لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
﴿لَا یُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَیۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَاۤ إِن نَّسِینَاۤ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَیۡنَاۤ إِصۡرࣰا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَاۤۚ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَـٰفِرِینَ﴾ [البقرة ٢٨٦]
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: لا يكلف الله نفسا فيتعبدها إلا بما يسعها،(١) فلا يضيق عليها ولا يجهدها. * * *
وقد بينا فيما مضى قبل أن"الوسع" اسم من قول القائل:"وسعني هذا الأمر"، مثل"الجهد" و"الوجد" من:"جهدني هذا الأمر" و"وجدت منه"،(٢) كما:-
٦٥٠٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاومة، عن علي، عن ابن عباس قوله:"لا يكلف الله نفسا إلا وسعها" قال: هم المؤمنون، وسع الله عليهم أمر دينهم، فقال الله جل ثناؤه: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [سورة الحج: ٧٨] ، وقال: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [سورة البقرة: ١٨٥] ، وقال: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾(٣) [سورة التغابن: ١٦] .
٦٥٠٣ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن الزهري، عن عبد الله بن عباس قال: لما نزلت، ضج المؤمنون منها ضجة وقالوا: يا رسول الله، هذا نتوب من عمل اليد والرجل واللسان!(٤) كيف نتوب من الوسوسة؟ كيف نمتنع منها؟ فجاء جبريل ﷺ بهذه الآية،"لا يكلف الله نفسا إلا وسعها"، إنكم لا تستطيعون أن تمتنعوا من الوسوسة.
٦٥٠٤ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لا يكلف الله نفسا إلا وسعها"، وسعها، طاقتها. وكان حديث النفس مما لم يطيقوا.(٥) * * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"لها" للنفس التي أخبر أنه لا يكلفها إلا وسعها. يقول: لكل نفس ما اجترحت وعملت من خير ="وعليها"، يعني: وعلى كل نفس ="ما اكتسبت"، ما عملت من شر،(٦) كما:-
٦٥٠٥ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت"، أي: من خير ="وعليها ما اكتسبت"، أي: من شر - أو قال: من سوء.
٦٥٠٦ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط. عن السدي."لها ما كسبت"، يقول: ما عملت من خير ="وعليها ما اكتسبت"، يقول: وعليها ما عملت من شر.
٦٥٠٧ - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتاده، مثله.
٦٥٠٨ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن الزهري، عن عبد الله بن عباس:"لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت"، عمل اليد والرجل واللسان. * * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذا: لا يكلف الله نفسا إلا ما يسعها فلا يجهدها، ولا يضيق عليها في أمر دينها، فيؤاخذها بهمة إن همت، ولا بوسوسة إن عرضت لها، ولا بخطرة إن خطرت بقلبها. * * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾
قال أبو جعفر: وهذا تعليم من الله عز وجل عباده المؤمنين دعاءه كيف يدعونه، وما يقولونه في دعائهم إياه. ومعناه: قولوا:"ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا" شيئا فرضت علينا عمله فلم نعمله=،"أو أخطأنا" في فعل شيء نهيتنا عن فعله ففعلناه، على غير قصد منا إلى معصيتك، ولكن على جهالة منا به وخطأ، كما:-
٦٥٠٩ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، إن نسينا شيئا مما افترضته علينا، أو أخطأنا، [فأصبنا] شيئا مما حرمته علينا.(٧)
٦٥١٠ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، قال: بلغني أن النبي ﷺ قال: إن الله عز وجل تجاوز لهذه الأمة عن نسيانها وما حدثت به أنفسها.(٨)
٦٥١١ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط قال، زعم السدي أن هذه الآية حين نزلت:"ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، قال له جبريل ﷺ: فقل ذلك يا محمد. * * *
قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وهل يحوز أن يؤاخذ الله عز وجل عباده بما نسوا أو أخطأوا، فيسألوه أن لا يؤاخذهم بذلك؟
قيل: إن"النسيان" على وجهين: أحدهما على وجه التضييع من العبد والتفريط، والآخر على وجه عجز الناسي عن حفظ ما استحفظ ووكل به، وضعف عقله عن احتماله.
= فأما الذي يكون من العبد على وجه التضييع منه والتفريط، فهو ترك منه لما أمر بفعله. فذلك الذي يرغب العبد إلى الله عز وجل في تركه مؤاخذته به، وهو"النسيان" الذي عاقب الله عز وجل به آدم صلوات الله عليه فأخرجه من الجنة، فقال في ذلك: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ [سورة طه: ١١٥] ، وهو"النسيان" الذي قال جل ثناؤه: ﴿فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا﴾ [سورة الأعراف: ٥١] . فرغبة العبد إلى الله عز وجل بقوله:"ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، فيما كان من نسيان منه لما أمر بفعله على هذا الوجه الذي وصفنا، ما لم يكن تركه ما ترك من ذلك تفريطا منه فيه وتضييعا، كفرا بالله عز وجل. فإن ذلك إذا كان كفرا بالله، فإن الرغبة إلى الله في تركه المؤاخذة به غير جائزة، لأن الله عز وجل قد أخبر عباده أنه لا يغفر لهم الشرك به، فمسألته فعل ما قد أعلمهم أنه لا يفعله، خطأ. وإنما تكون مسألته المغفرة، فيما كان من مثل نسيانه القرآن بعد حفظه بتشاغله عنه وعن قراءته، ومثل نسيانه صلاة أو صياما، باشتغاله عنهما بغيرهما حتى ضيعهما.
= وأما الذي العبد به غير مؤاخذ، لعجز بنيته عن حفظه، وقلة احتمال عقله ما وكل بمراعاته، فإن ذلك من العبد غير معصية، وهو به غير آثم، فذلك الذي لا وجه لمسألة العبد ربه أن يغفره له، لأنه مسألة منه له أن يغفر له ما ليس له بذنب، وذلك مثل الأمر يغلب عليه وهو حريص على تذكره وحفظه، كالرجل يحرص على حفظ القرآن بجد منه فيقرأه، ثم ينساه بغير تشاغل منه بغيره عنه، ولكن بعجز بنيته عن حفظه، وقلة احتمال عقله ذكر ما أودع قلبه منه، وما أشبه ذلك من النسيان، فإن ذلك مما لا تجوز مسألة الرب مغفرته، لأنه لا ذنب للعبد فيه فيغفر له باكتسابه. * * *
وكذلك "الخطأ" وجهان:
= أحدهما: من وجه ما نهي عنه العبد فيأتيه بقصد منه وإرادة، فذلك خطأ منه، وهو به مأخوذ. يقال منه:"خطئ فلان وأخطأ" فيما أتى من الفعل، و"أثم"، إذا أتى ما يأثم فيه وركبه،(٩) ومنه قول الشاعر:(١٠)
الناس يلحون الأمير إذا هم ... خطئوا الصواب ولا يلام المرشد(١١)
يعني: أخطأوا الصواب = وهذا الوجه الذي يرغب العبد إلى ربه في صفح ما كان منه من إثم عنه،(١٢) إلا ما كان من ذلك كفرا.
= والآخر منهما: ما كان عنه على وجه الجهل به، والظن منه بأن له فعله، كالذي يأكل في شهر رمضان ليلا وهو يحسب أن الفجر لم يطلع = أو يؤخر صلاة في يوم غيم وهو ينتظر بتأخيره إياها دخول وقتها، فيخرج وقتها وهو يرى أن وقتها لم يدخل. فإن ذلك من الخطأ الموضوع عن العبد، الذي وضع الله عز وجل عن عباده الإثم فيه، فلا وجه لمسألة العبد ربه أن لا يؤاخذه به. * * *
وقد زعم قوم أن مسألة العبد ربه أن لا يؤاخذه بما نسي أو أخطأ، إنما هو فعل منه لما أمره به ربه تبارك وتعالى، أو لما ندبه إليه من التذلل له والخضوع بالمسألة، فأما على وجه مسألته الصفح، فما لا وجه له عندهم(١٣)
وللبيان عن هؤلاء كتاب سنأتي فيه إن شاء الله على ما فيه الكفاية، لمن وفق لفهمه. * * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾
قال أبو جعفر: ويعني بذلك جل ثناؤه: قولوا:"ربنا ولا تحمل علينا إصرا"، يعني ب"الإصر" العهد، كما قال جل ثناؤه: ﴿قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي﴾ [سورة آل عمران: ٨١] . وإنما عنى بقوله:" وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا) ولا تحمل علينا عهدا فنعجز عن القيام به ولا نستطيعه ="كما حملته على الذين من قبلنا"، يعني: على اليهود والنصارى الذين كلفوا أعمالا وأخذت عهودهم ومواثيقهم على القيام بها، فلم يقوموا بها فعوجلوا بالعقوبة. فعلم الله عز وجل أمة محمد ﷺ - الرغبة إليه بمسألته أن لا يحملهم من عهوده ومواثيقه على أعمال - إن ضيعوها أو أخطأوا فيها أو نسوها - مثل الذي حمل من قبلهم، فيحل بهم بخطئهم فيه وتضييعهم إياه، مثل الذي أحل بمن قبلهم. * * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك:
٦٥١٢ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قي قوله:"لا تحمل علينا إصرا"، قال: لا تحمل علينا عهدا وميثاقا، كما حملته على الذين من قبلنا. يقول: كما غلظ على من قبلنا.
٦٥١٣ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن موسى بن قيس الحضرمي، عن مجاهد في قوله:"ولا تحمل علينا إصرا"، قال: عهدا(١٤)
٦٥١٤ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"إصرا"، قال: عهدا.
٦٥١٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله:"إصرا"، يقول: عهدا.
٦٥١٦ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا"، والإصر: العهد الذي كان على من قبلنا من اليهود.
٦٥١٧ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"ولا تحمل علينا إصرا"، قال: عهدا لا نطيقه ولا نستطيع القيام به ="كما حملته على الذين من قبلنا"، اليهود والنصارى فلم يقوموا به، فأهلكتهم.
٦٥١٨ - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك:"إصرا"، قال: المواثيق.
٦٥١٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"الإصر"، العهد. = ﴿وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي﴾ [سورة آل عمران ٨١] ، قال: عهدي.
٦٥٢٠ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ﴿وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي﴾ ، قال: عهدي.
وقال آخرون:"معنى ذلك: ولا تحمل علينا ذنوبًا وإثمًا، كما حملت ذلك على من قبلنا من الأمم، فتمسخنا قردةً وخنازير كما مسختهم". * ذكر من قال ذلك:
٦٥٢١ - حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال، حدثنا بقية بن الوليد، عن علي بن هارون، عن ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح في قوله:"ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا"، قال: لا تمسخنا قردة وخنازير.(١٥)
٦٥٢٢ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله:"ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا"، لا تحمل علينا ذنبًا ليس فيه توبةً ولا كفارة. * * *
وقال آخرون:"معنى"الإصر" بكسر الألف: الثِّقْل". * ذكر من قال ذلك:
٦٥٢٣ - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا"، يقول: التشديد الذي شدّدته على من قبلنا من أهل الكتاب.
٦٥٢٤ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سألته - يعنى مالكًا - عن قوله:"ولا تحمل علينا إصرًا"، قال: الإصر، الأمر الغليظ. * * *
قال أبو جعفر: فأما"الأصر"، بفتح الألف: فهو ما عَطف الرجلَ على غيره من رَحم أو قرابة، يقال:"أصَرتني رَحم بيني وبين فلانٌ عليه"، بمعنى: عطفتني عليه."وما يأصِرُني عليه"، أي: ما يعطفني عليه."وبيني وبينه آصرةُ رَحم تأصرني عليه أصرًا"، يعني به: عاطفة رَحم تعطفني عليه.(١٦) * * *
القول في تأويل قوله: ﴿رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وقولوا أيضًا: ربنا لا تكلفنا من الأعمال ما لا نطيق القيام به، لثِقَل حمله علينا.
وكذلك كانت جماعة أهل التأويل يتأولونه. * ذكر من قال ذلك:
٦٥٢٥ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به"، تشديدٌ يشدِّد به، كما شدّد على من كان قبلكم.
٦٥٢٦ - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قوله:"ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به"، قال: لا تحملنا من الأعمال ما لا نطيق.
٦٥٢٧ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به"، لا تفترض علينا من الدّين ما لا طاقة لنا به فنعجز عنه.
٦٥٢٨ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به"، مَسخُ القردة والخنازير.
٦٥٢٩ - حدثني سلام بن سالم الخزاعي قال، حدثنا أبو حفص عمر بن سعيد التنوخي قال، حدثنا محمد بن شعيب بن شابور، عن سالم بن شابور في قوله:"ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به"، قال: الغُلْمة.(١٧)
٦٥٣٠ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به"، من التغليظ والأغلال التي كانت عليهم من التحريم. * * *
قال أبو جعفر: وإنما قلنا إن تأويل ذلك: ولا تكلفنا من الأعمال ما لا نطيق القيام به، على نحو الذي قلنا في ذلك، لأنه عَقيب مسألة المؤمنين ربَّهم أن لا يؤاخذهم إن نسوا أو أخطأوا، وأن لا يحمل عليهم إصرًا كما حمله على الذين من قبلهم، فكان إلحاق ذلك بمعنى ما قبله من مسألتهم التيسيرَ في الدين، أولى مما خالف ذلك المعنى. * * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا﴾
قال أبو جعفر: وفي هذا أيضًا، من قول الله عز وجل، خبرًا عن المؤمنين من مسألتهم إياه ذلك =(١٨) الدلالةُ الواضحة أنهم سألوه تيسير فرائضه عليهم بقوله:"ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به"، لأنهم عقبوا ذلك بقولهم:"واعف عنا"، مسألةً منهم ربَّهم أن يعفوَ لهم عن تقصير إن كان منهم في بعض ما أمرهم به من فرائضه، فيصفح لهم عنه ولا يعاقبهم عليه. وإن خفّ ما كلفهم من فرائضه على أبدانهم. * * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك:
٦٥٣١ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"واعف عنا"، قال: اعفُ عنا إن قصرنا عن شيء من أمرك مما أمرتنا به. * * *
وكذلك قوله:"واغفر لنا"، يعني: واستر علينا زلَّة إن أتيناها فيما بيننا وبينك، فلا تكشفها ولا تفضحنا بإظهارها. * * *
وقد دللنا على معنى"المغفرة" فيما مضى قبل.(١٩) * * *
٦٥٣٢ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"واغفر لنا" إن انتهكنا شيئًا مما نهيتنا عنه. * * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَارْحَمْنَا﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: تغمدنا منك برحمة تنجينا بها من عقابك، فإنه ليس بناج من عقابك أحد إلا برحمتك إياه دُون عمله، وليست أعمالنا منجيتنا إن أنت لم ترحمنا، فوفقنا لما يرضيك عنا، كما:-
٦٥٣٣ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد قوله:"وارحمنا"، قال يقول: لا ننال العمل بما أمرتنا به، ولا تركَ ما نهيتنا عنه إلا برحمتك.(٢٠) قال: ولم ينج أحدٌ إلا برحمتك. * * *
القول في تأويل قوله: ﴿أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (٢٨٦) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"أنت مَوْلانا"، أنت وَليُّنا بنصرك، دون من عَاداك وكفر بك، لأنا مؤمنون بك، ومطيعوك فيما أمرتنا ونهيتنا، فأنت وليّ من أطاعك، وعدوّ من كفر بك فعصاك =،"فانصرنا"، لأنا حزْبك = "على القوم الكافرين"، الذين جحدوا وحدانيتك، وعبدوا الآلهة والأندادَ دونك، وأطاعوا في معصيتك الشيطان. * * *
و"المولى" في هذا الموضع"المفعَل"، من:"وَلى فلانٌ أمرَ فُلان، فهو يليه وَلاية، وهو وليُّه ومولاه".(٢١) وإنما صارت"الياء" من"ولى""ألفًا"، لانفتاح"اللام" قبلها، التي هي عينُ الاسم. * * *
وقد ذكروا أن الله عز وجل لما أنزل هذه الآية على رسول الله ﷺ، فتلاها رسول الله ﷺ، استجاب الله له في ذلك كله.
ذكر الأخبار التي جاءت بذلك:
٦٥٣٤ - حدثني المثنى بن إبراهيم ومحمد بن خلف قالا حدثنا آدم قال، حدثنا ورقاء، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية:"آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه"، قال: قرأها رسول الله ﷺ، فلما انتهى إلى قوله:"غُفرانك ربنا"، قال الله عز وجل:"قد غفرت لكم. فلما قرأ:"ربنا لا تؤاخذنا إنْ نسينا أو أخطأنا"، قال الله عز وجل: لا أحملكم. فلما قرأ:"واغفر لنا"، قال الله تبارك وتعالى: قد غفرت لكم. فلما قرأ:"وارحمنا"، قال الله عز وجل:"قد رحمتكم"، فلما قرأ:"وانصرنا على القوم الكافرين"، قال الله عز وجل: قد نصرتُكم عليهم.(٢٢)
٦٥٣٥ - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال: أتى جبريل النبيّ ﷺ فقال: يا محمد، قل:"ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، فقالها، فقال جبريل: قد فعل. وقال له جبريل: قل:"ربنا ولا تَحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا"، فقالها، فقال جبريل: قد فعل. فقال: قل"ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به"، فقالها، فقال جبريل ﷺ: قد فعل. فقال: قل:"واعف عَنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين"، فقالها، فقال جبريل: قد فَعل.
٦٥٣٦ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط قال: زعم السدي أن هذه الآية حين نزلت:"ربَنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، فقال له جبريل: فعل ذلك يا محمد ="ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين"، فقال له جبريل في كل ذلك: فَعَل ذلك يا محمد.
٦٥٣٧ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع = وحدثنا سفيان قال، حدثنا أبي = عن سفيان، عن آدم بن سليمان، مولى خالد قال، سمعت سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: أنزل الله عز وجل:"آمن الرسول بما أنزل من ربه" إلى قوله:"ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، فقرأ:"ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، قال فقال: قد فعلت ="ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا"، فقال: قد فعلت ="ربنا ولا تحملنا ما لا طاقه لنا به"، قال: قد فعلت ="واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين"، قال: قد فعلت.(٢٣)
٦٥٣٨ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا إسحاق بن سليمان، عن مصعب بن ثابت، عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: أنزل الله عز وجل:"ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، قال: أبي: قال أبو هريرة: قال رسول الله ﷺ: قال الله عز وجل: نعم.(٢٤)
٦٥٣٩ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد، عن سفيان، عن آدم بن سليمان، عن سعيد بن جبير:"لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، قال ويقول: قد فعلت ="ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا"، قال ويقول: قد فعلت. فأعطيت هذه الأمة خواتيم"سورة البقرة"، ولم تعطها الأمم قبلها.(٢٥)
٦٥٤٠ - حدثنا علي بن حرب الموصلي قال، حدثنا ابن فضيل قال، حدثنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قول الله عز وجل:"آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه" إلى قوله:"غفرانك ربنا"، قال: قد غفرت لكم ="لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها" = إلى قوله:"لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، قال: لا أؤاخذكم ="ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا"، قال: لا أحمل عليكم = إلى قوله:"واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا"، إلى آخر السورة، قال: قد عفوت عنكم وغفرت لكم، ورحمتكم، ونصرُتكم على القوم الكافرين.(٢٦) * * *
= وروى عن الضحاك بن مزاحم أن إجابةَ الله للنبيّ ﷺ خاصّة:
٦٥٤١ - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا": كان جبريل عليه السلام يقول له: سلها!(٢٧) فسألها نبيّ الله رَبَّه جل ثناءه، فأعطاه إياها،(٢٨) فكانت للنبي ﷺ خاصةً.
٦٥٤٢ - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق: أن مُعاذًا كان إذا فرغ من هذه السورة:"وانصرنا على القوم الكافرين"، قال: آمين.(٢٩) * * *
آخر تفسير سورة البقرة
(١) في المخطوطة والمطبوعة: "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها فيتعبدها إلا بما يسعها" وبين أن الناسخ عجل فزاد"إلا وسعها"، والسياق يقتضي تركها هنا، فتركتها. (٢) انظر ما سلف ٥: ٤٥. (٣) في المخطوطة والمطبوعة: "اتقوا الله. . " وأثبت نص القراءة. (٤) قوله: "هذا نتوب. . . "، تعبير فصيح يكون مع التعجب، وقد جاء في الشعر، ولكن سقط عني موضعه الآن فلم أجده. (٥) في المطبوعة: "مما لا يطيقون"، وأثبت ما في المخطوطة. (٦) انظر تفسير"الكسب" و"الاكتساب" فيما سلف ٢: ٢٧٣، ٢٧٤ / ثم ٣: ١٠٠، ١٠١، ١٢٨، ١٢٩ / ثم ٤: ٤٤٩. (٧) الزيادة بين القوسين، توشك أن تكون زيادة لا يستقيم بغيرها الكلام. (٨) الأثر: ٦٥١٠ - أخرجه مسلم في صحيحه (٢: ١٤٦، ١٤٧) من طرق، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن أبي هريرة ولفظه: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها، ما لم يتكلموا أو يعملوا". (٩) في المطبوعة: "ما يتأثم فيه"، والصواب من المخطوطة. وانظر معنى"خطئ" فيما سلف ٢: ١١٠. (١٠) هو عبيد بن الأبرص الأسدي، وفي حماسة البحتري، ٢٣٦"عبيد بن منصور الأسدي"، وكأنه تحريف. (١١) ديوانه: ٥٤، وحماسة البحتري ٢٣٦ واللسان (أمر) ورواية ديوانه: والناس يلحون الأمير إذا غوى ... خطب الصواب. . . . . . . . أما رواية اللسان، فهي كما جاءت في الطبري. ولحاه يلحاه: لامه وقرعه. والأمير: صاحب الأمر فيهم، يأمرهم فيطيعونه. والمرشد (اسم مفعول بفتح الشين) : من هداه الله إلى الصواب. وهو شبيه بقول القطامي: والناس من يلق خيرا قائلون له ... ما يشتهى، ولأم المخطئ الهبل (١٢) استعمل أبو جعفر"الصفح" هنا بمعنى: الرد والصرف، ولو كان من قولهم"صفح عن ذنبه" لكان صواب العبارة"في صفحه عما كان منه من إثم". واستعمال أبي جعفر جيد صحيح. (١٣) انظر أمالي الشريف المرتضى ٢: ١٣١، ١٣٢. (١٤) الأثر: ٦٥١٣-"موسى بن قيس الحضرمي" الفراء، الكوفي، لقبه: "عصفور الجنة". روى عن سلمة بن كهيل، ومحمد بن عجلان، ومسلم البطين وغيرهم. روى عنه وكيع، ويحيى بن آدم، وأبو نعيم، وغيرهم. قال أحمد: "لا أعلم إلا خيرا". وقال ابن سعد: "كان قليل الحديث". ووثقه ابن معين. وقال العقيلي: "كان من الغلاة في الرفض. . . يحدث بأحاديث مناكير - أو: بواطيل". مترجم في التهذيب. (١٥) الأثر: ٦٥٢١-"سعيد بن عمرو السكوني"، سلفت ترجمته في رقم: ٥٥٦٣. أما"علي بن هارون" فلم أجده، وأظن صوابه"يزيد بن هارون"، و"بقية بن الوليد"، يروي عن"يزيد بن هارون" ومات قبله. وهم جميعًا مترجمون في التهذيب. (١٦) في المخطوطة والمطبوعة: "وبيني وبينه أصر رحم يأصرني عليه"، وسياق شرحه يقتضي ما أثبتته كتب اللغة، وهو الذي أثبته هنا. (١٧) الأثر: ٦٥٢٩-"سلام بن سالم الخزاعي"، سلفت ترجمته برقم: ٢٥٢. وأما"أبو حفص عمر بن سعيد التنوخي"، فهو"عمر بن سعيد بن سليمان، أبو حفص القرشي الدمشقي"، راوية سعيد بن عبد العزيز التنوخي، فكأنه نسب إليه. روى عن محمد بن شعيب ابن شابور. مترجم في التهذيب، وتاريخ بغداد (١١: ٢٠٠) . و"محمد بن شعيب بن شابور" الدمشقي، أحد الكبار. روى عن الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز التنوخي، وغيرهما. كان يسكن بيروت، وذكره ابن حبان في الثقات. مات سنة ٢٠٠. والغلمة: غليان شهوة المواقعة من الرجل والمرأة. (١٨) سياق العبارة: "وفي هذا أيضًا. . . الدلالة الواضحة" خبر ومبتدأ. (١٩) انظر، ما سلف قريبًا: ١٢٧، ١٢٨ تعليق: ١، والمراجع هناك. وانظر فهارس اللغة (غفر) . (٢٠) في المطبوعة: "لا نترك"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب، منصوبًا بقوله: "تنال" معطوفًا على قوله"العمل". (٢١) انظر تفسير"الولي"، و"المولى" فيما سلف ٢: ٤٨٩، ٥٦٤ / ثم ٥: ٤٢٤. (٢٢) الحديث: ٦٥٣٤- محمد بن خلف بن عمار العسقلاني، شيخ الطبري: ثقة، من شيوخ النسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة، وقد مضت رواية أخرى للطبري عنه في: ١٢٦. آدم: هو ابن أبي إياس العسقلاني، وهو ثقة مأمون. وكان مكينًا عند شعبة. وقد مضت ترجمته في: ١٨٧. ورقاء: هو ابن عمر اليشكري، أبو بشر. وهو كوفي ثقة، أثنى عليه شعبة جدًا. والراجح - عندي - أن ورقاء ممن سمع من عطاء قديمًا قبل تغيره، لأنه من القدماء من طبقة شعبة، ولأنه كوفي، وعطاء تغير في مقدمه البصرة آخر حياته. وهذا الحديث من هذا الوجه - من رواية عطاء بن سعيد بن المسيب - لم أجده في شيء من الدواوين، غير تفسير الطبري. فرواه هنا مرفوعًا، ثم سيرويه بنحوه: ٦٥٤٠ موقوفًا على ابن عباس. وذاك الموقوف في الحقيقة مرفوع حكمًا، لأنه ليس مما يعرف بالرأي ولا القياس. فهو مؤيد لصحة هذا المرفوع. ثم رفع الحديث في هذا الإسناد زيادة في ثقة، فهي مقبولة. بل إن هذا الإسناد أرجح صحة من ذاك. لأن ورقاء قديم، رجحنا أنه سمع من عطاء قبل تغيره. وأما ذاك الإسناد، فإنه من رواية محمد بن فضيل عن عطاء. وابن فضيل سمع من عطاء بأخرة، بعد تغيره. كما نص على ذلك ابن أبي حاتم عن أبيه ٣/ ٣٣٤. ومعنى الحديث ثابت صحيح من وجه آخر، كما مضى في: ٦٤٥٧، من رواية آدم بن سليمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وهناك الإجابة بعد كل دعاء: "قد فعلت". وهنا الإجابة من لفظ الدعاء. والمعنى واحد. والظاهر أن متن الحديث هنا سقط منه شيء، سهوًا من الناسخين، عند قوله: "فلما قرأ: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) ، قال الله عز وجل: لا أحملكم". وفي الرواية الآتية: "قال: لا أؤاخذكم"، ثم ذكر هناك ما بعدها من الدعاء: (ربنا ولا تحمل علينا إصرار كما حملته على الذين من قبلنا) -"قال: لا أحمل عليكم". وذاك هو السياق الصحيح الكامل، الذي يدل على نقص من هذا السياق هنا. واضطرب كاتب المخطوطة اضطرابًا أشد من هذا، لأنه كرر في متن الحديث: "فلما انتهى إلى قوله (غفرانك ربنا) ، قال الله عز وجل: قد غفرت لكم" - مرتين. ثم أسقط باقي الحديث فلم يذكره. (٢٣) الحديث: ٦٥٣٧ - هو مختصر من الحديث: ٦٤٥٧، بهذا الإسناد. وقد ثبت الإسناد هنا على الصواب، كما أشرنا هناك. (٢٤) الحديث: ٦٥٣٨ - هو مختصر من الحديث: ٦٤٥٦، بهذا الإسناد. وقد أشرنا إليه هناك. (٢٥) الحديث: ٦٥٣٩ - هو حديث مرسل. وهو بعض الحديث الماضي: ٦٤٦٤، بهذا الإسناد. ولكن ثبت هنا في المخطوطة والمطبوعة"أبو حميد"، بدل"أبو أحمد". وهو خطأ يقينًا، فإنه"أبو أحمد الزبيري، محمد بن عبد الله بن الزبير"، كما بينا في: ٦٤٦٣. ووقع في المخطوطة هنا بياض بين قوله"أبو حميد"، وبين"سفيان". وآخر بين قوله"عن سعيد بن جبير"، وبين الآية. ولعل كاتبها شك في قوله"عن سفيان"، وظنه كالرواية الماضية"حدثنا سفيان"، فترك مكان"حدثنا" بياضا. ثم شك في ذكر الآية بعد اسم"سعيد بن جبير"، دون تمهيد لها بقوله"فنزلت هذه الآية"، كما في الرواية الماضية، فترك لذلك بياضًا. (٢٦) الحديث: ٦٥٤٠- علي بن حرب بن محمد بن علي، أبو الحسن الطائي الموصلي: ثقة ثبت، وثقه الدارقطني وغيره. وكان عالمًا بأخبار العرب، أديبًا شاعرًا. روى عنه النسائي، وأبو حاتم، وابنه، وترجمه ٣/١/١٨٣. وله ترجمة جيدة في تاريخ بغداد ١١: ٤١٨-٢٤٠. وهذا الحديث تكرار للحديث: ٦٥٣٤، بنحوه. وهذا موقوف لفظًا مرفوع معنى، وذاك مرفوع لفظًا ومعنى. وذاك أرجح إسنادًا وأصح، كما بينا هناك. وذكر ابن كثير ٢: ٨٩ قطعة منه، من رواية ابن أبي حاتم، عن علي بن حرب الموصلي، بهذا الإسناد. فلا ندري: أرواه ابن أبي حاتم هكذا مختصرًا، أم اختصره ابن كثير؟ (٢٧) في المخطوطة: ". . . أو أخطأنا كان جبريل صلى الله عليه فسألها نبي الله" وما بين الكلام بياض، وأئمته المطبوعة كما ترى. أما الدر المنثور ١: ٣٧٨ فقال: "أخرج ابن جرير عن الضحاك في هذه الآية قال: كان ٣ عليه الصلاة والسلام فسألها نبي الله ربه. . . " ورقم"٣" دلالة على سقط في الكلام. فالظاهر أن السقط قديم في بعض النسخ، ولذلك ترك له السيوطي بياضًا في نسخته من الدر المنثور. (٢٨) في المخطوطة: "فأعطاها إياها"، وأثبت ما في المطبوعة، لأنه موافق لما في الدر المنثور. (٢٩) الأثر: ٦٥٤٢- في تفسير ابن كثير ٢: ٩١، والدر المنثور ١: ٣٧٨ وفيهما تخريجه. وفي ختام الصورة من النسخة العتيقة ما نصه: "آخر تفسير سورة البقرة" "والحمد لله أولا وآخرًا، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم" "يتلوه تفسير سورة آل عمران. الحمد لله رب العالمين".
(جامع البيان — ابن جرير الطبري (٣١٠ هـ))
(١) في المخطوطة والمطبوعة: "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها فيتعبدها إلا بما يسعها" وبين أن الناسخ عجل فزاد"إلا وسعها"، والسياق يقتضي تركها هنا، فتركتها.
(٢) انظر ما سلف ٥: ٤٥.
(٣) في المخطوطة والمطبوعة: "اتقوا الله. . " وأثبت نص القراءة.
(٤) قوله: "هذا نتوب. . . "، تعبير فصيح يكون مع التعجب، وقد جاء في الشعر، ولكن سقط عني موضعه الآن فلم أجده.
(٥) في المطبوعة: "مما لا يطيقون"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٦) انظر تفسير"الكسب" و"الاكتساب" فيما سلف ٢: ٢٧٣، ٢٧٤ / ثم ٣: ١٠٠، ١٠١، ١٢٨، ١٢٩ / ثم ٤: ٤٤٩.
(٧) الزيادة بين القوسين، توشك أن تكون زيادة لا يستقيم بغيرها الكلام.
(٨) الأثر: ٦٥١٠ - أخرجه مسلم في صحيحه (٢: ١٤٦، ١٤٧) من طرق، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن أبي هريرة ولفظه: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها، ما لم يتكلموا أو يعملوا".
(٩) في المطبوعة: "ما يتأثم فيه"، والصواب من المخطوطة. وانظر معنى"خطئ" فيما سلف ٢: ١١٠.
(١٠) هو عبيد بن الأبرص الأسدي، وفي حماسة البحتري، ٢٣٦"عبيد بن منصور الأسدي"، وكأنه تحريف.
(١١) ديوانه: ٥٤، وحماسة البحتري ٢٣٦ واللسان (أمر) ورواية ديوانه: والناس يلحون الأمير إذا غوى ... خطب الصواب. . . . . . . .
أما رواية اللسان، فهي كما جاءت في الطبري. ولحاه يلحاه: لامه وقرعه. والأمير: صاحب الأمر فيهم، يأمرهم فيطيعونه. والمرشد (اسم مفعول بفتح الشين) : من هداه الله إلى الصواب. وهو شبيه بقول القطامي: والناس من يلق خيرا قائلون له ... ما يشتهى، ولأم المخطئ الهبل
(١٢) استعمل أبو جعفر"الصفح" هنا بمعنى: الرد والصرف، ولو كان من قولهم"صفح عن ذنبه" لكان صواب العبارة"في صفحه عما كان منه من إثم". واستعمال أبي جعفر جيد صحيح.
(١٣) انظر أمالي الشريف المرتضى ٢: ١٣١، ١٣٢.
