﷺ كِتابٌ في أوَّلِ سُوَرٍ مِنهُ حُرُوفٌ مُقَطَّعَةٌ، وقِيلَ: حُرُوفٌ تَدُلُّ عَلى ثَناءٍ أثْنى اللَّهُ بِهِ عَلى نَفْسِهِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: (ألم) أنا اللَّهُ أعْلَمُ، والمُرادُ أنا اللَّهُ أرى، و﴿المص﴾ [الأعراف: ١] أنا اللَّهُ أفْصِلُ. ورُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلُ ذَلِكَ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ الألِفُ مِنَ اللَّهِ، واللّامُ مِن جِبْرِيلَ، والمِيمُ مِن مُحَمَّدٍ. وقالَ الأخْفَشُ: هي مَبادِئُ كُتُبِ اللَّهِ المُنَزَّلَةِ بِالألْسُنِ المُخْتَلِفَةِ ومَبانٍ مِن أسْماءِ اللَّهِ الحُسْنى وصِفاتِهِ العُلى وأُصُولِ كَلامِ الأُمَمِ. وقالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنَسٍ: ما مِنها حَرْفٌ إلّا يَتَضَمَّنُ أُمُورًا كَثِيرَةً دارَتْ فِيها الألْسُنُ، ولَيْسَ فِيها حَرْفٌ إلّا وهو مِفْتاحُ اسْمٍ مِن أسْمائِهِ، ولَيْسَ مِنها حَرْفٌ إلّا وهو في الأبَدِ ولِلْأبَدِ، ولَيْسَ مِنها حَرْفٌ إلّا في مُدَّةِ قَوْمٍ وآجالِهِمْ. وقالَ قَوْمٌ: مَعانِيها مَعْلُومَةٌ عِنْدَ المُتَكَلِّمِ بِها لا يَعْلَمُها إلّا هو، ولِهَذا قالَ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: في كِتابِ اللَّهِ سِرٌّ، وسِرُّ اللَّهِ في القُرْآنِ في الحُرُوفِ الَّتِي في أوائِلِ السُّوَرِ. وبِهِ قالَ الشَّعْبِيُّ. وقالَ سَلَمَةُ بْنُ القاسِمِ: ما قامَ الوُجُودُ كُلُّهُ إلّا بِأسْماءِ اللَّهِ الباطِنَةِ والظّاهِرَةِ، وأسْماءِ اللَّهِ المُعْجَمَةِ الباطِنَةِ أصْلٌ لِكُلِّ شَيْءٍ مِن أُمُورِ الدُّنْيا والآخِرَةِ، وهي خِزانَةُ سِرِّهِ ومَكْنُونُ عِلْمِهِ، ومِنها تَتَفَرَّعُ أسْماءُ اللَّهِ كُلُّها، وهي الَّتِي قَضى بِها الأُمُورَ وأوْدَعَها أُمَّ الكِتابِ، وعَلى هَذا حَوَّمَ جَماعَةٌ مِنَ القائِلِينَ بِعُلُومِ الحُرُوفِ، ومِمَّنْ تَكَلَّمَ في ذَلِكَ أبُو الحَكَمِ بْنُ بُرْجانَ، ولَهُ تَفْسِيرٌ لِلْقُرْآنِ، والبَوْنِيُّ وفَسَّرَ القُرْآنَ، والطّائِيُّ بْنُ العَرَبِيِّ، والجَلالِيُّ، وابْنُ حَمُّوَيْهِ، وغَيْرُهم، وبَيْنَهُمُ اخْتِلافٌ في ذَلِكَ. وسُئِلَ مُحَمَّدُ بْنُ الحَنَفِيَّةِ عَنْ ﴿كهيعص﴾ [مريم: ١] فَقالَ لِلسّائِلِ: لَوْ أُخْبِرْتَ بِتَفْسِيرِها لَمَشَيْتَ عَلى الماءِ لا يُوارِي قَدَمَيْكَ. وقالَ قَوْمٌ: مَعانِيها مَعْلُومَةٌ، ويَأْتِي بَيانُ كُلِّ حَرْفٍ في مَوْضِعِهِ. وقالَ قَوْمٌ: اخْتَصَّ اللَّهُ بِعِلْمِها نَبِيَّهُ ﷺ . وقَدْ أنْكَرَ جَماعَةٌ مِنَ المُتَكَلِّمِينَ أنْ يَكُونَ في القُرْآنِ ما لا يُفْهَمُ مَعْناهُ، فانْظُرْ إلى هَذا الِاخْتِلافِ المُنْتَشِرِ الَّذِي لا يَكادُ يَنْضَبِطُ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الحُرُوفِ والكَلامِ عَلَيْها. والَّذِي أذْهَبُ إلَيْهِ أنَّ هَذِهِ الحُرُوفَ الَّتِي في فَواتِحِ السُّوَرِ هو المُتَشابِهُ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، وسائِرُ كَلامِهِ تَعالى مُحْكَمٌ. وإلى هَذا ذَهَبَ أبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بْنُ أحْمَدَ اليَزِيدِيُّ، وهو قَوْلُ الشَّعْبِيِّ والثَّوْرِيِّ وجَماعَةٍ مِنَ المُحْدَثِينَ، قالُوا: هي سِرُّ اللَّهِ في القُرْآنِ، وهي مِنَ المُتَشابِهِ الَّذِي انْفَرَدَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، ولا يَجِبُ أنْ نَتَكَلَّمَ فِيها، ولَكِنْ نُؤْمِنُ بِها وتَمُرُّ كَما جاءَتْ. وقالَ الجُمْهُورُ: بَلْ يَجِبُ أنْ يُتَكَلَّمَ فِيها وتُلْتَمَسَ الفَوائِدُ الَّتِي تَحْتَها والمَعانِي الَّتِي تَتَخَرَّجُ عَلَيْها، واخْتَلَفُوا في ذَلِكَ الِاخْتِلافَ الَّذِي قَدَّمْناهُ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والصَّوابُ ما قالَ الجُمْهُورُ، فَنُفَسِّرُ هَذِهِ الحُرُوفَ ونَلْتَمِسُ لَها التَّأْوِيلَ؛ لِأنّا نَجِدُ العَرَبَ قَدْ تَكَلَّمَتْ بِالحُرُوفِ المُقَطَّعَةِ نَظْمًا ووَضْعًا بَدَلَ الكَلِماتِ الَّتِي الحُرُوفُ مِنها، كَقَوْلِ الشّاعِرِ:
قُلْتُ لَها قِفِي فَقالَتْ قافِ.
أرادَ قالَتْ وقَفْتُ، وكَقَوْلِ القائِلِ:
بِالخَيْرِ خَيْراتٌ وإنْ شَرُفا ∗∗∗ ولا أُرِيدُ الشَّرَّ إلّا أنْ تَآ.
أرادَ وإنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وأرادَ إلّا أنْ تَشاءَ، والشَّواهِدُ في هَذا كَثِيرَةٌ، فَلَيْسَ كَوْنُها في القُرْآنِ مِمّا تُنْكِرُهُ العَرَبُ في لُغَتِها، فَيَنْبَغِي إذا كانَ مِن مَعْهُودِ كَلامِ العَرَبِ أنْ يُطْلَبَ تَأْوِيلُهُ ويُلْتَمَسَ وجْهُهُ، انْتَهى كَلامُهُ. وفَرَّقَ بَيْنَ ما أنْشَدَ وبَيْنَ هَذِهِ الحُرُوفِ. وقَدْ أطالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وغَيْرُهُ الكَلامَ عَلى هَذِهِ الحُرُوفِ بِما لَيْسَ يَحْصُلُ مِنهُ كَبِيرُ فائِدَةٍ في عِلْمِ التَّفْسِيرِ، ولا يَقُومُ عَلى كَثِيرٍ مِن دَعاوِيهِ بُرْهانٌ. وقَدْ تَكَلَّمَ المُعْرِبُونَ عَلى هَذِهِ الحُرُوفِ فَقالُوا: لَمْ تُعْرَبْ حُرُوفُ التَّهَجِّي لِأنَّها أسْماءُ ما يُلْفَظُ، فَهي كالأصْواتِ فَلا تُعْرَبُ إلّا إذا أخْبَرْتَ عَنْها أوْ عَطَفْتَها فَإنَّكَ تُعْرِبُها، ويَحْتَمِلُ مَحَلُّها الرَّفْعَ عَلى المُبْتَدَأِ أوْ عَلى إضْمارِ المُبْتَدَأِ، والنَّصْبَ بِإضْمارِ فِعْلٍ، والجَرَّ عَلى إضْمارِ حَرْفِ القَسَمِ، هَذا إذا جَعَلْناها اسْمًا لِلسُّوَرِ، وأمّا إذا لَمْ تَكُنِ اسْمًا لِلسُّوَرِ فَلا مَحَلَّ لَها؛ لِأنَّها إذْ ذاكَ كَحُرُوفِ المُعْجَمِ أُورِدَتْ مُفْرَدَةً مِن غَيْرِ عامِلٍ فاقْتَضَتْ أنْ تَكُونَ مُسْتَكِنَّةً كَأسْماءِ الأعْدادِ، أوْرَدْتُها لِمُجَرَّدِ العَدَدِ بِغَيْرِ عَطْفٍ. وقَدْ تَكَلَّمَ النَّحْوِيُّونَ عَلى هَذِهِ الحُرُوفِ عَلى أنَّها أسْماءُ السُّوَرِ، وتَكَلَّمُوا عَلى ما يُمْكِنُ إعْرابُهُ مِنها وما لا يُمْكِنُ، وعَلى ما إذا أُعْرِبَ فَمِنهُ ما يُمْنَعُ الصَّرْفَ، ومِنهُ ما لا يُمْنَعُ الصَّرْفَ، وتَفْصِيلُ ذَلِكَ في عِلْمِ النَّحْوِ. وقَدْ نُقِلَ خِلافٌ في كَوْنِ هَذِهِ الحُرُوفِ آيَةً، فَقالَ الكُوفِيُّونَ: ﴿الم﴾ [البقرة: ١] آيَةٌ، وكَذَلِكَ هي آيَةٌ في أوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ ذُكِرَتْ فِيها، وكَذَلِكَ ﴿المص﴾ [الأعراف: ١] و﴿طسم﴾ [الشعراء: ١] وأخَواتُها و﴿طه﴾ [طه: ١] و﴿يس﴾ [يس: ١] و﴿حم﴾ [غافر: ١] وأخَواتُها إلّا ﴿حم﴾ [الشورى: ١] ﴿عسق﴾ [الشورى: ٢] فَإنَّها آيَتانِ و﴿كهيعص﴾ [مريم: ١] آيَةُ، وأمّا ﴿المر﴾ [الرعد: ١] وأخَواتُها فَلَيْسَتْ بِآيَةٍ، وكَذَلِكَ ﴿طس﴾ [النمل: ١] و﴿ص﴾ [ص: ١] و﴿ق﴾ [ق: ١] و﴿ن والقَلَمِ﴾ [القلم: ١]، و﴿ق﴾ [ق: ١] و﴿ص﴾ [ص: ١] حُرُوفٌ دَلَّ كُلُّ حَرْفٍ مِنها عَلى كَلِمَةٍ، وجَعَلَوْا الكَلِمَةَ آيَةً، كَما عَدُّوا: ﴿الرَّحْمَنُ﴾ [الرحمن: ١] و﴿مُدْهامَّتانِ﴾ [الرحمن: ٦٤] آيَتَيْنِ. وقالَ البَصْرِيُّونَ وغَيْرُهم: لَيْسَ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ آيَةً. وذَكَرَ المُفَسِّرُونَ الِاقْتِصارَ عَلى هَذِهِ الحُرُوفِ في أوائِلِ السُّوَرِ، وأنَّ ذَلِكَ الِاقْتِصارَ كانَ لِوُجُوهٍ ذَكَرُوها لا يَقُومُ عَلى شَيْءٍ مِنها بِرِهانٌ، فَتَرَكْتُ ذِكْرَها. وذَكَرُوا أنَّ التَّرْكِيبَ مِن هَذِهِ الحُرُوفِ انْتَهى إلى خَمْسَةٍ، وهو: ﴿كهيعص﴾ [مريم: ١]؛ لِأنَّهُ أقْصى ما يَتَرَكَّبُ مِنهُ الِاسْمُ المُجَرَّدُ. وقَطَعَ ابْنُ القَعْقاعِ (ألِفٌ لامٌ مِيمٌ) حَرْفًا حَرْفًا بِوَقْفَةٍ وقْفَةٍ، وكَذَلِكَ سائِرَ حُرُوفِ التَّهَجِّي مِنَ الفَواتِحِ، وبَيْنَ النُّونِ مِن طسم ويس وعسق ونُونٍ إلّا في طس تِلْكَ فَإنَّهُ لَمْ يُظْهِرْ. وذَلِكَ اسْمُ مُشارٍ بَعِيدٍ، ويَصِحُّ أنْ يَكُونَ في قَوْلِهِ ﴿ذَلِكَ الكِتابُ﴾ عَلى بابِهِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ ولا حاجَةَ إلى إطْلاقِهِ بِمَعْنى هَذا، كَما ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُهم فَيَكُونُ لِلْقَرِيبِ، فَإذا حَمَلْناهُ عَلى مَوْضُوعِهِ فالمُشارِ إلَيْهِ ما نَزَلَ بِمَكَّةَ مِنَ القُرْآنِ، قالَهُ ابْنُ كَيْسانَ وغَيْرُهُ، أوِ التَّوْراةُ والإنْجِيلُ، قالَهُ عِكْرِمَةُ، أوْ ما في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ، قالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ، أوْ ما وعَدَ بِهِ نَبِيَّهُ ﷺ مِن أنَّهُ يُنَزِّلُ إلَيْهِ كِتابًا لا يَمْحُوهُ الماءُ ولا يَخْلَقُ عَلى كَثْرَةِ الرَّدِّ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، أوِ الكِتابُ الَّذِي وعَدَ بِهِ يَوْمَ المِيثاقِ، قالَهُ عَطاءُ بْنُ السّائِبِ، أوِ الكِتابُ الَّذِي ذَكَرْتُهُ في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ، قالَهُ ابْنُ رِئابٍ، أوِ الَّذِي لَمْ يَنْزِلْ مِنَ القُرْآنِ، أوِ البُعْدُ بِالنِّسْبَةِ إلى الغايَةِ الَّتِي بَيْنَ المُنْزَلِ والمُنْزَلِ إلَيْهِ، أوْ ذَلِكَ إشارَةٌ إلى حُرُوفِ المُعْجَمِ الَّتِي تَحَدَّيْتُكم بِالنَّظْمِ مِنها. وسَمِعْتُ الأُسْتاذَ أبا جَعْفَرِ بْنَ إبْراهِيمَ بْنِ الزُّبَيْرِ شَيْخَنا يَقُولُ: ذَلِكَ إشارَةٌ إلى الصِّراطِ في قَوْلِهِ: ﴿اهْدِنا الصِّراطَ﴾ [الفاتحة: ٦]، كَأنَّهم لَمّا سَألُوا الهِدايَةَ إلى الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ قِيلَ لَهم: ذَلِكَ الصِّراطُ الَّذِي سَألْتُمُ الهِدايَةَ إلَيْهِ هو الكِتابُ. وبِهَذا الَّذِي ذَكَرَهُ الأُسْتاذُ تَبَيَّنَ وجْهُ ارْتِباطِ سُورَةِ البَقَرَةِ بِسُورَةِ الحَمْدِ، وهَذا القَوْلُ أولى لِأنَّهُ إشارَةٌ إلى شَيْءٍ سَبَقَ ذِكْرُهُ، لا إلى شَيْءٍ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ، وقَدْ رَكَّبُوا وُجُوهًا مِنَ الإعْرابِ في قَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ الكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ﴾ . والَّذِي نَخْتارُهُ مِنها أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ذَلِكَ الكِتابُ﴾ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ مِن مُبْتَدَأٍ وخَبَرٍ؛ لِأنَّهُ مَتى أمْكَنَ حَمْلُ الكَلامِ عَلى غَيْرِ إضْمارٍ ولا افْتِقارٍ، كانَ أولى أنْ يَسْلُكَ بِهِ الإضْمارَ والِافْتِقارَ، وهَكَذا تَكُونُ عادَتُنا في إعْرابِ القُرْآنِ، لا نَسْلُكُ فِيهِ إلّا الحَمْلَ عَلى أحْسَنِ الوُجُوهِ، وأبْعَدِها مِنَ التَّكَلُّفِ، وأسْوَغِها في لِسانِ العَرَبِ. ولَسْنا كَمَن جَعَلَ كَلامَ اللَّهِ - تَعالى - كَشِعْرِ امْرِئِ القَيْسِ، وشِعْرِ الأعْشى، يُحَمِّلُهُ جَمِيعَ ما يَحْتَمِلَهُ اللَّفْظُ مِن وُجُوهِ الِاحْتِمالاتِ. فَكَما أنَّ كَلامَ اللَّهِ مِن أفْصَحِ كَلامٍ، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي إعْرابُهُ أنْ يُحْمَلَ عَلى أفْصَحِ الوُجُوهِ، هَذا عَلى أنّا إنَّما نَذْكُرُ كَثِيرًا مِمّا ذَكَرُوهُ لِيَنْظُرَ فِيهِ، فَرُبَّما يَظْهَرُ لِبَعْضِ المُتَأمِّلِينَ تَرْجِيحُ شَيْءٍ مِنهُ، فَقالُوا: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَبَرًا لْمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ هو ذَلِكَ الكِتابُ، والكِتابُ صِفَةٌ أوْ بَدَلٌ أوْ عَطْفُ بَيانٍ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وما بَعْدَهُ خَبَرًا. وفي مَوْضِعِ خَبَرِ ﴿الم﴾ [البقرة: ١] و﴿لا رَيْبَ﴾ جُمْلَةٌ تَحْتَمِلُ الِاسْتِئْنافَ، فَلا يَكُونُ لَها مَوْضِعٌ مِنَ الإعْرابِ، وأنْ تَكُونَ في مَوْضِعِ خَبَرٍ لِـ (ذَلِكَ)، والكِتابُ صِفَةٌ أوْ بَدَلٌ أوْ عَطْفٌ أوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، إذا كانَ الكِتابُ خَبَرًا، وقُلْتُ بِتَعَدُّدِ الأخْبارِ الَّتِي لَيْسَتْ في مَعْنى خَبَرٍ واحِدٍ، وهَذا أوْلى بِالبُعْدِ لِتَبايُنِ أحَدِ الخَبَرَيْنِ؛ لِأنَّ الأوَّلَ مُفْرَدٌ والثّانِي جُمْلَةٌ، وأنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ نَصْبٍ أيْ مُبَرَّأٍ مِنَ الرَّيْبِ، وبَنّاءُ رَيْبٍ مَعَ لا يَدُلُّ عَلى أنَّها العامِلَةُ عَمَلَ إنْ، فَهو في مَوْضِعِ نَصْبٍ ولا وهو في مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِداءِ، فالمَرْفُوعُ بَعْدَهُ عَلى طَرِيقِ الإسْنادِ خَبَرٌ لِذَلِكَ المُبْتَدَأِ فَلَمْ تَعْمَلْ حالَةُ البِناءِ إلّا النَّصْبَ في الِاسْمِ فَقَطْ، هَذا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ. وأمّا الأخْفَشُ فَذَلِكَ المَرْفُوعُ خَبَرٌ لِلا، فَعَمِلَتْ عِنْدَهُ النَّصْبَ والرَّفْعَ، وتَقْرِيرُ هَذا في كُتُبِ النَّحْوِ. وإذا عَمِلَتْ عَمَلَ إنْ أفادَتِ الِاسْتِغْراقَ فَنَفَتْ هُنا كُلَّ رَيْبٍ، والفَتْحُ هو قِراءَةُ الجُمْهُورِ. وقَرَأ أبُو الشَّعْثاءِ: ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ بِالرَّفْعِ، وكَذا قِراءَةُ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ حَيْثُ رَفَعَ، والمُرادُ أيْضًا هُنا الِاسْتِغْراقُ، لا مِنَ اللَّفْظِ بَلْ مِن دَلالَةِ المَعْنى؛ لِأنَّهُ لا يُرِيدُ نَفْيَ رَيْبٍ واحِدٍ عَنْهُ، وصارَ نَظِيرَ مَن قَرَأ: ﴿فَلا رَفَثَ ولا فُسُوقَ﴾ [البقرة: ١٩٧] بِالبِناءِ والرَّفْعِ، لَكِنَّ البِناءَ يَدُلُّ بِلَفْظِهِ عَلى قَضِيَّةِ العُمُومِ، والرَّفْعَ لا يَدُلُّ لِأنَّهُ يَحْتَمِلُ العُمُومَ، ويَحْتَمِلُ نَفْيَ الوَحْدَةِ، لَكِنَّ سِياقَ الكَلامِ يُبَيِّنُ أنَّ المُرادَ العُمُومُ، ورَفْعُهُ عَلى أنْ يَكُونَ رَيْبٌ مُبْتَدَأً وفِيهِ الخَبَرُ، وهَذا ضَعِيفٌ لِعَدَمِ تَكْرارِ لا، أوْ يَكُونُ عَمَلُها إعْمالَ لَيْسَ، فَيَكُونُ فِيهِ في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى قَوْلِ الجُمْهُورِ مِن أنَّ لا إذا عَمِلَتْ عَمَلَ لَيْسَ رَفَعَتِ الِاسْمَ ونَصَبَتِ الخَبَرَ، أوْ عَلى مَذْهَبِ مَن يَنْسِبُ العَمَلَ لَها في رَفْعِ الِاسْمِ خاصَّةً، وأمّا الخَبَرُ فَمَرْفُوعٌ لِأنَّها وما عَمِلَتْ فِيهِ في مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِداءِ كَحالِها إذا نَصَبَتْ وبُنِيَ الِاسْمُ مَعَها، وذَلِكَ في مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وسَيَأْتِي الكَلامُ مُشَبَّعًا في ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلا رَفَثَ ولا فُسُوقَ ولا جِدالَ في الحَجِّ﴾ [البقرة: ١٩٧]، وحَمْلُ لا في قِراءَةِ لا رَيْبَ عَلى أنَّها