تلاوات خاشعة

الأحد، 29 مارس 2020

إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ سَوَاۤءٌ عَلَیۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ






إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ سَوَاۤءٌ عَلَیۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ


جامع البيان — ابن جرير الطبري (٣١٠ هـ)

﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ سَوَاۤءٌ عَلَیۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ﴾ [البقرة ٦]
القول في تأويل قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) ﴾
اختلف أهل التأويل فيمن عُنِي بهذه الآية، وفيمن نزلَتْ. فكان ابن عباس يقول، كما:-
٢٩٥- حدثنا به محمد بن حميد، قال حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"إن الذين كفروا"، أي بما أنزِل إليك من ربِّك، وإن قالوا إنا قد آمنا بما قد جاءنا من قبلك(١) .
وكان ابن عباس يرى أنَّ هذه الآية نزلتْ في اليهود الذين كانوا بنَواحي المدينةِ على عهد رسول الله ﷺ، توبيخًا لهم في جُحودهم نبوَّةَ محمد ﷺ وتكذيبِهم به، مع علمهم به ومعرفتِهم بأنّه رسولُ الله إليهم وإلى الناس كافّة.
٢٩٦- وقد حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سَلَمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن صَدر سورة البقرة إلى المائة منها، نزل في رجال سَمَّاهم بأعيانهم وأنْسَابهم من أحبار يهود، من المنافقين من الأوس والخزرج. كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم(٢) .
وقد رُوِي عن ابن عباس في تأويل ذلك قول آخر، وهو ما:-
٢٩٧- حدثنا به المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ ، قال: كان رسول الله ﷺ يحرِصُ أن يؤمن جميعُ الناس ويُتَابعوه على الهدى، فأخبره الله جل ثناؤه أنه لا يؤمنُ إلا من سبق له من الله السعادةُ في الذّكْر الأول، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاءُ في الذكر الأول(٣) .
وقال آخرون بما:-
٢٩٨- حُدِّثت به عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، قال: آيتان في قادةِ الأحزاب: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ ، قال: وهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ﴾ [سورة إبراهيم: ٢٨، ٢٩] ، قال: فهم الذين قُتلوا يوم بدر(٤) .
وأولى هذه التأويلات بالآية تأويلُ ابن عباس الذي ذكره محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير عنه. وإنْ كان لكلِّ قول مما قاله الذين ذكرنا قولهم في ذلك مذهب.
فأما مذهب من تأوَّل في ذلك ما قاله الربيع بن أنس، فهو أنّ الله تعالى ذكره لمّا أخبرَ عن قوم من أهل الكفر بأنهم لا يؤمنون، وأن الإنذارَ غيرُ نافعهم، ثم كانَ من الكُفّار من قد نَفَعه الله بإنذار النبي ﷺ إيّاه، لإيمانه بالله وبالنبي ﷺ وما جاء به من عند الله بعد نزول هذه السورة(٥) - لم يَجُز أن تكون الآية نزلت إلا في خاصٍّ من الكفار وإذ كان ذلك كذلك - وكانت قادةُ الأحزاب لا شك أنَّهم ممن لم ينفعه الله عز وجل بإنذار النبي ﷺ إياه، حتى قتلهم الله تبارك وتعالى بأيدي المؤمنين يوم بدرٍ - عُلم أنهم مِمّن عنَى الله جل ثناؤه بهذه الآية.
وأمَّا عِلَّتُنا في اختيارنا ما اخترنا من التأويل في ذلك، فهي أنّ قول الله جل ثناؤه ﴿إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون﴾ ، عَقِيبَ خبر الله جل ثناؤه عن مؤمني أهل الكتاب، وعَقِيبَ نعتهم وصِفتهم وثنائه عليهم بإيمانهم به وبكتبه ورسله. فأوْلى الأمور بحكمة الله، أن يُتلِيَ ذلك الخبرَ عن كُفّارهم ونُعُوتهم، وذمِّ أسبابهم وأحوالهم(٦) ، وإظهارَ شَتْمهم والبراءةَ منهم. لأن مؤمنيهم ومشركيهم -وإن اختلفت أحوالهم باختلاف أديانهم- فإن الجنس يجمع جميعَهم بأنهم بنو إسرائيل.
وإنما احتجّ الله جلّ ثناؤه بأوّل هذه السورة لنبيِّه ﷺ على مشرِكي اليهود من أحبار بني إسرائيل، الذين كانوا مع علمهم بنبوّته مُنْكِرين نبوّته - بإظهار نبيِّه ﷺ على ما كانت تُسِرُّه الأحبار منهم وتكتُمه، فيجهلُهُ عظْم اليهود وتعلمُه الأحبار منهم(٧) - ليعلموا أن الذي أطلعه على علم ذلك، هو الذي أنزل الكتابَ على موسى. إذْ كان ذلك من الأمور التي لم يكنْ محمد ﷺ ولا قومُه ولا عشيرتُه يعلمونه ولا يعرفونه من قبل نزول الفرقان على محمد ﷺ، فيمكنَهم ادّعاء اللَّبس في أمره عليه السلام أنه نبيٌّ، وأنّ ما جاء به فمن عند الله(٨) . وأنَّى يُمكنُ ادّعاء اللَّبس في صدق أمِّيٍّ نشأ بين أمِّيِّين لا يكتب ولا يقرأ، ولا يحسُب، فيقال قرأ الكتب فعَلِم، أو حَسَب(٩) فنجَّم؟ وانبعثَ على أحْبارٍ قُرَّاءٍ كَتَبَة(١٠) - قد دَرَسوا الكتب ورَأسوا الأمم - يخْبرهم عن مستور عُيوبهم، ومَصُون علومهم، ومكتوم أخبارهم، وخفيّات أمورهم التي جهلها من هو دونهم من أحبارهم. إنّ أمرَ من كان كذلك لغَيرُ مُشْكِلٍ، وإنّ صدقَه لبَيِّن.
ومما ينبئ عن صحة ما قُلنا - من أنّ الذين عنى الله تعالى ذكره بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ هُم أحبارُ اليهود الذين قُتلوا على الكفرِ وماتوا عليه - اقتصاصُ الله تعالى ذكره نَبأهم، وتذكيرُه إياهم ما أخَذ عليهم من العهود والمواثيق في أمر محمدٍ عليه السلام، بَعْد اقتصاصه تعالى ذكرُه ما اقتصّ من أمر المنافقين، واعتراضِه بين ذلك بما اعترضَ به من الخبر عن إبليسَ وآدمَ - في قوله: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ [سورة البقرة: ٤٠ وما بعدها] ، واحتجاجُه لنبيِّه عليهم، بما احتجَّ به عليهم فيها بعد جُحُودهم نبوّته. فإذْ كان الخبر أوّلا عن مُؤمِني أهل الكتاب، وآخرًا عن مشركيهم، فأولى أن يكون وَسطًا:- عنهم. إذْ كان الكلامُ بعضُه لبعض تَبَعٌ، إلا أن تأتيهم دلالةٌ واضحةٌ بعُدول بعض ذلك عما ابتَدأ به من معانيه، فيكونَ معروفًا حينئذ انصرافه عنه.
وأما معنى الكفر في قوله"إن الذين كفروا" فإنه الجُحُود. وذلك أن الأحبار من يَهودِ المدينة جحدوا نبوّةَ محمد ﷺ وستَروه عن الناس وكتمُوا أمره، وهُمْ يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.
وأصْلُ الكفر عند العرب: تَغطيةُ الشيء، ولذلك سمَّوا الليل"كافرًا"، لتغطية ظُلمته ما لبِستْه، كما قال الشاعر:
فَتَذَكَّرَا ثَقَلا رًثِيدًا، بَعْدَ مَا ... أَلْقَتْ ذُكاءُ يَمِينَهَا في كافِرِ(١١)
وقال لبيدُ بن ربيعة:
فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومُ غَمَامُهَا(١٢)
يعني غَطَّاها. فكذلك الأحبار من اليهود غَطَّوا أمر محمد ﷺ وكَتَمُوه الناسَ - مع علمهم بنبوّته، ووُجُودِهم صِفَتَه في كُتُبهم - فقال الله جل ثناؤه فيهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ﴾ [سورة البقرة: ١٥٩] ، وهم الذين أنزل الله عز وجل فيهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ .
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) ﴾
وتأويل"سواءٌ": معتدل. مأخوذ من التَّساوي، كقولك:"مُتَساوٍ هذان الأمران عندي"، و"هما عِندي سَواءٌ"، أي هما متعادلان عندي، ومنه قول الله جل ثناؤه: ﴿فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ﴾ [سورة الأنفال: ٥٨] ، يعني: أعْلمهم وآذِنْهم بالحرب، حتى يَستوي علمُك وعلمُهم بما عليه كلُّ فريقٍ منهم للفريقِ الآخر. فكذلك قوله"سَواءٌ عليهم": معتدلٌ عندهم أيّ الأمرين كان منك إليهم، الإنذار أم ترك الإنذار لأنهم لا يؤمنون(١٣) ، وقد خَتمتُ على قلوبهم وسمعهم. ومن ذلك قول عبيد الله بن قيس الرُّقَيَّات:
تُغِذُّ بيَ الشّهبَاءُ نَحْوَ ابن جَعْفٍر ... سَوَاءٌ عَلَيْهَا لَيْلُهَا ونَهَارُهَا(١٤)
يعني بذلك: معتدلٌ عندها في السير الليلُ والنهارُ، لأنه لا فُتُورَ فيه. ومنه قول الآخر(١٥)
وَلَيْلٍ يَقُولُ المَرْءُ مِنْ ظُلُمَاتِه ... سَوَاءٌ صَحِيحَاتُ العُيُونِ وَعُورُهَا
لأن الصحيح لا يبصر فيه إلا بصرًا ضعيفًا من ظُلْمته.
وأما قوله: ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ ، فإنه ظهرَ به الكلام ظهورَ الاستفهام وهو خبرٌ ؛ لأنه وَقع مَوقع"أيّ" كما تقول:"لا نُبالي أقمتَ أم قعدت"، وأنت مخبرٌ لا مستفهم، لوقوع ذلك موقع"أي". وذلك أنّ معناه إذا قلتَ ذلك: ما نبالي أيّ هذين كان منك. فكذلك ذلك في قوله:"سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم"، لمَّا كان معنى الكلام: سواءٌ عليهم أيُّ هذين كان منك إليهم - حسُن في موضعه مع سواءٌ:"أفعلتَ أم لم تفعل".
وكان بعضُ نحوِيِّي البصرة يزعمُ أنّ حرفَ الاستفهام إنما دَخَل مع"سواء"، وليس باستفهام، لأن المستفهِم إذا استفهَم غيرَه فقال:"أزيد عندك أم عمرو؟ " مستثبتٌ صاحبه أيُّهما عنده. فليس أحدُهما أحقَّ بالاستفهام من الآخر. فلما كان قوله:"سَواء عليهم أأنذرتهم أم لم تُنذرهم" بمعنى التسوية، أشبه ذلك الاستفهامَ، إذ أشبهه في التَّسوية. وقد بينّا الصَّواب في ذلك.
فتأويل الكلام إذًا: معتدلٌ يا محمد - على هؤلاء الذين جحدوا نبوَّتك من أحبار يهود المدينة بعد علمهم بها، وكتموا بيان أمرك للناس بأنك رسولي إلى خلقي، وقد أخذتُ عليهم العهدَ والميثاقَ أن لا يكتموا ذلك، وأن يبيِّنوه للناس، وُيخْبرُوهم أنهم يجدُون صِفَتَك في كتبهم - أأنذرتهم أم لم تنذرهم، فإنهم لا يؤمنون، ولا يرجعون إلى الحق، ولا يصدقونَ بك وبما جئتَهم به. كما:-
٢٩٩- حدثنا محمد بن حميد قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ ، أي أنهم قد كفروا بما عندهم من العِلْم من ذكرٍ، وجحدوا ما أخِذ عليهم من الميثاق لك، فقد كفروا بما جاءك، وبما عندهم مما جاءهم به غيرك، فكيف يسمعون منك إنذارًا وتحذيرًا، وقد كفروا بما عندهم من علمك؟(١٦) .

(١) الخبر ٢٩٥- ذكره ابن كثير ١: ٨٢ مع باقيه الآتي: ٢٩٩. وساقه السيوطي ١: ٢٩ بأطول من ذلك، زاد فيه ما يأتي: ٣٠٧، ٣١١، ونسبه أيضًا لابن إسحاق وابن أبي حاتم، وكذلك نسبه الشوكاني ١: ٢٨ دون الزيادة الأخيرة.
(٢) الخبر ٢٩٦- ذكره ابن كثير ١: ٨٦ بنحوه، من رواية ابن إسحاق. ونقله السيوطي ١: ٢٩ بلفظ الطبري، عنه وعن ابن إسحاق. ونقله الشوكاني موجزًا ١: ٢٩. ومن الواضح أن قوله"كرهنا تطويل الكتاب. . " من كلام الطبري نفسه. وانظر ما يأتي: ٣١٢.
(٣) الخبر ٢٩٧- هو في ابن كثير ١: ٨٢، والسيوطي ١: ٢٨ - ٢٩، والشوكاني ١: ٢٨، ونسباه أيضًا لابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي.
(٤) الأثر ٢٩٨- هكذا هو في الطبري، من قول الربيع بن أنس. وذكره ابن كثير ١: ٨٢ - ٨٣ مختصرًا من رواية الربيع بن أنس عن أبي العالية، ولم يذكر من خرجه. ونقله السيوطي ١: ٢٩، والشوكاني ١: ٢٨، بأطول مما هنا بذكر الأثر: ٣٠٩ معه، من قول أبي العالية أيضًا، ونسباه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. فالظاهر أن الطبري قصر بإسناده أو قصر به شيخه المبهم.
(٥) سياق عبارته"فهو أن الله تعالى ذكره لما أخبر عن قوم. . . لم يجز. . . "
(٦) الأسباب جمع سبب: وأراد بها الطرق والوسائل.
(٧) عظم اليهود: معظمهم وأكثرهم.
(٨) في المطبوعة: "من عند الله".
(٩) يعني بالحساب هنا: حساب سير الكواكب وبروجها، وبها يعرف المنجم أخبار ما يدّعى من علم الغيب.
(١٠) في المطبوعة: "وانبعث على أحبار"، كأنه معطوف على كلام سابق. وليس صحيحًا، بل هو استئناف كلام جديد.
(١١) الشعر لثعلبة بن صعير المازني، شرح المفضليات: ٢٥٧. والضمير في قوله"فتذكرا" للنعامة والظليم. والثقل: بيض النعام المصون، والعرب تقول لكل شيء نفيس خطير مصون: ثقل. ورثد المتاع وغيره فهو مرثود ورثيد: وضع بعضه فوق بعض ونضده. وعنى بيض النعام، والنعام تنضده وتسويه بعضه إلى بعض. وذكاء: هي الشمس.
(١٢) معلقته المشهورة، ويأتي في تفسير آية سورة المائدة: ١٢ (٦: ٩٨ بولاق) . ويروى "ظلامها". وصدره: " يَعْلُو طَريقةَ مَتْنِهَا مُتَوَاتِرَا"
يعني البقرة الوحشية، قد ولجت كناسها في أصل شجرة، والرمل يتساقط على ظهرها.
(١٣) في المطبوعة"كانوا لا يؤمنون".
(١٤) ديوانه: ١٦٣، والكامل للمبرد ١: ٣٩٨، ٣٩٩. يمدح عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. أغذ السير وأغذ فيه: أسرع. ورواية ديوانه، والكامل"تقدت". وتقدى به بعيره: أسرع على سنن الطريق. والشهباء: فرسه، للونها الأشهب، وهو أن يشق سوادها أو كمتتها شعرات بيض حتى تكاد تغلب السواد أو الكمتة.
(١٥) الشعر لمضرس بن ربعي الفقعسي. حماسة ابن الشجري: ٢٠٤.
(١٦) الخبر ٢٩٩- سبق تخريجه مع الخبر ٢٩

تفسير القرآن العظيم — ابن كثير (٧٧٤ هـ)

﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ سَوَاۤءٌ عَلَیۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ﴾ [البقرة ٦]
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أَيْ: غَطوا الْحَقَّ وَسَتَرُوهُ، وَقَدْ كَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ إِنْذَارُكَ وَعَدَمُهُ، فَإِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ﴾ [يُونُسَ: ٩٦، ٩٧] وَقَالَ فِي حَقِّ الْمُعَانِدِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾ الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: ١٤٥] أَيْ: إِنَّ مَنْ(١) كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الشَّقَاوَةَ فَلَا مُسْعِد لَهُ، وَمَنْ أضلَّه فَلَا هَادِيَ لَهُ، فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ، وَبَلِّغْهُمُ الرِّسَالَةَ، فَمَنِ اسْتَجَابَ لَكَ فَلَهُ الْحَظُّ الْأَوْفَرُ، وَمَنْ تَوَلَّى فَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا يُهْمِدَنَّك ذَلِكَ؛ ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾ [الرَّعْدِ: ٤٠] ، وَ ﴿إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ [هُودٍ: ١٢] .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يحرصُ أَنْ يُؤْمِنَ جَمِيعُ النَّاس ويُتَابعوه عَلَى الْهُدَى، فَأَخْبَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ إِلَّا مَنْ سَبَقَ لَهُ مِنَ اللَّهِ السعادةُ فِي الذِّكْرِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَضِلُّ إِلَّا مَنْ سَبَقَ لَهُ مِنَ اللَّهِ الشَّقَاوَةُ فِي الذِّكْرِ الْأَوَّلِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أَيْ: بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ، وَإِنْ قَالُوا: إنَّا قَدْ آمَنَّا بِمَا جَاءَنَا قَبْلَكَ ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ أَيْ: إِنَّهُمْ قَدْ كَفَرُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ ذِكْرِكَ، وَجَحَدُوا مَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمِيثَاقِ، فَقَدْ(٢) كَفَرُوا بِمَا جَاءَكَ، وَبِمَا عِنْدَهُمْ مِمَّا جَاءَهُمْ بِهِ غَيْرُكَ، فَكَيْفَ يَسْمَعُونَ مِنْكَ إِنْذَارًا وَتَحْذِيرًا، وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ عِلْمِكَ؟!
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، قَالَ: نَزَلَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ فِي قَادَةِ الْأَحْزَابِ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا﴾ [إِبْرَاهِيمَ: ٢٨، ٢٩] .
وَالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، أَظْهَرُ، وَيُفَسَّرُ(٣) بِبَقِيَّةِ الْآيَاتِ الَّتِي فِي مَعْنَاهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هَاهُنَا حَدِيثًا، فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ الْمِصْرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ(٤) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّا نَقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ فَنَرْجُو، وَنَقْرَأُ فَنَكَادُ أَنْ نَيْأَسَ، فَقَالَ: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ"، ثُمَّ قَالَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ هَؤُلَاءِ أَهْلُ النَّارِ". قَالُوا: لَسْنَا مِنْهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "أجل"(٥) .
[وَقَوْلُهُ: ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾ مَحَلُّهُ مِنَ الْإِعْرَابِ أَنَّهُ جُمْلَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِلَّتِي قَبْلَهَا: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ أَيْ هُمْ كُفَّارٌ فِي كِلَا الْحَالَيْنِ؛ فَلِهَذَا أَكَدَّ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾ خَبَرًا لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا يُؤْمِنُونَ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ](٦) .

(١) في جـ: "إلا أنه من".
(٢) في جـ، ط، ب: "وقد".
(٣) في جـ: "وتفسيره"، وفي طـ، ب: "ويفسره".
(٤) في جـ: "القسم".
(٥) تفسير ابن أبي حاتم (١/٤٢) .

(٦) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.


الجامع لأحكام القرآن — القرطبي (٦٧١ هـ)

﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ سَوَاۤءٌ عَلَیۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ﴾ [البقرة ٦]
بيان حال الكافرين ومآلهم ومعنى الكفر
لَمَّا ذَكَرَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَحْوَالَهُمْ ذَكَرَ الْكَافِرِينَ وَمَآلَهُمْ. وَالْكُفْرُ ضِدُّ الْإِيمَانِ وَهُوَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ. وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى جُحُودِ النِّعْمَةِ وَالْإِحْسَانِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي النِّسَاءِ فِي حَدِيثِ الْكُسُوفِ: (وَرَأَيْتُ النَّارَ فَلَمْ أَرَ مَنْظَرًا كَالْيَوْمِ قَطُّ أَفْظَعَ وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ) قِيلَ: بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (بِكُفْرِهِنَّ)، قِيلَ أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: (يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كُلَّهُ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ. وَأَصْلُ الْكُفْرِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: السَّتْرُ وَالتَّغْطِيَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ غَمَامُهَا

أَيْ سَتَرَهَا. وَمِنْهُ سُمِّيَ اللَّيْلُ كَافِرًا، لِأَنَّهُ يُغَطِّي كل شي بسواده، قال الشاعر:(١)
فتذكرا ثقلا رثيدا بعد ما ... أَلْقَتْ ذُكَاءُ يَمِينَهَا فِي كَافِرِ
ذُكَاءُ (بِضَمِّ الذَّالِ وَالْمَدِّ): اسْمٌ لِلشَّمْسِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ:
فوردت قبل انبلاج الفجر ... وابن ذكاء كامن فِي كَفْرِ
أَيْ فِي لَيْلٍ. وَالْكَافِرُ أَيْضًا: الْبَحْرُ وَالنَّهَرُ الْعَظِيمُ. وَالْكَافِرُ: الزَّارِعُ، وَالْجَمْعُ كُفَّارٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ(٢) " [الحديد: ٢٠]. يعني الزراع لأنهم يغطون الحب. ورماد مَكْفُورٌ: سَفَتِ الرِّيحُ عَلَيْهِ التُّرَابَ. وَالْكَافِرُ مِنَ الْأَرْضِ: مَا بَعُدَ عَنِ النَّاسِ لَا يَكَادُ يَنْزِلُهُ وَلَا يَمُرُّ بِهِ أَحَدٌ، وَمَنْ حَلَّ بِتِلْكَ الْمَوَاضِعِ فَهُمْ أَهْلُ الْكُفُورِ. وَيُقَالُ الْكُفُورُ: الْقُرَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ﴾ مَعْنَاهُ مُعْتَدِلٌ عِنْدَهُمُ الْإِنْذَارُ وَتَرْكُهُ، أَيْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ هَذَا. وجئ بِالِاسْتِفْهَامِ مِنْ أَجْلِ التَّسْوِيَةِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ(٣) " [الشعراء: ١٣٦]. وَقَالَ الشَّاعِرُ:(٤)
وَلَيْلٍ يَقُولُ النَّاسُ مِنْ ظُلُمَاتِهِ ... سَوَاءٌ صَحِيحَاتُ الْعُيُونِ وَعُورُهَا
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ﴾ الْإِنْذَارُ الْإِبْلَاغُ وَالْإِعْلَامُ، وَلَا يَكَادُ يَكُونُ إِلَّا فِي تَخْوِيفٍ يَتَّسِعُ زَمَانُهُ لِلِاحْتِرَازِ، فَإِنْ لَمْ يَتَّسِعْ زَمَانُهُ لِلِاحْتِرَازِ كَانَ إِشْعَارًا وَلَمْ يَكُنْ إِنْذَارًا، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَنْذَرْتَ عَمْرًا وَهُوَ فِي مهل ... قبل الصباح فَقَدْ عَصَى عَمْرُو
وَتَنَاذَرَ بَنُو فُلَانٍ هَذَا الْأَمْرَ إِذَا خَوَّفَهُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقِيلَ: هِيَ عَامَّةُ وَمَعْنَاهَا الْخُصُوصُ فِيمَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، وَسَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ يَمُوتُ عَلَى كُفْرِهِ. أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُعْلِمَ أَنَّ فِي النَّاسِ مَنْ هَذِهِ حَالُهُ دُونَ أَنْ يُعَيِّنَ أَحَدًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي رُؤَسَاءِ الْيَهُودِ، مِنْهُمْ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَكَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ وَنُظَرَاؤُهُمَا. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: نَزَلَتْ فِيمَنْ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ قَادَةِ الْأَحْزَابِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، فَإِنَّ مَنْ عَيَّنَ أَحَدًا فَإِنَّمَا مَثَّلَ بِمَنْ كَشَفَ الْغَيْبَ عَنْهُ بِمَوْتِهِ عَلَى الْكُفْرِ، وَذَلِكَ دَاخِلٌ فِي ضِمْنِ الْآيَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى "لَا يُؤْمِنُونَ" مَوْضِعُهُ رَفْعٌ خَبَرُ "إِنَّ" أَيْ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا يُؤْمِنُونَ. وَقِيلَ: خَبَرُ "إِنَّ" "سَواءٌ" وَمَا بَعْدَهُ يَقُومُ مَقَامَ الصِّلَةِ، قَالَهُ ابْنُ كَيْسَانَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ: "سَواءٌ" رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ، "أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ" الْخَبَرُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ "إِنَّ". قَالَ النَّحَّاسُ: أَيْ إِنَّهُمْ تَبَالَهُوا فَلَمْ تُغْنِ فِيهِمُ النِّذَارَةُ شَيْئًا. وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ "أَأَنْذَرْتَهُمْ" فقرأ أهل المدينة وأبو عمرو والأعمش وعبد الله بن أبي إسحاق: "أَأَنْذَرْتَهُمْ" بِتَحْقِيقِ الْأُولَى وَتَسْهِيلِ الثَّانِيَةِ، وَاخْتَارَهَا الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ، وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ وَسَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، وَعَلَيْهَا قول الشاعر(٥):
أَيَا ظَبْيَةَ الْوَعْسَاءِ بَيْنَ جُلَاجِلٍ ... وَبَيْنَ النَّقَا آنْتَ أَمْ أُمُّ سَالٍمِ
هِجَاءُ "آنْتَ" أَلِفٌ وَاحِدَةٌ. وَقَالَ آخَرُ:
تَطَالَلْتُ فَاسْتَشْرَفْتُهُ فَعَرَفْتُهُ ... فَقُلْتُ لَهُ آنْتَ زَيْدُ الْأَرَانِبِ
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مُحَيْصِنٍ أَنَّهُ قَرَأَ: "أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ" بِهَمْزَةٍ لَا أَلِفَ بَعْدَهَا، فَحَذَفَ لِالْتِقَاءِ الْهَمْزَتَيْنِ، أَوْ لِأَنَّ أَمْ تَدُلُّ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
تَرُوحُ مِنَ الْحَيِّ أَمْ تبتكر ... وَمَاذَا يَضِيرُكَ لَوْ تَنْتَظِرْ
أَرَادَ: أَتَرُوحُ، فَاكْتَفَى بأم مِنَ الْأَلِفِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ أنه قرأ: "أأنذرتهم" فَحَقَّقَ الْهَمْزَتَيْنِ وَأَدْخَلَ بَيْنَهُمَا أَلِفًا لِئَلَّا يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَيَجُوزُ أَنْ تُدْخِلَ بَيْنَهُمَا أَلِفًا وَتُخَفِّفَ الثَّانِيَةَ، وَأَبُو عَمْرٍو وَنَافِعٌ يَفْعَلَانِ ذَلِكَ كَثِيرًا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَعَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَتَيْنِ: "أَأَنْذَرْتَهُمْ" وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ، وَذَلِكَ بَعِيدٌ عِنْدَ الْخَلِيلِ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: يُشْبِهُ فِي الثِّقَلِ ضَنِنُوا. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَيَجُوزُ تَخْفِيفُ الاولى من الهمزتين وذلك ردئ، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يُخَفِّفُونَ بَعْدَ الِاسْتِثْقَالِ، وَبَعْدَ حُصُولِ الْوَاحِدَةِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَيَجُوزُ تَخْفِيفُ الْهَمْزَتَيْنِ جَمِيعًا. فَهَذِهِ سَبْعَةُ أَوْجُهٍ مِنَ الْقِرَاءَاتِ، وَوَجْهٌ ثَامِنٌ يَجُوزُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلسَّوَادِ(٦). قَالَ الْأَخْفَشُ سَعِيدٌ: تُبْدِلُ مِنَ الْهَمْزَةِ هَاءً تَقُولُ: هَأَنْذَرْتَهُمْ، كَمَا يُقَالُ هَيَّاكَ وَإِيَّاكَ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ فِيِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿هَا أَنْتُمْ﴾ [آل عمران: ٦٦] إنما هو أاأنتم.

(١) هو ثعلبة بن صعير المازني، يصف الظليم والنعامة ورواحهما إلى بيضهما عند غروب الشمس. والثقل (بالتحريك) هنا: بيض النعام المصون. والرشيد: المنضد بعضه فوق بعض أو إلى جنب بعض. وألقت يمينها في كافر: أي بدأت في المغيب. اللسان مادة (كفر).
(٢) راجع ج ١٧ ص ٢٥٥
(٣) راجع ج ١٣ ص ١٢٥.
(٤) هو أعشى قيس الملقب بالاعشى الأكبر.
(٥) هو ذو الرمة كما في كتاب سيبويه، والمفصل للزمخشري.

(٦) السواد من الناس هم الجمهور الأعظم.




معالم التنزيل — البغوي (٥١٦ هـ)

﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ سَوَاۤءٌ عَلَیۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ (٦) خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَعَلَىٰ سَمۡعِهِمۡۖ وَعَلَىٰۤ أَبۡصَـٰرِهِمۡ غِشَـٰوَةࣱۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِیمࣱ (٧) وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن یَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِینَ (٨) یُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَمَا یَخۡدَعُونَ إِلَّاۤ أَنفُسَهُمۡ وَمَا یَشۡعُرُونَ (٩) فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضࣰاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمُۢ بِمَا كَانُوا۟ یَكۡذِبُونَ (١٠)﴾ [البقرة ٦-١٠]
قَوْلُهُ ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يَعْنِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي الْيَهُودَ. وَالْكُفْرُ هُوَ الْجُحُودُ وَأَصْلُهُ مِنَ الْكُفْرِ وَهُوَ السَّتْرُ وَمِنْهُ سُمِّيَ اللَّيْلُ كَافِرًا لِأَنَّهُ يَسْتُرُ الْأَشْيَاءَ بظلمته وسمي الزارع كَافِرًا لِأَنَّهُ يَسْتُرُ الْحَبَّ بِالتُّرَابِ وَالْكَافِرُ يَسْتُرُ الْحَقَّ بِجُحُودِهِ.
وَالْكُفْرُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ: كُفْرُ إِنْكَارٍ، وَكُفْرُ جَحُودٍ، وَكُفْرُ عِنَادٍ، وَكُفْرُ نِفَاقٍ. فَكُفْرُ الْإِنْكَارِ: أَنْ لَا يَعْرِفَ اللَّهَ أَصْلًا وَلَا يَعْتَرِفَ بِهِ، وَكُفْرُ الْجَحُودِ هُوَ: أَنْ يَعْرِفَ اللَّهَ تَعَالَى بِقَلْبِهِ وَلَا يُقِرُّ بِلِسَانِهِ كَكُفْرِ إِبْلِيسَ (وَكُفْرِ)(١) الْيَهُودِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾ (٨٩-الْبَقَرَةِ) وَكُفْرُ الْعِنَادِ هُوَ: أَنْ يَعْرِفَ اللَّهَ بِقَلْبِهِ وَيَعْتَرِفَ بِلِسَانِهِ وَلَا يَدِينُ بِهِ كَكُفْرِ أَبِي طَالِبٍ حَيْثُ يَقُولُ: وَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ ... مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينًا
لَوْلَا الْمَلَامَةُ أَوْ حَذَارِ مَسَبَّةٍ ... لَوَجَدْتَنِي سَمْحًا بِذَاكَ مُبِينًا
وَأَمَّا كُفْرُ النِّفَاقِ: فَهُوَ أَنَّ يُقِرَّ بِاللِّسَانِ وَلَا يَعْتَقِدَ بِالْقَلْبِ، وَجَمِيعُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ سَوَاءٌ فِي أَنَّ مَنْ لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى بِوَاحِدٍ مِنْهَا لَا يُغْفَرُ لَهُ.
قَوْلُهُ ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ﴾ أَيْ: مُتَسَاوٍ لَدَيْهِمْ ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ﴾ خَوَّفْتَهُمْ وَحَذَّرْتَهُمْ وَالْإِنْذَارُ إِعْلَامٌ مَعَ تَخْوِيفٍ وَتَحْذِيرٍ وَكُلُّ مُنْذِرٍ مُعَلِّمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُعَلِّمٍ مُنْذِرًا وَحَقَّقَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ الْهَمْزَتَيْنِ فِي "أَأَنْذَرْتَهُمْ" وَكَذَلِكَ كَلُّ هَمْزَتَيْنِ تَقَعَانِ فِي أَوَّلِ الْكَلِمَةِ وَالْآخَرُونَ يُلَيِّنُونَ الثَّانِيَةَ ﴿أَمْ﴾ حَرْفُ عَطْفٍ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ (لَمْ) حَرْفُ جَزْمٍ لَا تَلِي إِلَّا الْفِعْلَ لِأَنَّ الْجَزْمَ يَخْتَصُّ بِالْأَفْعَالِ ﴿تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي أَقْوَامٍ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الشَّقَاوَةِ فِي سَابِقِ عِلْمِ اللَّهِ ثُمَّ ذَكَرَ سَبَبَ تَرْكِهِمُ الْإِيمَانَ
فَقَالَ ﴿خَتَمَ اللَّهُ﴾ طَبَعَ اللَّهُ ﴿عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ فَلَا تَعِي خَيْرًا وَلَا تَفْهَمُهُ.
وَحَقِيقَةُ الْخَتْمِ الِاسْتِيثَاقُ مِنَ الشَّيْءِ كَيْلَا يَدْخُلَهُ مَا خَرَجَ مِنْهُ وَلَا يَخْرُجَ عَنْهُ مَا فِيهِ، وَمِنْهُ الْخَتْمُ عَلَى الْبَابِ. قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: أَيْ حَكَمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِالْكُفْرِ، لِمَا سَبَقَ مِنْ عِلْمِهِ الْأَزَلِيِّ فِيهِمْ، وَقَالَ الْمُعْتَزِلَةُ: جَعَلَ عَلَى قُلُوبِهِمْ عَلَامَةً تَعْرِفُهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِهَا.
﴿وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ أَيْ: عَلَى مَوْضِعِ سَمْعِهِمْ فَلَا يَسْمَعُونَ الْحَقَّ وَلَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَأَرَادَ عَلَى أَسْمَاعِهِمْ كَمَا قَالَ: ﴿عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ وَإِنَّمَا وَحَّدَهُ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَالْمَصْدَرُ لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ.
﴿وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ هَذَا ابْتِدَاءُ كَلَامٍ. غِشَاوَةٌ أَيْ: غِطَاءٌ، فَلَا يَرَوْنَ الْحَقَّ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ أَبْصَارِهِمْ بِالْإِمَالَةِ وَكَذَلِكَ كَلُّ أَلِفٍ بَعْدَهَا رَاءٌ مَجْرُورَةٌ فِي الْأَسْمَاءِ كَانَتْ لَامَ الْفِعْلِ يُمِيلَانِهَا وَيُمِيلُ حَمْزَةُ مِنْهَا مَا يَتَكَرَّرُ فِيهِ الرَّاءُ كَالْقَرَارِ وَنَحْوِهِ. زَادَ الْكِسَائِيُّ إِمَالَةَ جَبَّارِينَ وَالْجَوَارِ وَالْجَارِ وَبَارِئِكُمْ وَمَنْ أَنْصَارِي وَنُسَارِعُ وَبَابِهِ. وَكَذَلِكَ يُمِيلُ هَؤُلَاءِ كُلَّ أَلِفٍ بِمَنْزِلَةِ لَامِ الْفِعْلِ، أَوْ كَانَ عَلَمًا لِلتَّأْنِيثِ، إِذَا كَانَ قَبْلَهَا رَاءٌ، فَعَلَمُ التَّأْنِيثِ مِثْلُ: الْكُبْرَى وَالْأُخْرَى. وَلَامُ الْفِعْلِ: مِثْلُ تَرَى وَافْتَرَى، يَكْسِرُونَ الرَّاءَ فِيهَا.
وَلَهُمْ ﴿عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ أَيْ: فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ الْقَتْلُ وَالْأَسْرُ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابُ الدَّائِمُ فِي الْعُقْبَى. وَالْعَذَابُ كُلُّ مَا يَعْنِي الْإِنْسَانَ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ. قَالَ الْخَلِيلُ: الْعَذَابُ مَا يَمْنَعُ الْإِنْسَانَ عَنْ مُرَادِهِ، وَمِنْهُ: الْمَاءُ الْعَذْبُ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْعَطَشَ.
قَوْلُهُ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ(٢) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ، وَمُعَتِّبِ بْنِ قُشَيْرٍ، وَجَدِّ بْنِ قَيْسٍ وَأَصْحَابِهِمْ حَيْثُ أَظْهَرُوا كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ لِيَسْلَمُوا مِنَ النَّبِيِّ ﷺ وَأَصْحَابِهِ وَاعْتَقَدُوا خِلَافَهَا وَأَكْثَرُهُمْ مِنَ الْيَهُودِ، وَالنَّاسُ جَمْعُ إِنْسَانٍ سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ عُهِدَ إِلَيْهِ فَنَسِيَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ﴾ (١١٥-طه) وَقِيلَ: لِظُهُورِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ آنَسْتُ أَيْ أَبْصَرْتُ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يُسْتَأْنَسُ بِهِ ﴿وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ أَيْ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ﴾ أَيْ يُخَالِفُونَ اللَّهَ وَأَصْلُ الْخَدْعِ فِي اللُّغَةِ الْإِخْفَاءُ وَمِنْهُ الْمَخْدَعُ لِلْبَيْتِ الَّذِي يُخْفَى فِيهِ الْمَتَاعُ فَالْمُخَادِعُ يُظْهِرُ خِلَافَ مَا يُضْمِرُ وَالْخَدْعُ مِنَ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ ﴿وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ (١٨٢-النِّسَاءِ) أَيْ يُظْهِرُ لَهُمْ وَيُعَجِّلُ لَهُمْ مِنَ النَّعِيمِ فِي الدُّنْيَا خِلَافَ مَا يَغِيبُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: أَصْلُ الْخَدْعِ: الْفَسَادُ، مَعْنَاهُ يُفْسِدُونَ مَا أَظْهَرُوا مِنَ الْإِيمَانِ بِمَا أَضْمَرُوا مِنَ الْكُفْرِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ أَيْ: يُفْسِدُ عَلَيْهِمْ نَعِيمَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِمَا يُصَيِّرُهُمْ إِلَيْهِ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ فَإِنْ قِيلَ مَا مَعْنَى قَوْلِهِ ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ﴾ وَالْمُفَاعَلَةُ لِلْمُشَارَكَةِ وَقَدْ جَلَّ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْمُشَارَكَةِ فِي الْمُخَادَعَةِ؟ قِيلَ: قَدْ تَرِدُ الْمُفَاعَلَةُ لَا عَلَى مَعْنَى الْمُشَارِكَةِ كَقَوْلِكَ عَافَاكَ اللَّهُ وَعَاقَبْتُ فُلَانًا، وَطَارَقْتُ النَّعْلَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ يُخَادِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ﴾ (٥٧-الْأَحْزَابِ) أَيْ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ، وَقِيلَ: ذِكْرُ اللَّهِ هَاهُنَا تَحْسِينٌ وَالْقَصْدُ بِالْمُخَادَعَةِ الَّذِينَ آمَنُوا كَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ﴾ (٤١-الْأَنْفَالِ) وَقِيلَ مَعْنَاهُ يَفْعَلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ مَا هُوَ خِدَاعٌ فِي دِينِهِمْ ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ أَيْ وَيُخَادِعُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِمْ إِذَا رَأَوْهُمْ آمَنَّا وَهُمْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ.
﴿وَمَا يَخْدَعُونَ﴾ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عمرو وما يخدعون كَالْحَرْفِ الْأَوَّلِ وَجَعَلُوهُ مِنَ الْمُفَاعَلَةِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالْوَاحِدِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: وَمَا يَخْدَعُونَ عَلَى الْأَصْلِ.
﴿إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ لِأَنَّ وَبَالَ خِدَاعِهِمْ رَاجِعٌ إِلَيْهِمْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُطْلِعُ نَبِيَّهُ ﷺ عَلَى نِفَاقِهِمْ فَيُفْتَضَحُونَ فِي الدُّنْيَا وَيَسْتَوْجِبُونَ الْعِقَابَ فِي الْعُقْبَى ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ أَيْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ يَخْدَعُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَنَّ وَبَالَ خِدَاعِهِمْ يَعُودُ عَلَيْهِمْ
﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ شَكٌّ وَنِفَاقٌ وَأَصْلُ الْمَرَضِ الضَّعْفُ. وَسُمِّيَ الشَّكُّ فِي الدِّينِ مَرَضًا لِأَنَّهُ يُضْعِفُ الدِّينَ كَالْمَرَضِ يُضْعِفُ الْبَدَنَ.
﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ لِأَنَّ الْآيَاتِ كَانَتْ تَنْزِلُ تَتْرَى، آيَةً بَعْدَ آيَةٍ، كُلَّمَا كَفَرُوا بِآيَةٍ ازْدَادُوا كُفْرًا وَنِفَاقًا وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ﴾ (١٢٥-التَّوْبَةِ) وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ فَزَادَهُمْ بِالْإِمَالَةِ وَزَادَ حَمْزَةُ إِمَالَةَ زَادَ حَيْثُ وَقَعَ وَزَاغَ وَخَابَ وَطَابَ وَحَاقَ وَضَاقَ، وَالْآخَرُونَ لَا يُمِيلُونَهَا ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ مُؤْلِمٌ يَخْلُصُ وَجَعُهُ إِلَى قُلُوبِهِمْ ﴿بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ مَا لِلْمَصْدَرِ أَيْ بِتَكْذِيبِهِمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي السِّرِّ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ يَكْذِبُونَ بِالتَّخْفِيفِ أَيْ بِكَذِبِهِمْ ﴿إِذْ﴾(٣) قَالُوا آمَنَّا وَهُمْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ.

(١) من ب.
(٢) انظر: الطبري: ١ / ٢٦٩، تفسير ابن كثير: ١ / ٤٨.

(٣) في الأصل إذا.



فتح البيان — صديق حسن خان (١٣٠٧ هـ))






فتح القدير — الشوكاني (١٢٥٠ هـ)



(إن الذين) التعريف للعهد أو للجنس، والثاني أولى (كفروا) أي جحدوا وأنكروا، وأصل الكفر في اللغة الستر والتغطية ومنه سمي الكافر كافراً لأنه يغطي بكفره ما يجب أن يكون عليه من الإيمان (سواء عليهم) أي متساو لديهم، وسواء اسم مصدر بمعنى الاستواء وارتفاعه على أنه خبر لأن (أأنذرتهم) أي خوفتهم وحذرتهم، والإنذار الإبلاغ والإعلام مع التخويف فكل منذر معلم، وليس كل معلم منذراً، قرئ بتحقيق الهمزتين وإبدال الثانية ألفاً، قال البيضاوي وهذا الإبدال لحن، ورد عليه على القارى بأن ما قاله تقليداً للكشاف خطأ لأن القراءة به متواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنكارها كفر، وتمام هذا البحث في الجمل (أم لم تنذرهم لا يؤمنون) أي لا يصدقون.<br><span class="indent"></span>قال القرطبي واختلف العلماء في تأويل هذه الآية فقيل هي عامة ومعناها الخصوص فيمن حقت عليه كلمة العذاب وسبق في علم الله أنه يموت على كفره أراد الله تعالى أن يعلم الناس أن فيهم من هذا حاله دون أن يعين أحداً، وقال ابن عباس والكلبي نزلت في رؤساء اليهود حيي بن أخطب وكعب ابن الأشرف ونظرائهما وقال الربيع بن أنس نزلت فيمن قتل يوم بدر من قادة الأحزاب، والأول أصح فإن من عين أحداً فإنما مثل عن كشف الغيب بموته على الكفر انتهى.
فتح البيان — صديق حسن خان (١٣٠٧ هـ))


﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ سَوَاۤءٌ عَلَیۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ (٦) خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَعَلَىٰ سَمۡعِهِمۡۖ وَعَلَىٰۤ أَبۡصَـٰرِهِمۡ غِشَـٰوَةࣱۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِیمࣱ (٧)﴾ [البقرة ٦-٧]

ذَكَرَ سُبْحانَهُ فَرِيقَ الشَّرِّ بَعْدَ الفَراغِ مِن ذِكْرِ فَرِيقِ الخَيْرِ قاطِعًا لِهَذا الكَلامِ عَنِ الكَلامِ الأوَّلِ، مُعَنْوِنًا لَهُ بِما يُفِيدُ أنَّ شَأْنَ جِنْسِ الكَفَرَةِ عَدَمُ إجْداءِ الإنْذارِ لَهم، وأنَّهُ لا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمْ ما هو المَطْلُوبُ مِنهم مِنَ الإيمانِ، وأنَّ وُجُودَ ذَلِكَ كَعَدَمِهِ.

و" سَواءٌ " اسْمٌ بِمَعْنى الِاسْتِواءِ وُصِفَ بِهِ كَما يُوصَفُ بِالمَصادِرِ، والهَمْزَةُ وأمْ مُجَرَّدَتانِ لِمَعْنى الِاسْتِواءِ غَيْرُ مُرادٍ بِهِما ما هو أصْلُهُما مِنَ الِاسْتِفْهامِ، وصَحَّ الِابْتِداءُ بِالفِعْلِ والإخْبارِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: " سَواءٌ "، هَجْرًا لِجانِبِ اللَّفْظِ إلى جانِبِ المَعْنى، كَأنَّهُ قالَ: الإنْذارُ وعَدَمُهُ سَواءٌ، كَقَوْلِهِمْ: تَسْمَعُ بِالمُعِيدِيِّ خَيْرٌ مِن أنْ تَراهُ: أيْ سَماعُكَ.

وأصْلُ الكُفْرِ في اللُّغَةِ: السَّتْرُ والتَّغْطِيَةُ، قالَ الشّاعِرُ:
فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ غَمامُها

أيْ سَتَرَها، ومِنهُ سُمِّيَ الكافِرُ كافِرًا لِأنَّهُ يُغَطِّي بِكُفْرِهِ ما يَجِبُ أنْ يَكُونَ عَلَيْهِ مِنَ الإيمانِ.
والإنْذارُ: الإبْلاغُ والإعْلامُ.
قالَ القُرْطُبِيُّ: واخْتَلَفَ العُلَماءُ في تَأْوِيلِ هَذِهِ الآيَةِ، فَقِيلَ: هي عامَّةٌ ومَعْناها الخُصُوصُ فِيمَن سَبَقَتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العَذابِ، وسَبَقَ في عِلْمِ اللَّهِ أنَّهُ يَمُوتُ عَلى كُفْرِهِ.
أرادَ اللَّهُ تَعالى أنْ يُعْلِمَ النّاسَ أنَّ فِيهِمْ مَن هَذا حالُهُ دُونَ أنْ يُعَيِّنَ أحَدًا.
وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ والكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ في رُؤَساءِ اليَهُودِ حُيَيِّ بْنِ أخْطَبَ وكَعْبِ بْنِ الأشْرَفِ ونُظَرائِهِما.
وقالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنَسٍ: نَزَلَتْ فِيمَن قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ مِن قادَةِ الأحْزابِ، والأوَّلُ أصَحُّ، فَإنَّ مَن عَيَّنَ أحَدًا فَإنَّما مَثَّلَ بِمَن كُشِفَ الغَيْبُ بِمَوْتِهِ عَلى الكُفْرِ انْتَهى.
وقَوْلُهُ: لا يُؤْمِنُونَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ: أيْ هم لا يُؤْمِنُونَ، وهي جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِأنَّها جَوابُ سُؤالٍ مُقَدَّرٍ كَأنَّهُ قِيلَ: هَؤُلاءِ الَّذِي اسْتَوى حالُهم مَعَ الإنْذارِ وعَدَمِهِ ماذا يَكُونُ مِنهم ؟ فَقِيلَ: لا يُؤْمِنُونَ: أيْ هم لا يُؤْمِنُونَ: وقالَ في الكَشّافِ: إنَّها جُمْلَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِلْجُمْلَةِ الأُولى، أوْ خَبَرٌ لِأنَّ والجُمْلَةُ قَبْلَها اعْتِراضٌ انْتَهى.
والأوْلى ما ذَكَرْناهُ، لِأنَّ المَقْصُودَ الإخْبارُ عَنْ عَدَمِ الِاعْتِدادِ بِإنْذارِهِمْ، وأنَّهُ لا يُجْدِي شَيْئًا بَلْ بِمَنزِلَةِ العَدَمِ، فَهَذِهِ الجُمْلَةُ هي الَّتِي وقَعَتْ خَبَرًا لِأنَّ، وما بَعْدَها مِن عَدَمِ الإيمانِ مُتَسَبِّبٌ عَنْها لا أنَّهُ المَقْصُودُ.
وقَدْ قالَ بِمِثْلِ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ القُرْطُبِيُّ.
وقالَ ابْنُ كَيْسانَ: إنَّ خَبَرَ إنَّ سَواءٌ، وما بَعْدَهُ يَقُومُ مَقامَ الصِّلَةِ.
وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ المُبَرِّدُ: سَواءٌ رُفِعَ بِالِابْتِداءِ، وخَبَرُهُ ﴿أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهم﴾، والجُمْلَةُ خَبَرُ إنَّ، والخَتْمُ: مَصْدَرُ خَتَمْتُ الشَّيْءَ، ومَعْناهُ: التَّغْطِيَةُ عَلى الشَّيْءِ والِاسْتِيثاقُ مِنهُ حَتّى لا يَدْخُلَهُ شَيْءٌ، ومِنهُ خَتْمُ الكِتابِ والبابِ وما يُشْبِهُ ذَلِكَ حَتّى لا يُوصَلَ إلى ما فِيهِ ولا يُوضَعَ فِيهِ غَيْرُهُ.
والغِشاوَةُ: الغِطاءُ، ومِنهُ غاشِيَةُ السَّرْجِ، والمُرادُ بِالخَتْمِ والغِشاوَةِ هُنا هُما المَعْنَوِيّانِ لا الحِسِّيّانِ: أيْ لَمّا كانَتْ قُلُوبُهم غَيْرَ واعِيَةٍ لِما وصَلَ إلَيْها، والأسْماعُ غَيْرَ مُؤَدِّيَةٍ لِما يَطْرُقُها مِنَ الآياتِ البَيِّناتِ إلى العَقْلِ عَلى وجْهٍ مَفْهُومٍ، والأبْصارُ غَيْرَ مَهْدِيَّةٍ لِلنَّظَرِ في مَخْلُوقاتِهِ وعَجائِبِ مَصْنُوعاتِهِ جُعِلَتْ بِمَنزِلَةِ الأشْياءِ المَخْتُومِ عَلَيْها خَتْمًا حِسِّيًّا، والمُسْتَوْثَقِ مِنها اسْتِيثاقًا حَقِيقِيًّا، والمُغَطّاةِ بِغِطاءٍ مُدْرَكٍ اسْتِعارَةً أوْ تَمْثِيلًا، وإسْنادُ الخَتْمِ إلى اللَّهِ قَدِ احْتَجَّ بِهِ أهْلُ السُّنَّةِ عَلى المُعْتَزِلَةِ، وحاوَلُوا دَفْعَ هَذِهِ الحُجَّةِ بِمِثْلِ ما ذَكَرَهُ صاحِبُ الكَشّافِ، والكَلامُ عَلى مِثْلِ هَذا مُتَقَرِّرٌ في مَواطِنِهِ.
وقَدِ اخْتُلِفَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وعَلى سَمْعِهِمْ﴾ هَلْ هو داخِلٌ في حُكْمِ الخَتْمِ فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلى القُلُوبِ أوْ في حُكْمِ التَّغْشِيَةِ، فَقِيلَ: إنَّ الوَقْفَ عَلى قَوْلِهِ: ﴿وعَلى سَمْعِهِمْ﴾ تامٌّ، وما بَعْدَهُ كَلامٌ مُسْتَقِلٌّ، فَيَكُونُ الطَّبْعُ عَلى القُلُوبِ والأسْماعِ، والغِشاوَةُ عَلى الأبْصارِ كَما قالَهُ جَماعَةٌ، وقَدْ قُرِئَ: " غِشاوَةً " بِالنَّصْبِ.
قالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَحْتَمِلُ أنَّهُ نَصَبَها بِإضْمارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: وجَعَلَ عَلى أبْصارِهِمْ غِشاوَةً، ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ نَصْبُها عَلى الإتْباعِ عَلى مَحَلِّ وعَلى سَمْعِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وحُورٌ عِينٌ﴾ [الواقعة: ٢٢] وقَوْلِ الشّاعِرِ:
عَلَفْتُها تِبْنًا وماءً بارِدًا

وإنَّما وحَّدَ السَّمْعَ مَعَ جَمْعِ القُلُوبِ والأبْصارِ؛ لِأنَّهُ مَصْدَرٌ يَقَعُ عَلى القَلِيلِ والكَثِيرِ.
والعَذابُ: هو ما يُؤْلِمُ، وهو مَأْخُوذٌ مِنَ الحَبْسِ والمَنعِ، يُقالُ في اللُّغَةِ أعْذَبَهُ عَنْ كَذا: حَبَسَهُ ومَنَعَهُ، ومِنهُ عُذُوبَةُ الماءِ لِأنَّها حُبِسَتْ في الإناءِ حَتّى صَفَتْ.
وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والطَّبَرانِيُّ في الكَبِيرِ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ والبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهُمْ﴾ قالَ: كانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ يَحْرِصُ أنْ يُؤْمِنَ جَمِيعُ النّاسِ ويُتابِعُوهُ عَلى الهُدى، فَأخْبَرَهُ اللَّهُ أنَّهُ لا يُؤْمِنُ إلّا مَن سَبَقَ لَهُ مِنَ اللَّهِ السَّعادَةُ في الذِّكْرِ الأوَّلِ، ولا يَضِلُّ إلّا مَن سَبَقَ لَهُ مِنَ اللَّهِ الشَّقاوَةُ في الذِّكْرِ الأوَّلِ.
وأخْرَجَ ابْنُ إسْحاقَ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أيْضًا في تَفْسِيرِ الآيَةِ: أنَّهم قَدْ كَفَرُوا بِما عِنْدَهم مِن ذِكْرِكَ، وجَحَدُوا ما أُخِذَ عَلَيْهِمْ مِنَ المِيثاقِ، فَكَيْفَ يَسْمَعُونَ مِنكَ إنْذارًا وتَحْذِيرًا، وقَدْ كَفَرُوا بِما عِنْدَهم مِن عِلْمِكَ.
﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وعَلى سَمْعِهِمْ وعَلى أبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ﴾ .
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ أبِي العالِيَةِ في قَوْلِهِ: إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا قالَ: نَزَلَتْ هاتانِ الآيَتانِ في قادَةِ الأحْزابِ، وهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ في هَذِهِ الآيَةِ: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا﴾ [إبراهيم: ٢٨] قالَ: فَهُمُ الَّذِينَ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ، ولَمْ يَدْخُلِ القادَةُ في الإسْلامِ إلّا رَجُلانِ: أبُو سُفْيانَ، والحَكَمُ بْنُ العاصِ.
وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنِ السُّدِّيِّ في قَوْلِهِ: ﴿أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ قالَ: أوَعَظْتَهم أمْ لَمْ تَعِظْهم.
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتادَةَ في هَذِهِ الآيَةِ قالَ: أطاعُوا الشَّيْطانَ فاسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ، فَخَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وعَلى سَمْعِهِمْ وعَلى أبْصارِهِمْ غِشاوَةً فَهم لا يُبْصِرُونَ هُدًى، ولا يَسْمَعُونَ ولا يَفْقَهُونَ ولا يَعْقِلُونَ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، قالَ: الخَتْمُ عَلى قُلُوبِهِمْ وعَلى سَمْعِهِمْ والغِشاوَةُ عَلى أبْصارِهِمْ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وعَلى سَمْعِهِمْ﴾ فَلا يَعْقِلُونَ ولا يَسْمَعُونَ، وجَعَلَ عَلى أبْصارِهِمْ: يَعْنِي أعْيُنَهم غِشاوَةً فَهم لا يُبْصِرُونَ.
ورَوى ذَلِكَ السُّدِّيُّ عَنْ جَماعَةٍ مِنَ الصَّحابَةِ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قالَ: الخَتْمُ عَلى القَلْبِ والسَّمْعِ، والغِشاوَةُ عَلى البَصَرِ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَإنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ﴾ [الشورى: ٢٤] وقالَ: ﴿وخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وقَلْبِهِ وجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً﴾ [الجاثية: ٢٣] .
قالَ ابْنُ جَرِيرٍ في مَعْنى الخَتْمِ: والحَقُّ عِنْدِي في ذَلِكَ ما صَحَّ نَظِيرُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ، ثُمَّ ذَكَرَ إسْنادًا مُتَّصِلًا بِأبِي هُرَيْرَةَ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «إنَّ المُؤْمِنَ إذا أذْنَبَ ذَنْبًا كانَ نُكْتَةً سَوْداءَ في قَلْبِهِ، فَإنْ تابَ ونَزَعَ واسْتَعْتَبَ صُقِلَ قَلْبُهُ، وإنْ زادَ زادَتْ حَتّى تُغْلِقَ قَلْبَهُ فَذَلِكَ الرّانُ الَّذِي قالَ اللَّهُ: ﴿كَلّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين: ١٤] ٣٠» .
وقَدْ رَواهُ مِن هَذا الوَجْهِ التِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ والنَّسائِيُّ.
ثُمَّ قالَ ابْنُ جَرِيرٍ فَأخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ أنَّ الذُّنُوبَ إذا تَتابَعَتْ عَلى القُلُوبِ أغْلَقَتْها، وإذا أغْلَقَتْها أتاها حِينَئِذٍ الخَتْمُ مِن قِبَلِ اللَّهِ سُبْحانَهُ والطَّبْعُ فَلا يَكُونُ إلَيْها مَسْلَكٌ ولا لِلْكُفْرِ مِنها مَخْلَصٌ، فَذَلِكَ هو الخَتْمُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ في قَوْلِهِ: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وعَلى سَمْعِهِمْ﴾ نَظِيرُ الطَّبْعِ والخَتْمِ عَلى ما تُدْرِكُهُ الأبْصارُ مِنَ الأوْعِيَةِ والظُّرُوفِ الَّتِي لا يُوصَلُ إلى ما فِيها إلّا بِفَضِّ ذَلِكَ عَنْها ثُمَّ حَلِّها، فَذَلِكَ لا يَصِلُ الإيمانُ إلى قُلُوبِ مَن وصَفَ اللَّهُ أنَّهُ خَتَمَ عَلى قُلُوبِهِمْ إلّا بَعْدَ فَضِّ خاتَمِهِ، وحَلِّ رِباطِهِ عَنْها.


تيسير الكريم الرحمن — السعدي (١٣٧٦ هـ)



﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ سَوَاۤءٌ عَلَیۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ﴾ [البقرة ٦]
فلهذا لما ذكر صفات المؤمنين حقا، ذكر صفات الكفار المظهرين لكفرهم، المعاندين للرسول يخبر تعالى أن الذين كفروا، أي: اتصفوا بالكفر، وانصبغوا به، وصار وصفا لهم لازما، لا يردعهم عنه رادع، ولا ينجع فيهم وعظ، إنهم مستمرون على كفرهم، فسواء عليهم أأنذرتهم، أم لم تنذرهم لا يؤمنون، وحقيقة الكفر: هو الجحود لما جاء به الرسول، أو جحد بعضه، فهؤلاء الكفار لا تفيدهم الدعوة إلا إقامة الحجة، وكأن في هذا قطعا لطمع الرسول ﷺ في إيمانهم، وأنك لا تأس عليهم، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات.



تفسير القرآن الكريم — ابن عثيمين (١٤٢١ هـ)

﴿الۤمۤ (١) ذَ ٰ⁠لِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ (٢) ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ (٣) وَٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ وَمَاۤ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡـَٔاخِرَةِ هُمۡ یُوقِنُونَ (٤) أُو۟لَـٰۤىِٕكَ عَلَىٰ هُدࣰى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ (٥) إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ سَوَاۤءٌ عَلَیۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ (٦) خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَعَلَىٰ سَمۡعِهِمۡۖ وَعَلَىٰۤ أَبۡصَـٰرِهِمۡ غِشَـٰوَةࣱۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِیمࣱ (٧) وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن یَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِینَ (٨) یُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَمَا یَخۡدَعُونَ إِلَّاۤ أَنفُسَهُمۡ وَمَا یَشۡعُرُونَ (٩)﴾ [البقرة ١-٩]
نبدأ أولًا في الفاتحة، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (١) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: ١ – ٣] إلى آخره. 
* أولًا: سورة الفاتحة سميت بذلك لأنه افتُتح بها القرآن الكريم، وقد قيل: إنها أول سورة نزلت كاملة، وقيل: إن أول سورة نزلت كاملة (اقرأ)، وإن الله تعالى كمّلها، ثم جاءت السور، فالله أعلم. 
هذه السورة قال العلماء: إنها تشتمل على مجمل معاني القرآن؛ في التوحيد، والأحكام، والجزاء، وطرق بني آدم، وغير ذلك، ولهذا سميت أم القرآن، والأمّ هو المرجع، المرجع للشيء يسمى أُمًّا، وهذه السورة لها مميزات تتميز بها عن غيرها؛ منها: أنها ركن في الصلوات التي هي أفضل أركان الإسلام بعد الشهادتين، فلا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب. 
ومنها: أنها رقية، إذا قُرئ بها على المريض شفي بإذن الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال للذي قرأها على اللديغ قال له: « وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟»(١). 
وقد ابتدع بعض الناس اليوم في هذه السورة بدعة وصاروا يختمون بها الدعاء ويبتدئون بها الخطب أو الأحوال، وهذا غلط، تجد مثلا إذا دعا ثم دعا ثم دعا قال بعد ذلك: الفاتحة، إيش الفاتحة؟ من أين جاء بها؟ أو بعض الناس يبتدئ بها في خطبه أو في أحواله، وهذا أيضا غلط؛ لأن العبادات مبناها على التوقيف والاتباع. 
يقول الله عز وجل: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، ولا حاجة إلى الكلام عن البسملة من حيث المعنى ولا من حيث الإعراب؛ لأنها تكررت علينا كثيرًا، لكن الكلام: هل البسملة آية من الفاتحة أو لا؟ 
في هذا خلاف بين العلماء: 
فمنهم من يقول: إنها آية من الفاتحة، ويقرأ بها جهرًا في الصلاة الجهرية، ويرى أنه لا تصح الصلاة إلا بقراءة البسملة لأنها من الفاتحة. 
ومنهم من يقول: إنها ليست من الفاتحة، وهذا القول هو الحق، ودليل هذا: النص، وسياق السورة. 
أما النص: فقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: « قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ؛ فَإِذَا قَالَ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ قَالَ: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ قَالَ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَإِذَا قَالَ: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ - إِلَى آخِرِهِ - قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ»(٢)، وهذا كالنص على أن البسملة ليست من الفاتحة. 
أما من حيث السياق: فالفاتحة سبع آيات بالاتفاق، وإذا أردت أن توزع سبع الآيات على موضوع السورة وجدت أن نصفها هو قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، وهي الآية التي قال الله فيها: « قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ»؛ لأن ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ واحدة، ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ الثانية، ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ الثالثة، وكلها حق لله. ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ الرابعة، يعني وسط الآن، وهي قسمان: قسم منها حق لله، وقسم حق للعبد. ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ للعبد، ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ للعبد، ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ للعبد. 
ثم من جهة السياق من حيث اللفظ: لو قلنا: إن البسملة آية لزم أن تكون الآية السابعة طويلة على قدر، كم؟ على قدر آيتين، لزم أن تكون طويلة على قدر آيتين، شوف ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾، كم من سطر عندكم؟ سطرين. ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ سطر عندي، ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ أقل من سطر، ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ كذلك، و ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ كذلك، فكيف يكون هناك تناسب مع أن بعض الآيات أقل من السطر وهذه سطران، فالصواب الذي لا شك فيه أن البسملة ليست منها، كما أنها - أي البسملة - ليست من بقية السور. 
قال الله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الحمد) وصف المحمود بالكمال الذاتي والوصفي والفعلي، فهو كامل في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله، فهو وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم، ولا بد من هذا القيد؛ قال أهل العلم: لأن مجرد الوصف بالكمال بدون محبة ولا تعظيم لا يسمى حمدا، وإنما يسمى مدحا، ولهذا يقع من إنسان لا يحب الممدوح لكنه يريد أن ينال منه شيئا، تجد بعض الشعراء يقف أمام الخلفاء ثم يأتي لهم بأوصاف عظيمة، لا محبةً فيه ولكنْ محبةً في المال الذي يعطونه أو خوفًا منهم، لكن حمْدنا لربنا عز وجل محبة وتعظيم، فلذلك صار لا بد من القيد في الحمد أنه وصف المحمود بالكمال، إيش؟ مع المحبة والتعظيم. 
وقوله: ﴿لِلَّهِ﴾ الله عز وجل، هذا اللفظ علم على ربنا عز وجل لا يسمى به غيره، وهو علم تتبعه الأعلام الأخرى، أي تتبعه الأسماء، ولهذا دائما يأتي متبوعا، إلا في مواضع قليلة مثل قوله تعالى: ﴿صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [إبراهيم ١، ٢] فإن هذه الكلمة تابعة لما قبلها، وهو قليل. 
وقوله: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الرب هو ما اجتمع فيه ثلاثة أوصاف: الخلق، والملك، والتدبير، فهو الخالق عز وجل، وهو المدبر لجميع الأمور، وهو المالك لكل شيء. 
و﴿الْعَالَمِينَ﴾ قال العلماء: كل من سوى الله فهو من العالَم، ووُصفوا بذلك لأنهم عَلَم على خالقهم سبحانه وتعالى. 
﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ الرحمن صفة للفظ الجلالة، والرحيم صفة أخرى، والرحمن هو ذو الرحمة الواسعة، والرحيم هو ذو الرحمة الواصلة، فالرحمن وصْفُه، والرحيم فِعْله، ولو أنه جيء بالرحيم وحده وبالرحمن وحده لشمل الوصف والفعل، لكن إذا اقترنا فُسِّر الرحمن بالوصف، والرحيم بالفعل ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾. وفي ذكر ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ بعد ذكر الربوبية دليل على أن ربوبيته تبارك وتعالى مبنية على الرحمة، الرحمة للخلق، الرحمة الواسعة الواصلة. 
﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة ٤] مالك: صفة لرب، ويوم الدين: هو يوم القيامة، والدين هنا بمعنى إيش؟ الجزاء، بمعنى الجزاء، يعني أنه سبحانه وتعالى مالك لذلك اليوم الذي يجازَى فيه الخلائق، فلا مالك غيره في ذلك اليوم. 
فإن قال قائل: أليس مالك الدين والدنيا؟ فالجواب: بلى، لكن ظهور ملكوته وملكه وسلطانه إنما يكون في ذلك اليوم؛ لأن الله تعالى ينادي ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾ [غافر ١٦]؟ فلا يجيب أحد فيقول: ﴿لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [غافر ١٦]. في الدنيا يظهر الملوك، بل يظهر ملوك يعتقد شعوبهم أنه لا مالك إلا هم، فالشيوعيون مثلا لا يرون أن هناك ربا للسماوات والأرض، يرون أنها حياة، أرحام تدفع وأرض تبلع، وأن ربهم هو رئيسهم، طيب، إذن خُص ملكه بيوم الدين لأنه يظهر فيه ملكوته وملكه. وفي قراءة سبعية ﴿مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾(٣) والملك أخص من المالك؛ لأن الملك هو ذو السلطة المطلقة، ولا يسمى ملك إلا مَن تحته رعية، أما مالك فهو ليس له سلطة مطلقة، ثم هو لا يحتاج إلى أن يكون تحته رعية، ولهذا تجد الفقير الصعلوك يملك بقرته، يملك شاته، لكن في الجمع بين القراءتين فائدة عظيمة، وهو أن ملكه جل وعلا ملك حقيقي؛ لأن من الخلق من يكون ملكا ولكن ليس بمالك، يسمى ملكا اسما وليس له من التدبير شيء، ومن الناس من يكون مالكا ولا يكون ملكا، كعامة الناس، لكن الرب عز وجل مالك ملك. 
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة ٥]، نعبد، ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ لو طلبنا إعراب ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ فبماذا تجيبون؟ 
* طالب: مفعول به مقدم. 
* الشيخ: أنه مفعول به مقدم، ولماذا انفصل مع إمكان الوصل، يعني يمكن أن يقول: نعبدك، فنقول: لو وصلنا فات أمر مهم، ألا وهو الحصر، فهنا لما قدمناه للحصر لزم أن يُفصل، لو قلت: ك نعبد، ما يستقيم الكلام وليس بلغة عربية. ﴿إِيَّاكَ﴾ يعني لا سواك، ﴿نَعْبُدُ﴾ أي نتذلل له أكمل ذل، ولهذا تجد المؤمنين -جعلني الله وإياكم منهم- يضعون أشرف ما في أجسامهم في موطئ الأقدام ذلّا لله عز وجل، يسجد على التراب، تمتلئ جبهته من التراب، يسجد على موطئ الأقدام،كل هذا ذلّا لله، ولو أن إنسانا قال: أنا أعطيك الدنيا كلها واسجد لي، ما وافق المؤمن أبدا؛ لأن هذا الذل لله عز وجل، والعبادة تتضمن القيام بكل ما أمر الله به، وترْك كل ما نهى الله عنه؛ لأن من لم يكن كذلك فليس بعابد، لو لم يفعل الأمر، يعني لو لم يفعل المأمورَ به فهل يكون عابدا حقا؟ أبدا، ولو لم يترك المنهي عنه ما كان عبدا حقا، العبد الذي يوافق المعبود في مراده الشرعي، إذن فالعبادة تستلزم أن يقوم الإنسان بكل ما أُمر به، وأن يترك كل ما نُهي عنه، ولكن هل قيامك هذا يمكن أن يكون بغير معونة الله؟ لا، لا يمكن، ولهذا قال: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، يعني لا نستعين إلا إياك على العبادة، والله سبحانه وتعالى يجمع بين العبادة والاستعانة أو التوكل في مواطن عدة من القرآن الكريم؛ لأنه لا قيام بالعبادة على الوجه الأكمل إلا بمعونة الله، والتفويض إليه، والتوكل عليه. 
﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة ٦] ﴿الصِّرَاطَ﴾ فيها قراءتان: بالسين(٤) وبالصاد الخالصة؛ ﴿السِّرَاطَ﴾ و﴿الصِّرَاطَ﴾، والمراد بالصراط هنا: الطريق، والمراد بالهداية: هداية الإرشاد وهداية التوفيق، فأنت بقولك: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ تسأل الله تعالى علما وعملا، ولهذا جاءت متعدية بنفسها إلى المفعول لا بحرف (إلى) الدال على الغاية، عرفتم؟ فيشمل الهداية إلى الطريق، وهذا بالعلم، والهداية في الطريق، وهذا بالعمل والتوفيق. 
وقوله: ﴿الْمُسْتَقِيمَ﴾ الذي لا اعوجاج فيه، وهذا الصراط الذي لا اعوجاج فيه بيّن الله تعالى في هذه الآية قوله: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة ٧]، ففي هذه الآية بيّن الله عز وجل أصناف الناس أنها ثلاثة: الذين أنعم الله عليهم، والمغضوب عليهم، وإيش؟ والضالون، فمن هؤلاء؟ الذين أنعم الله عليهم هم الذين علموا الحق وعملوا به، والذين غضب الله عليهم هم الذين علموا الحق ولم يعملوا به، والضالون هم الذين عملوا بغير علم، جاهلون، يريدون الحق ويريدون العبادة لكنهم جاهلون تعبّدوا لله بغير علم، انظر كيف قدم المغضوب عليهم على الضالين لأن مخالفتهم لطريق الذين أنعم الله عليهم أشد؛ لأنهم خالفوا عن علم، والمخالف عن علم أشد كبرا واستكبارا وعقوبة من الذين خالفوا عن غير علم، وكلتا الطائفتين ضالة، وذلك لأنهم ليسوا على هدى من الله. 
وفي قوله: ﴿أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ قراءتان كذلك (عليهم) ضم الهاء وكسرها أي ﴿صِرَاطَ الذَّيِنَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهُمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهُمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ قراءة سبعية(٥)، ولكن أكرر ما قلته سابقا أن القراءات التي ليست في المصحف لا ينبغي أن نقرأ بها عند العامة؛ لسببين بل لأسباب ثلاثة، السبب الأول: أن العامة إذا رأوا هذا القرآن العظيم الذي قد ملأ قلوبهم تعظيمُه، إذا رأوه مرة كذا ومرة كذا تنزل منزلته لا شك، تهبط عندهم؛ لأنهم عوام لا يفرقون، فينبغي أن يبقى القرآن الكريم محترما لا يُغيَّر فيه بشيء، ثانيا: أن القارئ يُتهم بأنه لا يعرف، العامي ما الذي يعلم؟! لو يأتي إنسان يقرأ عليه مثلا بقراءة غير التي في مصحفه لكان يهجم عليه وربما يضربه، ربما يطرده من المسجد، القرآن عند العامة محترم جدا، وهو عندنا والحمد لله، لكن إذا أتيت بما لا يعرف العامي فيا ويلك منه، وهذه مفسدة أن الناس يستهينونك ويقولون: هذا ما فيه خير، هذا ما يعرف ولا يقرأ، نعم، الآن لو تقرأ عند العامي ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهُمْ﴾ نعم، قال: هذا ما يعرف يضم اسم (...) يقول عليهم، ليش ما قال ﴿عَلَيْهِمْ﴾ بالكسرة. 
المفسدة الثالثة: أنك إذا قرأت عند العوام وأحسن العامي بك الظن، وقال هذا: إنه لم يقرأ إلا عن علم، ثم حاول أن يقلدك مرة أخرى فقد يخطئ، ثم يقرأ القرآن لا على قراءة المصحف، ولا على قراءة التالي الذي قرأها، وهذه مفسدة، ولهذا قال علِيّ: «حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يُكذَّب الله ورسوله »(٦)؟ 
وقال ابن مسعود: إنك لم تحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة(٧)،« عمر بن الخطاب مع هشام بن الحكم ماذا فعل به حين قرأ في سورة الفرقان بقراءة لم يسمعها عمر؟ نعم جبذه وتلّه وخاصمه، وأنكر قراءته، حتى وصلا إلى النبي ﷺ وقال: « اقْرَأْ». فقرأ، فقال: « هَكَذَا أُنْزِلَتْ». قال لعمر: « اقْرَأْ». فقرأ، قال: « هَكَذَا أُنْزِلَتْ»(٨)؛ لأن القرآن في الأول نزل على سبعة أحرف، فإذا كان عمر رضي الله عنه فعل ما فعل بصحابي، فما بالك بعامي يسمعك تقرأ غير قراءتك، نعم؟ يا ويلك منه، والحمد لله، ما دام أن العلماء متفقون على أنه لا يجب أن يقرأ الإنسان بكل قراءة، وأنه لو اقتصر على واحدة من القراءات فلا بأس، هدأ الفتنة وأسبابها، والسورة فيها فوائد عظيمة، وقد شرحها ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين شرحا لا تجده في غيره من الكتب، شرحا عظيما. الحمد لله رب العالمين. 
* من فوائد الآية الكريمة ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾: إثبات الحمد لله عز وجل الكامل، وإثبات استحقاقه واختصاصه بذلك، أما الكامل فمن صيغة (أل) ﴿الْحَمْدُ﴾، وأما الاختصاص والاستحقاق فمن اللام ﴿لِلَّهِ﴾. 
* ومن فوائد الآية الكريمة: تقديم وصف الله تعالى بالألوهية على وصفه بالربوبية، لم يقل: لرب العالمين، ولكنه قال: ﴿لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، وهذا إما لأن (الله) هو الاسم العلم الخاص به والذي تتبعه جميع الأسماء، وإما أن يقال: لأن الألوهية قدمها الله عز وجل على ذكر ربوبيته سبحانه وتعالى؛ لأن الذين جاءت إليهم الرسل ينكرون الألوهية فقط. 
* ومن فوائدها: عموم ربوبية الله تعالى لجميع العالم؛ لقوله: ﴿الْعَالَمِينَ﴾ وسبق لنا في التفسير أن المراد بالعالَم مَن سوى الله عز وجل، كل المخلوقات النامي وغير النامي، والعاقل وغير العاقل. 
﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ * من فوائد هذه الآية: إثبات هذين الاسمين الكريمين: الرحمن والرحيم، وإثبات ما تضمناه من الرحمة التي هي الوصف، والرحمة التي هي الفعل. 
* ومن فوائدها: أن ربوبية الله عز وجل مبنية على الرحمة؛ لأنه لما قال: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ كأن سائلًا يسأل: ما نوع هذه الربوبية؟ هل هي ربوبية أخذ وانتقام، أو ربوبية رحمة وإنعام؟ قال: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾. 
* ومن فوائد الآية التي بعدها ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ أو ﴿مَلِكِ﴾ : إثبات ملك الله عز وجل وملكوته ليوم الدين، وإنما خص ذلك لما ذكرناه في التفسير من أنه في ذلك اليوم تتلاشى جميع الملكيات والملوك أيضا. 
* ومن فوائدها: إثبات البعث؛ لقوله: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾. 
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ من فوائدها: إخلاص العبادة لله، في قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، ووجه الإخلاص تقديم المعمول. 
* ومن فوائدها أيضا: إخلاص الاستعانة لله عز وجل؛ لقوله: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ حيث قدم المفعول. 
فإن قال قائل: كيف يقال: إخلاص الاستعانة لله وقد جاء في قوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة ٢] إثبات المعونة من غير الله عز وجل؟ 
قلنا: الاستعانة نوعان: استعانة تفويض، بمعنى أنك تعتمد على الله عز وجل وتتبرأ من حولك وقوتك، وهذا خاص بالله عز وجل، واستعانة بمعنى المشاركة فيما تريد أن تقوم به، فهذه ليست عبادة، ولهذا قال الله تعالى: ﴿تَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾. 
فإن قال قائل: وهل الاستعانة بالمخلوق جائزة في جميع الأحوال؟ قلنا: لا، الاستعانة بالمخلوق إنما تجوز حيث كان المستعان قادرا عليها، وأما إذا لم يكن قادرا فإنه لا يجوز أن تستعين به، فلو أن أحدا من الناس استعان بقبر فإن هذا حرام، بل هو شرك؛ لأن صاحب القبر لا يغني عن نفسه شيئا، فكيف ينفعك؟! ولو استعان بغائب في أمر لا يقدر عليه، مثل أن يعتقد أن الولي الذي في شرق الدنيا يعينه على مهمته في بلده، فهذا أيضا شرك شركا أكبر؛ لأنه لا يقدر على أن يعينك وهو هناك. 
فإن قال قائل: وهل الاستعانة بالمخلوق جائزة؟ قلنا: الأولى أن لا تفعل، فالإنسان مأمور أن يعين أخاه، لكن الغير لا ينبغي أن يستعين؛ لأن الاستعانة بغيره من باب السؤال المذموم، لكن أنت إذا رأيت أخاك قد احتاج إلى معونة فأنت مأمور بأن تعينه، ولكن لو استعنته فإنه ليس حراما، ليس حراما عليك، إنما هو ترك للأولى، إلا إذا علمت أن استعانتك به مما يسره وينشرح له صدره، فهنا إذا استعنته تكون محسنا إليه، ولا يعد هذا من المسألة المذمومة، كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام« حين دخل بيته ووجد البرمة على النار فيها اللحم، فلما قُدِّم له الطعام قال: « أَلَمْ أَرَ الْبُرْمَةَ عَلَى النَّارِ؟»، قالوا: بلى يا رسول الله، لكن هذا لحم تُصُدِّق به على بريرة، فقال: « هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا مِنْهَا هَدِيَّةٌ»(٩)، أرأيتم بريرة في هذه الحال هل سيكون هذا الأمر شاقا عليها؟ أبدا، بل ستُسَر به وتفرح، فأنت مثلا إذا استعنت بأخيك في حاجة من الحوائج وأنت تعلم أنه يُسَر بهذا ويفرح فإن استعانتك به تكون إحسانا إليه، لكن لو استعنت بشخص يرى أن استعانتك به أثقل عليه من جبل أحد، هل تستعينه؟ لا؛ لأن هذا فيه إحراج عليه، وفيه إذلال لك أيضا. 
ومن فوائد قوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ لجوء الإنسان إلى الله عز وجل بعد استعانته على العبادة أن يهديه الصراط المستقيم؛ لأنه لا بد في العبادة من إخلاص يدل عليه ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، ومن استعانة لتقوى على العبادة؛ لقوله: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، ومن اتباع للشريعة في قوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾، فصارت هذه الآيات الثلاث متضمنة للدين كله: عبادة، والثاني: استعانة، والثالث: اتباع؛ لأن الصراط المستقيم هو الشريعة التي جاءت بها الرسل، وبالنسبة لنا هي الشريعة التي جاء بها مَن؟ نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ويعني هذا أن نتبع الرسول عليه الصلاة والسلام. 
* ومن فوائد الآية الكريمة: بلاغة القرآن، حيث حُذف حرف الجر من ﴿اهْدِنَا﴾، يعني لم يقل: اهدنا إلى، بل قال: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ﴾، والفائدة من ذلك لأجل أن يتضمن طلب الهداية التي هي دلالة العلم وهداية التوفيق؛ لأن الهداية تنقسم إلى قسمين: هداية علم وإرشاد، وهداية توفيق وعمل؛ فالأولى ليس فيها إلا مجرد الدلالة، والله سبحانه وتعالى قد هدى كل أحد، الثانية فيها التوفيق للهدى واتباع الشريعة، وهذه قد يُحرَمها بعض الناس، قال الله تعالى: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ [فصلت ٤١] ﴿هَدَيْنَاهُمْ﴾ يعنى بيّنّا لهم الحق ودللناهم عليه، ولكنهم لم يوفَّقوا له، فلهذا حُذفت (إلى) ليكون طلب الهداية في هذه الآية شاملا لهداية العلم والإرشاد وهداية التوفيق والاتباع. 
* ومن فوائدها: أن الصراط ينقسم إلى قسمين: مستقيم، ومعوج، فما كان موافقا للحق فهو مستقيم، قال الله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ﴾ [الأنعام ١٥٣]، وما كان مخالفا له فهو معوج. 
ثم قال: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ إلى آخره. 
* من فوائد هذه الآية الكريمة: ذكر التفصيل بعد الإجمال ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ لأن التفصيل بعد الإجمال فيه فائدة؛ فإن النفس إذا جاءها الكلام مجملا تترقب وتتشوف لإيش؟ للتفصيل والبيان، فقال: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾، ثم فيه أيضا الفائدة الثانية، وهو بيان أن الذين أنعم الله عليهم على الصراط المستقيم. 
* ومن فوائدها أيضا هي وما بعدها: انقسام الناس إلى ثلاثة أقسام: قسم أنعم الله عليهم، وقسم آخر غضب الله عليهم، وقسم ضالون؛ فالذين أنعم الله عليهم سبق أنهم الذين علموا الحق واتبعوه، وأما المغضوب عليهم فهم الذين علموا الحق وخالفوه، وأما الضالون فهم الذين جهلوا الحق. وأسباب الضلال والخروج عن الصراط المستقيم إما الجهل أو العناد، فمن الذي سبب خروجهم العناد؟ هم المغضوب عليهم وعلى رأسهم اليهود، والآخرون الذين سبب خروجهم الجهل هم كل من لا يعلم الحق، وعلى رأسهم النصارى، وهذا بالنسبة لحالهم قبل البعثة، أعني النصارى، أما بعد البعثة فقد علموا الحق، فصاروا هم واليهود سواء، كلهم مغضوب عليهم بل هم أشد؛ لأنهم يؤمنون بالنسخ، أعني النصارى، ولهذا يؤمنون بأن شريعة عيسى ناسخة لشريعة موسى، واليهود لا يؤمنون بذلك فهم على جادة باطلة، وأولئك تناقضوا فآمنوا بنسخ الشرائع في مَن؟ في عيسى بالنسبة لشريعة موسى، ولم يؤمنوا بنسخ الشرائع في شريعة محمد ﷺ بالنسبة لشريعة عيسى، فكانوا متناقضين، وكان طريقهم أخبث من طريق اليهود. 
وعلى كل حال السورة هذه عظيمة، ولا يمكن لا لي ولا لغيري أن يحيط بمعانيها العظيمة، لكن هذا قطرة من بحر.
ثم قال تعالى بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة ١، ٢]. 
هذه تسمى سورة البقرة؛ لأنه ذُكرت فيها البقرة، واعلم أن التسمية تكون بأدنى ملابسة، ولذلك تجد بعض السور فيها كلام كثير عن موضوع معين ولا تسمى به السورة، وفيها كلام قليل تسمى به السورة، وتسمية السور منها ما هو توقيفي، ومنها ما هو اجتهادي، فقد سمّى النبي ﷺ، سمى سورة البقرة وآل عمران(١٠) وغيرهما كثيرا، وفي بعضها التسمية توقيفية. 
أما البسملة فقد سبق الكلام عليها، وبيّنّنا أنها آية مستقلة يؤتى بها في ابتداء كل سورة سوى (براءة). 
قال الله تعالى: ﴿الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ (الم) هذه الكلمة مكونة من ثلاثة أحرف هجائية: ألف، ولام، وميم، فما معنى هذه الحروف التي تركبت منها هذه الكلمة؟ كثير من المفسرين يقول: الله أعلم بما أراد، وهذا لا شك أنه تأدُّب مع الله عز وجل، وإمساك عما لا يعلمه الإنسان. ومنهم من جعلها رموزا لأشياء معينة إما من أسماء الله أو غيرها من الحوادث، وهذا لم يَبْن ما قاله على علم، ومنهم من قال: إنها حروف هجائية ليس لها معنى، ولا نعلم لها معنى حسب مقتضى اللغة العربية، والقرآن الكريم نزل باللغة العربية، وعلى هذا فمن حقنا أن نقول: ليس لها معنى، بناء على أن القرآن عربي وأن مثل هذه الحروف المركبة ليس لها معنى، وهذا قول مجاهد رحمه الله، وهو إمام التابعين في التفسير، وهو القول الذي تقتضيه الأدلة، ولكن يبقى النظر لماذا جاء الله بها وهي ليس لها معنى حسب اللغة العربية؟ نقول: إشارة إلى أن هذا القرآن الكريم الذي أعجزكم أيها العرب لم يأت بجديد من كلامكم، بل أتى بما ترتبون منه كلامكم وتبنونه، أنتم كلامكم حروف: ألف، باء، تاء، ثاء، إلى آخره، هل القرآن جاء بشيء زائد؟ لا، ومع ذلك عجزتم أن تركبوا مثله، أعجزكم. 
وقد ذكر الله تعالى إعجاز القرآن على أربعة أوجه: إعجاز بكل القرآن، وإعجاز بعشر سور منه، وإعجاز بسورة منه، وإعجاز بمثله، كلها تكررت في القرآن، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾، وقال تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ﴾ [هود ١٣] وقال تعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ﴾، [الإسراء: ٨٨] وقال تعالى: ﴿فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِين﴾ [الطور ٣٤]، وقد تحدى الله عز وجل الخلق على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ولو بآية واحدة، كما تحداهم على أن يخلقوا أدنى مخلوقات الله، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَه﴾ [الحج ٧٣]. 
فالقول الراجح في هذه المسألة أعني الحروف الهجائية التي تُبتدأ بها بعض السور أنه ليس لها معنى، ولكن لها مغزى، وهو أن هذا القرآن الكريم لم يأت بجديد في الحروف التي جاء بها، بل هو جاء بالحروف التي تركّبون منها كلامكم ومع ذلك أعجزكم، ولهذا تجد السور المبدوءة بهذه الحروف الهجائية يأتي من بعدها ذكر القرآن أو شيء لا يكون إلا بوحي، فمثلا: ﴿الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ جاء بعدها ذكر القرآن، ﴿الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾ [الروم ١ - ٣] لم يأت فيها ذكر القرآن، ولكن جاء بعدها ما لا يمكن إلا بوحي. 
﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ يجوز أن نجعل (الكتاب) خبر (ذا)، ويجوز أن نجعلها نعتا أو عطف بيان، فإن جعلناها خبر (ذا) صار قوله: (لا ريب فيه) جملة مستأنفة، وإن جعلناه بدلا أو عطف بيان صارت (لا ريب فيه) إيش؟ خبر اسم الإشارة، والكتاب المشار إليه هو القرآن، وسمي كتابًا لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ، ومكتوب في الصحف التي بأيدي الملائكة، ﴿كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ﴾ [عبس ١١ - ١٥]، ومكتوب في المصاحف التي بين أيدينا. 
﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ (لا ريب)، ما معنى الريب؟ الشك، هكذا فسره أكثر العلماء، أن الريب هو الشك، لكن شيخ الإسلام رحمه الله(١١) له رأي في مثل هذه الألفاظ المترادفة؛ يقول: لا يوجد في اللغة العربية كلمة مرادفة لأخرى من كل وجه، لا بد أن يكون بينهما فرق، فالريب هنا ليس مطابقا للشك في إزائه من كل وجه؛ لأن الريب، يقول: شك مع قلق وارتياب، فهو إذن أخص من الشك، لكن لا مانع أن نفسر الكلمة بما هو قريب منها، لا سيما إذا كان المخاطَب لا يتصور الفرق. 
وقوله: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ (لا) نافية للجنس، فيشمل أدنى ريب، يعني ما فيه أدنى ريب. 
وقوله: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ الهدى بمعنى الدلالة، القرآن نفسه لا يهدي هداية توفيق، لكنه يهدي هداية دلالة؛ ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾. في آية أخرى ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاس﴾ [البقرة ١٨٥] فأي فرق بين هذا وهذا؟ نقول: أما كونه هدى للناس فهذا هو الأصل، أن القرآن يمكن أن يهتدي به كل أحد، وأما إضافة الهدى إلى المتقين فلأن المتقين هم الذين انتفعوا به فصار هدى لهم، ومَن المتقون؟ الذين قاموا بأوامر الله وتركوا نواهي الله. 
في هذه الآية الكريمة بيان أن كلام الله عز وجل حروف، خلافا لمن قال: إن كلامه هو المعنى القائم بالنفس، ونحن نشرح ذلك: أصول الخلاف في هذا القرآن الكريم أو في كلام الله عمومًا: 
أولا: من قال: إن كلام الله هو المعنى القائم بنفسه، وما يُنقل من كلامه أو يسمع فهو عبارة عنه وليس هو كلام الله، بل عبارة عنه، وهو مخلوق. 
والثاني قال: إن الله تعالى لا يتكلم، وكلامه مخلوق كسائر مخلوقاته. 
ومنهم من قال: إن الله يتكلم بحرف وصوت، وليس كلامه هو المعنى فقط، بل كلامه اللفظ والمعنى. وهذا الذي قبله مذهب المعتزلة والجهمية، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، ومذهبهم هو الحق؛ لأن الأدلة تدل عليه، قال الله تعالى في موسى: ﴿وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا﴾ [مريم ٥٢] فلما كان بعيدا قال: ﴿نَادَيْنَاهُ﴾؛ لأن النداء يكون للبعيد، ولما قرب يعني لما قربه الله قال: ﴿قَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا﴾، أي: بصوت ليس نداء، وفي الحديث الصحيح:« أَنَّ اللهَ يُنَادِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ: يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، فَيُنَادِي بِصَوْتٍ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إِلَى النَّارِ(١٢) »، وهذا أمر لا يشك فيه إنسان، ولولا أن الخلاف وقع فيه ما كنا نتكلم فيه، لكن وقع ولا بد من بيان الحق، المعتزلة يقولون: القرآن مخلوق من المخلوقات، أصوات يخلقها الله وحروف تكتب فهو كسائر المخلوقات، ولا شك أننا إذا قلنا بهذا أبطلنا الأمر والنهي؛ لأن الأمر يكون صوتا سُمع على هذا الوجه، قولوا: صوت سُمع على هذا الوجه، يعني كأنه صدى، أرأيت الآن الشمس والقمر والجبال مخلوقة على هذا الوجه، هم يقولون: هذا صوت خُلق على هذا الوجه، كصوت الرعد. 
الأشعرية يقولون: الكلام معنى قائم بنفسه، لكن خلق أصواتا، فإذا قلنا: إن الأوامر والنواهي مخلوقة، بطل الأمر والنهي؛ لأن (قل) خلق الله كلمة على صورة (قل) ولا تفيد أمرا، ﴿لَا تَقْرَبُوا الزِّنَا﴾ [الإسراء ٣٢] خلق الله تعالى حروفا على هذا الشكل فلا تفيد نهيا، ولهذا صدق من قال: إن القائلين بخلق القرآن سواء جعلوه عبارة عن كلام الله أو هو كلام الله، إنهم أبطلوا الأمر والنهي والشرائع كلها. 

* * *
* الطالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم ﴿الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ﴾ [البقرة ١ - ٧] 
* الشيخ: ﴿وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ قف. 
* الطالب: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [البقرة ٧] 
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال ربنا عز وجل: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿الم﴾، البسملة سبق لنا الكلام عليها فلا حاجة للإعادة، أما قوله: ﴿الم﴾ فإنها حروف هجائية، وسبق الكلام عليها إذن، ولا حاجة للمناقشة ولا للإعادة. 
﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ قوله: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ إن جعلنا ﴿الْكِتَابُ﴾ صفة لـ(ذا) صار ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ خبر. وإن جعلنا ﴿الْكِتَابُ﴾ خبرا؛ ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾، صارت الجملة استئنافية محلها النصب على الحال، يعني حال كونه منتفيا عنه الريبة. وقوله: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾، أي: لا شك، وتفسير الريب بالشك إنما هو للتقريب، ونفي الشك هنا الشك في ثبوته، يعني لا شك في ثبوته، وأنه من عند الله. 
ثانيا: لا شك فيما تضمنه من الأخبار، فكل خبر في القرآن الكريم فإنه لا شك فيه عند كل مؤمن، بل هو حق ثابت. وقوله: ﴿فِيهِ﴾ قيل: إنها خبر (لا) النافية، وقيل: إنه خبر مقدم لقوله: ﴿هُدًى﴾، ولكن الأولى أن يكون خبرا لـ(لا) النافية. وقوله: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ تكون حالا من الكتاب يعني حال كونه ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾، وهو هدى للمتقين من الناحيتين: العلمية والعملية، أما العلمية فهي هداية الدلالة، فإن مصدر العلم هو هذا القرآن الكريم، هو الذي يهديك إلى الحق ويدلك عليه، ويهديك إلى الباطل ويبينه لك ويحذرك منه، أما الثاني فهو هداية العمل، فإن المتقين هم الذين اهتدوا به عملا. 
وقوله: ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ اسم فاعل، والفعل منه (اتقى)، ومعنى اتقى: اتخذ وقاية من عذاب الله، وهذا لا يكون إلا بفعل الأوامر واجتناب النواهي، وعلى هذا فأشمل الحدود في التقوى أنها اتخاذ وقاية من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه، فهي فعل الأوامر واجتناب النواهي. 
واعلم أن التقوى تُقرن تارة بالبر، كقوله: ﴿تَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة ٢]، وتارة تُقرن بالإيمان، كما في هذه الآية: ﴿لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾، وتارة تُذكر وحدها، فإن ذُكرت وحدها شملت الدين كله؛ لأن الدين كله وقاية من عذاب الله، وإن اقترنت بالبر صار البر فعل الأوامر، والتقوى ترك النواهي، فهي تفسَّر في كل سياق بحسبه. 
ثم قال: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾، هذه من صفات المتقين أنهم يؤمنون بالغيب، أي يقرّون به ويعترفون به، والمراد بالغيب هنا ما غاب عن الناس مما أخبر الله به ورسوله، سواء كان ذلك فيما يتعلق بصفات الله، أو فيما يتعلق بعباد الله فيما مضى، أو فيما يتعلق بعباد الله في المستقبل، يؤمنون به، فيؤمنون بالله عز وجل بأسمائه وصفاته، بألوهيته، ربوبيته، يؤمنون كذلك بما أخبر الله به من الأمم السابقين، يؤمنون بما أخبر الله به من المستقبل من علم الآخرة؛ لأن كل هذا داخل في قوله: ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾. ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾، نعم هل يدخل في الإيمان بالغيب الإيمان بالملائكة؟ نعم؛ لأنهم عالم غيببي. 
﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾، أي: يأتون بها قائمة لا اعوجاج فيها، وذلك بالقيام بواجباتها واجتناب محظوراتها، وقوله: ﴿الصَّلَاةَ﴾ يشمل صلاة الفريضة والنافلة؛ لأنها هنا اسم جنس يشمل كل الصلاة. 
﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُون﴾ (مما رزقناهم) جار ومجرور متعلق بـ(ينفقون)، المعنى: مما أعطيناهم ينفقون، وأول ما يدخل في ذلك الزكاة، إنفاق الزكاة؛ فإنهم يقومون بها، وعلى هذا تكون الآية من جنس الآيات الأخرى التي فيها ﴿يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ [المائدة ٥٥]. 
﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ ﴿أُولَئِكَ﴾ المشار إليهم المتقون الذين اهتدوا بالقرآن. ﴿عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾، ﴿عَلَى هُدًى﴾ أي: على طريق مستقيم من الله عز وجل، هداهم الله تعالى علما وهداهم الله عملا. 
﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾، هذا أيضا من صفاتهم. 
﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ الآية هنا معطوفة على ما سبق عطفَ صفات لا ذوات، والأصل في المعطوفات أن تكون ذواتًا، لكن هنا العطف عطف صفات؛ لأن الذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك هم الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة، وعطف الصفات بعضها على بعض أمر لا يُستغرب لا في القرآن ولا في لغة العرب، قال الله تعالى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (٤) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى﴾ [الأعلى ١ - ٥]، فهذا عطف صفات بعضها على بعض. 
﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ وهو القرآن، وربما نقول: إنه أشمل من القرآن؛ لقوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة﴾ [النساء ١١٣] فهو القرآن والسنة، ﴿وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ من الكتب كالتوراة والإنجيل. 
﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ قوله: ﴿بِالْآخِرَةِ﴾ جار ومجرور متعلق بـ﴿يُوقِنُونَ﴾، وأتى بكلمة ﴿هُمْ﴾ للتوكيد، وإلا لو حُذفت وقيل: وبالآخرة يوقنون، استقام الكلام، لكن من أجل التوكيد أُتي بالضمير (هم)، وقوله: ﴿يُوقِنُونَ﴾، أي: يؤمنون إيمانا لا شك فيه ولا يتطرق إليه الاحتمال؛ لأن اليقين هو العلم القطعي، هذه من صفاتهم. 
﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ ﴿أُولَئِكَ﴾، المشار إليه المتقون الذين يؤمنون بما سبق، ﴿عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِم﴾ أي: على صراط من الله عز وجل، وقال: ﴿مِنْ رَبِّهِم﴾؛ لإفادة أن منة الله عليهم بهذا منة خاصة، فهي ربوبية خاصة لهم ليست الربوبية العامة. 
﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، كرر ﴿أُولَئِكَ﴾؛ للتنويه بفضلهم وعلو مرتبتهم، وقوله: ﴿هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ يقول العلماء إن (هم) هنا ضمير فصل، وهو ضمير لا محل له من الإعراب؛ لأنه إنما أُتِي به للتوكيد، قالوا: وفوائده ثلاثة: الفائدة الأولى: التوكيد، والثانية: الحصر الذي هو التخصيص، الثالثة: إفادة أن ما بعده خبر وليس صفة، ولهذا سمي ضمير فصل، يعني أن الفلاح محصور فيهم، والفلاح هو الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب. 
نرجع إلى هذه الآيات نجد أن الله سبحانه وتعالى ذكر فيها ما يدل على عدة فوائد، أولا: بيان أن هذا القرآن الكريم هو من الحروف التي يتكلم بها العرب؛ لقوله: ﴿الم﴾، كما بينّا ذلك واضحا في التفسير. 
* ومن فوائد هذه الآيات: علو مرتبة القرآن؛ لقوله: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾، فأشار إليه إشارة البعيد مع قربه، فإنه بين أيدينا إشارة إلى علو مرتبته، وهو واللهِ أعلى مراتب القول، إن خير الحديث كتاب الله، كما كان الرسول ﷺ يعلنه في كل جمعة يقول على المنبر: « إِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ»(١٣). 
* ومن فوائد هذه الآيات: أنه لا يجوز لأحد أن يرتاب في هذا القرآن، وأن القرآن ليس محلا للريبة، المعنى الأول لا يجوز لأحد أن يرتاب في هذا القرآن على تقدير أن النفي هنا بمعنى؟ 
* طالب: النهي. 
* الشيخ: النهي، والثاني: أن هذا القرآن ليس محلا للريبة، على تقدير أن (لا) نافية، وقد بيننا لكم في التفسير أن قوله: ﴿لَا رَيْبَ فِيه﴾ فيها قولان للعلماء، القول الأول: أن النفي هنا بمعنى النهي، وأن المعنى: لا ترتابوا فيه. والقول الثاني: أن النفي هنا على بابه، والمعنى أن القرآن لا ريب فيه ولا إشكال فيه، واضح يا جماعة؟ إذن من الفوائد تحريم الارتياب في القرآن وبيان أنه ليس محلا للريبة. 
* ومن فوائد هذه الآيات: أن القرآن هدى للمتقين، وهو واضح في الآية ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾، ويترتب على هذه الفائدة أنك إذا رأيت الله قد منّ عليك بفهم كتابه والعمل به، فاعلم أنك ممن؟ ممن يا جماعة؟ من المتقين؛ لأن الله قال: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾، فإذا رأيت من نفسك أن الله من عليك بالعلم والعمل بكتابه فأبشر فإنك من المتقين. 
ويتفرع أيضا على هذا فائدة أخرى: إذا رأيت الغفلة وعدم الانتفاع بالقرآن فاحذر؛ فإن هذا يدل على نقص تقواك؛ لأنه لو كانت تقواك كاملة لكان هذا القرآن هدى لك، ويتفرع على هذا أيضا: الحث على التقوى، وأنها سبب للاهتداء بالقرآن، وأنك كلما اتقيت الله ازددت انتفاعا بالقرآن واهتداء به. 
* ومن فوائد الآيات: فضيلة الإيمان بالغيب، وإن شئت فقل: إن الإيمان حقيقة هو الإيمان بالغيب؛ لقوله: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾؛ لأن الإيمان بالشهادة ما هو إيمان، الإيمان بالشهادة المحسوسة ليس إيمانا، أي نعم، والدليل: أن فرعون كان ينكر رب العالمين، ويقول لموسى: ما رب العالمين؟ ولما أدركه الغرق قال: ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ﴾ [يونس ٩٠]، وفي هذا من الذل ما فيه، كان بالأول يقتل بني إسرائيل إذا لم يوافقوه، والآن صار تبعا لهم، ما قال: آمنت بالله أو برب العالمين، آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل، فأتى باسم الموصول الدال على التفخيم والتعظيم، ثم بـ ﴿الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ﴾؛ ليقول: أنا تابع لهم مؤمن بما يؤمنون به، وهذا غاية ما يكون من الذل، انتبهوا لهذه النقطة. 
طيب، هل هذا الإيمان الذي جرى من فرعون في تلك الساعة هل هو إيمان نافع؟ لا، ولهذا قيل له: ﴿آلْآنَ﴾؟ ما فيه فائدة، ﴿آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [يونس ٩١]، وهذا حق. 
الإيمان بالشيء الشاهد؛ تشوف هذا الباب تقول: هذا باب، أومن بأن هذا باب؟ نعم؟ هذا إيمان؟ 
* الطلبة: لا. 
* الشيخ: لو قلت: أنا أومن بأن حولي رجالا يطلبون العلم، هذا إيمان؟ هو إيمان؟ 
* الطلبة: ليس إيمانًا. 
* الشيخ: أما حولي رجالا، صحيح ليس إيمانًا؛ لأنه مشاهد، أما يطلبون العلم، فهو إيمان؛ لأنه مبني على ظني فيما يريدون بطلب العلم، وهل هم حريصون أو يحضرون بالأبدان دون القلوب، أو ما أشبه ذلك، على كل حال اجعلوها إن شاء الله إيمانا، لا تجعلوها إيمانا بالغيب، اجعلوها إيمانا بالمحسوس. 
من فوائد هذه الآيات الكريمة: فضيلة الصلاة، وأنها أعلى أنواع الأعمال البدنية، ولهذا تأتى دائما بعد الإيمان؛ لقوله: ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾. 
* ومن فوائدها: الحث على إقامة الصلاة، وأن الإنسان يأتي بها كاملة على الوجه الذي يرضي الرب عز وجل الذي فرضها على عباده، أما أن يصلي صلاة لا روح فيها، أو صلاة لا تجزئ رسميا أو ما أشبه ذلك، فهذا ليس بمقيم للصلاة، أفهمتم؟ يعني ربما يجيء إنسان يصلي صلاة من أتقن ما يكون ظاهريا، فهذا باعتبار الرسم أقامها، قائم يقوم بخشوع في الرأس، في الركوع يطمئن، وفي السجود يطمئن، لكن قلبه في وادٍ، وجسمه في وادٍ، هل أقامها؟ لا، ما أقامها، هي قشر، قشر منتفخ لكن تطلع ما فيه لب؛ لعدم الخشوع، ولهذا تجد الناس كثيرا منهم يخرج من الصلاة لا يحس بنفسه أنه كره المنكر ولا كره الفحشاء، مع أن الله يقول: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت ٤٥]، لكن لا يحس بذلك؛ لأنها قشور صلاة، نسأل الله أن يعيننا وإياكم على الخشوع في الصلاة؛ لأنه الآن أشد ما نجاهد عليه هو هذا، يعني قضية الرسم بأن الإنسان يأتي بالصلاة باطمئنان ظاهري هذا شيء سهل، لكن الكلام على اللب وهو الخشوع هذا أمر صعب، لكن حاول مرة بعد أخرى، كلما جذب الشيطان قلبك رده، وثِق أنه من حين ما تجذبه إلى الصلاة ترده إلى الصلاة سوف يرده، سوف يجد هناك تجاذب، لكن استمر، وإن شاء الله في النهاية يزول، طيب من إقامة الصلاة الطمأنينة فيها التي قد افتقدها بعض الناس، ولا سيما في الركنين ما بين الركوع والسجود، وما بين السجودين، هذان الركنان مظلومان عند بعض الناس، تجده يقول: سمع الله لمن حمده، الله أكبر، إيش قلت؟ اطمأن؟ ما اطمأن، هذا لا صلاة له، لو يصلي إلى يوم الدين ما فيه صلاة؛ لأن «الرسول قال للرجل: « ثُمَّ ارْفَعْ - يعني من الركوع- حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا»(١٤)، وفي لفظ « حَتَّى تَطْمَئِنَّ قَائِمًا»(١٥)، لا بد من الطمأنينة، وعلى كل حال لا حاجة إلى أن نأتي على الصلاة بجميع ما يُخل فيها بعض الناس؛ لأنها معروفة. 
من فوائد هذه الآيات الكريمة: فضيلة الإنفاق في سبيل الله، فضيلة إنفاق المال؛ لقوله: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾. 
* ومن فوائدها: أن صدقة الغاصب باطلة، من أين تؤخذ؟ ﴿مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾؛ لأن الغاصب لا يملك المال الذي تصدق به فلا تُقبل صدقته. 
* ومن فوائدها: الإشارة إلى ذم البخل؛ لقوله: ﴿مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾، هل أنت حصّلت المال بكسبك؟ لا، الذي أعطاك المال هو الله، ﴿مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾ ولم يقل: مما كسبوا، قال: ﴿مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾، وحتى ما كسبه الإنسان هو بتيسير الله، وكم من إنسان ضرب أبواب الرزق من كل جانب ولكن لم يوفق، إذن من فوائد هذه الآية الكريمة: فضيلة الإنفاق، لكن هنا أطلق بل هنا أجمل المنفَق فيه؛ قال: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ يعني بيّن المنفَق منه ولم يبيّن المنفَق فيه، نقول: نعم، لكنها بُيّنت في آيات كثيرة، ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ﴾ [البقرة ٢١٥] الجواب: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾، أي شيء ينفقون؟ ﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ﴾، كأنه قال: اسألوا عن ماذا تنفقون؟ نعم، اسألوا فيم تنفقون؟ ﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ﴾، ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾، عن إيش؟ قولوا يا جماعة؟ 
* الطلبة: (...) 
* الشيخ: وإيش ينفقون؟ ماذا ينفقون، فقال الله عز وجل: ﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ﴾، فبيّن ما ينفَق فيه؛ لأنه هو المهم، كثير من الناس ربما يخرج نصف ماله لكن في سبيل الطاغوت، والشيء النافع في سبيل الله، أي فيما يرضي الله عز وجل، لكن قد يقال: إن قوله: ﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ﴾، قد يقول قائل: فيه إشارة إلى المنفَق منه، وهو أن يكون الإنفاق خيرا، على كل حال الآية هنا أجمل الله فيها الإنفاق: ﴿مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾، فأجمل، فيقال: إن هذا المجمل مبين في نصوص أخرى من القرآن والسنة. 
* * *
 * الطالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٧) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ [البقرة ٦ - ١٠] 
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ﴾، قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُون﴾، هذه عطف على ما سبق في قوله: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾، يعني ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ﴾، وقد سبق أن قلنا: إنه يجوز عطف الصفات بعضها على بعض كما في قوله تعالى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى﴾ [الأعلى ١ - ٤]، مع أن الأصل في الصفات أن لا تكون معطوفة. 
* من فوائد الآية: الثناء على الذين يؤمنون بما أنزل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وما أنزل من قبله، وأن هذا من خصال المتقين؛ لقوله: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾. 
ومن فوائد الآية أيضا: الثناء على الموقنين بالآخرة، وقد سبق في التفسير أنه ليس المراد بالإيقان بالآخرة أن تؤمن بأن هناك يوما يُبعث الناس فيه، بل تؤمن بكل ما جاء في الكتاب والسنة مما يقع في ذلك اليوم، بل إن شيخ الإسلام رحمه الله قال: يدخل في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلي الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت(١٦). 
ثم قال عز وجل: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ هذا أيضا بيان حالهم ومآلهم؛ أما حالهم فقال: ﴿عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾ أي: على علم وبينة، ففيه دليل على سلامة هؤلاء في منهجهم، لقوله: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾. 
* ومن فوائدها أيضا: أن ربوبية الله عز وجل تكون خاصة وعامة؛ لأن قوله: ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾ إضافته إلى هؤلاء فقط، لكنها ربوبية خاصة اقتضت العناية التامة بهم. 
* ومن فوائدها أيضا: أن مآل هؤلاء هو الفلاح؛ لقوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾. 
* ومن فوائدها: أن الفلاح خاص بهم؛ لأن هذه الجملة: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ تفيد الحصر. 
ثم قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُون﴾، هذا بيان للقسم الثاني من الناس؛ لأن هذه السورة ذكر الله أصناف الناس وأقسامهم، الأول: المؤمنون الخلّص، والثاني: الكفار الخلص في هذه الآية. 
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، كفروا بمن؟ كفروا بكل ما يجب الإيمان به؛ كفروا بالله، كفروا برسله، كفروا بملائكته، كفروا بكتبه، كفروا باليوم الآخر، كفروا بالقدر خيره وشره، أو ما أشبه ذلك، المهم أنه عام بكل ما يجب الإيمان به، فإذا كفروا به فهؤلاء كفار. 
طيب وإن كفروا ببعضه؟ فكذلك؛ لقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (١٥٠) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ [النساء ١٥٠، ١٥١] 
وقوله: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾، هذه جملة مسبوكة بمصدر دون أن يوجد حرف مصدري؛ لأن الجملة التي تُسبك في المصدر يعني تُحوَّل إلى مصدر لا بد أن تقترن بحرف مصدري، مثل: (أنّ) و(أنْ) و(ما) المصدرية و(لو) المصدرية، لكن هذه سُبكت بمصدر مع أنها ليس فيها شيء من أدوات المصدر، لكن إذا جاء السواء ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ فهذه تُسبك بمصدر، فالتقدير: سواء عليهم إنذارك أم عدمه، والمراد بهؤلاء الكفار الذين حقت عليهم كلمة العذاب، فهؤلاء لا يؤمنون سواء أنذرهم أم لم ينذرهم؛ لأنه قد خُتم على قلوبهم ـ والعياذ بالله ـ وليس المراد بهذا أن لا يدعوهم الرسول عليه الصلاة والسلام، بل المراد أن يتسلى إذا لم يؤمنوا فيقال: هؤلاء قد طبع الله على قلوبهم فلا يؤمنون. 
وقوله: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ﴾، ﴿سَوَاءٌ﴾ بمعنى مستوٍ عليهم إنذارك وعدمه، وقوله: ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ﴾ الإنذار هو الإعلام بتخويف وترهيب، ﴿أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ هذا القسم الثاني. 
هذه (أم) هنا متصلة أو منقطعة؟ 
* طالب: متصلة. 
* الشيخ: هذه متصلة؛ لأن المتصلة هي التي تأتي بين شيئين متعادلين كما هنا، والمنقطعة التي تأتي بين شيئين منفصلين، هذا فرق معنوي، والفرق اللفظي: المتصلة يصح أن يحل محلها (أو)، والمنقطعة لا يصح أن يحل محلها (أو)، بل يحل محلها (بل)، ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُون﴾ الجملة هذه خبر ثاني، أين الخبر الأول؟ ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ هذه هي الخبر الأول، وقوله: ﴿لَا يُؤْمِنُون﴾ الخبر الثاني. 
في هذه الآية الكريمة تسلية الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين يرده الكفار ولا يقبلون دعوته. 
وفيها أيضا: أن من حقت عليه كلمة العذاب فإنه لا يؤمن مهما كان المنذِر والداعي؛ لأنه لا يستفيد، قد خُتم على قلبه، ﴿أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ﴾ [الزمر ١٩] يعني هؤلاء لهم النار وانتهى أمرهم، ولا يمكن أن تنقذهم. 
* من فوائد الآية الكريمة: أن الإنسان إذا كان لا يشعر بالخوف عند الموعظة ولا بالإقبال على الله فإن فيه شبها مِمن؟ من الكفار الذين لا يتعظون بالمواعظ ولا يؤمنون عند الدعوة إلى الله. 
قال الله تعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ الختم بمعنى الطبع، وأصله من الختم الذي هو الخاتم؛ لأنه عند انتهاء القول في الكتابة يُختم القول بالكتابة، يعني أنه انتهى الأمر، فهؤلاء ختم الله على قلوبهم؛ وأيضا يشبه وعاء النفقة إذا خُتم عليه بالشمع الأحمر كما يقولون فإن أمره منتهٍ. ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾، يعني: وختم على سمعهم، وإذا ختم على القلوب صارت لا تفقه، وعلى السمع صارت لا تسمع سماعا ينفع. 
قال: ﴿وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ هذه جملة مستأنفة، والغشاوة الغطاء، فإذا كان على الأبصار غشاوة صارت لا تبصر، فخُتمت الطرق الثلاثة للهدى، وهي: القلب، والثاني: السمع لما يقال، والثالث: البصر فيما يُرى، فالأبواب الثلاثة كلها سُدت، قال الله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّه﴾ [الجاثية ٢٣] لا أحد. 
فإن قال قائل: هذا الختم هل له سبب أو هو ابتلاء وامتحان من الله؟ 
فالجواب: أن له سببا بيّنه الله تعالى في قوله: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الأنعام ١١٠]، وبقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [الصف ٥] فإذا رأيت أحدا قد ضل فاعلم أنه هو السبب في ضلال نفسه. 
﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، ﴿وَلَهُمْ﴾ أي لهؤلاء الكفار الذين بقوا على كفرهم لهم عذاب عظيم، وهو عذاب النار، وعظمه الله تعالى لأنه لا يوجد أشد من عذاب النار، أعاذنا الله وإياكم منها بكرمه وجوده. 
انتهى الكلام على الصنف الثاني من أصناف الخلق وهم الكفار الخلّص الصرحاء. 
في هذه الآية الكريمة الأخيرة دليل على أن القلوب محل الوعي؛ لقوله: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾، يعني: فلا يصل إليها الخير. 
وفيها أيضا من فوائدها: أن طرق الهدى إما بالسمع وإما بالبصر؛ لأن الهدى قد يكون بالسمع وقد يكون بالبصر؛ بالسمع فيما يقال، وبالبصر فيما يشاهَد، وهكذا آيات الله عز وجل تكون مقروءة مسموعة، وتكون بيّنة مشهودة. 
* ومن فوائد هذه الآية: وعيد هؤلاء الكفار بالعذاب العظيم؛ لقوله: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾. 
ثم قال عز وجل: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِين﴾، ﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾ (مِن) هنا للتبعيض؛ وعلامة (مِن) التي للتبعيض أن يحل محلها (بعض)، فهنا لو في غير القرآن لو قال: وبعض الناس يقول، لكان الكلام مستقيما، إذن (مِن) للتبعيض ﴿مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ﴾ (مَن) هذه مبتدأ مؤخر، ﴿مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، لكن يقول ذلك بلسانه، أما في قلبه فلا، ولهذا قال: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾، بمؤمنين في إيش؟ 
* الطلبة: (...) 
* الشيخ: ما سمعت. 
* الطلبة: (...). 
* الشيخ: طيب، وما هم بمؤمنين في قلوبهم، لكن بلسانهم يقولون: آمنا بالله وباليوم الآخر، بل قد قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ﴾، بعد ﴿وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِم﴾ [المنافقون ٤]، فهم يفتنون الناس برؤيتهم وبسماع أقوالهم، لكن لا خير فيهم، ومن أراد أن يعرف صفات المنافقين فعليه بكتاب مدارج السالكين ، ذكر ابن القيم رحمه الله جمع صفاتهم في مقال واحد، فمن أراد أن يراجعها فليراجع. 
يقول: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، ذكر الإيمان بالله؛ لأنه هو المبتدى سبحانه وتعالى، يعني الذي ابتدأت منه الأمور، واليوم الآخر؛ لأنه هو المنتهى، والإنسان إذا آمن بالله وباليوم الآخر استقام، ولهذا يقرن الله تعالى دائما بين الإيمان به واليوم الآخر دون الإيمان بالملائكة والكتب والرسل؛ لأن حقيقة الأمر أن من لم يؤمن باليوم الآخر فإنه لن يؤمن بالله؛ لأنه ماذا يحصّل؟ ماذا ينتظر؟ إذا كان لا يؤمن باليوم الآخر فلن يؤمن بالله. 
قال: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ هذا تكذيب لهم في قولهم: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، كقول الله تعالى مكذبا لهم: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [المنافقون ١، ٢]. 
ثم قال: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة ٩]، وفي قراءة: ﴿وَمَا يُخَادِعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ . ﴿يُخَادِعُونَ﴾ المخادعة: مُفَاعَلَة من الخداع، والخداع والمكر والكيد كلها معان متقاربة، ويشملها هذا التعريف: التوصل إلى الإيقاع بالخصم من حيث لا يشعر، هذا الخداع وهذا المكر، يتوصل إلى الإيقاع بالخصم من حيث لا يشعر، هذا هو الخداع، هؤلاء إذا قالوا إنهم مؤمنون قالوا: غنمنا الآن، يقولون: غنمنا؛ لأننا خدعنا محمدا وأصحابه، ولكنهم في الحقيقة هل خدعوا الرسول وأصحابه؟ خدعوا الله، ولهذا قال: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ وعلى رأس الذين آمنوا رسول الله ﷺ، قال تعالى: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ يخدعون أنفسهم في الواقع؛ لأنهم غروها، حيث أظهروا خلاف ما يبطنون، وهم يعلمون أن ما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام حق، لكنهم لم يؤمنوا به، بل أنكروه فخدعوا أنفسهم بذلك، فإن قال قائل: ما وجه خداعهم لله والذين آمنوا؟ قلنا: وجه خداعهم أنهم إذا أظهروا الإيمان سَلِمت أموالهم.
هذا الخداع وهذا المكر يتوصل إلى الإيقاع بالخصم من حيث لا يشعر، هذا هو الخداع، هؤلاء إذا قالوا إنهم مؤمنون، غنمنا الآن، يقولون: غنمنا؛ لأنا خدعنا محمدًا وأصحابه، ولكنهم في الحقيقة هل خدعوا الرسول وأصحابه؟ لا، خدعوا الله؟ ولهذا قال: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة ٩]، وعلى رأس الذين آمنوا رسول الله ﷺ. قال تعالى: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾، يخدعون أنفسهم في الواقع؛ لأنهم غروها حيث أظهروا خلاف ما يبطنون وهم يعلمون أن ما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام حق؛ لكنهم لم يؤمنوا به، بل أنكروه فخدعوا أنفسهم بذلك. فإن قال قائل: ما وجه خداعهم لله والذين آمنوا؟ قلنا: وجه خداعهم أنهم إذا أظهروا الإيمان سلمت أموالهم ورقابهم من القتل، وصار لهم حرمة، فيقولون: خدعنا محمدًا وأصحابه، حيث قالوا إنهم مؤمنون، وليسوا بمؤمنين، لكنهم بقولهم هذا نجوا من المعاملة كما يعامل الكفار. 
قال تعالى: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾، أي أنهم لا شعور لهم يتبين به أنهم خادعون لأنفسهم؛ لأن على أبصارهم غشاوة، وقلوبهم مختوم عليها وكذلك السمع. 
* طالب: أحيانًا يعلَّق الفلاح والإيمان والتدبر على القلب في القرآن، وأحيانًا يربط ذلك بالعقل، ما العلاقة؟ 
* الشيخ: مثل؟ 
* الطالب: ﴿مَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة ٢٦٩]. 
* الشيخ: أي العقول؟ لكن المراد بالعقول هنا عقول الرشد لا عقول الإدراك. 
* الطالب: والقلب يا شيخ؟ 
* الشيخ: والقلب هو محل العقل، ولهذا قال تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا﴾ [الحج ٤٦] ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج ٤٦].
* الشيخ: نعم.
* طالب: امتنع النبي ﷺ عن قتل المنافقين حتى لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه، فالناس في هذا طرفان ووسط، فبعض الناس يتابع الناس في كل شيء، يراقبهم، وبعضهم يقول: ما علي في الناس ما دمت أسير في الدرب الصحيح، ما هو الضابط في مراقبة الناس؟ 
* الشيخ: الضابط أن الإنسان مؤتمن على دينه، ولا يحمل الإنسان أن يراقب أحدا في دينه أبدًا، اللهم إلا إذا كان هناك شبهة قوية وأراد أن يتأكد، وإلا فلا يجب؛ لأن الأصل أن المسلم محترم، محترم في عرضه، محترم في ماله، محترم في نفسه. 
* الطالب: لا، بعض الناس يا شيخ إذا قلت له: لا تفعل هكذا، كان الناس يظنون بك كذا وكذا، يقول: أنا ما على في الناس، خل الناس يقولون اللي يقولوه؟ 
* الشيخ: يعني هو قصده يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟ 
* الطالب: لا، أي شيء حتى في المعاملات العادية. 
* الشيخ: لا يمنع، الذي ينبغي للإنسان يكون مبتعدا عن هذا الأمر؛ لأن الرسول عليه ﷺ يقول: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحِي فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» . »(١٧)
* الطالب: شيخ قول الله تعالى: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الأنعام ١١٠] ألا يؤيد يا شيخ قول من قال من العلماء أنه لا تُقبل من تكررت ردته لقوله: ﴿أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾؟ 
* الشيخ: نعم، إن أخذ، لكن أحيانًا يمن الله على من يشاء من عباده، فتكرر الردة ويمن الله عليه بالإيمان الصادق، ونحن نقول: الذي تتكرر ردته لا بد أن يحتاط الإنسان له، ليس بمجرد أن يقول إنه آمن وأنه تاب يُرفع عنه القتل، بل ننظر، نعم. 
* طالب: يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة٣] ما في دليل هنا على كفر تارك الصلاة؟ 
* الشيخ: إيش وجهه؟ 
* الطالب: وجهه أن الله عز وجل ذكر: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ لفظ الآية الإيمان (...). 
* الشيخ: كيف؟ 
* الطالب: بعد ذلك ذكر ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾؟ 
* الشيخ: الزكاة؟ 
* الطالب: نعم، لفظ الآية: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ شرط (...). 
* الشيخ: هذا ليس واضحا، عندي فيها أدلة غير هذا. 
* طالب: غفر الله لكم، سؤال في التفسير الذي مضى، شيخ هل نثبت صفة التهكم لله بقول الله تعالى: ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ﴾ [النساء ١٣٨]؟ 
* الشيخ: لا، إذا قلنا معنى بشر فيما يسوء جرت اللغة العربية أن المقصود بذلك التهكم بهم، فالرسول لو بشرهم بهذا ليس بشرهم بما يسرهم بل متهكما بهم. 
* طالب: الله سبحانه وتعالى كثيرا ما يذكر الاستفهام في القرآن على سبيل التهكم للكفار فهل يصح ذكر..؟ 
* الشيخ: مقتضى اللغة العربية أن يقال هذا الاستفهام للتهكم، فالله يتهكم بهم. 
* طالب: (...) 
* الشيخ: نعم، صيغة فعلية. 
* طالب: أبو الحسن كان أشعريًّا أم معتزليًّا؟ 
* الشيخ: كان معتزليًّا، ثم بعد أربعين سنة من الاعتزال اتصل بعبد الله بن سعيد بن كُلّاب مؤسس مذهب الكلابية وأخذ منه بعض الشيء، وبقي على ذلك مدة ليست طويلة، ثم وفقه الله عز وجل إلى أن أخذ بقول الإمام أحمد رحمه الله. 
* طالب: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة ١٣] 
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ 
* في هذه الآية الكريمة فوائد، منها: النص على هذا الصنف من الناس وهم المنافقون، ﴿مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾.﴾ 
* ومن فوائدها: نفي الوصف على من لم يتحقق فيه من جانب؛ لأنهم يقولون إنهم مؤمنون، ولكن مؤمنون بالظاهر وليسوا مؤمنين بالباطن، ولهذا قال: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾، أي باطنًا. 
* ومن فوائدها: أن الاستسلام الظاهر إذا لم يكن مبنيًّا على عقيدة فإنه لغو لا فائدة منه؛ لقوله: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾.﴾ 
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن من قلب الحقائق وادعى ما لم يكن عليه من الأوصاف ففيه شبه بمن؟ بالمنافقين، ولهذا جعل النبي ﷺ آية المنافق ثلاثًا، منها: «إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ». »(١٨)
* ومن فوائد هذه الآية وما بعدها: أن المنافقين يخادعون الله والذين آمنوا، فيُستفاد من ذلك أن المخادعة من صفات المنافقين. فإن قال قائل: التورية فيها نوع مخادعة، فهل يكون المورّي متصفا بصفات المنافقين؛ لأنه أظهر خلاف ما يريد؟ فالجواب أن يقال: التورية إذا كان لها مقصود صحيح خرجت عن مشابهة المنافقين، وإذا لم يكن لها مقصود صحيح فإنه يُخشى أن يكون الإنسان مشابها للمنافقين، ولهذا حرم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله التورية إلا لحاجة أو ضرورة(١٩)، ولكن أكثر العلماء يقولون: إن التورية من غير ظالم لا بأس بها. 
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ جواز عطف غير الله على الله بحرف يقتضي المشاركة؛ لقوله: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾، ولم يقل: ثم الذين آمنوا، ووجه ذلك أن العلة واحدة، فمخادعتهم لله مخادعة للمؤمنين، ومخادعتهم للمؤمنين مخادعة لله عز وجل، بخلاف الأمور الكونية، فيجب أن تذكر ما سوى الله معطوفًا بـ(ثم)؛ لأن الأمور الكونية تتعلق بالربوبية، وما يتعلق بالربوبية فإنّ فعلَنا فيه تابع لفعل الله عز وجل، بخلاف الأمور الشرعية، ولهذا قال الله تعالى في آيات كثيرة، أو نسب الشيء إليه وإلى رسوله بالواو في آيات كثيرة، لكنها في أمور شرعية. 
* ومن فوائد هذه الآية: أن من خادع الله والمؤمنين فإنما يخادع نفسه؛ لأنهم سوف يعاملونه بالظاهر، ويستمر على هذا الباطل، وهذه لا شك أنه خداع للنفس، حيث يظن أنه على صواب فيستمر في عمله فيخدع نفسه بذلك. 
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن هؤلاء المنافقين يخادعون الله والذين آمنوا، وهم في الحقيقة يخدعون أنفسهم، لكن ليس عندهم شعور في أنفسهم، ولذلك استمروا على هذا، ولو شعروا أنهم يخدعون أنفسهم ما استمروا على ذلك.
ثم قال الله سبحانه وتعالى: ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾   
البسملة تقدم لنا الكلام عليها مرارًا وتكرارًا، وقلنا: إن الجار والمجرور متعلق بمحذوف، وهذا المحذوف يقدر فعلًا متأخرًا مناسبًا، كذا؟ يقدر فعلا متأخرا مناسبا، فإذا قلت: (باسم اللهِ) وأنت تريد أن تأكل كيف تقدر الفعل؟ باسم الله آكل، طيب، قلنا: إنه يجب أن يقدر أن يكون متعلقا بمحذوف، لماذا؟ لماذا لا نقول إنه غير متعلق؟ لأن الجار والمجرور لا بد له من متعلق يتعلق به، 
لَا بُدَّ لِلْجَارِ مِنَ التَّعَلُّقِ  ∗∗∗ بِفِعْلٍ اوْ مَعْنَاهُ نَحْوِ مُرْتَقِي 

لأن الجار والمجرور معمول وبمنزلة المفعول به فلا بد له من عامل، لماذا قدرناه فعلا متأخرا؟ 
لفائدتين: الفائدة الأولى: التبرك بتقديم اسم الله عز وجل. 
والفائدة الثانية: الحصر؛ لأن تأخير العامل يفيد الحصر، كأنك تقول: لا آكل باسم أحد متبركا به ومستعينا إلا باسم الله عز وجل، لماذا قدرناه فعلا؟ لأن الأصل في العمل الأفعال، وهذه يعرفها أهل النحو، الأصل في العمل الأفعال؛ ولذلك لا تعمل الأسماء إلا بشروط، اسم الفاعل يعمل عمل الفعل بشروط، المصدر يعمل عمل الفعل بشروط، اسم المفعول يعمل عمل الفعل بشروط، الفعل يعمل بشروط؟ لا؛ لأنه هو الأصل في العمل، ولهذا نقدره فعلًا، لماذا قدرناه خاصا؟ لأنه أدل على المقصود، أدل على المقصود ممكن أن نقدر: باسم الله أبتدئ، لكن تبتدئ أيش؟ ما ندري، تبتدئ أكل، تبتدئ شرب، تبتدئ وضوء، تبتدئ عمل، ما ندري، إذا قلت: باسم الله آكل وعينت الفعل صار أدل على المقصود؛ ولهذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام: «مَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ»(٢٠) أو قال: «عَلَى اسْمِ اللَّهِ» فخص الفعل، إذن نقول: الجار والمجرور متعلق بمحذوف، كمِّل. 
* طلبة: مناسب. 
* الشيخ: متأخر.. 
* الطلبة: مناسب. 
* الشيخ: فعل مناسب للمقام. أما ﴿اللَّهِ﴾ فهو علم على ذات الله سبحانه وتعالى، على الذات المقدسة لا يكون إلا له، وهو أصل الأسماء، ولهذا تأتي الأسماء تابعة له، بسم الله الرحمن الرحيم، تأتي تابعة له. 
﴿الرَّحْمَن﴾ ذو الرحمة الواسعة، ولهذا جاء على صفة على وزن فعلان الذي يدل على الامتلاء والسعة. 
﴿الرَّحِيم﴾ الموصل للرحمة من يشاء من عباده؛ ولهذا جاءت على وزن فعيل الدال على وقوع الفعل، فهنا رحمة هي صفته هذه دل عليها ﴿الرَّحْمَن﴾، ورحمة هي فعله أي إيصال الرحمة إلى المرحوم دل عليها ﴿الرَّحِيم﴾. 
الرحمن الرحيم اسمان من أسماء الله يدلان على الذات، وعلى صفة الرحمة، وعلى الأثر أو الحكم الدال عليه ذلك المعنى، ولَّا لا؟ إذن اجتمع في هذين الاسمين كل ما يجب أن يتعلق بالإيمان باسم الله؛ لأن الإيمان باسم الله لا بد أن يكون أن تؤمن بالاسم وأيش بعد؟ والصفة والأثر الذي هو الحكم المترتب على هذا، فنقول: الله رحمن ذو رحمة يرحم، كلها موجودة في القرآن ﴿الرَّحْمَنِ﴾ كما ترون، ذو الرحمة: ﴿وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ﴾ [الأنعام ١٣٣]، يرحم: ﴿يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ﴾ [العنكبوت ٢١]. ﴿الرَّحْمَن﴾ اسم دال على الرحمة، وهي رحمة حقيقية دل عليها السمع والعقل، ما أدري كلام اللغة عربي ولَّا غير عربي؟ 
* الطلبة: عربي. 
* الشيخ: عربي، دل عليه السمع والعقل، وأيش معنى السمع؟ 
* الطلبة: النص.. النصوص. 
* الشيخ: النصوص الكتاب والسنة، العقل: النظر والاعتبار، دلالة السمع على رحمة الله كثيرة ما تحصى، دلالة النظر أن نقول: كم في العالم من نعمة؟ كم في العالم من نعمة؟ وأيش الجواب؟ لا تحصى ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ [النحل ١٨]. كذا لا تحصى بأنواعها وأجناسها فضلا عن أفرادها، هذه النعم وأيش تدل عليه؟ تدل على أن المنعم راحم، تدل على أن المنعم راحم، ولولا الرحمة ما حصلت النعمة، وكم في العالم من اندفاع نقمة، أليس كذلك؟ بماذا؟ 
من آثار الرحمة، لولا الرحمة ما اندفعت النقمة، ومن عجب أن قوما يدعون العقل يقولون: إن الرحمة لا يدل عليها العقل، بل العقل يدل على خلافها، أعوذ بالله، لأيش؟ قال: لأن الرحمة انعطاف، ولين، وخضوع، ورقة، وهذا لا يليق بالله عز وجل، شوف الشيطان، لا يليق، صحيح لا يليق؟ نقول: الرحمة بهذا المعنى من هي رحمته؟ 
* طالب: الإنسان. 
* الشيخ: رحمة المخلوق، لكن رحمة الخالق ليست كرحمة المخلوق، ثم إننا نمنع أن تكون الرحمة كما زعمتم حتى في المخلوق، يأتي ملك تام السلطان لا يخشى أحدا إلا الله ويرحم هذا الفقير، هل نقول: رحمته هذه تنافي ما عنده من السلطان والعظمة اللائقة به؟ أبدا ما تنافي، ولا يقال: والله هذا ملك مهين، إنه يرحم الفقراء، ويرحم الضعفاء، لا، بل يعد هذا من كماله، ثم نقول لهم: العقل دل عليه، العقل دل عليه، نمنع قولكم إن العقل لا يدل، ونقول: إن العقل دل عليه، لو تسأل عامي في السوق بعد أن نزل المطر في الليل وخرج الناس يمشون في المطر ونقع المطر وهواء المطر والرطوبة، تلقي عامي تقول: ما شاء الله نزل البارحة مطر، إي وقال: الله، الحمد لله، رحمة الله واسعة، رحمة الله واسعة، وأيش عرفنا إن هذا المطر منين؟ من الرحمة، لكن يقولون: الإرادة ثبتت بالعقل، إرادة الله ثبتت بالعقل، طيب بماذا؟ 
قالوا: ثبتت بالتخصيص، إنه خص هذا، اجعل هذا سماء، واجعل هذه أرض، وهذه بقرة، وهذه شاة، وهذه بعير، وهذا حمار إلى آخره، الذي خصص هذا من هذا هو الإرادة، إذن فيه إرادة لله دل عليها التخصيص، اسأل طالب علم ما هو عامي؟ قل: كيف تستدل بالعقل على الإرادة على إرادة الله وأيش بيقول لك؟ ما يستطيع، ربما يستطيع يقول: أستدل على إرادة الله، ها الكون هذا كله بإرادة الله، لكن ما يقول كلمة تخصيص ولا يدل على الإرادة، كذا ولَّا لا؟ 
ومع ذلك الرحمة ما دل عليها العقل عندهم، والإرادة دل عليها العقل، ونحن نقول: إن الإرادة والرحمة كلتاهما دل عليها العقل ولا شك في هذا. 
البسملة ذكرنا فيما سبق أنها آية من القرآن لا شك، مستقلة، لا تابعة لا للتي قبلها ولا للتي بعدها، مستقلة، لكن يؤتى بها لابتداء السورة، يؤتى بها لابتداء السورة، كل سورة تبتدئ بالبسملة إلا واحدة من السور وهي براءة، فإنه لم يثبت عند الصحابة أن الرسول ﷺ ابتدأها بالبسملة؛ ولذلك جعلوا فاصلا بينها وبين الأنفال ولم يجعلوا بسملة؛ لأنهم ترددوا هل هي من بقية الأنفال أو هي مستقلة، فقالوا: نجعل الفاصل ولا نجعل البسملة، إنما البسملة آية مستقلة تبتدئ بها كل سورة حتى الفاتحة وهي أول السور تبتدئ بها، وهل هي من السورة؟ قلنا: لا، وعلى هذا فما يوجد في المصحف الآن المرقم في الفاتحة خاصة فيها رقم واحد على أنها أول آية من الفاتحة هو قول مرجوح، والراجح أنها ليست آية من الفاتحة، وقد مر علينا بيان رجحان هذا القول. 
* طالب: شيخ، ندعو الله أن ينصرنا على الكافرين ونحن ما نستطيع أن نقاتلهم ولكن ندعو الله ولا نقاتلهم إما أن يقوينا فنقاتلهم أو ينصرنا عليهم؟ 
* الشيخ: إي نعم، هو يسأل، يقول: نحن ندعو الله أن ينصرنا على القوم الكافرين، واحنا ما عندنا سلاح نقاوم به، نقول: النصرة على القوم الكافرين بأن يهيئ الله لنا أسلحة نقاومهم بها، أو يدمر أسلحتهم، تدمير أسلحتهم نصر لنا ولَّا لا. 
* طالب: شيخ، الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر ٩] خلاف العلماء في كون البسملة آية أو غير آية، ألا يؤدي ذلك إلى حذف البسملة؟ 
* الشيخ: لا لا، أعوذ بالله! هل حذفت من المصحف؟ حفظت. 
* طالب: (...) 
* الشيخ: لا لا نقول: آية بالاتفاق أنها آية، لكن هل هي من السورة اللي بعدها أو لأ، الخلاف في العدد. 
* * *
* طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم ﴿الم (١) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ﴾ [آل عمران ١ - ٤] 
* الشيخ: ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ تبع للي قبلها. 
* طالب: ﴿وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾ [آل عمران٣، ٤]. 
* الشيخ: بس، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، تقدم الكلام على البسملة إعرابا ومعنى ومحلًا، وتقدم الكلام أيضًا على الحروف الهجائية التي ابتدئت بها السور. 
الحروف الهجائية التي ابتدأ الله بها بعض السور قيل: إنها رموز وإشارات إلى أشياء، وعينها بعض المفسرين، وقيل: إنها حروف لا ندري ما معناها، فالله أعلم بما أراد بها، وقيل: بل هي حروف هجائية ليس لها معنى، وهذا القول هو الصحيح؛ وذلك لأن هذا القرآن نزل باللسان العربي المبين، واللسان العربي لا يعطي هذه الحروف الهجائية معنى، وإذا كان لا يعطيها معنى فبمقتضى نزوله به أن لا يكون لها معنى، لكن قال بعض حذاق العلماء: إن لها مغزى؛ أي هذه الحروف لها مغزى وهو: أن هذا القرآن الذي أعجز فصحاء البلاغة العرب العرباء إنما كان بالحروف التي هم يعرفونها، ويركبون كلامهم منها ومع ذلك أعجزهم، يعني لو جاء بلسان غير عربي لقالوا: نعجز عنه، لكن جاء باللسان العربي الذي يُكَوِّنون كلامهم بالحروف التي كان بها هذا القرآن، قال: ولهذا لا تكاد تجد سورة مبدوءة بهذه الحروف الهجائية إلا وبعدها ذكر القرآن، وهذا ما قاله الزمخشري وشيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من أهل العلم. 
وقوله: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ هذه جملة مكونة من مبتدأ وخبر، فالله مبتدأ، وجملة ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ خبر المبتدأ، لكن هذه الجملة جملة أيضًا، لكنها تسمى عند النحويين جملة صغرى؛ لأن الخبر إذا وقع جملة فهو جملة صغرى، والكبرى: مجموع المبتدأ والخبر. 
وقوله: ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ خبران آخران. ﴿الْحَيُّ﴾ خبر ل﴿اللَّهُ﴾ ثان، و﴿الْقَيُّومُ﴾ خبر ثالث. 
فقوله: ﴿اللَّهُ﴾ علم على الذات المقدسة، علم على الرب عز وجل، وأصله الإله بمعنى المألوه، وحذفت الهمزة تخفيفا كما حذفت الهمزة من خير وشر في مثل قول الرسول ﷺ: «خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا، وَشَرُّهَا آخِرُهَا»(٢١) أي أخيرها وأشرها، وكما حذفت الهمزة أيضًا من: الناس، وأصلها: أناس. 
﴿اللَّهُ﴾ علم على الذات المقدسة، وهو أعلم المعارف على الإطلاق، هو أعلم المعارف على الإطلاق، ومعناه: المعبود حبًّا وتعظيمًا، فهو فعال بمعنى مفعول، وما أكثر ما يأتي فعال بمعنى مفعول، كغراس بمعنى مغروس، وبناء بمعنى مبني. 
وقوله: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ أي: لا معبود حق إلا هو، فإله اسم لا النافية للجنس، وخبرها محذوف تقديره: حق، وهناك آلهة باطلة ولكنها آلهة وضعت عليها الأسماء بدون حق، كما قال الله تعالى: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا﴾ [يوسف ٤٠]. 
وقال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (٢١) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ﴾ [النجم ١٩ - ٢٣]. 
وبهذا التقدير للخبر في ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ يزول الإشكال، وهو أنه كيف ينفى الإله في مثل هذه الجملة ويثبت في مثل قوله: ﴿فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [هود ١٠١]؟ 
والجمع: أن تلك الآلهة أيش؟ باطلة، وأما الإله في: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ فهو إله حق ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ﴾ [الحج ٦٢].
وقوله: ﴿هو﴾ هذا ضمير وليس اسمًا، بدليل قوله: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ [محمد ١٩] هذا علم ولَّا ضمير؟ 
* الطلبة: علم. 
* الشيخ: علم، وبدليل قوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء ٢٥] وأنا هنا ضمير، فعلى هذا نقول: أنا وهو في قوله: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا﴾ [النحل ٢] وقوله: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ كلاهما ضمير رفع منفصل، كلاهما ضمير رفع منفصل، فكما أن الذاكر لا يقول: لا إله إلا أنا، أو كما أن الذاكر لا يجعل أنا اسما لله فلا يجوز أن يجعل هو اسما لله، وبهذا نعرف بطلان ذكر الصوفية الذين يذكرون الله بلفظ: هو هو، ويرون أن هذا الذكر أفضل الأذكار، وهو ذكر باطل. 
وقوله: ﴿الْحَيُّ﴾ أل هنا للاستغراق؛ أي الكامل الحياة، وحياة الله عز وجل كاملة في وجودها، وكاملة في زمنها، فهو حي لا أول له، ولا نهاية له، حياته لم تسبق بعدم ولا يلحقها زوال، هي أيضًا كاملة حال وجودها، لا يدخلها نقص بوجه من الوجوه، فهو كامل في سمعه، وعلمه، وقدرته، وجميع صفاته. 
إذا رأينا الآدمي، بل إذا رأينا غير الله عز وجل وجدنا أنه ناقص في حياته زمنًا ووجودًا، فحياته مسبوقة بماذا؟ بعدم، ملحوقة بزوال وفناء، هي أيضًا ناقصة في وجودها، هل هو كامل السمع؟ الحي ليس كامل السمع، ولا البصر، ولا العلم، ولا القدرة، كل حي فهو ناقص، إذن حياته ناقصة في الوجود والزمن، ففي الزمن مسبوقة بعدم وملحوقة بزوال، وفي الوجود ناقصة في جميع الصفات. وقوله: ﴿الْقَيُّومُ﴾ على وزن فيعول، وهو مأخوذ من القيام، ومعناه: القائم بنفسه، القائم على غيره، القائم بنفسه فلا يحتاج إلى أحد، والقائم على غيره فكل أحد محتاج إليه، وفي الجمع بين الاسمين الكريمين: ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ في الجمع بينهما استغراق لجميع ما يوصف الله به لجميع الكمالات، ففي ﴿الْحَيّ﴾ كمال الصفات، وفي ﴿الْقَيُّومُ﴾ كمال الأفعال، وفيهما جميعا كمال الذات. ﴿الْحَيُّ﴾ كمال الصفات، ﴿الْقَيُّومُ﴾ كمال الأفعال، وباجتماعهما كمال الذات، فهو كامل الصفات والأفعال والذات. 
* * *
* طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم ﴿الم (١) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (٤) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾ [آل عمران ١ - ٥]. 
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، سبق لنا تفسير قوله تعالى: ﴿الم (١) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ وبينا أن القول الراجح في ﴿ألم﴾ وأخواتها. 
* طالب: ما اختاروا (...) أنها -الحروف المقطعة- لا معنى لها؟ 
* الشيخ: لا، هو ما قال لا معنى لها. 
* طالب: ألا تدل على المغزى أن هذا القرآن الذي يعجزكم أنه مكون من هذه الحروف لذلك كلما ذكر الحروف يذكر بعدها شيء من القرآن من ذكره أو (...)؟ 
* الشيخ: طيب. 
* الطالب: قلنا إن القرآن نزل باللغة العربية. 
* الشيخ: لا لا. 
* طالب: هي لا معنى لها بذاتها، ولكن لها مغزى. 
* الشيخ: ولكن لها مغزى، طيب. ما هو الدليل على أنه ليس لها معنى في ذاتها؟ 
* طالب: الدليل أنها دائمًا يعقبها في القرآن.. 
* الشيخ: الدليل على أنه ليس لها معنى؟ 
* طالب: أن القرآن بلسان عربي مبين، وهذه الحروف بلسان عربي مبين ليس لها معنى. 
* الشيخ: صح، الدليل أن القرآن نزل باللسان العربي المبين وهذه الحروف ليس لها معنى في اللغة العربية في ذاتها، إذن ليس لها معنى. طيب ما الدليل على أن لها مغزى؟ 
* طالب: هذه الحروف يعقبها القرآن. 
* الشيخ: ذكر القرآن والتحدث عنه. 
* الطالب: ثاني شيء: يعني إن هذه الحروف التي أنتم تعرفونها وتتحدثون بها يعني القرآن الكريم مركب منها. 
* الشيخ: كان منها أحسن من كلمة مركب كان منها. قوله: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُو﴾ ما معناها؟ 
* طالب: لا معبود بحق إلا الله سبحانه وتعالى. 
* الشيخ: لا معبود بحق؟ لا معبود حق إلا الله. لماذا لا نقول: إن النفي مسلط على ما بعد إلا؟ يعني لا إله إلا الله، ما يوجد إله إلا الله؟ 
* طالب: لأنه توجد آلهة لكن هي باطلة، يعني نحصرها بحق. 
* الشيخ: أحسنت، نعم، نقول: لا يمكن أن ننفي الألوهية مطلقا؛ لأن غير الله قد يسمى إلها. 
ما هو الدليل على إطلاق الإله على غير الله؟ 
* طالب: قوله تعالى: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا﴾ [مريم ٨١].
* الشيخ: نعم، ﴿وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ﴾ [الإسراء ٣٩]، ﴿فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [هود ١٠١]. 
﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ ذكرنا أنهما يشتملان على اسم الله الأعظم، فلماذا؟ 
* طالب: لأن لها معنيان: المعنى الزمني لم يسبقه العدم. 
* الشيخ: لا. 
* طالب: لأنهما اسمان يتضمنان الصفات الفعلية والذاتية. 
* الشيخ: صح، الكمال الذاتي والفعلي، ففي ﴿الْحَيُّ﴾ الكمال الذاتي، و﴿الْقَيُّومُ﴾ الكمال الفعلي؛ لذلك كانا متضمنين لجميع الكمال، الذاتي والفعلي. ﴿الْحَيُّ﴾ تفسيره؟ 
* طالب: الحي الذي لا يموت ولا.. 
* الشيخ: يعني ذو الحياة الكاملة التي لم تُسبق؟ 
* الطالب: بعدم. 
* الشيخ: ولا يَلحقها؟ 
* الطالب: زوال. 
* الشيخ: زوال. ﴿الْقَيُّومُ﴾؟ 
* طالب: هو القائم بنفسه، والقائم على.. 
* الشيخ: على غيره، القائم بنفسه والقائم على غيره. الدليل على قيامه بنفسه؟ 
* طالب: أن الله سبحانه وتعالى غني عن العالمين لا يحتاج إلى أحد. 
* الشيخ: نعم 
* طالب: أما الدليل أن كل ما سواه.. 
* الشيخ: إذن وصف الغنى مثل و﴿هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ ﴿فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [التغابن ٦] هذا قيامه بنفسه، قيامه على غيره ما هو الدليل؟ 
* طالب: أن العباد كلهم فقراء إلى الله سبحانه وتعالى. 
* الشيخ: ما هو الدليل؟ ما هو التعليل؟ 
* الطالب: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ﴾ [فاطر ١٥]. 
* الشيخ: وغيره، فيه آية صريحة في الموضوع؟ 
* طالب: قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ [الرعد ٣٣] 
* الشيخ: صحيح، قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ يعني كمن لا يقوم بنفسه. تصريف القيوم في اللغة العربية؟ تصريف القيوم في اللغة العربية كيف هو؟ 
* طالب: على وزن فيعول. 
* الشيخ: على وزن فيعول، وماذا تدل عليه هذه الصيغة؟ 
* طالب: تدل على (...) سبحانه وتعالى. 
* الشيخ: لا، هذه الصيغة؛ لأن أصلها قائم حولت إلى قيوم، فحول فاعل إلى فيعول؟ 
* طالب: يقوم على غيره ويقوم بنفسه. 
* طالب آخر: تدل على الكثرة والمبالغة. 
* الشيخ: المبالغة، صح. 
* * *
قال الله تعالى: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ [آل عمران ٣] ﴿نَزَّلَ﴾ التنزيل يكون من أعلى إلى أسفل، ويكون بالتدريج شيئًا فشيئًا؛ كما قال الله تعالى: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا﴾ [الإسراء ١٠٦]، وقال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ [الفرقان ٣٢]. 
يعني نزلناه ليس جملة واحدة، فقوله: ﴿نزل﴾ يفيد أن هذا القرآن من عند الله، وأنه نزل أيش؟ بالتدريج ليس مرة واحدة، وقوله: ﴿عَلَيْكَ﴾ الضمير يعود على الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد بين الله تعالى في آية أخرى أنه نزل على قلب الرسول ﷺ؛ ليكون أدل على وعيه لهذا القرآن الذي نزل عليه. 
وقوله: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ الكتاب هو هذا القرآن، وهو فعال بمعنى مفعول؛ لأنه مكتوب، فهو كتاب؛ لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ؛ كما قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ﴾ [الواقعة ٧٧، ٧٨] اللوح المحفوظ، وهو كتاب في الصحف التي بأيدي الملائكة ﴿فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ﴾ [عبس ١٢، ١٣]، وهو كتاب في الصحف التي بأيدينا.

(١) متفق عليه، البخاري (٢٢٧٦)، ومسلم (٢٢٠١ / ٦٥) من حديث أبي سعيد الخدري.
(٢) أخرجه مسلم (٣٩٥) (٣٨).
(٣) وهي قراءة: نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وحمزة. راجع التيسير في القراءات السبع (ص٢٧).
(٤) وهي قراءة قنبل عن ابن كثير، والباقون بالصاد الخالصة. راجع التيسير في القراءات السبع (ص٢٧). 
(٥) قراءة حمزة بضم الهاء، والباقون بكسرها. انظر التيسير (ص٢٧).
(٦) أخرجه البخاري (١٢٧).
(٧) أخرجه مسلم في المقدمة (٥).
(٨) متفق عليه. البخاري (٢٤١٩)، ومسلم (٨١٨ / ٢٧١) من حديث عمر بن الخطاب.
(٩) متفق عليه، البخاري (٥٢٧٩)، ومسلم (١٥٠٤ / ١٤) من حديث عائشة.
(١٠) أخرج مسلم في صحيحه (٨٠٤ / ٢٥٢) من حديث أبي أمامة مرفوعا: «اقرءوا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران».
(١١) انظر مجموع الفتاوى (٢٠ / ٤٢٣).
(١٢) متفق عليه، البخاري (٣٣٤٨)، ومسلم (٢٢٢ / ٣٧٩) من حديث أبي سعيد الخدري.
(١٣) أخرجه مسلم (٨٦٧ / ٤٣) من حديث جابر بن عبد الله.
(١٤) متفق عليه، البخاري (٧٥٧)، ومسلم (٣٩٧ / ٤٥) من حديث أبي هريرة.
(١٥) أخرجه ابن ماجه (١٠٦٠)، وأحمد (١٨٩٩٧).
(١٦)  العقيدة الواسطية (ص٩٣).
(١٧) أخرجه البخاري (٣٤٨٤) من حديث أبي مسعود البدري.


روح المعاني — الآلوسي (١٢٧٠ هـ)

﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ سَوَاۤءٌ عَلَیۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ﴾ [البقرة ٦]
﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهم لا يُؤْمِنُونَ﴾ كَلامٌ مُسْتَأْنَفٌ يَتَمَيَّزُ بِهِ حالُ الكَفَرَةِ الغُواةِ المَرَدَةِ العُتاةِ، سِيقَ إثْرَ بَيانِ بَدِيعِ أحْوالِ أضْدادِهِمُ المُتَّصِفِينَ بِنُعُوتِ الكَمالِ الفائِزِينَ بِمَطالِبِهِمْ في الحالِ والمَآلِ، ولَمْ يُعْطَفْ عَلى سابِقِيهِ عَطْفَ القِصَّةِ عَلى القِصَّةِ، لِأنَّ المَقْصُودَ مِن ذَلِكَ بَيانُ اتِّصافِ الكِتابِ بِغايَةِ الكَمالِ في الهِدايَةِ تَقْرِيرًا لِكَوْنِهِ يَقِينًا، لا مَجالَ لِلشَّكِّ فِيهِ، ومِن هَذا بَيانُ اتِّصافِ الكُفّارِ بِالإصْرارِ عَلى الكُفْرِ، والضَّلالِ، بِحَيْثُ لا يُجْدِي فِيهِمُ الإنْذارُ، والقَوْلُ: إنَّهُما مَسُوقانِ لِبَيانِ حالِ الكِتابِ، وأنَّهُ هُدًى لِقَوْمٍ، ولَيْسَ هُدًى لِآخَرِينَ لا يُجْدِي نَفْعًا، لِأنَّ عَدَمَ كَوْنِهِ هُدًى لَهم مَفْهُومٌ تَبَعًا، لا مَقْصُودٌ أصالَةً، عَلى أنَّ الِانْتِفاعَ بِهِ صِفَةُ كَمالٍ لَهُ يُؤَيِّدُ ما سَبَقَ مِن تَفْخِيمِ شَأْنِهِ وإعْلاءِ مَكانِهِ بِخِلافِ عَدَمِ الِانْتِفاعِ، وقِيلَ: إنَّ تَرْكَ العَطْفِ لِكَوْنِهِ اسْتِئْنافًا آخَرَ، كَأنَّهُ قِيلَ ثانِيًا: ما بالُ غَيْرِهِمْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ؟ فَأُجِيبَ بِأنَّهم لِإعْراضِهِمْ، وزَوالِ اسْتِعْدادِهِمْ لَمْ يَنْجَعْ فِيهِمْ دَعْوَةُ الكِتابِ إلى الإيمانِ، ولَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأنَّهُ بَعْدَ ما تَقَرَّرَ أنَّ تِلْكَ الأوْصافَ المُخْتَصَّةَ هي المُقْتَضِيَةُ لَمْ يَبْقَ لِهَذا السُّؤالِ وجْهٌ، وأغْرَبُ مِن هَذا تَخَيُّلُ أنَّ التَّرْكَ لِغايَةِ الِاتِّصالِ زَعْمًا أنَّ شَرْحَ تَمَرُّدِ الكُفّارِ يُؤَكِّدُ كَوْنَ الكِتابِ كامِلًا في الهِدايَةِ، نَعَمْ يُمْكِنُ عَلى بُعْدٍ أنَّ وجْهَ السُّؤالِ بِأنْ يُقالَ: لَوْ كانَ الكِتابُ كامِلًا لَكانَ هُدًى لِلْكُفّارِ أيْضًا، فَيُجابُ بِأنَّ عَدَمَ هِدايَتِهِ إيّاهم لِتَمَرُّدِهِمْ وتَعَنُّتِهِمْ، لا لِقُصُورٍ في الكِتابِ.
والنَّجْمُ تَسْتَصْغِرُ الأبْصارُ رُؤْيَتَهُ والذَّنَبُ لِلطَّرْفِ لا لِلنَّجْمِ في الصِّغَرِ

والعَطْفُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ الأبْرارَ لَفي نَعِيمٍ﴾ ﴿وإنَّ الفُجّارَ لَفي جَحِيمٍ﴾ لِاتِّحادِ الجامِعِ إذِ الجُمْلَةُ الأُولى مَسُوقَةٌ لِبَيانِ ثَوابِ الأخْيارِ، والثّانِيَةُ لِذِكْرِ جَزاءِ الأشْرارِ مَعَ ما فِيهِما مِنَ التَّرْصِيعِ، والتَّقابُلِ، وقَدْ عُدَّ التَّضادُّ وشِبْهُهُ جامِعًا، يَقْتَضِي العَطْفَ، لِأنَّ الوَهْمَ يُنْزِلُ المُتَضادَّيْنِ مَنزِلَةَ المُتَضايِفَيْنِ، فَيُجْتَهَدُ في الجَمْعِ بَيْنَهُما في الذِّهْنِ حَتّى قالُوا: إنَّ الضِّدَّ أقْرَبُ خُطُورًا بِالبالِ مَعَ الضِّدِّ مِنَ الأمْثالِ، وصُدِّرَتِ الجُمْلَةُ بِإنَّ، اعْتِناءً بِمَضْمُونِها، وقَدْ تُصَدَّرُ بِها الأجْوِبَةُ لِأنَّ السّائِلَ لِكَوْنِهِ مُتَرَدِّدًا يُناسِبُهُ التَّأْكِيدُ، وتَعْرِيفُ المَوْصُولِ إمّا لِلْعَهْدِ، والمُرادُ مَن شافَهَهم ﷺ بِالإنْذارِ في عَهْدِهِ، وهم مُصِرُّونَ عَلى كُفْرِهِمْ، أوْ لِلْجِنْسِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ﴾ وكَقَوْلِ الشّاعِرِ:
ويَسْعى إذا أبْنِي لِيَهْدِمَ صالِحِي ∗∗∗ ولَيْسَ الَّذِي يَبْنِي كَمَن شَأْنُهُ الهَدْمُ

فَهُوَ حِينَئِذٍ عامٌّ خَصَّهُ العَقْلُ بِغَيْرِ المُصِرِّينَ، والإخْبارُ بِما ذُكِرَ قَرِينَةٌ عَلَيْهِ، أوِ المُخَصِّصُ عَوْدُ ضَمِيرٍ خاصٍّ عَلَيْهِ مِنَ الخَبَرِ، لا الخَبَرُ نَفْسُهُ، وقَدْ ذَكَرَ الأُصُولِيُّونَ ثَلاثَةَ أقْوالٍ فِيما إذا عادَ ضَمِيرٌ خاصٌّ عَلى العامِّ، فَقِيلَ: يُخَصِّصُهُ، وقِيلَ: لا، وقِيلَ: بِالوَقْفِ، ومَثَّلُوهُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿والمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾ فَإنَّ الضَّمِيرَ في بُعُولَتِهِنَّ لِلرَّجْعِيّاتِ فَقَطْ، وما ذَكَرَهُ بَعْضُ أجِلَّةِ المُفَسِّرِينَ أنَّ المُخَصِّصَ هُنا الخَبَرُ أوْرَدَ عَلَيْهِ إنَّ تَعَيُّنَ المُخْبَرِ عَنْهُ بِمَفْهُومِ الخَبَرِ يُنافِي ما تَقَرَّرَ مِن أنَّ المُخْبَرَ عَنْهُ لا بُدَّ أنْ يَكُونَ مُتَعَيِّنًا عِنْدَ المُخاطَبِ، قَبْلَ وُرُودِ الخَبَرِ، فَلَوْ تَوَقَّفَ تَعَيَّنَ المُخْبَرُ عَنْهُ عَلى الخَبَرِ، لَزِمَ الدَّوْرُ، والكُفْرُ بِالضَّمِّ مُقابِلُ الإيمانِ، وأصْلُهُ المَأْخُوذُ مِنهُ الكَفْرُ بِالفَتْحِ مَصْدَرٌ بِمَعْنى السَّتْرِ، يُقالُ: كَفَرَ يَكْفُرُ مِن بابِ قَتَلَ، وما في الصِّحاحِ مِن أنَّهُ مِن بابِ ضَرَبَ، فالظّاهِرُ أنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، وإنْ لَمْ يُنَبَّهْ عَلَيْهِ في القامُوسِ، وشاعَ اسْتِعْمالُهُ في سَتْرِ النِّعْمَةِ خاصَّةً، وفي مُقابِلِ الإيمانِ، لِأنَّ فِيهِ سَتْرَ الحَقِّ، ونِعَمِ الفَيْضِ المُطْلَقِ، وقَدْ صَعُبَ عَلى المُتَكَلِّمِينَ تَعْرِيفُ الكُفْرِ الشَّرْعِيِّ الغَيْرِ التَّبَعِيِّ، واخْتَلَفُوا في تَعْرِيفِهِ عَلى حَسَبِ اخْتِلافِهِمْ في تَعْرِيفِ الإيمانِ، إلّا أنَّ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ الشّافِعِيَّةُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعالى أنَّهُ إنْكارُ ما عُلِمَ مَجِيءُ الرَّسُولِ ﷺ بِهِ مِمّا اشْتُهِرَ حَتّى عَرَفَهُ الخَواصُّ والعَوامُّ، فَلا يَكْفُرُ جاحِدُ المُجْمَعِ عَلَيْهِ عَلى الإطْلاقِ، بَلْ مَن جَحَدَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ فِيهِ نَصٌّ، وهو مِنَ الأُمُورِ الظّاهِرَةِ الَّتِي يَشْتَرِكُ في مَعْرِفَتِها سائِرُ النّاسِ كالصَّلاةِ، وتَحْرِيمِ الخَمْرِ، ومَن جَحَدَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، لا يُعَرِّفُهُ إلّا الخَواصُّ كاسْتِحْقاقِ بِنْتِ الِابْنِ السُّدُسَ مَعَ بِنْتِ الصُّلْبِ فَلَيْسَ بِكافِرٍ، ومَن جَحَدَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ ظاهِرًا لا نَصَّ فِيهِ، فَفي الحُكْمِ بِتَكْفِيرِهِ خِلافٌ، وأمّا ساداتُنا الحَنَفِيَّةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُمْ، فَلَمْ يَشْتَرِطُوا في الإكْفارِ سِوى القَطْعِ بِثُبُوتِ ذَلِكَ الأمْرِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الإنْكارُ لا بُلُوغُ العِلْمِ بِهِ حَدَّ الضَّرُورَةِ، وهَذا أمْرٌ عَظِيمٌ وكَأنَّهُ لِذَلِكَ قالَ ابْنُ الهُمامِ: يَجِبُ حَمْلُهُ عَلى ما إذا عَلِمَ المُنْكِرُ ثُبُوتَهُ قَطْعًا، لِأنَّ مَناطَ التَّكْفِيرِ التَّكْذِيبُ أوِ الِاسْتِخْفافُ، ولا يَرِدُ عَلى أخْذِ الإنْكارِ في التَّعْرِيفِ أنَّ أهْلَ الشَّرْعِ حَكَمُوا عَلى بَعْضِ الأفْعالِ والأقْوالِ بِأنَّها كُفْرٌ، ولَيْسَتْ إنْكارًا مِن فاعِلِها ظاهِرًا، لِأنَّهم صَرَّحُوا بِأنَّها لَيْسَتْ كُفْرًا، وإنَّما هي دالَّةٌ عَلَيْهِ، فَأُقِيمَ الدّالُّ مَقامَ مَدْلُولِهِ حِمايَةً لِحَرِيمِ الدِّينِ وصِيانَةً لِشَرِيعَةِ سَيِّدِ المُرْسَلِينَ ﷺ، ولَيْسَتْ بَعْضُ المَنهِيّاتُ الَّتِي تَقْتَضِيها الشَّهْوَةُ النَّفْسانِيَّةُ كَذَلِكَ، فَلا يَبْطُلُ الطَّرْدُ بِغَيْرِ الكُفْرِ مِنَ الفِسْقِ، فَلَيْسَ شِعارُ الكُفّارِ مَثَلًا لَيْسَ في الحَقِيقَةِ كُفْرًا كَما قالَهُ مَوْلانا الإمامُ الرّازِيُّ وغَيْرُهُ، إلّا أنَّهم كَفَرُوا بِهِ لِكَوْنِهِ عَلامَةً ظاهِرَةً عَلى أمْرٍ باطِنٍ، وهو التَّكْذِيبُ، لِأنَّ الظّاهِرَ أنَّ مَن يُصَدِّقُ الرَّسُولَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ لا يَأْتِي بِهِ، فَحَيْثُ أتى بِهِ دَلَّ عَلى عَدَمِ التَّصْدِيقِ، وهَذا إذا لَمْ تَقُمْ قَرِينَةٌ عَلى ما يُنافِي تِلْكَ الدِّلالَةَ، ولِهَذا قالَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ: إنَّ لُبْسَ شِعارِ الكَفَرَةِ سُخْرِيَةٌ بِهِمْ، وهَزْلًا لَيْسَ بِكُفْرٍ، وقالَ مَوْلانا الشِّهابُ: ولَيْسَ بِبَعِيدٍ إذا قامَتِ القَرِينَةُ، وأنا أقُولُ: إذا قامَتِ القَرِينَةُ عَلى غَرَضٍ آخَرَ غَيْرِ السُّخْرِيَةِ والهَزْلِ، لا كُفْرَ بِهِ أيْضًا كَما يَظُنُّهُ بَعْضُ مَنِ ادَّعى العِلْمَ اليَوْمَ، ولَيْسَ مِنهُ في قَبِيلٍ ولا دَبِيرٍ، ولا في العِيرِ ولا النَّفِيرِ، ثُمَّ الإنْكارُ هُنا بِمَعْنى الجُحُودِ، ولا يَرِدُ أنَّ مَن تَشَكَّكَ أوْ كانَ خالِيًا عَنِ التَّصْدِيقِ والتَّكْذِيبِ لَيْسَ بِمُصَدِّقٍ، ولا جاحِدٍ وأنَّهُ قَوْلٌ بِالمَنزِلَةِ بَيْنَ المَنزِلَتَيْنِ، وهو باطِلٌ عِنْدَ أهْلِ السُّنَّةِ، لِأنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ كُفْرُ الشّاكِّ والخالِي، لِأنَّ تَرْكَهُما الإقْرارَ مَعَ السَّعَةِ والأعْمالَ بِالكُلِّيَّةِ دَلِيلٌ كَما قالَهُ السّالَكُوتِيُّ عَلى التَّكْذِيبِ، كَما أنَّ التَّلَفُّظَ بِكَلِمَةِ الشَّهادَةِ دَلِيلٌ عَلى التَّصْدِيقِ، وقِيلَ: هو ها هُنا مِن أنْكَرْتُ الشَّيْءَ جَهِلْتُهُ، فَلا وُرُودَ أيْضًا، وفِيهِ أنَّ الإنْكارَ بِمَعْنى الجَهْلِ يُقابِلُ المَعْرِفَةَ، فَيَلْزَمُ أنْ يَكُونَ العارِفُ الغَيْرُ المُصَدِّقِ كَأحْبارِ اليَهُودِ واسِطَةً، فالمَحْذُورُ باقٍ بِحالِهِ، وعُرِّفَ في المَواقِفِ الكُفْرُ بِأنَّهُ عَدَمُ تَصْدِيقِ الرَّسُولِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ في بَعْضِ ما عُلِمَ مَجِيئُهُ بِهِ بِالضَّرُورَةِ، ولَعَلَّهُ أيْضًا يَقُولُ بِإقامَةِ بَعْضِ الأفْعالِ، والأقْوالِ مَقامَ عَدَمِ التَّصْدِيقِ، واعْتُرِضَ عَلى أخْذِ الضَّرُورَةِ بِأنَّ ما ثَبَتَ بِالإجْماعِ قَدْ يَخْرُجُ مِنَ الضَّرُورِيّاتِ، وكَذا بَراءَةُ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها ثَبَتَتْ بِالقُرْآنِ، وأدِلَّتُهُ اللَّفْظِيَّةُ غَيْرُ مُوجِبَةٍ لِلْعِلْمِ، فَتَخْرُجُ عَنِ الضَّرُورِيّاتِ أيْضًا.
وأُجِيبَ بِأنَّ خُرُوجَ ما ثَبَتَ بِالإجْماعِ عَنِ الضَّرُورِيّاتِ مَمْنُوعٌ، والدِّلالَةُ اللَّفْظِيَّةُ تُفِيدُ العِلْمَ بِانْضِمامِ القَرائِنِ، وهي مَوْجُودَةٌ في بَراءَةِ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها، ولَقَدْ عَدَّ أصْحابُنا رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم في بابِ الإكْفارِ أشْياءَ كَثِيرَةً لا أُراها تُوجِبُ إكْفارًا، والإخَراجُ عَنِ المِلَّةِ أمْرٌ لا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ، فَيَنْبَغِي الِاتِّئادُ في هَذا البابِ، مَهْما أمْكَنَ، وقَوْلُ ابْنِ الهُمامِ: ارْفُقْ بِالنّاسِ، وفي أبْكارِ الأفْكارِ في هَذا البَحْثِ ما يُقْضى مِنهُ العَجَبُ، ولا أرْغَبُ في طُولٍ بِلا طَوْلٍ، وفُضُولٍ بِلا فَضْلٍ، واسْتَدَلَّ المُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الآيَةِ، ونَحْوَها عَلى حُدُوثِ كَلامِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى لِاسْتِدْعاءِ صِدْقِ الإخْبارِ بِمِثْلِ هَذا الماضِي سابِقَةَ المُخْبَرِ عَنْهُ، أعْنِي النِّسْبَةَ بِالزَّمانِ، وكُلُّ مَسْبُوقٍ بِالزَّمانِ حادِثٌ، وأُجِيبَ بِأنَّ سَبْقَ المُخْبَرِ عَنْهُ يَقْتَضِي تَعَلُّقَ كَلامِهِ الأزَلِيِّ بِالمُخْبَرِ عَنْهُ، فاللّازِمُ سَبْقُ المُخْبَرِ عَنْهُ عَلى التَّعَلُّقِ، وحُدُوثِهِ، وهو لا يَسْتَلْزِمُ حُدُوثَ الكَلامِ، كَما في عِلْمِهِ تَعالى بِوُقُوعِ الأشْياءِ، فَإنَّ لَهُ تَعَلُّقًا حادِثًا مَعَ عَدَمِ حُدُوثِهِ، أوْ يُقالُ: إنَّ ذاتَهُ تَعالى وصِفاتِهِ لَمّا لَمْ تَكُنْ زَمانِيَّةً يَسْتَوِي إلَيْها جَمِيعُ الأزْمِنَةِ اسْتِواءَ جَمِيعِ الأمْكِنَةِ، فالأنْواعُ كُلٌّ مِنها حاضِرٌ عِنْدَهُ في مَرْتَبَتِهِ، واخْتِلافُ التَّعْبِيراتِ بِالنَّظَرِ إلى المُخاطَبِ الزَّمانِيِّ رِعايَةً لِلْحِكْمَةِ في بابِ التَّفْهِيمِ، وقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ، مِمّا يَطُولُ ذِكْرُهُ، وقَدْ ذَكَرْنا في الفائِدَةِ الرّابِعَةِ ما يُفِيدُكَ ذِكْرُهُ هُنا، فَتَذَكَّرْ، (وسَواءٌ) اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنى الِاسْتِواءِ وهو لا يُثَنّى ولا يُجْمَعُ، وقَدِ اسْتَغْنَوْا عَنْ تَثْنِيَتِهِ بِتَثْنِيَةِ سِيٍّ إلّا شُذُوذًا، وكَأنَّهُ في الأصْلِ مَصْدَرٌ، كَما قالَهُ الرَّضِيُّ، ورُفِعَ عَلى أنَّهُ خَبَرُ إنَّ، وما بَعْدَهُ مُرْتَفِعٌ بِهِ عَلى الفاعِلِيَّةِ، كَأنَّهُ قِيلَ: إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُسْتَوٍ عَلَيْهِمْ إنْذارُكَ وعَدَمُهُ، أوْ خَبَرُ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: الأمْرانِ سَواءٌ، ثُمَّ بَيَّنَ الأمْرَيْنِ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ أوْ خَبَرٌ لِما بَعْدَهُ، أيْ إنْذارُكَ وعَدَمُهُ سِيّانِ، وهو المَشْهُورُ عَلى ألْسِنَةِ الطَّلَبَةِ في مِثْلِهِ، وأُورِدَ عَلَيْهِ أُمُورٌ، الأوَّلُ أنَّ الفِعْلَ لا يُسْنَدُ إلَيْهِ، الثّانِي أنَّهُ مُبْطِلٌ لِصَدارَةِ الِاسْتِفْهامِ، الثّالِثُ أنَّ الهَمْزَةَ وأمْ مَوْضُوعانِ لِأحَدِ الأمْرَيْنِ، وكُلُّ ما يَدُلُّ عَلى الِاسْتِواءِ لا يُسْنَدُ إلّا إلى مُتَعَدِّدٍ، فَلِذا يُقالُ: اسْتَوى وُجُودُهُ وعَدَمُهُ، ولا يُقالُ: أوْ عَدَمُهُ، الرّابِعُ أنَّهُ عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ خَبَرًا، يَلْزَمُ أنْ لا يَصِحَّ تَقْدِيمُهُ لِالتِباسِ المُبْتَدَإ بِالفاعِلِ، ويُجابُ أمّا عَنِ الأوَّلِ فَبِأنَّهُ مِن جِنْسِ الكَلامِ المَهْجُورِ فِيهِ جانِبُ اللَّفْظِ إلى جانِبِ المَعْنى، والعَرَبُ تَمِيلُ في مَواضِعَ مِن كَلامِهِمْ مَعَ المَعانِي مَيْلًا بَيِّنًا، ومِن ذَلِكَ: لا تَأْكُلِ السَّمَكَ وتَشْرَبِ اللَّبَنَ، أيْ لا يُمْكِنُ مِنكَ أكْلُ السَّمَكِ وشُرْبُ اللَّبَنِ، ولَوْ أُجْرِيَ عَلى ظاهِرِهِ لَزِمَ عَطْفُ الِاسْمِ المَنصُوبِ عَلى الفِعْلِ، بَلِ المُفْرَدِ عَلى جُمْلَةٍ لا مَحَلَّ لَها، ودَعْوى البَيْضاوِيِّ بَيَّضَ اللَّهُ تَعالى غُرَّةَ أحْوالِهِ أنَّهُ اسْتُعْمِلَ فِيهِ اللَّفْظُ في جُزْءِ مَعْناهُ، وهو الحَدَثُ تَجَوُّزًا، فَلِذا صَحَّ الإخْبارُ عَنْهُ، كَما يَجُوزُ الإخْبارُ عَمّا يُرادُ بِهِ مُجَرَّدُ لَفْظِهِ، كَضَرَبَ ماضٍ مَفْتُوحُ الباءِ عَلى ما فِيها، لا تَتَأتّى فِيما إذا كانَ المُعادَلانِ أوْ أحَدُهُما بَعْدَ هَمْزَةِ التَّسْوِيَةِ جُمْلَةً اسْمِيَّةً، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿سَواءٌ عَلَيْكم أدَعَوْتُمُوهم أمْ أنْتُمْ صامِتُونَ﴾ ويَدْخُلُ في المَيْلِ مَعَ المَعْنى مَعَ أنَّهُ لا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الخُرُوجُ عَنِ الحَقِيقَةِ، وقَدْ نَقَلَ ابْنُ جِنِّي عَنْ أبِي عَلِيٍّ أنَّهُ قالَ: الجُمْلَةُ المُرَكَّبَةُ مِنَ المُبْتَدَإ والخَبَرِ تَقَعُ مَوْقِعَ الفِعْلِ المَنصُوبِ بِأنَّ، إذا انْتَصَبَ وانْصَرَفَ القَوْلُ بِهِ، والرَّأْيُ فِيهِ إلى مَذْهَبِ المَصْدَرِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿هَلْ لَكم مِن ما مَلَكَتْ أيْمانُكم مِن شُرَكاءَ في ما رَزَقْناكم فَأنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ﴾ وكَقَوْلِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿أعِنْدَهُ عِلْمُ الغَيْبِ فَهو يَرى﴾ ألا تَرى أنَّ الفاءَ جَوابُ الِاسْتِفْهامِ، وهي تَصْرِفُ الفِعْلَ بَعْدَها إلى الِانْتِصابِ بِأنْ مُضْمَرَةٍ، والفِعْلُ المَنصُوبُ مَصْدَرٌ لا مَحالَةَ، حَتّى كَأنَّهُ قالَ: أعِنْدَهُ عِلْمُ الغَيْبِ فَرُؤْيَتُهُ، وهَلْ بَيْنَكم شَرِكَةٌ فاسْتِواءٌ، وأمّا عَنِ الثّانِي والثّالِثِ فَبِأنَّ الهَمْزَةَ، وأمِ انْسَلَخا عَنْ مَعْنى الِاسْتِفْهامِ عَنْ أحَدِ الأمْرَيْنِ، ولَمّا كانا مُسْتَوِيَيْنِ في عِلْمِ المُسْتَفْهِمِ جُعِلا مُسْتَوِيَيْنِ في تَعَلُّقِ الحُكْمِ بِكِلَيْهِما، ولِهَذا قِيلَ: تُجُوِّزَ بِهِما عَنْ مَعْنى الواوِ العاطِفَةِ الدّالَّةِ عَلى اجْتِماعِ مُتَعاطِفَيْها في نِسْبَةٍ ما، مِن غَيْرِ مُلاحَظَةِ تَقَدُّمٍ أوْ تَأخُّرٍ، ثُمَّ إنَّ مِثْلَ هَذا المَعْنى، وإنْ كانَ مُرادًا، إلّا أنَّهُ لا يُلاحَظُ في عُنْوانِ المَوْضُوعِ بَعْدَ السَّبْكِ، كَما لا يُلاحَظُ مَعْنى العاطِفِ، فَلا يُقالُ في التَّرْجَمَةِ هُنا إلّا: الإنْذارُ وعَدَمُهُ سَواءٌ، مِن غَيْرِ نَظَرٍ إلى التَّساوِي، حَتّى يُقالَ: إذا كانَ تَقْدِيرُ المُبْتَدَإ المُتَساوِيانِ يَلْغُو حَمْلُ سَواءٍ عَلَيْهِ، فَيُدْفَعُ بِما يُدْفَعُ، وقَدْ قالَ الإمامُ الآقُسْرائِيُّ: إنْ أنْذَرَتَهم إلَخِ، انْتَقَلَ عَنْ أنْ يَكُونَ المَقْصُودُ أحَدَهُما إلى أنْ يَكُونَ المُرادُ كِلَيْهِما، وهَذا مَعْنى الِاسْتِواءِ المَوْجُودِ فِيهِ، وأمّا الحُكْمُ بِالِاسْتِواءِ في عَدَمِ النَّفْعِ، فَلَمْ يَحْصُلْ إلّا مِن قَوْلِهِ: ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ وذُكِرَ أنَّهُ ظَفِرَ بِمِثْلِهِ عَنْ أبِي عَلِيٍّ الفارِسِيِّ، وكَلامُ المَوْلى الفَنارِيِّ يَحُومُ حَوْلَ هَذا الحِمى، وذَهَبَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ إلى أنَّهُما في الأصْلِ لِلِاسْتِفْهامِ عَنْ أحَدِ الأمْرَيْنِ، وهُما مُسْتَوِيانِ في عِلْمِ المُسْتَفْهِمِ، وقَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ الِاسْتِواءُ هُنا إذْ سُلِخَ عَنْهُما الِاسْتِفْهامُ، وبَقِيَ الِاسْتِواءُ في العِلْمِ، وهو مَعْنى قَوْلِ مَن قالَ: الهَمْزَةُ وأمْ مُجَرَّدَتانِ لِمَعْنى الِاسْتِواءِ، فَيَكُونُ الحاصِلُ فِيما نَحْنُ فِيهِ المُتَساوِيانِ في عِلْمِكَ، مُسْتَوِيانِ في عَدَمِ الجَدْوى، وهَذا عَلى ما فِيهِ تَكَلُّفٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ بِما ذَكَرْناهُ، ومِثْلُهُ ما ذَكَرَ العامِلِيُّ مِن أنَّ تَمامَ مَعْناهُما الِاسْتِواءُ، والِاسْتِفْهامُ مَعًا، فَجُرِّدا عَنْ مَعْنى الِاسْتِفْهامِ وصارَ المُجَرَّدُ الِاسْتِواءَ، ولِتَكَرُّرِ الحُكْمِ بِالِاسْتِواءِ بِمَعْنًى واحِدٍ يَحْصُلُ التَّأْكِيدُ، كَأنَّهُ قِيلَ: سَواءٌ الإنْذارُ وعَدَمُهُ سَواءٌ، وهو بَعِيدٌ عَنْ ساحَةِ التَّحْقِيقِ كَما لا يَخْفى، ويُوهِمُ قَوْلُهم بِالتَّجْرِيدِ أنْ هُناكَ مَجازًا مُرْسَلًا اسْتُعْمِلَ فِيهِ الكُلُّ في جُزْئِهِ، والتَّحْقِيقُ أنَّهُ إمّا اسْتِعارَةٌ أوْ مُسْتَعْمَلٌ في لازِمِ مَعْناهُ، ثُمَّ المَشْهُورُ أنَّهُ لا يَجُوزُ العَطْفُ بَعْدَ سَواءٍ بَأوْ، إنْ كانَ هُناكَ هَمْزَةُ التَّسْوِيَةِ حَتّى قالَ في المُغْنِي: إنَّهُ مِن لَحْنِ الفُقَهاءِ، وفي شَرْحِ الكِتابِ لِلسِّيرافِيِّ: (سَواءٌ) إذا دَخَلَتْ بَعْدَها ألِفُ الِاسْتِفْهامِ لَزِمَتْ (أمْ)، كَسَواءٍ عَلَيَّ أقُمْتَ أمْ قَعَدْتَ، فَإذا عُطِفَ بَعْدَها أحَدُ اسْمَيْنِ عَلى آخَرَ عُطِفَ بِالواوِ لا غَيْرُ، نَحْوُ: سَواءٌ عِنْدِي زَيْدٌ وعَمْرٌو، فَإذا كانَ بَعْدَها فِعْلانِ بِغَيْرِ اسْتِفْهامٍ عُطِفَ أحَدُهُما عَلى الآخَرِ بَأوْ، كَقَوْلِكَ: سَواءٌ عَلَيَّ قُمْتَ أوْ قَعَدْتَ، فَإنْ كانَ بَعْدَها مَصْدَرانِ، مِثْلُ: سَواءٌ عَلَيَّ قِيامُكَ وقُعُودُكَ، فَلَكَ العَطْفُ بِالواوِ وبَأوْ، وإنَّما دَخَلَتْ في الفِعْلَيْنِ بِغَيْرِ اسْتِفْهامٍ لِما في ذَلِكَ مِن مَعْنى المُجازاةِ، فَتَقْدِيرُ المِثالِ: إنْ قُمْتَ أوْ قَعَدْتَ فَهُما عَلَيَّ سَواءٌ، والظّاهِرُ مِن هَذا بَيانُ اسْتِعْمالاتِ العَرَبِ لِسَواءٍ، ولَمْ يَحُكَ في شَيْءٍ مِن ذَلِكَ شُذُوذًا، فَقِراءَةُ ابْنِ مُحَيْصِنٍ مِن طَرِيقِ الزَّعْفَرانِيِّ: (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أنْذَرْتَهم أوْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) شاذَّةٌ رِوايَةً فَقَطْ، لا اسْتِعْمالًا، كَما يُفْهِمُهُ كَلامُ ابْنِ هِشامٍ فافْهَمْ هَذا المَقامَ، فَقَدْ غَلِطَ فِيهِ أقْوامٌ بَعْدَ أقْوامٍ، وأمّا عَنِ الرّابِعِ فَبِأنَّ النُّحاةَ قَدْ صَرَّحُوا بِتَخْصِيصِ ذَلِكَ بِالخَبَرِ الفِعْلِيِّ دُونَ الصِّفَةِ نَحْوَ: زَيْدٌ قامَ، فَلا يُقَدَّمُ لِالتِباسِ المُبْتَدَإ بِالفاعِلِ حِينَئِذٍ، فَإذا لَمْ يَمْتَنِعْ في صَرِيحِ الصِّفَةِ، فَعَدَمُ امْتِناعِهِ هُنا أوْلى عَلى ما قِيلَ، وإنَّما عَدَلَ سُبْحانَهُ عَنِ المَصْدَرِ فَلَمْ يَأْتِ بِهِ عَلى الأصْلِ لِوَجْهَيْنِ، لَفْظِيٍّ، وهو حُسْنُ دُخُولِ الهَمْزَةِ وأمْ، لِأنَّهُما في الأصْلِ لِلِاسْتِفْهامِ، وهو بِالفِعْلِ أوْلى، ومَعْنَوِيٍّ، وهو إيهامُ التَّجَدُّدِ نَظَرًا لِظاهِرِ الصِّيغَةِ، وفِيهِ إشارَةٌ إلى أنَّهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ أحَدَثَ ذَلِكَ، وأوْجَدَهُ، فَأدّى الأمانَةَ، وبَلَّغَ الرِّسالَةَ، وإنَّما لَمْ يُؤْمِنُوا لِسَبْقِ الشَّقاءِ ودَرْكِ القَضاءِ، لا لِتَقْصِيرٍ مِنهُ، وحاشاهُ، فَهو وإنْ أفادَ اليَأْسَ، فِيهِ تَسْلِيَةٌ لَهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، (وعَلى) هُنا بِاعْتِبارِ أصْلِ مَعْناهُ، لِأنَّ الِاسْتِواءَ يَتَعَدّى بِعَلى كَقَوْلِهِ تَعالى: ”اسْتَوى عَلى العَرْشِ“ وقِيلَ بِمَعْنى عِنْدَ، فَفي المُغْنِي: (عَلى) تُجَرَّدُ لِلظَّرْفِيَّةِ، وعَلى ذَلِكَ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ، والقَوْلُ بِأنَّها هُنا لِلْمَضَرَّةِ كَدُعاءٍ عَلَيْهِ، لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأنَّ (سَواءً) تُسْتَعْمَلُ مَعَ (عَلى) مُطْلَقًا فَيُقالُ: مَوَدَّتِي دائِمَةٌ سَواءٌ عَلَيَّ أزُرْتَ أمْ لَمْ تَزُرْ، والإنْذارُ التَّخْوِيفُ مُطْلَقًا، أوِ الإبْلاغُ، وأكْثَرُ ما يُسْتَعْمَلُ في تَخْوِيفِ عَذابِ اللَّهِ تَعالى، ويَتَعَدّى إلى اثْنَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنّا أنْذَرْناكم عَذابًا قَرِيبًا﴾ ﴿فَقُلْ أنْذَرْتُكم صاعِقَةً﴾ فالمَفْعُولُ الثّانِي هُنا مَحْذُوفٌ، أيِ العَذابَ ظاهِرًا ومُضْمَرًا، واسْتُحْسِنَ أنْ لا يُقَدَّرَ لِيَعُمَّ، وفي البَحْرِ: الإنْذارُ الإعْلامُ مَعَ التَّخْوِيفِ في مُدَّةٍ تَسَعُ التَّحَفُّظَ مِنَ المُخَوِّفِ، فَإنْ لَمْ تَسْعَ، فَهو إشْعارٌ وإخْبارٌ، لا إنْذارٌ، ولَمْ يَذْكُرْ سُبْحانَهُ البِشارَةَ لِأنَّها تُفْهَمُ بِطَرِيقِ دِلالَةِ النَّصِّ لِأنَّ الإنْذارَ أوْقَعُ في القَلْبِ، وأشَدُّ تَأْثِيرًا، فَإذا لَمْ يَنْفَعْ كانَتِ البِشارَةُ بِعَدَمِ النَّفْعِ أوْلى، وقِيلَ: لا مَحَلَّ لِلْبِشارَةِ هُنا، لِأنَّ الكافِرَ لَيْسَ أهْلًا لَها، وقَوْلُهُ عَزَّ مِن قائِلٍ: ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾ يَحْتَمِلُ أنْ تَكُونَ مُفَسِّرَةً لِإجْمالِ ما قَبْلَها، مِمّا فِيهِ الِاسْتِواءُ، والكُفْرُ وعَدَمُ نَفْعِ الإنْذارِ في الماضِي بِحَسَبِ الظّاهِرِ مَسْكُوتٌ فِيهِ عَنِ الِاسْتِمْرارِ، و﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾ دالٌّ عَلَيْهِ ومُبَيِّنٌ لَهُ، فَلا حاجَةَ إلى القَوْلِ بِأنَّ هَذا بِالنَّظَرِ إلى مَفْهُومِ اللَّفْظِ، مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ أنَّهُ إخْبارٌ عَنِ المُصِرِّينَ، وهي حِينَئِذٍ لا مَحَلَّ لَها مِنَ الإعْرابِ، كَما هو شَأْنُ الجُمَلِ المُفَسِّرَةِ، وعِنْدَ الشَّلَوْبِينِ: لَها مَحَلٌّ لِأنَّها عَطْفُ بَيانٍ عِنْدَهُ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ حالًا مُؤَكِّدَةً لِما قَبْلَها، وصاحِبُ الحالِ ضَمِيرُ (عَلَيْهِمْ) أوْ (أنْذَرْتَهُمْ)، ولَيْسَ هَذا كَــزَيْدٌ أبُوكَ عَطُوفًا، لِفَقْدِ ما يُشْتَرَطُ في هَذا النَّوْعِ ها هُنا، وأنْ تَكُونَ بَدَلًا، إمّا بَدَلَ اشْتِمالٍ لِاشْتِمالِ عَدَمِ نَفْعِ ما مَرَّ عَلى عَدَمِ الإيمانِ، أوْ بَدَلَ كُلٍّ لِأنَّهُ عَيَّنَهُ بِحَسَبِ المَآلِ، أوْ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، أوْ خَبَرَ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ أيْ هم لا يُؤْمِنُونَ، أوْ خَبَرَ إنَّ، والجُمْلَةُ قَبْلَها اعْتِراضٌ، وفي التَّسْهِيلِ: الِاعْتِراضِيَّةُ هي المُفِيدَةُ تَقْوِيَةً، وهي هُنا كالعِلَّةِ لِلْحُكْمِ لِدِلالَتِها عَلى قَسْوَةِ قُلُوبِهِمْ، وعَدَمِ تَأثُّرِها بِالإنْذارِ، وهو مُقْتَضٍ لِعَدَمِ الإيمانِ، وحَيْثُ إنَّ المَوْضُوعَ دالٌّ عَلى عَدَمِ الإيمانِ في الماضِي، والمَحْمُولُ عَلى اسْتِمْرارِهِ في المُسْتَقْبَلِ، انْدَفَعَ تَوَهُّمُ عَدَمِ الفائِدَةِ في الإخْبارِ، وجَعْلُ الجُمْلَةَ دُعائِيَّةً بَعِيدٌ وأبْعَدُ مِنهُ ما رُوِيَ أنَّ الوَقْفَ عَلى: أمْ لَمْ تُنْذِرْ، والِابْتِداءُ بِـ: هم لا يُؤْمِنُونَ عَلى أنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وخَبَرٌ، بَلْ يَنْبَغِي أنْ لا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ، وقَرَأ الجَحْدَرِيُّ: (سَواءٌ) بِتَخْفِيفِ الهَمْزَةِ عَلى لُغَةِ الحِجازِ، فَيَجُوزُ أنَّهُ أخَلَصَ الواوَ، ويَجُوزُ أنَّهُ جَعَلَ الهَمْزَةَ بَيْنَ بَيْنَ، أيْ بَيْنَ الهَمْزَةِ والواوِ، وعَنِ الخَلِيلِ أنَّهُ قَرَأ: (سُوءٌ عَلَيْهِمْ) بِضَمِّ السِّينِ مَعَ واوٍ بَعْدَها، فَهو عُدُولٌ عَنْ مَعْنى المُساواةِ إلى السَّبِّ والقُبْحِ، وعَلَيْهِ لا تَعَلُّقَ إعْرابِيًّا لَهُ بِما بَعْدَهُ، كَما في البَحْرِ، وقَرَأ الكُوفِيُّونَ وابْنُ ذَكْوانَ وهي لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ: (أأنْذَرْتَهُمْ) بِتَحْقِيقِ الهَمْزَتَيْنِ، وهو الأصْلُ، وأهْلُ الحِجازِ لا يَرَوْنَ الجَمْعَ بَيْنَهُما طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ، فَقَرَأ الحَرَمِيّانِ وأبُو عَمْرٍو وهِشامٌ بِتَحْقِيقِ الأُولى، وتَسْهِيلِ الثّانِيَةِ إلّا أنَّ أبا عَمْرٍو، وقالُونَ، وإسْماعِيلَ بْنَ جَعْفَرٍ عَنْ نافِعٍ، وهِشامٍ يُدْخِلُونَ بَيْنَهُما ألِفًا، وابْنُ كَثِيرٍ لا يُدْخِلُ، ورُوِيَ تَحْقِيقُهُما عَنْ هِشامٍ مَعَ إدْخالِ ألِفٍ بَيْنَهُما، وهي قِراءَةُ ابْنِ عَبّاسٍ وابْنِ أبِي إسْحاقَ، ورُوِيَ عَنْ ورْشٍ كابْنِ كَثِيرٍ وكَقالُونَ إبْدالُ الهَمْزَةِ الثّانِيَةِ ألِفًا، فَيَلْتَقِي ساكِنانِ عَلى غَيْرِ حَدِّهِما عِنْدَ البَصْرِيِّينَ، وزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ أنَّ ذَلِكَ لَحْنٌ، وخُرُوجٌ عَنْ كَلامِ العَرَبِ مِن وجْهَيْنِ أحَدُهُما الجَمْعُ بَيْنَ ساكِنَيْنِ عَلى غَيْرِ حَدِّهِ، الثّانِي أنَّ طَرِيقَ تَخْفِيفِ الهَمْزَةِ المُتَحَرِّكَةِ المَفْتُوحِ ما قَبْلَها هو بِالتَّسْهِيلِ بَيْنَ بَيْنَ، لا بِالقَلْبِ ألِفًا، لِأنَّهُ طَرِيقُ الهَمْزَةِ السّاكِنَةِ، وما قالُوهُ مَذْهَبُ البَصْرِيِّينَ، والكُوفِيُّونَ أجازُوا الجَمْعَ عَلى غَيْرِ الحَدِّ الَّذِي أجازَهُ البَصْرِيُّونَ، وهَذِهِ القِراءَةُ مِن قَبِيلِ الأداءِ، ورِوايَةُ المِصْرِيِّينَ عَنْ ورْشٍ وأهْلِ بَغْدادَ يَرْوُونَ التَّسْهِيلَ بَيْنَ بَيْنَ كَما هو القِياسُ، فَلا يَكُونُ الطَّعْنُ فِيها طَعْنًا فِيما هو مِنَ السَّبْعِ المُتَواتِرِ، إلّا أنَّ المُعْتَزِلِيَّ أساءَ الأدَبَ في التَّعْبِيرِ، وقَدِ احْتَجَّ بِهَذِهِ الآيَةِ وأمْثالِها مَن قالَ بِوُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِالمُمْتَنِعِ لِذاتِهِ بِناءً عَلى أنْ يُرادَ بِالمَوْصُولِ ناسٌ بِأعْيانِهِمْ، وحاصِلُ الِاسْتِدْلالِ أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أخْبَرَ بِأنَّهم لا يُؤْمِنُونَ، وأمَرَهم بِالإيمانِ، وهو مُمْتَنِعٌ، إذْ لَوْ كانَ مُمْكِنًا لَما لَزِمَ مِن فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحالٌ، لَكِنَّهُ لازِمٌ إذْ لَوْ آمَنُوا انْقَلَبَ خَبَرُهُ كَذِبًا، وشَمِلَ إيمانَهُمُ الإيمانُ بِأنَّهم لا يُؤْمِنُونَ، لِكَوْنِهِ مِمّا جاءَ بِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وإيمانُهم بِأنَّهم لا يُؤْمِنُونَ فَرْعُ اتِّصافِهِمْ بِعَدَمِ الإيمانِ، فَيَلْزَمُ اتِّصافُهم بِالإيمانِ، وعَدَمِ الإيمانِ، فَيَجْتَمِعُ الضِّدّانِ، وكِلا الأمْرَيْنِ مِنِ انْقِلابِ خَبَرِهِ تَعالى كَذِبًا، واجْتِماعُ الضِّدَّيْنِ مُحالٌ، وما يَسْتَلْزِمُ المُحالَ مُحالٌ، وأُجِيبَ بِأنَّ إيمانَهم لَيْسَ مِنَ المُتَنازَعِ فِيهِ، لِأنَّهُ أمْرٌ مُمْكِنٌ في نَفْسِهِ، وبِإخْبارِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى بِعَدَمِ الإيمانِ لا يَخْرُجُ مِنَ الإمْكانِ، غايَتُهُ أنَّهُ يَصِيرُ مُمْتَنِعًا بِالغَيْرِ، واسْتِلْزامُ وُقُوعِهِ الكَذِبَ أوِ اجْتِماعُ الضِّدَّيْنِ بِالنَّظَرِ إلى ذَلِكَ، لِأنَّ إخْبارَهُ تَعالى بِوُقُوعِ الشَّيْءِ، أوْ عَدَمِ وُقُوعِهِ لا يَنْفِي القُدْرَةَ عَلَيْهِ، ولا يُخْرِجُهُ مِنَ الإمْكانِ الذّاتِيِّ لِامْتِناعِ الِانْقِلابِ، وإنَّما يَنْفِي عَدَمَ وُقُوعِهِ، أوْ وُقُوعَهُ، فَيَصِيرُ مُمْتَنِعًا بِالغَيْرِ، واللّازِمُ لِلْمُمْكِنِ أنْ لا يَلْزَمَ مِن فَرْضِ وُقُوعِهِ نَظَرًا إلى ذاتِهِ مُحالٌ، وأمّا بِالنَّظَرِ إلى امْتِناعِهِ بِالغَيْرِ، فَقَدْ يَسْتَلْزِمُ المُمْتَنِعُ بِالذّاتِ كاسْتِلْزامِ عَدَمِ المَعْلُولِ الأوَّلِ عَدَمَ الواجِبِ، وقِيلَ في بَيانِ اسْتِحالَةِ إيمانِهِمْ بِأنَّهم لا يُؤْمِنُونَ أنَّهُ تَكْلِيفٌ بِالنَّقِيضَيْنِ، لِأنَّ التَّصْدِيقَ في الإخْبارِ لا يُصَدِّقُونَهُ في شَيْءٍ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ تَصْدِيقِهِمْ في ذَلِكَ، والتَّكْلِيفُ بِالشَّيْءِ تَكْلِيفٌ بِلَوازِمِهِ، وقُوبِلَ بِالمَنعِ لا سِيَّما اللَّوازِمُ العَدَمِيَّةُ.
وقِيلَ: لِأنَّ تَصْدِيقَهم في أنْ لا يَصْدِّقُوهُ، يَسْتَلْزِمُ أنْ لا يُصَدِّقُوهُ، وما يَسْتَلْزِمُ وُجُودُهُ عَدَمَهُ مُحالٌ، ورُدَّ بِأنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ الِاسْتِلْزامُ لِامْتِناعِهِ بِالغَيْرِ، كَما فِيما نَحْنُ فِيهِ، وقِيلَ: لِأنَّ إذْعانَ الشَّخْصِ بِخِلافِ ما يَجِدُ في نَفْسِهِ مُحالٌ، واعْتُرِضَ بِأنَّهُ يَجُوزُ أنْ لا يَخْلُقَ اللَّهُ تَعالى العِلْمَ بِتَصْدِيقِهِ، فَيُصَدِّقُهُ في أنْ لا يُصَدِّقَهُ، نَعَمْ إنَّهُ خِلافُ العادَةِ لَكِنَّهُ لَيْسَ مِنَ المُمْتَنِعِ بِالذّاتِ، كَذا قِيلَ، ولا يَخْلُو المَقامُ بَعْدُ عَنْ شَيْءٍ، وأيُّ شَيْءٍ والبَحْثُ طَوِيلٌ، واسْتِيفاؤُهُ هُنا كالتَّكْلِيفِ بِما لا يُطاقُ، وسَيَأْتِيكَ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى عَلى أتَمِّ وجْهٍ.
ثُمَّ فائِدَةُ الإنْذارِ بَعْدَ العِلْمِ بِأنَّهُ لا يُثْمِرُ اسْتِخْراجَ سِرِّ ما سَبَقَ بِهِ العِلْمُ التّابِعُ لِلْمَعْلُومِ مِنَ الطَّوْعِ والإباءِ في المُكَلَّفِينَ، ﴿لِئَلا يَكُونَ لِلنّاسِ عَلى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾، فَإنَّ اللَّهَ تَعالى لَوْ أدْخَلَ ابْتِداءً كُلًّا دارَهُ الَّتِي سَبَقَ العِلْمُ بِأنَّها دارُهُ، لَكانَ شَأْنُ المُعَذَّبِ مِنهم ما وصَفَ اللَّهُ تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿ولَوْ أنّا أهْلَكْناهم بِعَذابٍ مِن قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أرْسَلْتَ إلَيْنا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِن قَبْلِ أنْ نَذِلَّ ونَخْزى﴾ فَأرْسَلَ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ، لِيَسْتَخْرِجَ ما في اسْتِعْدادِهِمْ مِنَ الطَّوْعِ والإباءِ، ﴿لِيَهْلِكَ مَن هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ويَحْيا مَن حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ فَإنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ، وتَقُومُ بِهِ الحُجَّةُ عَلى الآخَرِينَ، إذْ بَعْدَ الذِّكْرى وتَبْلِيغِ الرِّسالَةِ تَتَحَرَّكُ الدَّواعِي لِلطَّوْعِ والإباءِ بِحَسَبِ الِاسْتِعْدادِ الأزَلِيِّ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الفِعْلُ، أوِ التَّرْكُ بِالمَشِيئَةِ السّابِقَةِ التّابِعَةِ لِلْعِلْمِ لِلْمَعْلُومِ الثّابِتِ الأزَلِيِّ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ النَّفْعُ والضُّرُّ مِنَ الثَّوابِ والعِقابِ، وإنَّما قامَتِ الحُجَّةُ عَلى الكافِرِ لِأنَّ ما امْتَنَعَ مِنَ الإتْيانِ بِهِ بَعْدَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ وظُهُورِ المُعْجِزَةِ مِنَ الإيمانِ لَوْ كانَ مُمْتَنِعًا لِذاتِهِ مُطْلَقًا لَما وقَعَ مِن أحَدٍ، لَكِنَّهُ قَدْ وقَعَ، فَعَلِمَ أنَّ عَدَمَ وُقُوعِهِ مِنهُ كانَ عَنْ إباءٍ ناشِئٍ مِنِ اسْتِعْدادِهِ الأزَلِيِّ بِاخْتِيارِهِ السَّيِّئِ، وإنْ كانَ إباؤُهُ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعالى بِهِ فَإنَّ فِعْلَ اللَّهِ تَعالى تابِعٌ لِمَشِيئَتِهِ التّابِعَةِ لِعِلْمِهِ التّابِعِ لِلْمَعْلُومِ، والمَعْلُومُ مِن حَيْثُ ثُبُوتُهُ الأزَلِيُّ غَيْرُ مَجْعُولٍ، فَتَعَلَّقَ العِلْمُ بِهِ عَلى ما هو عَلَيْهِ، في ثُبُوتِهِ الغَيْرِ المَجْعُولِ مِمّا يَقْتَضِيهِ اسْتِعْدادُهُ الأزَلِيُّ، ثُمَّ الإرادَةُ تَعَلَّقَتْ بِتَخْصِيصِ ما سَبَقَ العِلْمُ بِهِ مِن مُقْتَضى اسْتِعْدادِهِ الأزَلِيِّ، فَأبْرَزَتْهُ القُدْرَةُ عَلى طِبْقِ الإرادَةِ قالَ تَعالى: ﴿أعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ﴾ فَلِهَذا قالَ: ﴿قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكم أجْمَعِينَ﴾ لَكِنَّهُ لَمْ يَشَأْ، إذْ لَمْ يَسْبِقْ بِهِ العِلْمُ لِكَوْنِهِ كاشِفًا لِلْمَعْلُومِ، وما في اسْتِعْدادِهِ الأزَلِيِّ، فالمَعْلُومُ المُسْتَعِدُّ لِلْهِدايَةِ في نَفْسِهِ كَشَفَهُ عَمّا هو عَلَيْهِ مِن قَبُولِهِ لَها، والمُسْتَعِدُّ لِلْغَوايَةِ تَعَلَّقَ بِهِ عَلى ما هو عَلَيْهِ مِن عَدَمِ قَبُولِهِ لَها، فَلَمْ يَشَأْ إلّا ما سَبَقَ بِهِ العِلْمُ مِن مُقْتَضَياتِ الِاسْتِعْدادِ، فَلَمْ تَبْرُزِ القُدْرَةُ إلّا ما شاءَ اللَّهُ تَعالى، فَصَحَّ أنَّ لِلَّهِ الحُجَّةَ البالِغَةَ سُبْحانَهُ، إذا نُوزِعَ، لِأنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ ﴿أعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ﴾ وما يَقْتَضِيهِ اسْتِعْدادُهُ وما نَقَصَ مِنهُ شَيْئًا، ولِهَذا قالَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «(فَمَن وجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ)،» فَإنَّ اللَّهَ مُتَفَضِّلٌ بِالإيجادِ، لا واجِبَ عَلَيْهِ، «(ومَن وجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إلّا نَفْسَهُ)،» لِأنَّهُ ما أبْرَزَ قُدْرَتَهُ بِجُودِهِ ورَحْمَتِهِ مِمّا اقْتَضَتْهُ الحِكْمَةُ مِنَ الأمْرِ الَّذِي لا خَيْرَ فِيهِ لَهُ، إلّا لِكَوْنِهِ مُقْتَضى اسْتِعْدادِهِ، فالحَمْدُ لِلَّهِ عَلى كُلِّ حالٍ، ونَعُوذُ بِهِ مِن أحْوالِ أهْلِ الزَّيْغِ والضَّلالِ، وإنَّما قالَ سُبْحانَهُ: ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ﴾ ولَمْ يَقُلْ: عَلَيْكَ، لِأنَّ الإنْذارَ وعَدَمَهُ لَيْسا سَواءً لَدَيْهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، لِفَضِيلَةِ الإنْذارِ الواجِبِ عَلَيْهِ، عَلى تَرْكِهِ، وإذا أُرِيدَ بِالمَوْصُولِ ناسٌ مُعَيَّنُونَ عَلى أنَّهُ تَعْرِيفٌ عَهْدِيٌّ كَما مَرَّ، كانَ فِيهِ مُعْجِزَةٌ لِإخْبارِهِ بِالغَيْبِ، وهو مَوْتُ أُولَئِكَ عَلى الكُفْرِ، كَما كانَ،




مفاتيح الغيب — فخر الدين الرازي (٦٠٦ هـ)
﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ سَوَاۤءٌ عَلَیۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ﴾ [البقرة ٦]
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهم لا يُؤْمِنُونَ﴾
اعْلَمْ أنَّ في الآيَةِ مَسائِلَ نَحْوِيَّةً، ومَسائِلَ أُصُولِيَّةً، ونَحْنُ نَأْتِي عَلَيْها إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى، أمّا قَوْلُهُ: (إنَّ) فَفِيهِ مَسائِلُ:
(المَسْألَةُ الأُولى): اعْلَمْ أنَّ (إنَّ) حَرْفٌ، والحَرْفُ لا أصْلَ لَهُ في العَمَلِ، لَكِنَّ هَذا الحَرْفَ أشْبَهَ الفِعْلَ صُورَةً ومَعْنًى، وتِلْكَ المُشابَهَةُ تَقْتَضِي كَوْنَها عامِلَةً، وفِيهِ مُقَدِّماتٌ:
(المُقَدِّمَةُ الأُولى): في بَيانِ المُشابَهَةِ، واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ المُشابَهَةَ حاصِلَةٌ في اللَّفْظِ والمَعْنى، أمّا في اللَّفْظِ فَلِأنَّها تَرَكَّبَتْ مِن ثَلاثَةِ أحْرُفٍ وانْفَتَحَ آخِرُها ولَزِمَتِ الأسْماءَ كالأفْعالِ، ويَدْخُلُها نُونُ الوِقايَةِ نَحْوَ إنَّنِي وكَأنَّنِي، كَما يَدْخُلُ عَلى الفِعْلِ نَحْوَ: أعْطانِي وأكْرَمَنِي، وأمّا المَعْنى فَلِأنَّها تُفِيدُ حُصُولَ مَعْنًى في الِاسْمِ، وهو تَأكُّدُ مَوْصُوفِيَّتِهِ بِالخَبَرِ، كَما أنَّكَ إذا قُلْتَ: قامَ زَيْدٌ، فَقَوْلُكَ: قامَ أفادَ حُصُولَ مَعْنًى في الِاسْمِ.
(المُقَدِّمَةَ الثّانِيَةُ): أنَّها لَمّا أشْبَهَتِ الأفْعالَ وجَبَ أنْ تُشْبِهَها في العَمَلِ، وذَلِكَ ظاهِرٌ بِناءً عَلى الدَّوَرانِ.
(المُقَدِّمَةُ الثّالِثَةُ): في أنَّها لِمَ نَصَبَتِ الِاسْمَ ورَفَعَتِ الخَبَرَ ؟ وتَقْرِيرُهُ أنْ يُقالَ: إنَّها لَمّا صارَتْ عامِلَةً، فَإمّا أنْ تَرْفَعَ المُبْتَدَأ والخَبَرَ مَعًا، أوْ تَنْصِبَهُما مَعًا، أوْ تَرْفَعَ المُبْتَدَأ وتَنْصِبَ الخَبَرَ وبِالعَكْسِ، والأوَّلُ باطِلٌ؛ لِأنَّ المُبْتَدَأ والخَبَرَ كانا قَبْلَ دُخُولِ (إنَّ) عَلَيْهِما مَرْفُوعَيْنِ، فَلَوْ بَقِيا كَذَلِكَ بَعْدَ دُخُولِها عَلَيْهِما لَما ظَهَرَ لَهُ أثَرٌ البَتَّةَ، ولِأنَّها أُعْطِيَتْ عَمَلَ الفِعْلِ، والفِعْلُ لا يَرْفَعُ الِاسْمَيْنِ، فَلا مَعْنى لِلِاشْتِراكِ، والفَرْعُ لا يَكُونُ أقْوى مِنَ الأصْلِ، والقِسْمُ الثّانِي أيْضًا باطِلٌ؛ لِأنَّ هَذا أيْضًا مُخالِفٌ لِعَمَلِ الفِعْلِ، لِأنَّ الفِعْلَ لا يَنْصِبُ شَيْئًا مَعَ خُلُوِّهِ عَمّا يَرْفَعُهُ. والقِسْمُ الثّالِثُ أيْضًا باطِلٌ؛ لِأنَّهُ يُؤَدِّي إلى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الأصْلِ والفَرْعِ، فَإنَّ الفِعْلَ يَكُونُ عَمَلُهُ في الفاعِلِ أوَّلًا بِالرَّفْعِ ثُمَّ في المَفْعُولِ بِالنَّصْبِ، فَلَوْ جُعِلَ الحَرْفُ هَهُنا كَذَلِكَ لَحَصَلَتِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الأصْلِ والفَرْعِ. ولَمّا بَطَلَتِ الأقْسامُ الثَّلاثَةُ تَعَيَّنَ القِسْمُ الرّابِعُ: وهو أنَّها تَنْصِبُ الِاسْمَ وتَرْفَعُ الخَبَرَ، وهَذا مِمّا يُنَبِّهُ عَلى أنَّ هَذِهِ الحُرُوفَ دَخِيلَةٌ في العَمَلِ لا أصْلِيَّةٌ، لِأنَّ تَقْدِيمَ المَنصُوبِ عَلى المَرْفُوعِ في بابِ الفِعْلِ عُدُولٌ عَنِ الأصْلِ، فَذَلِكَ يَدُلُّ هَهُنا عَلى أنَّ العَمَلَ لِهَذِهِ الحُرُوفِ لَيْسَ بِثابِتٍ بِطَرِيقِ الأصالَةِ، بَلْ بِطَرِيقٍ عارِضٍ.
* * *
(المَسْألَةُ الثّانِيَةُ): قالَ البَصْرِيُّونَ: هَذا الحَرْفُ يَنْصِبُ الِاسْمَ ويَرْفَعُ الخَبَرَ، وقالَ الكُوفِيُّونَ: لا أثَرَ لَهُ في رَفْعِ الخَبَرِ، بَلْ هو مُرْتَفِعٌ بِما كانَ مُرْتَفِعًا بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ. حُجَّةُ البَصْرِيِّينَ: أنَّ هَذِهِ الحُرُوفَ تُشْبِهُ الفِعْلَ مُشابَهَةً تامَّةً عَلى ما تَقَدَّمَ بَيانُهُ، والفِعْلُ لَهُ تَأْثِيرٌ في الرَّفْعِ والنَّصْبِ، فَهَذِهِ الحُرُوفُ يَجِبُ أنْ تَكُونَ كَذَلِكَ. وحَجَّةُ الكُوفِيِّينَ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ مَعْنى الخَبَرِيَّةِ باقٍ في خَبَرِ المُبْتَدَأِ، وهو أوْلى بِاقْتِضاءِ الرَّفْعِ، فَتَكُونُ الخَبَرِيَّةُ رافِعَةً، وإذا كانَتِ الخَبَرِيَّةُ رافِعَةً اسْتَحالَ ارْتِفاعُهُ بِهَذِهِ الحُرُوفِ، فَهَذِهِ مُقَدِّماتٌ ثَلاثَةٌ: إحْداها:
قَوْلُنا: الخَبَرِيَّةُ باقِيَةٌ، وذَلِكَ ظاهِرٌ، لِأنَّ المُرادَ مِنَ الخَبَرِيَّةِ كَوْنُ الخَبَرِ مُسْنَدًا إلى المُبْتَدَأِ، وبَعْدَ دُخُولِ حَرْفِ ”إنَّ“ عَلَيْهِ فَذاكَ الإسْنادُ باقٍ.
وثانِيها: قَوْلُنا: الخَبَرِيَّةُ هَهُنا مُقْتَضِيَةٌ لِلرَّفْعِ: وذَلِكَ لِأنَّ الخَبَرِيَّةَ كانَتْ قَبْلَ دُخُولِ ”إنَّ“ مُقْتَضِيَةً لِلرَّفْعِ، ولَمْ يَكُنْ عَدَمُ الحَرْفِ هُناكَ جُزْءًا مِنَ المُقْتَضى؛ لِأنَّ العَدَمَ لا يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ جُزْءَ العِلَّةِ، فَبَعْدَ دُخُولِ هَذِهِ الحُرُوفِ كانَتِ الخَبَرِيَّةُ مُقْتَضِيَةً لِلرَّفْعِ، لِأنَّ المُقْتَضى بِتَمامِهِ لَوْ حَصَلَ ولَمْ يُؤَثِّرْ لَكانَ ذَلِكَ لِمانِعٍ، وهو خِلافُ الأصْلِ.
وثالِثُها: قَوْلُنا: الخَبَرِيَّةُ أوْلى بِالِاقْتِضاءِ، وبَيانُهُ مِن وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّ كَوْنَهُ خَبَرًا وصْفٌ حَقِيقِيٌّ قائِمٌ بِذاتِهِ، وذَلِكَ الحَرْفُ أجْنَبِيٌّ مُبايِنٌ عَنْهُ، وكَما أنَّهُ مُبايِنٌ عَنْهُ فَغَيْرُ مُجاوِرٍ لَهُ؛ لِأنَّ الِاسْمَ يَتَخَلَّلُهُما.
الثّانِي: أنَّ الخَبَرَ يُشابِهُ الفِعْلَ مُشابَهَةً حَقِيقِيَّةً مَعْنَوِيَّةً، وهو كَوْنُ كُلٍّ واحِدٍ مِنهُما مُسْنَدًا إلى الغَيْرِ، أمّا الحَرْفُ فَإنَّهُ لا يُشابِهُ الفِعْلَ في وصْفٍ حَقِيقِيٍّ مَعْنَوِيٍّ، فَإنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إسْنادٌ، فَكانَتْ مُشابَهَةُ الخَبَرِ لِلْفِعْلِ أقْوى مِن مُشابَهَةِ هَذا الحَرْفِ لِلْفِعْلِ، فَإذا ثَبَتَ ذَلِكَ كانَتِ الخَبَرِيَّةُ بِاقْتِضاءِ الرَّفْعِ لِأجْلِ مُشابَهَةِ الفِعْلِ أوْلى مِنَ الحَرْفِ بِسَبَبِ مُشابَهَتِهِ لِلْفِعْلِ.
ورابِعُها: لَمّا كانَتِ الخَبَرِيَّةُ أقْوى في اقْتِضاءِ الرَّفْعِ اسْتَحالَ كَوْنُ هَذا الحَرْفِ رافِعًا، لِأنَّ الخَبَرِيَّةَ بِالنِّسْبَةِ إلى هَذا الحَرْفِ أوْلى، وإذا كانَ كَذَلِكَ فَقَدْ حَصَلَ الحُكْمُ بِالخَبَرِيَّةِ قَبْلَ حُصُولِ هَذا الحَرْفِ، فَبَعْدَ وُجُودِ هَذا الحَرْفِ لَوْ أُسْنِدَ هَذا الحُكْمُ إلَيْهِ لَكانَ ذَلِكَ تَحْصِيلًا لِلْحاصِلِ، وهو مُحالٌ.
الوَجْهُ الثّانِي: أنَّ سِيبَوَيْهِ وافَقَ عَلى أنَّ الحَرْفَ غَيْرُ أصْلٍ في العَمَلِ، فَيَكُونُ إعْمالُهُ عَلى خِلافِ الدَّلِيلِ، وما ثَبَتَ عَلى خِلافِ الدَّلِيلِ يُقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ. والضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِإعْمالِها في الِاسْمِ، فَوَجَبَ أنْ لا يُعْمِلَها في الخَبَرِ.
* * *
(المَسْألَةُ الثّالِثَةُ): رَوى الأنْبارِيُّ أنَّ الكِنْدِيَّ المُتَفَلْسِفَ رَكِبَ إلى المُبَرِّدِ، وقالَ: إنِّي أجِدُ في كَلامِ العَرَبِ حَشْوًا، أجِدُ العَرَبَ تَقُولُ: عَبْدُ اللَّهِ قائِمٌ، ثُمَّ تَقُولُ: إنَّ عَبْدَ اللَّهِ قائِمٌ، ثُمَّ تَقُولُ: إنَّ عَبْدَ اللَّهِ لَقائِمٌ، فَقالَ المُبَرِّدُ: بَلِ المَعانِي مُخْتَلِفَةٌ لِاخْتِلافِ الألْفاظِ، فَقَوْلُهم: عَبْدُ اللَّهِ قائِمٌ إخْبارٌ عَنْ قِيامِهِ، وقَوْلُهم: إنَّ عَبْدَ اللَّهِ قائِمٌ جَوابٌ عَنْ سُؤالِ سائِلٍ، وقَوْلُهم: إنَّ عَبْدَ اللَّهِ لَقائِمٌ جَوابٌ عَنْ إنْكارِ مُنْكِرٍ لِقِيامِهِ، واحْتَجَّ عَبْدُ القاهِرِ عَلى صِحَّةِ قَوْلِهِ بِأنَّها إنَّما تُذْكَرُ جَوابًا لِسُؤالِ السّائِلِ بِأنْ قالَ: إنّا رَأيْناهم قَدْ ألْزَمُوها الجُمْلَةَ مِنَ المُبْتَدَأِ والخَبَرِ إذا كانَ جَوابًا لِلْقَسَمِ نَحْوَ: واللَّهِ إنَّ زَيْدًا مُنْطَلِقٌ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ التَّنْزِيلِ قَوْلُهُ: ﴿ويَسْألُونَكَ عَنْ ذِي القَرْنَيْنِ قُلْ سَأتْلُو عَلَيْكم مِنهُ ذِكْرًا﴾ ﴿إنّا مَكَّنّا لَهُ في الأرْضِ﴾ [الكَهْفِ: ٨٣] وقَوْلُهُ في أوَّلِ السُّورَةِ: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأهم بِالحَقِّ إنَّهم فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ﴾ [الكَهْفِ: ١٣] وقَوْلُهُ: ﴿فَإنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إنِّي بَرِيءٌ مِمّا تَعْمَلُونَ﴾ [الشُّعَراءِ: ٢١٦] وقَوْلُهُ: ﴿قُلْ إنِّي نُهِيتُ أنْ أعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ [الأنْعامِ: ٥٦] وقَوْلُهُ: ﴿وقُلْ إنِّي أنا النَّذِيرُ المُبِينُ﴾ [الحَجِّ: ٨٩] وأشْباهُ ذَلِكَ مِمّا يُعْلَمُ أنَّهُ يَدُلُّ عَلى أمْرِ النَّبِيِّ ﷺ بِأنْ يُجِيبَ بِهِ الكُفّارَ في بَعْضِ ما جادَلُوا ونَظَرُوا فِيهِ، وعَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إنّا رَسُولُ رَبِّ العالَمِينَ﴾ [الشُّعَراءِ: ١٦] وقَوْلُهُ: ﴿وقالَ مُوسى يافِرْعَوْنُ إنِّي رَسُولٌ مِن رَبِّ العالَمِينَ﴾ [الأعْرافِ: ١٠٤] وفي قِصَّةِ السَّحَرَةِ ﴿إنّا إلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ﴾ [الأعْرافِ: ١٢٥] إذْ مِنَ الظّاهِرِ أنَّهُ جَوابُ فِرْعَوْنَ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿قالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أنْ آذَنَ﴾ [طه: ٧١] وقالَ عَبْدُ القاهِرِ: والتَّحْقِيقُ أنَّها لِلتَّأْكِيدِ، وإذا كانَ الخَبَرُ بِأمْرٍ لَيْسَ لِلْمُخاطَبِ ظَنٌّ في خِلافِهِ لَمْ يُحْتَجْ هُناكَ إلى ”إنَّ“، وإنَّما يُحْتاجُ إلَيْها إذا كانَ السّامِعُ ظَنَّ الخِلافَ، ولِذَلِكَ تَراها تَزْدادُ حُسْنًا إذا كانَ الخَبَرُ بِأمْرٍ يَبْعُدُ مِثْلُهُ، كَقَوْلِ أبِي نُواسٍ:
فَعَلَيْكَ بِاليَأْسِ مِنَ النّاسِ إنَّ غِنى نَفْسِكَ في الياسِ

وإنَّما حَسُنَ مَوْقِعُها؛ لِأنَّ الغالِبَ أنَّ النّاسَ لا يَحْمِلُونَ أنْفُسَهم عَلى اليَأْسِ. وأمّا جَعْلُها مَعَ اللّامِ جَوابًا لِلْمُنْكِرِ في قَوْلِكَ: ”إنَّ زَيْدًا لَقائِمٌ“ فَجَيِّدٌ؛ لِأنَّهُ إذا كانَ الكَلامُ مَعَ المُنْكَرِ كانَتِ الحاجَةُ إلى التَّأْكِيدِ أشَدَّ، وكَما يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الإنْكارُ مِنَ السّامِعِ احْتَمَلَ أيْضًا أنْ يَكُونَ مِنَ الحاضِرِينَ. واعْلَمْ أنَّها قَدْ تَجِيءُ إذا ظَنَّ المُتَكَلِّمُ في الَّذِي وجَدَ أنَّهُ لا يُوجَدُ مِثْلُ قَوْلِكَ: إنَّهُ كانَ مِنِّي إلَيْهِ إحْسانٌ فَعامَلَنِي بِالسُّوءِ، فَكَأنَّكَ تَرُدُّ عَلى نَفْسِكَ ظَنَّكَ الَّذِي ظَنَنْتَ، وتُبَيِّنُ الخَطَأ في الَّذِي تَوَهَّمْتَ، وعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى حِكايَةً عَنْ أُمِّ مَرْيَمَ: ﴿قالَتْ رَبِّ إنِّي وضَعْتُها أُنْثى واللَّهُ أعْلَمُ بِما وضَعَتْ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ٣٦] وكَذَلِكَ قَوْلُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿قالَ رَبِّ إنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ﴾ [الشُّعَراءِ: ١١٧] .
* * *
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ:
) المَسْألَةُ الأُولى ): اعْلَمْ أنَّهُ صَعْبٌ عَلى المُتَكَلِّمِينَ ذِكْرُ حَدِّ الكُفْرِ، وتَحْقِيقُ القَوْلِ فِيهِ: أنَّ كُلَّ ما يُنْقَلُ عَنْ مُحَمَّدٍ ﷺ أنَّهُ ذَهَبَ إلَيْهِ وقالَ بِهِ فَإمّا أنْ يُعْرَفَ صِحَّةُ ذَلِكَ النَّقْلِ بِالضَّرُورَةِ أوْ بِالِاسْتِدْلالِ أوْ بِخَبَرِ الواحِدِ. أمّا القِسْمُ الأوَّلُ: وهو الَّذِي عُرِفَ بِالضَّرُورَةِ مَجِيءُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلامُ بِهِ فَمَن صَدَّقَهُ في كُلِّ ذَلِكَ فَهو مُؤْمِنٌ، ومَن لَمْ يُصَدِّقْهُ في ذَلِكَ، فَإمّا بِأنْ لا يُصَدِّقَهُ في جَمِيعِها، أوْ بِأنْ لا يُصَدِّقَهُ في البَعْضِ دُونَ البَعْضِ، فَذَلِكَ هو الكافِرُ، فَإذَنِ الكُفْرُ عَدَمُ تَصْدِيقِ الرَّسُولِ في شَيْءٍ مِمّا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مَجِيئُهُ بِهِ، ومِثالُهُ مَن أنْكَرَ وُجُودَ الصّانِعِ، أوْ كَوْنَهُ عالِمًا قادِرًا مُخْتارًا، أوْ كَوْنَهُ واحِدًا، أوْ كَوْنَهُ مُنَزَّهًا عَنِ النَّقائِصِ والآفاتِ، أوْ أنْكَرَ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ، أوْ صِحَّةَ القُرْآنِ الكَرِيمِ، أوْ أنْكَرَ الشَّرائِعَ الَّتِي عَلِمْنا بِالضَّرُورَةِ كَوْنَها مِن دِينِ مُحَمَّدٍ ﷺ كَوُجُوبِ الصَّلاةِ والزَّكاةِ والصَّوْمِ والحَجِّ وحُرْمَةِ الرِّبا والخَمْرِ، فَذَلِكَ يَكُونُ كافِرًا؛ لِأنَّهُ تَرَكَ تَصْدِيقَ الرَّسُولِ فِيما عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ أنَّهُ مِن دِينِهِ. فَأمّا الَّذِي عُرِفَ بِالدَّلِيلِ أنَّهُ مِن دِينِهِ مِثْلُ كَوْنِهِ عالِمًا بِالعِلْمِ أوْ لِذاتِهِ، وأنَّهُ مَرْئِيٌّ أوْ غَيْرُ مَرْئِيٍّ، وأنَّهُ خالِقٌ أعْمالَ العِبادِ أمْ لا، فَلَمْ يُنْقَلْ بِالتَّواتُرِ القاطِعِ لِعُذْرِ مَجِيئِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ بِأحَدِ القَوْلَيْنِ دُونَ الثّانِي، بَلْ إنَّما يُعْلَمُ صِحَّةُ أحَدِ القَوْلَيْنِ وبُطْلانُ الثّانِي بِالِاسْتِدْلالِ، فَلا جَرَمَ لَمْ يَكُنْ إنْكارُهُ ولا الإقْرارُ بِهِ داخِلًا في ماهِيَّةِ الإيمانِ فَلا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْكُفْرِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّهُ لَوْ كانَ ذَلِكَ جُزْءَ ماهِيَّةِ الإيمانِ لَكانَ يَجِبُ عَلى الرَّسُولِ ﷺ أنْ لا يَحْكُمَ بِإيمانِ أحَدٍ إلّا بَعْدَ أنْ يَعْرِفَ أنَّهُ هَلْ يَعْرِفُ الحَقَّ في تِلْكَ المَسْألَةِ، ولَوْ كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ لاشْتُهِرَ قَوْلُهُ في تِلْكَ المَسْألَةِ بَيْنَ جَمِيعِ الأُمَّةِ، ولَنُقِلَ ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ التَّواتُرِ، فَلَمّا لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ دَلَّ عَلى أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ ما وقَّفَ الإيمانَ عَلَيْها، وإذا كانَ كَذَلِكَ وجَبَ أنْ لا تَكُونَ مَعْرِفَتُها مِنَ الإيمانِ، ولا إنْكارُها مُوجِبًا لِلْكُفْرِ، ولِأجْلِ هَذِهِ القاعِدَةِ لا يُكَفَّرُ أحَدٌ مِن هَذِهِ الأُمَّةِ، ولا نُكَفِّرُ أرْبابَ التَّأْوِيلِ.
وأمّا الَّذِي لا سَبِيلَ إلَيْهِ إلّا بِرِوايَةِ الآحادِ فَظاهِرٌ أنَّهُ لا يُمْكِنُ تَوَقُّفُ الكُفْرِ والإيمانِ عَلَيْهِ. فَهَذا قَوْلُنا في حَقِيقَةِ الكُفْرِ، فَإنْ قِيلَ: يَبْطُلُ ما ذَكَرْتُمْ مِن جِهَةِ العَكْسِ بِلُبْسِ الغِيارِ وشَدِّ الزُّنّارِ وأمْثالِهِما، فَإنَّهُ كَفَرَ مَعَ أنَّ ذَلِكَ شَيْءٌ آخَرُ سِوى تَرْكِ تَصْدِيقِ الرَّسُولِ ﷺ فِيما عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مَجِيئُهُ بِهِ، قُلْنا: هَذِهِ الأشْياءُ في الحَقِيقَةِ لَيْسَتْ كُفْرًا لِأنَّ التَّصْدِيقَ وعَدَمَهُ أمْرٌ باطِنٌ لا اطِّلاعَ لِلْخَلْقِ عَلَيْهِ، ومِن عادَةِ الشَّرْعِ أنَّهُ لا يَبْنِي الحُكْمَ في أمْثالِ هَذِهِ الأُمُورِ عَلى نَفْسِ المَعْنى، لِأنَّهُ لا سَبِيلَ إلى الِاطِّلاعِ، بَلْ يَجْعَلُ لَها مُعَرِّفاتٍ وعَلاماتٍ ظاهِرَةً، ويَجْعَلُ تِلْكَ المَظانَّ الظّاهِرَةَ مَدارًا لِلْأحْكامِ الشَّرْعِيَّةِ، ولَيْسَ الغِيارُ وشَدُّ الزُّنّارِ مِن هَذا البابِ، فَإنَّ الظّاهِرَ أنَّ مَن يُصَدِّقُ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَإنَّهُ لا يَأْتِي بِهَذِهِ الأفْعالِ، فَحَيْثُ أتى بِها دَلَّ عَلى عَدَمِ التَّصْدِيقِ، فَلا جَرَمَ الشَّرْعُ يُفَرِّعُ الأحْكامَ عَلَيْها، لا أنَّها في أنْفُسِها كُفْرٌ، فَهَذا هو الكَلامُ المُلَخَّصُ في هَذا البابِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ إخْبارٌ عَنْ كُفْرِهِمْ بِصِيغَةِ الماضِي، والإخْبارُ عَنِ الشَّيْءِ بِصِيغَةِ الماضِي يَقْتَضِي كَوْنَ المُخْبَرِ عَنْهُ مُتَقَدِّمًا عَلى ذَلِكَ الإخْبارِ، إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: احْتَجَّتِ المُعْتَزِلَةُ بِكُلِّ ما أخْبَرَ اللَّهُ عَنْ شَيْءٍ ماضٍ مِثْلَ قَوْلِهِ: ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أوْ ﴿إنّا نَحْنُ نَزَّلْنا الذِّكْرَ وإنّا لَهُ لَحافِظُونَ﴾ [الحِجْرِ: ٩]، ﴿إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ القَدْرِ﴾ [القَدْرِ: ١]، ﴿إنّا أرْسَلْنا نُوحًا﴾ [نُوحٍ: ١] عَلى أنَّ كَلامَ اللَّهِ مُحْدَثٌ سَواءٌ كانَ الكَلامُ هَذِهِ الحُرُوفَ والأصْواتِ، أوْ كانَ شَيْئًا آخَرَ. قالُوا: لِأنَّ الخَبَرَ عَلى هَذا الوَجْهِ لا يَكُونُ صِدْقًا إلّا إذا كانَ مَسْبُوقًا بِالخَبَرِ عَنْهُ، والقَدِيمُ يَسْتَحِيلُ أنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِالغَيْرِ، فَهَذا الخَبَرُ يَسْتَحِيلُ أنْ يَكُونَ قَدِيمًا، فَيَجِبُ أنْ يَكُونَ مُحْدَثًا، أجابَ القائِلُونَ بِقِدَمِ الكَلامِ عَنْهُ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ اللَّهَ تَعالى كانَ في الأزَلِ عالِمًا بِأنَّ العالَمَ سَيُوجَدُ، فَلَمّا أوْجَدَهُ انْقَلَبَ العِلْمُ بِأنَّهُ سَيُوجَدُ في المُسْتَقْبَلِ عِلْمًا بِأنَّهُ قَدْ حَدَثَ في الماضِي ولَمْ يَلْزَمْ حُدُوثُ عِلْمِ اللَّهِ تَعالى، فَلِمَ لا يَجُوزُ أيْضًا أنْ يُقالَ: إنَّ خَبَرَ اللَّهِ تَعالى في الأزَلِ كانَ خَبَرًا بِأنَّهم سَيَكْفُرُونَ، فَلَمّا وُجِدَ كُفْرُهم صارَ ذَلِكَ الخَبَرُ خَبَرًا عَنْ أنَّهم قَدْ كَفَرُوا، ولَمْ يَلْزَمْ حُدُوثُ خَبَرِ اللَّهِ تَعالى. الثّانِي: أنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ: ﴿لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرامَ﴾ [الفَتْحِ: ٢٧] فَلَمّا دَخَلُوا المَسْجِدَ لا بُدَّ وأنْ يَنْقَلِبَ ذَلِكَ الخَبَرُ إلى أنَّهم قَدْ دَخَلُوا المَسْجِدَ الحَرامَ مِن غَيْرِ أنْ يَتَغَيَّرَ الخَبَرُ الأوَّلُ، فَإذا جازَ ذَلِكَ فَلِمَ لا يَجُوزُ في مَسْألَتِنا مِثْلُهُ ؟ أجابَ المُسْتَدِلُّ أوَّلًا عَنِ السُّؤالِ الأوَّلِ، فَقالَ: عِنْدَ أبِي الحُسَيْنِ البَصْرِيِّ وأصْحابِهِ العِلْمُ يَتَغَيَّرُ عِنْدَ تَغَيُّرِ المَعْلُوماتِ، وكَيْفَ لا والعِلْمُ بِأنَّ العالَمَ غَيْرُ مَوْجُودٍ، وأنَّهُ سَيُوجَدُ لَوْ بَقِيَ حالَ وُجُودِ العالَمِ، لَكانَ ذَلِكَ جَهْلًا لا عِلْمًا، وإذا كانَ كَذَلِكَ وجَبَ تَغَيُّرُ ذَلِكَ العِلْمِ، وعَلى هَذا سَقَطَتْ هَذِهِ المُعارَضَةُ. وعَنِ الثّانِي: أنَّ خَبَرَ اللَّهِ تَعالى وكَلامَهُ أصْواتٌ مَخْصُوصَةٌ، فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرامَ﴾ مَعْناهُ أنَّ اللَّهَ تَعالى تَكَلَّمَ بِهَذا الكَلامِ في الوَقْتِ المُتَقَدِّمِ عَلى دُخُولِ المَسْجِدِ لا أنَّهُ تَكَلَّمَ بِهِ بَعْدَ دُخُولِ المَسْجِدِ، فَنَظِيرُهُ في مَسْألَتِنا أنْ يُقالَ: إنَّ قَوْلَهُ: ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ تَكَلَّمَ اللَّهُ تَعالى بِهِ بَعْدَ صُدُورِ الكُفْرِ عَنْهم لا قَبْلَهُ، إلّا أنَّهُ مَتى قِيلَ ذَلِكَ كانَ اعْتِرافًا بِأنَّ تَكَلُّمَهُ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ حاصِلًا في الأزَلِ وهَذا هو المَقْصُودُ، أجابَ القائِلُونَ بِالقِدَمِ بِأنّا لَوْ قُلْنا إنَّ العِلْمَ يَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ المَعْلُومِ لَكُنّا إمّا أنْ نَقُولَ بِأنَّ العالَمَ سَيُوجَدُ كانَ حاصِلًا في الأزَلِ أوْ ما كانَ، فَإنْ لَمْ يَكُنْ حاصِلًا في الأزَلِ كانَ ذَلِكَ تَصْرِيحًا بِالجَهْلِ. وذَلِكَ كُفْرٌ، وإنْ قُلْنا إنَّهُ كانَ حاصِلًا فَزَوالُهُ يَقْتَضِي زَوالَ القَدِيمِ، وذَلِكَ سَدُّ بابِ إثْباتِ حُدُوثِ العالَمِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
(المَسْألَةُ الثّالِثَةُ): قَوْلُهُ: ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ صِيغَةٌ لِلْجَمْعِ مَعَ لامِ التَّعْرِيفِ، وهي لِلِاسْتِغْراقِ بِظاهِرِهِ، ثُمَّ إنَّهُ لا نِزاعَ في أنَّهُ لَيْسَ المُرادُ مِنها هَذا الظّاهِرَ؛ لِأنَّ كَثِيرًا مِنَ الكُفّارِ أسْلَمُوا، فَعَلِمْنا أنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ يَتَكَلَّمُ بِالعامِّ ويَكُونُ مُرادُهُ الخاصَّ؛ إمّا لِأجْلِ أنَّ القَرِينَةَ الدّالَّةَ عَلى أنَّ المُرادَ مِن ذَلِكَ العُمُومِ ذَلِكَ الخُصُوصُ كانَتْ ظاهِرَةً في زَمَنِ الرَّسُولِ ﷺ، فَحَسُنَ ذَلِكَ لِعَدَمِ التَّلْبِيسِ وظُهُورِ المَقْصُودِ، ومِثالُهُ ما إذا كانَ لِلْإنْسانِ في البَلَدِ جَمْعٌ مَخْصُوصٌ مِنَ الأعْداءِ، فَإذا قالَ: ”إنَّ النّاسَ يُؤْذُونَنِي“ فَهِمَ كُلُّ أحَدٍ أنَّ مُرادَهُ مِنَ النّاسِ ذَلِكَ الجَمْعُ عَلى التَّعْيِينِ، وإمّا لِأجْلِ أنَّ التَّكَلُّمَ بِالعامِّ لِإرادَةِ الخاصِّ جائِزٌ، وإنْ لَمْ يَكُنِ البَيانُ مَقْرُونًا بِهِ عِنْدَ مَن يُجَوِّزُ تَأْخِيرَ بَيانِ التَّخْصِيصِ عَنْ وقْتِ الخِطابِ، وإذا ثَبَتَ ذَلِكَ ظَهَرَ أنَّهُ لا يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِشَيْءٍ مِن صِيَغِ العُمُومِ عَلى القَطْعِ بِالِاسْتِغْراقِ لِاحْتِمالِ أنَّ المُرادَ مِنها هو الخاصُّ، وكانَتِ القَرِينَةُ الدّالَّةُ عَلى ذَلِكَ ظاهِرَةً في زَمَنِ الرَّسُولِ ﷺ، فَلا جَرَمَ حَسُنَ ذَلِكَ، وأقْصى ما في البابِ أنْ يُقالَ: لَوْ وُجِدَتْ هَذِهِ القَرِينَةُ لَعَرَفْناها، وحَيْثُ لَمْ نَعْرِفْها عَلِمْنا أنَّها ما وُجِدَتْ إلّا أنَّ هَذا الكَلامَ ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ الِاسْتِدْلالَ بِعَدَمِ الوِجْدانِ عَلى عَدَمِ الوُجُودِ مِن أضْعَفِ الأماراتِ المُفِيدَةِ لِلظَّنِّ فَضْلًا عَنِ القَطْعِ، وإذا ثَبَتَ ذَلِكَ ظَهَرَ أنَّ اسْتِدْلالَ المُعْتَزِلَةِ بِعُمُوماتِ الوَعِيدِ عَلى القَطْعِ بِالوَعِيدِ في نِهايَةِ الضَّعْفِ، واللَّهُ أعْلَمُ. ومِنَ المُعْتَزِلَةِ مَنِ احْتالَ في دَفْعِ ذَلِكَ، فَقالَ: إنَّ قَوْلَهُ: ”إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لا يُؤْمِنُونَ“ كالنَّقِيضِ لِقَوْلِهِ: ”إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُؤْمِنُونَ“، وقَوْلُهُ: ”إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُؤْمِنُونَ“ لا يَصْدُقُ إلّا إذا آمَنَ كُلُّ واحِدٍ مِنهم، فَإذا ثَبَتَ أنَّهُ في جانِبِ الثُّبُوتِ يَقْتَضِي العُمُومَ وجَبَ أنْ لا يَتَوَقَّفَ في جانِبِ النَّفْيِ عَلى العُمُومِ، بَلْ يَكْفِي في صِدْقِهِ أنْ لا يَصْدُرَ الإيمانُ عَنْ واحِدٍ مِنهم؛ لِأنَّهُ مَتى لَمْ يُؤْمِن واحِدٌ مِن ذَلِكَ الجَمْعِ ثَبَتَ أنَّ ذَلِكَ الجَمْعَ لَمْ يَصْدُرْ مِنهُمُ الإيمانُ، فَثَبَتَ أنَّ قَوْلَهُ: ”إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لا يُؤْمِنُونَ“ يَكْفِي في إجْرائِهِ عَلى ظاهِرِهِ، أنْ لا يُؤْمِنَ واحِدٌ مِنهم، فَكَيْفَ إذا لَمْ يُؤْمِنِ الكَثِيرُ مِنهم ؟ والجَوابُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ صِيغَةُ الجَمْعِ، وقَوْلَهُ: ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾ أيْضًا صِيغَةُ جَمْعٍ، والجَمْعُ إذا قُوبِلَ بِالجَمْعِ تَوَزَّعَ الفَرْدُ عَلى الفَرْدِ، فَمَعْناهُ أنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهم لا يُؤْمِنُ، وحِينَئِذٍ يَعُودُ الكَلامُ المَذْكُورُ.
* * *
(المَسْألَةُ الرّابِعَةُ): اخْتَلَفَ أهْلُ التَّفْسِيرِ في المُرادِ هَهُنا بِقَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فَقالَ قائِلُونَ: إنَّهم رُؤَساءُ اليَهُودِ المُعانِدُونَ الَّذِينَ وصَفَهُمُ اللَّهُ تَعالى بِأنَّهم يَكْتُمُونَ الحَقَّ وهم يَعْلَمُونَ، وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، وقالَ آخَرُونَ: بَلِ المُرادُ قَوْمٌ مِنَ المُشْرِكِينَ، كَأبِي لَهَبٍ وأبِي جَهْلٍ والوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ وأضْرابِهِمْ، وهُمُ الَّذِينَ جَحَدُوا بَعْدَ البَيِّنَةِ، وأنْكَرُوا بَعْدَ المَعْرِفَةِ، ونَظِيرُهُ ما قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَأعْرَضَ أكْثَرُهم فَهم لا يَسْمَعُونَ﴾ ﴿وقالُوا قُلُوبُنا في أكِنَّةٍ مِمّا تَدْعُونا إلَيْهِ﴾ [فُصِّلَتْ: ٤، ٥] وكانَ عَلَيْهِ السَّلامُ حَرِيصًا عَلى أنْ يُؤْمِنَ قَوْمُهُ جَمِيعًا حَيْثُ قالَ اللَّهُ تَعالى لَهُ: ﴿فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذا الحَدِيثِ أسَفًا﴾ [الكَهْفِ: ٦] وقالَ: ﴿أفَأنْتَ تُكْرِهُ النّاسَ حَتّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [يُونُسَ: ٩٩] ثُمَّ إنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى بَيَّنَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهم لا يُؤْمِنُونَ لِيَقْطَعَ طَمَعَهُ عَنْهم ولا يَتَأذّى بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَإنَّ اليَأْسَ إحْدى الرّاحَتَيْنِ.
* * *
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهم لا يُؤْمِنُونَ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ:
(المَسْألَةُ الأُولى): قالَ صاحِبُ الكَشّافِ ﴿سَواءٌ﴾ اسْمٌ بِمَعْنى الِاسْتِواءِ وُصِفَ بِهِ كَما يُوصَفُ بِالمَصادِرِ، مِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿تَعالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وبَيْنَكُمْ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ٦٤] ﴿فِي أرْبَعَةِ أيّامٍ سَواءً لِلسّائِلِينَ﴾ [فُصِّلَتْ: ١٠] بِمَعْنى مُسْتَوِيَةٍ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُسْتَوٍ عَلَيْهِمْ إنْذارُكَ وعَدَمُهُ.
(المَسْألَةُ الثّانِيَةُ): في ارْتِفاعِ ﴿سَواءٌ﴾ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّ ارْتِفاعَهُ عَلى أنَّهُ خَبَرٌ لِإنَّ و﴿أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ فِي مَوْضِعِ الرَّفْعِ بِهِ عَلى الفاعِلِيَّةِ، كَأنَّهُ قِيلَ: إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُسْتَوٍ عَلَيْهِمْ إنْذارُكَ وعَدَمُهُ، كَما تَقُولُ: إنَّ زَيْدًا مُخْتَصِمٌ أخُوهُ وابْنُ عَمِّهِ. الثّانِي: أنْ تَكُونَ ”أنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهم“ في مَوْضِعِ الِابْتِداءِ، وسَواءٌ خَبَرُهُ مُقَدَّمًا بِمَعْنى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ إنْذارُكَ وعَدَمُهُ، والجُمْلَةُ خَبَرٌ لِإنَّ، واعْلَمْ أنَّ الوَجْهَ الثّانِيَ أوْلى؛ لِأنَّ ”سَواءٌ“ اسْمٌ، وتَنْزِيلَهُ بِمَنزِلَةِ الفِعْلِ يَكُونُ تَرْكًا لِلظّاهِرِ مِن غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وإنَّهُ لا يَجُوزُ، وإذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: مِنَ المَعْلُومِ أنَّ المُرادَ وصْفُ الإنْذارِ وعَدَمُ الإنْذارِ بِالِاسْتِواءِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ ”سَواءٌ“ خَبَرًا، فَيَكُونُ الخَبَرُ مُقَدَّمًا، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ تَقْدِيمَ الخَبَرِ عَلى المُبْتَدَأِ جائِزٌ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿سَواءً مَحْياهم ومَماتُهُمْ﴾ [الجاثِيَةِ: ٢١] ورَوى سِيبَوَيْهِ قَوْلَهم: ”تَمِيمِيٌّ أنا“ ”ومَشْنُوءٌ مَن يَشْنَؤُكَ“، أمّا الكُوفِيُّونَ فَإنَّهم لا يُجَوِّزُونَهُ، واحْتَجُّوا عَلَيْهِ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: المُبْتَدَأُ ذاتٌ، والخَبَرُ صِفَةٌ، والذّاتُ قَبْلَ الصِّفَةِ بِالِاسْتِحْقاقِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ قَبْلَها في اللَّفْظِ قِياسًا عَلى تَوابِعِ الإعْرابِ، والجامِعُ التَّبَعِيَّةُ المَعْنَوِيَّةُ. الثّانِي: أنَّ الخَبَرَ لا بُدَّ وأنْ يَتَضَمَّنَ الضَّمِيرَ، فَلَوْ قُدِّمَ الخَبَرُ عَلى المُبْتَدَأِ لَوُجِدَ الضَّمِيرُ قَبْلَ الذِّكْرِ، وإنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ؛ لِأنَّ الضَّمِيرَ هو اللَّفْظُ الَّذِي أُشِيرَ بِهِ إلى أمْرٍ مَعْلُومٍ، فَقَبْلَ العِلْمِ بِهِ امْتَنَعَتِ الإشارَةُ إلَيْهِ، فَكانَ الإضْمارُ قَبْلَ الذِّكْرِ مُحالًا، أجابَ البَصْرِيُّونَ عَلى الأوَّلِ بِأنَّ ما ذَكَرْتُمْ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ تَقَدُّمُ المُبْتَدَأِ أوْلى، لا أنْ يَكُونَ واجِبًا، وعَنِ الثّانِي: أنَّ الإضْمارَ قَبْلَ الذِّكْرِ واقِعٌ في كَلامِ العَرَبِ، كَقَوْلِهِمْ: ”في بَيْتِهِ يُؤْتى الحَكَمُ“، قالَ تَعالى: ﴿فَأوْجَسَ في نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى﴾ [طه: ٦٧]، وقالَ زُهَيْرٌ:
مَن يَلْقَ يَوْمًا عَلى عِلّاتِهِ هَرِمًا يَلْقَ السَّماحَةَ مِنهُ والنَّدى خُلُقًا

واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
( المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: ( اتَّفَقُوا عَلى أنَّ الفِعْلَ لا يُخْبَرُ عَنْهُ، لِأنَّ مَن قالَ: خَرَجَ ضَرَبَ لَمْ يَكُنْ آتِيًا بِكَلامٍ مُنْتَظِمٍ، ومِنهم مَن قَدَحَ فِيهِ بِوُجُوهٍ:
أحَدُها: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ فِعْلٌ وقَدْ أخْبَرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ﴾ ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ بَدا لَهم مِن بَعْدِ ما رَأوُا الآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتّى حِينٍ﴾ [يُوسُفَ: ٣٥] فاعِلُ ”بَدا“ هو ”لَيَسْجُنُنَّهُ“ .
وثانِيها: أنَّ المُخْبَرَ عَنْهُ بِأنَّهُ فِعْلٌ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ فِعْلًا، فالفِعْلُ قَدْ أُخْبِرَ عَنْهُ بِأنَّهُ فِعْلٌ، فَإنْ قِيلَ: المُخْبَرُ عَنْهُ بِأنَّهُ فِعْلٌ هو تِلْكَ الكَلِمَةُ، وتِلْكَ الكَلِمَةُ اسْمٌ، قُلْنا: فَعَلى هَذا: المُخْبَرُ عَنْهُ بِأنَّهُ فِعْلٌ إذا لَمْ يَكُنْ فِعْلًا بَلِ اسْمًا كانَ هَذا الخَبَرُ كَذِبًا، والتَّحْقِيقُ أنَّ المُخْبَرَ عَنْهُ بِأنَّهُ فِعْلٌ إمّا أنْ يَكُونَ اسْمًا أوْ لا يَكُونَ، فَإنْ كانَ الأوَّلَ كانَ هَذا الخَبَرُ كَذِبًا، لِأنَّ الِاسْمَ لا يَكُونُ فِعْلًا، وإنْ كانَ فِعْلًا فَقَدْ صارَ الفِعْلُ مُخْبَرًا عَنْهُ، وثالِثُها: أنّا إذا قُلْنا: الفِعْلُ لا يُخْبَرُ عَنْهُ فَقَدْ أخْبَرْنا عَنْهُ بِأنَّهُ لا يُخْبَرُ عَنْهُ، والمُخْبَرُ عَنْهُ بِهَذا الخَبَرِ لَوْ كانَ اسْمًا لَزِمَ أنّا قَدْ أخْبَرْنا عَنِ الِاسْمِ بِأنَّهُ لا يُخْبَرُ عَنْهُ، وهَذا خَطَأٌ، وإنْ كانَ فِعْلًا صارَ الفِعْلُ مُخْبَرًا عَنْهُ، ثُمَّ قالَ هَؤُلاءِ: لَمّا ثَبَتَ أنَّهُ لا امْتِناعَ في الإخْبارِ عَنِ الفِعْلِ لَمْ يَكُنْ بِنا حاجَةٌ إلى تَرْكِ الظّاهِرِ. أمّا جُمْهُورُ النَّحْوِيِّينَ فَقَدْ أطْبَقُوا عَلى أنَّهُ لا يَجُوزُ الإخْبارُ عَنِ الفِعْلِ، فَلا جَرَمَ كانَ التَّقْدِيرُ: سَواءٌ عَلَيْهِمْ إنْذارُكَ وعَدَمُ إنْذارِكَ، فَإنْ قِيلَ: العُدُولُ عَنِ الحَقِيقَةِ إلى المَجازِ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ لِفائِدَةٍ زائِدَةٍ إمّا في المَعْنى أوْ في اللَّفْظِ، فَما تِلْكَ الفائِدَةُ هَهُنا ؟ قُلْنا: قَوْلُهُ: ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ مَعْناهُ سَواءٌ عَلَيْهِمْ إنْذارُكَ وعَدَمُ إنْذارِكَ لَهم بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأنَّ القَوْمَ كانُوا قَدْ بَلَغُوا في الإصْرارِ واللَّجاجِ والإعْراضِ عَنِ الآياتِ والدَّلائِلِ إلى حالَةٍ ما بَقِيَ فِيهِمُ البَتَّةَ رَجاءُ القَبُولِ بِوَجْهٍ. وقَبْلَ ذَلِكَ ما كانُوا كَذَلِكَ، ولَوْ قالَ: سَواءٌ عَلَيْهِمْ إنْذارُكَ وعَدَمُ إنْذارِكَ لَما أفادَ أنَّ هَذا المَعْنى إنَّما حَصَلَ في هَذا الوَقْتِ دُونَ ما قَبْلَهُ، ولَمّا قالَ: ﴿أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ أفادَ أنَّ هَذِهِ الحالَةَ إنَّما حَصَلَتْ في هَذا الوَقْتِ، فَكانَ ذَلِكَ يُفِيدُ حُصُولَ اليَأْسِ وقَطْعَ الرَّجاءِ مِنهم، وقَدْ بَيَّنّا أنَّ المَقْصُودَ مِن هَذِهِ الآيَةِ ذَلِكَ.
* * *
(المَسْألَةُ الرّابِعَةُ): قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: ”الهَمْزَةُ“ و”أمْ“ مُجَرَّدَتانِ لِمَعْنى الِاسْتِفْهامِ، وقَدِ انْسَلَخَ عَنْهُما مَعْنى الِاسْتِفْهامِ رَأْسًا، قالَ سِيبَوَيْهِ: جَرى هَذا عَلى حَرْفِ الِاسْتِفْهامِ كَما جَرى عَلى حَرْفِ النِّداءِ كَقَوْلِهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنا أيَّتُها العِصابَةُ، يَعْنِي أنَّ هَذا جَرى عَلى صُورَةِ الِاسْتِفْهامِ ولا اسْتِفْهامَ، كَما أنَّ ذَلِكَ جَرى عَلى صُورَةِ النِّداءِ ولا نِداءَ.
(المَسْألَةُ الخامِسَةُ): في قَوْلِهِ: ﴿أأنْذَرْتَهُمْ﴾ سِتُّ قِراءاتٍ: إمّا بِهَمْزَتَيْنِ مُحَقَّقَتَيْنِ بَيْنَهُما ألِفٌ، أوْ لا ألِفَ بَيْنَهُما، أوْ بِأنْ تَكُونَ الهَمْزَةُ الأُولى قَوِيَّةً والثّانِيَةُ بَيْنَ بَيْنَ بَيْنَهُما ألِفٌ، أوْ لا ألِفَ بَيْنَهُما، وبِحَذْفِ حَرْفِ الِاسْتِفْهامِ، وبِحَذْفِهِ وإلْقاءِ حَرَكَتِهِ عَلى السّاكِنِ قَبْلَهُ كَما قُرِئَ: ”قَدْ أفْلَحَ“، فَإنْ قِيلَ: فَما تَقُولُ فِيمَن يَقْلِبُ الثّانِيَةَ ألِفًا ؟ قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: هو لاحِنٌ خارِجٌ عَنْ كَلامِ العَرَبِ.
(المَسْألَةُ السّادِسَةُ): الإنْذارُ هو التَّخْوِيفُ مِن عِقابِ اللَّهِ بِالزَّجْرِ عَنِ المَعاصِي، وإنَّما ذُكِرَ الإنْذارُ دُونَ البِشارَةِ؛ لِأنَّ تَأْثِيرَ الإنْذارِ في الفِعْلِ والتَّرْكِ أقْوى مِن تَأْثِيرِ البِشارَةِ؛ لِأنَّ اشْتِغالَ الإنْسانِ بِدَفْعِ الضَّرَرِ أشَدُّ مِنَ اشْتِغالِهِ بِجَلْبِ المَنفَعَةِ، وهَذا المَوْضِعُ مَوْضِعُ المُبالَغَةِ، وكانَ ذِكْرُ الإنْذارِ أوْلى.
* * *
أمّا قَوْلُهُ: ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾ فَفِيهِ مَسْألَتانِ:
(المَسْألَةُ الأُولى): قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: هَذِهِ إمّا أنْ تَكُونَ جُمْلَةً مُؤَكِّدَةً لِلْجُمْلَةِ قَبْلَها، أوْ خَبَرًا ”لِإنَّ“، والجُمْلَةُ قَبْلَها اعْتِراضٌ.
(المَسْألَةُ الثّانِيَةُ): احْتَجَّ أهْلُ السُّنَّةِ بِهَذِهِ الآيَةِ وكُلِّ ما أشْبَهَها مِن قَوْلِهِ: ﴿لَقَدْ حَقَّ القَوْلُ عَلى أكْثَرِهِمْ فَهم لا يُؤْمِنُونَ﴾ [يس: ٧] وقَوْلِهِ: ﴿ذَرْنِي ومَن خَلَقْتُ وحِيدًا﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا﴾ [المُدَّثِّرِ: ١١، ١٧] وقَوْلِهِ: ﴿تَبَّتْ يَدا أبِي لَهَبٍ﴾ [المَسَدِ: ١] عَلى تَكْلِيفِ ما لا يُطاقُ، وتَقْرِيرُهُ أنَّهُ تَعالى أخْبَرَ عَنْ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ أنَّهُ لا يُؤْمِنُ قَطُّ، فَلَوْ صَدَرَ مِنهُ الإيمانُ لَزِمَ انْقِلابُ خَبَرِ اللَّهِ تَعالى الصِّدْقِ كَذِبًا، والكَذِبُ عِنْدَ الخَصْمِ قَبِيحٌ، وفِعْلُ القَبِيحِ يَسْتَلْزِمُ إمّا الجَهْلَ وإمّا الحاجَةَ، وهُما مُحالانِ عَلى اللَّهِ، والمُفْضِي إلى المُحالِ مُحالٌ، فَصُدُورُ الإيمانِ مِنهُ مُحالٌ، فالتَّكْلِيفُ بِهِ تَكْلِيفٌ بِالمُحالِ، وقَدْ يُذْكَرُ هَذا في صُورَةِ العِلْمِ، هو أنَّهُ تَعالى لَمّا عَلِمَ مِنهُ أنَّهُ لا يُؤْمِنُ فَكانَ صُدُورُ الإيمانِ مِنهُ يَسْتَلْزِمُ انْقِلابَ عِلْمِ اللَّهِ تَعالى جَهْلًا، وذَلِكَ مُحالٌ ومُسْتَلْزِمُ المُحالِ مُحالٌ. فالأمْرُ واقِعٌ بِالمُحالِ. ونَذْكُرُ هَذا عَلى وجْهٍ ثالِثٍ: وهو أنَّ وُجُودَ الإيمانِ يَسْتَحِيلُ أنْ يُوجَدَ مَعَ العِلْمِ بِعَدَمِ الإيمانِ؛ لِأنَّهُ إنَّما يَكُونُ عِلْمًا لَوْ كانَ مُطابِقًا لِلْمَعْلُومِ، والعِلْمُ بِعَدَمِ الإيمانِ إنَّما يَكُونُ مُطابِقًا لَوْ حَصَلَ عَدَمُ الإيمانِ، فَلَوْ وُجِدَ الإيمانُ مَعَ العِلْمِ بِعَدَمِ الإيمانِ لَزِمَ أنْ يَجْتَمِعَ في الإيمانِ كَوْنُهُ مَوْجُودًا ومَعْدُومًا مَعًا، وهو مُحالٌ، فالأمْرُ بِالإيمانِ مَعَ وُجُودِ عِلْمِ اللَّهِ تَعالى بِعَدَمِ الإيمانِ أمْرٌ بِالجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، بَلْ أمْرٌ بِالجَمْعِ بَيْنَ العَدَمِ والوُجُودِ، وكُلُّ ذَلِكَ مُحالٌ، ونَذْكُرُ هَذا عَلى وجْهٍ رابِعٍ: وهو أنَّهُ تَعالى كَلَّفَ هَؤُلاءِ الَّذِينَ أخْبَرَ عَنْهم بِأنَّهم لا يُؤْمِنُونَ بِالإيمانِ ألْبَتَّةَ، والإيمانُ يُعْتَبَرُ فِيهِ تَصْدِيقُ اللَّهِ تَعالى في كُلِّ ما أخْبَرَ عَنْهُ، ومِمّا أخْبَرَ عَنْهُ أنَّهم لا يُؤْمِنُونَ قَطُّ، فَقَدْ صارُوا مُكَلَّفِينَ بِأنْ يُؤْمِنُوا بِأنَّهم لا يُؤْمِنُونَ قَطُّ، وهَذا تَكْلِيفٌ بِالجَمْعِ بَيْنَ النَّفْيِ والإثْباتِ، ونَذْكُرُ هَذا عَلى وجْهٍ خامِسٍ: وهو أنَّهُ تَعالى عابَ الكُفّارَ عَلى أنَّهم حاوَلُوا فِعْلَ شَيْءٍ عَلى خِلافِ ما أخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ في قَوْلِهِ: ﴿يُرِيدُونَ أنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذَلِكم قالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ﴾ [الفَتْحِ: ١٥] فَثَبَتَ أنَّ القَصْدَ إلى تَكْوِينِ ما أخْبَرَ اللَّهُ تَعالى عَنْ عَدَمِ تَكْوِينِهِ قَصْدٌ لِتَبْدِيلِ كَلامِ اللَّهِ تَعالى، وذَلِكَ مَنهِيٌّ عَنْهُ. ثُمَّ هَهُنا أخْبَرَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم بِأنَّهم لا يُؤْمِنُونَ ألْبَتَّةَ، فَمُحاوَلَةُ الإيمانِ مِنهم تَكُونُ قَصْدًا إلى تَبْدِيلِ كَلامِ اللَّهِ، وذَلِكَ مَنهِيٌّ عَنْهُ، وتَرْكُ مُحاوَلَةِ الإيمانِ يَكُونُ أيْضًا مُخالَفَةً لِأمْرِ اللَّهِ تَعالى، فَيَكُونُ الذَّمُّ حاصِلًا عَلى التَّرْكِ والفِعْلِ، فَهَذِهِ هي الوُجُوهُ المَذْكُورَةُ في هَذا المَوْضِعِ، وهَذا هو الكَلامُ الهادِمُ لِأُصُولِ الِاعْتِزالِ. ولَقَدْ كانَ السَّلَفُ والخَلَفُ مِنَ المُحَقِّقِينَ مُعَوِّلِينَ عَلَيْهِ في دَفْعِ أُصُولِ المُعْتَزِلَةِ وهَدْمِ قَواعِدِهِمْ، ولَقَدْ قامُوا وقَعَدُوا واحْتالُوا عَلى دَفْعِهِ، فَما أتَوْا بِشَيْءٍ مُقْنِعٍ، وأنا أذْكُرُ أقْصى ما ذَكَرُوهُ بِعَوْنِ اللَّهِ تَعالى وتَوْفِيقِهِ: قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: لَنا في هَذِهِ الآيَةِ مَقامانِ:
المَقامُ الأوَّلُ: بَيانُ أنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ عِلْمُ اللَّهِ تَعالى وخَبَرُ اللَّهِ تَعالى عَنْ عَدَمِ الإيمانِ مانِعًا مِنَ الإيمانِ، والمَقامُ الثّانِي: بَيانُ الجَوابِ العَقْلِيِّ عَلى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، أمّا المَقامُ الأوَّلُ فَقالُوا: الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ:
أحَدُها: أنَّ القُرْآنَ مَمْلُوءٌ مِنَ الآياتِ الدّالَّةِ عَلى أنَّهُ لا مانِعَ لِأحَدٍ مِنَ الإيمانِ، قالَ: ﴿وما مَنَعَ النّاسَ أنْ يُؤْمِنُوا إذْ جاءَهُمُ الهُدى﴾ [الإسْراءِ: ٩٤] وهو إنْكارٌ بِلَفْظِ الِاسْتِفْهامِ، ومَعْلُومٌ أنَّ رَجُلًا لَوْ حَبَسَ آخَرَ في بَيْتٍ بِحَيْثُ لا يُمْكِنُهُ الخُرُوجُ عَنْهُ، ثُمَّ يَقُولُ: ما مَنَعَكَ مِنَ التَّصَرُّفِ في حَوائِجِي ؟ كانَ ذَلِكَ مِنهُ مُسْتَقْبَحًا، وكَذا قَوْلُهُ: ﴿وماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا﴾ [الأعْرافِ: ١٢] وقَوْلُهُ لِإبْلِيسَ: ﴿ما مَنَعَكَ أنْ تَسْجُدَ﴾ [النِّساءِ: ٣٩] وقَوْلُ مُوسى لِأخِيهِ: ﴿ما مَنَعَكَ إذْ رَأيْتَهم ضَلُّوا﴾ [طه: ٩٢] وقَوْلُهُ: ﴿فَما لَهم لا يُؤْمِنُونَ﴾ [الِانْشِقاقِ: ٢٠] ﴿فَما لَهم عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ﴾ [المُدَّثِّرِ: ٤٩] ﴿عَفا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أذِنْتَ لَهُمْ﴾ [التَّوْبَةِ: ٤٣] ﴿لِمَ تُحَرِّمُ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ [التَّحْرِيمِ: ١] قالَ الصّاحِبُ بْنُ عَبّادٍ في فَصْلٍ لَهُ في هَذا البابِ: كَيْفَ يَأْمُرُهُ بِالإيمانِ وقَدْ مَنَعَهُ عَنْهُ ؟ ويَنْهاهُ عَنِ الكُفْرِ وقَدْ حَمَلَهُ عَلَيْهِ ؟ وكَيْفَ يَصْرِفُهُ عَنِ الإيمانِ ثُمَّ يَقُولُ: أنّى تُصْرَفُونَ ؟ ويَخْلُقُ فِيهِمُ الإفْكَ ثُمَّ يَقُولُ: أنّى تُؤْفَكُونَ ؟ وأنْشَأ فِيهِمُ الكُفْرَ ثُمَّ يَقُولُ: لِمَ تَكْفُرُونَ ؟ وخَلَقَ فِيهِمْ لَبْسَ الحَقِّ بِالباطِلِ ثُمَّ يَقُولُ: ﴿لِمَ تَلْبِسُونَ الحَقَّ بِالباطِلِ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ٧١] وصَدَّهم عَنِ السَّبِيلِ ثُمَّ يَقُولُ: ﴿لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ٩٩] وحالَ بَيْنَهم وبَيْنَ الإيمانِ ثُمَّ قالَ: ﴿وماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا﴾ وذَهَبَ بِهِمْ عَنِ الرُّشْدِ ثُمَّ قالَ: ﴿فَأيْنَ تَذْهَبُونَ﴾ [التَّكْوِيرِ: ٢٦] وأضَلَّهم عَنِ الدِّينِ حَتّى أعْرَضُوا ثُمَّ قالَ: ﴿فَما لَهم عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ﴾ . [المُدَّثِّرِ: ٤٩] .
وثانِيها: أنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ لِئَلّا يَكُونَ لِلنّاسِ عَلى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النِّساءِ: ١٦٥] وقالَ: ﴿ولَوْ أنّا أهْلَكْناهم بِعَذابٍ مِن قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أرْسَلْتَ إلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِن قَبْلِ أنْ نَذِلَّ ونَخْزى﴾ [طه: ١٣٤] فَلَمّا بَيَّنَ أنَّهُ ما أبْقى لَهم عُذْرًا إلّا وقَدْ أزالَهُ عَنْهم، فَلَوْ كانَ عِلْمُهُ بِكُفْرِهِمْ وخَبَرُهُ عَنْ كُفْرِهِمْ مانِعًا لَهم عَنِ الإيمانِ لَكانَ ذَلِكَ مِن أعْظَمِ الأعْذارِ وأقْوى الوُجُوهِ الدّافِعَةِ لِلْعِقابِ عَنْهم، فَلَمّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنا أنَّهُ غَيْرُ مانِعٍ.
وثالِثُها: أنَّهُ تَعالى حَكى عَنِ الكُفّارِ في سُورَةِ ”حم السَّجْدَةِ“ أنَّهم قالُوا: قُلُوبُنا في أكِنَّةٍ مِمّا تَدْعُونا إلَيْهِ وفي آذانِنا وقْرٌ، وإنَّما ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ ذَمًّا لَهم في هَذا القَوْلِ، فَلَوْ كانَ العِلْمُ مانِعًا لَكانُوا صادِقِينَ في ذَلِكَ، فَلِمَ ذَمَّهم عَلَيْهِ ؟ .
ورابِعُها: أنَّهُ تَعالى أنْزَلَ قَوْلَهُ: ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ - إلى آخِرِهِ ) ذَمًّا لَهم وزَجْرًا عَنِ الكُفْرِ وتَقْبِيحًا لِفِعْلِهِمْ، فَلَوْ كانُوا مَمْنُوعِينَ عَنِ الإيمانِ غَيْرَ قادِرِينَ عَلَيْهِ لَما اسْتَحَقُّوا الذَّمَّ البَتَّةَ، بَلْ كانُوا مَعْذُورِينَ كَما يَكُونُ الأعْمى مَعْذُورًا في أنْ لا يَمْشِيَ.
وخامِسُها: القُرْآنُ إنَّما أُنْزِلَ لِيَكُونَ حُجَّةً لِلَّهِ ولِرَسُولِهِ عَلَيْهِمْ، لا أنْ يَكُونَ لَهم حُجَّةً عَلى اللَّهِ وعَلى رَسُولِهِ، فَلَوْ كانَ العِلْمُ والخَبَرُ مانِعًا لَكانَ لَهم أنْ يَقُولُوا: إذا عَلِمْتَ الكُفْرَ وأُخْبِرْتَ عَنْهُ كانَ تَرْكُ الكُفْرِ مُحالًا مِنّا، فَلِمَ تَطْلُبُ المُحالَ مِنّا ولَمْ تَأْمُرْنا بِالمُحالِ ؟ ومَعْلُومٌ أنَّ هَذا مِمّا لا جَوابَ لِلَّهِ ولا لِرَسُولِهِ عَنْهُ لَوْ ثَبَتَ أنَّ العِلْمَ والخَبَرَ يَمْنَعُ.
وسادِسُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿نِعْمَ المَوْلى ونِعْمَ النَّصِيرُ﴾ [الأنْفالِ: ٤٠] ولَوْ كانَ مَعَ قِيامِ المانِعِ عَنِ الإيمانِ كُلِّفَ بِهِ لَما كانَ نِعْمَ المَوْلى، بَلْ كانَ بِئْسَ المَوْلى، ومَعْلُومٌ أنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ، قالُوا: فَثَبَتَ بِهَذِهِ الوُجُوهِ أنَّهُ لَيْسَ عَنِ الإيمانِ والطّاعَةِ مانِعٌ ألْبَتَّةَ، فَوَجَبَ القَطْعُ بِأنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعالى بِعَدَمِ الإيمانِ، وخَبَرَهُ عَنْ عَدَمِهِ، لا يَكُونُ مانِعًا عَنِ الإيمانِ.
* * *
المَقامُ الثّانِي: قالُوا: إنَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلى أنَّ العِلْمَ بِعَدَمِ الإيمانِ لا يَمْنَعُ مِن وُجُودِ الإيمانِ وُجُوهٌ:
أحَدُها: أنَّهُ لَوْ كانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أنْ لا يَكُونَ اللَّهُ تَعالى قادِرًا عَلى شَيْءٍ؛ لِأنَّ الَّذِي عَلِمَ وُقُوعَهُ يَكُونُ واجِبَ الوُقُوعِ، والَّذِي عَلِمَ عَدَمَ وُقُوعِهِ يَكُونُ مُمْتَنِعَ الوُقُوعِ، والواجِبُ لا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ؛ لِأنَّهُ إذا كانَ واجِبَ الوُقُوعِ لا بِالقُدْرَةِ، فَسَواءٌ حَصَلَتِ القُدْرَةُ أوْ لَمْ تَحْصُلْ كانَ واجِبَ الوُقُوعِ، والَّذِي يَكُونُ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْقُدْرَةِ فِيهِ أثَرٌ، وأمّا المُمْتَنِعُ فَلا قُدْرَةَ عَلَيْهِ، فَيَلْزَمُ أنْ لا يَكُونَ اللَّهُ تَعالى قادِرًا عَلى شَيْءٍ أصْلًا، وذَلِكَ كُفْرٌ بِالِاتِّفاقِ فَثَبَتَ أنَّ العِلْمَ بِعَدَمِ الشَّيْءِ لا يَمْنَعُ مِن إمْكانِ وُجُودِهِ.
وثانِيها: أنَّ العِلْمَ يَتَعَلَّقُ بِالمَعْلُومِ عَلى ما هو عَلَيْهِ، فَإنْ كانَ مُمْكِنًا عِلْمُهُ مُمْكِنًا، وإنْ كانَ واجِبًا عِلْمُهُ واجِبًا، ولا شَكَّ أنَّ الإيمانَ والكُفْرَ بِالنَّظَرِ إلى ذاتِهِ مُمْكِنُ الوُجُودِ، فَلَوْ صارَ واجِبَ الوُجُودِ بِسَبَبِ العِلْمِ كانَ العِلْمُ مُؤَثِّرًا في المَعْلُومِ، وقَدْ بَيَّنّا أنَّهُ مُحالٌ.
وثالِثُها: لَوْ كانَ الخَبَرُ والعِلْمُ مانِعًا لَما كانَ العَبْدُ قادِرًا عَلى شَيْءٍ أصْلًا؛ لِأنَّ الَّذِي عَلِمَ اللَّهُ تَعالى وُقُوعَهُ كانَ واجِبَ الوُقُوعِ، والواجِبُ لا قُدْرَةَ عَلَيْهِ؛ والَّذِي عَلِمَ عَدَمَهُ كانَ مُمْتَنِعَ الوُقُوعِ، والمُمْتَنِعُ لا قُدْرَةَ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أنْ لا يَكُونَ العَبْدُ قادِرًا عَلى شَيْءٍ أصْلًا، فَكانَتْ حَرَكاتُهُ وسَكَناتُهُ جارِيَةً مَجْرى حَرَكاتِ الجَماداتِ، والحَرَكاتِ الِاضْطِرارِيَّةِ لِلْحَيَواناتِ، لَكِنّا بِالبَدِيهَةِ نَعْلَمُ فَسادَ ذَلِكَ، فَإنْ رَمى إنْسانٌ إنْسانًا بِالآجُرَّةِ حَتّى شَجَّهُ فَإنّا نَذُمُّ الرّامِيَ ولا نَذُمُّ الآجُرَّةَ، ونُدْرِكُ بِالبَدِيهَةِ تَفْرِقَةً بَيْنَ ما إذا سَقَطَتِ الآجُرَّةُ عَلَيْهِ، وبَيْنَ ما إذا لَكَمَهُ إنْسانٌ بِالِاخْتِيارِ، ولِذَلِكَ فَإنَّ العُقَلاءَ بِبَداءَةِ عُقُولِهِمْ يُدْرِكُونَ الفَرْقَ بَيْنَ مَدْحِ المُحْسِنِ وذَمِّ المُسِيءِ، ويَلْتَمِسُونَ ويَأْمُرُونَ ويُعاتِبُونَ ويَقُولُونَ: لِمَ فَعَلْتَ ولِمَ تَرَكْتَ ؟ فَدَلَّ عَلى أنَّ العِلْمَ والخَبَرَ غَيْرُ مانِعٍ مِنَ الفِعْلِ والتَّرْكِ.
ورابِعُها: لَوْ كانَ العِلْمُ بِالعَدَمِ مانِعًا لِلْوُجُودِ لَكانَ أمْرُ اللَّهِ تَعالى لِلْكافِرِ بِالإيمانِ أمْرًا بِإعْدامِ عِلْمِهِ، وكَما أنَّهُ لا يَلِيقُ بِهِ أنْ يَأْمُرَ عِبادَهُ بِأنْ يُعْدِمُوهُ فَكَذَلِكَ لا يَلِيقُ بِهِ أنْ يَأْمُرَهم بِأنْ يُعْدِمُوا عِلْمَهُ؛ لِأنَّ إعْدامَ ذاتِ اللَّهِ وصِفاتِهِ غَيْرُ مَعْقُولٍ، والأمْرُ بِهِ سَفَهٌ وعَبَثٌ، فَدَلَّ عَلى أنَّ العِلْمَ بِالعَدَمِ لا يَكُونُ مانِعًا مِنَ الوُجُودِ.
وخامِسُها: أنَّ الإيمانَ في نَفْسِهِ مِن قَبِيلِ المُمْكِناتِ الجائِزاتِ نَظَرًا إلى ذاتِهِ وعَيْنِهِ، فَوَجَبَ أنْ يَعْلَمَهُ اللَّهُ تَعالى مِنَ المُمْكِناتِ الجائِزاتِ؛ إذْ لَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ كَذَلِكَ لَكانَ ذَلِكَ العِلْمُ جَهْلًا، وهو مُحالٌ، وإذا عَلِمَهُ اللَّهُ تَعالى مِنَ المُمْكِناتِ الجائِزاتِ الَّتِي لا يَمْتَنِعُ وُجُودُها وعَدَمُها البَتَّةَ، فَلَوْ صارَ بِسَبَبِ العِلْمِ واجِبًا لَزِمَ أنْ يَجْتَمِعَ عَلى الشَّيْءِ الواحِدِ كَوْنُهُ مِنَ المُمْكِناتِ، وكَوْنُهُ لَيْسَ مِنَ المُمْكِناتِ وذَلِكَ مُحالٌ.
وسادِسُها: أنَّ الأمْرَ بِالمُحالِ سَفَهٌ وعَبَثٌ، فَلَوْ جازَ وُرُودُ الشَّرْعِ بِهِ لَجازَ وُرُودُهُ أيْضًا بِكُلِّ أنْواعِ السَّفَهِ، فَما كانَ يَمْتَنِعُ وُرُودُهُ بِإظْهارِ المُعْجِزَةِ عَلى يَدِ الكاذِبِينَ، ولا إنْزالِ الأكاذِيبِ والأباطِيلِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ لا يَبْقى وُثُوقٌ بِصِحَّةِ نُبُوَّةِ الأنْبِياءِ ولا بِصِحَّةِ القُرْآنِ، بَلْ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ كُلُّهُ كَذِبًا وسَفَهًا، ولَمّا بَطَلَ ذَلِكَ عَلِمْنا أنَّ العِلْمَ بِعَدَمِ الإيمانِ والخَبَرَ عَنْ عَدَمِ الإيمانِ لا يَمْنَعُ مِنَ الإيمانِ.
وسابِعُها: أنَّهُ لَوْ جازَ وُرُودُ الأمْرِ بِالمُحالِ في هَذِهِ الصُّورَةِ لَجازَ وُرُودُ أمْرِ الأعْمى بِنَقْطِ المَصاحِفِ، والمُزْمِنِ بِالطَّيَرانِ في الهَواءِ، وأنْ يُقالَ لِمَن قُيِّدَ يَداهُ ورِجْلاهُ وأُلْقِيَ مِن شاهِقِ جَبَلٍ: لِمَ لا تَطِيرُ إلى فَوْقٍ ؟ ولَمّا لَمْ يَجُزْ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ في العُقُولِ عَلِمْنا أنَّهُ لا يَجُوزُ الأمْرُ بِالمُحالِ، فَثَبَتَ أنَّ العِلْمَ بِالعَدَمِ لا يَمْنَعُ مِنَ الوُجُودِ.
وثامِنُها: لَوْ جازَ وُرُودُ الأمْرِ بِذَلِكَ لَجازَ بِعْثَةُ الأنْبِياءِ إلى الجَماداتِ وإنْزالُ الكُتُبِ عَلَيْها، وإنْزالُ المَلائِكَةِ لِتَبْلِيغِ التَّكالِيفِ إلَيْها حالًا بَعْدَ حالٍ، ومَعْلُومٌ أنَّ ذَلِكَ سُخْرِيَةٌ وتَلاعُبٌ بِالدِّينِ.
وتاسِعُها: أنَّ العِلْمَ بِوُجُودِ الشَّيْءِ لَوِ اقْتَضى وُجُوبَهُ لَأغْنى العِلْمُ عَنِ القُدْرَةِ والإرادَةِ، فَوَجَبَ أنْ لا يَكُونَ اللَّهُ تَعالى قادِرًا مُرِيدًا مُخْتارًا، وذَلِكَ قَوْلُ الفَلاسِفَةِ القائِلِينَ بِالمُوجِبِ.
وعاشِرُها: الآياتُ الدّالَّةُ عَلى أنَّ تَكْلِيفَ ما لا يُطاقُ لَمْ يُوجَدْ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلّا وُسْعَها﴾ [البَقَرَةِ: ٢٨٦] وقالَ: ﴿وما جَعَلَ عَلَيْكم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ﴾ [الحَجِّ: ٧٨] وقالَ: ﴿ويَضَعُ عَنْهم إصْرَهم والأغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعْرافِ: ١٥٧] وأيُّ حَرَجٍ ومَشَقَّةٍ فَوْقَ التَّكْلِيفِ بِالمُحالِ.
* * *
المَقامُ الثّالِثُ: الجَوابُ عَلى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، لِلْمُعْتَزِلَةِ فِيهِ طَرِيقانِ:
الأوَّلُ: طَرِيقَةُ أبِي عَلِيٍّ وأبِي هاشِمٍ والقاضِي عَبْدِ الجَبّارِ، فَإنّا لَمّا قُلْنا: لَوْ وقَعَ خِلافُ مَعْلُومِ اللَّهِ تَعالى لانْقَلَبَ عِلْمُهُ جَهْلًا، قالُوا خَطَأٌ قَوْلُ مَن يَقُولُ: إنَّهُ يَنْقَلِبُ عِلْمُهُ جَهْلًا، وخَطَأٌ أيْضًا قَوْلُ مَن يَقُولُ: إنَّهُ لا يَنْقَلِبُ، ولَكِنْ يَجِبُ الإمْساكُ عَنِ القَوْلَيْنِ.
والثّانِي: طَرِيقَةُ الكَعْبِيِّ واخْتِيارُ أبِي الحُسَيْنِ البَصْرِيِّ: أنَّ العِلْمَ تَبَعُ المَعْلُومِ، فَإذا فَرَضْتَ الواقِعَ مِنَ العَبْدِ مِنَ الإيمانِ عَرَفْتَ أنَّ الحاصِلَ في الأزَلِ لِلَّهِ تَعالى هو العِلْمُ بِالإيمانِ، ومَتى فَرَضْتَ الواقِعَ مِنهُ هو الكُفْرُ بَدَلًا عَنِ الإيمانِ عَرَفْتَ أنَّ الحاصِلَ في الأزَلِ هو العِلْمُ بِالكُفْرِ بَدَلًا عَنِ الإيمانِ، فَهَذا فَرْضُ عِلْمٍ بَدَلًا عَنْ عِلْمٍ آخَرَ، لا أنَّهُ تَغَيَّرَ العِلْمُ. فَهَذانِ الجَوابانِ هُما اللَّذانِ عَلَيْهِما اعْتِمادُ جُمْهُورِ المُعْتَزِلَةِ.
واعْلَمْ أنَّ هَذا المَبْحَثَ صارَ مَنشَأً لِضَلالاتٍ عَظِيمَةٍ: فَمِنها أنَّ مُنْكِرِي التَّكالِيفِ والنُّبُوّاتِ قالُوا: قَدْ سَمِعْنا كَلامَ أهْلِ الجَبْرِ فَوَجَدْناهُ قَوِيًّا قاطِعًا، وهَذانِ الجَوابانِ اللَّذانِ ذَكَرَهُما المُعْتَزِلَةُ يَجْرِيانِ مَجْرى الخُرافَةِ، ولا يَلْتَفِتُ العاقِلُ إلَيْهِما، وسَمِعْنا كَلامَ المُعْتَزِلَةِ في أنَّ مَعَ القَوْلِ بِالجَبْرِ لا يَجُوزُ التَّكْلِيفُ ويُقَبَّحُ، والجَوابُ الَّذِي ذَكَرَهُ أهْلُ الجَبْرِ ضَعِيفٌ جِدًّا، فَصارَ مَجْمُوعُ الكَلامَيْنِ كَلامًا قَوِيًّا في نَفْيِ التَّكالِيفِ، ومَتّى بَطَلَ ذَلِكَ بَطَلَ القَوْلُ بِالنُّبُوّاتِ. ومِنها أنَّ الطّاعِنِينَ في القُرْآنِ قالُوا: الَّذِي قالَهُ المُعْتَزِلَةُ مِنَ الآياتِ الكَثِيرَةِ الدّالَّةِ عَلى أنَّهُ لا مَنعَ مِنَ الإيمانِ ومِنَ الطّاعَةِ فَقَدْ صَدَقُوا فِيهِ، والَّذِي قالَهُ الجَبْرِيَّةُ: مِن أنَّ العِلْمَ بِعَدَمِ الإيمانِ مانِعٌ عَنْهُ فَقَدْ صَدَقُوا فِيهِ، فَدَلَّ عَلى أنَّ القُرْآنَ ورَدَ عَلى ضِدِّ العَقْلِ وعَلى خِلافِهِ، وذَلِكَ مِن أعْظَمِ المَطاعِنِ، وأقْوى القَوادِحِ فِيهِ، ثُمَّ مَن سَلَّمَ مِن هَؤُلاءِ أنَّ هَذا القُرْآنَ هو القُرْآنُ الَّذِي جاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ تَوَسَّلَ بِهِ إلى الطَّعْنِ فِيهِ، وقالَ قَوْمٌ مِنَ الرّافِضَةِ: إنَّ هَذا الَّذِي عِنْدَنا لَيْسَ هو القُرْآنَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ بَلْ غُيِّرَ وبُدِّلَ. والدَّلِيلُ عَلَيْهِ اشْتِمالُهُ عَلى هَذِهِ المُناقَضاتِ الَّتِي ظَهَرَتْ بِسَبَبِ هَذِهِ المُناظَرَةِ الدّائِرَةِ بَيْنَ أهْلِ الجَبْرِ وأهْلِ القَدَرِ. ومِنها أنَّ المُقَلِّدَةَ الطّاعِنِينَ في النَّظَرِ والِاسْتِدْلالِ احْتَجُّوا بِهَذِهِ المُناظَرَةِ وقالُوا: لَوْ جَوَّزْنا التَّمَسُّكَ بِالدَّلائِلِ العَقْلِيَّةِ لَزِمَ القَدْحُ في التَّكْلِيفِ والنُّبُوَّةِ بِسَبَبِ هَذِهِ المُناظَرَةِ، فَإنَّ كَلامَ أهْلِ الجَبْرِ في نِهايَةِ القُوَّةِ في إثْباتِ الجَبْرِ، وكَلامَ أهْلِ القَدَرِ في بَيانِ أنَّهُ مَتى ثَبَتَ الجَبْرُ بَطَلَ التَّكْلِيفُ بِالكُلِّيَّةِ في نِهايَةِ القُوَّةِ، فَيَتَوَلَّدُ مِن مَجْمُوعِ الكَلامَيْنِ أعْظَمُ شُبْهَةٍ في القَدْحِ والتَّكْلِيفِ والنُّبُوَّةِ، فَثَبَتَ أنَّ الرُّجُوعَ إلى العَقْلِيّاتِ يُورِثُ الكُفْرَ والضَّلالَ، وعِنْدَ هَذا قِيلَ: مَن تَعَمَّقَ في الكَلامِ تَزَنْدَقَ. ومِنها أنَّ هِشامَ بْنَ الحَكَمِ زَعَمَ أنَّهُ سُبْحانَهُ لا يَعْلَمُ الأشْياءَ قَبْلَ وُقُوعِها، وجَوَّزَ البَداءَ عَلى اللَّهِ تَعالى، وقالَ: إنَّ قَوْلَهُ: ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهم لا يُؤْمِنُونَ﴾ إنَّما وقَعَ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِدْلالِ بِالأمارَةِ، ويَجُوزُ لَهُ أنْ يُظْهِرَ خِلافَ ما ذَكَرَهُ، وإنَّما قالَ بِهَذا المَذْهَبِ فِرارًا مِن تِلْكَ الإشْكالاتِ المُتَقَدِّمَةِ.
واعْلَمْ أنَّ جُمْلَةَ الوُجُوهِ الَّتِي رَوَيْناها عَنِ المُعْتَزِلَةِ كَلِماتٌ لا تَعَلُّقَ لَها بِالكَشْفِ عَنْ وجْهِ الجَوابِ. بَلْ هي جارِيَةٌ مَجْرى التَّشْنِيعاتِ. فَأمّا الجَوابانِ اللَّذانِ عَلَيْهِما اعْتِمادُ القَوْمِ فَفي نِهايَةِ الضَّعْفِ. أمّا قَوْلُ أبِي عَلِيٍّ وأبِي هِشامٍ والقاضِي: خَطَأٌ قَوْلُ مَن يَقُولُ إنَّهُ يَدُلُّ، وخَطَأٌ قَوْلُ مَن يَقُولُ إنَّهُ لا يَدُلُّ، إنْ كانَ المُرادُ مِنهُ الحُكْمَ بِفَسادِ القِسْمَيْنِ كانَ ذَلِكَ حُكْمًا بِفَسادِ النَّفْيِ والإثْباتِ، وذَلِكَ لا يَرْتَضِيهِ العَقْلُ، وإنْ كانَ مَعْناهُ أنَّ أحَدَهُما حَقٌّ لَكِنْ لا أعْرِفُ أنَّ الحَقَّ هو أنَّهُ يَدُلُّ أوْ لا يَدُلُّ، كَفى في دَفْعِهِ تَقْرِيرُ وجْهِ الِاسْتِدْلالِ، فَإنّا لَمّا بَيَّنّا أنَّ العِلْمَ بِالعَدَمِ لا يَحْصُلُ إلّا مَعَ العَدَمِ، فَلَوْ حَصَلَ الوُجُودُ مَعَهُ لَكانَ قَدِ اجْتَمَعَ العَدَمُ والوُجُودُ مَعًا ولا يَتَمَكَّنُ العَقْلُ مِن تَقْرِيرِ كَلامٍ أوْضَحَ مِن هَذا وأقَلِّ مُقَدِّماتٍ فِيهِ. وأمّا قَوْلُ الكَعْبِيِّ فَفي نِهايَةِ الضَّعْفِ، لِأنّا وإنْ كُنّا لا نَدْرِي أنَّ اللَّهَ تَعالى كانَ في الأزَلِ عالِمًا بِوُجُودِ الإيمانِ أوْ بِعَدَمِهِ لَكُنّا نَعْلَمُ أنَّ العِلْمَ بِأحَدِ هَذَيْنِ الأمْرَيْنِ كانَ حاصِلًا، وهو الآنَ أيْضًا حاضِرٌ، فَلَوْ حَصَلَ مَعَ العِلْمِ بِأحَدِ النَّقِيضَيْنِ ذَلِكَ النَّقِيضُ الآخَرُ لَزِمَ اجْتِماعُ النَّقِيضَيْنِ، ولَوْ قِيلَ بِأنَّ ذَلِكَ العِلْمَ لا يَبْقى كانَ ذَلِكَ اعْتِرافًا بِانْقِلابِ العِلْمِ جَهْلًا، وهَذا آخِرُ الكَلامِ في هَذا البَحْثِ. واعْلَمْ أنَّ الكَلامَ المَعْنَوِيَّ هو الَّذِي تَقَدَّمَ، وبَقِيَ في هَذا البابِ أُمُورٌ أُخْرى إقْناعِيَّةٌ، ولا بُدَّ مِن ذِكْرِها وهي خَمْسَةٌ:
أحَدُها: رَوى الخَطِيبُ في كِتابِ تارِيخِ بَغْدادَ عَنْ مُعاذِ بْنِ مُعاذٍ العَنْبَرِيِّ، قالَ: كُنْتُ جالِسًا عِنْدَ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، فَأتاهُ رَجُلٌ، فَقالَ: يا أبا عُثْمانَ سَمِعْتُ واللَّهِ اليَوْمَ بِالكُفْرِ، فَقالَ: لا تُعَجِّلُ بِالكُفْرِ، وما سَمِعْتَ ؟ قالَ: سَمِعْتُ هاشِمًا الأوْقَصَ يَقُولُ: إنَّ ﴿تَبَّتْ يَدا أبِي لَهَبٍ﴾ [المَسَدِ: ١] وقَوْلَهُ: ﴿ذَرْنِي ومَن خَلَقْتُ وحِيدًا﴾ [المُدَّثِّرِ: ١١] إلى قَوْلِهِ: ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾ [المُدَّثِّرِ: ٢٦] إنَّ هَذا لَيْسَ في أُمِّ الكِتابِ واللَّهُ تَعالى يَقُولُ: ﴿حم﴾ ﴿والكِتابِ المُبِينِ﴾ [الدُّخانِ: ٢] إلى قَوْلِهِ: ﴿وإنَّهُ في أُمِّ الكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الزُّخْرُفِ: ٤] فَما الكُفْرُ إلّا هَذا يا أبا عُثْمانَ، فَسَكَتَ عَمْرٌو هُنَيْهَةً ثُمَّ أقْبَلَ عَلَيَّ، فَقالَ: واللَّهِ لَوْ كانَ القَوْلُ كَما يَقُولُ ما كانَ عَلى أبِي لَهَبٍ مِن لَوْمٍ، ولا عَلى الوَلِيدِ مِن لَوْمٍ، فَلَمّا سَمِعَ الرَّجُلُ ذَلِكَ قالَ: أتَقُولُ يا أبا عُثْمانَ ذَلِكَ، هَذا واللَّهِ الَّذِي قالَ مُعاذٌ ! فَدَخَلَ بِالإسْلامِ وخَرَجَ بِالكُفْرِ. وحُكِيَ أيْضًا أنَّهُ دَخَلَ رَجُلٌ عَلى عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، وقَرَأ عِنْدَهُ: ﴿بَلْ هو قُرْآنٌ مَجِيدٌ﴾ ﴿فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾ [البُرُوجِ: ٢٢] فَقالَ لَهُ: أخْبِرْنِي عَنْ (تَبَّتْ) أكانَتْ في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ ؟ فَقالَ عَمْرٌو: لَيْسَ هَكَذا كانَتْ، بَلْ كانَتْ: تَبَّتْ يَدا مَن عَمِلَ بِمِثْلِ ما عَمِلَ أبُو لَهَبٍ، فَقالَ لَهُ الرَّجُلُ: هَكَذا يَنْبَغِي أنْ تُقْرَأ إذا قُمْنا إلى الصَّلاةِ، فَغَضِبَ عَمْرٌو وقالَ: إنَّ عِلْمَ اللَّهِ لَيْسَ بِشَيْطانٍ، إنَّ عِلْمَ اللَّهِ لا يَضُرُّ ولا يَنْفَعُ. وهَذِهِ الحِكايَةُ تَدُلُّ عَلى شَكِّ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ في صِحَّةِ القُرْآنِ.
وثانِيها: رَوى القاضِي في كِتابِ طَبَقاتِ المُعْتَزِلَةِ «عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أنَّ رَجُلًا قامَ إلَيْهِ، فَقالَ: يا أبا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إنَّ أقْوامًا يَزْنُونَ ويَسْرِقُونَ ويَشْرَبُونَ الخَمْرَ ويَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلّا بِالحَقِّ ويَقُولُونَ: كانَ ذَلِكَ في عِلْمِ اللَّهِ فَلَمْ نَجِدْ مِنهُ بُدًّا، فَغَضِبَ ثُمَّ قالَ: سُبْحانَ اللَّهِ العَظِيمِ، قَدْ كانَ في عِلْمِهِ أنَّهم يَفْعَلُونَها، فَلَمْ يَحْمِلْهم عِلْمُ اللَّهِ عَلى فِعْلِها.
حَدَّثَنِي أبِي عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ، أنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: مَثَلُ عِلْمِ اللَّهِ فِيكم كَمَثَلِ السَّماءِ الَّتِي أظَلَّتْكم، والأرْضِ الَّتِي أقَلَّتْكم، فَكَما لا تَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ مِنَ السَّماءِ والأرْضِ، فَكَذَلِكَ لا تَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ مِن عِلْمِ اللَّهِ تَعالى، وكَما لا تَحْمِلُكُمُ السَّماءُ والأرْضُ عَلى الذُّنُوبِ، فَكَذَلِكَ لا يَحْمِلُكم عِلْمُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْها»  .
واعْلَمْ أنَّ في الأخْبارِ الَّتِي يَرْوِيها الجَبْرِيَّةُ والقَدَرِيَّةُ كَثْرَةٌ، والغَرَضُ مِن رِوايَةِ هَذا الحَدِيثِ بَيانُ أنَّهُ لا يَلِيقُ بِالرَّسُولِ أنْ يَقُولَ مِثْلَ ذَلِكَ، وذَلِكَ لِأنَّهُ مُتَناقِضٌ وفاسِدٌ، أمّا المُتَناقِضُ فَلِأنَّ قَوْلَهُ: ”«وكَذَلِكَ لا تَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ مِن عِلْمِ اللَّهِ» “ صَرِيحٌ في الجَبْرِ، وما قَبْلَهُ صَرِيحٌ في القَدَرِ، فَهو مُتَناقِضٌ، وأمّا أنَّهُ فاسِدٌ، فَلِأنّا بَيَّنّا أنَّ العِلْمَ بِعَدَمِ الإيمانِ ووُجُودَ الإيمانِ مُتَنافِيانِ، فالتَّكْلِيفُ بِالإيمانِ مَعَ وُجُودِ العِلْمِ بِعَدَمِ الإيمانِ تَكْلِيفٌ بِالجَمْعِ بَيْنَ النَّفْيِ والإثْباتِ، أمّا السَّماءُ والأرْضُ فَإنَّهُما لا يُنافِيانِ شَيْئًا مِنَ الأعْمالِ، فَظَهَرَ أنَّ تَشْبِيهَ إحْدى الصُّورَتَيْنِ بِالأُخْرى لا يَصْدُرُ إلّا عَنْ جاهِلٍ أوْ مُتَجاهِلٍ، وجُلُّ مَنصِبِ الرِّسالَةِ عَنْهُ.
وثالِثُها: الحَدِيثانِ المَشْهُورانِ في هَذا البابِ: أمّا الحَدِيثُ الأوَّلُ: فَهو ما رُوِيَ في الصَّحِيحَيْنِ عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وهْبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وهو الصّادِقُ المَصْدُوقُ: ”«إنَّ أحَدَكم يُجْمَعُ خَلْقُهُ في بَطْنِ أُمِّهِ أرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ إلَيْهِ مَلَكًا، فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، فَيُؤْمَرُ بِأرْبَعِ كَلِماتٍ: فَيَكْتُبُ رِزْقَهُ، وأجَلَهُ، وعَمَلَهُ، وشَقِيٌّ أمْ سَعِيدٌ، فَواللَّهِ الَّذِي لا إلَهَ غَيْرُهُ، إنَّ أحَدَكم لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ حَتّى ما يَكُونُ بَيْنَهُ وبَيْنَها إلّا ذِراعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ النّارِ فَيَدْخُلُها، وإنَّ أحَدَكم لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ النّارِ حَتّى ما يَكُونُ بَيْنَهُ وبَيْنَها إلّا ذِراعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ، فَيَدْخُلُها» “ وحَكى الخَطِيبُ في تارِيخِ بَغْدادَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، أنَّهُ قالَ: لَوْ سَمِعْتُ الأعْمَشَ يَقُولُ هَذا لَكَذَّبْتُهُ، ولَوْ سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ وهْبٍ يَقُولُ هَذا ما أحْبَبْتُهُ، ولَوْ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ هَذا ما قَبِلْتُهُ، ولَوْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ هَذا لَرَدَدْتُهُ، ولَوْ سَمِعْتُ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ يَقُولُ هَذا لَقُلْتُ: لَيْسَ عَلى هَذا أخَذْتَ مِيثاقَنا.
وأمّا الحَدِيثُ الثّانِي: فَهو مُناظَرَةُ آدَمَ ومُوسى عَلَيْهِما السَّلامُ، فَإنَّ مُوسى قالَ لِآدَمَ: «أنْتَ الَّذِي أشْقَيْتَ النّاسَ وأخْرَجْتَهم مِنَ الجَنَّةِ ؟ فَقالَ آدَمُ: أنْتَ الَّذِي اصْطَفاكَ اللَّهُ لِرِسالاتِهِ ولِكَلامِهِ، وأنْزَلَ عَلَيْكَ التَّوْراةَ، فَهَلْ تَجِدُ اللَّهَ قَدَّرَهُ عَلَيَّ ؟ قالَ: نَعَمْ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: فَحَجَّ آدَمُ مُوسى»، والمُعْتَزِلَةُ طَعَنُوا فِيهِ مِن وُجُوهٍ:
أحَدُها: أنَّ هَذا الخَبَرَ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ مُوسى قَدْ ذَمَّ آدَمَ عَلى الصَّغِيرَةِ، وذَلِكَ يَقْتَضِي الجَهْلَ في حَقِّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، وأنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ.
وثانِيها: أنَّ الوَلَدَ كَيْفَ يُشافِهُ والِدَهُ بِالقَوْلِ الغَلِيظِ.
وثالِثُها: أنَّهُ قالَ: أنْتَ الَّذِي أشْقَيْتَ النّاسَ وأخْرَجْتَهم مِنَ الجَنَّةِ، وقَدْ عَلِمَ مُوسى أنَّ شَقاءَ الخَلْقِ وإخْراجَهم مِنَ الجَنَّةِ لَمْ يَكُنْ مِن جِهَةِ آدَمَ، بَلِ اللَّهُ أخْرَجَهُ مِنها.
ورابِعُها: أنَّ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - احْتَجَّ بِما لَيْسَ بِحُجَّةٍ إذْ لَوْ كانَ حُجَّةً لَكانَ لِفِرْعَوْنَ وهامانَ وسائِرِ الكُفّارِ أنْ يَحْتَجُّوا بِها، ولَمّا بَطَلَ ذَلِكَ عَلِمْنا فَسادَ هَذِهِ الحُجَّةِ.
وخامِسُها: أنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلامُ صَوَّبَ آدَمَ في ذَلِكَ مَعَ أنّا بَيَّنّا أنَّهُ لَيْسَ بِصَوابٍ.
إذا ثَبَتَ هَذا وجَبَ حَمْلُ الحَدِيثِ عَلى أحَدِ ثَلاثَةِ أوْجُهٍ:
أحَدُها: أنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - حَكى ذَلِكَ عَنِ اليَهُودِ، لا أنَّهُ حَكاهُ عَنِ اللَّهِ تَعالى أوْ عَنْ نَفْسِهِ، والرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ قَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الحِكايَةَ إلّا أنَّ الرّاوِيَ حِينَ دَخَلَ ما سَمِعَ إلّا هَذا الكَلامَ، فَظَنَّ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ ذَكَرَهُ عَنْ نَفْسِهِ لا عَنِ اليَهُودِ.
وثانِيها: أنَّهُ قالَ: ”فَحَجَّ آدَمَ“ مَنصُوبًا، أيْ أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ غَلَبَهُ وجَعَلَهُ مَحْجُوجًا، وأنَّ الَّذِي أتى بِهِ آدَمُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ ولا بِعُذْرٍ.
وثالِثُها: وهو المُعْتَمَدُ أنَّهُ لَيْسَ المُرادُ مِنَ المُناظَرَةِ الذَّمَّ عَلى المَعْصِيَةِ، ولا الِاعْتِذارَ مِنهُ بِعِلْمِ اللَّهِ، بَلْ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - سَألَهُ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي حَمَلَهُ عَلى تِلْكَ الزَّلَّةِ حَتّى خَرَجَ بِسَبَبِها مِنَ الجَنَّةِ، فَقالَ آدَمُ: إنَّ خُرُوجِي مِنَ الجَنَّةِ لَمْ يَكُنْ بِسَبَبِ تِلْكَ الزَّلَّةِ، بَلْ بِسَبَبِ أنَّ اللَّهَ تَعالى كانَ قَدْ كَتَبَ عَلَيَّ أنْ أخْرُجَ مِنَ الجَنَّةِ إلى الأرْضِ وأكُونَ خَلِيفَةً فِيها، وهَذا المَعْنى كانَ مَكْتُوبًا في التَّوْراةِ، فَلا جَرَمَ كانَتْ حُجَّةُ آدَمَ قَوِيَّةً، وصارَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ في ذَلِكَ كالمَغْلُوبِ، واعْلَمْ أنَّ الكَلامَ في هَذِهِ المَسْألَةِ طَوِيلٌ جِدًّا، والقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنهُ، وسَنَسْتَقْصِي القَوْلَ فِيها في هَذا التَّفْسِيرِ إنْ قَدَّرَ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ؛ وفِيما ذَكَرْنا هَهُنا كِفايَةٌ.