(١٤) الأثر: ٦٥١٣-"موسى بن قيس الحضرمي" الفراء، الكوفي، لقبه: "عصفور الجنة". روى عن سلمة بن كهيل، ومحمد بن عجلان، ومسلم البطين وغيرهم. روى عنه وكيع، ويحيى بن آدم، وأبو نعيم، وغيرهم. قال أحمد: "لا أعلم إلا خيرا". وقال ابن سعد: "كان قليل الحديث". ووثقه ابن معين. وقال العقيلي: "كان من الغلاة في الرفض. . . يحدث بأحاديث مناكير - أو: بواطيل". مترجم في التهذيب.
(١٥) الأثر: ٦٥٢١-"سعيد بن عمرو السكوني"، سلفت ترجمته في رقم: ٥٥٦٣. أما"علي بن هارون" فلم أجده، وأظن صوابه"يزيد بن هارون"، و"بقية بن الوليد"، يروي عن"يزيد بن هارون" ومات قبله. وهم جميعًا مترجمون في التهذيب.
(١٦) في المخطوطة والمطبوعة: "وبيني وبينه أصر رحم يأصرني عليه"، وسياق شرحه يقتضي ما أثبتته كتب اللغة، وهو الذي أثبته هنا.
(١٧) الأثر: ٦٥٢٩-"سلام بن سالم الخزاعي"، سلفت ترجمته برقم: ٢٥٢. وأما"أبو حفص عمر بن سعيد التنوخي"، فهو"عمر بن سعيد بن سليمان، أبو حفص القرشي الدمشقي"، راوية سعيد بن عبد العزيز التنوخي، فكأنه نسب إليه. روى عن محمد بن شعيب ابن شابور. مترجم في التهذيب، وتاريخ بغداد (١١: ٢٠٠) . و"محمد بن شعيب بن شابور" الدمشقي، أحد الكبار. روى عن الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز التنوخي، وغيرهما. كان يسكن بيروت، وذكره ابن حبان في الثقات. مات سنة ٢٠٠.
والغلمة: غليان شهوة المواقعة من الرجل والمرأة.
(١٨) سياق العبارة: "وفي هذا أيضًا. . . الدلالة الواضحة" خبر ومبتدأ.
(١٩) انظر، ما سلف قريبًا: ١٢٧، ١٢٨ تعليق: ١، والمراجع هناك. وانظر فهارس اللغة (غفر) .
(٢٠) في المطبوعة: "لا نترك"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب، منصوبًا بقوله: "تنال" معطوفًا على قوله"العمل".
(٢١) انظر تفسير"الولي"، و"المولى" فيما سلف ٢: ٤٨٩، ٥٦٤ / ثم ٥: ٤٢٤.
(٢٢) الحديث: ٦٥٣٤- محمد بن خلف بن عمار العسقلاني، شيخ الطبري: ثقة، من شيوخ النسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة، وقد مضت رواية أخرى للطبري عنه في: ١٢٦.
آدم: هو ابن أبي إياس العسقلاني، وهو ثقة مأمون. وكان مكينًا عند شعبة. وقد مضت ترجمته في: ١٨٧.
ورقاء: هو ابن عمر اليشكري، أبو بشر. وهو كوفي ثقة، أثنى عليه شعبة جدًا. والراجح - عندي - أن ورقاء ممن سمع من عطاء قديمًا قبل تغيره، لأنه من القدماء من طبقة شعبة، ولأنه كوفي، وعطاء تغير في مقدمه البصرة آخر حياته.
وهذا الحديث من هذا الوجه - من رواية عطاء بن سعيد بن المسيب - لم أجده في شيء من الدواوين، غير تفسير الطبري. فرواه هنا مرفوعًا، ثم سيرويه بنحوه: ٦٥٤٠ موقوفًا على ابن عباس.
وذاك الموقوف في الحقيقة مرفوع حكمًا، لأنه ليس مما يعرف بالرأي ولا القياس. فهو مؤيد لصحة هذا المرفوع.
ثم رفع الحديث في هذا الإسناد زيادة في ثقة، فهي مقبولة.
بل إن هذا الإسناد أرجح صحة من ذاك. لأن ورقاء قديم، رجحنا أنه سمع من عطاء قبل تغيره.
وأما ذاك الإسناد، فإنه من رواية محمد بن فضيل عن عطاء. وابن فضيل سمع من عطاء بأخرة، بعد تغيره. كما نص على ذلك ابن أبي حاتم عن أبيه ٣/ ٣٣٤.
ومعنى الحديث ثابت صحيح من وجه آخر، كما مضى في: ٦٤٥٧، من رواية آدم بن سليمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وهناك الإجابة بعد كل دعاء: "قد فعلت". وهنا الإجابة من لفظ الدعاء. والمعنى واحد.
والظاهر أن متن الحديث هنا سقط منه شيء، سهوًا من الناسخين، عند قوله: "فلما قرأ: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) ، قال الله عز وجل: لا أحملكم". وفي الرواية الآتية: "قال: لا أؤاخذكم"، ثم ذكر هناك ما بعدها من الدعاء: (ربنا ولا تحمل علينا إصرار كما حملته على الذين من قبلنا) -"قال: لا أحمل عليكم". وذاك هو السياق الصحيح الكامل، الذي يدل على نقص من هذا السياق هنا.
واضطرب كاتب المخطوطة اضطرابًا أشد من هذا، لأنه كرر في متن الحديث: "فلما انتهى إلى قوله (غفرانك ربنا) ، قال الله عز وجل: قد غفرت لكم" - مرتين. ثم أسقط باقي الحديث فلم يذكره.
(٢٣) الحديث: ٦٥٣٧ - هو مختصر من الحديث: ٦٤٥٧، بهذا الإسناد.
وقد ثبت الإسناد هنا على الصواب، كما أشرنا هناك.
(٢٤) الحديث: ٦٥٣٨ - هو مختصر من الحديث: ٦٤٥٦، بهذا الإسناد. وقد أشرنا إليه هناك.
(٢٥) الحديث: ٦٥٣٩ - هو حديث مرسل. وهو بعض الحديث الماضي: ٦٤٦٤، بهذا الإسناد.
ولكن ثبت هنا في المخطوطة والمطبوعة"أبو حميد"، بدل"أبو أحمد". وهو خطأ يقينًا، فإنه"أبو أحمد الزبيري، محمد بن عبد الله بن الزبير"، كما بينا في: ٦٤٦٣.
ووقع في المخطوطة هنا بياض بين قوله"أبو حميد"، وبين"سفيان". وآخر بين قوله"عن سعيد بن جبير"، وبين الآية.
ولعل كاتبها شك في قوله"عن سفيان"، وظنه كالرواية الماضية"حدثنا سفيان"، فترك مكان"حدثنا" بياضا. ثم شك في ذكر الآية بعد اسم"سعيد بن جبير"، دون تمهيد لها بقوله"فنزلت هذه الآية"، كما في الرواية الماضية، فترك لذلك بياضًا.
(٢٦) الحديث: ٦٥٤٠- علي بن حرب بن محمد بن علي، أبو الحسن الطائي الموصلي: ثقة ثبت، وثقه الدارقطني وغيره. وكان عالمًا بأخبار العرب، أديبًا شاعرًا. روى عنه النسائي، وأبو حاتم، وابنه، وترجمه ٣/١/١٨٣. وله ترجمة جيدة في تاريخ بغداد ١١: ٤١٨-٢٤٠.
وهذا الحديث تكرار للحديث: ٦٥٣٤، بنحوه. وهذا موقوف لفظًا مرفوع معنى، وذاك مرفوع لفظًا ومعنى. وذاك أرجح إسنادًا وأصح، كما بينا هناك.
وذكر ابن كثير ٢: ٨٩ قطعة منه، من رواية ابن أبي حاتم، عن علي بن حرب الموصلي، بهذا الإسناد. فلا ندري: أرواه ابن أبي حاتم هكذا مختصرًا، أم اختصره ابن كثير؟
(٢٧) في المخطوطة: ". . . أو أخطأنا كان جبريل صلى الله عليه فسألها نبي الله" وما بين الكلام بياض، وأئمته المطبوعة كما ترى. أما الدر المنثور ١: ٣٧٨ فقال: "أخرج ابن جرير عن الضحاك في هذه الآية قال: كان ٣ عليه الصلاة والسلام فسألها نبي الله ربه. . . " ورقم"٣" دلالة على سقط في الكلام. فالظاهر أن السقط قديم في بعض النسخ، ولذلك ترك له السيوطي بياضًا في نسخته من الدر المنثور.
(٢٨) في المخطوطة: "فأعطاها إياها"، وأثبت ما في المطبوعة، لأنه موافق لما في الدر المنثور.
(٢٩) الأثر: ٦٥٤٢- في تفسير ابن كثير ٢: ٩١، والدر المنثور ١: ٣٧٨ وفيهما تخريجه.
وفي ختام الصورة من النسخة العتيقة ما نصه:
"آخر تفسير سورة البقرة"
"والحمد لله أولا وآخرًا، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم"
"يتلوه تفسير سورة آل عمران. الحمد لله رب العالمين".
فتح البيان — صديق حسن خان (١٣٠٧ هـ)
﴿لَا یُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَیۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَاۤ إِن نَّسِینَاۤ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَیۡنَاۤ إِصۡرࣰا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَاۤۚ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَـٰفِرِینَ﴾ [البقرة ٢٨٦]
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
(لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) أي ما تسعه قدرتها فضلاً منه ورحمة أو ما دون مدى طاقتها أي غاية طاقتها بحيث يتسع فيه طوقها ويتيسر عليها.
التكليف هو الأمر بما فيه مشقة وكلفة، والوسع الطاقة والوسع ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه، وهذه جملة مستقلة جاءت عقب قوله سبحانه (إن تبدوا ما في أنفسكم) الآية لكشف كربة المسلمين ودفع المشقة عليهم في التكليف بما في الأنفس، وهي كقوله سبحانه (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) قال ابن عباس: وأكثر المفسرين: إن هذه الآية نسخت حديث النفس والوسوسة.
(لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) فيه ترغيب وترهيب أي لها ثواب ما كسبت من الخير وعليها وزر ما اكتسبت من الشر، وتقديم لها وعليها على الفعلين يفيد أن ذلك لها لا لغيرها وعليها لا على غيرها، وهذا مبني على أن " كسب " للخير فقط، واكتسب للشر فقط كما قاله صاحب الكشاف وغيره، وقيل كل واحد من الفعلين يصدق على الأمرين، وإنما كرر فعل وخالف بين التصريفين تحسيناً للنظم كما وقع في قوله تعالى (فمهّل الكافرين أمهلهم رويداً).
وقيل اللام للخير وعلى للمضرة ولكن ينقض هذا بقوله تعالى (ولهم اللعنة) و (عليهم صلوات) اللهم إلا أن يقال هما يقتضيان ذلك عند الإطلاق بلا ذكر الحسنة والسيئة أو أنهما يستعملان لذالك عند تقاربهما كما في هذه الآية.
(ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) أي لا تؤاخذنا بإثم ما يصدر منا من هذين الأمرين، وقد استشكل هذا الدعاء جماعة من المفسرين وغيرهم قائلين إن الخطأ والنسيان مغفوران غير مؤاخذ بهما فما معنى الدعاء بذلك فإنه من تحصيل الحاصل.
وأجيب عن ذلك بأن المراد طلب عدم المؤاخذة بما صدر عنهم من الأسباب المؤدية إلى النسيان والخطأ من التفريط وعدم المبالاة لا من نفس النسيان والخطأ فإنه لا مؤاخذة بهما كما يفيد ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وسيأتي تخريجه.
وقيل إنه يجوز للإنسان أن يدعو بحصول ما هو حاصل له قبل الدعاء لقصد استدامته.
وقيل إنه وإن ثبت شرعاً أنه لا مؤاخذة بهما فلا امتناع في المؤاخذة بهما عقلاً.
وقيل لأنهم كانوا على جانب عظيم من التقوى بحيث لا يصدر عنهم الذنب تعمداً وإنما يصدر عنهم خطأً أو نسياناً فكأنه وصفهم بالدعاء بذلك إيذاناً بنزاهة ساحتهم عما يؤاخذون به، كأنه قيل إن كان النسيان والخطأ مما يؤاخذون به فما منهم سبب المؤاخذة إلا الخطأ والنسيان.
قال القرطبي: وهذا لم يختلف فيه إن الإثم مرفوع وإنما اختلف فيما يتعلق على ذلك من الأحكام هل ذلك مرفوع ولا يلزم منه شيء أو يلزم أحكام ذلك كله اختلف فيه، والصحيح أن ذلك يختلف بحسب الوقائع فقسم لا يسقط باتفاق كالغرامات، والديانات والصلوات المفروضات، وقسم يسقط باتفاق كالقصاص والنطق بكلمة الكفر، وقسم ثالث مختلف فيه كمن أكل ناسياً في رمضان أو حنث ساهياً، وما كان مثله مما يقع خطأ أو نسياناً، ويعرف ذلك في الفروع انتهى.
والآية تعليم من الله لعباده كيفية الدعاء وهذا من غاية الكرم حيث يعلمهم الطلب ليعطيهم المطلوب.
(ربنا ولا تحمل علينا إصراً) تكرير النداء للإيذان بمزيد التضرّع واللجوء إلى الله سبحانه، والإصر العبء الثقيل الذي يأصر صاحبه أي يحبسه مكانه لا يستقل به لثقله، والمراد به هنا التكليف الشاق والأمر الغليظ الصعب، وقيل الإصر شدة العمل وما غلظ على بني اسرائيل من قتل الأنفس وقطع موضع النجاسة، وقيل الإصر المسخ قردة وخنازير وقيل العهد، ومنه قوله تعالى: (وأخذتم على ذلكم إصري).
وهذا الخلاف يرجع إلى بيان ما هو الإصر الذي كان على من قبلنا لا إلى معنى الإصر في لغة العرب فإنه تقدم ذكره بلا نزاع، والإصار الحبل الذي يربط به الأحمال ونحوها يقال أصر يأصر أصراً حبس، والإصر بكسر الهمزة من ذلك، قال الجوهري: والوضوع مأصر والجمع مآصر، ومعنى الآية أنهم طلبوا من الله سبحانه أن لا يحملهم من ثقيل التكاليف ما حمل الأمم قبلهم.
(كما حملته على الذين من قبلنا) يعني اليهود، وذلك أن الله فرض عليهم خمسين صلاة وأمرهم بأداء ربع أموالهم زكاة، ومن أصاب منهم ثوبه نجاسة قطعها ومن أصاب ذنباً أصبح وذنبه مكتوب على بابه، نحو هذا من الأثقال والآصار.
(ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) تكرير النداء للنكتة المذكورة قبل هذا، والمعنى لا تحملنا من الأعمال ما لا نطيق وقيل: هو عبارة عن إنزال العقوبات كأنه قال لا تنزل علينا العقوبات بتفريطنا في المحافظة على تلك التكاليف الشاقة التي كلفت بها من قبلنا، وقيل المراد به الشاق الذي لا يكاد يستطاع من التكاليف، والطاقة القدرة على الشيء.
(واعف عنا) أي عن ذنوبنا يقال عفوت عن ذنبه إذا تركته ولم تعاقبه عليه (واغفر لنا) أى استر على ذنوبنا ولا تفضحنا بالمؤاخذة، والغفر الستر (وارحمنا) أي تفضل برحمة منك علمنا وتعطف بنا (أنت مولانا) أي ولينا وناصرنا، وخرج هذا مخرج التعليم كيف يدعون، وقيل معناه أنت سيدنا ونحن عبيدك (فانصرنا على القوم الكافرين) فإن من حق المولى أن ينصر عبيده والمراد عامة الكفرة وفيه إشارة إلى إعلاء كلمة الله بالجهاد في سبيله.
وقد قدمنا في شرح الآية التي قبل هذا أنه ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أن الله تعالى قال عقب كل دعوة من هذه الدعوات " قد فعلت " فكان ذلك دليلاً على أنه سبحانه لم يؤاخذهم بشيء من الخطأ والنسيان، ولا حمل عليهم شيئاً من الإصر الذي حمله على من قبلهم، ولا حمَّلهم ما لا طاقة لهم به، وعفا عنهم وغفر لهم ورحمهم ونصرهم على القوم الكافرين، والحمد لله رب العالمين.
وقد أخرج ابن ماجة وابن المنذر وابن حبان في صحيحه والطبراني والدارقطني والحاكم والبيهقي في سننه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه(١) " وروي من طرق كثيرة وفي أسانيدها مقال ولكنها يقوّي بعضها بعضاً فلا يقصر عن رتبه الحسن لغيره، وقد تقدم حديث " قد فعلت " وهو يشهد لهذا الحديث.
وقد ورد عن جماعة من الصحابة وغيرهم أن جبريل لقّن النبي - صلى الله عليه وسلم - خاتمة البقرة " آمين ".
وقد ثبت عند الشيخين وأهل السنن وغيرهم عن أبي مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه(٢) " وأخرج أحمد والنسائي والطبراني والبيهقي في الشعب بسند صحيح عن حذيفة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول " أعطيت هذه الآية من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعطها نبي قبلي(٣) ".
وأخرج الطبراني بسند جيد عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام فأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة لا تقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان(٤) ".
وأخرج مسلم والنسائي واللفظ له عن ابن عباس قال: بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده جبريل إذ سمع نقيضاً فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط قال: فنزل منه ملك فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك، فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ حرفاً منهما إلا أوتيته ".
فهذه أحاديث مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فضل هاتين الآيتين، وقد روى في فضلهما من غير الرفوع عن عمر وعلي وابن مسعود وأبي مسعود وكعب الأحبار والحسن وأبي قلابة.
وفي قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يغني عن غيره ولله الحمد.
(١) صحيح الجامع الصغير 1727. والمشكاة 6284.
(٢) مسلم 807 - البخاري 1862.
(٣) صحيح الجامع الصغير 1071.
(٤) صحيح الجامع الصغير 1795. والمشكاة/2145.
تفسير القرآن العظيم — ابن كثير (٧٧٤ هـ)
﴿ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَـٰۤىِٕكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَیۡنَ أَحَدࣲ مِّن رُّسُلِهِۦۚ وَقَالُوا۟ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ غُفۡرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَیۡكَ ٱلۡمَصِیرُ (٢٨٥) لَا یُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَیۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَاۤ إِن نَّسِینَاۤ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَیۡنَاۤ إِصۡرࣰا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَاۤۚ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَـٰفِرِینَ (٢٨٦)﴾ [البقرة ٢٨٥-٢٨٦]
ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي فَضْلِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْكَرِيمَتَيْنِ نَفَعَنَا اللَّهُ بِهِمَا.
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: "مَنْ قَرَأَ بِالْآيَتَيْنِ"، وَحَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَنْ قَرَأَ بِالْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاه"(١) .
وَقَدْ أَخْرَجَهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ مِهْران الْأَعْمَشِ، بِإِسْنَادِهِ، مِثْلِهِ(٢) . وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْهُ، بِهِ(٣) . وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ -قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: ثُمَّ لَقِيتُ أبا مَسْعُودٍ، فَحَدَّثَنِي بِهِ(٤) .
وَهَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: "مَنْ قَرَأَ الْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَتِهِ كَفَتَاهُ"(٥) .
الْحَدِيثُ الثَّانِي: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبعي، عَنْ خَرشة بْنِ الحُر، عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أُعْطِيتُ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ، لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي"(٦) .
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، مِنْ حَدِيثِ الْأَشْجَعِيِّ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعِي، عَنْ زَيْدِ بْنِ ظِبْيان، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أُعْطِيتُ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ"(٧) .
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: قَالَ مُسْلِمٌ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ مغْول (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَير، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ جَمِيعًا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمير -وَأَلْفَاظُهُمْ مُتَقَارِبَةٌ -قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَل، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ(٨) عَنْ طَلْحَةَ، عَنْ مُرَة، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: لَمَّا أسْريَ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ انْتُهِيَ بِهِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ إِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُعْرَج بِهِ مِنَ الْأَرْضِ فَيُقْبَض مِنْهَا، وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُهْبَطُ بِهِ مِنْ فَوْقِهَا فيُقْبَض مِنْهَا، قَالَ: ﴿إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى﴾ [النَّجْمِ: ١٦] ، قَالَ: فرَاش مِنْ ذَهَبٍ. قَالَ: وَأُعْطِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثَلَاثًا: أعْطِيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وأعْطِي خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَغُفِرَ لِمَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ مِنْ أُمَّتِهِ شَيْئًا المُقْحَماتُ(٩) .
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ مَرْثَد بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْيَزْنِيِّ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "اقْرَأِ الْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَإِنِّي أُعْطِيتُهُمَا مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ". هَذَا إِسْنَادٌ حَسَنٌ، وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ فِي كُتُبِهِمْ(١٠) .
الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: قَالَ ابْنُ مَرْدُويه: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَرْبِيُّ، أَخْبَرَنَا مُسَدَّد(١١) أَخْبَرَنَا أَبُو(١٢) عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنْ ربْعِي، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ، أُوتِيْتُ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ البقرة من بيت كنز تحت الْعَرْشِ، لَمْ يُعْطَهَا أَحَدٌ قَبْلِي، وَلَا يُعْطَاهَا أَحَدٌ بَعْدِي"(١٣) .
ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ نُعَيم بْنِ أَبِي هِنْدِيٍّ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ، بِنَحْوِهِ.
الْحَدِيثُ السَّادِسُ: قَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ نَافِعٍ، أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ بزَيع، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْول، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَا أَرَى أَحَدًا عَقِل الْإِسْلَامَ يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَإِنَّهَا كَنْزٌ أُعْطِيَهُ نَبِيُّكُمْ ﷺ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ.
وَرَوَاهُ وَكِيع عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ عَمْرٍو الْخَارِفِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: مَا أَرَى أَحَدًا يَعْقِلُ، بَلَغَهُ الْإِسْلَامُ، يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ وَخَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَإِنَّهَا مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ(١٤) .
الْحَدِيثُ السَّابِعُ: قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا بُنْدَار، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الجَرْمي(١٥) عَنْ أَبِي قِلابَة، عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يخلق السموات وَالْأَرْضَ بِأَلْفَيْ عَامٍ، أَنْزَلَ مِنْهُ آيَتَيْنِ خَتَمَ بِهِمَا(١٦) سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَلَا يُقْرَأْنَ فِي دَارٍ ثَلَاثَ لَيَالٍ فَيَقْرَبُهَا شَيْطَانٌ". ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَهَكَذَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ(١٧)(١٨) .
الْحَدِيثُ الثَّامِنُ: قَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَدْيَنَ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْجَهْمِ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَمْرٍو، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ أَبِي الْحَجَّاجِ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذا قَرَأَ آخِرَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ ضَحِكَ، وَقَالَ: "إِنَّهُمَا مِنْ كَنْزِ الرَّحْمَنِ تَحْتَ الْعَرْشِ". وَإِذَا قَرَأَ: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِه﴾ [النِّسَاءِ: ١٢٣] ، ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفَى﴾ [النَّجْمِ:٣٩-٤١] ، اسْتَرْجَعَ وَاسْتَكَانَ(١٩) .
الْحَدِيثُ التَّاسِعُ: قَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ كُوفِيٍّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ(٢٠) حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِي مَلِيح، عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أُعْطِيتُ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمَ سُورَةِ البقرة من تحت العرش، والمُفَصل نافلة"(٢١) .
الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ: قَدْ تَقَدَّمَ فِي فَضَائِلِ الْفَاتِحَةِ، مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وعنده جِبْرِيلُ؛ إِذْ سَمِعَ نَقِيضًا فَوْقَهُ، فَرَفَعَ جِبْرِيلُ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: هَذَا بَابٌ قَدْ فُتِحَ مِنَ السَّمَاءِ مَا فُتِح قَط. قَالَ: فنزل منه مَلَك، فَأَتَى النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: أبشر بنورين قد أوتيتهما، لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ حَرْفًا مِنْهُمَا إِلَّا أُوتِيتُهُ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ، وَهَذَا لَفْظُهُ(٢٢) .
[الْحَدِيثُ الْحَادِي عَشَرَ: قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ، حَدَّثَنَا أَيْفَعُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْكُلَاعِيُّ(٢٣) قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: "آيَةُ الْكُرْسِيِّ: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ قَالَ: فَأَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ تُحِبُّ أَنْ تُصِيبَكَ وَأُمَّتَكَ؟ قَالَ: "آخِرُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَلَمْ يَتْرُكْ خَيْرًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ"(٢٤) ](٢٥) .
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّه﴾ إِخْبَارٌ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ بِذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا بِشَرٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: "وَيَحِقُّ لَهُ أَنْ يُؤْمِنَ "(٢٦) .
وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ الْفَقِيهُ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ نَجْدَةَ الْقُرَشِيِّ، حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو عَقِيلٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّه﴾ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: "حُقَّ لَهُ أَنْ يُؤْمِنَ". ثُمَّ قَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.(٢٧) .
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿وَالْمُؤْمِنُون﴾ عَطْفٌ عَلَى ﴿الرَّسُولُ﴾ ثُمَّ أَخْبَرَ عَنِ الْجَمِيعِ فَقَالَ: ﴿كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ فَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ أَحَدٌ، فَرْدٌ صَمَدٌ، لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، وَلَا رَبَّ سِوَاهُ. وَيُصَدِّقُونَ بِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ الْمُرْسَلِينَ وَالْأَنْبِيَاءِ، لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، فَيُؤْمِنُونَ بِبَعْضٍ وَيَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ، بَلِ الْجَمِيعُ عِنْدَهُمْ صَادِقُونَ بَارُّونَ رَاشِدُونَ مَهْديون هَادُونَ إِلَى سُبُل(٢٨) الْخَيْرِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَنْسَخُ شَرِيعَةَ بَعْضٍ بِإِذْنِ اللَّهِ، حَتَّى نُسخ الْجَمِيعُ بِشَرْعِ مُحَمَّدٍ ﷺ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، الَّذِي تَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى شَرِيعَتِهِ، وَلَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِهِ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ.
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ أَيْ: سَمِعْنَا قَوْلَكَ يَا رَبَّنَا، وَفَهِمْنَاهُ، وَقُمْنَا بِهِ، وَامْتَثَلْنَا الْعَمَلَ بِمُقْتَضَاهُ، ﴿غُفْرَانَكَ رَبَّنَا﴾ سُؤَالٌ للغَفْر(٢٩) وَالرَّحْمَةِ وَاللُّطْفِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حرب الموصلي، حدثنا ابن فضيل، عن عطاء بن السائب، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿غُفْرَانَكَ رَبَّنَا﴾ قَالَ: قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ، ﴿وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ أَيْ: إِلَيْكَ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ بَيَانٍ، عَنْ حَكِيمٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ قَالَ جِبْرِيلُ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحْسَنَ الثَّنَاءَ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَّتِكَ، فَسَلْ تُعْطه. فَسَأَلَ: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا﴾ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ(٣٠) .
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا﴾ أَيْ: لَا يُكَلِّفُ أَحَدًا فَوْقَ طَاقَتِهِ، وَهَذَا مِنْ لُطْفِهِ تَعَالَى بِخَلْقِهِ وَرَأْفَتِهِ بِهِمْ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، وَهَذِهِ هِيَ النَّاسِخَةُ الرَّافِعَةُ لِمَا كَانَ أَشْفَقَ مِنْهُ الصَّحَابَةُ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّه﴾ أَيْ: هُوَ وَإِنْ حَاسَبَ وَسَأَلَ لَكِنْ لَا يُعَذِّبُ إِلَّا بِمَا يَمْلِكُ(٣١) الشَّخْصُ دَفْعَهُ، فَأَمَّا مَا لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ مِنْ وَسْوَسَةِ النَّفْسِ وَحَدِيثِهَا، فَهَذَا لَا يُكَلِّفُ بِهِ الْإِنْسَانَ، وَكَرَاهِيَةُ الْوَسْوَسَةِ السَّيِّئَةِ مِنَ الْإِيمَانِ.
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ أَيْ: مِنْ خَيْرٍ، ﴿وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ أَيْ: مِنْ شَرٍّ، وَذَلِكَ فِي الْأَعْمَالِ الَّتِي تَدْخُلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ، ثُمَّ قَالَ(٣٢) تَعَالَى مُرْشِدًا عِبَادَهُ إِلَى سُؤَالِهِ، وَقَدْ تَكَفَّلَ لَهُمْ بِالْإِجَابَةِ، كَمَا أَرْشَدَهُمْ وَعَلَّمَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ [نَسِينَا](٣٣) ﴾ أَيْ: إِنْ تَرَكْنَا فَرْضًا عَلَى جِهَةِ النِّسْيَانِ، أَوْ فَعَلْنَا حَرَامًا كَذَلِكَ، ﴿أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ أَيِ: الصوابَ فِي الْعَمَلِ، جَهْلًا مِنَّا بِوَجْهِهِ الشَّرْعِيِّ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: "قَالَ اللَّهُ: نَعَمْ" وَلِحَدِيثِ(٣٤) ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ اللَّهُ: "قَدْ فَعَلْتُ".
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ(٣٥) مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ -قَالَ ابْنُ مَاجَهْ فِي رِوَايَتِهِ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ: عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ(٣٦) عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ". وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طُرُق أخَرَ وَأَعَلَّهُ(٣٧) أَحْمَدُ وَأَبُو حَاتِمٍ(٣٨) وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ، عَنْ شَهْرٍ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَنْ ثَلَاثٍ: عَنِ الْخَطَأِ، وَالنِّسْيَانِ، وَالِاسْتِكْرَاهِ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلْحَسَنِ، فَقَالَ: أَجَلْ، أَمَا تَقْرَأُ بِذَلِكَ قُرْآنًا: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾(٣٩) .
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾ أَيْ: لَا تُكَلِّفُنَا مِنَ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ وَإِنْ أَطَقْنَاهَا، كَمَا شَرَعْتَهُ لِلْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ قَبْلَنَا مِنَ الْأَغْلَالِ وَالْآصَارِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ، الَّتِي بعثتَ نبيَك مُحَمَّدًا ﷺ نَبِيَّ الرَّحْمَةِ بِوَضْعِهِ فِي شَرْعِهِ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ بِهِ، مِنَ الدِّينِ الْحَنِيفِ السَّهْلِ السَّمْحِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "قَالَ اللَّهُ: نَعَمْ".
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "قَالَ اللَّهُ: قَدْ فَعَلْتُ". وَجَاءَ الْحَدِيثُ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: "بُعِثْتُ بالحَنيفيَّة السَّمْحَةِ"(٤٠) .
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ أَيْ: مِنَ التَّكْلِيفِ وَالْمَصَائِبِ وَالْبَلَاءِ، لَا تَبْتَلِينَا بِمَا لَا قِبَلَ لَنَا بِهِ.
وَقَدْ قَالَ مَكْحُولٌ فِي قَوْلِهِ: ﴿رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ قَالَ: الغرْبة وَالْغُلْمَةُ، رَوَاهُ(٤١) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، "قَالَ اللَّهُ: نَعَمْ" وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "قَالَ اللَّهُ: قَدْ فَعَلْتُ".
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿وَاعْفُ عَنَّا﴾ أَيْ: فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مِمَّا تَعْلَمُهُ مِنْ تَقْصِيرِنَا وَزَلَلِنَا، ﴿وَاغْفِرْ لَنَا﴾ أَيْ: فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ عِبَادِكَ، فَلَا تُظْهِرُهُمْ عَلَى مُسَاوِينَا وَأَعْمَالِنَا الْقَبِيحَةِ، ﴿وَارْحَمْنَا﴾ أَيْ: فِيمَا يُسْتَقبل، فَلَا تُوقِعُنَا بِتَوْفِيقِكَ فِي ذَنْبٍ آخَرَ، وَلِهَذَا قَالُوا: إِنَّ الْمُذْنِبَ مُحْتَاجٌ إِلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَأَنْ يَسْتُرَهُ عَنْ عِبَادِهِ فَلَا يَفْضَحُهُ بِهِ بَيْنَهُمْ، وَأَنْ يَعْصِمَهُ فَلَا يُوقِعُهُ فِي نَظِيرِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ اللَّهَ قَالَ: نَعَمْ. وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "قَالَ اللَّهُ: قَدْ فَعَلْتُ".
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿أَنْتَ مَوْلانَا﴾ أَيْ: أَنْتَ وَلِيُّنَا وَنَاصِرُنَا، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَأَنْتَ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْكَ التُّكْلَانُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ لَنَا إِلَّا بِكَ(٤٢) ﴿فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ أَيِ: الَّذِينَ جَحَدُوا دِينَكَ، وَأَنْكَرُوا وَحْدَانِيَّتَكَ، وَرِسَالَةَ نَبِيِّكَ، وَعَبَدُوا غَيْرَكَ، وَأَشْرَكُوا مَعَكَ مِنْ عِبَادِكَ، فَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ، وَاجْعَلْ لَنَا الْعَاقِبَةَ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، قَالَ اللَّهُ: نَعَمْ. وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "قَالَ اللَّهُ: قَدْ فَعَلْتُ".
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، أَنَّ مُعَاذًا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ(٤٣) ﴿فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ قَالَ: آمِينَ(٤٤) .
وَرَوَاهُ وَكِيع عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا خَتَمَ البقرة قال: آمين(٤٥) .
(١) صحيح البخاري برقم (٥٠٠٨) .
(٢) صحيح مسلم برقم (٨٠٨) وسنن أبي داود برقم (١٣٩٧) وسنن الترمذي برقم (٢٨٨١) وسنن النسائي الكبرى برقم (٨٠١٩) وسنن ابن ماجة برقم (١٣٦٨) .
(٣) صحيح البخاري برقم (٥٠٠٩) وصحيح مسلم برقم (٨٠٧) ؛ ولكنه فيه عن زهير، عن منصور به.