تَعْمَلُ عَمَلَ لَيْسَ ضَعِيفٌ لِقِلَّةِ إعْمالِ لا عَمَلَ لَيْسَ، فَلِهَذا كانَتْ هَذِهِ القِراءَةُ ضَعِيفَةً. وقَرَأ الزُّهْرِيُّ وابْنُ مُحَيْصِنٍ ومُسْلِمُ بْنُ جُنْدُبٍ وعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: فِيهِ، بِضَمِّ الهاءِ، وكَذَلِكَ إلَيْهِ وعَلَيْهِ وبِهِ ونُصْلِهِ ونُوَلِّهِ وما أشْبَهَ ذَلِكَ، حَيْثُ وقَعَ عَلى الأصْلِ. وقَرَأ ابْنُ أبِي إسْحاقَ: فَهو، بِضَمِّ الهاءِ ووَصْلِها بِواوٍ، وجَوَّزُوا في قَوْلِهِ أنْ يَكُونَ خَبَرًا لِلا عَلى مَذْهَبِ الأخْفَشِ، وخَبَرًا لَها مَعَ اسْمِها عَلى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، أنْ يَكُونَ صِفَةً والخَبَرُ مَحْذُوفٌ، وأنْ يَكُونَ مِن صِلَةِ (رَيْبَ) بِمَعْنى أنَّهُ يُضْمَرُ عامِلٌ مِن لَفْظِ (رَيْبَ) فَيَتَعَلَّقُ بِهِ، إلّا أنَّهُ يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِنَفْسِ لا رَيْبَ، إذْ يَلْزَمُ إذْ ذاكَ إعْرابُهُ؛ لِأنَّهُ يَصِيرُ اسْمَ لا مُطَوَّلًا بِمَعْمُولِهِ نَحْوَ لا ضارِبًا زَيْدًا عِنْدَنا، والَّذِي نَخْتارُهُ أنَّ الخَبَرَ مَحْذُوفٌ لِأنَّ الخَبَرَ في بابِ لا العامِلَةِ عَمَلَ إنَّ إذا عُلِمَ لَمْ تَلْفِظْ بِهِ بَنُو تَمِيمٍ، وكَثُرَ حَذْفُهُ عِنْدَ أهْلِ الحِجازِ، وهو هُنا مَعْلُومٌ، فَأحْمِلُهُ عَلى أحْسَنِ الوُجُوهِ في الإعْرابِ، وإدْغامُ الباءِ مِن لا رَيْبَ في فاءِ فِيهِ مَرْوِيٌّ عَنْ أبِي عَمْرٍو، والمَشْهُورُ عَنْهُ الإظْهارُ، وهي رِوايَةُ اليَزِيدِيِّ عَنْهُ. وقَدْ قَرَأْتُهُ بِالوَجْهَيْنِ عَلى الأُسْتاذِ أبِي جَعْفَرِ بْنِ الطَّبّاعِ بِالأنْدَلُسِ، ونَفْيُ الرَّيْبِ يَدُلُّ عَلى نَفْيِ الماهِيَّةِ، أيْ لَيْسَ مِمّا يَحِلُّهُ الرَّيْبُ ولا يَكُونُ فِيهِ، ولا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلى نَفْيِ الِارْتِيابِ لِأنَّهُ قَدْ وقَعَ ارْتِيابٌ مِن ناسٍ كَثِيرِينَ. فَعَلى ما قُلْناهُ لا يَحْتاجُ إلى حَمْلِهِ عَلى نَفْيِ التَّعْلِيقِ والمَظِنَّةِ، كَما حَمَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، ولا يَرُدُّ عَلَيْنا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ﴾ [البقرة: ٢٣] لِاخْتِلافِ الحالِ والمَحَلِّ، فالحالُ هُناكَ المُخاطَبُونَ، والرَّيْبُ هو المَحَلُّ، والحالُ هُنا مَنفِيٌّ، والمَحَلُّ الكِتابُ، فَلا تَنافِيَ بَيْنَ كَوْنِهِمْ في رَيْبٍ مِنَ القُرْآنِ وكَوْنِ الرَّيْبَ مَنفِيًّا عَنِ القُرْآنِ. وقَدْ قَيَّدَ بَعْضُهُمُ الرَّيْبَ فَقالَ: لا رَيْبَ فِيهِ عِنْدَ المُتَكَلِّمِ بِهِ، وقِيلَ: هو عُمُومٌ يُرادُ بِهِ الخُصُوصُ، أيْ عِنْدَ المُؤْمِنِينَ، وبَعْضُهم جَعَلَهُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ لا سَبَبَ فِيهِ لِوُضُوحِ آياتِهِ وإحْكامِ مَعانِيهِ وصِدْقِ أخْبارِهِ.