أضواء البيان — محمد الأمين الشنقيطي (١٣٩٤ هـ)

﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ سَوَاۤءٌ عَلَیۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ﴾ [البقرة ٦]
* قال المؤلف في (دفع إيهام الإضطراب عن آيات الكتاب):
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهم لا يُؤْمِنُونَ﴾ .
هَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ بِظاهِرِها عَلى عَدَمِ إيمانِ الكُفّارِ، وقَدْ جاءَ في آياتٍ أُخَرَ ما يَدُلُّ عَلى أنَّ بَعْضَ الكُفّارِ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهم ما قَدْ سَلَفَ﴾ الآيَةَ [الأنفال: ٣٨]، وكَقَوْلِهِ: ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ [النساء: ٩٤]، وكَقَوْلِهِ: ﴿وَمِن هَؤُلاءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ﴾ [العنكبوت: ٤٧] .
وَوَجْهُ الجَمْعِ ظاهِرٌ، وهو أنَّ الآيَةَ مِنَ العامِّ المَخْصُوصِ، لِأنَّها في خُصُوصِ الأشْقِياءِ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهم في عِلْمِ اللَّهِ الشَّقاوَةُ المُشارُ إلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ﴾ ﴿وَلَوْ جاءَتْهم كُلُّ آيَةٍ حَتّى يَرَوُا العَذابَ الألِيمَ﴾ [يونس: ٩٦ - ٩٧]، ويَدُلُّ لِهَذا التَّخْصِيصِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ﴾ الآيَةَ [البقرة: ٧] .
وَأجابَ البَعْضُ بِأنَّ المَعْنى لا يُؤْمِنُونَ، ما دامَ الطَّبْعُ عَلى قُلُوبِهِمْ وأسْماعِهِمْ والغِشاوَةُ عَلى أبْصارِهِمْ، فَإنْ أزالَ اللَّهُ عَنْهم ذَلِكَ بِفَضْلِهِ آمَنُوا.



تفسير شيخ الإسلام — ابن تيمية (٧٢١ هـ)










التحرير والتنوير — ابن عاشور (١٣٩٣ هـ)



﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ سَوَاۤءٌ عَلَیۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ﴾ [البقرة ٦]
﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمُ أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾
هَذا انْتِقالٌ مِنَ الثَّناءِ عَلى الكِتابِ ومُتَقَلِّدِيهِ ووَصْفِ هَدْيِهِ وأثَرِ ذَلِكَ الهَدْيِ في الَّذِينَ اهْتَدَوْا بِهِ والثَّناءِ عَلَيْهِمُ الرّاجِعِ إلى الثَّناءِ عَلى الكِتابِ لَمّا كانَ الثَّناءُ إنَّما يَظْهَرُ إذا تَحَقَّقَتْ آثارُ الصِّفَةِ الَّتِي اسْتُحِقَّ بِها الثَّناءُ، ولَمّا كانَ الشَّيْءُ قَدْ يُقَدَّرُ بِضِدِّهِ انْتَقَلَ إلى الكَلامِ عَلى الَّذِينَ لا يَحْصُلُ لَهُمُ الِاهْتِداءُ بِهَذا الكِتابِ، وسَجَّلَ أنَّ حِرْمانَهم مِنَ الِاهْتِداءِ بِهَدْيِهِ إنَّما كانَ مِن خُبْثِ أنْفُسِهِمْ إذْ نَبَوْا بِها عَنْ ذَلِكَ، فَما كانُوا مِنَ الَّذِينَ يُفَكِّرُونَ في عاقِبَةِ أُمُورِهِمْ ويَحْذَرُونَ مِن سُوءِ العَواقِبِ فَلَمْ يَكُونُوا مِنَ المُتَّقِينَ، وكانَ سَواءً عِنْدَهُمُ الإنْذارُ وعَدَمُهُ فَلَمْ يَتَلَقَّوُا الإنْذارَ بِالتَّأمُّلِ بَلْ كانَ سَواءً والعَدَمُ عِنْدَهم، وقَدْ قَرَنَتِ الآياتُ فَرِيقَيْنِ فَرِيقًا أضْمَرَ الكُفْرَ وأعْلَنَهُ وهم مِنَ المُشْرِكِينَ كَما هو غالِبُ اصْطِلاحِ القُرْآنِ في لَفْظِ ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وفَرِيقًا أظْهَرَ الإيمانَ وهو مُخادِعٌ وهُمُ المُنافِقُونَ المُشارُ إلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ آمَنّا﴾ [البقرة: ٨] . وإنَّما قُطِعَتْ هاتِهِ الجُمْلَةُ عَنِ الَّتِي قَبْلَها لِأنَّ بَيْنَهُما كَمالَ الِانْقِطاعِ إذِ الجُمَلُ السّابِقَةُ لِذِكْرِ الهُدى والمُهْتَدِينَ، وهَذِهِ لِذِكْرِ الضّالِّينَ فَبَيْنَهُما الِانْقِطاعُ لِأجْلِ التَّضادِّ، ويُعْلَمَ أنَّ هَؤُلاءِ قِسْمٌ مُضادٌّ لِلْقِسْمَيْنِ المَذْكُورَيْنِ قَبْلَهُ مِن سِياقِ المُقابَلَةِ.
وتَصْدِيرُ الجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ إمّا لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمامِ بِالخَبَرِ وغَرابَتِهِ دُونَ رَدِّ الإنْكارِ أوِ الشَّكِّ؛ لِأنَّ الخِطابَ لِلنَّبِيِّ ﷺ ولِلْأُمَّةِ وهو خِطابُ أُنُفٍ بِحَيْثُ لَمْ يَسْبِقْ شَكٌّ في وُقُوعِهِ، ومَجِيءُ إنَّ لِلِاهْتِمامِ كَثِيرٌ في الكَلامِ وهو في القُرْآنِ كَثِيرٌ. وقَدْ تَكُونُ إنَّ هُنا لِرَدِّ الشَّكِّ تَخْرِيجًا لِلْكَلامِ عَلى خِلافِ مُقْتَضى الظّاهِرِ؛ لِأنَّ حِرْصَ النَّبِيءِ ﷺ عَلى هِدايَةِ الكافِرِينَ تَجْعَلُهُ لا يَقْطَعُ الرَّجاءَ فِي نَفْعِ الإنْذارِ لَهم وحالُهُ كَحالِ مَن شَكَّ في نَفْعِ الإنْذارِ، أوْ لِأنَّ السّامِعِينَ لِما أُجْرِيَ عَلى الكِتابِ مِنَ الثَّناءِ بِبُلُوغِهِ الدَّرَجَةَ القُصْوى في الهِدايَةِ يُطْمِعُهم أنْ تُؤَثِّرَ هِدايَتُهُ في الكافِرِينَ المُعْرِضِينَ وتَجْعَلَهم كالَّذِينَ يَشُكُّونَ في أنْ يَكُونَ الإنْذارُ وعَدَمُهُ سَواءً فَأُخْرِجَ الكَلامُ عَلى خِلافِ مُقْتَضى الظّاهِرِ ونَزَلَ غَيْرُ الشّاكِّ مَنزِلَةَ الشّاكِّ. وقَدْ نُقِلَ عَنِ المُبَرِّدِ أنَّ إنْ لا تَأْتِي لِرَدِّ الإنْكارِ بَلْ لِرَدِّ الشَّكِّ.
وقَدْ تَبَيَّنَ أنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا المَذْكُورِينَ هُنا هم فَرِيقٌ مِنَ المُشْرِكِينَ الَّذِينَ هم مَأْيُوسٌ مِن إيمانِهِمْ، فالإتْيانُ في ذِكْرِهِمْ بِالتَّعْرِيفِ بِالمَوْصُولِ: إمّا أنْ يَكُونَ لِتَعْرِيفِ العَهْدِ مُرادًا مِنهُ قَوْمٌ مَعْهُودُونَ كَأبِي جَهْلٍ والوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ وأضْرابِهِمْ مِن رُؤُوسِ الشِّرْكِ وزُعَماءِ العِنادِ دُونَ مَن كانَ مُشْرِكًا في أيّامِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ ثُمَّ مَن آمَنَ بَعْدُ مِثْلَ أبِي سُفْيانَ بْنِ حَرْبٍ وغَيْرِهِ مِن مُسْلِمَةِ الفَتْحِ، وإمّا أنْ يَكُونَ المَوْصُولُ لِتَعْرِيفِ الجِنْسِ المُفِيدِ لِلِاسْتِغْراقِ عَلى أنَّ المُرادَ مِنَ الكُفْرِ أبْلَغُ أنْواعِهِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ لا يُؤْمِنُونَ فَيَكُونُ عامًّا مَخْصُوصًا بِالحِسِّ لِمُشاهَدَةِ مَن آمَنَ مِنهم أوْ يَكُونُ عامًّا مُرادًا بِهِ الخُصُوصُ بِالقَرِينَةِ وهَذانِ الوَجْهانِ هُما اللَّذانِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِما المُحَقِّقُونَ مِنَ المُفَسِّرِينَ وهُما ناظِرانِ إلى أنَّ اللَّهَ أخْبَرَ عَنْ هَؤُلاءِ بِأنَّهم لا يُؤْمِنُونَ فَتَعَيَّنَ أنْ يَكُونُوا مِمَّنْ تَبَيَّنَ بَعْدُ أنَّهُ ماتَ عَلى الكُفْرِ.
ومِنَ المُفَسِّرِينَ مَن تَأوَّلَ قَوْلَهُ تَعالى ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ عَلى مَعْنى الَّذِينَ قُضِيَ عَلَيْهِمْ بِالكُفْرِ والشَّقاءِ ونَظَّرَهُ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ﴾ [يونس: ٩٦] وهو تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ مِنَ اللَّفْظِ وشَتّانَ بَيْنَهُ وبَيْنَ تَنْظِيرِهِ. ومِنَ المُفَسِّرِينَ مَن حَمَلَ ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ عَلى رُؤَساءِ اليَهُودِ مِثْلَ حُيَيِّ بْنِ أخْطَبَ وأبِي رافِعٍ يَعْنِي بِناءً عَلى أنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ في المَدِينَةِ ولَيْسَ فِيها مِنَ الكافِرِينَ سِوى اليَهُودِ والمُنافِقِينَ وهَذا بَعِيدٌ مِن عادَةِ القُرْآنِ وإعْراضٌ عَنِ السِّياقِ المَقْصُودِ مِنهُ ذِكْرُ مَن حُرِمَ مِن هَدْيِ القُرْآنِ في مُقابَلَةِ مَن حَصَلَ لَهُمُ الِاهْتِداءُ بِهِ، وأيًّا ما كانَ فالمَعْنى عِنْدَ الجَمِيعِ أنَّ فَرِيقًا خاصًّا مِنَ الكُفّارِ لا يُرْجى إيمانُهم وهُمُ الَّذِينَ خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وعَلى سَمْعِهِمْ ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ والمَقْصُودُ مِن ذَلِكَ أنَّ عَدَمَ اهْتِدائِهِمْ بِالقُرْآنِ كانَ لِعَدَمِ قابِلِيَّتِهِمْ لا لِنَقْصٍ في دَلالَةِ القُرْآنِ عَلى الخَيْرِ وهَدْيِهِ إلَيْهِ.
والكُفْرُ بِالضَّمِّ إخْفاءُ النِّعْمَةِ، وبِالفَتْحِ: السَّتْرُ مُطْلَقًا وهو مُشْتَقٌّ مِن كَفَرَ إذا سَتَرَ. ولَمّا كانَ إنْكارُ الخالِقِ أوْ إنْكارُ كَمالِهِ أوْ إنْكارُ ما جاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ ضَرْبًا مِن كُفْرانِ نِعْمَتِهِ عَلى جاحِدِها، أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الكُفْرِ وغَلَبَ اسْتِعْمالُهُ في هَذا المَعْنى وهو في الشَّرْعِ إنْكارُ ما دَلَّتْ عَلَيْهِ الأدِلَّةُ القاطِعَةُ وتَناقَلَتْهُ جَمِيعُ الشَّرائِعِ الصَّحِيحَةِ الماضِيَةِ حَتّى عَلِمَهُ البَشَرُ وتَوَجَّهَتْ عُقُولُهم إلى البَحْثِ عَنْهُ ونُصِبَتْ عَلَيْهِ الأدِلَّةُ كَوَحْدانِيَّةِ اللَّهِ تَعالى ووُجُودِهِ ولِذَلِكَ عُدَّ أهْلُ الشِّرْكِ فِيما بَيْنَ الفَتْرَةِ كُفّارًا. وإنْكارُ ما عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مَجِيءُ النَّبِيءِ مُحَمَّدٍ ﷺ بِهِ ودَعَوْتُهُ إلَيْهِ وعَدُّهُ في أُصُولِ الإسْلامِ أوِ المُكابَرَةِ في الِاعْتِرافِ بِذَلِكَ ولَوْ مَعَ اعْتِقادِ صِدْقِهِ ولِذَلِكَ عَبَّرَ بِالإنْكارِ دُونَ التَّكْذِيبِ.
ويَلْحَقُ بِالكُفْرِ في إجْراءِ أحْكامِ الكُفْرِ عَلَيْهِ كُلُّ قَوْلٍ أوْ فِعْلٍ لا يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ مُؤْمِنٌ مُصَدِّقٌ بِحَيْثُ يَدُلُّ عَلى قِلَّةِ اكْتِراثِ فاعِلِهِ بِالإيمانِ وعَلى إضْمارِهِ الطَّعْنَ في الدِّينِ وتَوَسُّلِهِ بِذَلِكَ إلى نَقْضِ أُصُولِهِ، وإهانَتِهِ بِوَجْهٍ لا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ الظّاهِرَ وفي هَذا النَّوْعِ الأخِيرِ مَجالٌ لِاجْتِهادِ الفُقَهاءِ وفَتاوى أساطِينِ العُلَماءِ إثْباتًا ونَفْيًا بِحَسَبِ مَبْلَغِ دَلالَةِ القَوْلِ والفِعْلِ عَلى طَعْنٍ أوْ شَكٍّ. ومَنِ اعْتَبَرَ الأعْمالَ أوْ بَعْضَها المُعَيَّنَ في الإيمانِ اعْتَبَرَ فَقْدَها أوْ فَقْدَ بَعْضِها المُعَيَّنَ في الكُفْرِ.
قالَ القاضِي أبُو بَكْرٍ الباقِلّانِيُّ: القَوْلُ عِنْدِي أنَّ الكُفْرَ بِاللَّهِ هو الجَهْلُ بِوُجُودِهِ والإيمانَ بِاللَّهِ هو العِلْمُ بِوُجُودِهِ فالكُفْرُ لا يَكُونُ إلّا بِأحَدِ ثَلاثَةِ أُمُورٍ: أحَدُها الجَهْلُ بِاللَّهِ تَعالى. الثّانِي أنْ يَأْتِيَ بِفِعْلٍ أوْ قَوْلٍ أخْبَرَ اللَّهُ ورَسُولُهُ أوْ أجْمَعَ المُؤْمِنُونَ عَلى أنَّهُ لا يَكُونُ إلّا مِن كافِرٍ كالسُّجُودِ لِلصَّنَمِ. الثّالِثُ: أنْ يَكُونَ لَهُ قَوْلٌ أوْ فِعْلٌ لا يُمْكِنُ مَعَهُ العِلْمُ بِاللَّهِ تَعالى.
ونَقَلَ ابْنُ راشِدٍ في الفائِقِ عَنِ الأشْعَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أنَّ الكُفْرَ خَصْلَةٌ واحِدَةٌ. قالَ القُرافِيُّ في الفِرَقِ ٢٤١ أصْلُ الكُفْرِ هو انْتِهاكٌ خاصٌّ لِحُرْمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ ويَكُونُ بِالجَهْلِ بِاللَّهِ وبِصِفاتِهِ أوْ بِالجُرْأةِ عَلَيْهِ وهَذا النَّوْعُ هو المَجالُ الصَّعْبُ لِأنَّ جَمِيعَ المَعاصِي جُرْأةٌ عَلى اللَّهِ.
وقَوْلُهُ ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمُ أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ خَبَرُ ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ و”سَواءٌ“ اسْمٌ بِمَعْنى الِاسْتِواءِ فَهو اسْمُ مَصْدَرٍ دَلَّ عَلى ذَلِكَ لُزُومُ إفْرادِهِ وتَذْكِيرِهِ مَعَ اخْتِلافِ مَوْصُوفاتِهِ ومُخْبِراتِهِ فَإذا أخْبَرَ بِهِ أوْ وصَفَ كانَ ذَلِكَ كالمَصْدَرِ في أنَّ المُرادَ بِهِ مَعْنى اسْمِ الفاعِلِ لِقَصْدِ المُبالَغَةِ. وقَدْ قِيلَ إنَّ سَواءٌ اسْمٌ بِمَعْنى المَثَلِ فَيَكُونُ التِزامُ إفْرادِهِ وتَذْكِيرِهِ لِأنَّ المِثْلِيَّةَ لا تَتَعَدَّدُ، وإنْ تَعَدَّدَ مَوْصُوفُها تَقُولُ هم رِجالٌ سَواءٌ لِزَيْدٍ بِمَعْنى مِثْلٌ لِزَيْدٍ. وإنَّما عَدّى سَواءً بِعَلى هُنا وفي غَيْرِ مَوْضِعٍ ولَمْ يُعَلِّقْ بِعِنْدَ ونَحْوِها مَعَ أنَّهُ المَقْصُودُ مِنَ الِاسْتِعْلاءِ في مِثْلِهِ، لِلْإشارَةِ إلى تَمَكُّنِ الِاسْتِواءِ عِنْدَ المُتَكَلِّمِ وأنَّهُ لا مَصْرِفَ لَهُ عَنْهُ ولا تَرَدُّدَ لَهُ فِيهِ فالمَعْنى سَواءٌ عِنْدَهُمُ الإنْذارُ وعَدَمُهُ.
واعْلَمْ أنَّ لِلْعَرَبِ في ”سَواءٍ“ اسْتِعْمالَيْنِ: أحَدُهُما أنْ يَأْتُوا بِسَواءٍ عَلى أصْلِ وضْعِهِ مِنَ الدَّلالَةِ عَلى مَعْنى التَّساوِي في وصْفٍ بَيْنَ مُتَعَدِّدٍ فَيَقَعُ مَعَهُ سَواءٌ ما يَدُلُّ عَلى مُتَعَدِّدٍ نَحْوَ ضَمِيرِ الجَمْعِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَهم فِيهِ سَواءٌ﴾ [النحل: ٧١] ونَحْوَ العَطْفِ في قَوْلِ بُثَيْنَةَ:
سَواءٌ عَلَيْنا يا جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ إذا مِتَّ بَأْساءُ الحَياةِ ولِينُها ويَجْرِي إعْرابُهُ عَلى ما يَقْتَضِيهِ مَوْقِعُهُ مِنَ التَّرْكِيبِ؛ وثانِيهُما أنْ يَقَعَ مَعَ هَمْزَةِ التَّسْوِيَةِ وما هي إلّا هَمْزَةُ اسْتِفْهامٍ كَثُرَ وُقُوعُها بَعْدَ كَلِمَةِ سَواءٍ ومَعَها أمِ العاطِفَةُ الَّتِي تُسَمّى المُتَّصِلَةُ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿سَواءٌ عَلَيْنا أجَزِعْنا أمْ صَبَرْنا﴾ [إبراهيم: ٢١] وهَذا أكَثَرُ اسْتِعْمالَيْها وتَرَدَّدَ النُّحاةُ في إعْرابِهِ وأظْهَرُ ما قالُوهُ وأسْلَمُهُ أنَّ (سَواءً) خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وأنَّ الفِعْلَ الواقِعَ بَعْدَهُ مُقْتَرِنًا بِالهَمْزَةِ في تَأْوِيلِ مُبْتَدَأٍ لِأنَّهُ صارَ بِمَنزِلَةِ المَصْدَرِ إذْ تَجَرَّدَ عَنِ النِّسْبَةِ وعَنِ الزَّمانِ، فالتَّقْدِيرُ في الآيَةِ سَواءٌ عَلَيْهِمْ إنْذارُكَ وعَدَمُهُ.
وأظْهَرُ عِنْدِي مِمّا قالُوهُ أنَّ المُبْتَدَأ بَعْدَ سَواءٍ مُقَدَّرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهامُ الواقِعُ مَعَهُ وأنَّ التَّقْدِيرَ سَواءٌ جَوابٌ ﴿أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ وهَذا يَجْرِي عَلى نَحْوِ قَوْلِ القائِلِ عَلِمْتُ أزْيَدٌ قائِمٌ إذْ تَقْدِيرُهُ عَلِمْتُ جَوابَ هَذا السُّؤالِ، ولَكَ أنْ تَجْعَلَ سَواءً مُبْتَدَأً رافِعًا لِفاعِلٍ سَدَّ مَسَدَّ الخَبَرِ لِأنَّ سَواءً في مَعْنى مُسْتَوٍ فَهو في قُوَّةِ اسْمِ الفاعِلِ فَيَرْفَعُ فاعِلًا سادًّا مَسَدَّ خَبَرِ المُبْتَدَأِ وجَوابُ مِثْلِ هَذا الِاسْتِفْهامِ لَمّا كانَ واحِدًا مِن أمْرَيْنِ كانَ الإخْبارُ بِاسْتِوائِهِما عِنْدَ المُخْبِرِ مُشِيرًا إلى أمْرَيْنِ مُتَساوِيَيْنِ ولِأجْلِ كَوْنِ الأصْلِ في خَبَرِهِ الإفْرادُ كانَ الفِعْلُ بَعْدَ سَواءٍ مُؤَوَّلًا بِمَصْدَرٍ ووَجْهُ الأبْلَغِيَّةِ فِيهِ أنَّ هَذَيْنِ الأمْرَيْنِ لِخَفاءِ الِاسْتِواءِ بَيْنَهُما حَتّى لَيَسْألَ السّائِلُونَ: أفَعَلَ فُلانٌ كَذا وكَذا فَيُقالُ إنَّ الأمْرَيْنِ سَواءٌ في عَدَمِ الِاكْتِراثِ بِهِما وعَدَمِ تَطَلُّبِ الجَوابِ عَلى الِاسْتِفْهامِ مِن أحَدِهِما فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمُ أأنْذَرْتَهُمُ﴾ مُشِيرًا إلى أنَّ النّاسَ لِتَعَجُّبِهِمْ في دَوامِ الكُفّارِ عَلى كُفْرِهِمْ مَعَ ما جاءَهم مِنَ الآياتِ بِحَيْثُ يَسْألُ السّائِلُونَ أأنْذَرَهُمُ النَّبِيُّ أمْ لَمْ يُنْذِرْهم مُتَيَقِّنِينَ أنَّهُ لَوْ أنْذَرَهم لَما تَرَدَّدُوا في الإيمانِ فَقِيلَ: إنَّهم سَواءٌ عَلَيْهِمْ جَوابُ تَساؤُلِ النّاسِ عَنْ إحْدى الأمْرَيْنِ، وبِهَذا انْتَفى جَمِيعُ التَّكَلُّفاتِ الَّتِي فَرَضَها النُّحاةُ هُنا ونَبْرَأُ مِمّا ورَدَ عَلَيْها مِنَ الأبْحاثِ كَكَوْنِ الهَمْزَةِ خارِجَةً عَنْ مَعْنى الِاسْتِفْهامِ، وكَيْفَ يَصِحُّ عَمَلَ ما بَعْدَ الِاسْتِفْهامِ فِيما قَبْلَهُ إذا أُعْرِبَ سَواءٌ خَبَرًا والفِعْلُ بَعْدَ الهَمْزَةِ مُبْتَدَأً مُجَرَّدًا عَنِ الزَّمانِ، وكَكَوْنِ الفِعْلِ مُرادًا مِنهُ مُجَرَّدُ الحَدَثِ، وكَدَعْوى كَوْنِ الهَمْزَةِ في التَّسْوِيَةِ مَجازًا بِعَلاقَةِ اللُّزُومِ، وكَوْنِ (أمْ) بِمَعْنى الواوِ لِيَكُونَ الكَلامُ لِشَيْئَيْنِ لا لِأحَدِ شَيْئَيْنِ ونَحْوُ ذَلِكَ، ولا نَحْتاجُ إلى تَكَلُّفِ الجَوابِ عَنِ الإيرادِ الَّذِي أُورِدَ عَلى جَعْلِ الهَمْزَةِ بِمَعْنى سَواءٍ إذْ يُؤَوَّلُ إلى مَعْنى اسْتَوى الإنْذارُ وعَدَمُهُ عِنْدَهم سَواءٌ فَيَكُونُ تَكْرارًا خالِيًا مِنَ الفائِدَةِ فَيُجابُ بِما نُقِلَ عَنْ صاحِبِ الكَشّافِ أنَّهُ قالَ مَعْناهُ أنَّ الإنْذارَ وعَدَمَهُ المُسْتَوِيَيْنِ في عِلْمِ المُخاطَبِ هُما مُسْتَوِيانِ في عَدَمِ النَّفْعِ، فاخْتَلَفَتْ جِهَةُ المُساواةِ كَما نَقَلَهُ التَّفْتَزانِيُّ في شَرْحِ الكَشّافِ.
ويَتَعَيَّنُ إعْرابُ سَواءٍ في مِثْلِهِ مُبْتَدَأً والخَبَرُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهامُ تَقْدِيرُهُ جَوابُ هَذا الِاسْتِفْهامِ فَسَواءٌ في الآيَةِ مُبْتَدَأٌ ثانٍ والجُمْلَةُ خَبَرٌ ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ودَعْ عَنْكَ كُلَّ ما خاضَ فِيهِ الكاتِبُونَ عَلى الكَشّافِ، وحَرْفُ (عَلى) الَّذِي يُلازِمُ كَلِمَةَ سَواءً غالِبًا هو لِلِاسْتِعْلاءِ المَجازِيِّ المُرادِ بِهِ التَّمَكُّنُ أيْ إنَّ هَذا الِاسْتِواءَ مُتَمَكِّنٌ مِنهم لا يَزُولُ عَنْ نُفُوسِهِمْ ولِذَلِكَ قَدْ يَجِيءُ بَعْضُ الظُّرُوفِ في مَوْضِعِ عَلى مَعَ كَلِمَةِ سَواءٍ مِثْلَ عِنْدَ، ولَدى، قالَ أبُو الشَّغْبِ العَبْسِيُّ:
    لا تَعْذِلِي في جُنْدُجٍ إنَّ جُنْدُجًاوَلَيْثَ كَفِرَّيْنٍ لَدَيَّ سَواءُ وسَيَأْتِي تَحْقِيقٌ لِنَظِيرِ هَذا التَّرْكِيبِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى في سُورَةِ الأعْرافِ ﴿سَواءٌ عَلَيْكم أدَعَوْتُمُوهم أمْ أنْتُمْ صامِتُونَ﴾ [الأعراف: ١٩٣]، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ ﴿أأنْذَرْتَهُمْ﴾ بِهَمْزَتَيْنِ أوَّلُهُما مُحَقَّقَةٌ والثّانِيَةُ مُسَهَّلَةٌ. وقَرَأ قالُونُ عَنْ نافِعٍ ووِرَشٍ عَنْهُ في رِوايَةِ البَغْدادِيِّينَ وأبُو عَمْرٍو وأبُو جَعْفَرٍ كَذَلِكَ مَعَ إدْخالِ ألِفٍ بَيْنَ الهَمْزَتَيْنِ، وكِلْتا القِراءَتَيْنِ لُغَةٌ حِجازِيَّةٌ. وقَرَأهُ حَمْزَةُ وعاصِمٌ والكِسائِيُّ بِتَحْقِيقِ الهَمْزَتَيْنِ وهي لُغَةُ تَمِيمٍ. ورَوى أهْلُ مِصْرَ عَنْ ورْشٍ إبْدالَ الهَمْزَةِ الثّانِيَةِ ألِفًا. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وهو لَحْنٌ، وهَذا يُضَعِّفُ رِوايَةَ المِصْرِيِّينَ عَنْ ورْشٍ، وهَذا اخْتِلافٌ في كَيْفِيَّةِ الأداءِ فَلا يُنافِي التَّواتُرَ.
* * *
﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾
الأظْهَرُ أنَّ هاتِهِ الجُمْلَةَ مَسُوقَةٌ لِتَقْرِيرِ مَعْنى الجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَها وهي ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمُ أأنْذَرْتَهُمْ﴾ إلَخْ فَلَكَ أنْ تَجْعَلَها خَبَرًا ثانِيًا عَنْ ”إنَّ“ واسْتِفادَةُ التَّأْكِيدِ مِنَ السِّياقِ ولَكَ أنْ تَجْعَلَها تَأْكِيدًا وعَلى الوَجْهَيْنِ فَقَدْ فُصِّلَتْ إمّا جَوازًا عَلى الأوَّلِ وإمّا وُجُوبًا عَلى الثّانِي، وقَدْ فَرَضُوا في إعْرابِها وُجُوهًا أُخَرَ لا نُكْثِرُ بِها لِضَعْفِها، وقَدْ جَوَّزَ في الكَشّافِ جَعْلَ جُمْلَةِ ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمُ أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ اعْتِراضًا لِجُمْلَةِ ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾ وهو مَرْجُوحٌ لَمْ يَرْتَضِهِ السَّعْدُ والسَّيِّدُ، إذْ لَيْسَ مَحَلَّ الإخْبارِ هو لا يُؤْمِنُونَ إنَّما المُهِمُّ أنْ يُخْبِرَ عَنْهم بِاسْتِواءِ الإنْذارِ وعَدَمِهِ عِنْدَهم، فَإنَّ في ذَلِكَ نِداءً عَلى مُكابَرَتِهِمْ وغَباوَتِهِمْ، وعُذْرًا لِلنَّبِيِّ ﷺ في الحِرْصِ عَلى إيمانِهِمْ، وتَسْجِيلًا بِأنَّ مَن لَمْ يَفْتَحْ سَمْعَهُ وقَلْبَهُ لِتَلَقِّي الحَقِّ والرَّشادِ لا يَنْفَعُ فِيهِ حِرْصٌ ولا ارْتِيادٌ، وهَذا وإنْ كانَ يَحْصُلُ عَلى تَقْدِيرِهِ جَعْلَ ”لا يُؤْمِنُونَ“ خَبَرًا إلّا أنَّ المَقْصُودَ مِنَ الكَلامِ هو الأوْلى بِالإخْبارِ، ولِأنَّهُ يَصِيرُ الخَبَرُ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ إذْ يَصِيرُ بِمَثابَةِ أنْ يُقالَ إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لا يُؤْمِنُونَ، فَقَدْ عُلِمَ أنَّهم كَفَرُوا فَعَدَمُ إيمانِهِمْ حاصِلٌ، وإنْ كانَ المُرادُ مِن لا يُؤْمِنُونَ اسْتِمْرارُ الكُفْرِ في المُسْتَقْبَلِ إلّا أنَّهُ خَبَرٌ غَرِيبٌ بِخِلافِ ما إذا جُعِلَ تَفْسِيرًا لِلْخَبَرِ.
وقَدِ احْتَجَّ بِهاتِهِ الآيَةِ الَّذِينَ قالُوا بِوُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِما لا يُطاقُ احْتِجاجًا عَلى الجُمْلَةِ إذْ مَسْألَةُ التَّكْلِيفِ بِما لا يُطاقُ بَقِيَتْ زَمانًا غَيْرَ مُحَرَّرَةٍ، وكانَ كُلُّ مَن لاحَ لَهُ فِيها دَلِيلٌ اسْتَدَلَّ بِهِ، وكانَ التَّعْبِيرُ عَنْها بِعِباراتٍ فَمِنهم مَن يُعَنْوِنُها التَّكْلِيفَ بِالمُحالِ، ومِنهم مَن يُعَبِّرُ بِالتَّكْلِيفِ بِما لَيْسَ بِمَقْدُورٍ، ومِنهم مَن يُعَبِّرُ بِالتَّكْلِيفِ بِما لا يُطاقُ، ثُمَّ إنَّهم يَنْظُرُونَ مَرَّةً لِلِاسْتِحالَةِ الذّاتِيَّةِ العَقْلِيَّةِ، ومَرَّةً لِلذّاتِيَّةِ العادِيَّةِ، ومَرَّةً لِلْعَرَضِيَّةِ، ومَرَّةً لِلْمَشَقَّةِ القَوِيَّةِ المُحْرِجَةِ لِلْمُكَلَّفِ فَيَخْلِطُونَها بِما لا يُطاقُ ولَقَدْ أفْصَحَ أبُو حامِدٍ الإسْفَرايِينِيُّ وأبُو حامِدٍ الغَزالِيُّ وأضْرابُهُما عَمّا يَرْفَعُ القِناعَ عَنْ وجْهِ المَسْألَةِ فَصارَتْ لا تُحَيِّرُ أفْهامًا وانْقَلَبَ قَتادُها ثُمامًا. وذَلِكَ أنَّ المُحالَ مِنهُ مُحالٌ لِذاتِهِ عَقْلًا كَجَمْعِ النَّقِيضَيْنِ ومِنهُ مُحالٌ عادَةً كَصُعُودِ السَّماءِ ومِنهُ ما فِيهِ حَرَجٌ وإعْناتٌ كَذَبْحِ المَرْءِ ولَدَهُ ووُقُوفِ الواحِدِ لِعَشَرَةٍ مِن أقْرانِهِ، ومِنهُ مَحالٌ عَرَضَتْ لَهُ الِاسْتِحالَةُ بِالنَّظَرِ إلى شَيْءٍ آخَرَ كَإيمانِ مَن عَلِمَ اللَّهُ عَدَمَ إيمانِهِ وحَجِّ مَن عَلِمَ اللَّهُ أنَّهُ لا يَحُجُّ، وكُلَّ هاتِهِ أُطْلِقَ عَلَيْها ما لا يُطاقُ كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿ولا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ﴾ [البقرة: ٢٨٦] إذِ المُرادُ ما يَشُقُّ مَشَقَّةً عَظِيمَةً، وأُطْلِقَ عَلَيْها المُحالُ حَقِيقَةً ومُطابَقَةً في بَعْضِها والتِزامًا في البَعْضِ، ومَجازًا في البَعْضِ، وأُطْلِقَ عَلَيْها عَدَمُ المَقْدُورِ كَذَلِكَ، كَما أُطْلِقَ الجَوازُ عَلى الإمْكانِ، وعَلى الإمْكانِ لِلْحِكْمَةِ، وعَلى الوُقُوعِ.
فَنَشَأ مِن تَفاوُتِ هاتِهِ الأقْسامِ واخْتِلافِ هاتِهِ الإطْلاقاتِ مَقالاتٌ مَلَأتِ الفَضاءَ.
وكانَتْ لِلْمُخالِفِينَ كَحَجَرِ المَضاءِ، فَلَمّا قَيَّضَ اللَّهُ أعْلامًا نَفَوْا ما شاكَها، وفَتَحُوا أغْلاقَها، تَبَيَّنَ أنَّ الجَوازَ الإمْكانِيَّ في الجَمِيعِ ثابِتٌ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى يَفْعَلُ ما يَشاءُ لَوْ شاءَ، لا يُخالِفُ في ذَلِكَ مُسْلِمٌ. وثَبَتَ أنَّ الجَوازَ المُلائِمَ لِلْحِكْمَةِ مُنْتَفٍ عِنْدَنا وعِنْدَ المُعْتَزِلَةِ وإنِ اخْتَلَفْنا في تَفْسِيرِ الحِكْمَةِ لِاتِّفاقِ الكُلِّ عَلى أنَّ فائِدَةَ التَّكْلِيفِ تَنْعَدِمُ إذا كانَ المُكَلَّفُ بِهِ مُتَعَذَّرَ الوُقُوعِ.
وثَبَتَ أنَّ المُمْتَنِعَ لِتَعَلُّقِ العِلْمِ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ مُكَلَّفٌ بِهِ جَوازًا ووُقُوعًا، وجُلُّ التَّكالِيفِ لا تَخْلُو مِن ذَلِكَ، وثَبَتَ ما هو أخَصُّ وهو رَفْعُ الحَرَجِ الخارِجِيِّ عَنِ الحَدِّ المُتَعارَفِ، تُفَضُّلًا مِنَ اللَّهِ تَعالى لِقَوْلِهِ ﴿وما جَعَلَ عَلَيْكم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ﴾ [الحج: ٧٨] وقَوْلِهِ ﴿عَلِمَ أنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ﴾ [المزمل: ٢٠] أيْ لا تُطِيقُونَهُ كَما أشارَ إلَيْهِ ابْنُ العَرَبِيِّ في الأحْكامِ، هَذا مِلاكُ هاتِهِ المَسْألَةِ عَلى وجْهٍ يَلْتَئِمُ بِهِ مُتَناثِرُها، ويُسْتَأْنَسُ مُتَنافِرُها.
وبَقِيَ أنْ نُبَيِّنَ لَكم وجْهَ تَعَلُّقِ التَّكْلِيفِ بِمَن عَلِمَ اللَّهُ عَدَمَ امْتِثالِهِ أوْ بِمَن أخْبَرَ اللَّهُ تَعالى بِأنَّهُ لا يَمْتَثِلُ كَما في هاتِهِ الآيَةِ، وهي أخَصُّ مِن مَسْألَةِ العِلْمِ بِعَدَمِ الوُقُوعِ إذْ قَدِ انْضَمَّ الإخْبارُ إلى العِلْمِ كَما هو وجْهُ اسْتِدْلالِ المُسْتَدِلِّ بِها، فالجَوابُ أنَّ مَن عَلِمَ اللَّهُ عَدَمَ فِعْلِهِ لَمْ يُكَلِّفْهُ بِخُصُوصِهِ ولا وجَّهَ لَهُ دَعْوَةً تَخُصُّهُ إذْ لَمْ يَثْبُتْ أنَّ النَّبِيءَ ﷺ خَصَّ أفْرادًا بِالدَّعْوَةِ إلّا وقَدْ آمَنُوا كَما خَصَّ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ حِينَ جاءَهُ، بِقَوْلِهِ أما آنَ لَكَ يا ابْنَ الخَطّابِ أنْ تَقُولَ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وقَوْلِهِ لِأبِي سُفْيانَ يَوْمَ الفَتْحِ قَرِيبًا مِن تِلْكُمُ المَقالَةِ، وخَصَّ عَمَّهُ أبا طالِبٍ بِمِثْلِها، ولَمْ تَكُنْ يَوْمَئِذٍ قَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، فَلَمّا كانَتِ الدَّعْوَةُ عامَّةً وهم شَمِلَهُمُ العُمُومُ بَطُلَ الِاسْتِدْلالُ بِالآيَةِ وبِالدَّلِيلِ العَقْلِيِّ، فَلَمْ يَبْقَ إلّا أنْ يُقالَ لِماذا لَمْ يُخَصَّصْ مَن عُلِمَ عَدَمُ امْتِثالِهِ مِن عُمُومِ الدَّعْوَةِ ؟ ودَفْعُ ذَلِكَ أنَّ تَخْصِيصَ هَؤُلاءِ يُطِيلُ الشَّرِيعَةَ ويُجَرِّئُ غَيْرَهم ويُضْعِفُ إقامَةَ الحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، ويُوهِمُ عَدَمَ عُمُومِ الرِّسالَةِ، عَلى أنَّ اللَّهَ تَعالى قَدِ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ الفَصْلَ بَيْنَ ما في قَدَرِهِ وعِلْمِهِ، وبَيْنَ ما يَقْتَضِيهِ التَّشْرِيعُ والتَّكْلِيفُ، وسِرُّ الحِكْمَةِ في ذَلِكَ بَيَّناهُ في مَواضِعَ يَطُولُ الكَلامُ بِجَلْبِها ويَخْرُجُ مِن غَرَضِ التَّفْسِيرِ، وأحْسَبُ أنَّ تَفَطُّنَكم إلى مُجْمَلِهِ لَيْسَ بِعَسِيرٍ.






التفسير البسيط — الواحدي (٤٦٨ هـ)


﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ سَوَاۤءٌ عَلَیۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ﴾ [البقرة ٦]
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُوا﴾ الآية. ﴿إِنَّ﴾ الثقيلة تكون منصوبة الألف وتكون مكسورة الألف. فإذا(١) كانت مبتدأة ليس قبلها شيء تعتمد(٢) عليه، أو جاءت بعدها (لام) مؤكدة يعتمد عليه(٣) أو جاءت بعد القول وما تصرف(٤) منه، وكانت حكاية: كسرت الألف، وفيما سوى ذلك تنصب(٥). ومعناها في الكلام: التوكيد، وهي التي تنصب الأسماء وترفع الأخبار، وإنما نصبت ورفعت، لأنها تشبه بالفعل، وشبهها أنها لا تلي الأفعال ولا تعمل فيها، وأنها يذكر بعدها الاسم والخبر، كما يذكر بعد الفعل الفاعل والمفعول، إلا أنه قدم المفعول فيها ليفصل بين ما يشبه بالفعل وليس لفظه لفظ الفعل(٦)، وبين ما يشبه بالفعل ولفظه لفظ الفعل، نحو (كان) وبابه(٧).
وقوله تعالى: ﴿كَفَرُوا﴾ معنى الكفر في اللغة: التغطية.
أقرأني أحمد بن محمد بن عبد الله بن يوسف العروضي(٨) -رحمه الله- قال: أخبرني الأزهري، عن المنذري، عن الحراني، عن ابن السكيت قال: إذا لبس الرجل فوق درعه ثوباً فهو كافر، وقد كفر فوق درعه، وكل ما غطى شيئاً فقد كفره. ومنه قيل لليل: كافر، لأنه ستر بظلمته وغطى، وأنشد لثعلبة بن صُعَير المازني(٩):
فتذكّرا ثَقَلًا رثيداً بعدما ... ألقت ذكاءُ يمينَها في كافرِ(١٠)
أي: الليل.
ومنه يسمى الكافر كافراً، لأنه ستر نعم الله.
ويقال: رماد مكفور، أي: سَفَت عليه الريح التراب حتى وارته، قال الراجز:
قد درسَتْ(١١) غير رمادٍ مكفورْ ... مكتئبِ اللون مَريحٍ ممطورْ(١٢)
وقال آخر(١٣):
فوردَتْ قبلَ انبلاجِ(١٤) الفَجْرِ ... وابنُ ذُكاءٍ كامنٌ فى كَفْرِ(١٥)
أي: فيما يواريه من سواد الليل، وقد كفر الرجل متاعه [أي:](١٦) أوعاه في وعاء(١٧).
وقال ابن المظفر(١٨): سمي الكافر: كافراً، لأن الكفر غطى قلبه كله.
قال الأزهري: وهذا يحتاج إلى إيضاح. وهو: أن (الكفر) في اللغة:
التغطية، فالكافر معناه: ذو الكفر، ذو تغطية لقلبه بكفره، كما يقال للابس السلاح: كافر، وهو الذي غطاه السلاح. ومثله: رجل كاس أي: ذو كسوة، وناعل: ذو نعل(١٩).
وقول ابن(٢٠) السكيت في معنى الكافر أبين وأصح(٢١). والنعمة التي أنعم الله على العبد فكفرها(٢٢) الكافر، أي: سترها، هي الهدى والآيات التي أبانت لذوي التمييز أن الله واحد لا شريك له، فمن لم يصدق بها وردها فقد كفر النعمة، أي: سترها وغطاها.
ويجوز أن يقال: إن الكافر لما دعاه الله إلى توحيده فقد دعاه إلى نعمة أوجبها له إذا أجابه إلى ما دعاه إليه، فإذا لم(٢٣) يجب كان كافرا لتلك النعمة، أي: مغطيا لها، مكذبًا بها، حاجبا لها عنه(٢٤).
قال شمر: قال بعض أهل العربية(٢٥): الكفر على أربعة أنحاء: كفر إنكار، وكفر جحود، وكفر معاندة، وكفر نفاق، من لقي ربه بشيء من ذلك لم يغفر له.
فأما كفر الإنكار: فهو أن يكفر بقلبه ولسانه ولا يعرف ما يذكر له من التوحيد.
وكذلك روي في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ﴾ [البقرة: 6]، أي: الذين كفروا بتوحيد الله.
وأما كفر الجحود: فأن يعرف بقلبه ولا يقر بلسانه، فهذا كافر جاحد ككفر إبليس، وكفر أمية بن أبي الصلت(٢٦)، ومنه قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾ [البقرة: 89]، يعني: كفر الجحود. وأما كفر المعاندة: فهو أن يعرف بقلبه ويقر بلسانه، ويأبى أن يقبل، ككفر أبي طالب حيث يقول:
ولقد علمتُ بأنّ(٢٧) دين محمد ... من خير أديان البرية دينا(٢٨)
لولا الملامةُ أو حِذارُ مسَبّةٍ ... لوجدتَني سمحاً(٢٩) بذاك متينا(٣٠) وأما كفر النفاق: فأن يقر بلسانه ويكفر بقلبه.
قال(٣١): والكفر -أيضا- يكون بمعنى: البراءة، كقول الله عز وجل خبرًا عن الشيطان ﴿إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ﴾ [إبراهيم: 22]، أي تبرأت(٣٢). ويقال: كفر كفراً وكفوراً، كما يقال: شكر شكراً وشكوراً(٣٣) قال الله تعالى: ﴿فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا﴾ [الإسراء:89].
وقوله تعالى: ﴿سَوَآءُ عَلَيهِم﴾. السواء(٣٤)، والعدل، والوسط، والقصد، والنصف: ألفاظ متقاربة في المعنى. يقال للعدل: السواء، قال زهير(٣٥).
أرُوني(٣٦) خُطَّةً لا خَسْفَ فيها ... يُسَوِّي(٣٧) بيننا فيها السَّوَاءُ(٣٨) وأنشد أبو زيد لعنترة(٣٩):
أبَينا فلا نُعطي السَّواءَ عدوَّنا ... قيامًا بأعضاد السَّراءِ المُعَطَّفِ(٤٠)
و (السواء): وسط الشيء، ومنه قوله: ﴿فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ﴾(٤١) [الصافات: 55].
و (سواء) مأخوذ من الاستواء والتساوي، وهو الاعتدال(٤٢)، قال الشاعر:
وليلٍ يقولُ المرءُ من ظلماته ... سواءٌ صحيحاتُ العيونِ وعُورُها(٤٣)
أي: معتدلة في البصر والإدراك.
وقالوا: سِيٌّ بمعنى: سواء، كما قالوا: قِيّ وقَواء(٤٤)، ولا يثنى (سواء) كما ثني (سيان) وإن كانوا قد جمعوه جمع التكسير في قولهم: (سواسية)(٤٥).
قال أبو الهيثم(٤٦): يقال فلان وفلان سواء(٤٧)، أي: متساويان، وقوم سواء، لأنه مصدر، لا يثنى ولا يجمع. قال الله عز وجل: ﴿لَيسُواْ سَوَآء﴾ [آل عمران: 113] أي: ليسوا مستوين(٤٨)، وإذا قلت: سواء عليّ، احتجت أن تترجم عنه بشيئين، كقولك: سواء حرمتني أو أعطيتني.
وحكى السكري عن أبي حاتم إجازة تثنية (سواء)(٤٩).
قال أبو علي الفارسي: لم يصب ابن(٥٠) السجستاني في ذلك، لأن الأخفش وأبا عمر الجرمي(٥١) زعما(٥٢) أن ذلك لا يثنى، كأنهم استغنوا بتثنية (سي)(٥٣) عن تثنية (سواء)، كما استغنوا عن (ودع)، بـ (ترك)(٥٤). وأنشد أبو زيد: هلاّ،(٥٥) كوصل ابن عمّارٍ تُواصلني ... ليس الرجالُ وإن سُوُّوا بأسواءِ(٥٦)
فـ (أسواء): ليس يخلو من(٥٧) أن يكون جمع (سي) [أو (سواء) فإن كان جمع (سي)](٥٨) فهو كـ (مثل) و (أمثال) و (نقض) و (أنقاض)، وإن كان جمع (سواء) فهو كقولهم في النعت(٥٩): جواد وأجواد، وفي الاسم: حياء الناقة وأحياء، ولا يمتنع جمعه، وإن كانوا لم يثنوه كما لم يمتنعوا من جمعه على سواسية(٦٠).
وقوله تعالى: ﴿ءَأَنذَرتَهُم﴾(٦١). الإنذار: إعلام مع تخويف، فكل منذر معلم، وليس كل معلم منذراً(٦٢). وأنذرت يتعدى إلى مفعولين كقوله تعالى: ﴿فَقُل أَنذَرتُكُم صعِقَةً﴾ [فصلت: 13] وقوله: ﴿إِنَّا أَنذَرناكم عَذَابًا قَرِيبًا﴾ [النبأ: 40] ويقال: أنذرتُه فنَذِرَ، أي: علم بموضع الخوف(٦٣).
و (النذر) ما يجعله الإنسان على نفسه إن سلم مما يخافه(٦٤).
وقد جاء: النذير والنذر مصدرين كالإنذار(٦٥)، فجاء المصدر على: (فعيل) و (فعل). وفي القرآن ﴿فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾(٦٦) وفيه ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ [القمر: 16]. وقيل في قوله: ﴿نَذِيَرًا لِلْبَشَرِ﴾ [المدثر: 36]: إنه مصدر في موضع الحال من قوله: ﴿إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ﴾ [المدثر: 35]، كما تقول(٦٧): جاء(٦٨) ركضاً. فتجعل المصدر حالاً(٦٩).
وجعل (نذير) أيضًا مصدراً في قوله: ﴿وَجَآءكُمُ اَلنذِير﴾ [فاطر: 37] إذا فسر بأنه الشيب(٧٠).
وفي قوله: ﴿ءَأَنذَرتَهُم﴾ وجهان من القراءة(٧١) تحقيق الهمزتين، وتليين الثانية(٧٢).
فمن حققهما(٧٣) فحجته(٧٤): أن الهمزة حرف من حروف الحلق، فجاز أن يجتمع مع مثله كسائر الحروف الحلقية، نحو: فَهَّ(٧٥) وفَهِهْتُ، وكَعَّ(٧٦) وكَعَعْتُ، كذلك حكم الهمزة.
ومما يقوّي ذلك قولهم: (رَأّس)(٧٧) وسأّل، (تذأَّبت الريح)(٧٨)، و (رأيت(٧٩) الرجل). وكما جمع الجميع بينهما إذا كانتا عينين، كذلك يجوز الجمع بينهما في غير هذا الموضع(٨٠).
وحجة من خفف(٨١) الثانية: أن القرب قد رفضت جمعهما(٨٢) في مواضع من كلامهم، من ذلك أنهما(٨٣) لما اجتمعتا في (آدم) و (آدر) و (آخر) ألزموا جميعا الثانية البدل(٨٤) ولم يحققوها.
ولما كسروا وحقروا جعلوا هذه المبدلة بمنزلة مالا أصل له في الهمزة فقالوا: أواخر وأويخر(٨٥)، فأبدلوا منها (الواو)، كما أبدلوها مما هو ألفط لا يناسب(٨٦) الهمزة، نحو: ضوارب وضويرب، وفي هذا دلالة بينة على رفضهم اجتماعهما.
ألا تراهم لم يرجعوها(٨٧) في التحقير والتكسير، كما رجعوا (الواو) في: ميقات وميعاد(٨٨)، و (الياء) في: موسر(٨٩)، في قولهم: مواقيت ومياسير، وفي ذلك دلالة بينة على رفضهم لجمعها(٩٠).
ومن ذلك أيضا أنا لم نجد كلمة عينها همزة ولامها كذلك، كما وجدنا في سائر أخوات الهمزة من الحلقية كقولهم: مهاه(٩١)، فهّ(٩٢)، و ﴿يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴾ [الماعون: 2]، و (مح)(٩٣) و (ألح) و (مخ)(٩٤). فإذا لم يجمعوا بين الهمزتين في المواضع(٩٥) التي جمع فيها بين أخواتها(٩٦)، دل ذلك على رفضهم(٩٧) لجمعها(٩٨).
ومن ذلك(٩٩) أنهم ألزموا باب (رزيئة) و (خطيئة)(١٠٠) القلب(١٠١) في الجمع، لما يؤدي اجتماع الهمزتين، فقالوا: (خطايا) و (رزايا)(١٠٢)، فلو كان لاجتماعهما عندهم مساغ ما رفضوا ذلك الأصل، كما أنه لو كان لتحرك العينات في نحو: (قال) و (باع) مجاز، ما ألزموها القلب(١٠٣). فإن قيل: فقد حكى عن بعضهم: (خطائئ) بتحقيق الهمزتين(١٠٤)؟
قيل: هذا يجري مجرى الأصول المرفوضة(١٠٥) نحو:
............. ضننوا(١٠٦)
........... والأظلل(١٠٧)
ولا يعتد بذلك(١٠٨).
ومن ذلك أيضا أنهم إذا بنوا اسم فاعل من(١٠٩) (ناء) و (شاء) [و (جاء)(١١٠) قالوا: (شاءٍ)(١١١) و (ناءٍ)(١١٢)، فرفضوا الجمع بينهما ورفضوه في هذا الطرف كما رفضوه أولا في: (آدم) و (آخر)(١١٣).
ومن ذلك أيضًا أن من قال: هذا فرجّ، وهو يجعلّ، فضاعف(١١٤) في الوقف حرصاً على البيان، في يضاعف نحو: (البناء)(١١٥)، و (الرشاء)، لكنه رفض(١١٦) هذا الضرب(١١٧) من الوقف، وما كان يحرص عليه من البيان لما كان يلزمه الأخذ بما تركوه، والاستعمال لما رفضوه من اجتماع الهمزتين(١١٨).
وإذا كان الأمر على هذا(١١٩)، فالجمع في: ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ﴾(١٢٠) أقبح من الجمع في كلمتين منفصلتين، نحو: قرأ أبوك، ورشاء أخيك، لأن الهمزة الأولى من ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ﴾ تنزل منزلة ما هو من الكلمة نفسها، لكونها على حرف مفرد(١٢١)، ألا ترى أنهم قالوا(١٢٢): لهو ولهي، فخففوا كما خففوا: عضدا(١٢٣)، فكذلك الهمزة الأولى، لما لم تنفصل من الكلمة صارت بمنزلة التي في آخر(١٢٤).
فأما إذا كانتا(١٢٥) من كلمتين، فاجتماعهما في القياس أحسن من هذا(١٢٦)، ألا ترى أن المثلين إذا كانا في كلمة نحو: يرد ويعض، لا يكون فيها(١٢٧) إلا الإدغام.
ولو كانا منفصلين نحو: (يد داود)، لكنت(١٢٨) في الإدغام والبيان بالخيار. فعلى هذا تحقيق الهمزتين في: ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ﴾(١٢٩) -وما أشبهه- أبعد منه في الكلمتين المنفصلتين.
ومما يقوي ترك الجمع بين الهمزتين: أنهم قالوا في جمع (ذؤابة): ذوائب، فأبدلوا(١٣٠) من الهمزة التي هي عين(١٣١) (واوا) في التكسير كراهة للهمزتين مع فصل حرف بينهما. فإذا كرهوهما مع فصل حرف بينهما حتى أبدلوا الأولى منهما، فأن(١٣٢) يكرهوهما غير مفصول بينهما بشيء أجدر(١٣٣).
وأيضاً فإنهم كرهوا(١٣٤) الهمزة المفردة حتى قلبوها أو حذفوها، وذلك إجماعهم(١٣٥) في(١٣٦) (يرى)(١٣٧) على حذف الهمزة(١٣٨)، فلما كرهوا ذلك في الإفراد وجب أن لا يجوز في المتكرر(١٣٩) إلا التغيير.
وإذا كان الجمع بينهما في [البعد على هذا، فالجمع بينهما في](١٤٠): (أئمة)(١٤١) أبعد، لأن الهمزتين لا تفارقان الكلمة(١٤٢)، وهمزة الاستفهام قد تسقط في الإخبار وغيره، فلما كانت أشد لزومًا للكلمة كان التحقيق فيها أبعد(١٤٣).
وأما أبو عمرو فكان يلين الثانية ويجعل بينهما مدة(١٤٤). وحجته: أنه وإن خفف الثانية بأن جعلها بين الألف والهمز، فذلك لا يخرجها عن أن تكون همزة متحركة، وإن كان الصوت بها أضعف؛ ألا ترى أنها إذا كانت مخففة في الوزن مثلها إذا كانت محققة(١٤٥)، فلولا ذلك لم يتزن(١٤٦) قوله(١٤٧):
.... آأنتَ(١٤٨) زيد الأراقم(١٤٩) لأنه يجتمع(١٥٠) ثلاث سواكن، وإذا كان كذلك فتجعل(١٥١) بينهما (مدة)، لئلا تكون جامعاً بين الهمزتين.
وقوله تعالى: ﴿ءَأَنذَرتَهُم﴾: لفظه لفظ الاستفهام(١٥٢)، ومعناه الخبر، ومثل ذلك قولك: ما أبالي(١٥٣) أشهدت أم غبت، وما أدري أأقبلت(١٥٤) أم أدبرت.
وإنما جرى عليه لفظ الاستفهام وإن كان خبرا، لأن فيه التسوية التي في الاستفهام، ألا ترى أنك إذا استفهمت فقلت: أخرج زيد أم أقام؟ فقد استوى الأمران عندك في الاستفهام، وعدم علم أحدهما بعينه، كما أنك(١٥٥) إذا أخبرت(١٥٦) فقلت. سواء عليّ أقعدت أم قمت، فقد سويت الأمرين عليك، فلما عمتهما التسوية، جرى على هذا الخبر لفظ الاستفهام، لمشاركته له في الإبهام، فكل استفهام تسوية، وإن لم يكن كل تسوية استفهاما(١٥٧).
وحرر أبو إسحاق هذا الفصل فقال(١٥٨): إنما(١٥٩) دخلت ألف الاستفهام وأم التي هي للاستفهام(١٦٠)، والكلام خبر، لمعنى التسوية، والتسوية آلتها(١٦١) الاستفهام وأم. تقول من ذلك(١٦٢): أزيد في الدار أم عمرو؟ فإنما دخلت الألف وأم، لأن علمك(١٦٣) قد استوى في زيد وعمرو، وقد علمت أن أحدهما في الدار لا محالة، ولكنك استدعيت(١٦٤) أن يبين(١٦٥) لك الذي علمت ويلخص(١٦٦) لك علمه من غيره، ولهذا تقول(١٦٧). قد علمت أزيد في الدار أم عمرو، وإنما تريد أن تسوي عند من تخبره العام الذي قد خلص عندك(١٦٨).
ولا يجوز هاهنا (أو) مكان (أم) لأن (أم) للتسوية بين الشيئين، و (أو) إنما هي لأحد شيئين(١٦٩)، يدلك(١٧٠) على هذا أن (أم)(١٧١) تكون مع الألف بتأويل (أي) فإذا قلت: أزيد عندك أم عمرو؟ فكأنك قلت: أيهما(١٧٢) عندك، [وإذا قلت: أزيد عندك أو عمرو؟ لم يكن على معنى: أيهما عندك(١٧٣)، هذا اختلاف الجواب، لأنك إذا قلت: أزيد عندك أم عمرو؟ فجوابه: زيد أو عمرو(١٧٤)، وكذلك في (أي) جوابه أن يذكر أحد الاسمين بعينه، فأما إذا قلت: أزيد عندك أو عمرو؟ فجوابه: نعم أو لا، فهذا فرق بينهما واضح(١٧٥).
ومثل هذه الآية قوله(١٧٦): ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ [المنافقون: 6]، وقوله: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا﴾ [إبراهيم: 21]
و ﴿سَوَاءٌ﴾ في الآية رفع بالابتداء، ويقوم ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ مقام الخبر في المعنى، كأنه بمنزلة قولك: (سواء عليهم الإنذار وتركه) لا في الإعراب، لأنك إذا قدرت هذا التقدير في الإعراب صار ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ﴾ خبراً مقدَّمًا(١٧٧).
والجملة في موضع رفع، بأنها(١٧٨) خبر ﴿إن﴾(١٧٩).
ويجوز أن يكون خبر ﴿إن﴾ قوله: ﴿لَا يؤْمِنُونَ﴾ كأنه قيل: (إن الذين كفروا لا يؤمنون سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم). فيكون قوله: ﴿سَوَآءٌ عَلَيهمءَأَنذَرتَهُم﴾ جملة معترضة بين الاسم والخبر، وجاز ذلك، لأنه تأكيد لامتناعهم عن الإيمان(١٨٠)، ولو كان كلاماً أجنبياً لم يجز اعتراضه بينهما، وسترى لهذا(١٨١) نظائر.
ومعنى: ﴿سَوَآءٌ عَلَيْهِم﴾ أي: معتدل متساو، و ﴿سَوَآءٌ﴾ اسم مشتق من التساوي. يقول: هما عندي سواء، ومنه قوله ﴿فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ﴾ [الأنفال: 58]، يعني: أعلمهم(١٨٢) حتى يستوي علمك وعلمهم(١٨٣). و ﴿سَوَآءٌ اَلْجَحِيمِ﴾ [الصافات:55] وسطه، لاستواء مقادير نواحيه إليه.
وقول القائل: (سواك وسواءك)(١٨٤) أي(١٨٥): من هو في مكانك بدلا منك لاستوائه(١٨٦) في مكانك.
قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في اليهود الذين كانوا بنواحي المدينة(١٨٧) على عهد رسول الله ﷺ. وهذا القول اختيار ابن جرير، قال: لأن الله تعالى إنما ذكر هؤلاء عقيب مؤمني أهل الكتاب، فذكر بعد مؤمنيهم كافريهم، والكلام بعضه لبعض تبع(١٨٨).
وقال الضحاك: نزلت في أبي جهل وخمسة(١٨٩) من أهل بيته(١٩٠).
وقال الربيع: نزلت في قادة الأحزاب يوم بدر(١٩١)، وكذلك الآية التي بعدها.
قال أبو العالية: لم يسلم منهم إلا رجلان، وكانا مغموصاً عليهما في دينهما(١٩٢)، أحدهما: أبو سفيان(١٩٣)، والأخر: الحكم بن أبي العاص(١٩٤). ثم ذكر الله تعالى سبب تركهم الإيمان فقال:

(١) في (ب): (وإذا).
(٢) في (ب)، (ج): (يعتمد) وهو موافق لـ"تهذيب اللغة" 1/ 222، والكلام منقول منه.
(٣) (عليه) في جميع النسخ. وفي "تهذيب اللغة" (عليها) 1/ 222.
(٤) في (ب): (يصرف).
(٥) في (ب). (ينصب) وفي "تهذيب اللغة" (تنصب الألف).
والكلام بنصه ذكره الأزهري عن الليث عن الخليل، سوى قوله: أو جاءت بعد القول فذكره عن الفراء. "تهذيب اللغة" (أن) 1/ 222، وانظر مواضع فتح وكسر همزة (إن) في "الكتاب" 3/ 134 وما بعدها، "الأصول في النحو" 1/ 262 وما بعدها.
(٦) من هنا بدأ سقط لوحة كاملة من (ب).
(٧) ذكره الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 40، وانظر: "الأصول في النحو" 1/ 23، "الإيضاح في علل النحو" ص 135، "الإنصاف" ص 153 - 155.
(٨) شيخ الواحدي، تقدمت ترجيته مع شيوخه.
(٩) هو ثعلبة بن صعير بن خزاعي المازني، شاعر جاهلي قديم، قال الأصمعي: لو قال ثعلبة بن صعير مثل قصيدته خمساً كان فحلاً، انظر "فحولة الشعراء" الأصمعي ص 12، "الأعلام" للزركلي 2/ 99.
(١٠) البيت من قصيدة له، ذكرها المفضل الضبي في "المفضليات" ص 128 - 131، والبيت في "إصلاح المنطق" ص 49، 339، وفي "تهذيب اللغة" (كفر) 4/ 3162، "المشوف المعلم في ترتيب الإصلاح" 1/ 332، 2/ 679، "أمالي القالي" 2/ 145، "الصحاح" (كفر) 2/ 808، "مقاييس اللغة" (كفر) 5/ 191، "المخصص" 6/ 78 ، 9/ 19،7/ 17، "اللسان" (رثد) 3/ 15981، و (كفر) 7/ 3899، و (ذكا) 3/ 1510، و"تفسير ابن عطية" 1/ 151، و"تفسير القرطبي" 1/ 159، و"تفسير الطبري" 1/ 110، "الدر المصون" 1/ 107.
وفي هذا البيت يذكر الظليم والنعامة، والثقل: بيضهما، والرثد: المتاع المرثود، وذكاء. الشمس، أي بدأت في المغيب، والكافر: الليل.
(١١) في (ج): (رزشت).
(١٢) الرجز لمنظور بن مرثد الأسدي، وقيل: لأبي مهدي. وقبله:
هل تعرف الدار بأعلى ذى القور؟
يقول: درست معالم الدار إلا رماداً مكفوراً، أي: سفت عليه الريح، والأبيات في "إصلاح المنطق" ص 340، وفي "التهذيب" (كفر) 4/ 3162، "الصحاح" (كفر) 2/ 807، "المخصص" 6/ 78، "المشوف المعلم في ترتيب الإصلاح" 2/ 679، "مقاييس اللغة" (كفر) 10/ 198، "اللسان" (كفر) 7/ 3900. وكلهم رووه (مروح ممطور) سوى (المخصص) فنصه مثل رواية المؤلف هنا.
(١٣) هو حميد الأرقط.
(١٤) في (ج): (ابلاج).
(١٥) قال ابن السكيت. ويروى: (في كفر) وهما لغتان. وابن ذكاء: يعني الصبح، "إصلاح المنطق" ص 340، وانظر: "تهذيب اللغة" (كفر) 4/ 3162، ورد البيت كذلك في "الصحاح" (كفر) 7/ 3900، "المخصص" 6/ 78، "المشوف المعلم" 2/ 679، "اللسان" (كفر) 7/ 3900، و"تفسير القرطبي" 1/ 160، "الدر المصون" 1/ 106.
(١٦) في (أ)، (ج): (إلى)، وفي "إصلاح المنطق"، "التهذيب": (أي) وهو الصحيح. "الإصلاح" ص 340، "التهذيب" (كفر) 4/ 3162.
(١٧) انتهى كلام ابن السكيت وهو في "الإصلاح" ص 339،340، "تهذيب اللغة" (كفر) 4/ 3162، ونص الواحدي من "التهذيب".
(١٨) هو الليث. انظر: "التهذيب" (كفر) 4/ 3161، ومقدمة "التهذيب" 1/ 47.
(١٩) في (التهذيب) بدل (فاعل: ذو نعل)، وماء دافق: ذو دفق 4/ 3161.
(٢٠) في (ج): (بن).
(٢١) قال الأزهري: قلت: وما قاله ابن السكيت بيِّن صحيح، 4/ 3161.
(٢٢) في "التهذيب": (والنعم التي سترها الكافر هي الآيات التي أبانت لذي التمييز .. إلخ) 4/ 3162.
(٢٣) في "التهذيب": (.. فقد دعاه إلى نعمة ينعم بها عليه إذا قبلها، فلما رد ما دعاه إليه من توحيده كان كافرا نعمة الله ..)، 4/ 3161.
(٢٤) "التهذيب" (كفر) 4/ 3160، وقد تصرف الواحدي في نقل كلام الأزهري.
(٢٥) في "التهذيب" (قال شمر: قال بعض أهل العلم)، 4/ 3160.
(٢٦) شاعر جاهلي أدرك النبي ﷺ وكفر به حسدًا، كان له شعر جيد، وكان يخبر أن نبيًّا قد أظل زمانه، وكان يؤمل أن يكون ذلك النبي، فلما بلغه خروج النبي ﷺ كفر به حسداً، ولما أنشد النبي ﷺ شعره قال: "آمن لسانه وكفر قلبه". وسبقت ترجمته، وانظر: "الخزانة" 1/ 249.
(٢٧) في (ج): (أن).
(٢٨) إلى هنا ينتهي السقط من (ب).
(٢٩) في (ب): (سحا).
(٣٠) كذا جاءت الأبيات في "التهذيب" 4/ 3160، "اللسان" (كفر) 7/ 3898، و"تفسير البغوي" 1/ 64، وفي "تفسير النسفي" 1/ 50، (ضمن مجموعة من التفاسير) وفيها (سمحا بذلك مبينا) وفي "تفسير القرطبي" (بقينا) 6/ 406. وذكرها المؤلف في "أسباب النزول" بمثل روايته لها هنا. ص 210.
(٣١) أي: شمر. "التهذيب" 4/ 3160.
(٣٢) كلام شمر جميعه في "تهذيب اللغة" (كفر) 4/ 3160، "اللسان" (كفر) 7/ 3898، وانظر أنواع الكفر في "التصاريف" المنسوب ليحيى بن سلام ص 104، 105، و"النسفي" 1/ 50 (ضمن مجموعة من التفاسير).
(٣٣) "الحجة" لأبي علي1/ 245، وانظر "تهذيب اللغة" 4/ 3160.
(٣٤) الكلام في "الحجة" بنصه 1/ 245. وانظر "التصاريف" ص 111، 112، "تهذيب اللغة" 2/ 1795، "الصحاح" (سوا) 6/ 2384.
(٣٥) هو زهير بن أبي سلمى، أحد فحول شعراء الجاهلية، توفي قبل المبعث بسنة. انظر ترجمته في "الشعر والشعراء" ص 69، "الخزانة" 2/ 332.
(٣٦) في "الحجة" (أرونا) وفي الهامش في ط (أرني) 1/ 246.
(٣٧) في (ب): (يسوا).
(٣٨) رواية البيت في الديوان: أرونا سنة لا عيب فيها.
يقول: أرونا سنة لا عيب فيها ولا ظلم، تسوى بيننا بالحق، "ديوان زهير" ص 84، "الحجة" 1/ 246، "تهذيب اللغة" "لفيف السين" 2/ 1795، "البحر" 1/ 347، "الدر المصون" 1/ 108.
(٣٩) هو عنترة بن عمرو بن شداد العبسي، كان شاعرًا، وكان أشجع أهل زمانه وأجودهم. انظر ترجمته في: "الشعر والشعراء" ص 149، "طبقات فحول الشعراء" 1/ 152، "الخزانة" 1/ 128.
(٤٠) البيت من قصيدة قالها عنترة يوم (عرار) يخاطب فيها بني حنيفة، قوله: السواء: الصلح، أعضاد: جمع عضد، وهو القوس، والسراء: شجر يتخذ منه القسي، المعطف: المعوج، انظر. "ديوان عنترة" ص 52، "نوادر أبي زيد" ص 377، "الحجة" 1/ 246.
(٤١) كلمة (في) في الآية ساقط من (أ).
(٤٢) "الأضداد" لابن الأنباري ص 43.
(٤٣) البيت للأعشى كما في "ديوانه" ص 68، وفيه: "يقول القوم" سواء بصيرات .. " وهو في "الأضداد" لابن الأنباري ص 43، وفيه "يقول القوم"، "الطبري" 1/ 111، "البحر المحيط" 1/ 47، "القرطبي" 1/ 160، "الدر المصون" 1/ 107.
(٤٤) (القي) بالكسر والتشديد (فعل) من القوا (وهي الأرض القفر) "اللسان" (قوا) 6/ 3789، انظر: "الصحاح" 6/ 2470، "مقاييس اللغة" (قوي) 5/ 37.
(٤٥) في (ج): (سواء سييه). الكلام في "الحجة" لأبي علي 1/ 246، 247.
(٤٦) "تهذيب اللغة" 2/ 1793.
(٤٧) في "التهذيب": (فلان وفلان سواعد، أي: متساويان) وهو تصحيف 2/ 1795.
(٤٨) في (ب): (مستويين).
(٤٩) ذكره أبو علي في "الحجة" 1/ 268.
(٥٠) في (ب): (لم يصف ممن).
(٥١) هو صالح بن إسحاق، أبو عمر الجرمي، النحوي، بصري، قدم بغداد، لقي الفراء، وأخذ عن الأخفش وأبي عبيدة والأصمعي، وكان ذا دين وورع، توفى سنة خمس وعشرين ومائتين. انظر ترجمته في: "تاريخ بغداد" 9/ 313، "طبقات النحويين واللغويين" ص 174، (إنباه الرواة) 2/ 80، "وفيات الأعيان" 2/ 485.
(٥٢) في (ب): (زعموا).
(٥٣) في (ب): (بتثنيته شي).
(٥٤) في (ب) (بكرا). "الحجة" 1/ 268، وما بعده في "الحجة" في موضع آخر.
(٥٥) في (ب): (مهلا).
(٥٦) أنشده أبو زيد في (النوادر) قال: (وقال رافع بن هريم، وأدرك الإسلام، ثم ذكر البيت وبيتين قبله، "النوادر" ص 282، وانظر: "الحجة" 1/ 247، "اللسان" (سوا) 4/ 2160.
(٥٧) (من) ساقطة من (ب).
(٥٨) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٥٩) في "الحجة": (وإن كان جمع سواء فهو مثل ما حكاه أبو زيد من قولهم: جواد وأجواد ..)، 1/ 247.
(٦٠) انتهى من "الحجة" 1/ 247، 248.
(٦١) في (أ) رسمت: (آنذرتهم).
(٦٢) ذكره أبو علي في "الحجة" 1/ 253، وانظر (تفسير أبي الليث) 1/ 92، "تفسير الثعلبي" 1/ 48/أ.
(٦٣) "الحجة" 1/ 253، "تفسير الثعلبي" 1/ 48 أ.
(٦٤) تعريف النذر اصطلاحًا: التزام قربة غير لازمة في أصل الشرع، بلفظ يشعر بذلك، انظر: "الروض المربع مع حاشية ابن قاسم" 7/ 496، "التعريفات" للجرجاني ص240، و"فقه السنة" 2/ 22.
(٦٥) في "الحجة": (وقالوا: النذير والنذر، كما قالوا: النكير والنكر، فجاء المصدر على فعيل وعلى فعل ..) 1/ 254.
(٦٦) جزء من آية في الحج: 44، وسبأ: 45، وفاطر:26، والملك: 18.
(٦٧) (تقول) ساقط من (ب).
(٦٨) في (ج): (أجاء).
(٦٩) في "الحجة": (فأما قوله تعالى: ﴿نَذِيَرًا لِلْبَشَرِ﴾ فقد قيل فيه قولان: أحدهما: أن يكون حالا من (قم) المذكورة في أول السورة والآخر: أن يكون حالا من قوله: ﴿إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ﴾ فإذا جعل (نذيرا) حالا مما في (قم) فإن (النذير) اسم فاعل بمعنى المنذر .. وإن جعلته حالا من قوله: ﴿لَإِحْدَى الْكُبَرِ﴾ فليس يخلو الحال أن يكون من المضاف أومن المضاف إليه .. وفي كلا الوجهين ينبغي أن يكون (نذيرا) مصدرا، والمصدر يكون حالا من الجميع كما يكون حالا من المفرد. تقول: جاؤوا ركضًا، كما تقول: جاء ركضًا ..) 1/ 255.
(٧٠) في "الحجة". (.. فمن قال: إن النذير النبي ﷺ كان اسم فاعل كالمنذر، ومن قال: إنه الشيب كان الأولى أن يكون مصدرًا كالإنذار)، "الحجة" 1/ 255.
(٧١) (من القراءة) ساقط من (ب).
(٧٢) بالتحقيق قرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، وابن عامر. "السبعة" لابن مجاهد ص 137، "الكشف عن وجوه القراءات" 1/ 73. وبتليين الثانية قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو. "السبعة" لابن مجاهد ص 137، "الكشف" 1/ 73 قال في (السبعة). من قول أبي عمرو أنه يدخل بين الهمزتين ألفا.
(٧٣) في (ب): (حققها) وفي (ج): (حقق).
(٧٤) "الحجة" 1/ 274.
(٧٥) الفهّ: الكليل اللسان العيي، وفه عن الشيء: نسيه، وقد فهه كفرح. عيي. انظر: "اللسان" (فهه) 6/ 3481، "القاموس" (فهه) ص 1251.
(٧٦) الكع. الضعيف العاجز، وكع الوجه: رقيقه، وكع يكع: جبن وضعف. انظر. "اللسان" (كعع) 8/ 312، "القاموس" (كع) ص 759.
(٧٧) وهو الذي يبيع الرؤوس. إصلاح المنطق ص 148.
(٧٨) (تذأبت الريح) إذا جاءت مرة من هاهنا، ومرة من هاهنا. "إصلاح المنطق" ص 144، " اللسان" (ذأب) 3/ 1479.
(٧٩) رأيته: إذا أريته على خلاف ما أنا عليه. انظر: "القاموس" ص 1285.
(٨٠) "الحجة" 1/ 275، وانظر: "الكشف" لمكي 1/ 73.
(٨١) في (ب): (حقق).
(٨٢) في (ب): (جمعها).
(٨٣) في "الحجة" (أنهم لما اجتمعتا ...)، 1/ 275.
(٨٤) أبدلوا مكانها الألف، انظر "الكتاب" 3/ 552.
(٨٥) وقالوا في آدم: أوادم في الجمع، وفي التصغير: أويدم. انظر "الكتاب" 3/ 552.
(٨٦) في (أ): (تناسب) وما في (ب)، (ج) موافق لما في "الحجة" 1/ 276.
(٨٧) في (ب): (يرجعوا لها).
(٨٨) (وميعاد) ساقط من (ب).
(٨٩) في (ب): (مولس)
(٩٠) (لجمعها) كذا في جميع النسخ، وفي "الحجة" (لجمعهما) 1/ 276، وهذا هو الصحيح أي: جمع الهمزتين.
(٩١) المهه والمهاه. النضارة والحسن، وقيل: الشيء الحقير اليسير، والهاء فيها لا تصير تاء، إلا إذا أردت بالمهاة. البقرة. انظر: "اللسان" (مهه) 7/ 4290.
(٩٢) في (أ): (فة) وفي "الحجة" (فه) بدون نقط وهو الصحيح 1/ 276، فه عن الشيء: إذا نسيه، والفه: اللسان العيى. "اللسان" (فهه) 6/ 3481.
(٩٣) (مح): المح: الثوب الخلق، مح: أخلق. "اللسان" (محح) 7/ 4143.
(٩٤) في (أ): (مح) وفي (ب)، (ج) بدون نقط أو تشكيل. وفي "الحجة" (مخ) 1/ 276.
(٩٥) في "الحجة": (الموضع) 1/ 276.
(٩٦) في "الحجة": (وكررت) 1/ 276، أي جمع بين حروف الحلق وكررت
(٩٧) في (ب). (بعصهم).
(٩٨) في "الحجة": (لجمعهما) 1/ 276 أي الهمزتين.
(٩٩) انظر بقية كلام أبي علي في "الحجة" 1/ 277.
(١٠٠) في (ج): (ذربه) و (خطئه).
(١٠١) في "الحجة": (.. عما يؤدي إلى اجتماع همزتين فيه، فقالوا ...) 1/ 277.
(١٠٢) قال المازني: (اعلم أنك إذا جمعت (خطيئة) و (رزيئة) على (فعائل) قلت: (خطايا) و (رزايا) وما أشبه هذا مما لامه همزة في الأصل، لأنك همزت ياء (خطيئة) و (رزيئة) في الجمع كما همزت ياء (قبيلة) و (سفينة) حين قلت: (قبائل) و (سفائن) وموضع اللام من (خطيئة) مهموز فاجتمع همزتان، فقلبت الثانية ياء، لاجتماع الهمزتين فصارت (خطائى) ثم أبدلت مكان الياء ألفاء ... فصارت (خطاءا) وتقديرها: (خطاءا) والهمزة قريبة المخرج من الألف فكأنك جمعت == بين ثلاث ألفات فلما كان كذلك أبدلوا من الهمزة (ياء) فصار (خطايا)، "المنصف" 2/ 54، 55.
(١٠٣) (القلب) ساقط من (ب).
(١٠٤) انظر "المقتضب" 1/ 159، "المنصف" 2/ 57، "سر صناعة الإعراب" 1/ 71، قال ابن جني: حكاه أبو زيد.
(١٠٥) قال أبو الفتح ابن جني: شاذ لا يقاس عليه. "سر صناعة الإعراب" 1/ 72.
(١٠٦) جزء من بيت كما في "الحجة" 1/ 277 وتمامه:
مهلا أعاذل قد جربت من خلقي ... أني أجود لأقوام وإن ضننوا
أراد. ضنوا، فأظهر التضعيف لضرورة الشعر. انظر "الكتاب" 1/ 29، 3/ 535، "النوادر" لأبي زيد ص 230، "المقتضب" 1/ 142، 253، "المنصف" 1/ 339 "اللسان" (ضنن) 5/ 2614، "ظلل" 5/ 2756.
(١٠٧) المراد بالأظلل ما ورد في قول الراجز: تشكو الوجى من أظلل وأظلل ففك الإدغام في (أظلل) ضرورة، والبيت للعجاج، وبعضهم نسبه لأبي النجم. وهو في "ديوان العجاج" ص 155، "الكتاب" 3/ 535، "النوادر" ص 230، "المقتضب" 1/ 252،3/ 354، "الخصائص" 1/ 161، 3/ 87، "المنصف" 1/ 339 "اللسان" (ظلل) 4/ 2756، و (ملل) 7/ 4271، وقوله (تشكو): أي: الإبل و (الوجى): الحفى، الأظلل: باطن الخف.
(١٠٨) "الحجة" 1/ 277، 278.
(١٠٩) في (ب): (على من) زيادة (على).
(١١٠) في "الحجة" (ناء وساء وشاء).
(١١١) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).]
(١١٢) في (ب): (تا). وترك التمثيل لاسم الفاعل من (جاء) وهو: (جاء) والأصل فيها (شائئ) و (جائئ) و (نائئ) فلما التقت همزتان أبدلت الثانية (ياء) ثم عوملت مثل (قاض). انظر: "المنصف" 2/ 52.
(١١٣) انظر بقية كلام أبي علي في: "الحجة" 1/ 278.
(١١٤) في (ب): (تضاعف).
(١١٥) في "الحجة" (النبأ).
(١١٦) في (ب): (نفض).
(١١٧) في (ب): (الصوت).
(١١٨) "الحجة" 1/ 279.
(١١٩) أي: رفض اجتماع الهمزتين. قال أبو علي بعد سياق تلك الحجج، (فهذِه الأشياء تدل على رفض اجتماع الهمزتين في كلامهم. فأما جمعهما وتحقيقهما في (أأنذرتهم) فهو أقبح ....) 1/ 280.
(١٢٠) في (أ)، (ب): (أنذرتهم) بهمزة واحدة، وما في (ج) موافق لما في "الحجة".
(١٢١) في (ب): (منفرد).
(١٢٢) في (ب): (إذا قالوا).
(١٢٣) أصلها: (عضد).
(١٢٤) في (ب): (آخرها).
(١٢٥) أي: (الهمزتان)
(١٢٦) قال سيبويه: (وأعلم أن الهمزتين إذا التقتا وكانت كل واحدة منهما من كلمة فإن أهل التحقيق يخففون إحداهما ويستثقلون تحقيقهما ...)، "الكتاب" 3/ 548.
(١٢٧) في "الحجة" (فيهما) 1/ 280.
(١٢٨) في (ب): (الكنت).
(١٢٩) في جميع النسخ (أنذرتهم) بهمزة واحدة والتصحيح من "الحجة" 1/ 281.
(١٣٠) في (ب): (وأبدلوا).
(١٣١) في (ب): (غير).
(١٣٢) في (ب): (وإن).
(١٣٣) في (ب): (واحد). "الحجة" لأبي علي 1/ 281.
(١٣٤) الضمير يعود على من يقول بتخفيف الهمزة، قال في "الحجة": (من ذلك أن الهمزة إذا كانت مفردة غير متكررة، كرهها أهل التخفيف، حتى قلبوها أو حذفوها، لئلا، يلزمهم تحقيقها، وقد وافقهم في بعض ذلك أهل التحقيق، كموافقتهم لهم في: (يرى) ..)، 1/ 279.
(١٣٥) أي. أهل التخفيف والتحقيق. انظر كلام أبي علي السابق.
(١٣٦) (في) ساقطة من (ج).
(١٣٧) في (ب): (ترى).
(١٣٨) (يرى) مضارع (رأى) اتفق أهل تحقيق الهمزة، وتخفيفها، على حذفها على التخفيف. انظر "الكتاب" 3/ 546، "المسائل الحلبيات" لأبي علي ص 83، "سر صناعة الإعراب" 1/ 76.
(١٣٩) أي: الهمزة المكررة. "الحجة" 1/ 279.
(١٤٠) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(١٤١) في (أ): (أأيمة) وفي (ب)، (ج): (أئمة) ومثله في "الحجة" 1/ 281.
(١٤٢) في (ب): (الضمة).
(١٤٣) يشير إلى أن التحقيق في (أئمة) أبعد، لأن الهمزتين لا تفارقان الكلمة، بينما الهمزة الأولى في (أأنذرتهم) همزة استفهام قد تسقط، فهي كالمنفصلة، ومع ذلك كرهوا تحقيقها. وبعد هذا الاحتجاج الطويل لمن يرى تخفيف الهمزة الثانية الذي نقله الواحدي عن أبي علي من كتاب "الحجة"، والذي هو مذهب أكثر النحويين وعليه أكثر العرب، كما قال سيبويه: (فليس من كلام العرب أن تلتقى همزتان فتحققا ...) انظر "الكتاب" 3/ 548، 549، وانظر "المقتضب" 1/ 158، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 41 - 45، مع ذلك فقراءة التحقيق قراءة سبعية متواترة من حيث السند، ولها حجتها من اللغة. انظر "الكشف" لمكي1/ 73، ولا يقال فيها ما قال أبو الفتح عثمان بن جني: قراءة أهل الكوفة أئمة شاذة عندنا. "سر صناعة الإعراب" 1/ 72 وإن كان يريد من الناحية اللغوية.
(١٤٤) انظر "السبعة" ص 136، "الحجة" لأبي علي 1/ 385، "الكتاب" 3/ 551، قال في "الكشف": وهو مذهب أبي عمرو، وقالون عن نافع، وهشام عن عامر 1/ 74.
(١٤٥) في (ب) ، (ج): (مخففة).
(١٤٦) في (ب): (تبرز).
(١٤٧) أي: لو لم تكن الهمزة المخففة بزنة المحققة لا نكسر وزن الشعر. انظر "الكتاب" 3/ 550، "الحجة" 1/ 385.
(١٤٨) في (ب) (أنت).
(١٤٩) الكلام بنصه في "الحجة"، قال: (.. ولولا ذلك لم يتزن قوله: أأن رأت رجلاً == أعشى "الحجة" 1/ 285، 286. فاستشهد أبو علي ببيت الأعشى، وهو شاهد سيبويه على هذِه المسألة انظر "الكتاب" 3/ 550. أما الواحدي فاستشهد ببيت ذي الرمة، الذي استشهد به الثعلبي في (تفسيره) ونصه:
تطاللت فاستشرفته فعرفته ... فقلت له: آأنت زيد الأراقم
وروايته في "ديوان ذي الرمة"، وفي "الحجة" وغيرهما (زيد الأرانب). نظر "تفسير الثعلبي" 1/ 48/ أ، "الحجة" 1/ 279، "تهذيب اللغة" (اجتماع الهمزتين) 1/ 73، "اللسان" (حرف الهمزة) 1/ 18، "ديوان ذى الرمة" 3/ 1849.
(١٥٠) في (ب): (لأنه كان تجتمع) مثله في "الحجة": (لأنه كان يجتمع فيه ساكنان) 1/ 286، وقصد الواحدي بثلاثة سواكن هي: السكون الذي في مدة الهمزة الأولى وسكون الثانية على الاحتمال الممنوع، وسكون النون.
(١٥١) في (ب): (يجعل)، (ويكون) بالياء في الموضعين.
(١٥٢) من قوله: وقوله تعالى ﴿ءَأَنذَرْتَهُم﴾ .. نقله من "الحجة" بنصه، 1/ 264.
(١٥٣) في (ب): (لا أبالي).
(١٥٤) في (ب): (أقبلت).
(١٥٥) في (ب): (أنت).
(١٥٦) في (ب): (اختبرت).
(١٥٧) انتهى ما نقله عن أبي علي من "الحجة" 1/ 264، 265، ونحوه قال أبو عبيدة في "المجاز" 1/ 31 وانظر. الطبري 1/ 111، وابن عطية 1/ 154 - 155.
(١٥٨) في "معاني القرآن" 1/ 41.
(١٥٩) في (ب): (إذا).
(١٦٠) في (ب): (الاستفهام).
(١٦١) في "معاني القرآن": (والكلام خبر فإنما وقع ذلك لمعنى التسوية، والتسوية آلتها (ألف) الاستفهام و (أم)، تقول: أزيد في الدار أم عمر.). 1/ 41.
(١٦٢) في (ب): (في ذلك) وفي (ج) (يقول).
(١٦٣) في (ب): (عليك).
(١٦٤) في "المعاني": (أردت) 1/ 41.
(١٦٥) في (ب): (تبين).
(١٦٦) كذا رسمت في (أ)، (ج)، وفي (ب) (ويلحظ) وفي "المعاني" (ويخلص) وهو الأصوب.
(١٦٧) في (ج): (يقول).
(١٦٨) انتهى كلام الزجاج 1/ 41، وانظر الطبري 1/ 111.
(١٦٩) انظر: "الحجة" 1/ 265، 266، "مغني اللبيب" 1/ 43.
(١٧٠) في (ب): (فذلك).
(١٧١) في (ب): (لم).
(١٧٢) في (ب): (أنهما).
(١٧٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).]
(١٧٤) في (ب): (ونحوا به زيدا وعمرا).
(١٧٥) انظر: "الكتاب" 3/ 169، 170، 171، "مغني اللبيب" 1/ 42.
(١٧٦) انظر: "الحجة" 1/ 271.
(١٧٧) قال أبو علي. (.. فإن رفعته بأنه خبر لم يجز، لأنه ليس في الكلام مخبر عنه، فإذا لم يكن مخبر عنه بطل أن يكون خبرا .. وأيضا فإنه لا يجوز أن يكون خبرا لأنه قبل الاستفهام، وما قبل الاستفهام لا يكون داخلا في حيز الاستفهام، فلا يجوز إذن أن يكون الخبر عما في الاستفهام متقدما على الاستفهام ..)، "الحجة" 1/ 269،
(١٧٨) في (ب): (بأن).
(١٧٩) "الحجة"، 1/ 268، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 41.
(١٨٠) "الحجة" 1/ 268، 269، وانظر "معاني القرآن" للزجاج 1/ 41، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 134، "المشكل" لمكي 1/ 20، "الدر المصون" للسمين الحلبي 1/ 105.
(١٨١) في (ب): (لها).
(١٨٢) في (أ)، (ج): (علمهم). وأثبت ما في (ب)، لأنه المناسب للسياق.
(١٨٣) ذكره الطبري 10/ 27، وانظر: "الثعلبي" 1/ 48 أ.
(١٨٤) في (أ): (سواؤك) و (ب): (سواك) و (ج): (سوائك)، والتصحيح من "الحجة" 1/ 250، 251، وانظر "الأضداد" لابن الأنباري ص 40، وقد سبق كلام الواحدي عن (سواء) في أول تفسير الآية.
(١٨٥) (أي) ساقطة من (ب).
(١٨٦) في (ب): (لاستوائك).
(١٨٧) ذكره الطبري 1/ 108، وابن أبي حاتم 1/ 186 - 187 وذكره الثعلبي عن الكلبي 1/ 47 ب، ومثله أبو الليث 1/ 92، والبغوي 1/ 64، وانظر ابن كثير 1/ 48.
(١٨٨) "تفسير الطبري" 1/ 109.
(١٨٩) في (ب): (وحمته).
(١٩٠) ذكره الثعلبي1/ 47 ب.
(١٩١) أخرجه الطبري بسنده عن الربيع 1/ 109، وأخرجه ابن أبي حاتم بسنده عن الربيع ابن أنس عن أبي العالية 1/ 40، وفي حاشيته: قال المحقق: في سنده اضطراب وذكره ابن كثير، قال: قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية ثم ذكره، 1/ 48. وذكره السيوطي في "الدر" عن أبي العالية ونسبه إلى ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، 1/ 65، وهو عند ابن جرير عن الربيع بن أنس ولم يوصله لأبي العالية كما سبق.
(١٩٢) هذِه الزيادة عن أبي العالية، ذكرها النحاس في "القطع والائتناف" ص 116، والسيوطي في "الدر" ولفظه: (ولم يدخل من القادة أحد في الإسلام إلا رجلان أبو سفيان، والحكم بن أبي العاص)، ولم ترد عند ابن جرير ولا ابن أبي حاتم، كما أن قوله (وكان مغموصاً عليهما في دينهما) لم يذكرها السيوطي. "الدر" 1/ 65.
(١٩٣) أبو سفيان هو صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، رأس قريش وقائدهم في يوم الأحزاب، أسلم يوم الفتح، كان من دهاة العرب، توفي بالمدينة سنة إحدى وثلاثين. انظر ترجمته في "الإصابة" 2/ 178 - 179، "سير أعلام النبلاء" 2/ 105 - 107.
(١٩٤) الحكم بن أبي العاص بن أمية، ابن عم أبي سفيان، من مسلمة الفتح، وله نصيب من الصحبة، نفاه النبي ﷺ إلى الطائف، وأقدمه للمدينة عثمان - رضي الله عنه - مات سنة إحدى وثلاثين. انظر ترجمته في: "الإصابة" 1/ 345، "سير أعلام النبلاء" 2/ 107، "الجرح والتعديل" 3/ 120.
   
    




﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ سَوَاۤءٌ عَلَیۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ (٦) خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَعَلَىٰ سَمۡعِهِمۡۖ وَعَلَىٰۤ أَبۡصَـٰرِهِمۡ غِشَـٰوَةࣱۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِیمࣱ (٧)﴾ [البقرة ٦-٧]
﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ﴾ إنَّ: حَرْفُ تَوْكِيدٍ يَتَشَبَّثُ بِالجُمْلَةِ المُتَضَمِّنَةِ الإسْنادِ الخَبَرِيِّ، فَيُنْصِبُ المُسْنَدُ إلَيْهِ، ويَرْتَفِعُ المَسْنَدُ وُجُوبًا عِنْدَ الجُمْهُورِ، ولَها ولِأخَواتِها بابٌ مَعْقُودٌ في النَّحْوِ. وتَأْتِي أيْضًا حَرْفَ جَوابٍ بِمَعْنى نَعَمْ خِلافًا لِمَن مَنَعَ ذَلِكَ. الكُفْرُ: السَّتْرُ، ولِهَذا قِيلَ: كافِرٌ لِلْبَحْرِ، ومَغِيبُ الشَّمْسِ، والزّارِعِ، والدّافِنِ، واللَّيْلِ، والمُتَكَفِّرِ، والمُتَسَلِّحِ. فَبَيْنَها كُلِّها قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ وهو السَّتْرُ، سَواءٌ اسْمٌ بِمَعْنى اسْتِواءٍ مَصْدَرِ اسْتَوى، ووُصِفَ بِهِ بِمَعْنى مُسْتَوٍ، فَتَحْمِلُ الضَّمِيرَ. قالُوا: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ سَواءٌ، والعَدَمُ قالُوا: أصْلُهُ العَدْلُ، قالَ زُهَيْرٌ:
يُسَوِّي بَيْنَها فِيها السِّواءُ

. ولِإجْرائِهِ مَجْرى المَصْدَرِ لا يُثَنّى، قالُوا: هُما سَواءٌ اسْتَغْنَوْا بِتَثْنِيَةِ سَيٍّ بِمَعْنى سُواءٍ، كَقِيٍّ بِمَعْنى قِواءٌ، وقالُوا: هُما سِيّانِ. وحَكى أبُو زَيْدٍ تَثْنِيَتَهُ عَنْ بَعْضِ العَرَبِ. قالُوا: هَذانِ سَواآنِ، ولِذَلِكَ لا تُجْمَعُ أيْضًا، قالَ:
ولَيْلٍ يَقُولُ النّاسُ مِن ظُلُماتِهِ ∗∗∗ سَواءٌ صَحِيحاتُ العُيُونِ وعُورُها.

وهَمْزَتُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ ياءٍ، فَهو مِن بابِ طَوَيْتُ.
وقالَ صاحِبُ اللَّوامِحِ: قَرَأ الجَحْدَرِيُّ سَواءُ بِتَخْفِيفِ الهَمْزَةِ عَلى لُغَةِ الحِجازِ، فَيَجُوزُ أنَّهُ أخَلَصَ الواوَ، ويَجُوزُ أنَّهُ جَعَلَ الهَمْزَةَ بَيْنَ بَيْنَ، وهو أنْ يَكُونَ بَيْنَ الهَمْزَةِ والواوِ. وفي كِلا الوَجْهَيْنِ لا بُدَّ مِن دُخُولِ النَّقْصِ فِيما قَبْلَ الهَمْزَةِ المُلَيَّنَةِ مِنَ المَدِّ، انْتَهى. فَعَلى هَذا يَكُونُ سَواءٌ لَيْسَ لامُهُ ياءً بَلْ واوًا، فَيَكُونُ مِن بابِ قَواءٍ. وعَنِ الخَلِيلِ: سُوءٍ عَلَيْهِمْ بِضَمِّ السِّينِ مَعَ واوٍ بَعْدَها مَكانَ الألِفِ، مِثْلَ دائِرَةِ السَّوْءِ عَلى قِراءَةِ مَن ضَمَّ السِّينَ، وفي ذَلِكَ عُدُولٌ عَنْ مَعْنى المُساواةِ إلى مَعْنى القُبْحِ والسَّبِّ، ولا يَكُونُ عَلى هَذِهِ القِراءَةِ لَهُ تَعَلُّقُ إعْرابٍ بِالجُمْلَةِ بَعْدَها بَلْ يَبْقى.
﴿أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهم لا يُؤْمِنُونَ﴾ إخْبارٌ بِانْتِفاءِ إيمانِهِمْ عَلى تَقْدِيرِ إنْذارِكَ وعَدَمِ إنْذارِكَ، وأمّا سَواءٌ الواقِعُ في الِاسْتِثْناءِ في قَوْلِهِمْ قامُوا سِواكَ بِمَعْنى قامُوا غَيْرَكَ، فَهو مُوافِقٌ لِهَذا في اللَّفْظِ، مُخالِفٌ في المَعْنى، فَهو مِن بابِ المُشْتَرَكِ، ولَهُ أحْكامٌ ذُكِرَتْ في بابِ الِاسْتِثْناءَ. الهَمْزَةُ لِلنِّداءِ، وزِيدَ ولِلِاسْتِفْهامِ الصِّرْفِ، وذَلِكَ مِمَّنْ يَجْهَلُ النِّسْبَةَ فَيَسْألُ عَنْها، وقَدْ يَصْحَبُ الهَمْزَةَ التَّقْرِيرُ: ﴿أأنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ﴾ [المائدة: ١١٦] ؟ والتَّحْقِيقُ،
ألَسْتُمْ خَيْرَ مَن رَكِبَ المَطايا

. والتَّسْوِيَةُ ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهُمْ﴾، والتَّوْبِيخُ ﴿أذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ﴾ [الأحقاف: ٢٠]، والإنْكارُ أزَيْدَنِيهِ لِمَن قالَ جاءَ زَيْدٌ، وتَعاقُبُ حَرْفِ القَسَمِ اللَّهِ لَأفْعَلَنَّ. الإنْذارُ: الإعْلامُ مَعَ التَّخْوِيفِ في مُدَّةٍ تَسَعُ التَّحَفُّظَ مِنَ المُخَوَّفِ، وإنْ لَمْ تَسْعَ سُمِّي إعْلامًا وإشْعارًا وإخْبارًا، ويَتَعَدّى إلى اثْنَيْنِ: ﴿إنّا أنْذَرْناكم عَذابًا قَرِيبًا﴾ [النبإ: ٤٠]، ﴿فَقُلْ أنْذَرْتُكم صاعِقَةً﴾ [فصلت: ١٣]، والهَمْزَةُ فِيهِ لِلتَّعْدِيَةِ، يُقالُ: نَذَرَ القَوْمُ إذا عَلِمُوا بِالعَدُوِّ. وأمْ حَرْفُ عَطْفٍ، فَإذا عادَلَ الهَمْزَةَ وجاءَ بَعْدَهُ مُفْرَدٌ أوْ جُمْلَةٌ في مَعْنى المُفْرَدِ سُمِّيَتْ أمْ مُتَّصِلَةً، وإذا انْخَرَمَ هَذانِ الشَّرْطانِ أوْ أحَدُهُما سُمِّيَتْ مُنْفَصِلَةً، وتَقْرِيرُ هَذا في النَّحْوِ، ولا تُزادُ خِلافًا لِأبِي زَيْدٍ. لَمْ حَرْفُ نَفْيٍ مَعْناهُ النَّفْيُ وهو مِمّا يَخْتَصُّ بِالمُضارِعِ، اللَّفْظُ الماضِي مَعْنى، فَعَمِلَ فِيهِ ما يَخُصُّهُ، وهو الجَزْمُ، ولَهُ أحْكامٌ ذُكِرَتْ في النَّحْوِ.
* * *
﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وعَلى سَمْعِهِمْ وعَلى أبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ ولَهم عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ الخَتْمُ: الوَسْمُ بِطابَعٍ أوْ غَيْرِهِ مِمّا يُوسَمُ بِهِ. القَلْبُ: مَصْدَرُ قَلَّبَ، والقَلْبُ: اللُّحْمَةُ الصَّنَوْبَرِيَّةُ المَعْرُوفَةُ سُمِّيَتْ بِالمَصْدَرِ، وكُنِّيَ بِهِ في القُرْآنِ وغَيْرِهِ عَنِ العَقْلِ، وأُطْلِقَ أيْضًا عَلى لُبِّ كُلِّ شَيْءٍ وخالِصِهِ. السَّمْعُ: مَصْدَرُ سَمِعَ سَمْعًا وسَماعًا، وكُنِّيَ بِهِ في بَعْضِ المَواضِعِ عَنِ الأُذُنِ. البَصَرُ: نُورُ العَيْنِ، وهو ما تُدْرَكُ بِهِ المَرْئِيّاتِ. الغِشاوَةُ: الغِطاءُ، غَشّاهُ أيْ غَطّاهُ، وتُصَحَّحُ الواوُ لِأنَّ الكَلِمَةَ بُنِيَتْ عَلى تاءِ التَّأْنِيثِ، كَما صَحَّحُوا اشْتِقاقَهُ، قالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: لَمْ أسْمَعْ مِنَ الغِشاوَةِ فِعْلًا مُتَصَرِّفًا بِالواوِ، وإذا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ كانَ مَعْناها مَعْنى ما اللّامُ مِنهُ الياءُ، غَشِيَ يَغْشى بِدَلالَةِ قَوْلِهِمُ: الغَشَيانُ والغِشاوَةُ مِن غَشِيَ، كالجِباوَةِ مِن جَبَيْتُ في أنَّ الواوَ كَأنَّها بَدَلٌ مِنَ الياءِ إذا لَمْ يُصْرَفْ مِنهُ فِعْلٌ، كَما لَمْ يُصْرَفْ مِنَ الجِباوَةَ، انْتَهى كَلامُهُ. العَذابُ: أصْلُهُ الِاسْتِمْرارُ، ثُمَّ اتَّسَعَ فِيهِ فَسُمِّيَ بِهِ كُلُّ اسْتِمْرارِ ألَمٍ، واشْتَقُّوا مِنهُ فَقالُوا: عَذَّبْتُهُ، أيْ داوَمْتُ عَلَيْهِ الألَمَ، وقَدْ جَعَلَ النّاسُ بَيْنَهُ وبَيْنَ العَذْبِ: الَّذِي هو الماءُ الحُلْوُ، وبَيْنَ عَذُبَ الفَرَسُ: اسْتَمَرَّ عَطَشُهُ، قَدْرًا مُشْتَرَكًا وهو الِاسْتِمْرارُ، وإنِ اخْتَلَفَ مُتَعَلِّقُ الِاسْتِمْرارِ. وقالَ الخَلِيلُ: أصْلُهُ المَنعُ، يُقالُ عَذُبَ الفُرْسُ: امْتَنَعَ مِنَ العَلَفِ. عَظِيمٌ: اسْمُ فاعِلٍ مِن عَظُمَ غَيْرُ مَذْهُوبٍ بِهِ مَذْهَبَ الزَّمانِ، وفَعِيلٌ اسْمٌ وصِفَةٌ الِاسْمُ مُفْرَدٌ نَحْوُ: قَمِيصٍ، وجَمْعٌ نَحْوُ: كَلِيبٍ، ومَعْنًى نَحْوُ: صَهِيلٍ، والصِّفَةُ مُفْرَدُ فَعْلَةٍ كَقُرى، وفُعَلَةٍ كَسَرِيٍّ، واسْمُ فاعِلٍ مِن فَعُلَ كَكَرِيمٍ، ولِلْمُبالَغَةِ مِن فاعِلٍ كَعَلِيمٍ، وبِمَعْنى أفْعَلٍ كَشَمِيطٍ، وبِمَعْنى مَفْعُولٍ كَجَرِيحٍ، ومُفْعِلٍ كَسَمِيعٍ وألِيمٍ، وتَفَعَّلَ كَوَكِيدٍ، ومُفاعِلٍ كَجَلِيسٍ، ومُفْتَعَلٍ كَسَعِيرٍ، ومُسْتَفْعِلٍ كَمَكِينٍ، وفَعَلَ كَرَطِيبٍ، وفَعُلَ كَعَجِيبٍ، وفَعّالٍ كَصَحِيحٍ، وبِمَعْنى الفاعِلِ والمَفْعُولِ كَصَرِيحِ، وبِمَعْنى الواحِدِ والجَمْعِ كَخَلِيطٍ وجَمْعِ فاعِلٍ كَغَرِيبٍ.
مُناسِبَةُ اتِّصالِ هَذِهِ الآيَةِ بِما قَبْلَها ظاهِرٌ، وهو أنَّهُ لَمّا ذَكَرَ صِفَةً مِنَ الكِتابِ لَهُ هُدًى وهُمُ المُتَّقُونَ الجامِعُونَ لِلْأوْصافِ المُؤَدِّيَةِ إلى الفَوْزِ، ذَكَرَ صِفَةً ضِدَّهم وهُمُ الكُفّارُ المَحْتُومُ لَهم بِالوَفاةِ عَلى الكُفْرِ، وافْتَتَحَ قِصَّتَهم بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِيَدُلَّ عَلى اسْتِئْنافِ الكَلامِ فِيهِمْ، ولِذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ في قِصَّةِ المُتَّقِينَ، لِأنَّ الحَدِيثَ إنَّما جاءَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الِانْجِرارِ، إذِ الحَدِيثُ إنَّما هو عَنِ الكِتابِ ثُمَّ أنْجَزَ ذِكْرَهم في الإخْبارِ عَنِ الكِتابِ، وعَلى تَقْدِيرِ إعْرابِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ، الأوَّلُ والثّانِي مُبْتَدَأٌ، فَإنَّما هو في المَعْنى مِن تَمامِ صِفَةِ المُتَّقِينَ الَّذِينَ كَفَرُوا، يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ لِلْجِنْسِ مَلْحُوظًا فِيهِ قَيْدٌ، وهو أنْ يَقْضِيَ عَلَيْهِ بِالكُفْرِ والوَفاةِ عَلَيْهِ، وأنْ يَكُونَ لِمَعْنَيَيْنِ كَأبِي جَهْلٍ وأبِي لَهَبٍ وغَيْرِهِما. وسَواءٌ وما بَعْدَهُ يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ لا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الإعْرابِ، ويَكُونَ جُمْلَةَ اعْتِراضٍ مِن مُبْتَدَأٍ وخَبَرٍ، بِجَعْلِ سَواءٍ المُبْتَدَأ والجُمْلَةِ بَعْدَهُ الخَبَرَ أوِ العَكْسِ، والخَبَرُ قَوْلُهُ: لا يُؤْمِنُونَ، ويَكُونُ قَدْ دَخَلَتْ جُمْلَةُ الِاعْتِراضِ تَأْكِيدًا لِمَضْمُونِ الجُمْلَةِ؛ لِأنَّ مَن أخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّهُ لا يُؤْمِنُ اسْتَوى إنْذارُهُ وعَدَمُ إنْذارِهِ. والوَجْهُ الثّانِي: أنْ يَكُونَ لَهُ مَوْضِعٌ مِنَ الإعْرابِ، وهو أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ خَبَرِ إنَّ، فَيَحْتَمِلُ لا يُؤْمِنُونَ أنْ يَكُونَ لَهُ مَوْضِعٌ مِنَ الإعْرابِ، إمّا خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ عَلى مَذْهَبِ مَن يُجِيزُ تَعْدادَ الأخْبارِ، أوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أيْ هم لا يُؤْمِنُونَ، وجَوَّزُوا فِيهِ أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ الحالِ وهو بَعِيدٌ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ لا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الإعْرابِ فَتَكُونُ جُمْلَةً تَفْسِيرِيَّةً لِأنَّ عَدَمَ الإيمانِ هو اسْتِواءُ الإنْذارِ وعَدَمُهُ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَهم مَغْفِرَةٌ﴾ [المائدة: ٩]، أوْ يَكُونُ جُمْلَةً دِعائِيَّةً وهو بَعِيدٌ، وإذا كانَ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ مَوْضِعٌ مِنَ الإعْرابِ فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ سَواءٌ خَبَرَ إنَّ، والجُمْلَةُ في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى الفاعِلِيَّةِ، وقَدِ اعْتُمِدَ بِكَوْنِهِ خَبَرَ الَّذِينَ، والمَعْنى إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُسْتَوٍ إنْذارُهم وعَدَمُهُ. وفي كَوْنِ الجُمْلَةِ تَقَعُ فاعِلَةً خِلافَ مَذْهَبِ جُمْهُورِ البَصْرِيِّينَ أنَّ الفاعِلَ لا يَكُونُ إلّا اسْمًا أوْ ما هو في تَقْدِيرِهِ، ومَذْهَبُ هِشامٍ وثَعْلَبٍ وجَماعَةٍ مِنَ الكُوفِيِّينَ جَوازُ كَونِ الجُمْلَةَ تَكُونُ فاعِلَةً، وأجازُوا يُعْجِبُنِي يَقُومُ زَيْدٌ، وظَهَرَ لِي أقامَ زَيْدٌ أمْ عَمْرٌو، أيْ قِيامُ أحَدِهِما، ومَذْهَبُ الفَرّاءِ وجَماعَةٍ أنَّهُ إنْ كانَتِ الجُمْلَةُ مَعْمُولَةً لِفِعْلٍ مِن أفْعالِ القُلُوبِ وعَلَّقَ عَنْها، جازَ أنْ تَقَعَ في مَوْضِعِ الفاعِلِ أوِ المَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ وإلّا فَلا، ونُسِبَ هَذا لِسِيبَوَيْهِ. قالَ أصْحابُنا: والصَّحِيحُ المَنعُ مُطْلَقًا، وتَقْرِيرُ هَذا في المَبْسُوطاتِ مِن كُتُبِ النَّحْوِ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ مُبْتَدَأً وخَبَرًا عَلى التَّقْدِيرَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْناهُما إذا كانَتْ جُمْلَةَ اعْتِراضٍ، وتَكُونُ في مَوْضِعِ خَبَرِ إنَّ، والتَّقْدِيرانِ المَذْكُورانِ عَنْ أبِي عَلِيٍّ الفارِسِيِّ وغَيْرِهِ. وإذا جَعَلْنا سَواءً المُبْتَدَأ والجُمْلَةَ الخَبَرَ، فَلا يُحْتاجُ إلى رابِطٍ لِأنَّها المُبْتَدَأُ في المَعْنى والتَّأْوِيلِ، وأكْثَرُ ما جاءَ سَواءٌ بَعْدَهُ الجُمْلَةُ المُصَدَّرَةُ بِالهَمْزَةِ المُعادَلَةُ بِأمْ ﴿سَواءٌ عَلَيْنا أجَزِعْنا أمْ صَبَرْنا﴾ [إبراهيم: ٢١]، ﴿سَواءٌ عَلَيْكم أدَعَوْتُمُوهم أمْ أنْتُمْ صامِتُونَ﴾ [الأعراف: ١٩٣]، وقَدْ تُحْذَفُ تِلْكَ الجُمْلَةُ لِلدَّلالَةِ عَلَيْها، ﴿فاصْبِرُوا أوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ﴾ [الطور: ١٦] أيْ أصَبَرْتُمْ أمْ لَمْ تَصْبِرُوا، وتَأْتِي بَعْدَهُ الجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ المُتَسَلِّطَةُ عَلى اسْمِ الِاسْتِفْهامِ، نَحْوُ: سَواءٌ عَلَيَّ أيُّ الرِّجالِ ضَرَبْتُ، قالَ زُهَيْرٌ:
سَواءٌ عَلَيْهِ أيَّ حِينٍ أتَيْتُهُ أساعَةَ نَحْسٍ تُتَّقى أمْ بِأسْعَدِ

وقَدْ جاءَ بَعْدَهُ ما عُرِّيَ عَنِ الِاسْتِفْهامِ، وهو الأصْلُ، قالَ:
سَواءٌ صَحِيحاتُ العُيُونِ وعُورُهَ

ا
وأخْبَرَ عَنِ الجُمْلَةِ بِأنْ جُعِلَتْ فاعِلًا بِسَواءٍ أوْ مُبْتَدَأةً، وإنْ لَمْ تَكُنْ مُصَدَّرَةً بِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ حَمْلًا عَلى المَعْنى، وكَلامُ العَرَبِ مِنهُ ما طابَقَ فِيهِ اللَّفْظُ المَعْنى، نَحْوُ: قامَ زَيْدٌ، وزَيْدٌ قائِمٌ، وهو أكْثَرُ كَلامِ العَرَبِ، ومِنهُ ما غُلِّبَ فِيهِ حُكْمُ اللَّفْظِ عَلى المَعْنى، نَحْوَ: عَلِمْتُ أقامَ زَيْدٌ أمْ قَعَدَ، لا يَجُوزُ تَقْدِيمُ الجُمْلَةِ عَلى عَلِمْتُ، وإنْ كانَ لَيْسَ ما بَعْدَ عَلِمْتُ اسْتِفْهامًا، بَلِ الهَمْزَةُ فِيهِ لِلتَّسْوِيَةِ. ومِنهُ ما غَلَبَ فِيهِ المَعْنى عَلى اللَّفْظِ، وذَلِكَ نَحْوُ الإضافَةِ لِلْجُمْلَةِ الفِعْلِيَّةِ نَحْوِ:
عَلى حِينِ عاتَبْتُ المَشِيبَ عَلى الصِّبا

إذْ قِياسُ الفِعْلِ أنْ لا يُضافَ إلَيْهِ، لَكِنْ لُوحِظَ المَعْنى وهو المَصْدَرُ، فَصَحَّتِ الإضافَةُ.
قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ﴿أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ لَفْظُهُ لَفْظُ الِاسْتِفْهامِ ومَعْناهُ الخَبَرُ، وإنَّما جَرى عَلَيْهِ لَفَظُ الِاسْتِفْهامِ لِأنَّ فِيهِ التَّسْوِيَةَ الَّتِي هي في الِاسْتِفْهامِ، ألا تَرى أنَّكَ إذا قُلْتَ مُخْبِرًا: سَواءٌ عَلَيَّ أقُمْتَ أمْ قَعَدْتَ أمْ ذَهَبْتَ ؟ وإذا قُلْتَ مُسْتَفْهِمًا: أخَرَجَ زَيْدٌ أمْ قامَ ؟ فَقَدِ اسْتَوى الأمْرانِ عِنْدَكَ، هَذانِ في الخَبَرِ، وهَذانِ في الِاسْتِفْهامِ، وعَدَمُ عِلْمِ أحَدِهِما بِعَيْنِهِ، فَلَمّا عَمَّمَتْهَما التَّسْوِيَةُ جَرى عَلى الخَبَرِ لَفَظُ الِاسْتِفْهامِ لِمُشارَكَتِهِ إيّاهُ في الإبْهامِ، وكُلُّ اسْتِفْهامٍ تَسْوِيَةٌ، وإنْ لَمْ يَكُنْ كُلُّ تَسْوِيَةٍ اسْتِفْهامًا، انْتَهى كَلامُهُ. وهو حَسَنٌ، إلّا أنَّ في أوَّلِهِ مُناقَشَةٌ، وهو قَوْلُهُ: ﴿أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ لَفْظُهُ لَفْظُ الِاسْتِفْهامِ، ومَعْناهُ الخَبَرُ، ولَيْسَ كَذَلِكَ لِأنَّ هَذا الَّذِي صُورَتُهُ صُورَةُ الِاسْتِفْهامِ لَيْسَ مَعْناهُ الخَبَرَ؛ لِأنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالمُفْرَدِ إمّا مُبْتَدَأٌ وخَبَرُهُ سَواءٌ أوِ العَكْسُ، أوْ فاعِلُ سَواءٍ لِكَوْنِ سَواءٍ وحْدَهُ خَبَرًا لِأنَّ، وعَلى هَذِهِ التَّقادِيرِ كُلِّها لَيْسَ مَعْناهُ مَعْنى الخَبَرِ وإنَّما سَواءٌ، وما بَعْدَهُ إذا كانَ خَبَرًا أوْ مُبْتَدَأً مَعْناهُ الخَبَرَ. ولُغَةُ تَمِيمٍ تَخْفِيفُ الهَمْزَتَيْنِ في نَحْوِ أأنْذَرْتَهم، وبِهِ قَرَأ الكُوفِيُّونَ، وابْنُ ذَكْوانَ، وهو الأصْلُ. وأهْلُ الحِجازِ لا يَرَوْنَ الجَمْعَ بَيْنَهُما طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ، فَقَرَأ الحَرَمِّيانِ، وأبُو عَمْرٍو، وهُشامٌ بِتَحْقِيقِ الأُولى وتَسْهِيلِ الثّانِيَةِ، إلّا أنَّ أبا عَمْرٍو، وقالُونَ، وإسْماعِيلَ بْنَ جَعْفَرٍ، عَنْ نافِعٍ، وهُشامٍ، يُدْخِلُونَ بَيْنَهُما ألِفًا، وابْنُ كَثِيرٍ لا يُدْخِلُ. ورُوِيَ تَحْقِيقًا عَنْ هِشامٍ، وإدْخالُ ألِفٍ بَيْنَهُما وهي قِراءَةُ ابْنِ عَبّاسٍ، وابْنِ أبِي إسْحاقَ. ورُوِيَ عَنْ ورْشٍ كابْنِ كَثِيرٍ وكَقالُونَ، وإبْدالُ الهَمْزَةِ الثّانِيَةِ ألِفًا فَيَلْتَقِي ساكِنانِ عَلى غَيْرِ حَدِّهِما عِنْدَ البَصْرِيِّينَ، وقَدْ أنْكَرَ هَذِهِ القِراءَةَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وزَعَمَ أنَّ ذَلِكَ لَحْنٌ وخُرُوجٌ عَنْ كَلامِ العَرَبِ مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: الجَمْعُ بَيْنَ ساكِنِينَ عَلى غَيْرِ حَدِّهِ. الثّانِي: إنَّ طَرِيقَ تَخْفِيفِ الهَمْزَةِ المُتَحَرِّكَةِ المَفْتُوحِ ما قَبْلَها هو بِالتَّسْهِيلِ بَيْنَ بَيْنَ لا بِالقَلْبِ ألِفًا، لِأنَّ ذَلِكَ هو طَرِيقُ الهَمْزَةِ السّاكِنَةِ. وما قالَهُ هو مَذْهَبُ البَصْرِيِّينَ، وقَدْ أجازَ الكُوفِيُّونَ الجَمْعَ بَيْنَ السّاكِنِينَ عَلى غَيْرِ الحَدِّ الَّذِي أجازَهُ البَصْرِيُّونَ. وقِراءَةُ ورْشٍ صَحِيحَةُ النَّقْلِ لا تُدْفَعُ بِاخْتِيارِ المَذاهِبِ ولَكِنَّ عادَةَ هَذا الرَّجُلِ إساءَةُ الأدَبِ عَلى أهْلِ الأداءِ ونَقْلَةِ القُرْآنِ.
وقَرَأ الزُّهْرِيُّ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ: أنْذَرْتَهم بِهَمْزَةٍ واحِدَةٍ، حَذْفُ الهَمْزَةِ الأُولى لِدَلالَةِ المَعْنى عَلَيْها، ولِأجْلِ ثُبُوتِ ما عادَلَها وهو أمْ، وقَرَأ أُبَيٌّ أيْضًا بِحَذْفِ الهَمْزَةِ ونَقْلِ حَرَكَتِها إلى المِيمِ السّاكِنَةِ قَبْلَها، والمَفْعُولُ الثّانِي لِأنْذَرَ مَحْذُوفٌ لِدَلالَةِ المَعْنى عَلَيْهِ، التَّقْدِيرُ أأنْذَرْتَهُمُ العَذابَ عَلى كُفْرِهِمْ أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمُوهُ ؟ وفائِدَةُ الإنْذارِ مَعَ تَساوِيهِ مَعَ العَدَمِ أنَّهُ قاطِعٌ لِحُجَّتِهِمْ، وأنَّهم قَدْ دُعُوا فَلَمْ يُؤْمِنُوا، ولِئَلّا يَقُولُوا ﴿رَبَّنا لَوْلا أرْسَلْتَ﴾ [طه: ١٣٤]، وأنَّ فِيهِ تَكْثِيرَ الأجْرِ بِمُعاناةِ مَن لا قَبُولَ لَهُ لِلْإيمانِ ومُقاساتِهِ، وإنَّ في ذَلِكَ عُمُومَ إنْذارِهِ لِأنَّهُ أُرْسِلَ لِلْخَلْقِ كافَّةً. وهَلْ قَوْلُهُ لا يُؤْمِنُونَ خَبَرٌ عَنْهم أوْ حُكْمٌ عَلَيْهِمْ أوْ ذَمٌّ لَهم أوْ دُعاءٌ عَلَيْهِمْ ؟ أقْوالٌ، وظاهِرُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ﴾ أنَّهُ إخْبارٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى بِخَتْمِهِ، وحَمَلَهُ بَعْضُهم عَلى أنَّهُ دُعاءٌ عَلَيْهِمْ، وكَنّى بِالخَتْمِ عَلى القُلُوبِ عَنْ كَوْنِها لا تَقْبَلُ شَيْئًا مِنَ الحَقِّ ولا تَعِيهِ لِإعْراضِها عَنْهُ، فاسْتَعارَ الشَّيْءَ المَحْسُوسَ لِلشَّيْءِ المَعْقُولِ، أوْ مَثَّلَ القَلْبَ بِالوِعاءِ الَّذِي خُتِمَ عَلَيْهِ صَوْنًا لِما فِيهِ ومَنعًا لِغَيْرِهِ مِنَ الدُّخُولِ إلَيْهِ. والأوَّلُ مَجازُ الِاسْتِعارَةِ، والثّانِي مَجازُ التَّمْثِيلِ. ونُقِلَ عَمَّنْ مَضى أنَّ الخَتْمَ حَقِيقَةٌ وهو انْضِمامُ القَلْبِ وانْكِماشُهُ، قالَ مُجاهِدٌ: إذا أذْنَبْتَ ضُمَّ مِنَ القَلْبِ هَكَذا، وضَمَّ مُجاهِدٌ الخِنْصَرَ، ثُمَّ إذا أذْنَبْتَ ضُمَّ هَكَذا، وضَمَّ البِنْصِرَ، ثُمَّ هَكَذا إلى الإبْهامِ، وهَذا هو الخَتْمُ والطَّبْعُ والرَّيْنُ. وقِيلَ: الخَتْمُ سِمَةٌ تَكُونُ فِيهِمْ تَعْرِفُهُمُ المَلائِكَةُ بِها مِنَ المُؤْمِنِينَ. وقِيلَ: حَفِظَ ما في قُلُوبِهِمْ مِنَ الكُفْرِ لِيُجازِيَهم. وقِيلَ: الشَّهادَةُ عَلى قُلُوبِهِمْ بِما فِيها مِنَ الكُفْرِ، ونِسْبَةُ الخَتْمِ إلى اللَّهِ تَعالى بِأيِّ مَعْنى فُسِّرَ إسْنادٌ صَحِيحٌ، إذْ هو إسْنادٌ إلى الفاعِلِ الحَقِيقِيِّ، إذِ اللَّهُ تَعالى خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ.
وقَدْ تَأوَّلَ الزَّمَخْشَرِيُّ وغَيْرُهُ مِنَ المُعْتَزِلَةِ هَذا الإسْنادَ، إذْ مَذْهَبُهم أنَّ اللَّهَ تَعالى لا يَخْلُقُ الكُفْرَ ولا يَمْنَعُ مِن قَبُولِ الحَقِّ والوُصُولِ إلَيْهِ، إذْ ذاكَ قَبِيحٌ، واللَّهُ تَعالى يَتَعالى عَنْ فِعْلِ القَبِيحِ، وذَكَرَ أنْواعًا مِنَ التَّأْوِيلِ عَشَرَةً، (مُلَخَّصُها): الأوَّلُ: أنَّ الخَتْمَ كَنّى بِهِ عَنِ الوَصْفِ الَّذِي صارَ كالخُلُقِيِّ، وكَأنَّهم جُبِلُوا عَلَيْهِ، وصارَ كَأنَّ اللَّهَ هو الَّذِي فَعَلَ بِهِمْ. (الثّانِي): أنَّهُ مِن بابِ التَّمْثِيلِ كَقَوْلِهِمْ: طارَتْ بِهِ العَنْقاءُ، إذا أطالَ الغَيْبَةَ، وكَأنَّهم مُثِّلَتْ حالُ قُلُوبِهِمْ بِحالِ قُلُوبٍ خَتَمَ اللَّهُ عَلَيْها. (الثّالِثُ): أنَّهُ نَسَبَهُ إلى السَّبَبِ لَمّا كانَ اللَّهُ هو الَّذِي أقْدَرَ الشَّيْطانَ ومَكَّنَهُ أسْنَدَ إلَيْهِ الخَتْمَ. (الرّابِعُ): أنَّهم لَمّا كانُوا مَقْطُوعًا بِهِمْ أنَّهم لا يُؤْمِنُونَ طَوْعًا ولَمْ يَبْقَ طَرِيقُ إيمانِهِمْ إلّا بِإلْجاءٍ وقَسْرٍ، وتَرْكُ القَسْرِ عَبَّرَ عَنْ تَرْكِهِ بِالخَتْمِ. (الخامِسُ): أنْ يَكُونَ حِكايَةً لِما يَقُولُهُ الكُفّارُ تَهَكُّمًا كَقَوْلِهِمْ: ﴿قُلُوبُنا في أكِنَّةٍ﴾ [فصلت: ٥] . (السّادِسُ): أنَّ الخَتْمَ مِنهُ عَلى قُلُوبِهِمْ هو الشَّهادَةُ مِنهُ بِأنَّهم لا يُؤْمِنُونَ. (السّابِعُ): أنَّها في قَوْمٍ مَخْصُوصِينَ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ في الدُّنْيا عِقابًا عاجِلًا، كَما عَجَّلَ لِكَثِيرٍ مِنَ الكُفّارِ عُقُوباتٍ في الدُّنْيا. (الثّامِنُ): أنْ يَكُونَ ذَلِكَ فَعَلَهُ بِهِمْ مِن غَيْرِ أنْ يَحُولَ بَيْنَهم وبَيْنَ الإيمانِ لِضِيقِ صُدُورِهِمْ عُقُوبَةً غَيْرَ مانِعَةٍ مِنَ الإيمانِ. (التّاسِعُ): أنْ يَفْعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ في الآخِرَةِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ونَحْشُرُهم يَوْمَ القِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وبُكْمًا وصُمًّا﴾ [الإسراء: ٩٧] . (العاشِرُ): ما حُكِيَ عَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ، وهو اخْتِيارُ أبِي عَلِيٍّ الجُبّائِيِّ، والقاضِي، أنَّ ذَلِكَ سِمَةٌ وعَلامَةٌ يَجْعَلُها اللَّهُ تَعالى في قَلْبِ الكافِرِ وسَمْعِهِ، تَسْتَدِلُّ بِذَلِكَ المَلائِكَةُ عَلى أنَّهم كُفّارٌ وأنَّهم لا يُؤْمِنُونَ. انْتَهى ما قالَهُ المُعْتَزِلَةُ. والمَسْألَةُ يُبْحَثُ عَنْها في أُصُولِ الدِّينِ. وقَدْ وقَعَ قَوْلُهُ: ﴿وعَلى سَمْعِهِمْ﴾ بَيْنَ شَيْئَيْنِ: يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ السَّمْعُ مَحْكُومًا عَلَيْهِ مَعَ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما، إذْ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ أشْرَكَ في الخَتْمِ بَيْنَهُ وبَيْنَ القُلُوبِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ أشْرَكَ في الغِشاوَةِ بَيْنَهُ وبَيْنَ الأبْصارِ. لَكِنَّ حَمْلَهُ عَلى الأوَّلِ أوْلى لِلتَّصْرِيحِ بِذَلِكَ في قَوْلِهِ: ﴿وخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وقَلْبِهِ وجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً﴾ [الجاثية: ٢٣] . وتَكْرِيرُ حَرْفِ الجَرِّ يَدُلُّ عَلى أنَّ الخَتْمَ خَتْمانِ، أوْ عَلى التَّوْكِيدِ، إنْ كانَ الخَتْمُ واحِدًا فَيَكُونُ أدَلَّ عَلى شِدَّةِ الخَتْمِ.
وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ ”أسْماعِهِمْ“ فَطابَقَ في الجَمْعِ بَيْنَ القُلُوبِ والأسْماعِ والأبْصارِ. وأمّا الجُمْهُورُ فَقَرَءُوا عَلى التَّوْحِيدِ، إمّا لِكَوْنِهِ مَصْدَرًا في الأصْلِ فَلُمِحَ فِيهِ الأصْلُ، وإمّا اكْتِفاءً بِالمُفْرَدِ عَنِ الجَمْعِ لِأنَّ ما قَبْلَهُ وما بَعْدَهُ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الجَمْعُ، وإمّا لِكَوْنِهِ مَصْدَرًا حَقِيقَةً وحَذْفُ ما أُضِيفَ إلَيْهِ لِدَلالَةِ المَعْنى أيْ حَواسِّ سَمْعِهِمْ. وقَدِ اخْتَلَفَ النّاسُ في أيِّ الحاسَّتَيْنِ السَّمْعِ والبَصَرِ أفْضَلُ، وهو اخْتِلافٌ لا يُجْدِي كَبِيرَ شَيْءٍ. والإمالَةُ في أبْصارِهِمْ جائِزَةٌ، وقَدْ قُرِئَ بِها، وقَدْ غَلَبَتِ الرّاءُ المَكْسُورَةُ حَرْفَ الِاسْتِعْلاءِ، إذْ لَوْلاها لَما جازَتِ الإمالَةُ، وهَذا بِتَمامِهِ مَذْكُورٌ في النَّحْوِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: غِشاوَةٌ بِكَسْرِ الغَيْنِ ورَفْعِ التّاءِ، وكانَتْ هَذِهِ الجُمْلَةُ ابْتِدائِيَّةً لِيَشْمَلَ الكَلامُ الإسْنادَيْنِ: إسْنادَ الجُمْلَةِ الفِعْلِيَّةِ وإسْنادَ الجُمْلَةِ الِابْتِدائِيَّةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ آكَدَ لِأنَّ الفِعْلِيَّةَ تَدُلُّ عَلى التَّجَدُّدِ والحُدُوثِ، والِاسْمِيَّةَ تَدُلُّ عَلى الثُّبُوتِ. وكانَ تَقْدِيمُ الفِعْلِيَّةِ أوْلى لِأنَّ فِيها أنَّ ذَلِكَ قَدْ وقَعَ وفُرِغَ مِنهُ، وتَقْدِيمُ المَجْرُورِ الَّذِي هو عَلى أبْصارِهِمْ مُصَحِّحٌ لِجَوازِ الِابْتِداءِ بِالنَّكِرَةِ، مَعَ أنَّ فِيهِ مُطابَقَةً بِالجُمْلَةِ قَبْلَهُ لِأنَّهُ تَقَدَّمَ فِيها الجُزْءُ المَحْكُومُ بِهِ. وهَذِهِ كَذَلِكَ، الجُمْلَتانِ تُؤَوَّلُ دَلالَتُهُما إلى مَعْنًى واحِدٍ، وهو مَنعُهم مِنَ الإيمانِ، ونَصَبُ المُفَضِّلِ غِشاوَةً يَحْتاجُ إلى إضْمارِ ما أظْهَرَ في قَوْلِهِ: وجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً، أيْ وجَعَلَ عَلى أبْصارِهِمْ غِشاوَةً، أوْ إلى عَطْفِ أبْصارِهِمْ عَلى ما قَبْلَهُ ونَصْبِها عَلى حَذْفِ حَرْفِ الجَرِّ، أيْ بِغِشاوَةٍ، وهو ضَعِيفٌ. ويُحْتَمَلُ عِنْدِي أنْ تَكُونَ اسْمًا وُضِعَ مَوْضِعَ مَصْدَرٍ مِن مَعْنى خَتَمَ؛ لِأنَّ مَعْنى خَتَمَ غَشِيَ وسَتَرَ، كَأنَّهُ قِيلَ: تُغَشِّيهِ عَلى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ، وتَكُونُ قُلُوبُهم وسَمْعُهم وأبْصارُهم مَخْتُومًا عَلَيْها مُغَشّاةً. وقالَ أبُو عَلِيٍّ: وقِراءَةُ الرَّفْعِ أوْلى لِأنَّ النَّصْبَ إمّا أنْ يَحْمِلَهُ عَلى خَتْمِ الظّاهِرِ فَيَعْرِضَ في ذَلِكَ أنَّكَ حُلْتَ بَيْنَ حَرْفِ العَطْفِ والمَعْطُوفِ بِهِ، وهَذا عِنْدَنا إنَّما يَجُوزُ في الشِّعْرِ، وإمّا أنْ تَحْمِلَهُ عَلى فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ خَتَمَ تَقْدِيرُهُ وجَعَلَ عَلى أبْصارِهِمْ فَيَجِيءُ الكَلامُ مِن بابِ:
مُتَقَلِّدًا سَيْفًا ورُمْحًا، وقَوْلِ الآخَرِ:

عَلَفْتُها تِبْنًا وماءً بارِدًا

ولا تَكادُ تَجِدُ هَذا الِاسْتِعْمالَ في حالِ سَعَةٍ واخْتِيارٍ، فَقِراءَةُ الرَّفْعِ أحْسَنُ، وتَكُونُ الواوُ عاطِفَةً جُمْلَةً عَلى جُمْلَةٍ. انْتَهى كَلامُ أبِي عَلِيٍّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى - . ولا أدْرِي ما مَعْنى قَوْلِهِ: لِأنَّ النَّصْبَ إنَّما يَحْمِلُهُ عَلى خَتْمِ الظّاهِرِ، وكَيْفَ تَحْمِلُ غِشاوَةً المَنصُوبَ عَلى خَتْمِ الَّذِي هو فِعْلٌ ؟ هَذا ما لا حَمْلَ فِيهِ اللَّهُمَّ إلّا إنْ أرادَ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ﴾ دُعاءً عَلَيْهِمْ لا خَبَرًا، فَإنَّ ذَلِكَ يُناسِبُ مَذْهَبَهُ لِاعْتِزالِهِ، ويَكُونُ غِشاوَةً في مَعْنى المَصْدَرِ المَدْعُوِّ بِهِ عَلَيْهِمُ القائِمِ مَقامَ الفِعْلِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: وغَشّى اللَّهُ عَلى أبْصارِهِمْ، فَيَكُونُ إذْ ذاكَ مَعْطُوفًا عَلى خَتَمَ عَطْفَ المَصْدَرِ النّائِبِ مَنابَ فِعْلِهِ في الدُّعاءِ، نَحْوَ قَوْلِكَ: رَحِمَ اللَّهُ زَيْدًا وسُقْيًا لَهُ، وتَكُونُ إذْ ذاكَ قَدْ حُلْتَ بَيْنَ غِشاوَةٍ المَعْطُوفِ وبَيْنَ خَتَمَ المَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِالجارِّ والمَجْرُورِ. وأمّا إنْ جَعَلْتَ ذَلِكَ خَبَرًا مَحْضًا وجَعَلْتَ غِشاوَةً في مَوْضِعِ المَصْدَرِ البَدَلِ عَنِ الفِعْلِ في الخَبَرِ فَهو ضَعِيفٌ لا يَنْقاسُ ذَلِكَ بَلْ يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلى مَوْرِدِ السَّماعِ، وقَرَأ الحَسَنُ بِاخْتِلافٍ عَنْهُ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: غُشاوَةٌ بِضَمِّ الغَيْنِ ورَفْعِ التّاءِ، وأصْحابُ عَبْدِ اللَّهِ بِالفَتْحِ والنَّصْبِ وسُكُونِ الشِّينِ، وعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ كَذَلِكَ إلّا أنَّهُ رَفَعَ التّاءَ. وقَرَأ بَعْضُهم: غِشْوَةٌ بِالكَسْرِ والرَّفْعِ، وبَعْضُهم: غِشْوَةً وهي قِراءَةُ أبِي حَيْوَةَ، والأعْمَشُ قَرَأ بِالفَتْحِ والرَّفْعِ والنَّصْبِ. وقالَ الثَّوْرِيُّ: كانَ أصْحابُ عَبْدِ اللَّهِ يَقْرَءُونَها غَشْيَةٌ بِفَتْحِ الغَيْنِ والياءِ والرَّفْعِ. اهـ. وقالَ يَعْقُوبُ: غُشْوَةٌ بِالضَّمِّ لُغَةٌ، ولَمْ يُؤْثِرْها عَنْ أحَدٍ مِنَ القُرّاءِ. قالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: وأصْوَبُ هَذِهِ القِراءاتِ المَقْرُوءِ بِها ما عَلَيْهِ السَّبْعَةُ مِن كَسْرِ الغَيْنِ عَلى وزْنِ عِمامَةٍ، والأشْياءُ الَّتِي هي أبَدًا مُشْتَمِلَةٌ، فَهَذا يَجِيءُ وزْنُها كالصِّمامَةِ، والعِمامَةِ، والعِصابَةِ، والرَّيّانَةِ، وغَيْرِ ذَلِكَ. وقَرَأ بَعْضُهم: غِشاوَةٌ بِالعَيْنِ المُهْمِلَةِ المَكْسُورَةِ والرَّفْعِ مِنَ العَشِيِّ، وهو شِبْهُ العَمى في العَيْنِ. وتَقْدِيمُ القُلُوبِ عَلى السَّمْعِ مِن بابِ التَّقْدِيمِ بِالشَّرَفِ وتَقْدِيمُ الجُمْلَةِ الَّتِي انْتَظَمَتْها عَلى الجُمْلَةِ الَّتِي تَضَمَّنَتِ الأبْصارَ مِن هَذا البابِ أيْضًا. وذَكَرَ أهْلُ البَيانِ أنَّ التَّقْدِيمَ يَكُونُ بِاعْتِباراتٍ خَمْسَةٍ: تَقَدُّمُ العِلَّةِ والسَّبَبِ عَلى المَعْلُولِ والمُسَبَّبِ، كَتَقْدِيمِ الأمْوالِ عَلى الأوْلادِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّما أمْوالُكم وأوْلادُكم فِتْنَةٌ﴾ [التغابن: ١٥]، فَإنَّهُ إنَّما يَشْرَعُ في النِّكاحِ عِنْدَ قُدْرَتِهِ عَلى المُؤْنَةِ، فَهي سَبَبٌ إلى التَّزَوُّجِ، والنِّكاحُ سَبَبٌ لِلتَّناسُلِ، والعِلَّةُ: كَتَقَدُّمِ المُضِيءِ عَلى الضَّوْءِ، ولَيْسَ تَقَدُّمُ زَمانٍ؛ لِأنَّ جِرْمَ الشَّمْسِ لا يَنْفَكُّ عَنِ الضَّوْءِ، وتَقَدُّمٌ بِالذّاتِ، كالواحِدِ مَعَ الِاثْنَيْنِ، ولَيْسَ الواحِدُ عِلَّةً لِلِاثْنَيْنِ بِخِلافِ القِسْمِ الأوَّلِ، وتَقَدُّمٌ بِالشَّرَفِ، كَتَقَدُّمِ الإمامِ عَلى المَأْمُومِ، وتَقَدُّمٌ بِالزَّمانِ، كَتَقَدُّمِ الوالِدِ عَلى الوَلَدِ بِالوُجُودِ، وزادَ بَعْضُهم سادِسٌ وهو: التَّقَدُّمُ بِالوُجُودِ حَيْثُ لا زَمانَ. ولَمّا ذَكَرَ تَعالى حالَ هَؤُلاءِ الكُفّارِ في الدُّنْيا، أخْبَرَ بِما يَئُولُ إلَيْهِ أمْرُهم في الآخِرَةِ مِنَ العَذابِ العَظِيمِ. ولَمّا كانَ قَدْ أعَدَّ لَهُمُ العَذابَ صَيَّرَ كَأنَّهُ مِلْكٌ لَهم لازِمٌ، والعَظِيمُ هو الكَبِيرُ. وقِيلَ: العَظِيمُ فَوْقُ؛ لِأنَّ الكَبِيرَ يُقابِلُهُ الصَّغِيرُ، والعَظِيمُ يُقابِلُهُ الحَقِيرُ. قِيلَ: والحَقِيرُ دُونَ الصَّغِيرِ، وأصْلُ العِظَمِ في الجُثَّةِ ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ في المَعْنى، وعِظَمُ العَذابِ بِالنِّسْبَةِ إلى عَذابٍ دُونَهُ يَتَخَلَّلُهُ فُتُورٌ، وبِهَذا التَّخَلُّلِ المُتَصَوَّرِ يَصِحُّ أنْ يَتَفاضَلَ العَرَضانِ كَسَوادَيْنِ أحَدُهُما أشْنَعُ مِنَ الآخَرِ، إذْ قَدْ تَخَلَّلَ الآخَرَ ما لَيْسَ بِسَوادٍ. وذَكَرَ المُفَسِّرُونَ في سَبَبِ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ إلى قَوْلِهِ: (عَظِيمٌ) أقْوالًا: (أحَدُها): أنَّها نَزَلَتْ في يَهُودَ كانُوا حَوْلَ المَدِينَةِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، وكانَ يُسَمِّيهِمُ. (الثّانِي): نَزَلَتْ في قادَةِ الأحْزابِ مِن مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، قالَهُ أبُو العالِيَةِ. (الثّالِثُ): في أبِي جَهْلِ وخَمْسَةٍ مِن أهْلِ بَيْتِهِ، قالَهُ الضَّحّاكُ. (الرّابِعُ): في أصْحابِ القَلِيبِ: وهم أبُو جَهْلٍ، وشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وعُقْبَةُ بْنُ أبِي مُعَيْطٍ، وعُتَبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، والوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ. (الخامِسُ): في مُشْرِكِي العَرَبِ قُرَيْشٍ وغَيْرِها. (السّادِسُ): في المُنافِقِينَ، فَإنْ كانَتْ نَزَلَتْ في ناسٍ بِأعْيانِهِمْ وافَوْا عَلى الكُفْرِ، فالَّذِينَ كَفَرُوا مَعْهُودُونَ، وإنْ كانَتْ لا في ناسٍ مَخْصُوصِينَ وافَوْا عَلى الكُفْرِ، فَيَكُونُ عامًّا مَخْصُوصًا. ألا تَرى أنَّهُ قَدْ أسْلَمَ مِن مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وغَيْرِها ومِنَ المُنافِقِينَ ومِنَ اليَهُودِ خَلْقٌ كَثِيرٌ بَعْدَ نُزُولِ هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ ؟ . وذَكَرُوا أيْضًا أنَّ في هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ مِن ضُرُوبِ الفَصاحَةِ أنْواعًا: (الأوَّلُ): الخِطابُ العامُّ اللَّفْظِ الخاصُّ المَعْنى. (الثّانِي): الِاسْتِفْهامُ الَّذِي يُرادُ بِهِ تَقْرِيرُ المَعْنى في النَّفْسِ، أيْ يَتَقَرَّرُ أنَّ الإنْذارَ وعَدَمَهُ سَواءٌ عِنْدَهم. (الثّالِثُ): المَجازُ، ويُسَمّى الِاسْتِعارَةَ، وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وعَلى سَمْعِهِمْ﴾، وحَقِيقَةُ الخَتْمِ وضْعُ مَحْسُوسٍ عَلى مَحْسُوسٍ يَحْدُثُ بَيْنَهُما رَقْمٌ يَكُونُ عَلامَةً لِلْخاتَمِ، والخَتْمُ هُنا مَعْنَوِيٌّ، فَإنَّ القَلْبَ لَمّا لَمْ يَقْبَلِ الحَقَّ مَعَ ظُهُورِهِ اسْتُعِيرَ لَهُ اسْمُ المَخْتُومِ عَلَيْهِ فَبَيَّنَ أنَّهُ مِن مَجازِ الِاسْتِعارَةِ. (الرّابِعُ): الحَذْفُ، وهو في مَواضِعَ، مِنها: ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، أيْ إنَّ القَوْمَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ وبِكَ وبِما جِئْتَ بِهِ. ومِنها: لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وبِما أخْبَرْتَهم بِهِ عَنْهُ. ومِنها: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا تَعِي وعَلى أسْماعِهِمْ فَلا تُصْغِي. ومِنها: وعَلى أبْصارِهِمْ غِشاوَةً عَلى مَن نَصَبَ، أيْ وجَعَلَ عَلى أبْصارِهِمْ غِشاوَةً فَلا يُبْصِرُونَ سَبِيلَ الهِدايَةِ. ومِنها: ولَهم عَذابٌ، أيْ ولَهم يَوْمَ القِيامَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ دائِمٌ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: ولَهم عَذابٌ عَظِيمٌ في الدُّنْيا بِالقَتْلِ والسَّبْيِ أوْ بِالإذْلالِ ووَضْعِ الجِزْيَةِ وفي الآخِرَةِ بِالخُلُودِ في نارِ جَهَنَّمَ. (الخامِسُ): التَّعْمِيمُ، وهو في قَوْلِهِ: ﴿ولَهم عَذابٌ عَظِيمٌ﴾، فَإنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلى قَوْلِهِ عَذابٌ ولَمْ يَقُلْ عَظِيمٌ لاحْتَمَلَ القَلِيلَ والكَثِيرَ، فَلَمّا وصَفَهُ بِالعَظِيمِ تَمَّمَ المَعْنى وعَلِمَ أنَّ العَذابَ الَّذِي وُعِدُوا بِهِ عَظِيمٌ، إمّا في المِقْدارِ وإمّا في الإيلامِ والدَّوامِ. (السّادِسُ): الإشارَةُ، فَإنَّ قَوْلَهُ: ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ﴾ إشارَةٌ إلى أنَّ السَّواءَ الَّذِي أُضِيفَ إلَيْهِمْ وبالُهُ ونَكالُهُ عَلَيْهِمْ ومُسْتَعْلٍ فَوْقَهم؛ لِأنَّهُ لَوْ أرادَ بَيانَ أنَّ ذَلِكَ مِن وصْفِهِمْ فَحَسْبُ لَقالَ: سَواءٌ عِنْدَهم، فَلَمّا قالَ: سَواءٌ عَلَيْهِمْ، نَبَّهَ عَلى أنَّهُ مُسْتَعْلٍ عَلَيْهِمْ، فَإنَّ كَلِمَةَ عَلى لِلِاسْتِعْلاءِ وهو الَّذِي قالَهُ هَذا القائِلُ مِن أنَّ عَلى تُشْعِرُ بِالِاسْتِعْلاءِ صَحِيحٌ، وأمّا أنَّها تَدُلُّ عَلى أنَّ الكَلامَ تَضَّمَنَ مَعْنى الوَبالِ والنَّكالِ عَلَيْهِمْ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلِ المَعْنى في قَوْلِكَ سَواءٌ عَلَيْكَ وعِنْدَكَ كَذا وكَذا واحِدٌ، وإنْ كانَ أكْثَرُ الِاسْتِعْمالِ بِعَلى، قالَ تَعالى: ﴿سَواءٌ عَلَيْنا أوَعَظْتَ أمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الواعِظِينَ﴾ [الشعراء: ١٣٦]، ﴿سَواءٌ عَلَيْنا أجَزِعْنا أمْ صَبَرْنا﴾ [إبراهيم: ٢١]، سَواءٌ عَلَيْها رِحْلَتِي ومَقامِي، وكُلُّ هَذا لا يَدُلُّ عَلى مَعْنى الوَبالِ والنَّكالِ عَلَيْهِمْ. (السّابِعُ): مَجازُ التَّشْبِيهِ، شَبَّهَ قُلُوبَهم لِتَأبِّيها عَنِ الحَقِّ، وأسْماعَهم لِإضْرابِها عَنْ سَماعِ داعِيَ الفَلاحِ، وأبْصارَهم لِامْتِناعِها عَنْ تَلَمُّحِ نُورِ الهِدايَةِ بِالوِعاءِ المَخْتُومِ عَلَيْهِ المَسْدُودِ مَنافِذُهُ المُغَشّى بِغِشاءٍ يَمْنَعُ أنْ يَصِلَ إلَيْهِ ما يُصْلِحُهُ، لَمّا كانَتْ مَعَ صِحَّتِها وقُوَّةِ إدْراكِها مَمْنُوعَةً عَنْ قَبُولِ الخَيْرِ وسَماعِهِ وتَلَمُّحِ نُورِهِ، وهَذا كُلُّهُ مِن مَجازِ التَّشْبِيهِ، إذِ الخَتْمُ والغِشاوَةُ لَمْ يُوجَدا حَقِيقَةً، وهو بِالِاسْتِعارَةِ أوْلى، إذْ مِن شَرْطِ التَّشْبِيهِ أنْ يُذْكَرَ المُشَبَّهُ والمُشَبَّهُ بِهِ.


التفسير البسيط — الواحدي (٤٦٨ هـ)


﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ سَوَاۤءٌ عَلَیۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ﴾ [البقرة ٦]
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُوا﴾ الآية. ﴿إِنَّ﴾ الثقيلة تكون منصوبة الألف وتكون مكسورة الألف. فإذا(١) كانت مبتدأة ليس قبلها شيء تعتمد(٢) عليه، أو جاءت بعدها (لام) مؤكدة يعتمد عليه(٣) أو جاءت بعد القول وما تصرف(٤) منه، وكانت حكاية: كسرت الألف، وفيما سوى ذلك تنصب(٥). ومعناها في الكلام: التوكيد، وهي التي تنصب الأسماء وترفع الأخبار، وإنما نصبت ورفعت، لأنها تشبه بالفعل، وشبهها أنها لا تلي الأفعال ولا تعمل فيها، وأنها يذكر بعدها الاسم والخبر، كما يذكر بعد الفعل الفاعل والمفعول، إلا أنه قدم المفعول فيها ليفصل بين ما يشبه بالفعل وليس لفظه لفظ الفعل(٦)، وبين ما يشبه بالفعل ولفظه لفظ الفعل، نحو (كان) وبابه(٧).
وقوله تعالى: ﴿كَفَرُوا﴾ معنى الكفر في اللغة: التغطية.
أقرأني أحمد بن محمد بن عبد الله بن يوسف العروضي(٨) -رحمه الله- قال: أخبرني الأزهري، عن المنذري، عن الحراني، عن ابن السكيت قال: إذا لبس الرجل فوق درعه ثوباً فهو كافر، وقد كفر فوق درعه، وكل ما غطى شيئاً فقد كفره. ومنه قيل لليل: كافر، لأنه ستر بظلمته وغطى، وأنشد لثعلبة بن صُعَير المازني(٩):
فتذكّرا ثَقَلًا رثيداً بعدما ... ألقت ذكاءُ يمينَها في كافرِ(١٠)
أي: الليل.
ومنه يسمى الكافر كافراً، لأنه ستر نعم الله.
ويقال: رماد مكفور، أي: سَفَت عليه الريح التراب حتى وارته، قال الراجز:
قد درسَتْ(١١) غير رمادٍ مكفورْ ... مكتئبِ اللون مَريحٍ ممطورْ(١٢)
وقال آخر(١٣):
فوردَتْ قبلَ انبلاجِ(١٤) الفَجْرِ ... وابنُ ذُكاءٍ كامنٌ فى كَفْرِ(١٥)
أي: فيما يواريه من سواد الليل، وقد كفر الرجل متاعه [أي:](١٦) أوعاه في وعاء(١٧).
وقال ابن المظفر(١٨): سمي الكافر: كافراً، لأن الكفر غطى قلبه كله.
قال الأزهري: وهذا يحتاج إلى إيضاح. وهو: أن (الكفر) في اللغة:
التغطية، فالكافر معناه: ذو الكفر، ذو تغطية لقلبه بكفره، كما يقال للابس السلاح: كافر، وهو الذي غطاه السلاح. ومثله: رجل كاس أي: ذو كسوة، وناعل: ذو نعل(١٩).
وقول ابن(٢٠) السكيت في معنى الكافر أبين وأصح(٢١). والنعمة التي أنعم الله على العبد فكفرها(٢٢) الكافر، أي: سترها، هي الهدى والآيات التي أبانت لذوي التمييز أن الله واحد لا شريك له، فمن لم يصدق بها وردها فقد كفر النعمة، أي: سترها وغطاها.
ويجوز أن يقال: إن الكافر لما دعاه الله إلى توحيده فقد دعاه إلى نعمة أوجبها له إذا أجابه إلى ما دعاه إليه، فإذا لم(٢٣) يجب كان كافرا لتلك النعمة، أي: مغطيا لها، مكذبًا بها، حاجبا لها عنه(٢٤).
قال شمر: قال بعض أهل العربية(٢٥): الكفر على أربعة أنحاء: كفر إنكار، وكفر جحود، وكفر معاندة، وكفر نفاق، من لقي ربه بشيء من ذلك لم يغفر له.
فأما كفر الإنكار: فهو أن يكفر بقلبه ولسانه ولا يعرف ما يذكر له من التوحيد.
وكذلك روي في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ﴾ [البقرة: 6]، أي: الذين كفروا بتوحيد الله.
وأما كفر الجحود: فأن يعرف بقلبه ولا يقر بلسانه، فهذا كافر جاحد ككفر إبليس، وكفر أمية بن أبي الصلت(٢٦)، ومنه قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾ [البقرة: 89]، يعني: كفر الجحود. وأما كفر المعاندة: فهو أن يعرف بقلبه ويقر بلسانه، ويأبى أن يقبل، ككفر أبي طالب حيث يقول:
ولقد علمتُ بأنّ(٢٧) دين محمد ... من خير أديان البرية دينا(٢٨)
لولا الملامةُ أو حِذارُ مسَبّةٍ ... لوجدتَني سمحاً(٢٩) بذاك متينا(٣٠) وأما كفر النفاق: فأن يقر بلسانه ويكفر بقلبه.
قال(٣١): والكفر -أيضا- يكون بمعنى: البراءة، كقول الله عز وجل خبرًا عن الشيطان ﴿إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ﴾ [إبراهيم: 22]، أي تبرأت(٣٢). ويقال: كفر كفراً وكفوراً، كما يقال: شكر شكراً وشكوراً(٣٣) قال الله تعالى: ﴿فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا﴾ [الإسراء:89].
وقوله تعالى: ﴿سَوَآءُ عَلَيهِم﴾. السواء(٣٤)، والعدل، والوسط، والقصد، والنصف: ألفاظ متقاربة في المعنى. يقال للعدل: السواء، قال زهير(٣٥).
أرُوني(٣٦) خُطَّةً لا خَسْفَ فيها ... يُسَوِّي(٣٧) بيننا فيها السَّوَاءُ(٣٨) وأنشد أبو زيد لعنترة(٣٩):
أبَينا فلا نُعطي السَّواءَ عدوَّنا ... قيامًا بأعضاد السَّراءِ المُعَطَّفِ(٤٠)
و (السواء): وسط الشيء، ومنه قوله: ﴿فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ﴾(٤١) [الصافات: 55].
و (سواء) مأخوذ من الاستواء والتساوي، وهو الاعتدال(٤٢)، قال الشاعر:
وليلٍ يقولُ المرءُ من ظلماته ... سواءٌ صحيحاتُ العيونِ وعُورُها(٤٣)
أي: معتدلة في البصر والإدراك.
وقالوا: سِيٌّ بمعنى: سواء، كما قالوا: قِيّ وقَواء(٤٤)، ولا يثنى (سواء) كما ثني (سيان) وإن كانوا قد جمعوه جمع التكسير في قولهم: (سواسية)(٤٥).
قال أبو الهيثم(٤٦): يقال فلان وفلان سواء(٤٧)، أي: متساويان، وقوم سواء، لأنه مصدر، لا يثنى ولا يجمع. قال الله عز وجل: ﴿لَيسُواْ سَوَآء﴾ [آل عمران: 113] أي: ليسوا مستوين(٤٨)، وإذا قلت: سواء عليّ، احتجت أن تترجم عنه بشيئين، كقولك: سواء حرمتني أو أعطيتني.
وحكى السكري عن أبي حاتم إجازة تثنية (سواء)(٤٩).
قال أبو علي الفارسي: لم يصب ابن(٥٠) السجستاني في ذلك، لأن الأخفش وأبا عمر الجرمي(٥١) زعما(٥٢) أن ذلك لا يثنى، كأنهم استغنوا بتثنية (سي)(٥٣) عن تثنية (سواء)، كما استغنوا عن (ودع)، بـ (ترك)(٥٤). وأنشد أبو زيد: هلاّ،(٥٥) كوصل ابن عمّارٍ تُواصلني ... ليس الرجالُ وإن سُوُّوا بأسواءِ(٥٦)
فـ (أسواء): ليس يخلو من(٥٧) أن يكون جمع (سي) [أو (سواء) فإن كان جمع (سي)](٥٨) فهو كـ (مثل) و (أمثال) و (نقض) و (أنقاض)، وإن كان جمع (سواء) فهو كقولهم في النعت(٥٩): جواد وأجواد، وفي الاسم: حياء الناقة وأحياء، ولا يمتنع جمعه، وإن كانوا لم يثنوه كما لم يمتنعوا من جمعه على سواسية(٦٠).
وقوله تعالى: ﴿ءَأَنذَرتَهُم﴾(٦١). الإنذار: إعلام مع تخويف، فكل منذر معلم، وليس كل معلم منذراً(٦٢). وأنذرت يتعدى إلى مفعولين كقوله تعالى: ﴿فَقُل أَنذَرتُكُم صعِقَةً﴾ [فصلت: 13] وقوله: ﴿إِنَّا أَنذَرناكم عَذَابًا قَرِيبًا﴾ [النبأ: 40] ويقال: أنذرتُه فنَذِرَ، أي: علم بموضع الخوف(٦٣).
و (النذر) ما يجعله الإنسان على نفسه إن سلم مما يخافه(٦٤).
وقد جاء: النذير والنذر مصدرين كالإنذار(٦٥)، فجاء المصدر على: (فعيل) و (فعل). وفي القرآن ﴿فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾(٦٦) وفيه ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ [القمر: 16]. وقيل في قوله: ﴿نَذِيَرًا لِلْبَشَرِ﴾ [المدثر: 36]: إنه مصدر في موضع الحال من قوله: ﴿إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ﴾ [المدثر: 35]، كما تقول(٦٧): جاء(٦٨) ركضاً. فتجعل المصدر حالاً(٦٩).
وجعل (نذير) أيضًا مصدراً في قوله: ﴿وَجَآءكُمُ اَلنذِير﴾ [فاطر: 37] إذا فسر بأنه الشيب(٧٠).
وفي قوله: ﴿ءَأَنذَرتَهُم﴾ وجهان من القراءة(٧١) تحقيق الهمزتين، وتليين الثانية(٧٢).
فمن حققهما(٧٣) فحجته(٧٤): أن الهمزة حرف من حروف الحلق، فجاز أن يجتمع مع مثله كسائر الحروف الحلقية، نحو: فَهَّ(٧٥) وفَهِهْتُ، وكَعَّ(٧٦) وكَعَعْتُ، كذلك حكم الهمزة.
ومما يقوّي ذلك قولهم: (رَأّس)(٧٧) وسأّل، (تذأَّبت الريح)(٧٨)، و (رأيت(٧٩) الرجل). وكما جمع الجميع بينهما إذا كانتا عينين، كذلك يجوز الجمع بينهما في غير هذا الموضع(٨٠).
وحجة من خفف(٨١) الثانية: أن القرب قد رفضت جمعهما(٨٢) في مواضع من كلامهم، من ذلك أنهما(٨٣) لما اجتمعتا في (آدم) و (آدر) و (آخر) ألزموا جميعا الثانية البدل(٨٤) ولم يحققوها.
ولما كسروا وحقروا جعلوا هذه المبدلة بمنزلة مالا أصل له في الهمزة فقالوا: أواخر وأويخر(٨٥)، فأبدلوا منها (الواو)، كما أبدلوها مما هو ألفط لا يناسب(٨٦) الهمزة، نحو: ضوارب وضويرب، وفي هذا دلالة بينة على رفضهم اجتماعهما.
ألا تراهم لم يرجعوها(٨٧) في التحقير والتكسير، كما رجعوا (الواو) في: ميقات وميعاد(٨٨)، و (الياء) في: موسر(٨٩)، في قولهم: مواقيت ومياسير، وفي ذلك دلالة بينة على رفضهم لجمعها(٩٠).
ومن ذلك أيضا أنا لم نجد كلمة عينها همزة ولامها كذلك، كما وجدنا في سائر أخوات الهمزة من الحلقية كقولهم: مهاه(٩١)، فهّ(٩٢)، و ﴿يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴾ [الماعون: 2]، و (مح)(٩٣) و (ألح) و (مخ)(٩٤). فإذا لم يجمعوا بين الهمزتين في المواضع(٩٥) التي جمع فيها بين أخواتها(٩٦)، دل ذلك على رفضهم(٩٧) لجمعها(٩٨).
ومن ذلك(٩٩) أنهم ألزموا باب (رزيئة) و (خطيئة)(١٠٠) القلب(١٠١) في الجمع، لما يؤدي اجتماع الهمزتين، فقالوا: (خطايا) و (رزايا)(١٠٢)، فلو كان لاجتماعهما عندهم مساغ ما رفضوا ذلك الأصل، كما أنه لو كان لتحرك العينات في نحو: (قال) و (باع) مجاز، ما ألزموها القلب(١٠٣). فإن قيل: فقد حكى عن بعضهم: (خطائئ) بتحقيق الهمزتين(١٠٤)؟
قيل: هذا يجري مجرى الأصول المرفوضة(١٠٥) نحو:
............. ضننوا(١٠٦)
........... والأظلل(١٠٧)
ولا يعتد بذلك(١٠٨).
ومن ذلك أيضا أنهم إذا بنوا اسم فاعل من(١٠٩) (ناء) و (شاء) [و (جاء)(١١٠) قالوا: (شاءٍ)(١١١) و (ناءٍ)(١١٢)، فرفضوا الجمع بينهما ورفضوه في هذا الطرف كما رفضوه أولا في: (آدم) و (آخر)(١١٣).
ومن ذلك أيضًا أن من قال: هذا فرجّ، وهو يجعلّ، فضاعف(١١٤) في الوقف حرصاً على البيان، في يضاعف نحو: (البناء)(١١٥)، و (الرشاء)، لكنه رفض(١١٦) هذا الضرب(١١٧) من الوقف، وما كان يحرص عليه من البيان لما كان يلزمه الأخذ بما تركوه، والاستعمال لما رفضوه من اجتماع الهمزتين(١١٨).
وإذا كان الأمر على هذا(١١٩)، فالجمع في: ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ﴾(١٢٠) أقبح من الجمع في كلمتين منفصلتين، نحو: قرأ أبوك، ورشاء أخيك، لأن الهمزة الأولى من ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ﴾ تنزل منزلة ما هو من الكلمة نفسها، لكونها على حرف مفرد(١٢١)، ألا ترى أنهم قالوا(١٢٢): لهو ولهي، فخففوا كما خففوا: عضدا(١٢٣)، فكذلك الهمزة الأولى، لما لم تنفصل من الكلمة صارت بمنزلة التي في آخر(١٢٤).
فأما إذا كانتا(١٢٥) من كلمتين، فاجتماعهما في القياس أحسن من هذا(١٢٦)، ألا ترى أن المثلين إذا كانا في كلمة نحو: يرد ويعض، لا يكون فيها(١٢٧) إلا الإدغام.
ولو كانا منفصلين نحو: (يد داود)، لكنت(١٢٨) في الإدغام والبيان بالخيار. فعلى هذا تحقيق الهمزتين في: ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ﴾(١٢٩) -وما أشبهه- أبعد منه في الكلمتين المنفصلتين.
ومما يقوي ترك الجمع بين الهمزتين: أنهم قالوا في جمع (ذؤابة): ذوائب، فأبدلوا(١٣٠) من الهمزة التي هي عين(١٣١) (واوا) في التكسير كراهة للهمزتين مع فصل حرف بينهما. فإذا كرهوهما مع فصل حرف بينهما حتى أبدلوا الأولى منهما، فأن(١٣٢) يكرهوهما غير مفصول بينهما بشيء أجدر(١٣٣).
وأيضاً فإنهم كرهوا(١٣٤) الهمزة المفردة حتى قلبوها أو حذفوها، وذلك إجماعهم(١٣٥) في(١٣٦) (يرى)(١٣٧) على حذف الهمزة(١٣٨)، فلما كرهوا ذلك في الإفراد وجب أن لا يجوز في المتكرر(١٣٩) إلا التغيير.
وإذا كان الجمع بينهما في [البعد على هذا، فالجمع بينهما في](١٤٠): (أئمة)(١٤١) أبعد، لأن الهمزتين لا تفارقان الكلمة(١٤٢)، وهمزة الاستفهام قد تسقط في الإخبار وغيره، فلما كانت أشد لزومًا للكلمة كان التحقيق فيها أبعد(١٤٣).
وأما أبو عمرو فكان يلين الثانية ويجعل بينهما مدة(١٤٤). وحجته: أنه وإن خفف الثانية بأن جعلها بين الألف والهمز، فذلك لا يخرجها عن أن تكون همزة متحركة، وإن كان الصوت بها أضعف؛ ألا ترى أنها إذا كانت مخففة في الوزن مثلها إذا كانت محققة(١٤٥)، فلولا ذلك لم يتزن(١٤٦) قوله(١٤٧):
.... آأنتَ(١٤٨) زيد الأراقم(١٤٩) لأنه يجتمع(١٥٠) ثلاث سواكن، وإذا كان كذلك فتجعل(١٥١) بينهما (مدة)، لئلا تكون جامعاً بين الهمزتين.
وقوله تعالى: ﴿ءَأَنذَرتَهُم﴾: لفظه لفظ الاستفهام(١٥٢)، ومعناه الخبر، ومثل ذلك قولك: ما أبالي(١٥٣) أشهدت أم غبت، وما أدري أأقبلت(١٥٤) أم أدبرت.
وإنما جرى عليه لفظ الاستفهام وإن كان خبرا، لأن فيه التسوية التي في الاستفهام، ألا ترى أنك إذا استفهمت فقلت: أخرج زيد أم أقام؟ فقد استوى الأمران عندك في الاستفهام، وعدم علم أحدهما بعينه، كما أنك(١٥٥) إذا أخبرت(١٥٦) فقلت. سواء عليّ أقعدت أم قمت، فقد سويت الأمرين عليك، فلما عمتهما التسوية، جرى على هذا الخبر لفظ الاستفهام، لمشاركته له في الإبهام، فكل استفهام تسوية، وإن لم يكن كل تسوية استفهاما(١٥٧).
وحرر أبو إسحاق هذا الفصل فقال(١٥٨): إنما(١٥٩) دخلت ألف الاستفهام وأم التي هي للاستفهام(١٦٠)، والكلام خبر، لمعنى التسوية، والتسوية آلتها(١٦١) الاستفهام وأم. تقول من ذلك(١٦٢): أزيد في الدار أم عمرو؟ فإنما دخلت الألف وأم، لأن علمك(١٦٣) قد استوى في زيد وعمرو، وقد علمت أن أحدهما في الدار لا محالة، ولكنك استدعيت(١٦٤) أن يبين(١٦٥) لك الذي علمت ويلخص(١٦٦) لك علمه من غيره، ولهذا تقول(١٦٧). قد علمت أزيد في الدار أم عمرو، وإنما تريد أن تسوي عند من تخبره العام الذي قد خلص عندك(١٦٨).
ولا يجوز هاهنا (أو) مكان (أم) لأن (أم) للتسوية بين الشيئين، و (أو) إنما هي لأحد شيئين(١٦٩)، يدلك(١٧٠) على هذا أن (أم)(١٧١) تكون مع الألف بتأويل (أي) فإذا قلت: أزيد عندك أم عمرو؟ فكأنك قلت: أيهما(١٧٢) عندك، [وإذا قلت: أزيد عندك أو عمرو؟ لم يكن على معنى: أيهما عندك(١٧٣)، هذا اختلاف الجواب، لأنك إذا قلت: أزيد عندك أم عمرو؟ فجوابه: زيد أو عمرو(١٧٤)، وكذلك في (أي) جوابه أن يذكر أحد الاسمين بعينه، فأما إذا قلت: أزيد عندك أو عمرو؟ فجوابه: نعم أو لا، فهذا فرق بينهما واضح(١٧٥).
ومثل هذه الآية قوله(١٧٦): ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ [المنافقون: 6]، وقوله: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا﴾ [إبراهيم: 21]
و ﴿سَوَاءٌ﴾ في الآية رفع بالابتداء، ويقوم ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ مقام الخبر في المعنى، كأنه بمنزلة قولك: (سواء عليهم الإنذار وتركه) لا في الإعراب، لأنك إذا قدرت هذا التقدير في الإعراب صار ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ﴾ خبراً مقدَّمًا(١٧٧).
والجملة في موضع رفع، بأنها(١٧٨) خبر ﴿إن﴾(١٧٩).
ويجوز أن يكون خبر ﴿إن﴾ قوله: ﴿لَا يؤْمِنُونَ﴾ كأنه قيل: (إن الذين كفروا لا يؤمنون سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم). فيكون قوله: ﴿سَوَآءٌ عَلَيهمءَأَنذَرتَهُم﴾ جملة معترضة بين الاسم والخبر، وجاز ذلك، لأنه تأكيد لامتناعهم عن الإيمان(١٨٠)، ولو كان كلاماً أجنبياً لم يجز اعتراضه بينهما، وسترى لهذا(١٨١) نظائر.
ومعنى: ﴿سَوَآءٌ عَلَيْهِم﴾ أي: معتدل متساو، و ﴿سَوَآءٌ﴾ اسم مشتق من التساوي. يقول: هما عندي سواء، ومنه قوله ﴿فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ﴾ [الأنفال: 58]، يعني: أعلمهم(١٨٢) حتى يستوي علمك وعلمهم(١٨٣). و ﴿سَوَآءٌ اَلْجَحِيمِ﴾ [الصافات:55] وسطه، لاستواء مقادير نواحيه إليه.
وقول القائل: (سواك وسواءك)(١٨٤) أي(١٨٥): من هو في مكانك بدلا منك لاستوائه(١٨٦) في مكانك.
قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في اليهود الذين كانوا بنواحي المدينة(١٨٧) على عهد رسول الله ﷺ. وهذا القول اختيار ابن جرير، قال: لأن الله تعالى إنما ذكر هؤلاء عقيب مؤمني أهل الكتاب، فذكر بعد مؤمنيهم كافريهم، والكلام بعضه لبعض تبع(١٨٨).
وقال الضحاك: نزلت في أبي جهل وخمسة(١٨٩) من أهل بيته(١٩٠).
وقال الربيع: نزلت في قادة الأحزاب يوم بدر(١٩١)، وكذلك الآية التي بعدها.
قال أبو العالية: لم يسلم منهم إلا رجلان، وكانا مغموصاً عليهما في دينهما(١٩٢)، أحدهما: أبو سفيان(١٩٣)، والأخر: الحكم بن أبي العاص(١٩٤). ثم ذكر الله تعالى سبب تركهم الإيمان فقال:

(١) في (ب): (وإذا).
(٢) في (ب)، (ج): (يعتمد) وهو موافق لـ"تهذيب اللغة" 1/ 222، والكلام منقول منه.
(٣) (عليه) في جميع النسخ. وفي "تهذيب اللغة" (عليها) 1/ 222.
(٤) في (ب): (يصرف).
(٥) في (ب). (ينصب) وفي "تهذيب اللغة" (تنصب الألف).
والكلام بنصه ذكره الأزهري عن الليث عن الخليل، سوى قوله: أو جاءت بعد القول فذكره عن الفراء. "تهذيب اللغة" (أن) 1/ 222، وانظر مواضع فتح وكسر همزة (إن) في "الكتاب" 3/ 134 وما بعدها، "الأصول في النحو" 1/ 262 وما بعدها.
(٦) من هنا بدأ سقط لوحة كاملة من (ب).
(٧) ذكره الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 40، وانظر: "الأصول في النحو" 1/ 23، "الإيضاح في علل النحو" ص 135، "الإنصاف" ص 153 - 155.
(٨) شيخ الواحدي، تقدمت ترجيته مع شيوخه.
(٩) هو ثعلبة بن صعير بن خزاعي المازني، شاعر جاهلي قديم، قال الأصمعي: لو قال ثعلبة بن صعير مثل قصيدته خمساً كان فحلاً، انظر "فحولة الشعراء" الأصمعي ص 12، "الأعلام" للزركلي 2/ 99.
(١٠) البيت من قصيدة له، ذكرها المفضل الضبي في "المفضليات" ص 128 - 131، والبيت في "إصلاح المنطق" ص 49، 339، وفي "تهذيب اللغة" (كفر) 4/ 3162، "المشوف المعلم في ترتيب الإصلاح" 1/ 332، 2/ 679، "أمالي القالي" 2/ 145، "الصحاح" (كفر) 2/ 808، "مقاييس اللغة" (كفر) 5/ 191، "المخصص" 6/ 78 ، 9/ 19،7/ 17، "اللسان" (رثد) 3/ 15981، و (كفر) 7/ 3899، و (ذكا) 3/ 1510، و"تفسير ابن عطية" 1/ 151، و"تفسير القرطبي" 1/ 159، و"تفسير الطبري" 1/ 110، "الدر المصون" 1/ 107.
وفي هذا البيت يذكر الظليم والنعامة، والثقل: بيضهما، والرثد: المتاع المرثود، وذكاء. الشمس، أي بدأت في المغيب، والكافر: الليل.
(١١) في (ج): (رزشت).
(١٢) الرجز لمنظور بن مرثد الأسدي، وقيل: لأبي مهدي. وقبله:
هل تعرف الدار بأعلى ذى القور؟
يقول: درست معالم الدار إلا رماداً مكفوراً، أي: سفت عليه الريح، والأبيات في "إصلاح المنطق" ص 340، وفي "التهذيب" (كفر) 4/ 3162، "الصحاح" (كفر) 2/ 807، "المخصص" 6/ 78، "المشوف المعلم في ترتيب الإصلاح" 2/ 679، "مقاييس اللغة" (كفر) 10/ 198، "اللسان" (كفر) 7/ 3900. وكلهم رووه (مروح ممطور) سوى (المخصص) فنصه مثل رواية المؤلف هنا.
(١٣) هو حميد الأرقط.
(١٤) في (ج): (ابلاج).
(١٥) قال ابن السكيت. ويروى: (في كفر) وهما لغتان. وابن ذكاء: يعني الصبح، "إصلاح المنطق" ص 340، وانظر: "تهذيب اللغة" (كفر) 4/ 3162، ورد البيت كذلك في "الصحاح" (كفر) 7/ 3900، "المخصص" 6/ 78، "المشوف المعلم" 2/ 679، "اللسان" (كفر) 7/ 3900، و"تفسير القرطبي" 1/ 160، "الدر المصون" 1/ 106.
(١٦) في (أ)، (ج): (إلى)، وفي "إصلاح المنطق"، "التهذيب": (أي) وهو الصحيح. "الإصلاح" ص 340، "التهذيب" (كفر) 4/ 3162.
(١٧) انتهى كلام ابن السكيت وهو في "الإصلاح" ص 339،340، "تهذيب اللغة" (كفر) 4/ 3162، ونص الواحدي من "التهذيب".
(١٨) هو الليث. انظر: "التهذيب" (كفر) 4/ 3161، ومقدمة "التهذيب" 1/ 47.
(١٩) في (التهذيب) بدل (فاعل: ذو نعل)، وماء دافق: ذو دفق 4/ 3161.
(٢٠) في (ج): (بن).
(٢١) قال الأزهري: قلت: وما قاله ابن السكيت بيِّن صحيح، 4/ 3161.
(٢٢) في "التهذيب": (والنعم التي سترها الكافر هي الآيات التي أبانت لذي التمييز .. إلخ) 4/ 3162.
(٢٣) في "التهذيب": (.. فقد دعاه إلى نعمة ينعم بها عليه إذا قبلها، فلما رد ما دعاه إليه من توحيده كان كافرا نعمة الله ..)، 4/ 3161.
(٢٤) "التهذيب" (كفر) 4/ 3160، وقد تصرف الواحدي في نقل كلام الأزهري.
(٢٥) في "التهذيب" (قال شمر: قال بعض أهل العلم)، 4/ 3160.
(٢٦) شاعر جاهلي أدرك النبي ﷺ وكفر به حسدًا، كان له شعر جيد، وكان يخبر أن نبيًّا قد أظل زمانه، وكان يؤمل أن يكون ذلك النبي، فلما بلغه خروج النبي ﷺ كفر به حسداً، ولما أنشد النبي ﷺ شعره قال: "آمن لسانه وكفر قلبه". وسبقت ترجمته، وانظر: "الخزانة" 1/ 249.
(٢٧) في (ج): (أن).
(٢٨) إلى هنا ينتهي السقط من (ب).
(٢٩) في (ب): (سحا).
(٣٠) كذا جاءت الأبيات في "التهذيب" 4/ 3160، "اللسان" (كفر) 7/ 3898، و"تفسير البغوي" 1/ 64، وفي "تفسير النسفي" 1/ 50، (ضمن مجموعة من التفاسير) وفيها (سمحا بذلك مبينا) وفي "تفسير القرطبي" (بقينا) 6/ 406. وذكرها المؤلف في "أسباب النزول" بمثل روايته لها هنا. ص 210.
(٣١) أي: شمر. "التهذيب" 4/ 3160.
(٣٢) كلام شمر جميعه في "تهذيب اللغة" (كفر) 4/ 3160، "اللسان" (كفر) 7/ 3898، وانظر أنواع الكفر في "التصاريف" المنسوب ليحيى بن سلام ص 104، 105، و"النسفي" 1/ 50 (ضمن مجموعة من التفاسير).
(٣٣) "الحجة" لأبي علي1/ 245، وانظر "تهذيب اللغة" 4/ 3160.
(٣٤) الكلام في "الحجة" بنصه 1/ 245. وانظر "التصاريف" ص 111، 112، "تهذيب اللغة" 2/ 1795، "الصحاح" (سوا) 6/ 2384.
(٣٥) هو زهير بن أبي سلمى، أحد فحول شعراء الجاهلية، توفي قبل المبعث بسنة. انظر ترجمته في "الشعر والشعراء" ص 69، "الخزانة" 2/ 332.
(٣٦) في "الحجة" (أرونا) وفي الهامش في ط (أرني) 1/ 246.
(٣٧) في (ب): (يسوا).
(٣٨) رواية البيت في الديوان: أرونا سنة لا عيب فيها.
يقول: أرونا سنة لا عيب فيها ولا ظلم، تسوى بيننا بالحق، "ديوان زهير" ص 84، "الحجة" 1/ 246، "تهذيب اللغة" "لفيف السين" 2/ 1795، "البحر" 1/ 347، "الدر المصون" 1/ 108.
(٣٩) هو عنترة بن عمرو بن شداد العبسي، كان شاعرًا، وكان أشجع أهل زمانه وأجودهم. انظر ترجمته في: "الشعر والشعراء" ص 149، "طبقات فحول الشعراء" 1/ 152، "الخزانة" 1/ 128.
(٤٠) البيت من قصيدة قالها عنترة يوم (عرار) يخاطب فيها بني حنيفة، قوله: السواء: الصلح، أعضاد: جمع عضد، وهو القوس، والسراء: شجر يتخذ منه القسي، المعطف: المعوج، انظر. "ديوان عنترة" ص 52، "نوادر أبي زيد" ص 377، "الحجة" 1/ 246.
(٤١) كلمة (في) في الآية ساقط من (أ).
(٤٢) "الأضداد" لابن الأنباري ص 43.
(٤٣) البيت للأعشى كما في "ديوانه" ص 68، وفيه: "يقول القوم" سواء بصيرات .. " وهو في "الأضداد" لابن الأنباري ص 43، وفيه "يقول القوم"، "الطبري" 1/ 111، "البحر المحيط" 1/ 47، "القرطبي" 1/ 160، "الدر المصون" 1/ 107.
(٤٤) (القي) بالكسر والتشديد (فعل) من القوا (وهي الأرض القفر) "اللسان" (قوا) 6/ 3789، انظر: "الصحاح" 6/ 2470، "مقاييس اللغة" (قوي) 5/ 37.
(٤٥) في (ج): (سواء سييه). الكلام في "الحجة" لأبي علي 1/ 246، 247.
(٤٦) "تهذيب اللغة" 2/ 1793.
(٤٧) في "التهذيب": (فلان وفلان سواعد، أي: متساويان) وهو تصحيف 2/ 1795.
(٤٨) في (ب): (مستويين).
(٤٩) ذكره أبو علي في "الحجة" 1/ 268.
(٥٠) في (ب): (لم يصف ممن).
(٥١) هو صالح بن إسحاق، أبو عمر الجرمي، النحوي، بصري، قدم بغداد، لقي الفراء، وأخذ عن الأخفش وأبي عبيدة والأصمعي، وكان ذا دين وورع، توفى سنة خمس وعشرين ومائتين. انظر ترجمته في: "تاريخ بغداد" 9/ 313، "طبقات النحويين واللغويين" ص 174، (إنباه الرواة) 2/ 80، "وفيات الأعيان" 2/ 485.
(٥٢) في (ب): (زعموا).
(٥٣) في (ب): (بتثنيته شي).
(٥٤) في (ب) (بكرا). "الحجة" 1/ 268، وما بعده في "الحجة" في موضع آخر.
(٥٥) في (ب): (مهلا).
(٥٦) أنشده أبو زيد في (النوادر) قال: (وقال رافع بن هريم، وأدرك الإسلام، ثم ذكر البيت وبيتين قبله، "النوادر" ص 282، وانظر: "الحجة" 1/ 247، "اللسان" (سوا) 4/ 2160.
(٥٧) (من) ساقطة من (ب).
(٥٨) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٥٩) في "الحجة": (وإن كان جمع سواء فهو مثل ما حكاه أبو زيد من قولهم: جواد وأجواد ..)، 1/ 247.
(٦٠) انتهى من "الحجة" 1/ 247، 248.
(٦١) في (أ) رسمت: (آنذرتهم).
(٦٢) ذكره أبو علي في "الحجة" 1/ 253، وانظر (تفسير أبي الليث) 1/ 92، "تفسير الثعلبي" 1/ 48/أ.
(٦٣) "الحجة" 1/ 253، "تفسير الثعلبي" 1/ 48 أ.
(٦٤) تعريف النذر اصطلاحًا: التزام قربة غير لازمة في أصل الشرع، بلفظ يشعر بذلك، انظر: "الروض المربع مع حاشية ابن قاسم" 7/ 496، "التعريفات" للجرجاني ص240، و"فقه السنة" 2/ 22.
(٦٥) في "الحجة": (وقالوا: النذير والنذر، كما قالوا: النكير والنكر، فجاء المصدر على فعيل وعلى فعل ..) 1/ 254.
(٦٦) جزء من آية في الحج: 44، وسبأ: 45، وفاطر:26، والملك: 18.
(٦٧) (تقول) ساقط من (ب).
(٦٨) في (ج): (أجاء).
(٦٩) في "الحجة": (فأما قوله تعالى: ﴿نَذِيَرًا لِلْبَشَرِ﴾ فقد قيل فيه قولان: أحدهما: أن يكون حالا من (قم) المذكورة في أول السورة والآخر: أن يكون حالا من قوله: ﴿إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ﴾ فإذا جعل (نذيرا) حالا مما في (قم) فإن (النذير) اسم فاعل بمعنى المنذر .. وإن جعلته حالا من قوله: ﴿لَإِحْدَى الْكُبَرِ﴾ فليس يخلو الحال أن يكون من المضاف أومن المضاف إليه .. وفي كلا الوجهين ينبغي أن يكون (نذيرا) مصدرا، والمصدر يكون حالا من الجميع كما يكون حالا من المفرد. تقول: جاؤوا ركضًا، كما تقول: جاء ركضًا ..) 1/ 255.
(٧٠) في "الحجة". (.. فمن قال: إن النذير النبي ﷺ كان اسم فاعل كالمنذر، ومن قال: إنه الشيب كان الأولى أن يكون مصدرًا كالإنذار)، "الحجة" 1/ 255.
(٧١) (من القراءة) ساقط من (ب).
(٧٢) بالتحقيق قرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، وابن عامر. "السبعة" لابن مجاهد ص 137، "الكشف عن وجوه القراءات" 1/ 73. وبتليين الثانية قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو. "السبعة" لابن مجاهد ص 137، "الكشف" 1/ 73 قال في (السبعة). من قول أبي عمرو أنه يدخل بين الهمزتين ألفا.
(٧٣) في (ب): (حققها) وفي (ج): (حقق).
(٧٤) "الحجة" 1/ 274.
(٧٥) الفهّ: الكليل اللسان العيي، وفه عن الشيء: نسيه، وقد فهه كفرح. عيي. انظر: "اللسان" (فهه) 6/ 3481، "القاموس" (فهه) ص 1251.
(٧٦) الكع. الضعيف العاجز، وكع الوجه: رقيقه، وكع يكع: جبن وضعف. انظر. "اللسان" (كعع) 8/ 312، "القاموس" (كع) ص 759.
(٧٧) وهو الذي يبيع الرؤوس. إصلاح المنطق ص 148.
(٧٨) (تذأبت الريح) إذا جاءت مرة من هاهنا، ومرة من هاهنا. "إصلاح المنطق" ص 144، " اللسان" (ذأب) 3/ 1479.
(٧٩) رأيته: إذا أريته على خلاف ما أنا عليه. انظر: "القاموس" ص 1285.
(٨٠) "الحجة" 1/ 275، وانظر: "الكشف" لمكي 1/ 73.
(٨١) في (ب): (حقق).
(٨٢) في (ب): (جمعها).
(٨٣) في "الحجة" (أنهم لما اجتمعتا ...)، 1/ 275.
(٨٤) أبدلوا مكانها الألف، انظر "الكتاب" 3/ 552.
(٨٥) وقالوا في آدم: أوادم في الجمع، وفي التصغير: أويدم. انظر "الكتاب" 3/ 552.
(٨٦) في (أ): (تناسب) وما في (ب)، (ج) موافق لما في "الحجة" 1/ 276.
(٨٧) في (ب): (يرجعوا لها).
(٨٨) (وميعاد) ساقط من (ب).
(٨٩) في (ب): (مولس)
(٩٠) (لجمعها) كذا في جميع النسخ، وفي "الحجة" (لجمعهما) 1/ 276، وهذا هو الصحيح أي: جمع الهمزتين.
(٩١) المهه والمهاه. النضارة والحسن، وقيل: الشيء الحقير اليسير، والهاء فيها لا تصير تاء، إلا إذا أردت بالمهاة. البقرة. انظر: "اللسان" (مهه) 7/ 4290.
(٩٢) في (أ): (فة) وفي "الحجة" (فه) بدون نقط وهو الصحيح 1/ 276، فه عن الشيء: إذا نسيه، والفه: اللسان العيى. "اللسان" (فهه) 6/ 3481.
(٩٣) (مح): المح: الثوب الخلق، مح: أخلق. "اللسان" (محح) 7/ 4143.
(٩٤) في (أ): (مح) وفي (ب)، (ج) بدون نقط أو تشكيل. وفي "الحجة" (مخ) 1/ 276.
(٩٥) في "الحجة": (الموضع) 1/ 276.
(٩٦) في "الحجة": (وكررت) 1/ 276، أي جمع بين حروف الحلق وكررت
(٩٧) في (ب). (بعصهم).
(٩٨) في "الحجة": (لجمعهما) 1/ 276 أي الهمزتين.
(٩٩) انظر بقية كلام أبي علي في "الحجة" 1/ 277.
(١٠٠) في (ج): (ذربه) و (خطئه).
(١٠١) في "الحجة": (.. عما يؤدي إلى اجتماع همزتين فيه، فقالوا ...) 1/ 277.
(١٠٢) قال المازني: (اعلم أنك إذا جمعت (خطيئة) و (رزيئة) على (فعائل) قلت: (خطايا) و (رزايا) وما أشبه هذا مما لامه همزة في الأصل، لأنك همزت ياء (خطيئة) و (رزيئة) في الجمع كما همزت ياء (قبيلة) و (سفينة) حين قلت: (قبائل) و (سفائن) وموضع اللام من (خطيئة) مهموز فاجتمع همزتان، فقلبت الثانية ياء، لاجتماع الهمزتين فصارت (خطائى) ثم أبدلت مكان الياء ألفاء ... فصارت (خطاءا) وتقديرها: (خطاءا) والهمزة قريبة المخرج من الألف فكأنك جمعت == بين ثلاث ألفات فلما كان كذلك أبدلوا من الهمزة (ياء) فصار (خطايا)، "المنصف" 2/ 54، 55.
(١٠٣) (القلب) ساقط من (ب).
(١٠٤) انظر "المقتضب" 1/ 159، "المنصف" 2/ 57، "سر صناعة الإعراب" 1/ 71، قال ابن جني: حكاه أبو زيد.
(١٠٥) قال أبو الفتح ابن جني: شاذ لا يقاس عليه. "سر صناعة الإعراب" 1/ 72.
(١٠٦) جزء من بيت كما في "الحجة" 1/ 277 وتمامه:
مهلا أعاذل قد جربت من خلقي ... أني أجود لأقوام وإن ضننوا
أراد. ضنوا، فأظهر التضعيف لضرورة الشعر. انظر "الكتاب" 1/ 29، 3/ 535، "النوادر" لأبي زيد ص 230، "المقتضب" 1/ 142، 253، "المنصف" 1/ 339 "اللسان" (ضنن) 5/ 2614، "ظلل" 5/ 2756.
(١٠٧) المراد بالأظلل ما ورد في قول الراجز: تشكو الوجى من أظلل وأظلل ففك الإدغام في (أظلل) ضرورة، والبيت للعجاج، وبعضهم نسبه لأبي النجم. وهو في "ديوان العجاج" ص 155، "الكتاب" 3/ 535، "النوادر" ص 230، "المقتضب" 1/ 252،3/ 354، "الخصائص" 1/ 161، 3/ 87، "المنصف" 1/ 339 "اللسان" (ظلل) 4/ 2756، و (ملل) 7/ 4271، وقوله (تشكو): أي: الإبل و (الوجى): الحفى، الأظلل: باطن الخف.
(١٠٨) "الحجة" 1/ 277، 278.
(١٠٩) في (ب): (على من) زيادة (على).
(١١٠) في "الحجة" (ناء وساء وشاء).
(١١١) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).]
(١١٢) في (ب): (تا). وترك التمثيل لاسم الفاعل من (جاء) وهو: (جاء) والأصل فيها (شائئ) و (جائئ) و (نائئ) فلما التقت همزتان أبدلت الثانية (ياء) ثم عوملت مثل (قاض). انظر: "المنصف" 2/ 52.
(١١٣) انظر بقية كلام أبي علي في: "الحجة" 1/ 278.
(١١٤) في (ب): (تضاعف).
(١١٥) في "الحجة" (النبأ).
(١١٦) في (ب): (نفض).
(١١٧) في (ب): (الصوت).
(١١٨) "الحجة" 1/ 279.
(١١٩) أي: رفض اجتماع الهمزتين. قال أبو علي بعد سياق تلك الحجج، (فهذِه الأشياء تدل على رفض اجتماع الهمزتين في كلامهم. فأما جمعهما وتحقيقهما في (أأنذرتهم) فهو أقبح ....) 1/ 280.
(١٢٠) في (أ)، (ب): (أنذرتهم) بهمزة واحدة، وما في (ج) موافق لما في "الحجة".
(١٢١) في (ب): (منفرد).
(١٢٢) في (ب): (إذا قالوا).
(١٢٣) أصلها: (عضد).
(١٢٤) في (ب): (آخرها).
(١٢٥) أي: (الهمزتان)
(١٢٦) قال سيبويه: (وأعلم أن الهمزتين إذا التقتا وكانت كل واحدة منهما من كلمة فإن أهل التحقيق يخففون إحداهما ويستثقلون تحقيقهما ...)، "الكتاب" 3/ 548.
(١٢٧) في "الحجة" (فيهما) 1/ 280.
(١٢٨) في (ب): (الكنت).
(١٢٩) في جميع النسخ (أنذرتهم) بهمزة واحدة والتصحيح من "الحجة" 1/ 281.
(١٣٠) في (ب): (وأبدلوا).
(١٣١) في (ب): (غير).
(١٣٢) في (ب): (وإن).
(١٣٣) في (ب): (واحد). "الحجة" لأبي علي 1/ 281.
(١٣٤) الضمير يعود على من يقول بتخفيف الهمزة، قال في "الحجة": (من ذلك أن الهمزة إذا كانت مفردة غير متكررة، كرهها أهل التخفيف، حتى قلبوها أو حذفوها، لئلا، يلزمهم تحقيقها، وقد وافقهم في بعض ذلك أهل التحقيق، كموافقتهم لهم في: (يرى) ..)، 1/ 279.
(١٣٥) أي. أهل التخفيف والتحقيق. انظر كلام أبي علي السابق.
(١٣٦) (في) ساقطة من (ج).
(١٣٧) في (ب): (ترى).
(١٣٨) (يرى) مضارع (رأى) اتفق أهل تحقيق الهمزة، وتخفيفها، على حذفها على التخفيف. انظر "الكتاب" 3/ 546، "المسائل الحلبيات" لأبي علي ص 83، "سر صناعة الإعراب" 1/ 76.
(١٣٩) أي: الهمزة المكررة. "الحجة" 1/ 279.
(١٤٠) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(١٤١) في (أ): (أأيمة) وفي (ب)، (ج): (أئمة) ومثله في "الحجة" 1/ 281.
(١٤٢) في (ب): (الضمة).
(١٤٣) يشير إلى أن التحقيق في (أئمة) أبعد، لأن الهمزتين لا تفارقان الكلمة، بينما الهمزة الأولى في (أأنذرتهم) همزة استفهام قد تسقط، فهي كالمنفصلة، ومع ذلك كرهوا تحقيقها. وبعد هذا الاحتجاج الطويل لمن يرى تخفيف الهمزة الثانية الذي نقله الواحدي عن أبي علي من كتاب "الحجة"، والذي هو مذهب أكثر النحويين وعليه أكثر العرب، كما قال سيبويه: (فليس من كلام العرب أن تلتقى همزتان فتحققا ...) انظر "الكتاب" 3/ 548، 549، وانظر "المقتضب" 1/ 158، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 41 - 45، مع ذلك فقراءة التحقيق قراءة سبعية متواترة من حيث السند، ولها حجتها من اللغة. انظر "الكشف" لمكي1/ 73، ولا يقال فيها ما قال أبو الفتح عثمان بن جني: قراءة أهل الكوفة أئمة شاذة عندنا. "سر صناعة الإعراب" 1/ 72 وإن كان يريد من الناحية اللغوية.
(١٤٤) انظر "السبعة" ص 136، "الحجة" لأبي علي 1/ 385، "الكتاب" 3/ 551، قال في "الكشف": وهو مذهب أبي عمرو، وقالون عن نافع، وهشام عن عامر 1/ 74.
(١٤٥) في (ب) ، (ج): (مخففة).
(١٤٦) في (ب): (تبرز).
(١٤٧) أي: لو لم تكن الهمزة المخففة بزنة المحققة لا نكسر وزن الشعر. انظر "الكتاب" 3/ 550، "الحجة" 1/ 385.
(١٤٨) في (ب) (أنت).
(١٤٩) الكلام بنصه في "الحجة"، قال: (.. ولولا ذلك لم يتزن قوله: أأن رأت رجلاً == أعشى "الحجة" 1/ 285، 286. فاستشهد أبو علي ببيت الأعشى، وهو شاهد سيبويه على هذِه المسألة انظر "الكتاب" 3/ 550. أما الواحدي فاستشهد ببيت ذي الرمة، الذي استشهد به الثعلبي في (تفسيره) ونصه:
تطاللت فاستشرفته فعرفته ... فقلت له: آأنت زيد الأراقم
وروايته في "ديوان ذي الرمة"، وفي "الحجة" وغيرهما (زيد الأرانب). نظر "تفسير الثعلبي" 1/ 48/ أ، "الحجة" 1/ 279، "تهذيب اللغة" (اجتماع الهمزتين) 1/ 73، "اللسان" (حرف الهمزة) 1/ 18، "ديوان ذى الرمة" 3/ 1849.
(١٥٠) في (ب): (لأنه كان تجتمع) مثله في "الحجة": (لأنه كان يجتمع فيه ساكنان) 1/ 286، وقصد الواحدي بثلاثة سواكن هي: السكون الذي في مدة الهمزة الأولى وسكون الثانية على الاحتمال الممنوع، وسكون النون.
(١٥١) في (ب): (يجعل)، (ويكون) بالياء في الموضعين.
(١٥٢) من قوله: وقوله تعالى ﴿ءَأَنذَرْتَهُم﴾ .. نقله من "الحجة" بنصه، 1/ 264.
(١٥٣) في (ب): (لا أبالي).
(١٥٤) في (ب): (أقبلت).
(١٥٥) في (ب): (أنت).
(١٥٦) في (ب): (اختبرت).
(١٥٧) انتهى ما نقله عن أبي علي من "الحجة" 1/ 264، 265، ونحوه قال أبو عبيدة في "المجاز" 1/ 31 وانظر. الطبري 1/ 111، وابن عطية 1/ 154 - 155.
(١٥٨) في "معاني القرآن" 1/ 41.
(١٥٩) في (ب): (إذا).
(١٦٠) في (ب): (الاستفهام).
(١٦١) في "معاني القرآن": (والكلام خبر فإنما وقع ذلك لمعنى التسوية، والتسوية آلتها (ألف) الاستفهام و (أم)، تقول: أزيد في الدار أم عمر.). 1/ 41.
(١٦٢) في (ب): (في ذلك) وفي (ج) (يقول).
(١٦٣) في (ب): (عليك).
(١٦٤) في "المعاني": (أردت) 1/ 41.
(١٦٥) في (ب): (تبين).
(١٦٦) كذا رسمت في (أ)، (ج)، وفي (ب) (ويلحظ) وفي "المعاني" (ويخلص) وهو الأصوب.
(١٦٧) في (ج): (يقول).
(١٦٨) انتهى كلام الزجاج 1/ 41، وانظر الطبري 1/ 111.
(١٦٩) انظر: "الحجة" 1/ 265، 266، "مغني اللبيب" 1/ 43.
(١٧٠) في (ب): (فذلك).
(١٧١) في (ب): (لم).
(١٧٢) في (ب): (أنهما).
(١٧٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).]
(١٧٤) في (ب): (ونحوا به زيدا وعمرا).
(١٧٥) انظر: "الكتاب" 3/ 169، 170، 171، "مغني اللبيب" 1/ 42.
(١٧٦) انظر: "الحجة" 1/ 271.
(١٧٧) قال أبو علي. (.. فإن رفعته بأنه خبر لم يجز، لأنه ليس في الكلام مخبر عنه، فإذا لم يكن مخبر عنه بطل أن يكون خبرا .. وأيضا فإنه لا يجوز أن يكون خبرا لأنه قبل الاستفهام، وما قبل الاستفهام لا يكون داخلا في حيز الاستفهام، فلا يجوز إذن أن يكون الخبر عما في الاستفهام متقدما على الاستفهام ..)، "الحجة" 1/ 269،
(١٧٨) في (ب): (بأن).
(١٧٩) "الحجة"، 1/ 268، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 41.
(١٨٠) "الحجة" 1/ 268، 269، وانظر "معاني القرآن" للزجاج 1/ 41، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 134، "المشكل" لمكي 1/ 20، "الدر المصون" للسمين الحلبي 1/ 105.
(١٨١) في (ب): (لها).
(١٨٢) في (أ)، (ج): (علمهم). وأثبت ما في (ب)، لأنه المناسب للسياق.
(١٨٣) ذكره الطبري 10/ 27، وانظر: "الثعلبي" 1/ 48 أ.
(١٨٤) في (أ): (سواؤك) و (ب): (سواك) و (ج): (سوائك)، والتصحيح من "الحجة" 1/ 250، 251، وانظر "الأضداد" لابن الأنباري ص 40، وقد سبق كلام الواحدي عن (سواء) في أول تفسير الآية.
(١٨٥) (أي) ساقطة من (ب).
(١٨٦) في (ب): (لاستوائك).
(١٨٧) ذكره الطبري 1/ 108، وابن أبي حاتم 1/ 186 - 187 وذكره الثعلبي عن الكلبي 1/ 47 ب، ومثله أبو الليث 1/ 92، والبغوي 1/ 64، وانظر ابن كثير 1/ 48.
(١٨٨) "تفسير الطبري" 1/ 109.
(١٨٩) في (ب): (وحمته).
(١٩٠) ذكره الثعلبي1/ 47 ب.
(١٩١) أخرجه الطبري بسنده عن الربيع 1/ 109، وأخرجه ابن أبي حاتم بسنده عن الربيع ابن أنس عن أبي العالية 1/ 40، وفي حاشيته: قال المحقق: في سنده اضطراب وذكره ابن كثير، قال: قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية ثم ذكره، 1/ 48. وذكره السيوطي في "الدر" عن أبي العالية ونسبه إلى ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، 1/ 65، وهو عند ابن جرير عن الربيع بن أنس ولم يوصله لأبي العالية كما سبق.
(١٩٢) هذِه الزيادة عن أبي العالية، ذكرها النحاس في "القطع والائتناف" ص 116، والسيوطي في "الدر" ولفظه: (ولم يدخل من القادة أحد في الإسلام إلا رجلان أبو سفيان، والحكم بن أبي العاص)، ولم ترد عند ابن جرير ولا ابن أبي حاتم، كما أن قوله (وكان مغموصاً عليهما في دينهما) لم يذكرها السيوطي. "الدر" 1/ 65.
(١٩٣) أبو سفيان هو صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، رأس قريش وقائدهم في يوم الأحزاب، أسلم يوم الفتح، كان من دهاة العرب، توفي بالمدينة سنة إحدى وثلاثين. انظر ترجمته في "الإصابة" 2/ 178 - 179، "سير أعلام النبلاء" 2/ 105 - 107.
(١٩٤) الحكم بن أبي العاص بن أمية، ابن عم أبي سفيان، من مسلمة الفتح، وله نصيب من الصحبة، نفاه النبي ﷺ إلى الطائف، وأقدمه للمدينة عثمان - رضي الله عنه - مات سنة إحدى وثلاثين. انظر ترجمته في: "الإصابة" 1/ 345، "سير أعلام النبلاء" 2/ 107، "الجرح والتعديل" 3/ 120.



محاسن التأويل — القاسمي (١٣٣٢ هـ)

﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ سَوَاۤءٌ عَلَیۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ﴾ [البقرة ٦]
القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[٦ ] ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهم لا يُؤْمِنُونَ﴾
لَمّا بَيَّنَ تَعالى نُعُوتَ المُؤْمِنِينَ قَبْلُ، شَرَحَ أحْوالَ مُقابِلِيهِمْ وهُمُ الكَفَرَةُ المَرَدَةُ بِأنَّهم: تَناهَوْا في الغَوايَةِ والضَّلالِ إلى حَيْثُ لا يُجْدِيهُمُ الإنْذارُ والتَّذْكِيرُ، كَما قالَ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ﴾ [يونس: ٩٦] ﴿ولَوْ جاءَتْهم كُلُّ آيَةٍ حَتّى يَرَوُا العَذابَ﴾ [يونس: ٩٧] وكَقَوْلِهِ سُبْحانَهُ في المُعانِدِينَ الكِتابِيِّينَ: ﴿ولَئِنْ أتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾ [البقرة: ١٤٥] الآيَةَ.
و"سَواءٌ" اسْمٌ بِمَعْنى: الِاسْتِواءِ، وُصِفَ بِهِ، كَما يُوصَفُ بِالمَصادِرِ، مُبالَغَةً؛ ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿تَعالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وبَيْنَكُمْ﴾ [آل عمران: ٦٤] بِمَعْنى: مُسْتَوِيَةٍ.
و(الإنْذارُ): الإعْلامُ مَعَ تَخْوِيفٍ، والمُرادُ هُنا: التَّخْوِيفُ مِن عَذابِهِ تَعالى، وانْتِقامِهِ، والِاقْتِصارِ عَلَيْهِ لِما أنَّهم لَيْسُوا أهْلًا لِلْبِشارَةِ، ولِأنَّ الإنْذارَ أوْقَعُ في القُلُوبِ؛ ومَن لَمْ يَتَأثَّرْ بِهِ فَلَأنْ لا يَرْفَعَ لِلْبِشارَةِ رَأْسًا - أوْلى.
وقَوْلُهُ "لا يُؤْمِنُونَ" جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، مُؤَكِّدَةٌ لِما قَبْلَها، مُبَيِّنَةٌ لِما فِيهِ مِن إجْمالِ ما فِيهِ الِاسْتِواءُ.



إرشاد العقل السليم — أبو السعود (٩٨٢ هـ)

﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ سَوَاۤءٌ عَلَیۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ﴾ [البقرة ٦]
﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾: كَلامٌ مُسْتَأْنَفٌ؛ سِيقَ لِشَرْحِ أحْوالِ الكَفَرَةِ الغُواةِ المَرَدَةِ العُتاةِ؛ إثْرَ بَيانِ أحْوالِ أضْدادِهِمُ المُتَّصِفِينَ بِنُعُوتِ الكَمالِ؛ الفائِزِينَ بِمَباغِيهِمْ في الحالِ والمَآلِ؛ وإنَّما تُرِكَ العاطِفُ بَيْنَهُما؛ ولَمْ يُسَلَكْ بِهِ مَسْلَكَ قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿إنَّ الأبْرارَ لَفي نَعِيمٍ﴾ ﴿وَإنَّ الفُجّارَ لَفي جَحِيمٍ﴾؛ لِما بَيْنَهُما مِنَ التَّنافِي في الأُسْلُوبِ؛ والتَّبايُنِ في الغَرَضِ؛ فَإنَّ الأُولى مَسُوقَةٌ لِبَيانِ رِفْعَةِ شَأْنِ الكِتابِ في بابِ الهِدايَةِ والإرْشادِ؛ وأمّا التَّعَرُّضُ لِأحْوالِ المُهْتَدِينَ بِهِ فَإنَّما هو بِطَرِيقِ الِاسْتِطْرادِ؛ سَواءٌ جُعِلَ المَوْصُولُ مَوْصُولًا بِما قَبْلَهُ؛ أوْ مَفْصُولًا عَنْهُ؛ فَإنَّ الِاسْتِئْنافَ مَبْنِيٌّ عَلى سُؤالٍ نَشَأ مِنَ الكَلامِ المُتَقَدِّمِ؛ فَهو مِن مُسْتَتْبِعاتِهِ لا مَحالَةَ؛ وأمّا الثّانِيَةُ فَمَسُوقَةٌ لِبَيانِ أحْوالِ الكَفَرَةِ أصالَةً؛ وتَرامِي أمْرِهِمْ في الغَوايَةِ والضَّلالِ إلى حَيْثُ لا يُجْدِيهِمُ الإنْذارُ والتَّبْشِيرُ؛ ولا يُؤَثِّرُ فِيهِمُ العِظَةُ والتَّذْكِيرُ؛ فَهم ناكِبُونَ في تِيهِ الغَيِّ والفَسادِ عَنْ مِنهاجِ العُقُولِ؛ وراكِبُونَ في مَسْلَكِ المُكابَرَةِ والعِنادِ مَتْنَ كُلِّ صَعْبٍ وذَلُولٍ؛ وإنَّما أُوثِرَتْ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ؛ ولَمْ يُؤَسَّسِ الكَلامُ عَلى بَيانِ أنَّ الكِتابَ هادٍ لِلْأوَّلِينَ؛ وغَيْرُ مُجْدٍ لِلْآخِرِينَ؛ لِأنَّ العُنْوانَ الأخِيرَ لَيْسَ مِمّا يُورِثُهُ كَمالًا حَتّى يُتَعَرَّضَ لَهُ في أثْناءِ تَعْدادِ كَمالاتِهِ؛ و"إنَّ" مِنَ الحُرُوفِ الَّتِي تُشابِهُ الفِعْلَ في عَدَدِ الحُرُوفِ؛ والبِناءِ عَلى الفَتْحِ؛ ولُزُومِ الأسْماءِ؛ ودُخُولِ نُونِ الوِقايَةِ عَلَيْها؛ كَـ "إنَّنِي"؛ و"لَعَلَّنِي"؛ ونَظائِرِهِما؛ وإعْطاءِ مَعانِيهِ؛ والمُتَعَدِّي - خاصَّةً في الدُّخُولِ عَلى اسْمَيْنِ -؛ ولِذَلِكَ أُعْمِلَتْ عَمَلَهُ الفَرْعِيَّ؛ وهو نَصْبُ الأوَّلِ؛ ورَفْعُ الثّانِي؛ إيذانًا بِكَوْنِهِ فَرْعًا في العَمَلِ؛ دَخِيلًا فِيهِ؛ وعِنْدَ الكُوفِيِّينَ لا عَمَلَ لَها في الخَبَرِ؛ بَلْ هو باقٍ عَلى حالِهِ بِقَضِيَّةِ الِاسْتِصْحابِ؛ وأُجِيبَ بِأنَّ ارْتِفاعَ الخَبَرِ مَشْرُوطٌ بِالتَّجَرُّدِ عَنِ العَوامِلِ؛ وإلّا لَما انْتَصَبَ خَبَرُ "كانَ"؛ وقَدْ زالَ بِدُخُولِها؛ فَتَعَيَّنَ إعْمالُ الحَرْفِ؛ وأثَرُها تَأْكِيدُ النِّسْبَةِ؛ وتَحْقِيقُها؛ ولِذَلِكَ يُتَلَقّى بِها القَسَمُ؛ ويُصَدَّرُ بِها الأجْوِبَةُ؛ ويُؤْتى بِها في مَواقِعِ الشَّكِّ والإنْكارِ؛ لِدَفْعِهِ ورَدِّهِ؛ قالَ المُبَرِّدُ: قَوْلُكَ: "عَبْدُ اللَّهِ قائِمٌ"؛ إخْبارٌ عَنْ قِيامِهِ؛ و"إنَّ عَبْدَ اللَّهِ قائِمٌ"؛ جَوابُ سائِلٍ عَنْ قِيامِهِ شاكٍّ فِيهِ؛ و"إنَّ عَبْدَ اللَّهِ لَقائِمٌ"؛ جَوابُ مُنْكِرٍ لِقِيامِهِ. وتَعْرِيفُ المَوْصُولِ إمّا لِلْعَهْدِ؛ والمُرادُ بِهِ ناسٌ بِأعْيانِهِمْ؛ كَأبِي لَهَبٍ؛ وأبِي جَهْلٍ؛ والوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ؛ وأضْرابِهِمْ؛ وأحْبارِ اليَهُودِ؛ أوْ لِلْجِنْسِ؛ وقَدْ خُصَّ مِنهُ غَيْرُ المُصِرِّينَ؛ بِما أُسْنِدَ إلَيْهِ مِن قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ﴾؛ إلَخْ.. والكُفْرُ في اللُّغَةِ سَتْرُ النِّعْمَةِ؛ وأصْلُهُ "الكَفْرُ" بِالفَتْحِ؛ أيِ السَّتْرُ؛ ومِنهُ قِيلَ لِلزّارِعِ؛ واللَّيْلِ: "كافِرٌ"؛ قالَ (تَعالى): ﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ أعْجَبَ الكُفّارَ نَباتُهُ﴾؛ وعَلَيْهِ قَوْلُ لَبِيدٍ:
∗∗∗ في لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ غَمامُها

وَمِنهُ المُتَكَفِّرُ بِسِلاحِهِ؛ وهو الشّاكِي الَّذِي غَطّى السِّلاحُ بَدَنَهُ؛ وفي الشَّرِيعَةِ: إنْكارُ ما عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مَجِيءُ الرَّسُولِ ﷺ بِهِ؛ وإنَّما عُدَّ لُبْسُ الغِيارِ وشَدُّ الزُّنّارِ بِغَيْرِ اضْطِرارٍ؛ ونَظائِرُهُما كُفْرًا؛ لِدَلالَتِهِ عَلى التَّكْذِيبِ؛ فَإنَّ مَن صَدَّقَ النَّبِيَّ ﷺ لا يَكادُ يَجْتَرِئُ عَلى أمْثالِ ذَلِكَ؛ إذْ لا داعِيَ إلَيْهِ؛ كالزِّنى؛ وشُرْبِ الخَمْرِ؛ واحْتَجَّتِ المُعْتَزِلَةُ عَلى حُدُوثِ القرآن بِما جاءَ فِيهِ بِلَفْظِ الماضِي عَلى وجْهِ الإخْبارِ؛ فَإنَّهُ يَسْتَدْعِي سابِقَةَ المُخْبَرِ عَنْهُ لا مَحالَةَ؛ وأُجِيبَ بِأنَّهُ مِن مُقْتَضَياتِ التَّعَلُّقِ؛ وحُدُوثُهُ لا يَسْتَدْعِي حُدُوثَ الكَلامِ؛ كَما أنَّ حُدُوثَ تَعَلُّقِ العِلْمِ بِالمَعْلُومِ لا يَسْتَدْعِي حُدُوثَ العِلْمِ.
﴿سَواءٌ﴾: هو اسْمٌ بِمَعْنى الِاسْتِواءِ؛ نُعِتَ بِهِ كَما يُنْعَتُ بِالمَصادِرِ مُبالَغَةً؛ قالَ (تَعالى): ﴿تَعالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وبَيْنَكُمْ﴾؛ وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿عَلَيْهِمْ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِهِ؛ مَعْناهُ: "عِنْدَهُمْ"؛ وارْتِفاعُهُ عَلى أنَّهُ خَبَرٌ لِـ "إنَّ"؛ وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾؛ مُرْتَفِعٌ بِهِ عَلى الفاعِلِيَّةِ؛ لِأنَّ الهَمْزَةَ و"أمْ" مُجَرَّدَتانِ عَنْ مَعْنى الِاسْتِفْهامِ؛ لِتَحْقِيقِ الِاسْتِواءِ بَيْنَ مَدْخُولَيْهِما؛ كَما جُرِّدَ الأمْرُ والنَّهْيُ لِذَلِكَ عَنْ مَعْنَيَيْهِما في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿اسْتَغْفِرْ لَهم أوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾؛ وحَرْفُ النِّداءِ في قَوْلِكَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنا أيَّتُها العِصابَةُ؛ عَنْ مَعْنى الطَّلَبِ لِمُجَرَّدِ التَّخْصِيصِ؛ كَأنَّهُ قِيلَ: إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُسْتَوٍ عَلَيْهِمْ إنْذارُكَ وعَدَمُهُ؛ كَقَوْلِكَ: إنَّ زَيْدًا مُخْتَصِمٌ أخُوهُ وابْنُ عَمِّهِ؛ أوْ مُبْتَدَأٌ؛ و ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ﴾؛ خَبَرٌ قُدِّمَ عَلَيْهِ اعْتِناءً بِشَأْنِهِ؛ والجُمْلَةِ خَبَرٌ لـ "إنَّ"؛ والفِعْلُ إنَّما يَمْتَنِعُ الإخْبارُ عَنْهُ عِنْدَ بَقائِهِ عَلى حَقِيقَتِهِ؛ أمّا لَوْ أُرِيدَ بِهِ اللَّفْظُ أوْ مُطْلَقُ الحَدَثِ المَدْلُولِ عَلَيْهِ ضِمْنًا عَلى طَرِيقَةِ الِاتِّساعِ فَهو كالِاسْمِ في الإضافَةِ والإسْنادِ إلَيْهِ؛ كَما في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿هَذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ﴾؛ وقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿وَإذا قِيلَ لَهم لا تُفْسِدُوا﴾؛ وفي قَوْلِهِمْ: تَسْمَعُ بِالمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِن أنْ تَراهُ؛ كَأنَّهُ قِيلَ: إنْذارُكَ وعَدَمُهُ سِيّانِ عَلَيْهِمْ؛ والعُدُولُ إلى الفِعْلِ لِما فِيهِ مِن إيهامِ التَّجَدُّدِ؛ والتَّوَصُّلُ إلى إدْخالِ الهَمْزَةِ ومُعادِلِها عَلَيْهِ لِإفادَةِ تَقْرِيرِ مَعْنى الِاسْتِواءِ وتَأْكِيدِهِ؛ كَما أُشِيرَ إلَيْهِ؛ وقِيلَ "سَواءٌ" مُبْتَدَأٌ؛ وما بَعْدَهُ خَبَرُهُ؛ ولَيْسَ بِذاكَ؛ لِأنَّ مُقْتَضى المَقامِ بَيانُ كَوْنِ الإنْذارِ وعَدَمِهِ سَواءً؛ لا بَيانُ كَوْنِ المُسْتَوِي الإنْذارَ وعَدَمَهُ. والإنْذارُ: إعْلامُ المَخُوفِ؛ لِلِاحْتِرازِ عَنْهُ؛ "إفْعالٌ" مِن نُذِرَ بالشَّيْءِ إذا عَلِمَهُ فَحَذِرَهُ؛ والمُرادُ هَهُنا التَّخْوِيفُ مِن عَذابِ اللَّهِ (تَعالى) وعِقابِهِ عَلى المَعاصِي؛ والِاقْتِصارُ عَلَيْهِ لِما أنَّهم لَيْسُوا بِأهْلٍ لِلْبِشارَةِ أصْلًا؛ ولِأنَّ الإنْذارَ أوْقَعُ في القُلُوبِ وأشَدُّ تَأْثِيرًا في النُّفُوسِ؛ فَإنَّ دَفْعَ المَضارِّ أهَمُّ مِن جَلْبِ المَنافِعِ؛ فَحَيْثُ لَمْ يَتَأثَّرُوا بِهِ فَلَأنْ لا يَرْفَعُوا لِلْبِشارَةِ رَأْسًا أوْلى؛ وقُرِئَ بِتَوْسِيطِ ألِفٍ بَيْنَ الهَمْزَتَيْنِ مَعَ تَحْقِيقِهِما؛ وبِتَوْسِيطِها والثّانِيَةُ بَيْنَ بَيْنَ؛ وبِتَخْفِيفِ الثّانِيَةِ بَيْنَ بَيْنَ بِلا تَوْسِيطٍ؛ وبِحَذْفِ حَرْفِ الِاسْتِفْهامِ؛ وبِحَذْفِهِ وإلْقاءِ حَرَكَتِهِ عَلى السّاكِنِ قَبْلَهُ؛ كَما قُرِئَ " قَدْ أفْلَحَ "؛ وقُرِئَ بِقَلْبِ الثّانِيَةِ ألِفًا؛ وقَدْ نُسِبَ ذَلِكَ إلى اللَّحْنِ.
﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾: جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ؛ مُؤَكِّدَةٌ لِما قَبْلَها؛ مُبَيِّنَةٌ لِما فِيهِ مِن إجْمالِ ما فِيهِ الِاسْتِواءُ؛ فَلا مَحَلَّ لَها مِنَ الإعْرابِ؛ أوْ حالٌ مُؤَكِّدَةٌ لَهُ؛ أوْ بَدَلٌ مِنهُ؛ أوْ خَبَرٌ لِـ "إنَّ"؛ وما قَبْلَها اعْتِراضٌ بِما هو عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ؛ أوْ خَبَرٌ ثانٍ؛ عَلى رَأْيِ مَن يُجَوِّزُهُ عِنْدَ كَوْنِهِ جُمْلَةً؛ والآيَةُ الكَرِيمَةُ مِمّا اسْتُدِلَّ بِهِ عَلى جَوازِ التَّكْلِيفِ بِما لا يُطاقُ؛ فَإنَّهُ (تَعالى) قَدْ أخْبَرَ عَنْهم بِأنَّهم لا يُؤْمِنُونَ؛ فَظَهَرَ اسْتِحالَةُ إيمانِهِمْ؛ لِاسْتِلْزامِهِ المُسْتَحِيلَ الَّذِي هو عَدَمُ مُطابَقَةِ إخْبارِهِ (تَعالى) لِلْواقِعِ؛ مَعَ كَوْنِهِمْ مَأْمُورِينَ بِالإيمانِ؛ باقِينَ عَلى التَّكْلِيفِ؛ ولِأنَّ مِن جُمْلَةِ ما كُلِّفُوهُ الإيمانَ بِعَدَمِ إيمانِهِمُ المُسْتَمِرِّ؛ والحَقُّ أنَّ التَّكْلِيفَ بِالمُمْتَنَعِ لِذاتِهِ - وإنْ جازَ عَقْلًا مِن حَيْثُ إنَّ الأحْكامَ لا تَسْتَدْعِي أغْراضًا؛ لا سِيَّما الِامْتِثالُ - لَكِنَّهُ غَيْرُ واقِعٍ لِلِاسْتِقْراءِ؛ والإخْبارُ بِوُقُوعِ الشَّيْءِ أوْ بِعَدَمِهِ لا يَنْفِي القُدْرَةَ عَلَيْهِ؛ كَإخْبارِهِ (تَعالى) عَمّا يَفْعَلُهُ هو أوِ العَبْدُ بِاخْتِيارِهِ؛ ولَيْسَ ما كُلِّفُوهُ الإيمانَ بِتَفاصِيلِ ما نَطَقَ بِهِ القرآن حَتّى يَلْزَمَ أنْ يُكَلَّفُوا الإيمانَ بِعَدَمِ إيمانِهِمُ المُسْتَمِرِّ؛ بَلْ هو الإيمانُ بِجَمِيعِ ما جاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ إجْمالًا عَلى أنَّ كَوْنَ المَوْصُولِ عِبارَةً عَنْهم لَيْسَ مَعْلُومًا لَهُمْ؛ وفائِدَةُ الإنْذارِ بَعْدَ العِلْمِ بِأنَّهُ لا يُفِيدُ إلْزامُ الحُجَّةِ؛ وإحْرازُ الرَّسُولِ ﷺ فَضْلَ الإبْلاغِ؛ ولِذَلِكَ قِيلَ: ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ﴾؛ ولَمْ يَقُلْ: عَلَيْكَ؛ كَما قِيلَ لِعَبَدَةِ الأصْنامِ: ﴿سَواءٌ عَلَيْكم أدَعَوْتُمُوهم أمْ أنْتُمْ صامِتُونَ﴾؛ 
وَفِي الآيَةِ الكَرِيمَةِ إخْبارٌ بِالغَيْبِ عَلى ما هو بِهِ إنْ أُرِيدَ بِالمَوْصُولِ أشْخاصٌ بِأعْيانِهِمْ؛ فَهي مِنَ المُعْجِزاتِ الباهِرَةِ.