(٤) صحيح البخاري برقم (٤٠٠٨) وصحيح مسلم برقم (٨٠٨) .
(٥) المسند (٤/١١٨) .
(٦) المسند (٥/١٥١) .
(٧) ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (٢٤٠٤) من طريق الأشجعي به.
(٨) في أ: "بن علي".
(٩) صحيح مسلم برقم (١٧٣) .
(١٠) المسند (٤/١٤٧) .
(١١) في أ: "أخبرنا مسروق".
(١٢) في جـ، أ: "عن أبي".
(١٣) ورواه النسائي في السنن الكبرى برقم (٨٠٢٢) من طريق آدم بن أبي إياس، عن أبي عوانة به.
(١٤) ورواه ابن الضريس في فضائل القرآن برقم (١٦٩) من طريق أبي إسحاق، عن عمير بن سعيد به، قال النووي: "صحيح على شرط البخاري ومسلم".
(١٥) في أ: "الصنعاني".
(١٦) في جـ: "ختم بها".
(١٧) في أ: "ولم يخرجه".
(١٨) سنن الترمذي برقم (٢٨٨٢) والمستدرك (١/٥٦٢) .
(١٩) ذكره السيوطي في الدر المنثور (٢/٧) وعزاه لابن مردويه، وفي إسناده مجاهيل.
(٢٠) في أ: "بن بكير".
(٢١) ورواه الحاكم في المستدرك وصححه (١/٥٥٩) من طريق عبيد الله بن أبي حميد به نحوه، وتعقبه الذهبي بقوله: "فيه عبيد الله بن أبي حميد تركوه".
(٢٢) صحيح مسلم برقم (٨٠٦) وسنن النسائي (٢/١٣٨) .
(٢٣) في الإصابة: "أيفع بن عبد الكلاعي".
(٢٤) سنن الدارمي برقم (٣٣٨٠) وقال الحافظ ابن حجر في الإصابة (١/١٣٩) : "هو مرسل أو معضل".
(٢٥) زيادة من جـ.
(٢٦) تفسير الطبري (٦/١٢٤) .
(٢٧) المستدرك (٢/٢٨٧) وتعقبه الذهبي، قلت: "منقطع"، وذلك لأن يحيى بن أبي كثير رأى أنسا ولم يسمع منه.
(٢٨) في أ: "إلى سبيل".
(٢٩) في جـ، أ: "بالعفو".
(٣٠) في أ، و: "إلى آخر السورة".
(٣١) في أ، و: "على ما يملك".
(٣٢) في جـ: "وقال".
(٣٣) زيادة من أ، و.
(٣٤) في جـ: "وبحديث".
(٣٥) سنن ابن ماجة برقم (٢٠٤٥) وصحيح ابن حبان برقم (١٤٩٨) "موارد".
(٣٦) في أ: "إن الله قد وضع".
(٣٧) في جـ، أ، و: "وعلله".
(٣٨) العلل لابن أبي حاتم (١/٤٣١) والعلل للإمام أحمد (١/٢٢٧) وانظر في تفصيل الكلام على الحديث وعلته: جامع العلوم والحكم للحافظ ابن رجب (٢/٣٦١) ط. الرسالة، وفتح الباري للحافظ ابن حجر (٥/١٦١) .
(٣٩) ورواه ابن عدي في الكامل (٣/٣٢٥) من طريق أبي بكر الهذلي، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، عن أبي الدرداء مرفوعا وليس عنده قول أبي بكر للحسن.
(٤٠) جاء من حديث أبي أمامة، وابن عباس، وعائشة، وجابر رضي الله عنهم، أصحها حديث ابن عباس رواه الإمام أحمد في المسند (١/٢٣٦) وحسنه الحافظ ابن حجر في الفتح.
(٤١) في جـ: "ورواه".
(٤٢) في جـ: "إلا بالله".
(٤٣) في جـ: "من سورة البقرة".
(٤٤) تفسير الطبري (٦/١٤٦) .
(٤٥) جاء في جـ: "آخر تفسير سورة البقرة ولله الحمد والمنة والفضل والثناء الحسن الجميل، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه أجمعين، يتلوه إن شاء الله سورة آل عمران".
فتح القدير — الشوكاني (١٢٥٠ هـ)
﴿ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَـٰۤىِٕكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَیۡنَ أَحَدࣲ مِّن رُّسُلِهِۦۚ وَقَالُوا۟ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ غُفۡرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَیۡكَ ٱلۡمَصِیرُ (٢٨٥) لَا یُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَیۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَاۤ إِن نَّسِینَاۤ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَیۡنَاۤ إِصۡرࣰا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَاۤۚ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَـٰفِرِینَ (٢٨٦)﴾ [البقرة ٢٨٥-٢٨٦]
قَوْلُهُ: ﴿بِما أُنْزِلَ إلَيْهِ مِن رَبِّهِ﴾ أيْ بِجَمِيعِ ما أنْزَلَ اللَّهُ والمُؤْمِنُونَ عَطْفٌ عَلى الرَّسُولِ، وقَوْلُهُ: كُلٌّ أيْ مِنَ الرَّسُولِ والمُؤْمِنِينَ آمَنَ بِاللَّهِ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: والمُؤْمِنُونَ مُبْتَدَأٌ.
وقَوْلُهُ: كُلٌّ مُبْتَدَأٌ ثانٍ.
وقَوْلُهُ: آمَنَ بِاللَّهِ خَبَرُ المُبْتَدَأِ الثّانِي، وهو وخَبَرُهُ خَبَرُ المُبْتَدَأِ الأوَّلِ، وأفْرَدَ الضَّمِيرَ في قَوْلِهِ: آمَنَ بِاللَّهِ مَعَ رُجُوعِهِ إلى كُلِّ المُؤْمِنِينَ، لِما أنَّ المُرادَ بَيانُ إيمانِ كُلِّ فَرْدِ مِنهم مَن غَيْرِ اعْتِبارِ الِاجْتِماعِ كَما اعْتَبَرَ ذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وكُلٌّ أتَوْهُ داخِرِينَ﴾ [النمل: ٨٧] .
قالَ الزَّجّاجُ: لَمّا ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ في هَذِهِ السُّورَةِ فَرْضَ الصَّلاةِ والزَّكاةِ، وبَيَّنَ أحْكامَ الحَجِّ، وحُكْمَ الحَيْضِ، والطَّلاقِ والإيلاءِ، وأقاصِيصَ الأنْبِياءِ، وبَيَّنَ حُكْمَ الرِّبا، ذَكَرَ تَعْظِيمَهُ سُبْحانَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿لِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ [البقرة: ٢٨٤] ثُمَّ ذَكَرَ تَصْدِيقَ نَبِيِّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ، ثُمَّ ذَكَرَ تَصْدِيقَ المُؤْمِنِينَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ فَقالَ: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إلَيْهِ مِن رَبِّهِ﴾ أيْ صَدَّقَ الرَّسُولُ بِجَمِيعِ هَذِهِ الأشْياءِ الَّتِي جَرى ذِكْرُها، وكَذَلِكَ المُؤْمِنُونَ كُلُّهم صَدَّقُوا بِاللَّهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ، وقِيلَ: سَبَبُ نُزُولِها الآيَةُ الَّتِي قَبْلَها.
وقَدْ تَقَدَّمَ بَيانُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: ومَلائِكَتِهِ أيْ: مِن حَيْثُ كَوْنِهِمْ عِبادَهُ المُكْرَمِينَ المُتَوَسِّطِينَ بَيْنَهُ وبَيْنَ أنْبِيائِهِ في إنْزالِ كُتُبِهِ، وقَوْلُهُ: وكُتُبِهِ لِأنَّها المُشْتَمِلَةُ عَلى الشَّرائِعِ الَّتِي تَعَبَّدَ بِها عِبادُهُ.
وقَوْلُهُ: ورُسُلِهِ لِأنَّهُمُ المُبَلِّغُونَ لِعِبادِهِ ما نَزَلَ إلَيْهِمْ.
وقَرَأ نافِعٌ وابْنُ كَثِيرٍ وعاصِمٌ في رِوايَةِ أبِي بَكْرٍ وابْنِ عامِرٍ " وكُتُبِهِ " بِالجَمْعِ.
وقَرَءُوا في التَّحْرِيمِ " وكِتابِهِ " وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ هُنا " وكِتابِهِ " وكَذَلِكَ قَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ، ورُوِيَ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: الكِتابُ أكْثَرُ مِنَ الكُتُبِ.
وبَيَّنَهُ صاحِبُ الكَشّافِ فَقالَ: لِأنَّهُ إذا أُرِيدَ بِالواحِدِ الجِنْسُ والجِنْسِيَّةُ قائِمَةٌ في وحْدانِ الجِنْسِ كُلِّها لَمْ يَخْرُجْ مِنهُ شَيْءٌ، وأمّا الجَمْعُ فَلا يَدْخُلُ تَحْتَهُ إلّا ما فِيهِ الجِنْسِيَّةُ مِنَ الجُمُوعِ انْتَهى.
ومَن أرادَ تَحْقِيقَ المَقامِ فَلْيَرْجِعْ إلى شَرْحِ التَّلْخِيصِ المُطَوَّلِ عِنْدَ قَوْلِ صاحِبِ التَّلْخِيصِ واسْتِغْراقُ المُفْرَدِ أشْمَلُ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ ورُسُلِهِ بِضَمِّ السِّينِ.
وقَرَأ أبُو عَمْرٍو بِتَخْفِيفِ السِّينِ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ لا نُفَرِّقُ بِالنُّونِ.
والمَعْنى: يَقُولُونَ: لا نُفَرِّقُ.
وقَرَأ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ويَحْيى بْنُ يَعْمُرَ وأبُو زُرْعَةَ وابْنُ عُمَرَ وابْنُ جَرِيرٍ ويَعْقُوبُ " لا يُفَرِّقُ " بِالياءِ التَّحْتِيَّةِ.
وقَوْلُهُ: بَيْنَ أحَدٍ ولَمْ يَقُلْ بَيْنَ آحادٍ؛ لِأنَّ الأحَدَ يَتَناوَلُ الواحِدَ والجَمْعَ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَما مِنكم مِن أحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ﴾ فَوَصَفَهُ بِقَوْلِهِ: حاجِزِينَ لِكَوْنِهِ في مَعْنى الجَمْعِ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ وأنْ تَكُونَ خَبَرًا آخَرَ لِقَوْلِهِ: كُلٌّ.
وقَوْلُهُ: مِن رُسُلِهِ أظْهَرَ في مَحَلِّ الإضْمارِ لِلِاحْتِرازِ عَنْ تَوَهُّمِ انْدِراجِ المَلائِكَةِ في الحُكْمِ، أوِ الإشْعارِ بِعِلَّةِ عَدَمِ التَّفْرِيقِ بَيْنَهم.
وقَوْلُهُ: ﴿وقالُوا سَمِعْنا وأطَعْنا﴾ هو مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: آمَنَ وهو وإنْ كانَ لِلْمُفْرَدِ وهَذا لِلْجَماعَةِ فَهو جائِزٌ نَظَرًا إلى جانِبِ المَعْنى، أيْ أدْرَكْناهُ بِأسْماعِنا وفَهْمِناهُ وأطَعْنا ما فِيهِ، وقِيلَ: مَعْنى سَمِعْنا: أجَبْنا دَعْوَتَكَ.
قَوْلُهُ: غُفْرانَكَ مَصْدَرٌ مَنصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أيِ اغْفِرْ غُفْرانَكَ.
قالَهُ الزَّجّاجُ وغَيْرُهُ، وقَدَّمَ السَّمْعَ والطّاعَةَ عَلى طَلَبِ المَغْفِرَةِ لِكَوْنِ الوَسِيلَةِ تَتَقَدَّمُ عَلى المُتَوَسِّلِ إلَيْهِ.
قَوْلُهُ: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلّا وُسْعَها﴾ التَّكْلِيفُ هو الأمْرُ بِما فِيهِ مَشَقَّةٌ وكُلْفَةٌ، والوُسْعُ: الطّاقَةُ، والوُسْعُ: ما يَسَعُ الإنْسانَ ولا يُضَيِّقُ عَلَيْهِ، وهَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ جاءَتْ عَقِبَ قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وإنْ تُبْدُوا ما في أنْفُسِكُمْ﴾ [البقرة: ٢٨٤] الآيَةَ لِكَشْفِ كُرْبَةِ المُسْلِمِينَ، ودَفْعِ المَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ في التَّكْلِيفِ بِما في الأنْفُسِ وهي كَقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ﴾ [البقرة: ١٨٥] .
قَوْلُهُ: ﴿لَها ما كَسَبَتْ وعَلَيْها ما اكْتَسَبَتْ﴾ فِيهِ تَرْغِيبٌ وتَرْهِيبٌ، أيْ لَها ثَوابُ ما كَسَبَتْ مِنَ الخَيْرِ، وعَلَيْها وِزْرُ ما اكْتَسَبَتْ مِنَ الشَّرِّ، وتَقَدَّمَ " لَها " و" عَلَيْها " عَلى الفِعْلَيْنِ لِيُفِيدَ أنَّ ذَلِكَ لَها لا لِغَيْرِها، وعَلَيْها لا عَلى غَيْرِها، وهَذا مَبْنِيٌّ عَلى أنَّ كَسَبَ لِلْخَيْرِ فَقَطْ، واكْتَسَبَ لِلشَّرِّ فَقَطْ، كَما قالَهُ صاحِبُ الكَشّافِ وغَيْرُهُ، وقِيلَ: كُلُّ واحِدٍ مِنَ الفِعْلَيْنِ يَصْدُقُ عَلى الأمْرَيْنِ، وإنَّما كَرَّرَ الفِعْلَ وخالَفَ بَيْنَ التَّصْرِيفَيْنِ تَحْسِينًا لِلنَّظْمِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَمَهِّلِ الكافِرِينَ أمْهِلْهم رُوَيْدًا﴾ [الطارق: ١٧] .
قَوْلُهُ: ﴿رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا﴾ أيْ: لا تُؤاخِذْنا بِإثْمِ ما يَصْدُرُ مِنّا مِن هَذَيْنِ الأمْرَيْنِ.
وقَدِ اسْتَشْكَلَ هَذا الدُّعاءُ جَماعَةً مِنَ المُفَسِّرِينَ وغَيْرِهِمْ قائِلِينَ إنَّ الخَطَأ والنِّسْيانَ مَغْفُورانِ غَيْرُ مُؤاخَذٍ بِهِما، فَما مَعْنى الدُّعاءِ بِذَلِكَ، فَإنَّهُ مِن تَحْصِيلِ الحاصِلِ.
وأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأنَّ المُرادَ طَلَبُ المُؤاخَذَةِ بِما صَدَرَ عَنْهم مِنَ الأسْبابِ المُؤَدِّيَةِ إلى النِّسْيانِ والخَطَأِ، مِنَ التَّفْرِيطِ وعَدَمِ المُبالاةِ، لا مِن نَفْسِ النِّسْيانِ والخَطَأِ، فَإنَّهُ لا مُؤاخَذَةَ بِهِما كَما يُفِيدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ والنِّسْيانُ» وسَيَأْتِي مَخْرَجُهُ، وقِيلَ: إنَّهُ يَجُوزُ لِلْإنْسانِ أنْ يَدْعُوَ بِحُصُولِ ما هو حاصِلٌ لَهُ قَبْلَ الدُّعاءِ لِقَصْدِ اسْتَدامَتِهِ، وقِيلَ: إنَّهُ وإنْ ثَبَتَ شَرْعًا أنَّهُ لا مُؤاخَذَةَ بِهِما، فَلا امْتِناعَ في المُؤاخَذَةِ بِهِما عَقْلًا، وقِيلَ: لِأنَّهم كانُوا عَلى جانِبٍ عَظِيمٍ مِنَ التَّقْوى بِحَيْثُ لا يَصْدُرُ عَنْهُمُ الذَّنْبُ تَعَمُّدًا، وإنَّما يَصْدُرُ عَنْهم خَطَأً أوْ نِسْيانًا، فَكَأنَّهُ وصَفَهم بِالدُّعاءِ بِذَلِكَ إيذانًا بِنَزاهَةِ ساحَتِهِمْ عَمّا يُؤاخَذُونَ بِهِ، كَأنَّهُ قِيلَ: إنْ كانَ النِّسْيانُ والخَطَأُ مِمّا يُؤاخَذُ بِهِ، فَما مِنهم سَبَبُ مُؤاخَذَةٍ إلّا الخَطَأُ والنِّسْيانُ.
قالَ القُرْطُبِيُّ: وهَذا لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ أنَّ الإثْمَ مَرْفُوعٌ، وإنَّما اخْتُلِفَ فِيما يَتَعَلَّقُ عَلى ذَلِكَ مِنَ الأحْكامِ هَلْ ذَلِكَ مَرْفُوعٌ ولا يَلْزَمُ مِنهُ شَيْءٌ، أوْ يَلْزَمُ أحْكامُ ذَلِكَ كُلِّهِ ؟ اخْتُلِفَ فِيهِ، والصَّحِيحُ أنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسْبِ الوَقائِعِ، فَقِسْمٌ لا يَسْقُطُ بِاتِّفاقٍ كالغَراماتِ والدِّياناتِ والصَّلَواتِ المَفْرُوضاتِ.
وقِسْمٌ يَسْقُطُ بِاتِّفاقٍ كالقِصاصِ والنُّطْقِ بِكَلِمَةِ الكُفْرِ، وقِسْمٌ ثالِثٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ كَمَن أكَلَ ناسِيًا في رَمَضانَ أوْ حَنَثَ ساهِيًا، وما كانَ مِثْلُهُ مِمّا يَقَعُ خَطَأً ونِسْيانًا، ويُعْرَفُ ذَلِكَ في الفُرُوعِ انْتَهى.
قَوْلُهُ: ﴿رَبَّنا ولا تَحْمِلْ عَلَيْنا إصْرًا كَما حَمَلْتَهُ عَلى الَّذِينَ مِن قَبْلِنا﴾ عَطْفٌ عَلى الجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ، وتَكْرِيرُ النِّداءِ لِلْإيذانِ بِمَزِيدِ التَّضَرُّعِ واللُّجُوءِ إلى اللَّهِ سُبْحانَهُ.
والإصْرُ: العِبْءُ الثَّقِيلُ الَّذِي يَأْصِرُ صاحِبَهُ، أيْ يَحْبِسُهُ مَكانَهُ لا يَسْتَقِلُّ بِهِ لِثِقَلِهِ.
والمُرادُ بِهِ هُنا التَّكْلِيفُ الشّاقُّ، والأمْرُ الغَلِيظُ الصَّعْبُ، وقِيلَ: الإصْرُ شِدَّةُ العَمَلِ وما غَلُظَ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ مِن قَتْلِ الأنْفُسِ وقَطْعِ مَوْضِعِ النَّجاسَةِ، ومِنهُ قَوْلُ النّابِغَةِ:
يا مانِعَ الضَّيْمِ أنْ تَغْشى سَراتَهُمُ والحامِلَ الإصْرِ عَنْهم بَعْدَما غَرِقُوا
وقِيلَ: الإصْرُ المَسْخُ قِرَدَةً وخَنازِيرَ، وقِيلَ: العَهْدُ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأخَذْتُمْ عَلى ذَلِكم إصْرِي﴾ [آل عمران: ٨١] وهَذا الخِلافُ يَرْجِعُ إلى بَيانِ ما هو الإصْرُ الَّذِي كانَ عَلى مَن قَبْلَنا، لا إلى مَعْنى الإصْرِ في لُغَةِ العَرَبِ، فَإنَّهُ ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ بِلا نِزاعٍ، والإصارُ: الحَبَلُ الَّذِي تُرْبَطُ بِهِ الأحْمالُ ونَحْوُها، يُقالُ: أصَرَ يَأْصِرُ إصْرًا: حَبَسَ، والإصْرُ بِكَسْرِ الهَمْزَةِ مِن ذَلِكَ.
قالَ الجَوْهَرِيُّ: والمَوْضِعُ مَأْصِرٌ، والجُمَعُ مَآصِرُ، والعامَّةُ تَقُولُ مَعاصِرُ.
ومَعْنى الآيَةِ أنَّهم طَلَبُوا مِنَ اللَّهِ سُبْحانَهُ أنْ لا يَحْمِلَهم مِن ثِقَلِ التَّكالِيفِ ما حَمَلَ الأُمَمَ قَبْلَهم.
وقَوْلُهُ: كَما حَمَلْتَهُ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ: أيْ حَمْلًا مِثْلَ حَمْلِكَ إيّاهُ عَلى مَن قَبْلَنا، أوْ صِفَةٌ لِ " إصْرًا ": أيْ إصْرًا مِثْلَ الإصْرِ الَّذِي حَمَلَتْهُ عَلى مَن قَبْلَنا.
قَوْلُهُ: ﴿رَبَّنا ولا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ﴾ هو أيْضًا عَطْفٌ عَلى ما قَبْلَهُ، وتَكْرِيرُ النِّداءِ لِلنُّكْتَةِ المَذْكُورَةِ قَبْلَ هَذا.
والمَعْنى لا تُحَمِّلْنا مِنَ الأعْمالِ ما لا نُطِيقُ، وقِيلَ: هو عِبارَةٌ عَنْ إنْزالِ العُقُوباتِ، كَأنَّهُ قالَ: لا تُنْزِلْ عَلَيْنا العُقُوباتِ بِتَفْرِيطِنا في المُحافَظَةِ عَلى تِلْكَ التَّكالِيفِ الشّاقَّةِ الَّتِي كَلَّفْتَ بِها مَن قَبْلَنا، وقِيلَ: المُرادُ بِهِ الشّاقُّ الَّذِي لا يَكادُ يُسْتَطاعُ مِنَ التَّكالِيفِ.
قالَ في الكَشّافِ: وهَذا تَقْرِيرٌ لِقَوْلِهِ: ﴿ولا تَحْمِلْ عَلَيْنا إصْرًا﴾ .
قَوْلُهُ: واعْفُ عَنّا أيْ عَنْ ذُنُوبِنا، يُقالُ عَفَوْتُ عَنْ ذَنْبِهِ: إذا تَرَكْتَهُ ولَمْ تُعاقِبْهُ عَلَيْهِ واغْفِرْ لَنا أيِ اسْتُرْ عَلى ذُنُوبِنا، والغَفْرُ: السَّتْرُ وارْحَمْنا أيْ تَفَضَّلْ بِرَحْمَةٍ مِنكَ عَلَيْنا أنْتَ مَوْلانا أيْ ولِيُّنا وناصِرُنا، وخَرَجَ هَذا مَخْرَجَ التَّعْلِيمِ كَيْفَ يَدْعُونَ، وقِيلَ: مَعْناهُ: أنْتَ سَيِّدُنا ونَحْنُ عَبِيدُكَ ﴿فانْصُرْنا عَلى القَوْمِ الكافِرِينَ﴾ فَإنَّ مِن حَقِّ المَوْلى أنْ يَنْصُرَ عَبِيدَهُ، والمُرادُ عامَّةُ الكَفَرَةِ، وفِيهِ إشارَةٌ إلى إعْلاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ في الجِهادِ في سَبِيلِهِ.
وقَدْ قَدَّمْنا في شَرْحِ الآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ أعْنِي قَوْلَهُ: ﴿وإنْ تُبْدُوا ما في أنْفُسِكُمْ﴾ [البقرة: ٢٨٤] إلَخْ، أنَّهُ ثَبَتَ في الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ أنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ عَقِبَ كُلِّ دَعْوَةٍ مِن هَذِهِ الدَّعَواتِ: قَدْ فَعَلْتُ، فَكانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلى أنَّهُ سُبْحانَهُ لَمْ يُؤاخِذْهم بِشَيْءٍ مِنَ الخَطَأِ والنِّسْيانِ ولا حَمَلَ عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنَ الإصْرِ الَّذِي حَمَلَهُ عَلى مَن قَبْلَهم، ولا حَمَّلَهم ما لا طاقَةَ لَهم بِهِ، وعَفا عَنْهم وغَفَرَ لَهم ورَحِمَهم، ونَصَرَهم عَلى القَوْمِ الكافِرِينَ، والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ.
وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مُقاتِلِ بْنِ حِبّانَ ﴿لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِن رُسُلِهِ﴾ لا نَكْفُرُ بِما جاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، ولا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنهم، ولا نُكَذِّبُ بِهِ ﴿وقالُوا سَمِعْنا﴾ لِلْقُرْآنِ الَّذِي جاءَ مِنَ اللَّهِ وأطَعْنا، أقَرُّوا لِلَّهِ أنْ يُطِيعُوهُ في أمْرِهِ ونَهْيِهِ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿غُفْرانَكَ رَبَّنا﴾ قالَ: قَدْ غَفَرْتُ لَكم ﴿وإلَيْكَ المَصِيرُ﴾ قالَ: إلَيْكَ المَرْجِعُ والمَآبُ يَوْمَ يَقُومُ الحِسابُ.
وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ حَكِيمِ بْنِ جابِرٍ قالَ: «لَمّا نَزَلَتْ ﴿آمَنَ الرَّسُولُ﴾ الآيَةَ، قالَ جِبْرِيلُ لِلنَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: إنَّ اللَّهَ قَدْ أحْسَنَ الثَّناءَ عَلَيْكَ وعَلى أُمَّتِكَ فَسَلْ تُعْطَهُ، فَقالَ: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلّا وُسْعَها﴾ حَتّى خَتَمَ السُّورَةَ» .
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلّا وُسْعَها﴾ قالَ: هُمُ المُؤْمِنُونَ وسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أمْرَ دِينِهِمْ فَقالَ: ﴿وما جَعَلَ عَلَيْكم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ﴾ [الحج: ٧٨] .
وقالَ: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ﴾ [البقرة: ١٨٥] .
وقالَ: ﴿فاتَّقُوا اللَّهَ ما اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: ١٦] .
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ في قَوْلِهِ: ﴿لَها ما كَسَبَتْ وعَلَيْها ما اكْتَسَبَتْ﴾ قالَ: مِنَ العَمَلِ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ في قَوْلِهِ: إلّا وُسْعَها قالَ: إلّا طاقَتَها.
وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنِ الضَّحّاكِ نَحْوَهُ.
وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ ماجَهْ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ حِبّانَ في صَحِيحِهِ والطَّبَرانِيُّ والدّارَقُطْنِيُّ والحاكِمُ والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قالَ: «إنَّ اللَّهَ تَجاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأ والنِّسْيانَ وما اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» .
وأخْرَجَهُ ابْنُ ماجَهْ مِن حَدِيثِ أبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا، والطَّبَرانِيُّ مِن حَدِيثِ ثَوْبانَ، ومِن حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، ومِن حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عامِرٍ.
وأخْرَجَهُ البَيْهَقِيُّ أيْضًا مِن حَدِيثِهِ.
وأخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ في الكامِلِ وأبُو نُعَيْمٍ مِن حَدِيثِ أبِي بَكْرَةَ.
وأخْرَجَهُ ابْنُ أبِي حاتِمٍ مِن حَدِيثِ أُمِّ الدَّرْداءِ.
وأخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ حَدِيثِ الحَسَنِ مُرْسَلًا، وأخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِن حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ مُرْسَلًا.
وفِي أسانِيدِ هَذِهِ الأحادِيثِ مَقالٌ ولَكِنَّها يُقَوِّي بَعْضُها بَعْضًا فَلا تَقْصُرُ عَنْ رُتْبَةِ الحَسَنِ لِغَيْرِهِ.
وقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ إنَّ اللَّهَ قالَ قَدْ فَعَلْتُ وهو في الصَّحِيحِ وهو يَشْهَدُ لِهَذِهِ الأحادِيثِ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: " إصْرًا قالَ: عَهْدًا.
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجاهِدٍ مِثْلَهُ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ مِثْلَهُ.
وأخْرَجَ أيْضًا عَنْ عَطاءِ بْنِ أبِي رَباحٍ في قَوْلِهِ: ﴿ولا تَحْمِلْ عَلَيْنا إصْرًا﴾ قالَ: لا تَمْسَخْنا قِرَدَةً وخَنازِيرَ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ في الآيَةِ أنَّ الإصْرَ: الذَّنْبُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ تَوْبَةٌ ولا كَفّارَةٌ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ الفُضَيْلِ في الآيَةِ قالَ: كانَ الرَّجُلُ مِن بَنِي إسْرائِيلَ إذا أذْنَبَ قِيلَ لَهُ: تَوْبَتُكَ أنْ تَقْتُلَ نَفْسَكَ فَيَقْتُلُ نَفْسَهُ، فَوُضِعَتِ الآصارُ عَنْ هَذِهِ الأُمَّةِ.
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَطاءٍ قالَ: «لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآياتُ " ﴿رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا﴾ " إلَخْ، كُلَّما قالَها جِبْرِيلُ لِلنَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قالَ النَّبِيُّ: آمِينَ رَبَّ العالَمِينَ» .
وأخْرَجَ أبُو عُبَيْدٍ عَنْ مَيْسَرَةَ «أنَّ جِبْرِيلَ لَقَّنَ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ خاتِمَةَ البَقَرَةِ آمِينَ» .
وأخْرَجَ أبُو عُبَيْدٍ وابْنُ أبِي شَيْبَةَ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنْ مُعاذِ بْنِ جَبَلٍ أنَّهُ كانَ إذا فَرَغَ مِن قِراءَةِ هَذِهِ السُّورَةِ قالَ: آمِينَ.
وأخْرَجَ أبُو عُبَيْدٍ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ أنَّهُ كانَ يَقُولُ: آمِينَ آمِينَ.
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أبِي ذَرٍّ قالَ: هي لِلنَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ خاصَّةً.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحّاكِ في هَذِهِ الآيَةِ قالَ: سَألَها نَبِيُّ اللَّهِ رَبَّهُ فَأعْطاهُ إيّاها، فَكانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ خاصَّةً.
وقَدْ ثَبَتَ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ وأهْلِ السُّنَنِ وغَيْرِهِمْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قالَ: «مَن قَرَأ الآيَتَيْنِ مِن آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ في لَيْلَةٍ كَفَتاهُ» .
وأخْرَجَ أبُو عُبَيْدٍ والدّارِمِيُّ والتِّرْمِذِيُّ والنَّسائِيُّ وابْنُ حِبّانَ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ والبَيْهَقِيُّ عَنِ النُّعْمانِ بْنِ بَشِيرٍ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قالَ: " «إنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتابًا قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ السَّماواتِ والأرْضَ بِألْفَيْ عامٍ، فَأنْزَلَ مِنهُ آيَتَيْنِ خَتَمَ بِها سُورَةَ البَقَرَةِ، ولا يُقْرَآنِ في دارٍ ثَلاثَ لَيالٍ فَيَقْرَبُها شَيْطانٌ "» .
وأخْرَجَ أحْمَدُ والنَّسائِيُّ والطَّبَرانِيُّ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ والبَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ حُذَيْفَةَ أنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ كانَ يَقُولُ: «أُعْطِيتُ هَذِهِ الآياتِ مِن آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ مِن كَنْزٍ تَحْتَ العَرْشِ لَمْ يُعْطَها نَبِيٌّ قَبْلِي» .
وأخْرَجَ أحْمَدُ والبَيْهَقِيُّ عَنْ أبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ.
وأخْرَجَ أبُو عُبَيْدٍ وأحْمَدُ ومُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عامِرٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: «اقْرَءُوا هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ مِن آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ " آمَنَ الرَّسُولُ " إلى خاتِمَتِها، فَإنَّ اللَّهَ اصْطَفى بِها مُحَمَّدًا» وإسْنادُهُ حَسَنٌ.
وأخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: «لَمّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ انْتَهى إلى سِدْرَةِ المُنْتَهى وأُعْطِيَ ثَلاثًا، أُعْطِيَ الصَّلَواتِ الخَمْسَ، وأُعْطِيَ خَواتِيمَ سُورَةِ البَقَرَةِ، وغَفَرَ لِمَن لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ مِن أُمَّتِهِ شَيْئًا المُقْحِماتِ» .
وأخْرَجَ الحاكِمُ وصَحَّحَهُ البَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ عَنْ أبِي ذَرٍّ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قالَ: " «إنَّ اللَّهَ خَتَمَ سُورَةَ البَقَرَةِ بِآيَتَيْنِ أعْطانِيهِما مِن كَنْزِهِ الَّذِي تَحْتَ العَرْشِ، فَتَعَلَّمُوهُما وعَلِّمُوهُما نِساءَكم وأبْناءَكم فَإنَّهُما صَلاةٌ وقُرْآنٌ ودُعاءٌ "» .
وأخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «اثْنانِ هُما قُرْآنٌ وهُما يَشْفِيانِ، وهُما مِمّا يُحِبُّهُما اللَّهُ الآيَتانِ مِن آخِرِ البَقَرَةِ» .
وأخْرَجَ الطَّبَرانِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ شَدّادِ بْنِ أوْسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: " «إنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتابًا قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ السَّماواتِ والأرْضَ بِألْفَيْ عامٍ فَأنْزَلَ مِنهُ آيَتَيْنِ خَتَمَ بِهِما سُورَةَ البَقَرَةِ لا يُقْرَآنِ في دارٍ ثَلاثَ لَيالٍ فَيَقْرَبُها شَيْطانٌ "» .
وأخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ الأنْصارِيِّ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قالَ: «أنْزَلَ اللَّهُ آيَتَيْنِ مِن كُنُوزِ الجَنَّةِ، كَتَبَهُما الرَّحْمَنُ بِيَدِهِ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ الخَلْقَ بِألْفَيْ سَنَةٍ، مَن قَرَأهُما بَعْدَ العِشاءِ الآخِرَةِ أجْزَأتاهُ عَنْ قِيامِ اللَّيْلِ» .
وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «كانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ إذا قَرَأ آخِرَ سُورَةِ البَقَرَةِ أوْ آيَةَ الكُرْسِيِّ ضَحِكَ وقالَ: إنَّهُما مِن كَنْزٍ تَحْتَ العَرْشِ» .
وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسارٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: " «أُعْطِيتُ فاتِحَةَ الكِتابِ وخَواتِيمَ سُورَةِ البَقَرَةِ مِن تَحْتِ العَرْشِ "» .
وأخْرَجَ مُسْلِمٌ والنَّسائِيُّ واللَّفْظُ لَهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: " «بَيْنا رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ وعِنْدَهُ جِبْرِيلُ إذْ سَمِعَ نَقِيضًا فَرَفَعَ جِبْرِيلُ بَصَرَهُ فَقالَ: هَذا بابٌ قَدْ فُتِحَ مِنَ السَّماءِ ما فُتِحَ قَطُّ، قالَ: فَنَزَلَ مِنهُ مَلَكٌ فَأتى النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ فَقالَ: أبْشِرْ بِنُورَيْنِ قَدْ أُوتِيتَهُما لَمْ يُؤْتَهُما نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فاتِحَةُ الكِتابِ، وخَواتِيمُ سُورَةِ البَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأ حَرْفًا مِنهُما إلّا أُوتِيتَهُ "» .
فَهَذِهِ ثَلاثَةَ عَشَرَ حَدِيثًا في فَضْلِ هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ مَرْفُوعَةٌ إلى النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ.
وقَدْ رُوِيَ في فَضْلِهِما مِن غَيْرِ المَرْفُوعِ عَنْ عُمَرَ وعَلِيٍّ وابْنِ مَسْعُودٍ وأبِي مَسْعُودٍ وكَعْبِ الأحْبارِ والحَسَنِ وأبِي قِلابَةَ، وفي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ ما يُغْنِي عَنْ غَيْرِهِ.
الجامع لأحكام القرآن — القرطبي (٦٧١ هـ)
﴿ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَـٰۤىِٕكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَیۡنَ أَحَدࣲ مِّن رُّسُلِهِۦۚ وَقَالُوا۟ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ غُفۡرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَیۡكَ ٱلۡمَصِیرُ (٢٨٥) لَا یُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَیۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَاۤ إِن نَّسِینَاۤ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَیۡنَاۤ إِصۡرࣰا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَاۤۚ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَـٰفِرِینَ (٢٨٦)﴾ [البقرة ٢٨٥-٢٨٦]
فِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ﴾. [رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ كَانَتْ فِي قِصَّةِ الْمِعْرَاجِ، وَهَكَذَا رُوِيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: جَمِيعُ الْقُرْآنِ نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ إِلَّا هَذِهِ الْآيَةَ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ: هُوَ الَّذِي سَمِعَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ الْمِعْرَاجِ، لِأَنَّ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ كَانَتْ بِمَكَّةَ وَهَذِهِ السُّورَةُ كُلُّهَا مَدَنِيَّةٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّهَا كَانَتْ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ قَالَ: لَمَّا صَعِدَ النَّبِيُّ ﷺ وبلغ في السموات فِي مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ وَمَعَهُ جِبْرِيلُ حَتَّى جَاوَزَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: إِنِّي لَمْ أُجَاوِزْ هَذَا الْمَوْضِعَ وَلَمْ يُؤْمَرْ بِالْمُجَاوَزَةِ أَحَدٌ هَذَا الْمَوْضِعَ غَيْرُكَ فَجَاوَزَ النَّبِيُّ ﷺ حَتَّى بَلَغَ الْمَوْضِعَ الَّذِي شَاءَ اللَّهُ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ بِأَنْ سَلِّمْ عَلَى رَبِّكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَأَرَادَ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يَكُونَ لِأُمَّتِهِ حَظٌّ فِي السَّلَامِ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ واهل السموات كُلُّهُمْ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أن محمدا عبد هـ وَرَسُولُهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "آمَنَ الرَّسُولُ" عَلَى مَعْنَى الشُّكْرِ أَيْ صَدَّقَ الرَّسُولُ "بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ" فَأَرَادَ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يُشَارِكَ أُمَّتَهُ فِي الْكَرَامَةِ وَالْفَضِيلَةِ فَقَالَ: "وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ" يَعْنِي يَقُولُونَ آمَنَّا بِجَمِيعِ الرُّسُلِ وَلَا نَكْفُرُ بِأَحَدٍ مِنْهُمْ وَلَا نُفَرِّقُ بَيْنَهُمْ كَمَا فَرَّقَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ كَيْفَ قَبُولُهُمْ بِآيِ الَّذِي أَنْزَلْتُهَا؟ وَهُوَ قَوْلُهُ: "إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ" فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ "قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ" يَعْنِي الْمَرْجِعَ. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ ذَلِكَ "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها" يَعْنِي طَاقَتَهَا وَيُقَالُ: إِلَّا دُونَ طَاقَتِهَا. "لَها مَا كَسَبَتْ" مِنَ الْخَيْرِ "وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ" مِنَ الشَّرِّ، فَقَالَ جِبْرِيلُ عِنْدَ ذَلِكَ: سَلْ تُعْطَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: "رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا" يَعْنِي إِنْ جَهِلْنَا "أَوْ أَخْطَأْنا" يَعْنِي إِنْ تَعَمَّدْنَا، وَيُقَالُ: إِنْ عَمِلْنَا بِالنِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ. فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: قَدْ أُعْطِيتَ ذَلِكَ قَدْ رُفِعَ عَنْ أُمَّتِكَ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ. فَسَلْ شَيْئًا آخَرَ فَقَالَ: "رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً" يَعْنِي ثِقَلًا "كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا" وَهُوَ أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الطَّيِّبَاتِ بِظُلْمِهِمْ، وَكَانُوا إِذَا أَذْنَبُوا بِاللَّيْلِ وَجَدُوا ذَلِكَ مَكْتُوبًا عَلَى بَابِهِمْ، وَكَانَتِ الصَّلَوَاتُ عَلَيْهِمْ خَمْسِينَ، فَخَفَّفَ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَحَطَّ عَنْهُمْ بعد ما فَرَضَ خَمْسِينَ صَلَاةً. ثُمَّ قَالَ: "رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ" يَقُولُ: لَا تُثْقِلْنَا مِنَ الْعَمَلِ مَا لَا نُطِيقُ فَتُعَذِّبَنَا، وَيُقَالُ: مَا تَشُقُّ عَلَيْنَا، لِأَنَّهُمْ لَوْ أُمِرُوا بِخَمْسِينَ صَلَاةً لَكَانُوا يُطِيقُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ وَلَا يُطِيقُونَ الْإِدَامَةَ عَلَيْهِ "وَاعْفُ عَنَّا" مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ "وَاغْفِرْ لَنا" وَتَجَاوَزْ عَنَّا، وَيُقَالُ: "وَاعْفُ عَنَّا" مِنَ الْمَسْخِ "وَاغْفِرْ لَنا" مِنَ الْخَسْفِ "وَارْحَمْنا" مِنَ الْقَذْفِ، لِأَنَّ الْأُمَمَ الْمَاضِيَةَ بَعْضُهُمْ أَصَابَهُمُ الْمَسْخُ وَبَعْضُهُمْ أَصَابَهُمُ الْخَسْفُ وَبَعْضُهُمُ الْقَذْفُ ثُمَّ قَالَ: "أَنْتَ مَوْلانا" يَعْنِي وَلِيُّنَا وَحَافِظُنَا "فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ" فَاسْتُجِيبَتْ دَعْوَتُهُ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: "نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ" وَيُقَالُ إِنَّ الْغُزَاةَ: إِذَا خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِالنِّيَّةِ الْخَالِصَةِ وَضَرَبُوا بِالطَّبْلِ وَقَعَ الرُّعْبُ وَالْهَيْبَةُ فِي قُلُوبِ الْكُفَّارِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ فِي شَهْرٍ، عَلِمُوا بِخُرُوجِهِمْ أَوْ لَمْ يَعْلَمُوا، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا رَجَعَ أَوْحَى اللَّهُ هَذِهِ الْآيَاتِ، لِيُعْلِمَ أُمَّتَهُ بِذَلِكَ. وَلِهَذِهِ الْآيَةِ تَفْسِيرٌ آخَرُ، قَالَ الزَّجَّاجُ: لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَرْضَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَبَيَّنَ أَحْكَامَ الْحَجِّ وَحُكْمَ الْحَيْضِ وَالطَّلَاقِ وَالْإِيلَاءِ وَأَقَاصِيصَ الْأَنْبِيَاءِ وَبَيَّنَ حُكْمَ الرِّبَا، ذَكَرَ تَعْظِيمَهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: "لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ" ثُمَّ ذَكَرَ تَصْدِيقَ نَبِيِّهِ ﷺ ثُمَّ ذَكَرَ تَصْدِيقَ الْمُؤْمِنِينَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ فَقَالَ: "آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ" أَيْ صَدَّقَ الرَّسُولُ بِجَمِيعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي جَرَى ذِكْرُهَا وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ صَدَّقُوا بالله وملائكته وكتبه ورسله
(١) [.
وَقِيلَ سَبَبُ نُزُولِهَا الْآيَةُ الَّتِي قَبْلَهَا وَهِيَ: "لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" فَإِنَّهُ لَمَّا أُنْزِلَ هَذَا عَلَى النَّبِيِّ ﷺ اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأَتَوْا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ فَقَالُوا: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ، كُلِّفْنَا مِنَ. الْأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ: الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ والجهاد [والصدقة(٢)، وقد أنزل الله عليك هَذِهِ الْآيَةَ وَلَا نُطِيقُهَا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ سَمِعْنا وَعَصَيْنا بَلْ قُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ" فَقَالُوا: سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ. فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ ذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي إِثْرِهَا: "آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ". فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللَّهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ"(٣) "رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا" قَالَ: "نَعَمْ" "رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا" قَالَ: "نَعَمْ" "رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ" قَالَ: "نَعَمْ" "وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ" قَالَ: "نَعَمْ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى(٤) "قَدْ فَعَلْتُ" وَهُنَا قَالَ: "نَعَمْ" دَلِيلٌ عَلَى نَقْلِ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَلَمَّا تَقَرَّرَ الْأَمْرُ عَلَى أَنْ قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، مَدَحَهُمُ اللَّهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَرَفَعَ الْمَشَقَّةَ فِي أَمْرِ الْخَوَاطِرِ عَنْهُمْ، وَهَذِهِ ثَمَرَةُ الطَّاعَةِ وَالِانْقِطَاعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا جَرَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ضِدُّ ذَلِكَ مِنْ ذَمِّهِمْ وَتَحْمِيلِهِمُ الْمَشَقَّاتِ مِنَ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَالِانْجِلَاءِ إِذْ قَالُوا: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا، وَهَذِهِ ثَمَرَةُ الْعِصْيَانِ وَالتَّمَرُّدِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ نِقَمِهِ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قِيلَ لَهُ: إِنَّ بَيْتَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شماس يَزْهَرُ كُلَّ لَيْلَةٍ بِمَصَابِيحَ. قَالَ: "فَلَعَلَّهُ يَقْرَأُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ" فَسُئِلَ ثَابِتٌ قَالَ: قَرَأْتُ مِنْ سورة البقر "آمَنَ الرَّسُولُ" نَزَلَتْ حِينَ شَقَّ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ مَا تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ مُحَاسَبَتِهِمْ عَلَى مَا أَخْفَتْهُ نُفُوسُهُمْ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: "فَلَعَلَّكُمْ تَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ" قَالُوا: بَلْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ثَنَاءً عَلَيْهِمْ: "آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ" فَقَالَ ﷺ: "وَحَقَّ لَهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا". الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿آمَنَ﴾ أَيْ صَدَّقَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَالَّذِي أُنْزِلَ هُوَ الْقُرْآنُ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ "وَآمَنَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ" عَلَى اللَّفْظِ، وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ "آمَنُوا" عَلَى الْمَعْنَى. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ عَامِرٍ (وَكُتُبِهِ) عَلَى الْجَمْعِ. وَقَرَءُوا فِي" التَّحْرِيمِ(٥) "كِتَابِهِ، عَلَى التَّوْحِيدِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو هُنَا وَفِي" التحريم" "وَكُتُبِهِ" عَلَى الْجَمْعِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ "وَكِتَابِهِ" عَلَى التَّوْحِيدِ فِيهِمَا. فَمَنْ جَمَعَ أَرَادَ جَمْعَ كِتَابٍ، وَمَنْ أَفْرَدَ أَرَادَ الْمَصْدَرَ الَّذِي يَجْمَعُ كُلَّ مَكْتُوبٍ كَانَ نُزُولُهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَيَجُوزُ فِي قِرَاءَةِ مَنْ وَحَّدَ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْجَمْعُ، يَكُونُ الْكِتَابُ اسْمًا لِلْجِنْسِ فَتَسْتَوِي الْقِرَاءَتَانِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ(٦) ". قَرَأَتِ الْجَمَاعَةُ "وَرُسُلِهِ" بضم السين، وكذلك "أَرْسَلْنا ورُسُلُكُمْ ورُسُلِكَ"، إِلَّا أَبَا عَمْرٍو فَرُوِيَ عَنْهُ تَخْفِيفُ "رُسْلُنَا وَرُسْلُكُمْ"، وَرُوِيَ عَنْهُ فِي "رُسُلِكَ" التَّثْقِيلُ وَالتَّخْفِيفُ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: مَنْ قَرَأَ "رُسُلُكَ" بِالتَّثْقِيلِ فَذَلِكَ أَصْلُ الْكَلِمَةِ، وَمَنْ خَفَّفَ فَكَمَا يُخَفِّفُ فِي الْآحَادِ، مِثْلَ عُنْقٌ وَطُنْبٌ. وَإِذَا خَفَّفَ فِي الْآحَادِ فَذَلِكَ أَحْرَى فِي الْجَمْعِ الَّذِي هُوَ أَثْقَلُ، وَقَالَ مَعْنَاهُ مَكِّيٌّ. وَقَرَأَ جُمْهُورُ النَّاسِ "لَا نُفَرِّقُ" بِالنُّونِ، وَالْمَعْنَى يَقُولُونَ لَا نُفَرِّقُ، فَحَذَفَ الْقَوْلَ، وَحَذْفُ الْقَوْلِ كَثِيرٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ(٧) "أَيْ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ. وَقَالَ:" وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا(٨) "أَيْ يقولون رَبَّنَا، وَمَا كَانَ مِثْلَهُ. وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ وَأَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ وَيَعْقُوبُ" لَا يُفَرِّقُ "بِالْيَاءِ، وَهَذَا عَلَى لَفْظِ كُلٌّ. قَالَ هَارُونُ: وَهِيَ فِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ" لَا يُفَرِّقُونَ". وَقَالَ "بَيْنَ أَحَدٍ" عَلَى الْإِفْرَادِ وَلَمْ يَقُلْ آحَادٍ، لِأَنَّ الْأَحَدَ يَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَ وَالْجَمِيعَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ(٩) "فَ" حاجِزِينَ "صِفَةٌ لِأَحَدٍ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْجَمْعُ. وَقَالَ ﷺ:" مَا أُحِلَّتِ الغنائم لاحد سود الرؤوس غَيْرَكُمْ" وَقَالَ رُؤْبَةُ:
إِذَا أُمُورُ النَّاسِ دِينَتْ دِينَكَا ... لَا يَرْهَبُونَ أَحَدًا مِنْ دُونِكَا
وَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَيْسُوا كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِبَعْضٍ وَيَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا﴾ فِيهِ حَذْفٌ، أَيْ سَمِعْنَا سَمَاعَ قَابِلِينَ(١٠). وَقِيلَ: سَمِعَ بِمَعْنَى قَبِلَ، كَمَا يُقَالُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ حَذْفٌ. وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَهَذَا الْقَوْلُ يَقْتَضِي الْمَدْحَ لِقَائِلِهِ. وَالطَّاعَةُ قَبُولُ الْأَمْرِ. وَقَوْلُهُ (غُفْرانَكَ) مَصْدَرٌ كَالْكُفْرَانِ وَالْخُسْرَانِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ فعل مقدر، تقديره: اغفر غفرانك، قال الزَّجَّاجُ. وَغَيْرُهُ: نَطْلُبُ أَوْ أَسْأَلُ غُفْرَانَكَ.
(وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) إِقْرَارٌ بِالْبَعْثِ وَالْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: "إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَلَّ الثَّنَاءَ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَّتِكَ فَسَلْ تُعْطَهُ" فَسَأَلَ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها﴾ التَّكْلِيفُ هُوَ الْأَمْرُ بِمَا يَشُقُّ عَلَيْهِ. وَتَكَلَّفْتُ الْأَمْرَ تَجَشَّمْتُهُ، حَكَاهُ الْجَوْهَرِيُّ. وَالْوُسْعُ: الطَّاقَةُ وَالْجِدَةُ. وَهَذَا خَبَرٌ جَزْمٌ. نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّهُ لَا(١١) يُكَلِّفُ الْعِبَادَ مِنْ وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ عِبَادَةً مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ أَوِ الْجَوَارِحِ إِلَّا وَهِيَ فِي وُسْعِ الْمُكَلَّفِ وَفِي مُقْتَضَى إِدْرَاكِهِ وَبِنْيَتِهِ، وَبِهَذَا انْكَشَفَتِ الْكُرْبَةُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ فِي تَأَوُّلِهِمْ أَمْرَ الْخَوَاطِرِ. وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ مَا حَكَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَا وَدِدْتُ أَنَّ أَحَدًا وَلَدَتْنِي أُمُّهُ إِلَّا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَإِنِّي تَبِعْتُهُ يَوْمًا وَأَنَا جائع فلما بلغ مَنْزِلَهُ لَمْ يَجِدْ فِيهِ سِوَى نِحْيِ سَمْنٍ قَدْ بَقِيَ فِيهِ أَثَارَةٌ فَشَقَّهُ بَيْنَ أَيْدِينَا، فَجَعَلْنَا نَلْعَقُ مَا فِيهِ مِنَ السَّمْنِ وَالرُّبِّ(١٢) وَهُوَ يَقُولُ:
مَا كَلَّفَ اللَّهُ نَفْسًا فَوْقَ طَاقَتِهَا ... وَلَا تَجُودُ يَدٌ إِلَّا بِمَا تَجِدُ
الْخَامِسَةُ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي جَوَازِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي هِيَ فِي الدُّنْيَا، بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ وَاقِعًا فِي الشَّرْعِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَذِنَتْ بِعَدَمِهِ، قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ: تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ جَائِزٌ عَقْلًا، وَلَا يَخْرِمُ ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ عَقَائِدِ الشَّرْعِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ أَمَارَةٌ عَلَى تَعْذِيبِ الْمُكَلَّفِ وَقَطْعًا بِهِ، وَيَنْظُرُ إِلَى هَذَا تَكْلِيفُ الْمُصَوِّرِ أَنْ يَعْقِدَ شَعِيرَةً. وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِهِ هَلْ وَقَعَ فِي رسالة محمد ﷺ أولا؟ فقالت فِرْقَةٌ: وَقَعَ فِي نَازِلَةِ أَبِي لَهَبٍ، لِأَنَّهُ كَلَّفَهُ بِالْإِيمَانِ بِجُمْلَةِ الشَّرِيعَةِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ، لِأَنَّهُ حُكِمَ عَلَيْهِ بِتَبِّ الْيَدَيْنِ وَصَلْيِ النَّارِ، وَذَلِكَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ، فَقَدْ كَلَّفَهُ بِأَنْ يُؤْمِنَ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: لَمْ يَقَعْ قَطُّ. وَقَدْ حُكِيَ الْإِجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى:" سَيَصْلى نَارًا(١٣) "معناه إن وافى، حكاه ابن عطية." ويُكَلِّفُ "يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ أَحَدُهُمَا مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ عِبَادَةً أَوْ شَيْئًا. فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ بِلُطْفِهِ وَإِنْعَامِهِ عَلَيْنَا وَإِنْ كَانَ قَدْ كَلَّفَنَا بِمَا يَشُقُّ وَيَثْقُلُ كَثُبُوتِ الْوَاحِدِ لِلْعَشْرَةِ، وَهِجْرَةِ الْإِنْسَانِ وَخُرُوجِهِ مِنْ وَطَنِهِ وَمُفَارَقَةِ أَهْلِهِ وَوَطَنِهِ وَعَادَتِهِ، لَكِنَّهُ لَمْ يكلفنا بالمشقات المثقلة ولا بالأمور المولمة، كَمَا كَلَّفَ مَنْ قَبْلَنَا بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ وَقَرْضِ مَوْضِعِ الْبَوْلِ مِنْ ثِيَابِهِمْ وَجُلُودِهِمْ، بَلْ سَهَّلَ وَرَفَقَ وَوَضَعَ عَنَّا الْإِصْرَ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي وَضَعَهَا عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَنَا. فَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَالْفَضْلُ وَالنِّعْمَةُ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ﴾ يُرِيدُ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ. قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَجَمَاعَةُ الْمُفَسِّرِينَ لَا خِلَافَ بينهم في ذلك، قال ابْنُ عَطِيَّةَ. وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ:" وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى "" وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها(١٤) ". وَالْخَوَاطِرُ وَنَحْوُهَا لَيْسَتْ مِنْ كَسْبِ الْإِنْسَانِ. وَجَاءَتِ الْعِبَارَةُ فِي الْحَسَنَاتِ بِ "لَهَا" من حيث هي مما يَفْرَحُ الْمَرْءُ بِكَسْبِهِ وَيُسَرُّ بِهَا، فَتُضَافُ إِلَى مِلْكِهِ. وَجَاءَتْ فِي السَّيِّئَاتِ بِ "عَلَيْهَا" مِنْ حَيْثُ هِيَ أَثْقَالٌ وَأَوْزَارٌ وَمُتَحَمَّلَاتٌ صَعْبَةٌ، وَهَذَا كَمَا تَقُولُ: لِي مَالٌ وَعَلَيَّ دَيْنٌ. وَكَرَّرَ فِعْلَ الْكَسْبِ فَخَالَفَ بَيْنَ التَّصْرِيفِ حُسْنًا لِنَمَطِ الْكَلَامِ، كَمَا قَالَ:" فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً(١٥) ". قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَظْهَرُ لِي فِي هَذَا أَنَّ الْحَسَنَاتِ هِيَ مِمَّا تُكْتَسَبُ دُونَ تَكَلُّفٍ، إِذْ كَاسِبُهَا عَلَى جَادَّةِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى ورسم شرعه، والسيئات تكتسب ببناء المبالغة، إذا كَاسِبُهَا يَتَكَلَّفُ فِي أَمْرِهَا خَرْقَ حِجَابِ نَهْيِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَتَخَطَّاهُ إِلَيْهَا، فَيَحْسُنُ فِي الْآيَةِ مَجِيءُ التَّصْرِيفَيْنِ إِحْرَازًا، لِهَذَا الْمَعْنَى. السَّابِعَةُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ إِطْلَاقِ أَئِمَّتِنَا عَلَى أَفْعَالِ الْعِبَادِ كَسْبًا وَاكْتِسَابًا، وَلِذَلِكَ لَمْ يُطْلِقُوا عَلَى ذَلِكَ لَا خَلْقَ وَلَا خَالِقَ، خِلَافًا لِمَنْ أَطْلَقَ ذَلِكَ مِنْ مُجْتَرِئَةِ الْمُبْتَدِعَةِ. وَمَنْ أَطْلَقَ مِنْ أَئِمَّتِنَا ذَلِكَ عَلَى الْعَبْدِ، وَأَنَّهُ فَاعِلٌ فَبِالْمَجَازِ الْمَحْضِ. وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ وَغَيْرُهُ: وَقِيلَ مَعْنَى الْآيَةِ لَا يُؤَاخَذُ أَحَدٌ بِذَنْبِ أَحَدٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ وَلَكِنْ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ. الثَّامِنَةُ- قَالَ الْكِيَا الطَّبَرِيُّ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ﴾ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ غَيْرَهُ بِمِثْقَلٍ أَوْ بِخَنْقٍ أَوْ تَغْرِيقٍ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ قِصَاصًا أَوْ دِيَةً، خلافا لِمَنْ جَعَلَ دِيَتَهُ عَلَى الْعَاقِلَةِ(١٦)، وَذَلِكَ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُقُوطَ الْقِصَاصِ عَنِ الْأَبِ لَا يَقْتَضِي سُقُوطَهُ عَنْ شَرِيكِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْعَاقِلَةِ(١٧) إِذَا مَكَّنَتْ مَجْنُونًا مِنْ نَفْسِهَا. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: "ذَكَرَ عُلَمَاؤُنَا هَذِهِ الْآيَةَ فِي أَنَّ الْقَوَدَ وَاجِبٌ عَلَى شَرِيكِ الْأَبِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَعَلَى شَرِيكِ الْخَاطِئِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدِ اكْتَسَبَ الْقَتْلَ. وَقَالُوا: إِنَّ اشْتِرَاكَ مَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ مَعَ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ لَا يَكُونُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ مَا يدرأ بالشبهة". التاسعة- قوله تعالى: (رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) الْمَعْنَى: اعْفُ عَنْ إِثْمِ مَا يَقَعُ مِنَّا عَلَى هَذَيْنَ الْوَجْهَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ" أَيْ إِثْمُ ذَلِكَ. وَهَذَا لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ أَنَّ الْإِثْمَ مَرْفُوعٌ، وَإِنَّمَا اخْتُلِفَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ، هل ذلك مرفوع لا يلزم منه شي أَوْ يَلْزَمُ أَحْكَامُ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ اخْتُلِفَ فِيهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ، فَقِسْمٌ لَا يَسْقُطُ بِاتِّفَاقٍ كَالْغَرَامَاتِ وَالدِّيَاتِ وَالصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ. وَقِسْمٌ يَسْقُطُ بِاتِّفَاقٍ كَالْقِصَاصِ وَالنُّطْقِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ. وَقِسْمٌ ثَالِثٌ يُخْتَلَفُ فِيهِ كَمَنْ أَكَلَ نَاسِيًا فِي رَمَضَانَ أَوْ حَنِثَ سَاهِيًا، وَمَا كَانَ مِثْلَهُ مِمَّا يَقَعُ خَطَأً وَنِسْيَانًا، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ فِي الْفُرُوعِ. الْعَاشِرَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً﴾ أَيْ ثِقْلًا. قَالَ مَالِكٌ وَالرَّبِيعُ: الْإِصْرُ الْأَمْرُ الْغَلِيظُ الصَّعْبُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْإِصْرُ شِدَّةُ الْعَمَلِ. وَمَا غَلُظَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْبَوْلِ وَنَحْوِهِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: كَانُوا يَحْمِلُونَ أُمُورًا شِدَادًا، وَهَذَا نَحْوُ قَوْلِ مَالِكٍ وَالرَّبِيعِ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ:
يَا مَانِعَ الضَّيْمِ أَنْ يَغْشَى سَرَاتَهُمْ ... وَالْحَامِلَ الْإِصْرَ عنهم بعد ما عَرَفُوا(١٨)
عَطَاءٌ: الْإِصْرُ الْمَسْخُ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، وَقَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ أَيْضًا. وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ الذَّنْبُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ تَوْبَةٌ وَلَا كَفَّارَةٌ. وَالْإِصْرُ فِي اللُّغَةِ الْعَهْدُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي(١٩) ". وَالْإِصْرُ: الضِّيقُ وَالذَّنْبُ وَالثِّقْلُ. وَالْإِصَارُ: الْحَبْلُ الَّذِي تُرْبَطُ بِهِ الْأَحْمَالُ وَنَحْوُهَا، يُقَالُ: أَصَرَ يَأْصِرُ أَصْرًا حَبَسَهُ. وَالْإِصْرُ (بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ) مِنْ ذَلِكَ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالْمَوْضِعُ مَأْصِرٌ وَمَأْصَرٌ وَالْجَمْعُ مَآصِرُ، وَالْعَامَّةُ تَقُولُ مَعَاصِرُ. قَالَ ابن خويز منداد: وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهَذَا الظَّاهِرِ فِي كُلِّ عِبَادَةٍ ادَّعَى الْخَصْمُ تَثْقِيلَهَا، فَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ(٢٠) "، وَكَقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: "الدِّينُ يُسْرٌ فَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا". اللَّهُمَّ شُقَّ عَلَى مَنْ شَقَّ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ. قُلْتُ: وَنَحْوَهُ قَالَ الْكِيَا الطَّبَرِيُّ قَالَ: يُحْتَجُّ بِهِ فِي نَفْيِ الْحَرَجِ وَالضِّيقِ الْمُنَافِي ظَاهِرُهُ لِلْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، وَهَذَا بَيِّنٌ.
الحادية عشر- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ﴾ قَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَاهُ لَا تُشَدِّدْ علينا كما سددت على الذين من قبلنا. الضحاك: لا تحملنا من الأعمال مالا نُطِيقُ، وَقَالَ نَحْوَهُ ابْنُ زَيْدٍ. ابْنُ جُرَيْجٍ: لَا تَمْسَخْنَا قِرَدَةً وَلَا خَنَازِيرَ. وَقَالَ سَلَامُ بْنُ سَابُورَ: الَّذِي لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ: الْغُلْمَةُ(٢١)، وَحَكَاهُ النَّقَّاشُ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ. وَرَوَى أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غُلْمَةٍ لَيْسَ لَهَا عُدَّةٌ. وَقَالَ السَّدِّيُّ: هُوَ التَّغْلِيظُ وَالْأَغْلَالُ الَّتِي كَانَتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَاعْفُ عَنَّا﴾ أَيْ عَنْ ذُنُوبِنَا. عَفَوْتَ عَنْ ذَنْبِهِ إِذَا تَرَكْتَهُ وَلَمْ تُعَاقِبْهُ.
(وَاغْفِرْ لَنا) أَيِ اسْتُرْ عَلَى ذُنُوبِنَا. وَالْغَفْرُ: السَّتْرُ.
(وَارْحَمْنا) أَيْ تَفَضَّلْ برحمة مبتدئا رُوِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّهُ كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ هَذِهِ السُّورَةِ قَالَ: آمين. قال اين عَطِيَّةَ: هَذَا يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فَكَمَالٌ، وَإِنْ كَانَ بِقِيَاسٍ عَلَى سُورَةِ الحمد من حيث هنالك دعاء فحسن. وقال على ابن أبى طالب: ما أظن أن أحد عَقَلَ وَأَدْرَكَ الْإِسْلَامَ يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَهُمَا. قُلْتُ: قد مُسْلِمٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَنْ قَرَأَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِنْ آخر سورة" البقرة "في ليلة كفتاء". قِيلَ: مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ، كَمَا رُوِيَ عَنِ اين عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: "أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ آيَتَيْنِ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ خَتَمَ بِهِمَا سُورَةَ الْبَقَرَةِ كَتَبَهُمَا الرَّحْمَنُ بِيَدِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ بِأَلْفِ عَامٍ مَنْ قَرَأَهُمَا بَعْدَ الْعِشَاءِ مَرَّتَيْنِ أَجْزَأَتَاهُ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ" آمَنَ الرَّسُولُ "إِلَى آخِرِ الْبَقَرَةِ". وَقِيلَ: كَفَتَاهُ مِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ فَلَا يكون له سُلْطَانٌ. وَأَسْنَدَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ بت الْيَمَانِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ كَتَبَ كتابا قبل أن يخلق السموات وَالْأَرْضَ بِأَلْفَيْ عَامٍ فَأَنْزَلَ مِنْهُ هَذِهِ الثَّلَاثَ آيات الَّتِي خَتَمَ بِهِنَّ الْبَقَرَةَ مَنْ قَرَّأَهُنَّ فِي بَيْتِهِ لَمْ يَقْرُبِ الشَّيْطَانُ بَيْتَهُ ثَلَاثَ لَيَالٍ". وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: "أُوتِيتُ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ البقرة من كنز تحت العشر لم يؤتهن نبى قبلي". وهذا صحيح. قد تَقَدَّمَ فِي الْفَاتِحَةِ نُزُولُ الْمَلَكِ بِهَا مَعَ الفاتحة. والحمد لله. مصححه أبو إسحاق إبراهيم أطفيش تَمَّ الْجُزْءُ الثَّالِثُ مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ يَتْلُوهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى الجزء الرابع وأوله: سورة آل عمران بعون الله وجميل توفيقه قد تم طبع الجزء الثالث من كتاب "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي الجزء الرابع
(١) هذه الزيادة لا توجد في الأصول إلا في نسخة ب يوجد جزء منها، وفى نخ ط توج كلها وعليها اعتمدناها وهى كما يرى شاذة في مضمونها أول الكلام إذ المجمع عليه سلفا وخلفا أن القرآن نزل به الروح الأمين جميعا عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ "نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ" وهذا هو المتواتر وكون هذه الآية تلقاها تبينا صلوات الله عليه ليلة المعراج يجانب ما تواتر، ويكون أشد مجافاة إذا علمت أن الاسراء كان في الخامسة بعد البعث، وقيل: بسنة قبل الهجرة والبقرة مدنية بالإجماع. وقد وردت أحاديث في صحيح مسلم، ومسندي أحمد وابن مردويه تؤيد ما ذكره القرطبي بيد أن التواتر يجعل تلك الروايات على ضرب من التأويل متى صحت سندا ومتنا. مصححه.
(٢) من صحيح مسلم.]
(٣) في الأصول بعد قوله: "مَا اكْتَسَبَتْ" قال: نعم. وليست في صحيح مسلم.
(٤) ص ٤٢١
(٥) ج ١٨ ص ٢٠٤.