وهَذِهِ التَّقادِيرُ لا يُحْتاجُ إلَيْها. واخْتِيارُ الزَّمَخْشَرِيِّ أنَّ فِيهِ خَبَرٌ، وبِذَلِكَ بَنى عَلَيْهِ سُؤالًا وهو أنْ قالَ: هَلّا قُدِّمَ الظَّرْفُ عَلى الرَّيْبِ كَما قُدِّمَ عَلى القَوْلِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا فِيها غَوْلٌ﴾ [الصافات: ٤٧] ؟ وأجابَ بِأنَّ التَّقْدِيمَ يُشْعِرُ بِما يَبْعُدُ عَنِ المُرادِ، وهو أنَّ كِتابًا غَيْرُهُ فِيهِ الرَّيْبُ، كَما قَصَدَ في قَوْلِهِ: ﴿لا فِيها غَوْلٌ﴾ [الصافات: ٤٧] تَفْضِيلُ خَمْرِ الجَنَّةِ عَلى خُمُورِ الدُّنْيا بِأنَّها لا تَغْتالُ العُقُولَ كَما تَغْتالُها هي، كَأنَّهُ قِيلَ: لَيْسَ فِيها ما في غَيْرِها مِن هَذا العَيْبِ والنَّقِيصَةِ. وقَدِ انْتَقَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِن دَعْوى الِاخْتِصاصِ بِتَقْدِيمِ المَفْعُولِ إلى دَعْواهُ بِتَقْدِيمِ الخَبَرِ، ولا نَعْلَمُ أحَدًا يُفَرِّقُ بَيْنَ: لَيْسَ في الدّارِ رَجُلٌ، ولَيْسَ رَجُلٌ في الدّارِ، وعَلى ما ذُكِرَ مِن أنَّ خَمْرَ الجَنَّةِ لا يَغْتالُ، وقَدْ وصَفَتْ بِذَلِكَ العَرَبُ خَمْرَ الدُّنْيا، قالَ عَلْقَمَةُ بْنُ عَبْدَةَ:
تَشْفِي الصُّداعَ ولا يُؤْذِيكَ طالِبُها ∗∗∗ ولا يُخالِطُها في الرَّأْسِ تَدْوِيمٌ.
وأبْعَدُ مَن ذَهَبَ إلى أنَّ قَوْلَهُ: لا رَيْبَ صِيغَةُ خَبَرٍ ومَعْناهُ النَّهْيُ عَنِ الرَّيْبِ. وجَوَّزُوا في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ أنْ يَكُونَ هُدًى في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى أنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وفِيهِ في مَوْضِعِ الخَبَرِ، أوْ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أيْ هو هُدًى، أوْ عَلى فِيهِ مُضْمَرَةً إذا جَعَلْنا فِيهِ مِن تَمامِ لا رَيْبَ، أوْ خَبَرٍ بَعْدَ خَبَرٍ فَتَكُونُ قَدْ أخْبَرْتَ بِالكِتابِ عَنْ ذَلِكَ، وبِقَوْلِهِ لا رَيْبَ فِيهِ، ثُمَّ جاءَ هَذا خَبَرًا ثالِثًا، أوْ كانَ الكِتابُ تابِعًا وهُدًى خَبَرٌ ثانٍ عَلى ما مَرَّ في الإعْرابِ، أوْ في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى الحالِ، وبُولِغَ بِجَعْلِ المَصْدَرِ حالًا وصاحِبُ الحالِ اسْمُ الإشارَةِ أوِ الكِتابُ، والعامِلُ فِيها عَلى هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ مَعْنى الإشارَةِ أوِ الضَّمِيرِ في فِيهِ، والعامِلُ ما في الظَّرْفِ مِنَ الِاسْتِقْرارِ، وهو مُشْكِلٌ لِأنَّ الحالَ تَقْيِيدٌ، فَيَكُونُ انْتِقالُ الرَّيْبِ مُقَيَّدًا بِالحالِ إذْ لا رَيْبَ فِيهِ يَسْتَقِرُّ فِيهِ في حالِ كَوْنِهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، لَكِنْ يُزِيلُ الإشْكالَ أنَّها حالٌ لازِمَةٌ. والأوْلى: جَعْلُ كُلِّ جُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ، فَذَلِكَ الكِتابُ جُمْلَةٌ، ولا رَيْبَ جُمْلَةٌ، وفِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ جُمْلَةٌ، ولَمْ يَحْتَجْ إلى حَرْفِ عَطْفٍ لِأنَّ بَعْضَها آخِذٌ بِعُنُقِ بَعْضٍ. فالأُولى أخْبَرَتْ بِأنَّ المُشارَ إلَيْهِ هو الكِتابُ الكامِلُ، كَما تَقُولُ: زَيْدٌ الرَّجُلُ، أيِ الكامِلُ في الأوْصافِ، والثّانِيَةُ نَعْتٌ لا يَكُونُ شَيْءٌ ما مِن (رَيْبَ)، والثّالِثَةُ أخْبَرَتْ أنَّ فِيهِ الهُدى لِلْمُتَّقِينَ. والمَجازُ إمّا في ”فِيهِ هُدًى“، أيِ اسْتِمْرارُ هُدًى لِأنَّ المُتَّقِينَ مُهْتَدُونَ فَصارَ نَظِيرَ اهْدِنا الصِّراطَ، وإمّا في المُتَّقِينَ أيِ المُشارِفِينَ لِاكْتِسابِ التَّقْوى، كَقَوْلِهِ:
إذا ما ماتَ مَيِّتُ مِن تَمِيمٍ
والمُتَّقِي في الشَّرِيعَةِ هو الَّذِي يَقِي نَفْسَهُ أنْ يَتَعاطى ما تُوُعِّدَ عَلَيْهِ بِعُقُوبَةٍ مِن فِعْلٍ أوْ تَرْكٍ، وهَلِ التَّقْوى تَتَناوَلُ اجْتِنابَ الصَّغائِرِ ؟ في ذَلِكَ خِلافٌ. وجَوَّزَ بَعْضُهم أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ والكافِرِينَ، فَحُذِفَ لِدَلالَةِ أحَدِ الفَرِيقَيْنِ، وخَصَّ المُتَّقِينَ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا لَهم. ومَضْمُونُ هَذِهِ الجُمْلَةِ عَلى ما اخْتَرْناهُ مِنَ الإعْرابِ، الإخْبارُ عَنِ المُشارِ إلَيْهِ الَّذِي هو الطَّرِيقُ المُوَصِّلُ إلى اللَّهِ - تَعالى - هو الكِتابُ أيِ الكامِلُ في الكُتُبِ، وهو المُنَزَّلُ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الَّذِي قالَ فِيهِ ﴿ما فَرَّطْنا في الكِتابِ مِن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٣٨]، فَإذا كانَ جَمِيعُ الأشْياءِ فِيهِ، فَلا كِتابَ أكْمَلُ مِنهُ، وأنَّهُ نَفى أنْ يَكُونَ فِيهِ رَيْبٌ وأنَّهُ فِيهِ الهُدى. فَفي الآيَةِ الأُولى الإتْيانُ بِالجُمْلَةِ كامِلَةَ الأجْزاءِ حَقِيقَةً لا مَجازَ فِيها، وفي الثّانِيَةِ مَجازُ الحَذْفِ؛ لِأنّا اخْتَرْنا حَذْفَ الخَبَرِ بَعْدَ لا رَيْبَ، وفي الثّانِيَةِ تَنْزِيلُ المَعانِي مَنزِلَةَ الأجْسامِ، إذْ جَعَلَ القُرْآنَ ظَرْفًا والهُدى مَظْرُوفًا، فَألْحَقَ المَعْنى بِالعَيْنِ، وأتى بِلَفْظَةٍ في الَّتِي تَدُلُّ عَلى الوِعاءِ كَأنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلى الهُدى ومُحْتَوٍ عَلَيْهِ احْتِواءَ البَيْتِ عَلى زَيْدٍ في قَوْلِكَ: زَيْدٌ في البَيْتِ.
0 التعليقات:
إرسال تعليق