الكشف والبيان — الثعلبي (٤٢٧ هـ)

﴿الۤمۤ (١) ذَ ٰ⁠لِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ (٢) ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ (٣) وَٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ وَمَاۤ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡـَٔاخِرَةِ هُمۡ یُوقِنُونَ (٤) أُو۟لَـٰۤىِٕكَ عَلَىٰ هُدࣰى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ (٥) إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ سَوَاۤءٌ عَلَیۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ (٦) خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَعَلَىٰ سَمۡعِهِمۡۖ وَعَلَىٰۤ أَبۡصَـٰرِهِمۡ غِشَـٰوَةࣱۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِیمࣱ (٧)﴾ [البقرة ١-٧]
مدنية: وهي مائتان وست وثمانون آية في العدد الكوفي وهي سند أمير المؤمنين علي عليه السّلام وهي خمسة وعشرون ألف [حرف] وخمسمائة حرف، وستّة آلاف ومائة وإحدى وعشرون كلمة
أخبرنا عبد الله بن حامد بقراءتي عليه، أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف، حدثنا يعقوب ابن سفيان الصغير، حدثنا يعقوب بن سفيان الكبير، حدثنا هشام بن عمّار، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا شعيب بن زرين عن عطاء الخراساني، عن عكرمة، قال: أول سورة نزلت بالمدينة سورة البقرة.

فضلها:
أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد الطبراني بها، أخبرنا دعلج بن أحمد الشجري ببغداد، حدثنا محمد بن أحمد بن هارون، حدثنا خندف عن علي، حدثنا حسّان بن إبراهيم، حدثنا خالد بن شعيب المزني، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله ﷺ‎: «إنّ لكل شيء سناما، وسنام القرآن سورة البقرة، من قرأها في بيته ليلا لم يدخله شيطان ثلاث ليال، ومن قرأها في بيته نهارا لم يدخل في بيته شيطان ثلاثة أيام»(١) [59] .
وأخبرنا محمد بن القاسم بن أحمد المرتّب بقراءتي عليه، حدثنا أبو عمرو بن مطرف، حدثنا أبو عبد الله محمد بن المسيب، حدثنا عبد الله بن الحسين، حدثنا يوسف بن الأسباط، حدثنا حسن بن المهاجر عن عبد الله بن يزيد عن أبيه، قال: قال رسول الله ﷺ‎: «تعلموا البقرة، فإنّ أخذها بركة، وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة»(٢) [60] .
أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن الحسن المقري، حدثنا أبو أحمد عبد الله بن علي الحافظ، أخبرنا محمد بن يحيى بن مندة، حدثنا أبو مصعب، حدثنا عمران بن طلحة الليثي عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: بعث النبي ﷺ‎ بعثا ثم تتبعهم يستقرئهم، فجاء إنسان منهم فقال: «ماذا معك من القرآن؟» حتى أتى على آخرهم، وهو أحدثهم سنّا، فقال: «ما معك من القرآن؟» قال: كذا وكذا وسورة البقرة، فقال: «اخرجوا وهذا عليكم أمين» ، قالوا: يا رسول الله هو أحدثنا سنّا، قال: «معه سورة البقرة»(٣) [61] .

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى: الم: اختلف العلماء في الحروف المعجمة المفتتحة بها السور، فذهب كثير منهم إلى أنّها من المتشابهات التي استأثر الله بعلمها، فنحن نؤمن بتنزيلها ونكل إلى الله تأويلها.
قال أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) : في كل كتاب سر، وسر القرآن أوائل السور.
وقال علي بن أبي طالب عليه السّلام: إنّ لكل كتاب صفوة، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجّي.
وفسّره الآخرون، فقال سعيد بن جبير: هي أسماء الله مقطّعة، لو أحسن الناس تأليفها لعلموا اسم الله الأعظم، ألا ترى أنّك تقول: الر(٤) وتقول: حم(٥) وتقول: ن(٦) فيكون الرَّحْمنُ، وكذلك سائرها على هذا الوجه، إلّا أنّا لا نقدر على وصلها والجمع بينها.
وقال قتادة: هي أسماء القرآن.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هي أسماء للسور المفتتحة بها.
وقال ابن عباس: هي أقسام أقسم الله بها، وروي أنّه ثناء أثنى الله به على نفسه.
وقال أبو العالية: ليس منها حرف إلّا وهو(٧) مفتاح لاسم من أسماء الله عز وجل، وليس منها حرف إلّا وهو في الآية وبلائه»
، وليس منها حرف إلّا في مدّة قوم وآجال آخرين.
وقال عبد العزيز بن يحيى: معنى هذه الحروف أنّ الله ذكرها، فقال: اسمعوها مقطعة، حتى إذا وردت عليكم مؤلفة كنتم قد عرفتموها قبل ذلك، وكذلك تعلم الصبيان أولا مقطعة، وكان الله أسمعهم مقطعة مفردة، ليعرفوها إذا وردت عليهم، ثم أسمعهم مؤلّفة.
وقال أبو روق: إنّها تكتب للكفار، وذلك أنّ رسول الله ﷺ‎ كان يجهر بالقراءة في الصلوات كلّها، وكان المشركون يقولون: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ.
فربما صفّقوا وربما صفّروا وربما لفظوا ليغلّطوا النبي ﷺ‎، فلمّا رأى رسول الله ذلك أسرّ في الظهر والعصر وجهر في سائرها، وكانوا يضايقونه ويؤذونه، فأنزل الله تعالى هذه الحروف المقطعة، فلمّا سمعوها بقوا متحيرين متفكّرين، فاشتغلوا بذلك عن إيذائه وتغليطه، فكان ذلك سببا لاستماعهم وطريقا إلى انتفاعهم.
وقال الأخفش: إنّما أقسم الله بالحروف المعجمة لشرفها وفضلها، ولأنّها مباني كتبه المنزلة بالألسن المختلفة، ومباني أسمائه الحسنى وصفاته العليا، وأصول كلام الأمم بما يتعارفون ويذكرون الله ويوحّدونه، وكأنّه أقسم بهذه الحروف إنّ القرآن كتابه وكلامه لا رَيْبَ فِيهِ.
وقال النقيب: هي النبهة والاستئناف ليعلم أنّ الكلام الأول قد انقطع، كقولك: ولا إنّ زيدا ذهب.
وأحسن الأقاويل فيه وأمتنها أنّها إظهار لإعجاز القرآن وصدق محمد ﷺ‎ وذلك أنّ كل حرف من هذه الحروف الثمانية والعشرين.
والعرب تعبّر ببعض الشيء عن كلّه كقوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ(٨) أي صلّوا لا يصلّون، وقوله: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ(٩) فعبر بالركوع والسجود عن الصلاة إذ كانا من أركانها، وقال: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ(١٠) أراد جميع أبدانكم.
وقال: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ أي الأنف فعبّر باليد عن الجسد، وبالأنف عن الوجه.
وقال الشاعر في امرأته:
لما رأيت أمرها في خطي ... وفنكت في كذب ولط
أخذت منها بقرون شمط ... فلم يزل ضربي بها ومعطي(١١)
فعبّر بلفظة «خطي» عن جملة حروف أبجد.
ويقول القائل: (أب ت ث) وهو لا يريد هذه الأربعة الأحرف دون غيرها، بل يريد جميعها وقرأت الْحَمْدُ لِلَّهِ، وهو يريد جميع السورة، ونحوها كثير، وكذلك عبّر الله بهذه الحروف عن جملة حروف التهجّي، والإشارة فيه أنّ الله تعالى نبّه العرب وتحدّاهم، فقال: إنّي قد نزّلت هذا الكتاب من جملة الثمانية والعشرين التي هي لغتكم ولسانكم، وعليها مباني كلامكم، فإن كان محمد هو النبي يقوله من تلقاء نفسه، فأتوا بمثله أو بعشر سور مثله أو بسورة مثله، فلمّا عجزوا عن ذلك بعد الإجهاد ثبت أنّه معجزة.
هذا قول المبرّد وجماعة من أهل المعاني، فإن قيل: فهل يكون حرفا واحدا عودا للمعنى؟
وهل تجدون في كلام العرب أن يقال: الم زيد قائم؟ وحم عمرو ذاهب؟ قلنا: نعم، هذا عادة العرب يشيرون بلفظ واحد إلى جميع الحروف ويعبّرون به عنه.
قال الراجز:
قلت لها قفي فقالت قاف ... لا تحسبي أنّا نسينا الإيجاف(١٢)
أي قف أنت.
وأنشد سيبويه لغيلان:
نادوهم ألا ألجموا ألا تا ... قالوا جميعا كلّهم ألا فا(١٣)
أي لا تركبون فقالوا: ألا فاركبوا.
وأنشد قطرب في جارية:
قد وعدتني أم عمرو أن تا ... تدهن رأسي وتفليني تا
أراد أن تأتي وتمسح(١٤)
وأنشد الزجّاج:
بالخير خيرات وإن شرّا فا ... ولا أريد الشرّ إلّا أن تا(١٥)
أراد بقوله (فا) : وإن شرا فشر له، وبقوله: تا إلا أن تشاء.
قال الأخفش: هذه الحروف ساكنة لأنّ حروف الهجاء لا تعرب، بل توقف على كلّ حرف على نيّة السكت، ولا بدّ أن تفصل بالعدد في قولهم واحد- اثنان- ثلاثة- أربعة.
قال أبو النجم:
أقبلت من عند زياد كالخرف ... تخط رجلاي بخط مختلف(١٦)
تكتبان في الطريق لام الألف فإذا أدخلت حرفا من حروف العطف حركتها.
وأنشد أبو عبيدة:
إذا اجتمعوا على ألف وواو ... وياء هاج بينهم جدال(١٧)
وهذه الحروف تذكّر على اللفظ وتؤنّث على توهم الكلمة.
قال كعب الأحبار: خلق الله العلم من نور أخضر، ثم أنطقه ثمانية وعشرين حرفا من أصل الكلام، وهيّأها بالصوت الذي سمع وينطق به، فنطق بها العلم فكان أوّل ذلك كلّه [.....](١٨) فنظرت إلى بعضها فتصاغرت وتواضعت لربّها تعالى، وتمايلت هيبة له، فسجدت فصارت همزة، فلمّا رأى الله تعالى تواضعها مدّها وطوّلها وفضّلها، فصارت ألفا، فتلفظه بها، ثم جعل القلم ينطق حرفا حرفا(١٩) إلى ثمانية وعشرين حرفا، فجعلها مدار الكلام والكتب والأصوات واللغات والعبادات كلّها إلى يوم القيامة، وجميعها كلّها في أبجد.
وجعل الألف لتواضعها مفتاح أول أسمائه، ومقدّما على الحروف كلّها، فأمّا قوله عزّ وجلّ: الم فقد اختلف العلماء في تفسيرها.
عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قول الله تعالى: الم قال: أنا الله أعلم.
أبو روق عن الضحاك في قوله الم: أنا الله أعلم.
مجاهد وقتادة: الم اسم من أسماء القرآن.
الربيع بن أنس: (ألف) مفتاح اسم الله، و (لام) مفتاح اسمه لطيف، و (ميم) مفتاح اسمه مجيد.
خالد عن عكرمة قال: الم قسم.
محمد بن كعب: (الألف) آلاء الله، و (اللام) لطفه، و (الميم) ملكه.
وفي بعض الروايات عن ابن عباس: (الألف) الله، و (اللام) جبرئيل، أقسم الله بهم إنّ هذا الكتاب لا رَيْبَ فِيهِ
، ويحتمل أن يكون معناه على هذا التأويل: أنزل الله هذا الكتاب على لسان جبريل إلى محمد ﷺ‎.
وقال أهل الإشارة: (ألف) : أنا، (لام) : لي، (ميم) : منّي.
وعن علي بن موسى الرضا عن جعفر الصادق، وقد سئل عن قوله: الم فقال: في الألف ست صفات من صفات الله: الابتداء لأنّ الله تعالى ابتدأ جميع الخلق، و (الألف) .
ابتداء الحروف، والاستواء: فهو عادل غير جائر، و (الألف) مستو في ذاته، والانفراد: والله فرد والألف فرد، واتصال الخلق بالله، والله لا يتصل بالخلق، فهم يحتاجون إليه وله غنى عنهم.
وكذلك الألف لا يتصل بحرف، فالحروف متصلة: وهو منقطع عن غيره، والله باين بجميع صفاته من خلقه، ومعناه من الألفة، فكما أنّ الله سبب إلفة الخلق، فكذلك الألف عليه تألفت الحروف وهو سبب إلفتها.
وقالت الحكماء: عجز عقول الخلق في ابتداء خطابه، وهو محل الفهم، ليعلموا أن لا سبيل لأحد إلى معرفة حقائق خطابه إلّا بعلمهم، فالعجز عن معرفة الله حقيقة خطابه.
وأما محل الم من الإعراب فرفع بالابتداء وخبره فيما بعده.
وقيل: الم ابتداء، وذلِكَ ابتداء آخر والْكِتابُ خبره، وجملة الكلام خبر الابتداء الأول.
ذلِكَ: قرأت العامة ذلِكَ بفتح الذال، وكذلك هذه وهاتان، وأجاز أبو عمرو الإمالة في هذه، (ذ) للاسم، واللام عماد، والكاف خطاب، وهو إشارة إلى الغائب.
والْكِتابُ: بمعنى المكتوب كالحساب والعماد.
قال الشاعر:
بشرت عيالي إذ رأيت صحيفة ... أتتك من الحجج تتلى كتابها(٢٠)
أو مكتوبها، فوضع المصدر موضع الاسم، كما يقال للمخلوق خلق، وللمصور تصوير، وقال: دراهم من ضرب الأمير، أي هي مضروبة، وأصله من الكتب، وهو ضم الحروف بعضها إلى بعض، مأخوذ من قولهم: كتب الخرز، إذا خرزته قسمين، ويقال للخرز كتبة وجمعها كتب.
قال ذو المرّجة:
وفراء غرفية أثاي خوارزها ... مشلشل ضيعته فبينها الكتب(٢١)
ويقال: كتبت البغل، إذا حرمت من سفرتها الخلقة، ومنه قيل للجند كتيبة، وجمعها كتائب.
قال الشاعر:
وكتيبة جاءوا ترفل ... في الحديد لها ذخر
واختلفوا في هذا الْكِتابُ قال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد والضحاك ومقاتل:
هو القرآن، وعلى هذا القول يكون (ذلِكَ) بمعنى (هذا) كقول الله تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ(٢٢) أي هذه.
وقال خفاف بن ندبه السلمي:
إن تك خيلي قد أصيب صميمها ... فعمدا على عين تيممت مالكا(٢٣)
أقول له الرمح يأطر متنه ... تأمل خفافا إنني أنا ذالكا(٢٤)
يريد [هذا] .
وروى أبو الضحى عن ابن عباس قال: معناه ذلِكَ الْكِتابُ الذي أخبرتك أن أوجّه إليك.
وقال عطاء بن السائب: ذلِكَ الْكِتابُ الذي وعدتكم يوم الميثاق.
وقال يمان بن رئاب: ذلِكَ الْكِتابُ الذي ذكرته في التوراة والإنجيل.
وقال سعيد بن جبير: هو اللوح المحفوظ.
عكرمة: هو التوراة والإنجيل والكتب المتقدّمة.
وقال الفراء: إنّ الله تعالى وعد نبيه أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء ولا يخلق على كثرة الردّ، فلمّا أنزل القرآن قال: هو الكتاب الذي وعدتك.
وقال ابن كيسان: تأويله أنّ الله تعالى أنزل قبل البقرة بضع عشرة سورة(٢٥) كذّب بكلها المشركون ثم أنزل سورة البقرة بعدها فقال: ذلِكَ الْكِتابُ يعني ما تقدم البقرة من القرآن.
وقيل: ذلِكَ الْكِتابُ الذي كذب به مالك بن الصيف اليهودي.
لا رَيْبَ فِيهِ: لا شكّ فيه، إنّه من عند الله.
قال: هُدىً: أي هو هدى، وتم الكلام عند قوله فِيهِ، وقيل: «هو» نصب على الحال، أي هاديا تقديره لا ريب في هدايته للمتقين.
قال أهل المعاني: ظاهره نفي وباطنه نهي، أي لا ترتابوا فيه، كقوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ(٢٦) : أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا في الهدى، والبيان وما يهتدي به ويستبين به الإنسان.

فصل في التقوى
هُدىً لِلْمُتَّقِينَ: اعلم أنّ التقوى أصله وقى(٢٧) من وقيت، فجعلت الواو تاء، كالتكلان فأصله وكلان من وكلت، والتخمة أصلها وخمة من وخم معدته إذا لم يستمرئ.
واختلف العلماء في معنى التقوى وحقيقة المتقي،
فقال رسول الله ﷺ‎: «جماع التقوى في قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ...(٢٨) الآية»(٢٩) [62] .
قال ابن عباس: المتقي الذي يتقي الشرك والكبائر والفواحش.
وقال ابن عمر: التقوى أن لا يرى [نفسه] خيرا من أحد.
وقال الحسن: المتقي الذي يقول لكل من رآه هذا خير مني.
وقال عمر بن الخطاب لكعب الأحبار: حدّثني عن التقوى، فقال: هل أخذت طريقا ذا شوك؟ قال: نعم، وقال: فما عملت فيه؟ قال: حذرت وتشمّرت، فقال كعب: ذلك التقوى، ونظمه ابن المعتز فقال:
خلّ الذنوب صغيرها ... وكبيرها ذاك التقى
واضع كماش فوق أر ... ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحتقرنّ صغيرة ... إنّ الجبال من الحصا(٣٠)
وقال عمر بن عبد العزيز: ليس التقوى قيام النهار وقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك، ولكن التقوى ترك ما حرّم الله وأداء ما افترض الله، فما رزق بعد ذلك فهو خير على خير.
وقيل لطلق بن حبيب: أجمل لنا التقوى؟ فقال: التقوى عمل يطلبه الله على نور من الله رجاء ثواب الله، والتقوى ترك معصية الله على نور من الله مخافة عقاب الله.
وقال بكر بن عبد الله: لا يكون الرجل تقيا حتى يكون يتقي الطمع، ويتقي الغضب.
وقال عمر بن عبد العزيز: المتقي لمحرم لا تحرم، يعني في الحرم.
وقال شهر بن حوشب: المتقي الذي يترك ما لا يأتمن به حذرا لما به بأس.
وروي عن النبي ﷺ‎ أنّه قال: إنّما سمي المتقون؟ لتركهم ما لا بأس به حذرا للوقوع فيما به بأس(٣١) .
وقال سفيان الثوري والفضيل: هو الذي يحب للناس ما يحب لنفسه.
وقال الجنيد بن محمد: ليس المتقي الذي يحب الناس ما يحب لنفسه، إنّما المتقي الذي يحب للناس أكثر مما يحب لنفسه، أتدرون ما وقع لأستاذي سري بن المفلّس؟ سلّم عليه ذات يوم صديق له فردّ عليه، وهو عابس لم يبشّ له، فقلت له في ذلك فقال: بلغني أنّ المرء المسلم إذا سلّم على أخيه وردّ عليه أخوه قسمت بينهما مائة رحمة، فتسعون لأجلهما، وعشرة للآخر فأحببت أن يكون له التسعون.
محمد بن علي الترمذي: هو الذي لا خصم له.
السري بن المفلّس: هو الذي يبغض نفسه.
الشبلي: هو الذي يبغي ما دون الله.
قال جعفر الصادق: أصدق كلمة قالت العرب قول لبيد:
ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل(٣٢)
الثوري: هو الذي اتّقى الدنيا وأقلها.
محمد بن يوسف المقري: مجانبة كل ما يبعدك عن الله.
القاسم بن القاسم: المحافظة على آداب الشريعة.
وقال أبو زيد: هو التورّع عن جميع الشبهات.
وقال أيضا: المتقي من إذا قال قال لله، وإذا سكت سكت لله، وإذا ذكر ذكر لله تعالى.
الفضيل: يكون العبد من المتقين حتى يأمنه عدوّه كما يأمنه صديقه.
وقال سهل: المتقي من تبرّأ من حوله وقوّته.
وقال: التقوى أن لا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك من حيث أمرك.
وقيل: هو الاقتداء بالنبي ﷺ‎.
وقيل: هو أن تتقي بقلبك عن الغفلات، وبنفسك من الشهوات، وبحلقك من اللذات، وبجوارحك من السيئات، فحينئذ يرجى لك الوصول لما ملك الأرض والسموات.
أبو القاسم (حكيم) : هو حسن الخلق.
وقال بعضهم: يستدل على تقوى الرجل بثلاث: بحسن التوكّل فيما لم ينل، وحسن الرضا فيما قد نال، وحسن الصبر على ما فات.
وقيل: المتقي من اتّقى متابعة هواه.
وقال مالك: حدثنا وهب بن كيسان أنّ بعض فقهاء أهل المدينة كتب إلى عبد الله بن الزبير أنّ لأهل التقى علامات يعرفون بها: الصبر عند البلاء، والرضا بالقضاء، والشكر عند النعمة، والتذلل لأحكام القرآن.
وقال ميمون بن مهران: لا يكون الرجل تقيا حتى يكون أشدّ محاسبة لنفسه من الشريك الشحيح والسلطان الجائر.
وقال أبو تراب: بين يدي التقوى عقبات، من لا يجاوزها لا ينالها، اختيار الشدة على النعمة، واختيار القول على الفضول، واختيار الذلّ على العزّ، واختيار الجهد على الراحة، واختيار الموت على الحياة.
وقال بعض الحكماء: لا يبلغ الرجل سنام التقوى إلّا إذا كان بحيث لو جعل ما في قلبه على طبق، فيطاف به في السوق لم يستحي من شيء عليها.
وقيل: التقوى أن تزيّن سرّك للحقّ، كما تزيّن علانيتك للخلق.
وقال أبو الدرداء:
يريد المرء أن يعطى مناه ... ويأبى الله إلّا ما أرادا
يقول(٣٣) المرء فائدتي وذخري ... وتقوى الله أفضل ما استفادا(٣٤)
فصل في الإيمان
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ اعلم أنّ حقيقة الإيمان هي التصديق بالقلب، لأن الخطاب الذي توجّه عليها بلفظ آمنوا إنّما هو بلسان العرب، ولم يكن العرب يعرفون(٣٥) الإيمان غير التصديق، والنقل في اللغة لم يثبت فيه، إذ لو صح النقل عن اللغة لروي عن ذلك، كما روي في الصلاة التي أصلها الدعاء.
إذا كان الأمر كذلك وجب علينا أن نمتثل الأمر على ما يقتضيه لسانهم، كقوله تعالى في قصة يعقوب عليه السّلام وبنيه وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا(٣٦) : أي بمصدق لنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ، ويدل عليه من هذه الآية أنّه لما ذكر الإيمان علّقه بالغيب، ليعلم أنّه تصديق الخبر فيما أخبر به من الغيب، ثم أفرده بالذكر عن سائر الطاعات اللازمة للأبدان وفي الأموال فقال: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ والدليل عليه أيضا أنّ الله تعالى حيث ما ذكر الإيمان [نسبه](٣٧) إلى القلب فقال: مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ(٣٨) ، وقال: وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ»
، وقال: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ(٣٩) ، ونحوها كثير.
فأما محل الإسلام من الإيمان فهو كمحل الشمس من الضوء: كل شمس ضوء، وليس كل ضوء شمسا(٤٠) ، وكل مسك طيب، وليس كل طيب مسكا، كذلك كل إيمان إسلام وليس كل إسلام إيمانا، إذا لم يكن تصديقا لأن الإسلام هو الانقياد والخضوع، يدل عليه قوله تعالى:
قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا(٤١) من خوف السيف،
وقول النبي ﷺ‎:
«الإيمان سرا»(٤٢) [63] وأشار إلى صدره «والإسلام علانية»(٤٣) [64]
، وقوله ﷺ‎: «يا معشر من أسلم بلسانه، ولم يدخل الإيمان في قلبه»(٤٤) [65] .
وكذلك اختلف جوابه لجبرائيل في الإسلام والإيمان، فأجاب في الإيمان بالتصديق، وفي الإسلام بشرائع الإيمان، وهو ما
روى أبو بريده، وهو يحيى بن معمر قال: أول من قال في القدر بالبصرة سعيد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجّين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله ﷺ‎ فسألناه عما يقول هو: ما في القدر؟ فوافقنا عبد الله ابن عمر بن الخطاب داخلا المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله فظننت أن صاحبي سيكل الكلام لي، فقلت: أبا عبد الرحمن، إنّه قد ظهر قبلنا أناس يقرءون القرآن ويفتقرون [إلى](٤٥) العلم وذكر من لسانهم أنّهم يزعمون أن لا قدر، وأنّ الأمر أنف، فقال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنّهم برءاء مني، والذي يحلف به عبد الله ابن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر.
ثم قال: أخبرنا أبي عمر بن الخطاب قال: بينما نحن عند رسول الله ﷺ‎ ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي ﷺ‎ وأسند ركبته إلى ركبته، ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ قال رسول الله ﷺ‎: «الإسلام أن يشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّ محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصوم شهر رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا» ، قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدّقه! قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وتؤمن بالقدر خيره وشره» .
قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: «أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك» ، قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» ، قال: فأخبرني عن إماراتها؟ قال: «أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاة الشاة شاهقون في البنيان» ، قال: ثم انطلق، فلبث علينا ثم قال: يا عمر من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «فإنّه جبرائيل عليه السّلام أتاكم ليعلمكم دينكم»(٤٦) .
ثم يسمى اقرار اللسان وأعمال الأبدان إيمانا بوجه من المناسبة وضرب من المقاربة لأنها من شرائعه وتوابعه وعلاماته وإماراته كما نقول: رأيت الفرح في وجه فلان، ورأيت علم زيد في تصنيفه وإنّما الفرج والعلم في القلب،
وقال رسول الله ﷺ‎: «الإيمان بضع وسبعون بابا، أدناها إماطة الأذى عن الطريق، وأعلاها شهادة(٤٧) أن لا إله إلّا الله» [66](٤٨) .
وعن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي ﷺ‎ قال: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان» [67](٤٩) .
الحسن بن علي قال: حدثني علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: قال رسول الله ﷺ‎:
«الإيمان معرفة بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان» [68](٥٠) .
وعن علي بن الحسين زين العابدين قال: حدثنا أبي سيد شباب أهل الجنة قال: حدثنا أبي سيد الأوصياء قال: حدثنا محمّد سيد الأنبياء قال: «الإيمان قول مقول وعمل معمول وعرفان بالعقول واتباع الرسول» [72](٥١) .
وامّا الغيب فهو ما كان مغيّبا عن العيون محصّلا في القلوب وهو مصدر وضع موضع الاسم فقيل للغائب غيب، كما قيل للصائم: صوم، وللزائر: زور، وللعادل: عدل.
الربيع بن أبي العالية يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ قال: يؤمنون بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وجنته وناره ولقائه، ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث، فهذا غيب كلّه.
عمر بن الأسود عن عطاء بن أبي رباح: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ قال: بالله، من آمن بالله فقد آمن بالغيب(٥٢) .
سفيان عن عاصم بن أبي النجود في قوله يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ قال: الغيب: القرآن. وقال الكلبي: بما نزل من القرآن وبما لم يجيء بعد.
الضحاك: الغيب لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وما جاء به محمّد ﷺ‎، وقال زرّ بن حبيش وابن جريج وابن واقد: يعني بالوحي، نظيره قوله تعالى: أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى(٥٣) وقوله: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً(٥٤) وقوله: وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ(٥٥) .
الحسن: يعني بالآخرة. عبد الله بن هاني: هو ما غاب عنهم من علوم القرآن.
وروى زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) انه قال: كنت مع النبي ﷺ‎ جالسا فقال: «أتدرون أي أهل الأيمان أفضل؟» قالوا: يا رسول الله الملائكة، قال:
«هم كذلك وحقّ لهم ذلك وما يمنعهم وقد أنزلهم الله تعالى بالمنزلة التي أنزلهم، بل غيرهم» .
قلنا: يا رسول الله الأنبياء؟ قال: «هم كذلك وحقّ لهم ذلك وما يمنعهم، بل غيرهم» ، قلنا: يا رسول الله فمن هم؟ قال: «أقوام يأتون من بعدي هم في أصلاب الرجال فيؤمنون بي ولم يرونني، يجدون الورق المعلّق فيعملون بما فيه فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيمانا» [73](٥٦) .
وروى حسن إن الحرث بن قيس عن عبد الله بن مسعود: عند الله يحتسب ما سبقتمونا إليه يا أصحاب محمد من رؤية رسول الله ﷺ‎، فقال عبد الله بن مسعود: نحن عند الله نحتسب إيمانكم بمحمد ﷺ‎ ولم تروه، ثم قال عبد الله: إنّ أمر محمد كان بيّنا لمن رآه والذي لا اله الّا هو ما آمن مؤمن أفضل من إيمان الغيب، ثمّ قرأ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ أي يديمونها ويأتمونها ويحافظون عليها بمواقيتها وركوعها وسجودها وحقوقها وحدودها، وكل من واظب على شيء وقام به فهو مقيم له يقال أقام فلان الحجّ بالناس، وأقام القوم [سوقهم](٥٧) ولم يعطلوها قال الشاعر:
فلا تعجل بأمرك واستدمه ... فما صلّى عصاك [كمستديم](٥٨)
أي أراد بالصلاة هاهنا الصلوات الخمس، فذكرها بلفظ الواحد، كقوله: فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ(٥٩) أراد الكتب، وأصل الصلاة في اللغة: الدّعاء، ثمّ ضمّت إليها [عبادة] سميت مجموعها صلاة لأن الغالب على هذه العبادة الدّعاء.
وقال أبو حاتم الخارزمي: اشتقاقها من الصّلا وهو النار، فأصله من الرفق وحسن المعاناة للشيء وذلك إنّ الخشبة المعوجّة إذا أرادوا تقويمها [سحنوها بالنار] قوموها [بين خشبتين] فلذلك المصلّي ينبغي أن يتأنى في صلاته ويحفظ حدودها ظاهرا وباطنا ولا يعجّل فيها ولا يخفّ [ولا يعرف] قال الشاعر:
فلا تعجّل بأمرك واستدمه ... فما صلّى عصاك كمستديم
أي ما قوّم أمرك كالمباني.
وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ أعطيناهم، والرزق عند أهل السنّة: ما صحّ الانتفاع به، فإن كان طعاما فليتغدّى به، وان كان لباسا فلينقى والتوقي، وإن كان مسكنا فللانتفاع به سكنى، وقد ينتفع المنتفع بما هيّئ الانتفاع به على الوجهين: حلالا وحراما، فلذلك قلنا إنّ الله رزق الحلال والحرام، [وأصل الرزق] في اللغة: هو الحظ والبخت.
يُنْفِقُونَ يتصدقون، وأصل الإنفاق: الإخراج عن اليد أو عن الملك. يقال: نفق المبيع إذا كثر مشتروه وأسرع خروجه، ونفقت الدابة إذا خرجت روحها، ونافقاء اليربوع من ذلك لأنه إذا أتي من قبل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه فانتفق وأنفق إن خرج منه(٦٠) ، والنفق: سرب في الأرض له مخلص إلى مكان آخر يخرج إليه.
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ: أي يصدّقون بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ: يا محمد يعني القرآن وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ: يعني الكتب المتقدمة مثل صحف إبراهيم وموسى والزّبور والإنجيل وغيرها.
وَبِالْآخِرَةِ أي بالدار الآخرة، وسمّيت آخرة لأنّها تكون بعد الدّنيا ولأنّها أخّرت حتى تفنى الدنيا ثم تكون.
هُمْ يُوقِنُونَ يعلمون ويتيقّنون أنها كائنة، ودخل (هُمْ) تأكيدا، يسمّيه الكوفيون عمادا والبصريون فصلا.
أُولئِكَ أهل هذه الصفة، وأولاء: اسم مبني على الكسر، ولا واحد له من لفظه، والكاف خطاب، ومحل أُولئِكَ رفع بالابتداء وخبره في قوله: عَلى هُدىً رشد وبيان وصواب. مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ ابتدائان وهُمُ عماد الْمُفْلِحُونَ خبر الابتداء وهم الناجون الفائزون فازوا بالجنّة ونجوا من النار، وقيل: هم الباقون في الثواب والنعيم المقيم.
وأصل الفلاح في اللغة: البقاء. قال لبيد:
نحلّ بلادا كلها حل قبلنا ... ونرجو فلاحا بعد عاد وحمير(٦١)
وقال آخر:
لو كان حي مدرك الفلاح ... أدركه ملاعب الرماح
أبو براء يدرة المسياح(٦٢)
وقال مجاهد: أربع آيات من أول هذه السورة نزلت في المؤمنين، وآيتان بعدهما نزلت في الكافرين، وثلاث عشرة آية بعدها نزلت في المنافقين.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا: يعني مشركي العرب، وقال الضحّاك: نزلت في أبي جهل وخمسة من أهل بيته. وقال الكلبي: يعني اليهود، وقيل: المنافقون.
والكفر: هو الجحود والإنكار.
وأصله من الكفر وهو التغطية والسّتر، ومنه قيل للحراث: كافر لأنّه [يستر البذر] ، قال الله تعالى: أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ(٦٣) : يعني الزرّاع، وقيل للبحر: كافر، ولليل: كافر. قال لبيد:
حتى إذا ألقت يدا في كافر ... وأجن عورات الثغور ظلامها(٦٤)
في ليلة كفر النجوم غمامها(٦٥) ومنه: المتكفّر بالسلاح، وهو الشاكي الذي غطّى السلاح جميع بدنه.
فيسمى الكافر كافرا لأنه ساتر للحق ولتوحيد الله ونعمه ولنبوّة أنبيائه.
سَواءٌ عَلَيْهِمْ: أي واحد عليهم ومتساوي لديهم، وهو اسم مشتق من التساوي.
أَأَنْذَرْتَهُمْ: أخوّفتهم وحذّرتهم.
قال أهل المعاني: الإنذار والإعلام مع تحذير، يقال: أنذرتهم فنذروا، أي أعلمتهم فعلموا، وفي المثل: وقد أعذر من أنذر، وفي قوله: أَأَنْذَرْتَهُمْ وأخواتها أربع قراءات:
تحقيق الهمزتين وهي لغة تميم وقراءة أهل الكوفة لأنها ألف الاستفهام دخلت على ألف القطع وحذف الهمزة التي وصلت بفاء الفعل وتعويض مده منها كراهة الجمع بين الهمزتين وهي لغة أهل الحجاز، وإدخال ألف بين الهمزتين وهي قراءة أهل الشام في رواية هشام وإحدى الروايتين عن أبي عمرو.
قال الشاعر:
تطاولت فاستشرقت قرابته ... فقلن له: أأنت زيد لا بل قمر(٦٦)
والأخبار اكتفاء بجواب الاستفهام، وهي قراءة الزهري.
أَمْ: حرف عطف على الاستفهام.
لَمْ: حرف جزم لا يلي إلّا الفصل لأنّ الجزم مختص بالأفعال.
تُنْذِرْهُمْ: تحذرهم لا يُؤْمِنُونَ وهذه الآية خاصّة فيمن حقّت عليه كلمة العذاب في سابق علم الله، وظاهرها إنشاء ومعناها إخبار، ثمّ ذكر سبب تركهم للإيمان فقال:
خَتَمَ اللَّهُ: أي طبع عَلى قُلُوبِهِمْ والختم والطبع بمعنى واحد وهما التغطية للشيء [والاستيثاق](٦٧) من أن يدخله شيء آخر.
فمعنى الآية: طبع الله على قلوبهم وأغلقها وأقفلها فليست تعي خبرا ولا تفهمه. يدل عليه قوله: أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها(٦٨) .
وقال بعضهم: معنى الطبع والختم: حكم الله عليهم بالكفر والشقاوة كما يقال للرجل:
ختمت عليك أن لا تفلح أبدا.
وَعَلى سَمْعِهِمْ: فلا يسمعون الحق ولا ينتفعون به، وإنما وحّده لأنه مصدر، والمصادر لا تثنّى ولا تجمع، وقيل: أراد سمع كل واحد منهم كما يقال: آتني برأس كبشين، أراد برأس كل واحد منهما، قال الشاعر:
كلوا في نصف بطنكم تعيشوا ... فإن زمانكم زمن خميص(٦٩)
وقال سيبويه: توحيد السمع يدل على الجمع لأنه لا توحيد جمعين كقوله تعالى:
يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ»
يعني الأنوار.
قال الراعي:
بها جيف الحسرى فأما عظامها ... فبيض وأما جلدها فصليب(٧٠)
وقرأ ابن عبلة: وعلى أسماعهم، وتم الكلام عند قوله وَعَلى سَمْعِهِمْ.
ثم قال: وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ: أي غطاء وحجاب، فلا يرون الحق، ومنه غاشية السرج، وقرأ المفضل بن محمد الضبي: غِشاوَةً بالنصب كأنّه أضمر له فعلا أو جملة على الختم: أي وختم على أبصارهم غشاوة. يدل عليه قوله تعالى: وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً(٧١) .
وقرأ الحسن: غُشاوَةٌ بضم الغين، وقرأ الخدري: غَشاوَةٌ بفتح الغين، وقرأ أصحاب عبد الله: غشوة بفتح الغين من غير ألف.
وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ: القتل والأسر في الدنيا، والعذاب الأليم في العقبى، والعذاب كلّ ما يعنّي الإنسان ويشقّ عليه، ومنه: عذّبه السواط ما فيها من وجود الألم، وقال الخليل:
العذاب ما يمنع الإنسان من مراده، ومنه: الماء العذب لأنه يمنع من العطش، ثم نزلت في المنافقين: عبد الله بن أبي بن سلول الخزرجي، ومعتب بن بشر، وجدّ بن قيس وأصحابهم حين قالوا: تعالوا إلى خلة نسلم بها من محمد وأصحابه ونكون مع ذلك مستمسكين بديننا، فأجمعوا على أن يقرّوا كلمة الإيمان بألسنتهم واعتقدوا خلافها وأكثرهم من اليهود. فقال الله:

(١) كنز العمّال: 1/ 565، ح 2549.
(٢) مسند أحمد: 5/ 352.
(٣) سنن الترمذي: 4/ 234، بتفاوت.
(٤) سورة الحجر: 1.
(٥) سورة الدخان: 1.
(٦) سورة القلم: 1.
(٧) في المخطوط: وهي.
(٨) سورة المرسلات: 48.
(٩) سورة العلق: 19.
(١٠) سورة آل عمران: 182.
(١١) تفسير الطبري: 1/ 132، ولسان العرب: 10/ 480.
(١٢) شرح شافية ابن الحاجب: 4/ 264، والبيت الأوّل موجود في تفسير القرطبي: 1/ 155.
(١٣) تفسير القرطبي: 1/ 156.
(١٤) لسان العرب: 1/ 164 وفيه: تفليني وا.
(١٥) لسان العرب: 15/ 288.
(١٦) لسان العرب: 698.
(١٧) شرح الرضي على الكافية: 1/ 68.
(١٨) كلمة غير مقروءة.
(١٩) في الأصل: حرف حرف.
(٢٠) جامع البيان للطبري: 3/ 341.
(٢١) الصحاح: 1/ 208.
(٢٢) سورة الأنعام: 83.
(٢٣) لسان العرب: 3/ 302.
(٢٤) جامع البيان للطبري: 1/ 143.
(٢٥) في المخطوط: سورا.
(٢٦) سورة البقرة: 197.
(٢٧) في المخطوط: وقوي.
(٢٨) سورة النحل: 90.
(٢٩) تفسير مجمع البيان: 1/ 82.
(٣٠) تفسير القرطبي: 1/ 162.
(٣١) تفسير مجمع البيان: 1/ 83.
(٣٢) لسان العرب: 5/ 351.
(٣٣) في المخطوط: ويقول.
(٣٤) الدرّ المنثور: 1/ 25.
(٣٥) في المخطوط: يعرف.
(٣٦) سورة يوسف: 17.
(٣٧) زيادة اقتضاها السياق.
(٣٨) سورة المائدة: 41.
(٣٩) سورة المجادلة: 22.
(٤٠) في المخطوط: شمس.
(٤١) سورة الحجرات: 14.
(٤٢) تفسير مجمع البيان: 1/ 86.
(٤٣) تفسير مجمع البيان: 1/ 86.
(٤٤) كنز العمّال: 3/ 585، ح 8021.
(٤٥) زيادة اقتضاها السياق.
(٤٦) صحيح مسلم: 1/ 28- 29 بطوله.
(٤٧) في المصدر: وارفعها قول.
(٤٨) مسند أحمد: 2/ 445، وكنز العمّال: 1/ 36.
(٤٩) صحيح مسلم: 1/ 46.
(٥٠) المعجم الأوسط: 6/ 226.
(٥١) تفسير مجمع البيان: 1/ 86.
(٥٢) تفسير ابن كثير: 1/ 43.
(٥٣) سورة النجم: 35.
(٥٤) سورة الجن: 26.
(٥٥) سورة التكوير: 24.
(٥٦) مسند أبي يعلى: 1/ 147.
(٥٧) زيادة عن تفسير الطبري: 1/ 152 والمخطوط ممسوح.
(٥٨) تاج العروس: 8/ 295.
(٥٩) سورة البقرة: 213.
(٦٠) راجع كتاب العين: 5/ 178.
(٦١) تفسير الطبري: 1/ 182.
(٦٢) تاج العروس: 2/ 146 لسان العرب: 2/ 454 وفيه: (أبا براء مدرة السياح) ، والمسياح: من يسيح بالنميمة والشر في الأرض.
(٦٣) سورة الحديد: 20.
(٦٤) لسان العرب: 5/ 147.
(٦٥) جامع البيان للطبري: 1/ 162.
(٦٦) كذا في المخطوط، ولم نجده.
(٦٧) المخطوط غير مقروء وما أثبتناه من تفسير القرطبي: 1/ 186.
(٦٨) سورة محمد: 24.
(٦٩) زاد المسير: 1/ 22.
(٧٠) قائله علقمة بن عبدة راجع ديوانه: 27 وتفسير الطبري: 4/ 324.
(٧١) سورة الجاثية: 23.


الكشاف — الزمخشري (٥٣٨ هـ)

﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ سَوَاۤءٌ عَلَیۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ﴾ [البقرة ٦]
لما قدّم ذكر أوليائه وخالصة عباده بصفاتهم التي أهلتهم لإصابة الزلفى عنده، وبين أن الكتاب هدى ولطف لهم خاصة، قفى على أثره بذكر أضدادهم وهم العتاة المردة من الكفار الذين لا ينفع فيهم الهدى، ولا يجدى عليهم اللطف، وسواء عليهم وجود الكتاب وعدمه، وإنذار الرسول وسكوته. فإن قلت: لم قطعت قصة الكفار عن قصة المؤمنين ولم تعطف كنحو قوله: (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) وغيره من الآي الكثيرة؟ قلت: ليس وزان هاتين القصتين وزان ما ذكرت: لأن الأولى فيما نحن فيه مسوقة لذكر الكتاب وأنه هدى للمتقين، وسيقت الثانية لأن الكفار من صفتهم كيت وكيت، فبين الجملتين تباين في الغرض والأسلوب، وهما على حدّ لا مجال فيه للعاطف. فإن قلت: هذا إذا زعمت أن الذين يؤمنون جار على المتقين، فأمّا إذا ابتدأته وبنيت الكلام لصفة المؤمنين، ثم عقبته بكلام آخر في صفة أضدادهم، كان مثل تلك الآي المتلوّة. قلت: قد مرّ لي أن الكلام المبتدأ عقيب المتقين سبيله الاستئناف، وأنه مبنىّ على تقدير سؤال، فذلك إدراج له في حكم المتقين، وتابع(١) له في المعنى وإن كان مبتدأ في اللفظ فهو في الحقيقة كالجارى عليه.
والتعريف في الَّذِينَ كَفَرُوا يجوز أن يكون للعهد وأن يراد بهم ناس بأعيانهم كأبى لهب وأبى جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهم، وأن يكون للجنس متناولا كلّ من صمم على كفره تصميما لا يرعوى بعده(٢) وغيرهم، ودل على تناوله للمصرين الحديث عنهم باستواء الإنذار وتركه عليهم، وسَواءٌ اسم بمعنى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر. ومنه قوله تعالى: (تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) ، (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ) بمعنى مستوية وارتفاعه على أنه خبر لإنّ، وأَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ
في موضع المرتفع به على الفاعلية كأنه قيل: إنّ الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه. كما تقول: إنّ زيدا مختصم أخوه وابن عمه.
أو يكون أأنذرتهم أم لم تنذرهم في موضع الابتداء، وسواء خبراً مقدّما بمعنى: سواء عليهم إنذارك وعدمه، والجملة خبر لإنّ. فإن قلت: الفعل أبداً خبر لا مخبر عنه فكيف صحّ الإخبار عنه في هذا الكلام؟ قلت: هو من جنس الكلام المهجور فيه جانب اللفظ إلى جانب المعنى، وقد وجدنا العرب يميلون في مواضع من كلامهم مع المعاني ميلا بيناً، من ذلك قولهم:
لا تأكل السمك وتشرب اللبن، معناه لا يكن منك أكل السمك وشرب اللبن، وإن كان ظاهر اللفظ على ما لا يصح من عطف الاسم على الفعل. والهمزة وأم مجرّدتان لمعنى الاستواء(٣) وقد انسلخ عنهما معنى الاستفهام رأساً. قال سيبويه: جرى هذا على حرف الاستفهام كما جرى على حرف النداء قولك: اللهمّ اغفر لنا أيتها العصابة، يعنى أنّ هذا جرى على صورة الاستفهام ولا استفهام، كما أن ذلك جرى على صورة النداء ولا نداء. ومعنى الاستواء استواؤهما في علم المستفهم عنهما لأنه قد علم أن أحد الأمرين كائن، إمّا الإنذار وإمّا عدمه، ولكن لا بعينه، فكلاهما معلوم بعلم غير معين. وقرئ: (أَأَنْذَرْتَهُمْ) بتحقيق الهمزتين، والتخفيف أعرب وأكثر، وبتخفيف الثانية بين بين، وبتوسيط ألف بينهما محققتين، وبتوسيطها والثانية بين بين، وبحذف حرف الاستفهام، وبحذفه وإلقاء حركته على الساكن قبله، كما قرئ (قَدْ أَفْلَحَ) .
فإن قلت: ما تقول فيمن يقلب الثانية ألفاً؟ قلت: هو لاحن خارج عن كلام العرب خروجين: أحدهما الإقدام على جمع الساكنين على غير حدّه- وحدّه أن يكون الأوّل حرف لين والثاني حرفا مدغماً نحو قوله: الضالين، وخويصة(٤) والثاني: إخطاء طريق التخفيف لأن طريق تخفيف الهمزة المتحرّكة المفتوح ما قبلها أن تخرج بين بين فأما القلب ألفاً فهو تخفيف الهمزة الساكنة المفتوح ما قبلها كهمزة رأس. والإنذار: التخويف من عقاب اللَّه بالزجر عن المعاصي. فإن قلت: ما موقع لا يُؤْمِنُونَ؟ قلت: إمّا أن يكون جملة مؤكدة للجملة قبلها، أو خبراً لإنّ والجملة قبلها اعتراض.

(١) قوله «وتابع له في المعنى» لعله واتباع له (ع)
(٢) قوله «بعده وغيرهم» لعله كهؤلاء وغيرهم (ع)
(٣) قال محمود رحمه اللَّه: «والهمزة وأم مجردتان لمعنى الاستواء ... الخ» . قال أحمد رحمه اللَّه: وحاصل هذا النقل استعمال الحرف في أعم معناه، فالهمزة المعادلة لأم موضوعة في الأصل للاستفهام عن أحد متبادلين في عدم علم التعين فنقلت إلى مطلق المعادلة وإن لم يكن استفهاما، واستعملت في الجزء الحقيقي. وكذلك حرف النداء موضوع في الأصل لتخصيص المنادى بالدعاء، ثم نقل إلى مطلق التخصيص ولا نداء، كما يكون المجاز بالتخصيص والقصر مثل تخصيص الدابة بذوات الأربع وإن كانت في الأصل لكل ما دب، فقد يكون بالتعميم والتعدي مثل تسمية الرجل الشجاع أسداً نقلا لهذا الاسم من موصوف بالشجاعة مخصوص وهو الحيوان المعروف، إلى كل موصوف بتلك الصفة غير مقصورة على محلها الأصلى.
(٤) قوله «وخويصة» مسلم من رواية زياد بن رباح عن أبى هريرة رضى اللَّه عنه: «بادروا بالأعمال ستا ... » فذكره. وفيه «وخويصة أحدكم» .


تفسير القرآن العظيم مسندًا — ابن أبي حاتم الرازي (٣٢٧ هـ)

﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ سَوَاۤءٌ عَلَیۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ﴾ [البقرة ٦]
قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهم لا يُؤْمِنُونَ﴾
[٩١] حَدَّثَنِي أبِي، ثَنا يَحْيى بْنُ عُثْمانَ بْنِ صالِحٍ المِصْرِيُّ، ثَنا أبِي، ثَنا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ المُغِيرَةِ، عَنْ أبِي الهَيْثَمِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ. «قِيلَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، إنّا نَقْرَأُ مِنَ القُرْآنِ فَنَرْجُو، ونَقْرَأُ فَنَكادُ أنْ نَيْأسَ. فَقالَ: ألا أُخْبِرُكُمْ؟ ثُمَّ قالَ: ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهم لا يُؤْمِنُونَ﴾ هَؤُلاءِ أهْلُ النّارِ. قالُوا: لَسْنا مِنهم يا رَسُولَ اللَّهِ؟ قالَ: أجَلْ».
[٩٢] حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، أنْبَأ أبُو غَسّانَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو زُنَيْجٌ، ثَنا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحاقَ، قالَ: فِيما حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أيْ بِما أُنْزِلَ إلَيْكَ، وإنْ قالُوا: إنّا قَدْ آمَنّا بِما جاءَنا قَبْلَكَ ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهم لا يُؤْمِنُونَ﴾ أيْ أنَّهم قَدْ كَفَرُوا بِما عِنْدَهم مِن ذِكْرِكَ وجَحَدُوا ما أُخِذَ عَلَيْهِمْ مِنَ المِيثاقِ، فَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكَ، وبِما عِنْدَهم مِمّا جاءَهم بِهِ غَيْرُكَ، فَكَيْفَ يَسْمَعُونَ مِنكَ إنْذارًا وتَحْذِيرًا، وقَدْ كَفَرُوا بِما عِنْدَهم مِن عِلْمِكَ.
[٩٣] حَدَّثَنا عِصامُ بْنُ رَوّادِ بْنِ الجَرّاحِ، ثَنا آدَمُ، ثَنا أبُو جَعْفَرٍ الرّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أنَسٍ، عَنْ أبِي العالِيَةِ، قالَ: آيَتانِ في قادَةِ الأحْزابِ ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهم لا يُؤْمِنُونَ﴾ قالَ: هُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ في هَذِهِ الآيَةِ: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وأحَلُّوا قَوْمَهم دارَ البَوارِ﴾ [إبراهيم: ٢٨] .


إرشاد العقل السليم — أبو السعود (٩٨٢ هـ)

﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ سَوَاۤءٌ عَلَیۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ﴾ [البقرة ٦]
﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾: كَلامٌ مُسْتَأْنَفٌ؛ سِيقَ لِشَرْحِ أحْوالِ الكَفَرَةِ الغُواةِ المَرَدَةِ العُتاةِ؛ إثْرَ بَيانِ أحْوالِ أضْدادِهِمُ المُتَّصِفِينَ بِنُعُوتِ الكَمالِ؛ الفائِزِينَ بِمَباغِيهِمْ في الحالِ والمَآلِ؛ وإنَّما تُرِكَ العاطِفُ بَيْنَهُما؛ ولَمْ يُسَلَكْ بِهِ مَسْلَكَ قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿إنَّ الأبْرارَ لَفي نَعِيمٍ﴾ ﴿وَإنَّ الفُجّارَ لَفي جَحِيمٍ﴾؛ لِما بَيْنَهُما مِنَ التَّنافِي في الأُسْلُوبِ؛ والتَّبايُنِ في الغَرَضِ؛ فَإنَّ الأُولى مَسُوقَةٌ لِبَيانِ رِفْعَةِ شَأْنِ الكِتابِ في بابِ الهِدايَةِ والإرْشادِ؛ وأمّا التَّعَرُّضُ لِأحْوالِ المُهْتَدِينَ بِهِ فَإنَّما هو بِطَرِيقِ الِاسْتِطْرادِ؛ سَواءٌ جُعِلَ المَوْصُولُ مَوْصُولًا بِما قَبْلَهُ؛ أوْ مَفْصُولًا عَنْهُ؛ فَإنَّ الِاسْتِئْنافَ مَبْنِيٌّ عَلى سُؤالٍ نَشَأ مِنَ الكَلامِ المُتَقَدِّمِ؛ فَهو مِن مُسْتَتْبِعاتِهِ لا مَحالَةَ؛ وأمّا الثّانِيَةُ فَمَسُوقَةٌ لِبَيانِ أحْوالِ الكَفَرَةِ أصالَةً؛ وتَرامِي أمْرِهِمْ في الغَوايَةِ والضَّلالِ إلى حَيْثُ لا يُجْدِيهِمُ الإنْذارُ والتَّبْشِيرُ؛ ولا يُؤَثِّرُ فِيهِمُ العِظَةُ والتَّذْكِيرُ؛ فَهم ناكِبُونَ في تِيهِ الغَيِّ والفَسادِ عَنْ مِنهاجِ العُقُولِ؛ وراكِبُونَ في مَسْلَكِ المُكابَرَةِ والعِنادِ مَتْنَ كُلِّ صَعْبٍ وذَلُولٍ؛ وإنَّما أُوثِرَتْ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ؛ ولَمْ يُؤَسَّسِ الكَلامُ عَلى بَيانِ أنَّ الكِتابَ هادٍ لِلْأوَّلِينَ؛ وغَيْرُ مُجْدٍ لِلْآخِرِينَ؛ لِأنَّ العُنْوانَ الأخِيرَ لَيْسَ مِمّا يُورِثُهُ كَمالًا حَتّى يُتَعَرَّضَ لَهُ في أثْناءِ تَعْدادِ كَمالاتِهِ؛ و"إنَّ" مِنَ الحُرُوفِ الَّتِي تُشابِهُ الفِعْلَ في عَدَدِ الحُرُوفِ؛ والبِناءِ عَلى الفَتْحِ؛ ولُزُومِ الأسْماءِ؛ ودُخُولِ نُونِ الوِقايَةِ عَلَيْها؛ كَـ "إنَّنِي"؛ و"لَعَلَّنِي"؛ ونَظائِرِهِما؛ وإعْطاءِ مَعانِيهِ؛ والمُتَعَدِّي - خاصَّةً في الدُّخُولِ عَلى اسْمَيْنِ -؛ ولِذَلِكَ أُعْمِلَتْ عَمَلَهُ الفَرْعِيَّ؛ وهو نَصْبُ الأوَّلِ؛ ورَفْعُ الثّانِي؛ إيذانًا بِكَوْنِهِ فَرْعًا في العَمَلِ؛ دَخِيلًا فِيهِ؛ وعِنْدَ الكُوفِيِّينَ لا عَمَلَ لَها في الخَبَرِ؛ بَلْ هو باقٍ عَلى حالِهِ بِقَضِيَّةِ الِاسْتِصْحابِ؛ وأُجِيبَ بِأنَّ ارْتِفاعَ الخَبَرِ مَشْرُوطٌ بِالتَّجَرُّدِ عَنِ العَوامِلِ؛ وإلّا لَما انْتَصَبَ خَبَرُ "كانَ"؛ وقَدْ زالَ بِدُخُولِها؛ فَتَعَيَّنَ إعْمالُ الحَرْفِ؛ وأثَرُها تَأْكِيدُ النِّسْبَةِ؛ وتَحْقِيقُها؛ ولِذَلِكَ يُتَلَقّى بِها القَسَمُ؛ ويُصَدَّرُ بِها الأجْوِبَةُ؛ ويُؤْتى بِها في مَواقِعِ الشَّكِّ والإنْكارِ؛ لِدَفْعِهِ ورَدِّهِ؛ قالَ المُبَرِّدُ: قَوْلُكَ: "عَبْدُ اللَّهِ قائِمٌ"؛ إخْبارٌ عَنْ قِيامِهِ؛ و"إنَّ عَبْدَ اللَّهِ قائِمٌ"؛ جَوابُ سائِلٍ عَنْ قِيامِهِ شاكٍّ فِيهِ؛ و"إنَّ عَبْدَ اللَّهِ لَقائِمٌ"؛ جَوابُ مُنْكِرٍ لِقِيامِهِ. وتَعْرِيفُ المَوْصُولِ إمّا لِلْعَهْدِ؛ والمُرادُ بِهِ ناسٌ بِأعْيانِهِمْ؛ كَأبِي لَهَبٍ؛ وأبِي جَهْلٍ؛ والوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ؛ وأضْرابِهِمْ؛ وأحْبارِ اليَهُودِ؛ أوْ لِلْجِنْسِ؛ وقَدْ خُصَّ مِنهُ غَيْرُ المُصِرِّينَ؛ بِما أُسْنِدَ إلَيْهِ مِن قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ﴾؛ إلَخْ.. والكُفْرُ في اللُّغَةِ سَتْرُ النِّعْمَةِ؛ وأصْلُهُ "الكَفْرُ" بِالفَتْحِ؛ أيِ السَّتْرُ؛ ومِنهُ قِيلَ لِلزّارِعِ؛ واللَّيْلِ: "كافِرٌ"؛ قالَ (تَعالى): ﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ أعْجَبَ الكُفّارَ نَباتُهُ﴾؛ وعَلَيْهِ قَوْلُ لَبِيدٍ:
∗∗∗ في لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ غَمامُها

وَمِنهُ المُتَكَفِّرُ بِسِلاحِهِ؛ وهو الشّاكِي الَّذِي غَطّى السِّلاحُ بَدَنَهُ؛ وفي الشَّرِيعَةِ: إنْكارُ ما عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مَجِيءُ الرَّسُولِ ﷺ بِهِ؛ وإنَّما عُدَّ لُبْسُ الغِيارِ وشَدُّ الزُّنّارِ بِغَيْرِ اضْطِرارٍ؛ ونَظائِرُهُما كُفْرًا؛ لِدَلالَتِهِ عَلى التَّكْذِيبِ؛ فَإنَّ مَن صَدَّقَ النَّبِيَّ ﷺ لا يَكادُ يَجْتَرِئُ عَلى أمْثالِ ذَلِكَ؛ إذْ لا داعِيَ إلَيْهِ؛ كالزِّنى؛ وشُرْبِ الخَمْرِ؛ واحْتَجَّتِ المُعْتَزِلَةُ عَلى حُدُوثِ القرآن بِما جاءَ فِيهِ بِلَفْظِ الماضِي عَلى وجْهِ الإخْبارِ؛ فَإنَّهُ يَسْتَدْعِي سابِقَةَ المُخْبَرِ عَنْهُ لا مَحالَةَ؛ وأُجِيبَ بِأنَّهُ مِن مُقْتَضَياتِ التَّعَلُّقِ؛ وحُدُوثُهُ لا يَسْتَدْعِي حُدُوثَ الكَلامِ؛ كَما أنَّ حُدُوثَ تَعَلُّقِ العِلْمِ بِالمَعْلُومِ لا يَسْتَدْعِي حُدُوثَ العِلْمِ.
﴿سَواءٌ﴾: هو اسْمٌ بِمَعْنى الِاسْتِواءِ؛ نُعِتَ بِهِ كَما يُنْعَتُ بِالمَصادِرِ مُبالَغَةً؛ قالَ (تَعالى): ﴿تَعالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وبَيْنَكُمْ﴾؛ وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿عَلَيْهِمْ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِهِ؛ مَعْناهُ: "عِنْدَهُمْ"؛ وارْتِفاعُهُ عَلى أنَّهُ خَبَرٌ لِـ "إنَّ"؛ وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾؛ مُرْتَفِعٌ بِهِ عَلى الفاعِلِيَّةِ؛ لِأنَّ الهَمْزَةَ و"أمْ" مُجَرَّدَتانِ عَنْ مَعْنى الِاسْتِفْهامِ؛ لِتَحْقِيقِ الِاسْتِواءِ بَيْنَ مَدْخُولَيْهِما؛ كَما جُرِّدَ الأمْرُ والنَّهْيُ لِذَلِكَ عَنْ مَعْنَيَيْهِما في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿اسْتَغْفِرْ لَهم أوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾؛ وحَرْفُ النِّداءِ في قَوْلِكَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنا أيَّتُها العِصابَةُ؛ عَنْ مَعْنى الطَّلَبِ لِمُجَرَّدِ التَّخْصِيصِ؛ كَأنَّهُ قِيلَ: إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُسْتَوٍ عَلَيْهِمْ إنْذارُكَ وعَدَمُهُ؛ كَقَوْلِكَ: إنَّ زَيْدًا مُخْتَصِمٌ أخُوهُ وابْنُ عَمِّهِ؛ أوْ مُبْتَدَأٌ؛ و ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ﴾؛ خَبَرٌ قُدِّمَ عَلَيْهِ اعْتِناءً بِشَأْنِهِ؛ والجُمْلَةِ خَبَرٌ لـ "إنَّ"؛ والفِعْلُ إنَّما يَمْتَنِعُ الإخْبارُ عَنْهُ عِنْدَ بَقائِهِ عَلى حَقِيقَتِهِ؛ أمّا لَوْ أُرِيدَ بِهِ اللَّفْظُ أوْ مُطْلَقُ الحَدَثِ المَدْلُولِ عَلَيْهِ ضِمْنًا عَلى طَرِيقَةِ الِاتِّساعِ فَهو كالِاسْمِ في الإضافَةِ والإسْنادِ إلَيْهِ؛ كَما في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿هَذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ﴾؛ وقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿وَإذا قِيلَ لَهم لا تُفْسِدُوا﴾؛ وفي قَوْلِهِمْ: تَسْمَعُ بِالمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِن أنْ تَراهُ؛ كَأنَّهُ قِيلَ: إنْذارُكَ وعَدَمُهُ سِيّانِ عَلَيْهِمْ؛ والعُدُولُ إلى الفِعْلِ لِما فِيهِ مِن إيهامِ التَّجَدُّدِ؛ والتَّوَصُّلُ إلى إدْخالِ الهَمْزَةِ ومُعادِلِها عَلَيْهِ لِإفادَةِ تَقْرِيرِ مَعْنى الِاسْتِواءِ وتَأْكِيدِهِ؛ كَما أُشِيرَ إلَيْهِ؛ وقِيلَ "سَواءٌ" مُبْتَدَأٌ؛ وما بَعْدَهُ خَبَرُهُ؛ ولَيْسَ بِذاكَ؛ لِأنَّ مُقْتَضى المَقامِ بَيانُ كَوْنِ الإنْذارِ وعَدَمِهِ سَواءً؛ لا بَيانُ كَوْنِ المُسْتَوِي الإنْذارَ وعَدَمَهُ. والإنْذارُ: إعْلامُ المَخُوفِ؛ لِلِاحْتِرازِ عَنْهُ؛ "إفْعالٌ" مِن نُذِرَ بالشَّيْءِ إذا عَلِمَهُ فَحَذِرَهُ؛ والمُرادُ هَهُنا التَّخْوِيفُ مِن عَذابِ اللَّهِ (تَعالى) وعِقابِهِ عَلى المَعاصِي؛ والِاقْتِصارُ عَلَيْهِ لِما أنَّهم لَيْسُوا بِأهْلٍ لِلْبِشارَةِ أصْلًا؛ ولِأنَّ الإنْذارَ أوْقَعُ في القُلُوبِ وأشَدُّ تَأْثِيرًا في النُّفُوسِ؛ فَإنَّ دَفْعَ المَضارِّ أهَمُّ مِن جَلْبِ المَنافِعِ؛ فَحَيْثُ لَمْ يَتَأثَّرُوا بِهِ فَلَأنْ لا يَرْفَعُوا لِلْبِشارَةِ رَأْسًا أوْلى؛ وقُرِئَ بِتَوْسِيطِ ألِفٍ بَيْنَ الهَمْزَتَيْنِ مَعَ تَحْقِيقِهِما؛ وبِتَوْسِيطِها والثّانِيَةُ بَيْنَ بَيْنَ؛ وبِتَخْفِيفِ الثّانِيَةِ بَيْنَ بَيْنَ بِلا تَوْسِيطٍ؛ وبِحَذْفِ حَرْفِ الِاسْتِفْهامِ؛ وبِحَذْفِهِ وإلْقاءِ حَرَكَتِهِ عَلى السّاكِنِ قَبْلَهُ؛ كَما قُرِئَ " قَدْ أفْلَحَ "؛ وقُرِئَ بِقَلْبِ الثّانِيَةِ ألِفًا؛ وقَدْ نُسِبَ ذَلِكَ إلى اللَّحْنِ.
﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾: جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ؛ مُؤَكِّدَةٌ لِما قَبْلَها؛ مُبَيِّنَةٌ لِما فِيهِ مِن إجْمالِ ما فِيهِ الِاسْتِواءُ؛ فَلا مَحَلَّ لَها مِنَ الإعْرابِ؛ أوْ حالٌ مُؤَكِّدَةٌ لَهُ؛ أوْ بَدَلٌ مِنهُ؛ أوْ خَبَرٌ لِـ "إنَّ"؛ وما قَبْلَها اعْتِراضٌ بِما هو عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ؛ أوْ خَبَرٌ ثانٍ؛ عَلى رَأْيِ مَن يُجَوِّزُهُ عِنْدَ كَوْنِهِ جُمْلَةً؛ والآيَةُ الكَرِيمَةُ مِمّا اسْتُدِلَّ بِهِ عَلى جَوازِ التَّكْلِيفِ بِما لا يُطاقُ؛ فَإنَّهُ (تَعالى) قَدْ أخْبَرَ عَنْهم بِأنَّهم لا يُؤْمِنُونَ؛ فَظَهَرَ اسْتِحالَةُ إيمانِهِمْ؛ لِاسْتِلْزامِهِ المُسْتَحِيلَ الَّذِي هو عَدَمُ مُطابَقَةِ إخْبارِهِ (تَعالى) لِلْواقِعِ؛ مَعَ كَوْنِهِمْ مَأْمُورِينَ بِالإيمانِ؛ باقِينَ عَلى التَّكْلِيفِ؛ ولِأنَّ مِن جُمْلَةِ ما كُلِّفُوهُ الإيمانَ بِعَدَمِ إيمانِهِمُ المُسْتَمِرِّ؛ والحَقُّ أنَّ التَّكْلِيفَ بِالمُمْتَنَعِ لِذاتِهِ - وإنْ جازَ عَقْلًا مِن حَيْثُ إنَّ الأحْكامَ لا تَسْتَدْعِي أغْراضًا؛ لا سِيَّما الِامْتِثالُ - لَكِنَّهُ غَيْرُ واقِعٍ لِلِاسْتِقْراءِ؛ والإخْبارُ بِوُقُوعِ الشَّيْءِ أوْ بِعَدَمِهِ لا يَنْفِي القُدْرَةَ عَلَيْهِ؛ كَإخْبارِهِ (تَعالى) عَمّا يَفْعَلُهُ هو أوِ العَبْدُ بِاخْتِيارِهِ؛ ولَيْسَ ما كُلِّفُوهُ الإيمانَ بِتَفاصِيلِ ما نَطَقَ بِهِ القرآن حَتّى يَلْزَمَ أنْ يُكَلَّفُوا الإيمانَ بِعَدَمِ إيمانِهِمُ المُسْتَمِرِّ؛ بَلْ هو الإيمانُ بِجَمِيعِ ما جاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ إجْمالًا عَلى أنَّ كَوْنَ المَوْصُولِ عِبارَةً عَنْهم لَيْسَ مَعْلُومًا لَهُمْ؛ وفائِدَةُ الإنْذارِ بَعْدَ العِلْمِ بِأنَّهُ لا يُفِيدُ إلْزامُ الحُجَّةِ؛ وإحْرازُ الرَّسُولِ ﷺ فَضْلَ الإبْلاغِ؛ ولِذَلِكَ قِيلَ: ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ﴾؛ ولَمْ يَقُلْ: عَلَيْكَ؛ كَما قِيلَ لِعَبَدَةِ الأصْنامِ: ﴿سَواءٌ عَلَيْكم أدَعَوْتُمُوهم أمْ أنْتُمْ صامِتُونَ﴾؛ 
وَفِي الآيَةِ الكَرِيمَةِ إخْبارٌ بِالغَيْبِ عَلى ما هو بِهِ إنْ أُرِيدَ بِالمَوْصُولِ أشْخاصٌ بِأعْيانِهِمْ؛ فَهي مِنَ المُعْجِزاتِ الباهِرَةِ.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More