(٦) راجع ص ٣٠ من هذا الجزء.
(٧) راجع ج ٩ ص ٣١٠.
(٨) راجع ج ٤ ص ٣١٣
(٩) راجع ج ١٨ ص ٢٧٦.
(١٠) في ط: قائلين.
(١١) كذا في ابن عطية وهى عبارة. وفى الأصول: لم.
(١٢) الرب (بالضم): دبس التمر إذا طبخ.
(١٣) راجع ج ٢٠ ص ٢٣٤.
(١٤) راجع ج ٧ ص ١٥٦
(١٥) راجع ج ٢٠ ص ١٢.
(١٦) العاقلة أولا لقبيلة، وثانيا المرأة.
(١٧) العاقلة أولا لقبيلة، وثانيا المرأة.
(١٨) كذا في جميع الأصول، إلا ط كما في شعراء النصرانية: غرفوا.
(١٩) راجع ج ٤ ص ٤٢١.
(٢٠) راجع ج ١٢ ص ٩٩
(٢١) الغلمة: (بضم الغين المعجمة): هياجان شهوة النكاح وغلم يعلم من باب تعب أشتد شيقه.
روح المعاني — الآلوسي (١٢٧٠ هـ)
﴿لَا یُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَیۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَاۤ إِن نَّسِینَاۤ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَیۡنَاۤ إِصۡرࣰا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَاۤۚ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَـٰفِرِینَ﴾ [البقرة ٢٨٦]
﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَها﴾ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ سِيقَتْ إخْبارًا مِنهُ تَعالى بَعْدَ تَلَقِّيهِمْ لِتَكالِيفِهِ سُبْحانَهُ بِالطّاعَةِ والقَبُولِ بِما لَهُ عَلَيْهِمْ في ضِمْنِ التَّكْلِيفِ مِن مَحاسِنِ آثارِ الفَضْلِ والرَّحْمَةِ اِبْتِداءً لا بَعْدَ السُّؤالِ كَما سَيَجِيئُ والتَّكْلِيفُ إلْزامُ ما فِيهِ كُلْفَةٌ ومَشَقَّةٌ، والوُسْعُ ما تَسَعُهُ قُدْرَةُ الإنْسانِ أوْ ما يَسْهُلُ عَلَيْهِ مِنَ المَقْدُورِ وهو ما دُونُ مَدى طاقَتِهِ أيْ سُنَّتِهِ تَعالى أنَّهُ لا يُكَلِّفُ نَفْسًا مِنَ النُّفُوسِ إلّا ما تُطِيقُ وإلّا ما هو دُونَ ذَلِكَ كَما في سائِرِ ما كَلَّفَنا بِهِ مِنَ الصَّلاةِ والصِّيامِ مَثَلًا فَإنَّهُ كَلَّفَنا خَمْسَ صَلَواتٍ والطّاقَةُ تَسَعُ سِتًّا وزِيادَةً، وكَلَّفَنا صَوْمَ رَمَضانَ والطّاقَةُ تَسَعُ شَعْبانَ مَعَهُ وفَعَلَ ذَلِكَ فَضْلًا مِنهُ ورَحْمَةً بِالعِبادِ أوْ كَرامَةً ومِنَّةً عَلى هَذِهِ الأُمَّةِ خاصَّةً.
وقَرَأ اِبْنُ أبِي عَبْلَةَ (وُسَعَها) بِفَتْحِ السِّينِ، والآيَةُ عَلى التَّفْسِيرَيْنِ تَدُلُّ عَلى عَدَمِ وُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِالمُحالِ لا عَلى اِمْتِناعِهِ، أمّا عَلى الأوَّلِ: فَظاهِرٌ، وأمّا عَلى الثّانِي: فَبِطَرِيقِ الأوْلى، وقِيلَ: إنَّها عَلى التَّفْسِيرِ الثّانِي لا تَدُلُّ عَلى ذَلِكَ لِأنَّ الخِطابَ حِينَئِذٍ مَخْصُوصٌ بِهَذِهِ الأُمَّةِ وعَلى كُلِّ تَقْدِيرٍ لا دَلِيلَ فِيها عَلى اِمْتِناعِ التَّكْلِيفِ بِالمُحالِ كَما وُهِمَ، وقَدْ تَقَدَّمَ لَكَ بَعْضُ ما يَتَعَلَّقُ بِهَذا المَبْحَثِ ورُبَّما يَأْتِيكَ ما يَنْفَعُكَ فِيهِ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى.
﴿لَها ما كَسَبَتْ وعَلَيْها ما اكْتَسَبَتْ﴾ جُمْلَةٌ أُخْرى مُسْتَأْنَفَةٌ سِيقَتْ لِلتَّرْغِيبِ والمُحافَظَةِ عَلى مَواجِبِ التَّكْلِيفِ والتَّحْذِيرِ عَنِ الإخْلالِ بِها بِبَيانِ أنَّ تَكْلِيفَ كُلِّ نَفْسٍ مَعَ مُقارَنَتِهِ لِنِعْمَةِ التَّخْفِيفِ والتَّيْسِيرِ يَتَضَمَّنُ مُراعاتَهُ مَنفَعَةً زائِدَةً وأنَّها تَعُودُ إلَيْها لا إلى غَيْرِها ويَسْتَتْبِعُ الإخْلالَ بِها مَضَرَّةٌ تَحِيقُ بِها لا بِغَيْرِها فَإنَّ اِخْتِصاصَ مَنفَعَةِ الفِعْلِ بِفاعِلِهِ مَن أقْوى الدَّواعِي إلى تَحْصِيلِهِ، واقْتِصارُ مَضَرَّتِهِ عَلَيْهِ مِن أشَدِّ الزَّواجِرِ عَنْ مُباشَرَتِهِ، قالَهُ المَوْلى مُفْتِي الدِّيارِ الرُّومِيَّةِ قُدِّسَ سِرُّهُ، وهو الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الكَثِيرُ، وقِيلَ: يَجُوزُ أنْ تُجْعَلَ الجُمْلَتانِ في حَيِّزِ القَوْلِ ويَكُونُ ذَلِكَ حِكايَةً لِلْأقْوالِ المُتَفَرِّقَةِ غَيْرِ المَعْطُوفَةِ بَعْضُها عَلى بَعْضٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ويَكُونُ مَدْحًا لَهم بِأنَّهم شَكَرُوا اللَّهَ تَعالى في تَكْلِيفِهِ حَيْثُ يَرَوْنَهُ بِأنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ وُسْعِهِمْ وبِأنَّهم يَرَوْنَ أنَّ اللَّهَ تَعالى لا يَنْتَفِعُ بِعَمَلِهِمُ الخَيْرَ بَلْ هو لَهم ولا يَتَضَرَّرُ بِعَمَلِهِمُ الشَّرَّ بَلْ هو عَلَيْهِمْ ولا يَخْفى أنَّهُ بَعِيدٌ مِن جِهَةٍ قَرِيبٌ مِن أُخْرى، والضَّمِيرُ في (لَها) لِلنَّفْسِ العامَّةِ، والكَلامُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ هو ثَوابٌ في الأوَّلِ وعِقابٌ في الآخِرِ، ومُبَيِّنُ (ما) الأُولى: الخَيْرُ لِدَلالَةِ اللّامِ الدّالَّةِ عَلى النَّفْعِ عَلَيْهِ، ومُبَيِّنُ (ما) الثّانِيَةِ: الشَّرُّ لِدَلالَةِ عَلى الدّالَّةِ عَلى الضُّرِّ عَلَيْهِ، وإيرادُ الِاكْتِسابِ في جانِبِ الأخِيرِ لِما فِيهِ مِن زِيادَةِ المَعْنى وهو الِاعْتِمالُ، والشَّرُّ تَشْتَهِيهِ النَّفْسُ وتَنْجَذِبُ إلَيْهِ فَكانَتْ أجَدَّ في تَحْصِيلِهِ، فَفِيهِ إشارَةٌ إلى ما جُبِلَتْ عَلَيْهِ النُّفُوسُ، ولَمّا لَمْ يَكُنْ مِثْلُ ذَلِكَ في الخَيْرِ اِسْتَعْمِلِ الصِّيغَةَ المُجَرَّدَةَ عَنِ الِاعْتِمالِ.
﴿رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا﴾ شُرُوعٌ في حِكايَةِ بَقِيَّةِ دَعَواتِهِمْ إثْرَ بَيانِ سِرِّ التَّكْلِيفِ، وقِيلَ: اِسْتِيفاءٌ لِحِكايَةِ الأقْوالِ، وفي «اَلْبَحْرِ» وهو المَرْوِيُّ عَنِ الحَسَنِ أنَّ ذَلِكَ عَلى تَقْدِيرِ الأمْرِ، أيْ قُولُوا في دُعائِكم ذَلِكَ فَهو تَعْلِيمٌ مِنهُ تَعالى لِعِبادِهِ كَيْفِيَّةَ الدُّعاءِ والطَّلَبِ مِنهُ وهَذا مِن غايَةِ الكَرَمِ ونِهايَةِ الإحْسانِ يُعَلِّمُهُمُ الطَّلَبَ لِيُعْطِيَهم ويُرْشِدَهم لِلسُّؤالِ لِيُثِيبَهُمْ، ولِذَلِكَ قِيلَ، وقَدْ تَقَدَّمَ:
لَوْ لَمْ تُرِدْ نَيْلَ ما أرْجُو وأطْلُبُهُ مِن فَيْضِ جُودِكَ ما عَلَّمْتَنِي الطَّلَبا
والمُؤاخَذَةُ المُعاقَبَةُ، وفاعَلَ هُنا بِمَعْنى فَعَلَ، وقِيلَ: المُفاعَلَةُ عَلى بابِها لِأنَّ اللَّهَ تَعالى يُؤاخِذُ المُذْنِبَ بِالعُقُوبَةِ، والمُذْنِبُ كَأنَّهُ يُؤاخِذُ رَبَّهُ بِالمُطالَبَةِ بِالعَفْوِ إذْ لا يَجِدُ مَن يُخَلِّصُهُ مِن عَذابِهِ سِواهُ فَلِذَلِكَ يَتَمَسَّكُ العَبْدُ عِنْدَ الخَوْفِ مِنهُ بِهِ فَعَبَّرَ عَنْ كُلِّ واحِدٍ بِلَفْظِ المُؤاخَذَةِ ولا يَخْفى فَسادُ هَذا إلّا بِتَكَلُّفٍ.
واخْتَلَفُوا في المُرادِ مِنَ النِّسْيانِ والخَطَأِ عَلى وُجُوهٍ، الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ مِنَ الأوَّلِ التُّرْكُ ومِنهُ قَوْلُهُ:
ولَمْ أكُ عِنْدَ الجُودِ لِلْجُودِ قالِيا ∗∗∗ ولا كُنْتُ يَوْمَ الرَّوْعِ لِلطَّعْنِ ناسِيا
والمُرادُ مِنَ الثّانِي العِصْيانُ لِأنَّ المَعاصِيَ تُوصَفُ بِالخَطَأِ الَّذِي هو ضِدُّ الصَّوابِ وإنْ كانَ فاعِلُها (مُتَعَمِّدًا) كَأنَّهُ قِيلَ: رَبَّنا لا تُعاقِبْنا عَلى تَرْكِ الواجِباتِ وفِعْلِ المَنهِيّاتِ، الثّانِي: أنَّ المُرادَ مِنهُما ما هُما مُسَبَّبانِ عَنْهُ مِنَ التَّفْرِيطِ والإغْفالِ إذْ قَلَّما يَتَّفِقانِ إلّا عَنْ تَقْصِيرٍ سابِقٍ، فالمَعْنى لا تُؤاخِذْنا بِذَلِكَ التَّقْصِيرِ.
الثّالِثُ: أنَّ المُرادَ بِهِما أنْفُسَهُما مِن حَيْثُ تَرَتُّبُهُما عَلى ما ذَكَرَ، أوْ مُطْلَقًا إذْ لا اِمْتِناعَ في المُؤاخَذَةِ بِهِما عَقْلًا فَإنَّ المَعاصِيَ كالسُّمُومِ فَكَما أنَّ تَناوُلَها ولَوْ سَهْوًا أوْ خَطَأً مُؤَدٍّ إلى الهَلاكِ فَتَعاطِي المَعاصِي أيْضًا لا يَبْعُدُ أنْ يُفْضِيَ إلى العِقابِ وإنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ عَزِيمَةٍ ولَكِنَّهُ تَعالى وعَدَ التَّجاوُزَ عَنْهُ رَحْمَةً مِنهُ وفَضْلًا، فَيَجُوزُ أنْ يَدْعُوَ الإنْسانُ بِهِ اِسْتِدامَةً واعْتِدادًا بِالنِّعْمَةِ فِيهِ‘ ويُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَفْهُومُ قَوْلِهِ ﷺ فِيما أخْرَجَهُ الطَّبَرانِيُّ، وقالَ النَّوَوِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ والنِّسْيانُ وما أُكْرِهُوا عَلَيْهِ ”،» وأوْرَدَ عَلى هَذا بِأنَّهُ لا يُتِمُّ عَلى مَذْهَبِ المُحَقِّقِينَ مِن أهْلِ السُّنَّةِ والمُعْتَزِلَةِ مِن أنَّ التَّكْلِيفَ بِغَيْرِ المَقْدُورِ غَيْرُ جائِزٍ عَقْلًا مِنهُ تَعالى إذْ لا يَكُونُ تَرْكُ المُؤاخَذَةِ عَلى الخَطَأِ والنِّسْيانِ حِينَئِذٍ فَضْلًا يُسْتَدامُ ونِعْمَةً يُعْتَدُّ بِها.
﴿رَبَّنا ولا تَحْمِلْ عَلَيْنا إصْرًا﴾ أيْ عِبْئًا ثَقِيلًا يَأْصِرُ صاحِبَهُ، أيْ يَحْبِسُهُ مَكانَهُ، والمُرادُ بِهِ التَّكالِيفُ الشّاقَّةُ، وقِيلَ: الإصْرُ الذَّنْبُ الَّذِي لا تَوْبَةَ لَهُ فالمَعْنى اِعْصِمْنا مِنَ اِقْتِرافِهِ، وقُرِئَ (آصارًا) عَلى الجَمْعِ، وقَرَأ أُبَيٌّ (ولا تُحَمِّلْ) بِالتَّشْدِيدِ لِلْمُبالَغَةِ ﴿كَما حَمَلْتَهُ عَلى الَّذِينَ مِن قَبْلِنا﴾ في حَيِّزِ النَّصْبِ عَلى أنَّهُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أيْ حَمْلًا مِثْلَ حَمْلِكَ إيّاهُ عَلى مَن قَبْلَنا، أوْ عَلى أنَّهُ صِفَةٌ لِ (إصْرًا) أيْ إصْرًا مِثْلَ الإصْرِ الَّذِي حَمَلْتَهُ عَلى مَن قَبْلَنا وهو ما كُلَّفَهُ بَنُو إسْرائِيلَ مِن قَتْلِ النَّفْسِ في التَّوْبَةِ أوْ في القِصاصِ لِأنَّهُ كانَ لا يَجُوزُ غَيْرُهُ في شَرِيعَتِهِمْ، وقَطْعِ مَوْضِعِ النَّجاسَةِ مِنَ الثِّيابِ ونَحْوِها وقِيلَ: مِنَ البَدَنِ، وصَرْفِ رُبْعِ المالِ في الزَّكاةِ.
﴿رَبَّنا ولا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ﴾ اِسْتِعْفاءٌ عَنِ العُقُوباتِ الَّتِي لا تُطاقُ بَعْدَ الِاسْتِعْفاءِ عَمّا يُؤَدِّي إلَيْها، والتَّعْبِيرُ عَنْ إنْزالِ ذَلِكَ بِالتَّحْمِيلِ مَجازٌ بِاعْتِبارِ ما يُؤَدِّي إلَيْهِ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ طَلَبًا لِما هو أعَمُّ مِنَ الأوَّلِ لِتَخْصِيصِهِ بِالتَّشْبِيهِ إلّا أنَّهُ صَوَّرَ فِيهِ الإصْرَ بِصُورَةٍ ما لا يُسْتَطاعُ مُبالَغَةً، وقِيلَ: هو اِسْتِعْفاءٌ عَنِ التَّكْلِيفِ بِما لا تَفِي بِهِ القُدْرَةُ البَشَرِيَّةُ حَقِيقَةً فَتَكُونُ الآيَةُ دَلِيلًا عَلى جَوازِ التَّكْلِيفِ بِما لا يُطاقُ وإلّا لَما سُئِلَ التَّخَلُّصَ عَنْهُ ولَيْسَ بِالقَوِيِّ، والتَّشْدِيدُ هَهُنا لِمُجَرَّدِ تَعْدِيَةِ الفِعْلِ لِمَفْعُولٍ ثانٍ دُونَ التَّكْثِيرِ.
﴿واعْفُ عَنّا﴾ أيِ اُمْحُ آثارَ ذُنُوبِنا بِتَرْكِ العُقُوبَةِ ﴿واغْفِرْ لَنا﴾ بِسَتْرِ القَبِيحِ وإظْهارِ الجَمِيلِ ﴿وارْحَمْنا﴾ وتَعَطَّفْ عَلَيْنا بِما يُوجِبُ المَزِيدَ، وقِيلَ: ﴿واعْفُ عَنّا﴾ مِنَ الأفْعالِ ﴿واغْفِرْ لَنا﴾ مِنَ الأقْوالِ ﴿وارْحَمْنا﴾ بِثِقَلِ المِيزانِ، وقِيلَ: ﴿واعْفُ عَنّا﴾ في سَكَراتِ المَوْتِ ﴿واغْفِرْ لَنا﴾ في ظُلْمَةِ القُبُورِ ﴿وارْحَمْنا﴾ في أهْوالِ يَوْمِ النُّشُورِ، قالَ أبُو حَيّانَ: ولَمْ يَأْتِ في هَذِهِ الجُمَلِ الثَّلاثِ بِلَفْظِ رَبَّنا لِأنَّها نَتائِجُ ما تَقَدَّمَ مِنَ الجُمَلِ الَّتِي اُفْتُتِحَتْ بِذَلِكَ فَجاءَ (فاعْفُ عَنّا) مُقابِلًا لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا تُؤاخِذْنا﴾، ﴿واغْفِرْ لَنا﴾ لِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿ولا تَحْمِلْ عَلَيْنا إصْرًا﴾، ﴿وارْحَمْنا﴾ لِقَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ: ﴿ولا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ﴾ لِأنَّ مِن آثارِ عَدَمِ المُؤاخَذَةِ بِالنِّسْيانِ والخَطَأِ العَفْوَ، ومِن آثارِ عَدَمِ حَمْلِ الإصْرِ عَلَيْهِمُ المَغْفِرَةَ، ومِن آثارِ عَدَمِ تَحْمِيلِ ما لا يُطاقُ الرَّحْمَةَ، ولا يَخْفى حَسَنُ التَّرْتِيبِ.
﴿أنْتَ مَوْلانا﴾ أيْ مالِكُنا وسَيِّدُنا، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى مُتَوَلِّي الأمْرِ، وأصْلُهُ مَصْدَرٌ أُرِيدَ بِهِ الفاعِلُ، وإذا ذُكِرَ المَوْلى والسَّيِّدُ وجَبَ في الِاسْتِعْمالِ تَقْدِيمُ المَوْلى فَيُقالُ: مَوْلانا وسَيِّدُنا كَما في قَوْلِ الخَنْساءِ:
وإنَّ صَخْرًا لَمَوْلانا وسَيِّدُنا ∗∗∗ وإنَّ صَخْرًا إذا أشْتَوْا لَنَحّارُ
وخَطَّئُوا مَن قالَ: سَيِّدُنا ومَوْلانا بِتَقْدِيمِ السَّيِّدِ عَلى المَوْلى كَما قالَهُ اِبْنُ أيْبَكَ، ولِي فِيهِ تَرَدُّدٌ، قِيلَ: والجُمْلَةُ عَلى مَعْنى القَوْلِ أيْ قُولُوا أنْتَ مَوْلانا ﴿فانْصُرْنا عَلى القَوْمِ الكافِرِينَ﴾ [ 286 ] أيِ الأعْداءِ في الدِّينِ المُحارِبِينَ لَنا أوْ مُطْلَقِ الكَفَرَةِ، وأتى بِالفاءِ إيذانًا بِالسَّبَبِيَّةِ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا كانَ مَوْلاهم ومالِكَهم ومُدَبِّرَ أُمُورِهِمْ تَسَبَّبَ عَنْهُ أنْ دَعَوْهُ بِأنْ يَنْصُرَهم عَلى أعْدائِهِمْ فَهو كَقَوْلِكَ أنْتَ الجَوادُ فَتَكَرَّمْ عَلَيَّ وأنْتَ البَطَلُ فاحْمِ الجارَ.
* * *
ومِن بابِ الإشارَةِ في هَذِهِ الآياتِ: ﴿لِلَّهِ ما في السَّماواتِ﴾ أيِ العَوالِمِ الرُّوحانِيَّةِ كُلِّها وما اِسْتَتَرَ في أسْتارِ غِيُوبِهِ وخَزائِنِ عِلْمِهِ ﴿وما في الأرْضِ﴾ أيِ العالَمِ الجُسْمانِيِّ والظَّواهِرِ المُشاهَدَةِ الَّتِي هي مَظاهِرُ الأسْماءِ والأفْعالِ.
﴿وإنْ تُبْدُوا ما في أنْفُسِكُمْ﴾ يَشْهَدْهُ بِأسْمائِهِ وظَواهِرِهِ فَيُحاسِبْكم بِهِ وإنْ تُخْفُوهُ يَشْهَدْهُ بِصِفاتِهِ وبَواطِنِهِ ويُحاسِبْكم بِهِ، ﴿فَيَغْفِرُ﴾ لَكم ﴿لِمَن يَشاءُ﴾ لِتَوْحِيدِهِ وقُوَّةِ يَقِينِهِ وعُرُوضِ سَيِّئاتِهِ وعَدَمِ رُسُوخِها في ذاتِهِ ﴿ويُعَذِّبُ مَن يَشاءُ﴾ لِفَسادِ اِعْتِقادِهِ ووُجُودِ شَكِّهِ، أوْ رُسُوخِ سَيِّئاتِهِ في نَفْسِهِ ﴿واللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ لِأنَّ بِهِ ظُهُورَ كُلِّ ظاهِرٍ وبُطُونَ كُلِّ باطِنٍ فَيَقْدِرُ عَلى المَغْفِرَةِ والتَّعْذِيبِ ﴿آمَنَ الرَّسُولُ﴾ الكامِلُ الأكْمَلُ ﴿بِما أُنْزِلَ إلَيْهِ مِن رَبِّهِ﴾ أيْ صَدَّقَهُ بِقَبُولِهِ والتَّخَلُّقِ بِهِ فَقَدْ كانَ خُلُقُهُ ﷺ القُرْآنَ والتَّرَقِّيَ بِمَعانِيهِ والتَّحَقُّقَ بِهِ ﴿والمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ وحْدَهُ مُشاهَدَةً حِينَ لَمْ يَرَوْا في الوُجُودِ سِواهُ ﴿ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ﴾ حِينَ رُجُوعِهِمْ إلى مُشاهَدَتِهِمْ، تِلْكَ الكَثْرَةُ مَظاهِرُ لِلْوَحْدَةِ، يَقُولُونَ ﴿لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِن رُسُلِهِ﴾ بِرَدِّ بَعْضٍ وقَبُولِ بَعْضٍ لِمُشاهَدَةِ الحَقِّ فِيهِمْ بِالحَقِّ ﴿وقالُوا سَمِعْنا﴾ أجَبْنا رَبَّنا في كُتُبِهِ ورُسُلِهِ ونُزُولِ مَلائِكَتِهِ واسْتَقَمْنا في سَيْرِنا ﴿غُفْرانَكَ رَبَّنا﴾ أيِ اِغْفِرْ وُجُوداتِنا وصِفاتِنا واسْتُرْ ذَلِكَ بِوُجُودِكَ وصِفاتِكَ فَمِنكَ المَبْدَأُ ﴿وإلَيْكَ المَصِيرُ﴾ بِالفَناءِ فِيكَ ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَها﴾ إلّا ما يَسَعُها ولا يَضِيقُ بِهِ طَوْقُها واسْتِعْدادُها مِنَ التَّجَلِّياتِ ﴿لَها ما كَسَبَتْ﴾ مِنَ الخَيْرِ والكِمالاتِ والكُشُوفِ سَواءٌ كانَ ذَلِكَ بِاعْتِمالٍ أوْ بِغَيْرِ اِعْتِمالٍ ﴿وعَلَيْها ما اكْتَسَبَتْ﴾ وتَوَجَّهَتْ إلَيْهِ بِالقَصْدِ مِنَ السُّوءِ.
﴿رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إنْ نَسِينا﴾ عَهْدَكَ بِمَيْلِنا إلى ظُلْمَةِ الطَّبِيعَةِ ﴿أوْ أخْطَأْنا﴾ بِالعَمَلِ عَلى غَيْرِ الوَجْهِ اللّائِقِ لِحَضْرَتِكَ ﴿رَبَّنا ولا تَحْمِلْ عَلَيْنا إصْرًا﴾ وهو عِبْءُ الصِّفاتِ والأفْعالِ الحابِسَةِ لِلْقُلُوبِ مِن مُعايَنَةِ الغُيُوبِ ﴿كَما حَمَلْتَهُ عَلى الَّذِينَ مِن قَبْلِنا﴾ مِنَ المُحْتَجِبِينَ بِظَواهِرِ الأفْعالِ أوْ بَواطِنِ الصِّفاتِ.
﴿رَبَّنا ولا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ﴾ مِن ثِقَلِ الهِجْرانِ والحِرْمانِ عَنْ وِصالِكَ ومُشاهَدَةِ جَمالِكِ بِحَجْبِ جَلالِكَ ﴿واعْفُ عَنّا﴾ سَيِّئاتِ أفْعالِنا وصِفاتِنا فَإنَّها سَيِّئاتٌ حَجَبَتْنا عَنْكَ وحَرَمَتْنا بَرَدَ وِصالِكَ ولَذَّةَ رِضْوانِكَ ﴿واغْفِرْ لَنا﴾ ذُنُوبَ وجُودِنا فَإنَّهُ أكْبَرُ الكَبائِرِ ﴿وارْحَمْنا﴾ بِالوُجُودِ المَوْهُوبِ بَعْدَ الفَناءِ ﴿أنْتَ مَوْلانا﴾ أيْ سَيِّدُنا ومُتَوَلِّي أُمُورِنا لِأنّا مَظاهِرُكَ وآثارُ قُدْرَتِكَ ﴿فانْصُرْنا عَلى القَوْمِ الكافِرِينَ﴾ مِن قُوى نُفُوسِنا الأمّارَةِ وصِفاتِها وجُنُودِ شَياطِينِ أوْهامِنا المَحْجُوبِينَ عَنْكَ الحاجِبِينَ إيّانا لِكَفْرِهِمْ وظُلْمَتِهِمْ.
هَذا وقَدْ أخْرَجَ مُسْلِمٌ واَلتِّرْمِذِيُّ مِن حَدِيثِ اِبْنِ عَبّاسٍ: «“لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فَقَرَأها ﷺ قِيلَ لَهُ عَقِيبَ كُلِّ كَلِمَةٍ (قَدْ فَعَلْتُ)”،» وأخْرَجَ أبُو سَعِيدٍ والبَيْهَقِيُّ عَنِ الضَّحّاكِ: «“أنَّ جِبْرِيلَ لَمّا جاءَ بِهَذِهِ الآيَةِ ومَعَهُ ما شاءَ اللَّهُ تَعالى مِنَ المَلائِكَةِ وقَرَأها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قالَ لَهُ بَعْدَ كُلِّ كَلِمَةٍ (لَكَ ذَلِكَ) حَتّى فَرَغَ مِنها”،» وأخْرَجَ أبُو عُبَيْدٍ عَنْ أبِي مَيْسَرَةَ: «“أنَّ جِبْرِيلَ لَقَّنَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عِنْدَ خاتِمَةِ البَقَرَةِ (آمِينَ)»، وأخْرَجَ الأئِمَّةُ السِّتَّةُ في «كُتُبِهِمْ» عَنِ اِبْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «مَن قَرَأ الآيَتَيْنِ مِن آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ في لَيْلَةٍ كَفَتاهُ ”،» وأخْرَجَ الطَّبَرانِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ شَدّادِ بْنِ أوْسٍ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «“ إنِ اللَّهَ تَعالى كَتَبَ كِتابًا قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ السَّماواتِ والأرْضَ بِألْفَيْ عامٍ فَأنْزَلَ مِنهُ آيَتَيْنِ خَتَمَ بِهِما سُورَةَ البَقَرَةِ ولا يُقْرَآنِ في دارٍ ثَلاثَ لَيالٍ فَيَقْرَبُها شَيْطانٌ ”،» وأخْرَجَ اِبْنُ عَدِيٍّ عَنِ اِبْنِ مَسْعُودٍ الأنْصارِيِّ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، قالَ: «“ أنْزَلَ اللَّهُ تَعالى آيَتَيْنِ مِن كُنُوزِ الجَنَّةِ كَتَبَهُما الرَّحْمَنُ بِيَدِهِ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ الخَلْقَ بِألْفَيْ عامٍ مَن قَرَأهُما بَعْدَ العِشاءِ الآخِرَةِ أجْزَأتاهُ عَنْ قِيامِ اللَّيْلِ،» وأخْرَجَ الحاكِمُ وصَحَّحَهُ، والبَيْهَقِيُّ في «اَلشُّعَبِ» عَنْ أبِي ذَرٍّ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «”إنَّ اللَّهَ خَتَمَ سُورَةَ البَقَرَةِ بِآيَتَيْنِ أعْطانِيهِما مِن كَنْزِهِ الَّذِي تَحْتَ العَرْشِ فَتَعَلَّمُوهُما وعَلِّمُوهُما نِساءَكم وأبْناءَكم فَإنَّهُما صَلاةٌ وقُرْآنٌ ودُعاءٌ“،» وفي رِوايَةِ أبِي عُبَيْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدِرِ ”أنَّهُنَّ قُرْآنٌ وأنَّهُنَّ دُعاءٌ وأنَّهُنَّ يُدْخِلْنَ الجَنَّةَ وأنَّهُنَّ يُرْضِينَ الرَّحْمَنَ“، وأخْرَجَ مُسَدَّدٌ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ والدّارِمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ كِلاهُما قالَ: ”ما كُنْتُ أرى أحَدًا يَعْقِلُ يَنامُ حَتّى يَقْرَأ هَؤُلاءِ الآياتِ مِن آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ“، والآثارُ في فَضْلِها كَثِيرَةٌ وفِيما ذَكَرْنا كِفايَةٌ لِمَن وفَّقَهُ اللَّهُ تَعالى.
اللَّهُمَّ اِجْعَلْ لَنا مِن إجابَةِ هَذِهِ الدَّعَواتِ أوْفَرَ نَصِيبٍ، ووُفِّقْنا لِلْعَمَلِ الصّالِحِ والقَوْلِ المُصِيبِ، واجْعَلِ القُرْآنَ رَبِيعَ قُلُوبِنا وجَلاءَ أسْماعِنا ونُزْهَةَ أرْواحِنا، ويَسِّرْ لَنا إتْمامَ ما قَصَدْناهُ، ولا تَجْعَلُ لَنا مانِعًا عَمّا بِتَوْفِيقِكَ أرَدْناهُ، وصَلِّ وسَلِّمْ عَلى خَلِيفَتِكَ الأعْظَمِ وكَنْزِكَ المُطَلْسِمِ، وعَلى آلِهِ الواقِفِينَ عَلى أسْرارِ كِتابِكَ، وأصْحابِهِ الفائِزِينَ بِحُكْمِ خِطابِكَ ما اِرْتاحَتْ رُوحٌ وحَصَلَ لَقارِعٍ بابَ جُودِكَ فُتُوحٌ.
سُورَةُ آلِ عِمْرانَ
وهِي مِائَتا آيَةٍ، أخْرَجَ اِبْنُ الضَّرِيسِ والنَّحّاسُ والبَيْهَقِيُّ مِن طُرُقٍ عَنِ اِبْنِ عَبّاسٍ رِضى اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّها نَزَلَتْ بِالمَدِينَةِ، واسْمُها في التَّوْراةِ كَما رَوى سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ طِيبَةُ، وفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ تَسْمِيَتُها، والبَقَرَةِ الزَّهْراوانِ وتُسَمّى الأمانَ والكَنْزَ والمَعْنِيَّةَ والمُجادَلَةَ وسُورَةَ الِاسْتِغْفارِ، ووَجْهُ مُناسَبَتِها لِتِلْكَ السُّورَةِ أنَّ كَثِيرًا مِن مُجْمِلاتِها تَشْرَحُ بِما في هَذِهِ السُّورَةِ، وأنَّ سُورَةَ البَقَرَةِ بِمَنزِلَةِ إقامَةِ الحُجَّةِ وهَذِهِ بِمَنزِلَةِ الشُّبْهَةِ ولِهَذا تَكَرَّرَ فِيها ما يَتَعَلَّقُ بِالمَقْصُودِ الَّذِي هو بَيانُ حَقِّيَّةِ الكِتابِ مِن إنْزالِ الكِتابِ وتَصْدِيقِهِ لِلْكُتُبِ قَبْلَهُ والهُدى إلى الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ، وتَكَرَّرَتْ آيَةُ ﴿قُولُوا آمَنّا بِاللَّهِ وما أُنْزِلَ﴾ بِكَمالِها ولِذَلِكَ ذَكَرَ في هَذِهِ ما هو تالٍ لِما ذَكَرَ في تِلْكَ أوْ لازِمٌ لَهُ، فَذَكَرَ هُناكَ خَلْقَ النّاسِ وذَكَرَ هُنا تَصْوِيرَهم في الأرْحامِ، وذَكَرَ هُناكَ مَبْدَأ خَلْقِ آدَمَ وذَكَرَ هُنا مَبْدَأ أوْلادِهِ، وألْطَفُ مِن ذَلِكَ أنَّهُ اِفْتَتَحَ البَقَرَةَ بِقِصَّةِ آدَمَ وخَلْقِهِ مِن تُرابٍ ولا أُمَّ وذَكَرَ في هَذِهِ نَظِيرَهُ في الخَلْقِ مِن غَيْرِ أبٍ وهو عِيسى ولِذَلِكَ ضَرَبَ لَهُ المَثَلَ بِآدَمَ، واخْتُصَّتِ البَقَرَةُ بِآدَمَ لِأنَّها أوَّلُ السُّوَرِ وهو أوَّلُ في الوُجُودِ وسابِقٌ ولِأنَّها الأصْلُ وهَذِهِ كالفَرْعِ والتَّتِمَّةِ لَها فاخْتُصَّتْ بِالأغْرَبِ ولِأنَّها خِطابٌ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ قالُوا في مَرْيَمَ ما قالُوا وأنْكَرُوا وُجُودَ ولَدٍ بِلا أبٍ فَفُوتِحُوا بِقِصَّةِ آدَمَ لِتَثْبُتَ في أذْهانِهِمْ فَلا تَأْتِي قِصَّةُ عِيسى إلّا وقَدْ ذُكِرَ عِنْدَهم ما يَشْهَدُ لَها مِن جِنْسِها، ولِأنَّ قِصَّةَ عِيسى قِيسَتْ عَلى قِصَّةِ آدَمَ والمَقِيسُ عَلَيْهِ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ مَعْلُومًا لِتَتِمَّ الحُجَّةَ بِالقِياسِ فَكانَتْ قِصَّةُ آدَمَ والسُّورَةُ الَّتِي هي فِيها جَدِيرَةً بِالتَّقْدِيمِ.
وقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ مِن وُجُوهِ التَّلازُمِ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ أنَّهُ قالَ في البَقَرَةِ في صِفَةِ النّارِ: ﴿أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ﴾ مَعَ اِفْتِتاحِها بِذِكْرِ المُتَّقِينَ والكافِرِينَ مَعًا، وقالَ في آخِرِ هَذِهِ: ﴿وجَنَّةٍ عَرْضُها السَّماواتُ والأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ فَكَأنَّ السُّورَتَيْنِ بِمَنزِلَةِ سُورَةٍ واحِدَةٍ ومِمّا يُقَوِّي المُناسِبَةَ والتَّلازُمَ بَيْنَهُما أنَّ خاتِمَةَ هَذِهِ مُناسَبَةٌ لِفاتِحَةِ تِلْكَ لِأنَّ الأُولى اُفْتُتِحَتْ بِذِكْرِ المُتَّقِينَ وأنَّهُمُ المُفْلِحُونَ وخُتِمَتْ هَذِهِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿واتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكم تُفْلِحُونَ﴾ وافْتُتِحَتِ الأُولى بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إلَيْكَ وما أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ﴾ وخُتِمَتْ آلِ عِمْرانَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإنَّ مِن أهْلِ الكِتابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وما أُنْزِلَ إلَيْكم وما أُنْزِلَ إلَيْهِمْ﴾ وقَدْ ورَدَ «أنَّ اليَهُودَ قالُوا لَمّا نَزَّلَ ﴿مَن ذا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ﴾ الآيَةَ: يا مُحَمَّدُ اِفْتَقَرَ رَبُّكَ يَسْألُ عِبادَهُ القَرْضَ فَنَزَّلَ ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إنَّ اللَّهُ فَقِيرٌ ونَحْنُ أغْنِياءُ﴾» وهَذا مِمّا يُقَوِّي التَّلازُمَ أيْضًا، ومِثْلُهُ أنَّهُ وقَعَ في البَقَرَةِ حِكايَةُ قَوْلِ إبْراهِيمَ: ﴿رَبَّنا وابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنهُمْ﴾ الآيَةَ، وهُنا ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلى المُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مَنَّ أنْفُسِهِمْ﴾ الآيَةَ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ.
القرآن – تدبّر وعمل — شركة الخبرات الذكية
﴿۞ وَإِن كُنتُمۡ عَلَىٰ سَفَرࣲ وَلَمۡ تَجِدُوا۟ كَاتِبࣰا فَرِهَـٰنࣱ مَّقۡبُوضَةࣱۖ فَإِنۡ أَمِنَ بَعۡضُكُم بَعۡضࣰا فَلۡیُؤَدِّ ٱلَّذِی ٱؤۡتُمِنَ أَمَـٰنَتَهُۥ وَلۡیَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥۗ وَلَا تَكۡتُمُوا۟ ٱلشَّهَـٰدَةَۚ وَمَن یَكۡتُمۡهَا فَإِنَّهُۥۤ ءَاثِمࣱ قَلۡبُهُۥۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ عَلِیمࣱ (٢٨٣) لِّلَّهِ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۗ وَإِن تُبۡدُوا۟ مَا فِیۤ أَنفُسِكُمۡ أَوۡ تُخۡفُوهُ یُحَاسِبۡكُم بِهِ ٱللَّهُۖ فَیَغۡفِرُ لِمَن یَشَاۤءُ وَیُعَذِّبُ مَن یَشَاۤءُۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرٌ (٢٨٤) ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَـٰۤىِٕكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَیۡنَ أَحَدࣲ مِّن رُّسُلِهِۦۚ وَقَالُوا۟ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ غُفۡرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَیۡكَ ٱلۡمَصِیرُ (٢٨٥) لَا یُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَیۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَاۤ إِن نَّسِینَاۤ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَیۡنَاۤ إِصۡرࣰا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَاۤۚ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَـٰفِرِینَ (٢٨٦)﴾ [البقرة ٢٨٣-٢٨٦]
* الوقفات التدبرية
١- ﴿فَلْيُؤَدِّ ٱلَّذِى ٱؤْتُمِنَ أَمَٰنَتَهُۥ وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ﴾
وقد أمر سبحانه بالتقوى عند الوفاء حسبما أمر بها عند الإقرار؛ تعظيما لحقوق العباد، وتحذيرا عما يوجب وقوع الفساد. [الألوسي: ٣/٦٣]
السؤال: لماذا أمر سبحانه بالتقوى عند الوفاء، وأمر بها ثانية عند الإقرار؟
٢- ﴿وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُۥٓ ءَاثِمٌ قَلْبُهُۥ ۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾
خص القلب بالإثم إذ الكتم من أفعاله، وإذ هو المضغة التي بصلاحها يصلح الجسد كله. [القرطبي: ٤/٤٧٨]
السؤال: لماذا خص الله تعالى ذكر القلب في هذه الآية؟
٣- ﴿وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا۟ كَاتِبًا فَرِهَٰنٌ مَّقْبُوضَةٌ ۖ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ ٱلَّذِى ٱؤْتُمِنَ أَمَٰنَتَهُۥ وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥ ۗ وَلَا تَكْتُمُوا۟ ٱلشَّهَٰدَةَ ۚ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُۥٓ ءَاثِمٌ قَلْبُهُۥ ۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾
وقد اشتملت هذه الأحكام الحسنة التي أرشد الله عباده إليها على حكم عظيمة ومصالح عميمة؛ دلت على أن الخلق لو اهتدوا بإرشاد الله لصلحت دنياهم مع صلاح دينهم؛ لاشتمالها على العدل والمصلحة، وحفظ الحقوق، وقطع المشاجرات والمنازعات، وانتظام أمر المعاش. [السعدي: ١١٩-١٢٠]
السؤال: ما الذي يصلح دين الخلق ودنياهم ؟
٤- ﴿وَقَالُوا۟ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ﴾
وتقديم السمع والطاعة على طلب الغفران لما أن تقدم الوسيلة على المسئول أقرب إلى الإجابة والقبول. [الألوسي: ٣/٦٩]
السؤال: لماذا قدم السمع والطاعة على طلب الغفران؟
٥- ﴿لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾
فأصل الأوامر والنواهي ليست من الأمور التي تشق على النفوس، بل هي غذاء للأرواح، ودواء للأبدان، وحمية عن الضرر؛ فالله تعالى أمر العباد بما أمرهم به رحمة وإحساناً. [السعدي: ١٢٠]
السؤال: تكاليف الشريعة كلها رحمة وإحسان، دلل على هذا من خلال هذه الآية.
٦- ﴿لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ﴾
جاءت العبارة في الحسنات بـــــ﴿لها﴾ من حيث هي مما يفرح المرء بكسبه ويسر بها، فتضاف إلى ملكه. وجاءت في السيئات بـــــــ﴿عليها﴾ من حيث هي أثقال وأوزار، ومتحملات صعبة، وهذا كما تقول: «لي مال»، و«علي دين» [. القرطبي: ٤/٥٠٠]
السؤال: ما سر التعبير القرآني في ذكر الحسنات بــ ﴿لها﴾ ، والسيئات بــــــ ﴿عليها﴾ ؟
٧- ﴿وَٱعْفُ عَنَّا وَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَآ﴾
وقوله: ﴿واعفُ عنا﴾ أي: فيما بيننا وبينك مما تعلمه من تقصيرنا وزللنا. ﴿واغفر لنا﴾ أي: فيما بيننا وبين عبادك؛ فلا تظهرهم على مساوينا وأعمالنا القبيحة. ﴿وارحمنا﴾ أي: فيما يستقبل؛ فلا توقعنا بتوفيقك في ذنب آخر. ولهذا قالوا: إن المذنب محتاج إلى ثلاثة أشياء: أن يعفو الله عنه فيما بينه وبينه، وأن يستره عن عباده؛ فلا يفضحه به بينهم، وأن يعصمه؛ فلا يوقعه في نظيره. [السعدي: ١/٣٢٤]
السؤال: ما الأمور الثلاثة التي يحتاج إليها المذنب؟
* التوجيهات
١- كاتم الشهادة آثم قلبه، فكيف بمن يكذب فـي الشهادة، ﴿ۗ وَلَا تَكْتُمُوا۟ ٱلشَّهَٰدَةَ ۚ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُۥٓ ءَاثِمٌ قَلْبُهُۥ﴾
٢- السمع والطاعة لله سببٌ لنيل مغفرته سبحانه، ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ﴾
٣- موالاة الله سبحانه وتعالى سبب للانتصار على الأعداء، ﴿ۚ أَنتَ مَوْلَىٰنَا فَٱنصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَٰفِرِينَ﴾
* العمل بالآيات
١- اقـرأ الآيتين آخـر البـقرة في ليـلتك؛ ففيهما كـفـاية لـمن قـرأهمـا، ﴿ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِ﴾
٢- احرص اليوم بعد فراغك من أي طاعة وعمل خير أن تسأل الله تعالى المغفرة، ﴿ۚ وَقَالُوا۟ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ﴾
٣- اعمل اليوم عملاً صالحًا بلسانك، أو مالك، أو جوارحك، ثم ادع بدعاء؛ فهو أرجى لقبول دعائك، ﴿ۚ وَقَالُوا۟ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ﴾
* معاني الكلمات
﴿فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾ هُوَ أَنْ يَدْفَعَ لِصَاحِبِ الْحَقِّ شَيْئًا؛ لِيُضْمَنَ حَقُّهُ حَتَّى يَرُدَّ الْمَدِينُ الدَّيْنَ.
﴿إِصْرًا﴾ مَشَقَّةً وَثِقَلاً.
زاد المسير — ابن الجوزي (٥٩٧ هـ)
﴿لَا یُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَیۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَاۤ إِن نَّسِینَاۤ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَیۡنَاۤ إِصۡرࣰا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَاۤۚ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَـٰفِرِینَ﴾ [البقرة ٢٨٦]
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَها﴾ الوُسْعُ: الطّاقَةُ. قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، وقَتادَةُ. ومَعْناهُ: لا يُكَلِّفُها ما لا قُدْرَةَ لَها عَلَيْهِ لِاسْتِحالَتِهِ، كَتَكْلِيفِ الزَّمِنِ السَّعْيِ، والأعْمى النَّظَرِ. فَأمّا تَكْلِيفُ ما يَسْتَحِيلُ مِنَ المُكَلَّفِ، لِفَقْدِ الآَلاتِ، فَيَجُوزُ كَتَكْلِيفِ الكافِرِ الَّذِي سَبَقَ في العِلْمِ القَدِيمِ أنَّهُ لا يُؤْمِنُ الإيمانَ، فالآَيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلى القَوْلِ الأوَّلِ. ومِنَ الدَّلِيلِ عَلى ما قُلْناهُ قَوْلُهُ تَعالى: في سِياقِ الآَيَةِ ﴿رَبَّنا ولا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ﴾ فَلَوْ كانَ تَكْلِيفُ ما لا يُطاقُ مُمْتَنِعًا، كانَ السُّؤالُ عَبَثًا، وقَدْ أمَرَ اللَّهُ تَعالى نَبِيَّهُ بِدُعاءِ قَوْمٍ قالَ فِيهِمْ: ﴿وَإنْ تَدْعُهم إلى الهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إذًا أبَدًا﴾ [ الكَهْفِ: ٥٧ ] وقالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: المَعْنى: لا تُحَمِّلْنا ما يَثْقُلُ عَلَيْنا أداؤُهُ، وإنْ كُنّا مُطِيقِينَ لَهُ عَلى تَجَشُّمٍ، وتَحَمُّلِ مَكْرُوهٍ، فَخاطَبَ العَرَبَ عَلى حَسْبِ ما تَعْقِلُ، فَإنَّ الرَّجُلَ مِنهم يَقُولُ لِلرَّجُلِ يُبْغِضُهُ: ما أُطِيقُ النَّظَرَ إلَيْكَ، وهو مُطِيقٌ لِذَلِكَ، لَكِنَّهُ يَثْقُلُ عَلَيْهِ، ومِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ﴾ .
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَها ما كَسَبَتْ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لَها ما كَسَبَتْ مِن طاعَةٍ ﴿وَعَلَيْها ما اكْتَسَبَتْ﴾ مِن مَعْصِيَةٍ. قالَ أبُو بَكْرٍ النَّقّاشُ: فَقَوْلُهُ: "لَها" دَلِيلٌ عَلى الخَيْرِ، و"عَلَيْها" دَلِيلٌ عَلى الشَّرِّ. وقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إلى أنْ "كَسَبَتْ" لِمَرَّةٍ ومَرّاتٍ، و"اكْتَسَبَتْ" لا يَكُونُ إلّا لِشَيْءٍ بَعْدَ شَيْءٍ، وهُما عِنْدَ آَخَرِينَ لُغَتانِ بِمَعْنًى واحِدٍ، كَقَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿فَمَهِّلِ الكافِرِينَ أمْهِلْهم رُوَيْدًا﴾ [ الطّارِقِ: ١٧ ] .
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا﴾ هَذا تَعْلِيمٌ مِنَ اللَّهِ لِلْخَلْقِ أنْ يَقُولُوا ذَلِكَ، قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: والمُرادُ بِالنِّسْيانِ هاهُنا: التَّرْكُ مَعَ العَمْدِ، لِأنَّ النِّسْيانَ الَّذِي هو بِمَعْنى الغَفْلَةِ قَدْ أُمِنَتِ الآَثامُ مِن جِهَتِهِ. والخَطَأُ أيْضًا هاهُنا مِن جِهَةِ العَمْدِ، لا مِن جِهَةِ السَّهْوِ، يُقالُ: أخْطَأ الرَّجُلُ: إذا تَعَمَّدَ، كَما يُقالُ: أخْطَأ إذا غَفَلَ. وفي "الإصْرِ" قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّهُ العَهْدُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، والضَّحّاكُ، والسُّدِّيُّ. والثّانِي: الثِّقَلُ، أيْ: لا تُثْقِلْ عَلَيْنا مِنَ الفُرُوضِ ما ثَقَّلْتَهُ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ، قالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ﴾ فِيهِ خَمْسَةُ أقْوالٍ. أحَدُهُما: أنَّهُ ما يَصْعُبُ ويَشُقُّ مِنَ الأعْمالِ، قالَهُ الضَّحّاكُ، والسُّدِّيُّ، وابْنُ زَيْدٍ، والجُمْهُورُ، والثّانِي: أنَّهُ المَحَبَّةُ، رَواهُ الثَّوْرِيُّ عَنْ مَنصُورٍ عَنْ إبْراهِيمَ. والثّالِثُ: الغُلْمَةُ قالَهُ مَكْحُولٌ. والرّابِعُ: حَدِيثُ النَّفْسِ ووَساوِسُها. والخامِسُ: عَذابُ النّارِ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أنْتَ مَوْلانا﴾ أيْ: أنْتَ ولِيُّنا ﴿فانْصُرْنا﴾ أيْ: أعِنّا. وكانَ مُعاذٌ إذا فَرَغَ مِن هَذِهِ السُّورَةِ قالَ: آَمِينَ.
تفسير القرآن الكريم — ابن عثيمين (١٤٢١ هـ)
﴿ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَـٰۤىِٕكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَیۡنَ أَحَدࣲ مِّن رُّسُلِهِۦۚ وَقَالُوا۟ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ غُفۡرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَیۡكَ ٱلۡمَصِیرُ (٢٨٥) لَا یُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَیۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَاۤ إِن نَّسِینَاۤ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَیۡنَاۤ إِصۡرࣰا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَاۤۚ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَـٰفِرِینَ (٢٨٦)﴾ [البقرة ٢٨٥-٢٨٦]
قال الله تعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾ إلى آخره.
فسرنا قوله تعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ وفسرنا: ﴿كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾ إلى آخره، كذا ولَّا لا؟
قال: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ﴾ يعني آمن بما أنزل إليه من الوحي في كتاب الله وفيما يُوحي إليه من سنة رسوله ﷺ.
وفي قوله: ﴿بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ﴾ ربوبية خاصة؛ لأنها أُضيفت إلى الرسول ﷺ، والربوبية المضافة إلى الرسل هي أخص أنواع الربوبية، ويليها الربوبية المضافة إلى المؤمنين، ثم أعمها الربوبية المضافة إلى جميع الناس، مثل: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة ٢]، هذه الربوبية الخاصة لا شك أنها تقتضي تربية خاصة لا يماثلها تربية أحد من المربوبين.
وقوله: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ بالرفع عطفًا على قوله: ﴿الرَّسُولُ﴾ يعني: والمؤمنون كذلك آمنوا بما أنزل على النبي ﷺ من الله، فيؤمنون بالرسول، ويؤمنون بالمرسِل، ويؤمنون بالمرسَل به، ثلاثة أشياء: المرسِل وهو الله، المرسَل وهو الرسول ﷺ، المرسَل به، وهو الوحي؛ الكتاب والسنة.
وقوله: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ﴾ ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ﴾، إذا قال قائل: كيف قال: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ فوصفهم بالإيمان مع أنهم مؤمنون؟ فنقول: هذا من باب التحقيق، يعني أن المؤمنين حققوا الإيمان، وليس إيمانهم إيمانًا ظاهرًا فقط كما يكون من المنافق الذي يُظهر الإيمان، ولكنه مبطن للكفر.
﴿كُلٌّ﴾ يعني من الرسول والمؤمنين ﴿كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾ إلى آخره ﴿كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ (آمن) مرت علينا كثيرًا بأن المراد بها الإقرار المتضمن للقبول والإذعان، وليس مجرد الإيمان بوجود الله فقط، هذا ليس بإيمان حتى يستلزم قبول ما جاء به أو قبول ما أخبر به وما أمر به مع الإذعان والتسليم.
وقوله: ﴿كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ الإيمان بالله يتضمن أربعة أمور؛ الأمر الأول: الإيمان بوجوده، والثاني: الإيمان بربوبيته، والثالث: الإيمان بألوهيته، والرابع: الإيمان بأسمائه وصفاته، لا بد أن يكون الإيمان متضمنًا لهذه الأشياء الأربعة، الإيمان بوجود الله احترازًا من الذين أنكروا وجود الله، وقالوا: إن هذا الكون ما هو إلا أشياء تتفاعل ويأتي بعضها ببعض أرحام تدفع، وأراضٍ تبلع، وليس هناك شيء والعياذ بالله، لا بد أن نؤمن بوجود الله عز وجل، ولا بد أن نؤمن بربوبيته، وهنا عندما نقول: نؤمن بربوبيته؛ يعني بانفراده بالربوبية، وأنه الرب المطلق، وربوبية ما سواه مقيدة ليست شاملة ولا عامة ولا كاملة بل هي ناقصة مقيدة أيضًا، ناقصة من حيث حدودها وناقصة من حيث سلطانها، أما ربوبية الله عز وجل فإنها كاملة واسعة، لا معقب لحكمه وهو السميع العليم.
الثالث: الإيمان بألوهيته؛ الألوهية الحق، ولا ألوهية لغيره، وكل ما ادُّعيت فيه الألوهية فإنه باطل كما قال الله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ﴾ [الحج ٦٢].
الرابع: الإيمان بأسمائه وصفاته؛ بأن له أسماء وصفات انفرد بها، لا يماثله أحد فيها، فنثبت الأسماء والصفات وننفي المشاركة أو المماثلة؛ لأن هذا هو حقيقة التوحيد.
إذن من لم يؤمن بوجود الله فليس بمؤمن، من آمن بوجوده دون ربوبيته بأن قال: إن له مشاركًا أو معينًا في خلق السماوات والأرض، أو أن هناك إلهًا آخر منفردًا بما خلق، فنقول: إن هذا لم يؤمن بالله، ومن آمن بوجود الله وربوبيته، وأنه منفرد بالربوبية الكاملة، لكن أنكر ألوهيته بأن قال كما قال الكفار: ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ [ص ٥] فإنه لم يؤمن بالله، من آمن بوجود الله وربوبيته وألوهيته، لكن لم يؤمن بأسمائه وصفاته فإنه لم يؤمن بالله، قد يكون إيمانه معدومًا وقد يكون ناقصًا حسب ما قام عنده من الإيمان والتصديق أو الإنكار والتكذيب.
إذن الذين يؤمنون ببعض الأسماء دون بعض، نقول: لم يحققوا الإيمان بالله، والذين يؤمنون بالأسماء دون الصفات لم يحققوا الإيمان بالله، والذين يؤمنون ببعض الصفات ويكفرون ببعض لم يحققوا الإيمان بالله، ثم إن كان إنكارهم لما أنكروه من ذلك تكذيبًا وجحودًا فهم أيش؟
* الطلبة: كفار.
* الشيخ: كفرة، وإن كان تأويلًا فليسوا بكفار، ولكن ينظر في تأويلهم هل له مساغ أو يكون تأويلًا يُنزل منزلة الإنكار فيُحكم لهم بما يقتضيه حالهم.
لو قال قائل: كيف نقيم الأدلة على وجود الله عز وجل؟ قلنا: نقيمها من عدة أوجه؛ بالحس، والعقل، والشرع والفطرة، أما العقل فلأننا نقول: هذه الموجودات الكائنات التي تتغير صباحًا ومساءً بعدم، ووجود، وتغير حال، من الذي يغيرها؟ ننظر من؟ يغيرها فلان أو فلان أو فلان؟! أبدًا، لا يستطيعون أن يغيروا بل هم مغيَّرون، إذن لا بد لهذه الكائنات من مكون محدِث مغير، ولا نجد إلا الله عز وجل، لا نجد إلا الله، ولهذا أشار الله إلى ذلك بقوله: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ [الطور ٣٥]. نجد السماوات والأرض، من خلق هذه الأرض؟ هل هم عمال خلقوها وأوجدوا فيها الرمال والجبال والأودية والأنهار والبحار؟
الجواب: لا، لو اجتمعت الدنيا كلها بعمالها ما استطاعوا ذلك؛ إذن لا بد لها من خالق، السماوات كذلك وأعظم لا أحد يستطيع خلقها إلا الله عز وجل، ولهذا قال: ﴿أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ [الطور ٣٦]. والجواب: لا، ﴿بَلْ لَا يُوقِنُونَ﴾. هذا دليل عقلي على وجود الله ولا أحد ينكره.
لو قال لك قائل: هذه اللمبة ما صنعها أحد، وأيش تقول؟ تقول: عجلوا بهذا الرجل إلى المارستان؛ لأنه مجنون، أليس كذلك؟
* الطلبة: بلى.
* الشيخ: ولو قال: هذا المسجل ما صنعه أحد، قلنا: كذلك، ولهذا يذكر أن طائفة من السمنية من ملاحدة من الهنود جاؤوا إلى أبي حنيفة في بغداد قالوا له: يعني كيف نثبت وجود خالق؟ فأطرق وسكت وقالوا: أجب؟ ظنوه قد انقطع وعجز، قال: أنا أفكر في سفينة أرست في ماء الفرات أو دجلة بدون أن يكون لها ملاح، ونزلت الحمل بدون عمال، وانصرفت بدون قائد، شوفوا هل هذا ممكن ولَّا غير ممكن؟
* الطلبة: غير ممكن.
* الشيخ: هو يقول لهم كذا، فشوفوا ممكن هذا ولَّا ما هو ممكن؟ قالوا: ما يكون هذا، تصور هذا جنون، معقول أن السفينة تيجي محملة وتنزل حملها وتروح بدون الملاح وبدون عمال؟! قال: والله إذا كان أنكم تدعون أن السماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم وُجدت بلا مُوجد وتسير بلا مسيِّر فإن هذه السفينة أهون، ﴿فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ﴾ [الأعراف ١١٩]، إذن هذا دليل عقلي.
الدليل الحسي على وجود الله أيضًا واقع، من أكبر شواهده إجابة الدعوة، إذا دعا الإنسان ربه أجابه، والقرآن مملوء بهذا، قال الله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ﴾ [القمر ٩ - ١١] لما قال: يا رب إن قومي كذبون ﴿رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾ [نوح ٢٦] أجابه الرب وأرسل عليهم الطوفان، ففتح أبواب السماء بماء منهمر ﴿وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا﴾ [القمر ١٢] فغرقوا عن آخرهم إلا من آمن، هذا يدل على عدم وجود الرب ولَّا على وجوده؟
* الطلبة: على وجوده.
* الشيخ: على وجوده، وما زال هذا أمرًا محسوسًا مشهودًا ملموسًا، حتى الإنسان يدعو ربه بأمر، ثم يراه بعينه رأي العين قد حصل، إذن دل على وجود الله عز وجل أيش؟ الحس والواقع.
أما الفطرة فإن كل إنسان لم تجتله الشياطين ولم تغيره البيئة يعترف اعترافًا ضروريًّا بأن له خالقًا انفرد بخلقه بدون أن يسأل أحدًا، لكن قد تفسده البيئة وتجتاله الشياطين فينكر هذا، بقينا بإيه؟
* الطلبة: الشرع.
* الشيخ: الرابع: الشرع والكتاب السنة والكتب السابقة كلها مملوءة بإثبات وجود الله عز وجل، ولهذا لا يمكن أن تقوم قدم ملحد على إنكار الرب إلا على سبيل المكابرة، والإنسان المكابر مشكلة ما فيه علاج، اللي يكابر فيقول: ليست هذه الشمس الشمس يمكن تعالجه وتقنعه؟ لا يمكن، وأما الإيمان بالربوبية والإيمان بالإلوهية والإيمان بالأسماء والصفات فأمرها واضح، إن الله رب كل شيء ومليكه ومدبره ومتصرف فيه.
ثم قال الله عز وجل: ﴿كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ﴾ يعني: وآمن بملائكته، الرسول والمؤمنون كلهم آمنوا بملائكة الله، والملائكة قال النحويون: إنها جمع (مَلْأَك) الذي أصله (مَأْلَك)؛ لأنه من (الأَلُوكَة)، وهي الرسالة، وقالوا: إن فيه تقديمًا وتأخيرًا في حروفه، إعلالًا بالتقديم والتأخير. الملائكة رسل كما قال تعالى: ﴿جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ﴾ [فاطر ١] وهم ذوات أو أرواح ومعاني؟
* الطلبة: ذوات.
* الشيخ: ذوات، يُشاهَدون لهم أجنحة، ثبت في الصحيح «أن النبي ﷺ رأى جبريل على صورته التي خُلق عليها له ست مئة جناح قد سَدَّ الأُفُق »(١)، ست مئة جناح قد سد الأفق، كيف يكون سرعة هذا الملك؟ سرعته عظيمة كلمح البصر؛ لأن ست مئة جناح كلها تطير بقوة هائلة معناها أنه يعني أسرع من لمح البصر، ولهذا جعله الله تعالى هو السفير بينه وبين الرسل يرسله بالوحي.
الملائكة خُلقوا من نور، كما ثبت ذلك في الصحيح(٢)، الملائكة لا يأكلون ولا يشربون، لأنهم صمد ليس لهم أجواف، حتى يحتاجون إلى الأكل والشرب، وإنما ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾ [الأنبياء ٢٠] يعني لا يسأمون ولا يملون ولا يتعبون؛ لأنه ليس هناك شيء يُذهب طاقتهم وينقصها، ولهذا لا يحتاجون للأكل والشرب.
الملائكة أقسام في وظائفهم منهم الموكَّل بالوحي؛ وهو جبريل، والموكل بالقطر والنبات؛ وهو ميكائيل، والموكل بنفخ الصور وبحمل العرش؛ وهو إسرافيل، والموكل بالجنة؛ وهو رضوان، وبالنار؛ وهو مالِك، وبالموت؛ وهو ملك الموت، وأما ما جاء من تسميته بـ (عزرائيل) فهذا لا يصح، لكن هو ملك الموت كما قال تعالى: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ﴾ [السجدة ١١].
ومنهم من يعبدون الله تعالى ليلًا ونهارًا كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا مِنْ مَوْضِعِ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَفِيهِ مَلَكٌ قَائِمٌ لِلَّهِ أَوْ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ»(٣) وهذا يدل على كثرتهم، ومنهم الموكلون ببني آدم بحفظ أعمالهم يكتبونها ﴿عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ﴾ [ق ١٧]، ومنهم الموكلون ببني آدم بحفظهم ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ [الرعد ١١]. وكل ما جاء في الكتاب والسنة من هذه الأعمال والأوصاف بالنسبة للملائكة فإنه يجب علينا الإيمان به وقبوله متى صح في كتاب الله أو سنة رسوله ﷺ.
وقوله: ﴿آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ﴾ وفي قراءة: ﴿وَكَتَابِهِ﴾ فأما على قراءة (كُتُب) فلا إشكال؛ لأن الكتب كثيرة، وأما على قراءة الإفراد ﴿وَكَتَابِهِ﴾ فهو مفرد مضاف فيفيد العموم.
والكتب المنزلة على الأنبياء الذي يظهر من نصوص الكتاب والسنة أنها بعدد الأنبياء كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ﴾ [الحديد ٢٥] ﴿أَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ﴾.
وقال تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ [البقرة ٢١٣]. ولكن مع ذلك نحن لا نعرف على التعيين إلا عددًا قليلًا منها: القرآن، والتوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم، وصحف موسى إن كانت غير التوراة، وإن كانت هي التوراة فالأمر ظاهر، نعرف هذه ونؤمن بها بأعيانها والباقي نؤمن به على سبيل الإجمال.
ولكن كيف الإيمان بهذه الكتب؟ نقول: الإيمان بالقرآن إيمان بأنه من عند الله وأن الله تكلم به حقيقة بلفظه ومعناه، فهو كلام الله تعالى الحروف والمعاني، هذا واحد، نؤمن أيضًا بكل خبر أخبر الله به في القرآن.
ثالثًا: نقبل كل حكم حكمَ الله به في القرآن.
رابعًا ننفذ كل حكمٍ حكمَ الله به في القرآن.
هذه أربعة أشياء الأول نعيدها مرة ثانية: أن القرآن من عند الله نزل من الله، وأنه كلامه الحروف والمعاني.
ثانيًا: نصدق بكل خبر في الكتاب.
ثالثًا: نقبل كل حكم ما نرفضه.
رابعًا: ننفذ الأحكام؛ لأن هناك فرقًا بين القبول والتنفيذ، قد أنفذ ولا أقبل، وقد أقبل ولا أنفذ كيف؟ قد يقبل الإنسان أن الصلاة فريضة لكن ما ينفذها، وقد ينفذ الصلاة لكن لا يقبل أنها فرض يقول: هي تطوع، إن شاء فعلها، وإن شاء لم يفعلها؛ ولهذا كانت الأحكام الشرعية لا بد فيها من أمرين: قبول الحكم وأيش بعد؟ وتنفيذ الحكم والقيام به، فلا يكفي أحدهما عن الآخر.
أما الكتب السابقة فيجب علينا أن نؤمن بأنها من عند الله؛ يعني أن الله تعالى أنزل التوراة على موسى، ولكن لا يلزمنا أن نؤمن بالتوراة الموجودة بأيدي اليهود أنها هي التوراة التي أنزلها الله على موسى، لماذا؟ لأنها مُحرَّفة مكتومة ﴿قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا﴾ [الأنعام ٩١] وأيش بعد؟ ﴿وَتُخْفُونَ كَثِيرًا﴾ فيه أشياء أُخفيت أُزيلت، فيه أشياء حُرفت. إذن نؤمن بأن التوراة التي أنزلها الله على موسى حق، وأن كل خبر فيها فهو حق، وأن كل حكم فيها فهو حق، صح؟
* الطلبة: صح.
* الشيخ: وننفذ هذه الأحكام أو لا؟ لا، لا ننفذها إلا بدليل من شرعنا. وشرعنا اختلف علماؤنا هل شرع من قبلنا شرع لنا أو ليس بشرع لنا؟ فقيل: ليس بشرع مطلقًا، وقيل: شرع لنا ما لم يأتِ شرعنا بخلافه، والمسألة معروفة في أصول الفقه، كذلك بالنسبة للإنجيل نؤمن بأن الله أنزل على عيسى ابن مريم كتابًا اسمه (الإنجيل)، وأن هذا الكتاب نزل من عند الله حقًّا، وأن كل خبر فيه فهو حق، وأن كل حكم فيه فهو حق، أما امتثاله وتنفيذه فعلى التفصيل الذي في التوراة، والإنجيل أيضًا متمم للتوراة، متمم لها ومكمل لها، وليس مستقلًّا كاستقلال التوراة، ولهذا يذكر الله تعالى التوراة في القرآن كثيرًا، ولا يذكر الإنجيل بالنسبة إلى التوراة إلا قليلًا، الزبور أيضًا نُؤمن بأن الله آتى داود زبورًا، وأنه من عند الله حق، وأن أخباره حق، وأن أحكامه حق، وأما امتثالها، فعلى ما سبق، وكذلك نقول في صحف إبراهيم هكذا الإيمان بالكتب.
إنزال الله تعالى الكتب على عباده لا شك أنها من رحمة الله بهم؛ لأنها هي الطريق التي يمشون عليها ويرفضون ما سواها، ومن عدل عنها إلى حكم سواها كان كافرًا.
وقوله: ﴿وَرُسُلِهِ﴾ جمع: رسول (فَعُول) بمعنى (مُفْعَل) لا بمعنى (فاعِل) فالرسول بمعنى مُرسَل أرسله من؟ أرسله الله تعالى إلى الخلق ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر ٢٤] كل أمة جاءها نذير، ولكن هل كل نذير جاء إلى الخلق نعلم به؟
لا، هل كل نذير جاء إلى الخلق قُص علينا؟ لا، ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ﴾ [غافر ٧٨] ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [الرعد ٣٨]، فنحن نؤمن بأن الله تعالى أرسل رسلًا، وأن هؤلاء الرسل كانوا رسلًا من عند الله حقًّا، وما نزل عليهم من الكتب فهو حق، وما جاؤوا به من الأحكام فهو حق، وأما الاتباع فنتبع من؟ نتبع محمدًا ﷺ، وأما جاء به أولئك الرسل فعلى الخلاف الذي أشرنا إليه من قبل، هل شرع من قبلنا شرع لنا أو ليس بشرع لنا؟ والصحيح أنه شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه.
قال: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ لا نفرق، هنا فيه التفات من أين إلى أين؟
* طالب: من الغيبة إلى التكلم.
* الشيخ: من الغيبة إلى التكلم نعم، والتكلم حضور؛ لأنه لم يقل: لا يُفرقون ﴿كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ﴾، ومقتضى السياق لو كان على نهج واحد لقال: لا يفرقون بين أحد من رسله، لكنه قال: ﴿لَا نُفَرِّقُ﴾ وفائدة الالتفات التي يشترك فيها جميع أنواع الالتفات هي التنبيه، فائدة الالتفات التنبيه؛ لأن الكلام إذا كان على نسق واحد، فإن الإنسان ينسجم معه وربما يغيب ذِكره، وأما إذا جاء الالتفات فكأنه يقرع الذهن يقول: انتبه؛ لأنه طبعًا الإنسان إذا سار ينساق في سياق واحد ماشي منسجم، يمكن يجيه النوم، لكن إذا جاء التفات فكأنه يدق فكره ليقول: انتبه. إذن هذا الالتفات من الغيبة إلى التكلم له فائدة غير ها التنبيه، له فائدة غير التنبيه، وهو أن يقول هؤلاء المؤمنون: لا نفرق؛ يعني كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله قائلين ومعتقدين: لا نفرق بين أحد من رسله. كل الرسل عندنا في صدق ما جاؤوا به من الرسالة على حد سواء، فمحمد رسول الله ﷺ صادِق فيما جاء به من الرسالة، وعيسى بن مريم صادق، وموسى صادق، وصالح صادق، ولوط صادق، وإبراهيم صادق، وهكذا، لا نفرق بينهم في هذا الأمر؛ أي: في صدق رسالتهم والإيمان بها، لكن نفرق بينهم فيما كُلفنا به فنعمل بشريعة محمد، وأما شريعة أولئك فعلى ما ذكرنا من الخلاف.
وهل نفي التفريق هنا نفي للتفضيل؛ يعني لا نفرق بين أحد منهم حتى في المفاضلة؟
الجواب: لا؛ لأن الله تعالى قال: ﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ﴾ [الإسراء ٥٥]، وقال تعالى: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ [البقرة ٢٥٣]، ففي المفاضلة نفرق، ونُنزل كل إنسان منهم منزلته، لكن في مقام النبوة وصِدق ما جاؤوا به هم على حد سواء، نؤمن بهم جميعًا.
وقوله: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا﴾ هذا معطوف على قوله: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ﴾ يعني (وقالوا) أي: الرسول ومن آمن معه ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ﴾ (غفرانَ): مفعول سمعنا وأطعنا.
* طالب: سمعنا وأطعنا.
* الشيخ: (سمعنا) فعل وفاعل و(أطعنا) فعل وفاعل، و(غفرانَ) منصوب، أفلا يكون مفعولًا به لـ (سمعنا) و(أطعنا)؟
* الطلبة: لا (...).
* الشيخ: لا، لا، ولهذا يحسن أن تقف فتقول: ﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ ثم تستأنف فتقول: ﴿غُفْرَانَكَ﴾؛ لأن (غفرانَ) مفعول لفعل محذوف تقديره: نسألك غفرانَك.
قوله: ﴿وَقَالُوا﴾ أي: الرسول والمؤمنون ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ يعني: سمعنا ما أمرتنا به وأطعناه، سمعنا ما نهيتنا عنه وأطعناك؛ فالأول: الأمر نمتثل، والثاني: أيش؟ نجتنبه.
واعلم أن الناس في مقام الوحي وتلقيه ينقسمون إلى أقسام: منهم من لا يسمع فيعرض إعراضًا كليًّا ﴿وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [النور ٤٨] لا يسمع إطلاقًا، ومنهم من يسمع ولا يطيع، ومنهم من يسمع ويطيع، هل يمكن أن تأتي القسمة الرابعة من يطيع ولا يسمع؟
* الطلبة: لا.
* الشيخ: ما يمكن؛ لأنه لن يطيع إلا ما سمع، فالناس إذن بالنسبة لتلقي الوحي ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: قسم مُعرض لا يسمع، ولا يطيع، ولا يلتفت، بل هو مستكبر، وقسم معاند، يسمع ولكن لا يطيع، فعنده علم بما أنزل الله وبحدود الله، ولكنه لا يطيع؛ يقولون: سمعنا وعصينا نسأل الله العافية، قسم ثالث: يسمع ويطيع، وهؤلاء هم المؤمنون، هم المؤمنون الذين يقولون: سمعنا وأطعنا، ولكن مع ذلك هل يحاولون التسهيل بعد الانقياد والطاعة؟
الجواب: نعم، يحاولون التسهيل إذا أمكن، ولهذا لما أمر النبي ﷺ بكسر أواني اللحم الذي طُبخ من الحُمُر لما أمر بكسر هذه الأواني التي طُبخت فيها الحمر قالوا: أو نغسلها؟ فقال: «أَوْ ذَاكَ»(٤) ما عاندوا، لكن طلبوا التخفيف، فطلب التخفيف لا ينافي الانقياد، أما لو قالوا: لا نفعل فهذا -لا شك- أنه معصية، لكن المؤمنون يقولون: سمعنا وأطعنا، ومع ذلك ربما يسألون التخفيف.
﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ قال الله تعالى في كتابه: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (٢١) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [الأنفال ٢١ - ٢٣].
* طالب: ما الفرق بين طلب التخفيف وبين السؤال عمومًا في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ [المائدة ١٠١]؟
* الشيخ: هذا يسألون عن أشياء ما أنزل الله بها حكمًا فيقولون: أهذا حرام؟ أهذا واجب؟ وما أشبه ذلك، فربما أنزل الله التحريم أو الوجوب فساءهم ذلك لكونه أُوجب عليهم بسبب سؤالهم وتعنتهم كما جرى لبني إسرائيل لما قال لهم موسى: اذبحوا بقرة قالوا: ﴿ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ﴾ [البقرة ٦٨]، لما أخبرهم قالوا: ﴿ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا﴾ [البقرة: ٦٩]﴾ لما أخبرهم قالوا: ﴿ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ﴾ في عملها، الأول: في سنها، والثاني: في لونها، والثالث: في عملها، فشددوا فشدد الله عليهم، لو أنهم ذبحوا بقرة من أول الأمر سهل الأمر.
* طالب: بالنسبة لقراءة الكتاب، ما يمكن نقول مثلًا: إنه قرآن والإيمان بالقرآن يستلزم الإيمان بالكتب؟
* الشيخ: لا يمكن أن نقول ذلك؛ لأن القراءتين يفسر بعضهما بعضًا، فلما جُمعت في القراءة الثانية عُرف أن المراد بالقراءة الإفراد المراد به الجمع، ثم من أجل أن تتلاءم الكلمات كلها دالة على الجمع.
* طالب: قول النبي ﷺ في صحيح البخاري: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ ابْنِ مَتَّى»(٥) (...).
* الشيخ: لا، قال ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام لما رأى ما حصل بين الأنصار واليهود من المشاجرة خاف أن يكون هناك فتنة فقال: لا تفضلوني على هذا؛ لأن هذا قد يُفسر بأنه عصبية، وأنكم أيها الأنصار أو أيها العرب متعصبون للنبي العربي ما هو للحق.
* الطالب: الذي لا يعلم هذه الأحكام، الذي لا يعلم بعض ما في القرآن من أحكام هل يُقال: إنه ليس بمؤمن بالقرآن؟
* الشيخ: نعم، ليس بمؤمن الإيمان الكامل فيُعطى ما يستحقه من الوصف ما لم يكن تركه لهذا العمل المعين موجبًا للكفر فيكون كافرًا.
(٦)
(١) متفق عليه؛ البخاري (٣٢٣٢) ومسلم (١٧٤ / ٢٨٠) من حديث ابن مسعود بنحوه.
(٢) أخرجه مسلم (٢٩٩٦ / ٦٠) من حديث عائشة.
(٣) أخرجه الترمذي (٢٣١٢) وابن ماجة (٤١٩٠) من حديث أبي ذر.
(٤) متفق عليه؛ البخاري (٤١٩٦) ومسلم (١٢٣) من حديث سلمة بن الأكوع.
(٥) متفق عليه؛ البخاري (٣٣٩٥) ومسلم (٢٣٧٧ / ١٦٧) من حديث ابن عباس.
(٦) اختُصِرَ كلام المؤلف لشدة طوله
أضواء البيان — محمد الأمين الشنقيطي (١٣٩٤ هـ)
﴿لَا یُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَیۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَاۤ إِن نَّسِینَاۤ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَیۡنَاۤ إِصۡرࣰا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَاۤۚ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَـٰفِرِینَ﴾ [البقرة ٢٨٦]
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا﴾ [البقرة: ٢٨٦]، لَمْ يُبَيِّنْ هُنا هَلْ أجابَ دُعاءَهم هَذا أوْ لا ؟ وأشارَ إلى أنَّهُ أجابَهُ بِقَوْلِهِ في الخَطَأِ: ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ فِيما أخْطَأْتُمْ بِهِ﴾ الآيَةَ [الأحزاب: ٥]، وأشارَ إلى أنَّهُ أجابَهُ في النِّسْيانِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَإمّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ القَوْمِ الظّالِمِينَ﴾ [الأنعام: ٦٨]، فَإنَّهُ ظاهِرٌ في أنَّهُ قَبْلَ الذِّكْرى لا إثْمَ عَلَيْهِ في ذَلِكَ، ولا يَقْدَحُ في هَذا أنَّ آيَةَ: ﴿وَإمّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ﴾ مَكِّيَّةٌ؛ وآيَةَ: ﴿لا تُؤاخِذْنا إنْ نَسِينا﴾، مَدَنِيَّةٌ إذْ لا مانِعَ مِن بَيانِ المَدَنِيِّ بِالمَكِّيِّ كَعَكْسِهِ.
وَقَدْ ثَبَتَ في ”صَحِيحِ مُسْلِمٍ“ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمّا قَرَأ: ﴿رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا﴾، قالَ اللَّهُ تَعالى: نَعَمْ» .
* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿رَبَّنا ولا تَحْمِلْ عَلَيْنا إصْرًا كَما حَمَلْتَهُ عَلى الَّذِينَ﴾، لَمْ يُبَيِّنْ هُنا هَلْ أجابَ دُعاءَهم هَذا أوْ لا ؟ ولَمْ يُبَيِّنِ الإصْرَ الَّذِي كانَ مَحْمُولًا عَلى مَن قَبْلَنا، وبَيَّنَ أنَّهُ أجابَ دُعاءَهم هَذا في مَواضِعَ أُخَرَ
• كَقَوْلِهِ: ﴿وَيَضَعُ عَنْهم إصْرَهم والأغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف: ١٥٧]،
• وقَوْلِهِ: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلّا وُسْعَها﴾،
• وقَوْلِهِ: ﴿وَما جَعَلَ عَلَيْكم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ﴾ [الحج: ٧٨]،
• وقَوْلِهِ: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ﴾ الآيَةَ [البقرة: ١٨٥]،
إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ.
وَأشارَ إلى بَعْضِ الإصْرِ الَّذِي حُمِلَ عَلى مَن قَبْلَنا بِقَوْلِهِ: ﴿فَتُوبُوا إلى بارِئِكم فاقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٥٤]؛ لِأنَّ اشْتِراطَ قَتْلِ النَّفْسِ في قَبُولِ التَّوْبَةِ مِن أعْظَمِ الإصْرِ، والإصْرُ الثِّقْلُ في التَّكْلِيفِ ومِنهُ قَوْلُ النّابِغَةِ:
[ البَسِيطِ ]
يا مانِعَ الضَّيْمِ أنْ يَغْشى سَراتَهم والحامِلُ الإصْرَ عَنْهم بَعْدَما عَرَفُوا
تفسير ابن قيّم الجوزيّة — ابن القيم (٧٥١ هـ)
﴿لَا یُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَیۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَاۤ إِن نَّسِینَاۤ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَیۡنَاۤ إِصۡرࣰا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَاۤۚ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَـٰفِرِینَ﴾ [البقرة ٢٨٦]
﴿لَها ما كَسَبَتْ وعَلَيْها ما اكْتَسَبَتْ﴾ يعني من السيئات لأن الذنوب يوصل إليها بواسطة الشهوة والشيطان والهوى والحسنة تنال بهبة الله من غير واسطة شهوة ولا إغراء عدو فهذا الفرق بينهما على ما قاله السهيلي وفيه فرق أحسن من هذا وهو أن الاكتساب يستدعي التعمل والمحاولة والمعاناة فلم يجعل على العبد إلا ما كان من هذا القبيل الحاصل بسعيه ومعاناته وتعمله وأما الكسب فيحصل بأدنى ملابسة حتى بالهم بالحسنة ونحو ذلك فخص الشر بالاكتساب والخير بأعم منه ففي هذا مطابقة للحديث الصحيح: "إذا هم عبدي بحسنة فاكتبوها وإن هم بسيئة فلا تكتبوها "
رواه البخاري ومسلم.
وأما حديث: "الواسطة وعدمها" فضعيف لأن الخير أيضا بواسطة الرسول والملك والإلهام والتوفيق فهذا في مقابلة وسائط الشرط فالفرق ما ذكرناه والله أعلم.
* (فائدة)
الاكتساب أبلغ من الكسب، ولهذا كان في العمل الذي يكون على صاحبه، والكسب فيما له، قال تعالى: ﴿لَها ما كَسَبَتْ وعَلَيْها ما اكْتَسَبَتْ﴾ تنبيهًا على أن الثواب يحصل لها بأدنى سعى وكسب، وأن العقاب إنما هو باكتسابها وتصرفها وما تعانيه.
وإذا علم هذا فالتلذذ بالبلوى والاستبشار باختيار الله سبحانه لا يخص الاصطبار، بل يكون مع الصبر ومع التصبر.
ولكن لما كان الاصطبار أبلغ من الصبر وأقوى كان بهذا التلذذ والاستبشار أولى. والله أعلم.
﴿رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا﴾
* (فائدة)
وللنسخ معنى آخر هو النسخ من أفهام المخاطبين ما فهموه مما لم يرده ولا دل اللفظ عليه وإن أوهمه كما أطلق الصحابة النسخ على قوله: ﴿وَإنْ تُبْدُوا ما في أنْفُسِكم أو تُخْفُوهُ يُحاسِبْكم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشاءُ﴾ قالوا نسختها قوله: ﴿رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا﴾ الآية.
فهذا نسخ من الفهم لا نسخ للحكم الثابت فإن المحاسبة لا تستلزم العقاب في الآخرة ولا في الدنيا أيضا ولهذا عمهم بالمحاسبة ثم أخبر بعدها أنه يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ففهم
المؤاخذة التي هي المعاقبة من الآية تحميل لها فوق وسعها فرفع هذا المعنى من فهمه بقوله: ﴿رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا﴾ إلى آخرها فهذا رفع لفهم غير المراد من إلقاء الملك وذاك رفع لما ألقاه غير الملك في أسماعهم أو في التمني.
التحرير والتنوير — ابن عاشور (١٣٩٣ هـ)
﴿لَا یُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَیۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَاۤ إِن نَّسِینَاۤ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَیۡنَاۤ إِصۡرࣰا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَاۤۚ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَـٰفِرِینَ﴾ [البقرة ٢٨٦]
﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وعَلَيْها ما اكْتَسَبَتْ﴾ الأظْهَرُ أنَّهُ مِن كَلامِ اللَّهِ تَعالى، لا مِن حِكايَةِ كَلامِ الرَّسُولِ والمُؤْمِنِينَ، فَيَكُونُ اعْتِراضًا بَيْنَ الجُمَلِ المَحْكِيَّةِ بِالقَوْلِ، وفائِدَتُهُ إظْهارُ ثَمَرَةِ الإيمانِ، والتَّسْلِيمِ، والطّاعَةِ، فَأعْلَمَهُمُ اللَّهُ بِأنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ عَلَيْهِمْ في هَذا الدِّينِ التَّكْلِيفَ بِما فِيهِ مَشَقَّةٌ، وهو مَعَ ذَلِكَ تَبْشِيرٌ بِاسْتِجابَةِ دَعْوَتِهِمُ المُلَقَّنَةِ، أوِ الَّتِي أُلْهِمُوها: وهي ﴿رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إنْ نَسِينا﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ﴾ قَبْلَ أنْ يَحْكِيَ دَعَواتِهِمْ تِلْكَ.
ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مِن كَلامِ الرَّسُولِ والمُؤْمِنِينَ، كَأنَّهُ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِمْ ﴿سَمِعْنا وأطَعْنا﴾ [البقرة: ٢٨٥]، أيْ: عَلِمْنا تَأْوِيلَ قَوْلِ رَبِّنا ﴿وإنْ تُبْدُوا ما في أنْفُسِكم أوْ تُخْفُوهُ﴾ [البقرة: ٢٨٤] بِأنَّهُ يَدْخُلُها المُؤاخَذَةُ بِما في الوُسْعِ، مِمّا أُبْدِيَ وما أُخْفِيَ، وهو ما يَظْهَرُ لَهُ أثَرٌ في الخارِجِ اخْتِيارًا، أوْ يُعْقَدُ عَلَيْهِ القَلْبُ ويَطَمْئِنُّ بِهِ، إلّا أنَّ قَوْلَهُ: ﴿لَها ما كَسَبَتْ﴾ إلخ، يُبْعِدُ هَذا، إذْ لا قِبَلَ لَهم بِإثْباتِ ذَلِكَ.
فَعَلى أنَّهُ مِن كَلامِ اللَّهِ فَهو نَسْخٌ لِقَوْلِهِ ﴿وإنْ تُبْدُوا ما في أنْفُسِكم أوْ تُخْفُوهُ﴾ [البقرة: ٢٨٤] وهَذا مَرْوِيٌّ في صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ وابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: «لَمّا نَزَلَتْ ﴿وإنْ تُبْدُوا ما في أنْفُسِكم أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكم بِهِ اللَّهُ﴾ [البقرة: ٢٨٤] اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلى أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ فَأتَوْهُ وقالُوا لا نُطِيقُها، فَقالَ النَّبِيءُ: قُولُوا: سَمِعْنا وأطَعْنا وسَلَّمْنا، فَألْقى اللَّهُ الإيمانَ في قُلُوبِهِمْ، فَلَمّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَها اللَّهُ تَعالى فَأنْزَلَ: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلّا وُسْعَها»﴾ وإطْلاقُ النَّسْخِ عَلى هَذا اصْطِلاحٌ لِلْمُتَقَدِّمِينَ، والمُرادُ البَيانُ والتَّخْصِيصُ؛ لِأنَّ الَّذِي تَطْمَئِنُّ لَهُ النَّفْسُ: أنَّ هَذِهِ الآياتِ مُتَتابِعَةُ النَّظْمِ، ومَعَ ذَلِكَ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ نَزَلَتْ مُنَجَّمَةً، فَحَدَثَ بَيْنَ فَتْرَةِ نُزُولِها ما ظَنَّهُ بَعْضُ المُسْلِمِينَ حَرَجًا.
و”الوُسْعُ“ في القُرْآنِ بِضَمِّ الواوِ، وهو في كَلامِ العَرَبِ مُثَلَّثُ الواوِ، وهو الطّاقَةُ والِاسْتِطاعَةُ، والمُرادُ بِهِ هُنا ما يُطاقُ ويُسْتَطاعُ، فَهو مِن إطْلاقِ المَصْدَرِ وإرادَةِ المَفْعُولِ، والمُسْتَطاعُ هو ما اعْتادَ النّاسُ قُدْرَتُهم عَلى أنْ يَفْعَلُوهُ إنْ تَوَجَّهَتْ إرادَتُهم لِفِعْلِهِ مَعَ السَّلامَةِ وانْتِفاءِ المَوانِعِ.
وهَذا دَلِيلٌ عَلى عَدَمِ وُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِما فَوْقَ الطّاقَةِ في أدْيانِ اللَّهِ تَعالى لِعُمُومِ (نَفْسًا) في سِياقِ النَّفْيِ، لِأنَّ اللَّهَ تَعالى ما شَرَعَ التَّكْلِيفَ إلّا لِلْعَمَلِ واسْتِقامَةِ أحْوالِ الخَلْقِ، فَلا يُكَلِّفُهم ما لا يُطِيقُونَ فِعْلَهُ، وما ورَدَ مِن ذَلِكَ فَهو في سِياقِ العُقُوباتِ، وهَذا حُكْمٌ عامٌّ في الشَّرائِعِ كُلِّها.
وامْتازَتْ شَرِيعَةُ الإسْلامِ بِاليُسْرِ والرِّفْقِ، بِشَهادَةِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما جَعَلَ عَلَيْكم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ﴾ [الحج: ٧٨] وقَوْلِهِ: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ﴾ [البقرة: ١٨٥] ولِذَلِكَ كانَ مِن قَواعِدِ الفِقْهِ العامَّةِ: المَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ، وكانَتِ المَشَقَّةُ مَظِنَّةَ الرُّخْصَةِ، وضَبْطُ المَشاقِّ المُسْقِطَةِ لِلْعِبادَةِ مَذْكُورٌ في الأُصُولِ، وقَدْ أشْبَعْتُ القَوْلَ فِيهِ في كِتابِي المُسَمّى (مَقاصِدُ الشَّرِيعَةِ) وما ورَدَ مِنَ التَّكالِيفِ الشّاقَّةِ فَأمْرٌ نادِرٌ، في أوْقاتِ الضَّرُورَةِ، كَتَكْلِيفِ الواحِدِ مِنَ المُسْلِمِينَ بِالثَّباتِ لِلْعَشْرَةِ مِنَ المُشْرِكِينَ في أوَّلِ الإسْلامِ وقِلَّةِ المُسْلِمِينَ.
وهَذِهِ المَسْألَةُ هي المُعَنْوَنَةُ في كُتُبِ الأصْلَيْنِ بِمَسْألَةِ التَّكْلِيفِ بِالمُحالِ، والتَّكْلِيفِ بِما لا يُطاقُ، وهي مَسْألَةٌ أرَنَّتْ بِها كُتُبُ الأشاعِرَةِ والمُعْتَزِلَةِ، واخْتَلَفُوا فِيها اخْتِلافًا شَهِيرًا دَعا إلَيْهِ التِزامُ الفَرِيقَيْنِ لِلَوازِمِ أُصُولِهِمْ وقَواعِدِهِمْ، فَقالَتِ الأشاعِرَةُ: يَجُوزُ عَلى اللَّهِ تَكْلِيفُ ما لا يُطاقُ بِناءً عَلى قاعِدَتِهِمْ في نَفْيِ وُجُوبِ الصَّلاحِ عَلى اللَّهِ، وأنَّ ما يَصْدُرُ مِنهُ تَعالى كُلُّهُ عَدْلٌ لِأنَّهُ مالِكُ العِبادِ، وقاعِدَتُهم في أنَّهُ تَعالى يَخْلُقُ ما يَشاءُ وعَلى قاعِدَتِهِمْ في أنَّ ثَمَرَةَ التَّكْلِيفِ لا تَخْتَصُّ بِقَصْدِ الِامْتِثالِ بَلْ قَدْ تَكُونُ لِقَصْدِ التَّعْجِيزِ والِابْتِلاءِ وجَعْلِ الِامْتِثالِ عَلامَةً عَلى السَّعادَةِ، وانْتِفائِهِ عَلامَةً عَلى الشَّقاوَةِ وتَرَتُّبِ الإثْمِ لِأنَّ لِلَّهِ تَعالى إثابَةَ العاصِي، وتَعْذِيبَ المُطِيعِ، فَبِالأوْلى تَعْذِيبُ مَن يَأْمُرُهُ بِفِعْلٍ مُسْتَحِيلٍ أوْ مُتَعَذَّرٍ، واسْتَدَلُّوا عَلى ذَلِكَ بِحَدِيثِ تَكْلِيفِ المُصَوِّرِ بِنَفْخِ الرُّوحِ في الصُّورَةِ وما هو بِنافِخٍ، وتَكْلِيفِ الكاذِبِ في الرُّؤْيا بِالعَقْدِ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ وما هو بِفاعِلٍ، ولا دَلِيلَ فِيهِ لِأنَّ هَذا في أُمُورِ الآخِرَةِ، ولِأنَّهُما خَبَرا آحادٍ لا تَثْبُتُ بِمِثْلِها أُصُولُ الدِّينِ. وقالَتِ المُعْتَزِلَةُ: يَمْتَنِعُ التَّكْلِيفُ بِما لا يُطاقُ بِناءً عَلى قاعِدَتِهِمْ في أنَّهُ يَجِبُ لِلَّهِ فِعْلُ الصَّلاحِ ونَفْيُ الظُّلْمِ عَنْهُ، وقاعِدَتِهِمْ في أنَّهُ تَعالى لا يَخْلُقُ المُنْكَراتِ مِنَ الأفْعالِ، وقاعِدَتِهِمْ في أنَّ ثَمَرَةَ التَّكْلِيفِ هو الِامْتِثالُ، وإلّا لَصارَ عَبَثًا وهو مُسْتَحِيلٌ عَلى اللَّهِ، وأنَّ اللَّهَ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ تَعْذِيبُ المُطِيعِ وإثابَةُ العاصِي.
واسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الآيَةِ وبِالآياتِ الدّالَّةِ عَلى أُصُولِها، مِثْلِ ﴿ولا يَظْلِمُ رَبُّكَ أحَدًا﴾ [الكهف: ٤٩] ﴿وما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: ١٥] ﴿قُلْ إنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالفَحْشاءِ﴾ [الأعراف: ٢٨] إلخ.
والتَّحْقِيقُ أنَّ الَّذِي جَرَّ إلى الخَوْضِ في المَسْألَةِ هو المُناظَرَةُ في خَلْقِ أفْعالِ العِبادِ، فَإنَّ الأشْعَرِيَّ لَمّا نَفى قُدْرَةَ العَبْدِ، وقالَ بِالكَسْبِ، وفَسَّرَهُ بِمُقارَنَةِ قُدْرَةِ العَبْدِ لِحُصُولِ المَقْدُورِ دُونَ أنْ تَكُونَ قُدْرَتُهُ مُؤَثِّرَةً فِيهِ، ألْزَمَهُمُ المُعْتَزِلَةُ القَوْلَ بِأنَّ اللَّهَ كَلَّفَ العِبادَ بِما لَيْسَ في مَقْدُورِهِمْ، وذَلِكَ تَكْلِيفٌ بِما لا يُطاقُ، فالتَزَمَ الأشْعَرِيُّ ذَلِكَ، وخالَفَ إمامُ الحَرَمَيْنِ والغَزالِيُّ والأشْعَرِيُّ في جَوازِ تَكْلِيفِ ما لا يُطاقُ، والآيَةُ لا تَنْهَضُ حُجَّةً عَلى كَلامِ الفَرِيقَيْنِ في حُكْمِ إمْكانِ ذَلِكَ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ المُجَوِّزُونَ: هَلْ هو واقِعٌ، وقَدْ حَكى القُرْطُبِيُّ الإجْماعَ عَلى عَدَمِ الوُقُوعِ وهو الصَّوابُ في الحِكايَةِ، وقالَ إمامُ الحَرَمَيْنِ في البُرْهانِ: والتَّكالِيفُ كُلُّها عِنْدَ الأشْعَرِيِّ مِنَ التَّكْلِيفِ بِما لا يُطاقُ؛ لِأنَّ المَأْمُوراتِ كُلَّها مُتَعَلِّقَةٌ بِأفْعالٍ هي عِنْدَ الأشْعَرِيِّ غَيْرُ مَقْدُورَةٍ لِلْمُكَلَّفِ، فَهو مَأْمُورٌ بِالصَّلاةِ وهو لا يَقْدِرُ عَلَيْها، وإنَّما يُقْدِرُهُ اللَّهُ تَعالى عِنْدَ إرادَةِ الفِعْلِ مَعَ سَلامَةِ الأسْبابِ والآلاتِ.
وما ألْزَمَهُ إمامُ الحَرَمَيْنِ الأشْعَرِيَّ إلْزامٌ باطِلٌ؛ لِأنَّ المُرادَ بِما لا يُطاقُ ما لا تَتَعَلَّقُ بِهِ قُدْرَةُ العَبْدِ الظّاهِرَةُ، المُعَبَّرُ عَنْها بِالكَسْبِ، لِلْفَرْقِ البَيِّنِ بَيْنَ الأحْوالِ الظّاهِرَةِ، وبَيْنَ الحَقائِقِ المَسْتُورَةِ في نَفْسِ الأمْرِ، وكَذَلِكَ لا مَعْنًى لِإدْخالِ ما عَلِمَ اللَّهُ عَدَمَ وُقُوعِهِ، كَأمْرِ أبِي جَهْلٍ بِالإيمانِ مَعَ عِلْمِ اللَّهِ بِأنَّهُ لا يُؤْمِنُ، في مَسْألَةِ التَّكْلِيفِ بِما لا يُطاقُ، أوْ بِالمُحالِ، لِأنَّ عِلْمَ اللَّهِ ذَلِكَ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أحَدٌ، وأُورِدَ عَلَيْهِ أنَّ النَّبِيءَ ﷺ دَعا أبا لَهَبٍ إلى الإسْلامِ وقَدْ عَلِمَ اللَّهُ أنَّهُ لا يُسْلِمُ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿تَبَّتْ يَدا أبِي لَهَبٍ وتَبَّ﴾ [المسد: ١] إلى قَوْلِهِ: ﴿سَيَصْلى نارًا ذاتَ لَهَبٍ﴾ [المسد: ٣] فَقَدْ يُقالُ: إنَّهُ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ لَمْ يُخاطَبْ بِطَلَبِ الإيمانِ وإنَّما خُوطِبَ قَبْلَ ذَلِكَ وبِذَلِكَ نَسْلَمُ مِن أنْ نَقُولَ: إنَّهُ خارِجٌ عَنِ الدَّعْوَةِ ومِن أنْ نَقُولَ: إنَّهُ مُخاطَبٌ بَعْدَ نُزُولِ الآيَةِ.
وهَذِهِ الآيَةُ تَقْتَضِي عَدَمَ وُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِما لا يُطاقُ في الشَّرِيعَةِ، بِحَسَبِ المُتَعارَفِ في إرادَةِ البَشَرِ وقُدَرِهِمْ، دُونَ ما هو بِحَسَبِ سِرِّ القَدَرِ والبَحْثِ عَنْ حَقِيقَةِ القُدْرَةِ الحادِثَةِ، نَعَمْ يُؤْخَذُ مِنها الرَّدُّ عَلى الجَبْرِيَّةِ.
وقَوْلُهُ: ﴿لَها ما كَسَبَتْ وعَلَيْها ما اكْتَسَبَتْ﴾ حالٌ مِن ”نَفْسًا“ لِبَيانِ كَيْفِيَّةِ الوُسْعِ الَّذِي كُلِّفَتْ بِهِ النَّفْسُ: وهو أنَّهُ إنْ جاءَتْ بِخَيْرٍ كانَ نَفْعُهُ لَها وإنْ جاءَتْ بِشَرٍّ كانَ ضَرُّهُ عَلَيْها، وهَذا التَّقْسِيمُ حاصِلٌ مِنَ التَّعْلِيقِ بِواسِطَةِ (اللّامِ) مَرَّةً وبِواسِطَةٍ (عَلى) أُخْرى، وأمّا (كَسَبَتْ واكْتَسَبَتْ) فَبِمَعْنًى واحِدٍ في كَلامِ العَرَبِ، لِأنَّ المُطاوَعَةَ في (اكْتَسَبَ) لَيْسَتْ عَلى بابِها، وإنَّما عَبَّرَ هُنا مَرَّةً بِـ (كَسَبَ) وأُخْرى بِـ (اكْتَسَبَ) تَفَنُّنًا وكَراهِيَةَ إعادَةِ الكَلِمَةِ بِعَيْنِها، كَما فَعَلَ ذُو الرُّمَّةِ في قَوْلِهِ:
ومُطْعَمِ الصَّيْدِ هَبّالٍ لِبُغْيَتِهِ ألْفى أباهُ بِذاكَ الكَسْبِ مُكْتَسِبا
وقَوْلُ النّابِغَةِ:
فَحَمَلْتُ بَرَّةَ واحْتَمَلْتَ فَجارِ
وابْتُدِئَ أوَّلًا بِالمَشْهُورِ الكَثِيرِ، ثُمَّ أُعِيدَ بِمُطاوِعِهِ، وقَدْ تَكُونُ في اخْتِيارِ الفِعْلِ الَّذِي أصْلُهُ دالٌّ عَلى المُطاوَعَةِ، إشارَةٌ إلى أنَّ الشُّرُورَ يَأْمُرُ بِها الشَّيْطانُ، فَتَأْتَمِرُ النَّفْسُ وتُطاوِعُهُ وذَلِكَ تَبْغِيضٌ مِنَ اللَّهِ لِلنّاسِ في الذُّنُوبِ، واخْتِيرَ الفِعْلُ الدّالُّ عَلى اخْتِيارِ النَّفْسِ لِلْحَسَناتِ، إشارَةً إلى أنَّ اللَّهَ يَسُوقُ إلَيْها النّاسَ بِالفِطْرَةِ، ووَقَعَ في الكَشّافِ أنَّ فِعْلَ المُطاوَعَةِ لِدَلالَتِهِ عَلى الِاعْتِمالِ، وكانَ الشَّرُّ مُشْتَهًى لِلنَّفْسِ، فَهي تَجِدُّ في تَحْصِيلِهِ، فَعَبَّرَ عَنْ فِعْلِها ذَلِكَ بِالِاكْتِسابِ.
والمُرادُ بِـ (ما اكْتَسَبَتْ) الشُّرُورُ، فَمِن أجْلِ ذَلِكَ ظَنَّ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ أنَّ الكَسْبَ هو اجْتِناءُ الخَيْرِ، والِاكْتِسابُ هو اجْتِناءُ الشَّرِّ، وهو خِلافُ التَّحْقِيقِ؛ فَفي القُرْآنِ ﴿ولا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلّا عَلَيْها﴾ [الأنعام: ١٦٤] - ﴿ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إلّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ﴾ [يونس: ٥٢] - وقَدْ قِيلَ: إنَّ (اكْتَسَبَ) إذا اجْتَمَعَ مَعَ (كَسَبَ) خُصَّ بِالعَمَلِ الَّذِي فِيهِ تَكَلُّفٌ، لَكِنْ لَمْ يَرِدِ التَّعْبِيرُ بِـ (اكْتَسَبَ) في جانِبِ فِعْلِ الخَيْرِ.
وفِي هَذِهِ الآيَةِ مَأْخَذٌ حَسَنٌ لِأبِي الحَسَنِ الأشْعَرِيِّ في تَسْمِيَتِهِ اسْتِطاعَةَ العَبْدِ كَسْبًا واكْتِسابًا؛ فَإنَّ اللَّهَ وصَفَ نَفْسَهُ بِالقُدْرَةِ ولَمْ يَصِفِ العِبادَ بِالقُدْرَةِ، ولا أسْنَدَ إلَيْهِمْ فِعْلَ ”قَدَرَ“ وإنَّما أسْنَدَ إلَيْهِمُ الكَسْبَ، وهو قَوْلٌ يَجْمَعُ بَيْنَ المُتَعارِضاتِ ويَفِي بِتَحْقِيقِ إضافَةِ الأفْعالِ إلى العِبادِ، مَعَ الأدَبِ في عَدَمِ إثْباتِ صِفَةِ القُدْرَةِ لِلْعِبادِ، وقَدْ قِيلَ: إنَّ أوَّلَ مَنِ اسْتَعْمَلَ كَلِمَةَ الكَسْبِ هو الحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّجّارُ، رَأْسُ الفِرْقَةِ النَّجّارِيَّةِ، مِنَ الجَبْرِيَّةِ، وكانَ مُعاصِرًا لِلنَّظّامِ في القَرْنِ الثّالِثِ، ولَكِنِ اشْتُهِرَ بِها أبُو الحَسَنِ الأشْعَرِيُّ حَتّى قالَ الطَّلَبَةُ في وصْفِ الأمْرِ الخَفِيِّ: أدَقُّ مِن كَسْبِ الأشْعَرِيِّ.
وتَعْرِيفُ الكَسْبِ عِنْدَ الأشْعَرِيِّ: هو حالَةُ العَبْدِ يُقارِنُها خَلْقُ اللَّهِ فِعْلًا مُتَعَلِّقًا بِها، وعَرَّفَهُ الإمامُ الرّازِيُّ بِأنَّهُ صِفَةٌ تَحْصُلُ بِقُدْرَةِ العَبْدِ لِفِعْلِهِ الحاصِلِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ ولِلْكَسْبِ تَعارِيفُ أُخَرُ.
وحاصِلُ مَعْنى الكَسْبِ وما دَعا إلى إثْباتِهِ هو أنَّهُ لَمّا تَقَرَّرَ أنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى جَمِيعِ الكائِناتِ الخارِجَةِ عَنِ اخْتِيارِ العَبْدِ، وجَبَ أنْ يُقَرِّرَ عُمُومَ قُدْرَتِهِ عَلى كُلِّ شَيْءٍ لِئَلّا تَكُونَ قُدْرَةُ اللَّهِ غَيْرَ مُتَسَلِّطَةٍ عَلى بَعْضِ الكائِناتِ، إعْمالًا لِلْأدِلَّةِ الدّالَّةِ عَلى أنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وأنَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، ولَيْسَ لِعُمُومِ هَذِهِ الأدِلَّةِ دَلِيلٌ يُخَصِّصُهُ، فَوَجَبَ إعْمالُ هَذا العُمُومِ، ثُمَّ إنَّهُ لَمّا لَمْ يَجُزْ أنْ يُدَّعى كَوْنُ العَبْدِ مَجْبُورًا عَلى أفْعالِهِ لِلْفَرْقِ الضَّرُورِيِّ بَيْنَ الأفْعالِ الِاضْطِرارِيَّةِ كَحَرَكَةِ المُرْتَعِشِ، والأفْعالِ الِاخْتِيارِيَّةِ، كَحَرَكَةِ الماشِي والقاتِلِ، ورَعْيًا لِحَقِيقَةِ التَّكالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ لِلْعِبادِ لِئَلّا يَكُونَ التَّكْلِيفُ عَبَثًا ولِحَقِّيَّةِ الوَعْدِ والوَعِيدِ لِئَلّا يَكُونا باطِلًا، تَعَيَّنَ أنْ تَكُونَ لِلْعَبْدِ حالَةٌ تُمَكِّنُهِ مِن فِعْلِ ما يُرِيدُ فِعْلَهُ، وتَرْكِ ما يُرِيدُ تَرْكَهُ، وهي مَيْلُهُ إلى الفِعْلِ أوِ التَّرْكِ، فَهَذِهِ الحالَةُ سَمّاها الأشْعَرِيُّ الِاسْتِطاعَةَ، وسَمّاها كَسْبًا، وقالَ: إنَّها تَتَعَلَّقُ بِالفِعْلِ فَإذا تَعَلَّقَتْ بِهِ خَلَقَ اللَّهُ الفِعْلَ الَّذِي مالَ إلَيْهِ عَلى الصُّورَةِ الَّتِي اسْتَحْضَرَها ومالَ إلَيْها.
وتَقْدِيمُ المَجْرُورَيْنِ في الآيَةِ: لِقَصْدِ الِاخْتِصاصِ. أيْ لا يَلْحَقُ غَيْرَها شَيْءٌ ولا يَلْحَقُها شَيْءٌ مِن فِعْلِ غَيْرِها، وكَأنَّ هَذا إبْطالٌ لِما كانُوا عَلَيْهِ في الجاهِلِيَّةِ: مِنِ اعْتِقادِ شَفاعَةِ الآلِهَةِ لَهم عِنْدَ اللَّهِ.
وتَمَسَّكَ بِهَذِهِ الآيَةِ مَن رَأى أنَّ الأعْمالَ لا تَقْبَلُ النِّيابَةَ في الثَّوابِ والعِقابِ، إلّا إذا كانَ لِلْفاعِلِ أثَرٌ في عَمَلِ غَيْرِهِ، فَفي الحَدِيثِ «إذا ماتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلّا مِن ثَلاثٍ: صَدَقَةٍ جارِيَةٍ، وعِلْمٍ بَثَّهُ في صُدُورِ الرِّجالِ، ووَلَدٍ صالِحٍ يَدْعُو لَهُ»، وفي الحَدِيثِ «ما مِن نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إلّا كانَ عَلى ابْنِ آدَمَ الأوَّلِ كِفْلٌ مِن دَمِها، ذَلِكَ لِأنَّهُ أوَّلُ مَن سَنَّ القَتْلَ» وفي الحَدِيثِ «مَن سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أجْرُها وأجْرُ مَن عَمِلَ بِها إلى يَوْمِ القِيامَةِ، ومَن سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُها ووِزْرُ مَن عَمِلَ بِها إلى يَوْمِ القِيامَةِ» .
* * *
﴿رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا رَبَّنا ولا تَحْمِلْ عَلَيْنا إصْرًا كَما حَمَلْتَهُ عَلى الَّذِينَ مِن قَبْلِنا رَبَّنا ولا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ واعْفُ عَنّا واغْفِرْ لَنا وارْحَمْنا أنْتَ مَوْلانا فانْصُرْنا عَلى القَوْمِ الكافِرِينَ﴾ .
يَجُوزُ أنْ يَكُونَ هَذا الدُّعاءُ مَحْكِيًّا مِن قَوْلِ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ قالُوا: ﴿سَمِعْنا وأطَعْنا﴾ [البقرة: ٢٨٥] بِأنِ اتَّبَعُوا القَبُولَ والرِّضا، فَتَوَجَّهُوا إلى طَلَبِ الجَزاءِ ومُناجاةِ اللَّهِ تَعالى، واخْتِيارُ حِكايَةِ هَذا عَنْهم في آخِرِ السُّورَةِ تَكْمِلَةٌ لِلْإيذانِ بِانْتِهائِها، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ تَلْقِينًا مِن جانِبِ اللَّهِ تَعالى إيّاهم بِأنْ يَقُولُوا هَذا الدُّعاءَ، مِثْلَ ما لُقِّنُوا التَّحْمِيدَ في سُورَةِ الفاتِحَةِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: قُولُوا: ﴿رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا﴾ إلى آخِرِ السُّورَةِ، إنَّ اللَّهَ بَعْدَ أنْ قَرَّرَ لَهم أنَّهُ لا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلّا وُسْعَها، لَقَّنَهم مُناجاةً بِدَعَواتٍ هي مِن آثارِ انْتِفاءِ التَّكْلِيفِ بِما لَيْسَ في الوُسْعِ، والمُرادُ مِنَ الدُّعاءِ بِهِ طَلَبُ الدَّوامِ عَلى ذَلِكَ لِئَلّا يُنْسَخَ ذَلِكَ مِن جَرّاءِ غَضَبِ اللَّهِ كَما غَضِبَ عَلى الَّذِينَ قالَ فِيهِمْ: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ [النساء: ١٦٠] .
والمُؤاخَذَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الأخْذِ بِمَعْنى العُقُوبَةِ، كَقَوْلِهِ: ﴿وكَذَلِكَ أخْذُ رَبِّكَ إذا أخَذَ القُرى وهي ظالِمَةٌ﴾ [هود: ١٠٢] والمُفاعَلَةُ فِيهِ لِلْمُبالَغَةِ أيْ: لا تَأْخُذْنا بِالنِّسْيانِ والخَطَأِ.
والمُرادُ ما يَتَرَتَّبُ عَلى النِّسْيانِ والخَطَأِ مِن فِعْلٍ أوْ تَرْكٍ لا يُرْضِيانِ اللَّهَ تَعالى.
فَهَذِهِ دَعْوَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ دَعَوْها قَبْلَ أنْ يَعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ رَفَعَ عَنْهم ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلّا وُسْعَها﴾ وقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ والنِّسْيانُ وما اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وفي رِوايَةٍ ”وُضِعَ“، رَواهُ ابْنُ ماجَهْ وتَكَلَّمَ العُلَماءُ في صِحَّتِهِ، وقَدْ حَسَّنَهُ النَّوَوِيُّ، وأنْكَرَهُ أحْمَدُ، ومَعْناهُ صَحِيحٌ في غَيْرِ ما يَرْجِعُ إلى خِطابِ الوَضْعِ، فالمَعْنى رَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمُ المُؤاخَذَةَ فَبَقِيَتِ المُؤاخَذَةُ بِالإتْلافِ والغَراماتِ، ولِذَلِكَ جاءَ في هَذِهِ الدَّعْوَةِ ﴿لا تُؤاخِذْنا﴾ أيْ: لا تُؤاخِذْنا بِالعِقابِ عَلى فِعْلٍ: نِسْيانٍ أوْ خَطَأٍ، فَلا يَرِدُ إشْكالُ الدُّعاءِ بِما عُلِمَ حُصُولُهُ، حَتّى نَحْتاجَ إلى تَأْوِيلِ الآيَةِ بِأنَّ المُرادَ بِالنِّسْيانِ والخَطَأِ سَبَبُهُما وهو التَّفْرِيطُ والإغْفالُ كَما في الكَشّافِ.
وقَوْلُهُ: ﴿رَبَّنا ولا تَحْمِلْ عَلَيْنا إصْرًا﴾ إلخ، فَصْلٌ بَيْنَ الجُمْلَتَيْنِ المُتَعاطِفَتَيْنِ بِإعادَةِ النِّداءِ، مَعَ أنَّهُ مُسْتَغْنًى عَنْهُ لِأنَّ مُخاطَبَةَ المُنادى مُغْنِيَةٌ عَنْ إعادَةِ النِّداءِ لَكِنْ قُصِدَ مِن إعادَتِهِ إظْهارُ التَّذَلُّلِ، والحَمْلُ مَجازٌ في التَّكْلِيفِ بِأمْرٍ شَدِيدٍ يَثْقُلُ عَلى النَّفْسِ، وهو مُناسِبٌ لِاسْتِعارَةِ الإصْرِ.
وأصْلُ مَعْنى الإصْرِ ما يُؤْصَرُ بِهِ أيْ يُرْبَطُ، وتُعْقَدُ بِهِ الأشْياءُ، ويُقالُ لَهُ: الإصارُ - بِكَسْرِ الهَمْزَةِ - ثُمَّ اسْتُعْمِلَ مَجازًا في العَهْدِ والمِيثاقِ المُؤَكَّدِ فِيما يَصْعُبُ الوَفاءُ بِهِ، ومِنهُ قَوْلُهُ في آلِ عِمْرانَ: (﴿قالَ آقْرَرْتُمْ وأخَذْتُمْ عَلى ذَلِكم إصْرِي﴾ [آل عمران: ٨١]) وأُطْلِقَ أيْضًا عَلى ما يَثْقُلُ عَمَلُهُ، والِامْتِثالُ فِيهِ، وبَذَلِكَ فَسَّرَهُ الزَّجّاجُ والزَّمَخْشَرِيُّ هُنا وفي قَوْلِهِ، في سُورَةِ الأعْرافِ: ﴿ويَضَعُ عَنْهم إصْرَهُمْ﴾ [الأعراف: ١٥٧] وهو المَقْصُودُ هُنا، ومِن ثَمَّ حَسُنَتِ اسْتِعارَةُ الحَمْلِ لِلتَّكْلِيفِ؛ لِأنَّ الحَمْلَ يُناسِبُ الثِّقَلَ فَيَكُونُ قَوْلُهُ ﴿ولا تَحْمِلْ﴾ تَرْشِيحًا مُسْتَعارًا لِمُلائِمِ المُشَبَّهِ بِهِ وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿ولا تَحْمِلْ عَلَيْنا إصْرًا﴾ عَهْدًا لا نَفِي بِهِ، ونُعَذَّبُ بِتَرْكِهِ ونَقْضِهِ.
وقَوْلُهُ: ﴿كَما حَمَلْتَهُ عَلى الَّذِينَ مِن قَبْلِنا﴾ صِفَةٌ لِـ ”إصْرًا“ أيْ: عَهْدًا مِنَ الدِّينِ كالعَهْدِ الَّذِي كُلِّفَ بِهِ مَن قَبْلَنا في المَشَقَّةِ، مِثْلَ ما كُلِّفَ بِهِ بَعْضُ الأُمَمِ الماضِيَةِ مِنَ الأحْكامِ الشّاقَّةِ مِثْلِ أمْرِ بَنِي إسْرائِيلَ بِتِيهِ أرْبَعِينَ سَنَةً، وبِصِفاتٍ في البَقَرَةِ الَّتِي أُمِرُوا بِذَبْحِها نادِرَةٍ ونَحْوِ ذَلِكَ، وكُلُّ ذَلِكَ تَأْدِيبٌ لَهم عَلى مُخالَفاتٍ، وعَلى قِلَّةِ اهْتِبالٍ بِأوامِرِ اللَّهِ ورَسُولِهِ إلَيْهِمْ، قالَ تَعالى في صِفَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ ﴿ويَضَعُ عَنْهم إصْرَهُمْ﴾ [الأعراف: ١٥٧] .
وقَوْلُهُ: ﴿رَبَّنا ولا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ﴾ أيْ: ما لا نَسْتَطِيعُ حَمْلَهُ مِنَ العُقُوباتِ، والتَّضْعِيفُ فِيهِ لِلتَّعْدِيَةِ، وقِيلَ: هَذا دُعاءٌ بِمُعافاتِهِمْ مِنَ التَّكالِيفِ الشَّدِيدَةِ، والَّذِي قَبْلَهُ دُعاءٌ بِمُعافاتِهِمْ مِنَ العُقُوباتِ الَّتِي عُوقِبَتْ بِها الأُمَمُ، والطّاقَةُ في الأصْلِ الإطاقَةُ خُفِّفَتْ بِحَذْفِ الهَمْزَةِ كَما قالُوا: جابَةٌ وإجابَةٌ، وطاعَةٌ وإطاعَةٌ.
والقَوْلُ في هَذَيْنِ الدُّعاءَيْنِ كالقَوْلِ في قَوْلِهِ ﴿رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا﴾ .
وقَوْلُهُ: ﴿واعْفُ عَنّا واغْفِرْ لَنا﴾ لَمْ يُؤْتِ مَعَ هَذِهِ الدَّعَواتِ بِقَوْلِهِ ”رَبَّنا“، إمّا لِأنَّهُ تَكَرَّرَ ثَلاثَ مَرّاتٍ، والعَرَبُ تَكْرَهُ تَكْرِيرَ اللَّفْظِ أكْثَرَ مِن ثَلاثِ مَرّاتٍ إلّا في مَقامِ التَّهْوِيلِ، وإمّا لِأنَّ تِلْكَ الدَّعَواتِ المُقْتَرِنَةَ بِقَوْلِهِ ”رَبَّنا“ فُرُوعٌ لِهَذِهِ الدَّعَواتِ الثَّلاثِ، فَإنِ اسْتُجِيبَتْ تِلْكَ حَصَلَتْ إجابَةُ هَذِهِ بِالأوْلى، فَإنَّ العَفْوَ أصْلٌ لِعَدَمِ المُؤاخَذَةِ، والمَغْفِرَةَ أصْلٌ لِرَفْعِ المَشَقَّةِ، والرَّحْمَةَ أصْلٌ لِعَدَمِ العُقُوبَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ والأُخْرَوِيَّةِ، فَلَمّا كانَ تَعْمِيمًا بَعْدَ تَخْصِيصٍ كانَ كَأنَّهُ دُعاءٌ واحِدٌ.
وقَوْلُهُ: ﴿أنْتَ مَوْلانا﴾ فَصَلَهُ لِأنَّهُ كالعِلَّةِ لِلدَّعَواتِ الماضِيَةِ، أيْ: دَعَوْناكَ ورَجَوْنا مِنكَ ذَلِكَ لِأنَّكَ مَوْلانا، ومِن شَأْنِ المَوْلى الرِّفْقُ بِالمَمْلُوكِ، ولِيَكُونَ هَذا أيْضًا كالمُقَدَّمَةِ لِلدَّعْوَةِ الآتِيَةِ.
وقَوْلُهُ: ﴿فانْصُرْنا عَلى القَوْمِ الكافِرِينَ﴾ جِيءَ فِيهِ بِالفاءِ لِلتَّفْرِيعِ عَنْ كَوْنِهِ مَوْلًى، لِأنَّ شَأْنَ المَوْلى أنْ يَنْصُرَ مَوْلاهُ، ومِن هُنا يَظْهَرُ مَوْقِعُ التَّعْجِيبِ والتَّحْسِيرِ في قَوْلِ مُرَّةَ بْنِ عَدّاءٍ الفَقْعَسِيِّ:
رَأيْتُ مَوالِي الأُلى يَخْذُلُونَنِي عَلى حَدَثانِ الدَّهْرِ إذْ يَتَقَلَّبُ
وفِي التَّفْرِيعِ بِالفاءِ إيذانٌ بِتَأْكِيدِ طَلَبِ إجابَةِ الدُّعاءِ بِالنَّصْرِ، لِأنَّهم جَعَلُوهُ مُرَتَّبًا عَلى وصْفٍ مُحَقَّقٍ، وهو وِلايَةُ اللَّهِ تَعالى المُؤْمِنِينَ، قالَ تَعالى: ﴿اللَّهُ ولِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة: ٢٥٧] وفي حَدِيثِ «يَوْمِ أُحُدٍ لَمّا قالَ أبُو سُفْيانَ: لَنا العُزّى ولا عُزّى لَكم. قالَ النَّبِيءُ ﷺ أجِيبُوهُ: اللَّهُ مَوْلانا ولا مَوْلى لَكم» ووَجْهُ الِاهْتِمامِ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ أنَّها دَعْوَةٌ جامِعَةٌ لِخَيْرَيِ الدُّنْيا والآخِرَةِ، لِأنَّهم إذا نُصِرُوا عَلى العَدُوِّ، فَقَدْ طابَ عَيْشُهم وظَهَرَ دِينُهم، وسَلِمُوا مِنَ الفِتْنَةِ، ودَخَلَ النّاسُ فِيهِ أفْواجًا.
فِي الصَّحِيحِ، عَنْ أبِي مَسْعُودٍ الأنْصارِيِّ البَدْرِيِّ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «مَن قَرَأ الآيَتَيْنِ مِن آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ في لَيْلَةٍ كَفَتاهُ» وهُما مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إلَيْهِ مِن رَبِّهِ﴾ [البقرة: ٢٨٥] إلى آخِرِ السُّورَةِ، قِيلَ: مَعْناهُ كَفَتاهُ عَنْ قِيامِ اللَّيْلِ، فَيَكُونُ مَعْنى مَن قَرَأ مَن صَلّى بِهِما، وقِيلَ: مَعْناهُ كَفَتاهُ بَرَكَةً وتَعَوُّذًا مِنَ الشَّياطِينِ والمَضارِّ، ولَعَلَّ كَلا الِاحْتِمالَيْنِ مُرادٌ.
* * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ آلِ عِمْرانَ سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ، في كَلامِ النَّبِيءِ ﷺ وكَلامِ الصَّحابَةِ: سُورَةَ آلِ عِمْرانَ، فَفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أبِي أُمامَةَ: قالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ «اقْرَءُوا الزَّهْراوَيْنِ: البَقَرَةَ وآلَ عِمْرانَ» وفِيهِ عَنِ النَّوّاسِ بْنِ سَمْعانَ: قالَ سَمِعْتُ النَّبِيءَ يَقُولُ «يُؤْتى بِالقُرْآنِ يَوْمَ القِيامَةِ تَقْدُمُهُ سُورَةُ البَقَرَةِ وآلِ عِمْرانَ» ورَوى الدّارِمِيُّ في مُسْنَدِهِ: أنْ عُثْمانَ بْنَ عَفّانَ قالَ: مَن قَرَأ سُورَةَ آلِ عِمْرانَ في لَيْلَةٍ كُتِبَ لَهُ قِيامُ لَيْلَةٍ، وسَمّاها ابْنُ عَبّاسٍ، في حَدِيثِهِ في الصَّحِيحِ، قالَ: «بِتُّ في بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ فَنامَ رَسُولُ اللَّهِ حَتّى إذا كانَ نِصْفُ اللَّيْلِ أوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ أوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ فَقَرَأ الآياتِ مِن آخِرِ سُورَةِ آلِ عِمْرانَ» . ووَجْهُ تَسْمِيَتِها بِسُورَةِ آلِ عِمْرانَ أنَّها ذُكِرَتْ فِيها فَضائِلُ آلِ عِمْرانَ، وهو عِمْرانُ بْنُ ماتانَ أبُو مَرْيَمَ وآلُهُ هم زَوْجُهُ حَنَّةُ، وأُخْتُها زَوْجَةُ زَكَرِيّاءَ النَّبِيءِ، وزَكَرِيّاءُ كافِلُ مَرْيَمَ إذْ كانَ أبُوها عِمْرانُ تُوُفِّيَ وتَرَكَها حَمْلًا فَكَفَلَها زَوْجُ خالَتِها.
ووَصَفَها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالزَّهْراءِ في حَدِيثِ أبِي أُمامَةَ المُتَقَدِّمِ.
وذَكَرَ الألُوسِيُّ أنَّها تُسَمّى الأمانَ، والكَنْزَ والمُجادِلَةَ، وسُورَةَ الِاسْتِغْفارِ. ولَمْ أرَهُ لِغَيْرِهِ، ولَعَلَّهُ اقْتَبَسَ ذَلِكَ مِن أوْصافٍ وُصِفَتْ بِها هَذِهِ السُّورَةُ مِمّا ساقَهُ القُرْطُبِيُّ، في المَسْألَةِ الثّالِثَةِ والرّابِعَةِ، مِن تَفْسِيرِ أوَّلِ السُّورَةِ.
وهَذِهِ السُّورَةُ نَزَلَتْ بِالمَدِينَةِ بِالِاتِّفاقِ، بَعْدَ سُورَةِ البَقَرَةِ، فَقِيلَ أنَّها ثانِيَةٌ لِسُورَةِ البَقَرَةِ عَلى أنَّ البَقَرَةَ أوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بِالمَدِينَةِ، وقِيلَ: نَزَلَتْ بِالمَدِينَةِ سُورَةُ المُطَفِّفِينَ أوَّلًا، ثُمَّ البَقَرَةُ، ثُمَّ نَزَلَتْ سُورَةُ آلِ عِمْرانَ، ثُمَّ نَزَلَتِ الأنْفالُ في وقْعَةِ بَدْرٍ، وهَذا يَقْتَضِي أنَّ سُورَةَ آلِ عِمْرانَ نَزَلَتْ قَبْلَ وقْعَةِ بَدْرٍ، لِلِاتِّفاقِ عَلى أنَّ الأنْفالَ نَزَلَتْ في وقْعَةِ بَدْرٍ، ويُبْعِدُ ذَلِكَ أنَّ سُورَةَ آلِ عِمْرانَ اشْتَمَلَتْ عَلى التَّذْكِيرِ بِنَصْرِ المُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، وأنَّ فِيها ذِكْرَ يَوْمِ أُحُدٍ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ بَعْضُها نَزَلَ مُتَأخِّرًا. وذَكَرَ الواحِدِيُّ في أسْبابِ النُّزُولِ، عَنِ المُفَسِّرِينَ أنَّ أوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ إلى قَوْلِهِ ﴿ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: ١٣٦] نَزَلَ بِسَبَبِ وفْدِ نَجْرانَ، وهو وفْدُ السَّيِّدِ والعاقِبِ، أيْ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ مِنَ الهِجْرَةِ، ومِنَ العُلَماءِ مَن قالُوا: نَزَلَتْ سُورَةُ آلِ عِمْرانَ بَعْدَ سُورَةِ الأنْفالِ، وكانَ نُزُولُها في وقْعَةِ أُحُدٍ، أيْ شَوّالٍ سَنَةَ ثَلاثٍ، وهَذا أقْرَبُ، فَقَدِ اتَّفَقَ المُفَسِّرُونَ عَلى أنَّ قَوْلَهُ تَعالى ﴿وإذْ غَدَوْتَ مِن أهْلِكَ تُبَوِّئُ المُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ﴾ [آل عمران: ١٢١] أنَّهُ قِتالُ يَوْمِ أُحُدٍ. وكَذَلِكَ قَوْلُهُ ﴿وما مُحَمَّدٌ إلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أفَإنْ ماتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أعْقابِكُمْ﴾ [آل عمران: ١٤٤] فَإنَّهُ مُشِيرٌ إلى الإرْجافِ يَوْمَ أُحُدٍ بِقَتْلِ النَّبِيءِ ﷺ .
ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ أوَّلُها نَزَلَ بَعْدَ البَقَرَةِ إلى نِهايَةِ ما يُشِيرُ إلَيْهِ حَدِيثِ وفْدِ نَجْرانَ، وذَلِكَ مِقْدارُ ثَمانِينَ آيَةً مِن أوَّلِها إلى قَوْلِهِ ﴿وإذْ غَدَوْتَ مِن أهْلِكَ﴾ [آل عمران: ١٢١] قالَهُ القُرْطُبِيُّ في أوَّلِ السُّورَةِ، وفي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ ﴿ما كانَ لِبَشَرٍ أنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الكِتابَ﴾ [آل عمران: ٧٩] الآيَةَ. وقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ في صَدْرِ سُورَةِ الفاتِحَةِ: إنَّنا بَيَّنّا إمْكانَ تَقارُنِ نُزُولِ سُوَرٍ عِدَّةٍ في مُدَّةٍ واحِدَةٍ، فَلَيْسَ مَعْنى قَوْلِهِمْ: نَزَلَتْ سُورَةُ كَذا بَعْدَ سُورَةِ كَذا، مُرادًا مِنهُ أنَّ المَعْدُودَةَ نازِلَةً بَعْدَ أُخْرى أنَّها ابْتُدِئَ نُزُولُها بَعْدَ نُزُولِ الأُخْرى، بَلِ المُرادُ أنَّها ابْتُدِئَ نُزُولُها بَعْدَ ابْتِداءِ نُزُولِ الَّتِي سَبَقَتْها.
وقَدْ عُدَّتْ هَذِهِ السُّورَةُ الثّامِنَةَ والأرْبَعِينَ في عِدادِ سُوَرِ القُرْآنِ.
وعَدَدُ آيِها مِائَتانِ في عَدِّ الجُمْهُورِ وعَدَدُها عِنْدَ أهْلِ العَدَدِ بِالشّامِ مِائَةٌ وتِسْعٌ وتِسْعُونَ.
واشْتَمَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ، مِنَ الأغْراضِ: عَلى الِابْتِداءِ بِالتَّنْوِيهِ بِالقُرْآنِ، ومُحَمَّدٍ ﷺ، وتَقْسِيمِ آياتِ القُرْآنِ، ومَراتِبِ الأفْهامِ في تَلَقِّيها، والتَّنْوِيهِ بِفَضِيلَةِ الإسْلامِ وأنَّهُ لا يَعْدِلُهُ دِينٌ، وأنَّهُ لا يُقْبَلُ دِينٌ عِنْدَ اللَّهِ، بَعْدَ ظُهُورِ الإسْلامِ، غَيْرَ الإسْلامِ، والتَّنْوِيهِ بِالتَّوْراةِ والإنْجِيلِ، والإيماءِ إلى أنَّهُما أُنْزِلا قَبْلَ القُرْآنِ تَمْهِيدًا لِهَذا الدِّينِ فَلا يَحِقُّ لِلنّاسِ أنْ يَكْفُرُوا بِهِ، وعَلى التَّعْرِيفِ بِدَلائِلِ إلَهِيَّةِ اللَّهِ تَعالى، وانْفِرادِهِ، وإبْطالِ ضَلالَةِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِن دُونِ اللَّهِ: مَن جَعَلُوا لَهُ شُرَكاءَ، أوِ اتَّخَذُوا لَهُ أبْناءَ، وتَهْدِيدِ المُشْرِكِينَ بِأنَّ أمْرَهم إلى زَوالٍ، وألّا يَغُرَّهم ما هم فِيهِ مِنَ البَذَخِ، وأنَّ ما أُعِدَّ لِلْمُؤْمِنِينَ خَيْرٌ مِن ذَلِكَ، وتَهْدِيدِهِمْ بِزَوالِ سُلْطانِهِمْ، ثُمَّ الثَّناءِ عَلى عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ وآلِ بَيْتِهِ، وذِكْرِ مُعْجِزَةِ ظُهُورِهِ، وأنَّهُ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ، وذِكْرِ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ حَقًّا، وإبْطالِ إلَهِيَّةِ عِيسى، ومِن ثَمَّ أفْضى إلى قَضِيَّةِ وفْدِ نَجْرانَ ولَجاجَتِهِمْ، ثُمَّ مُحاجَّةِ أهِلَ الكِتابَيْنِ في حَقِيقَةِ الحَنِيفِيَّةِ وأنَّهم بُعَداءُ عَنْها، وما أخَذَ اللَّهُ مِنَ العَهْدِ عَلى الرُّسُلِ كُلِّهِمْ: أنْ يُؤْمِنُوا بِالرَّسُولِ الخاتَمِ، وأنَّ اللَّهَ جَعَلَ الكَعْبَةَ أوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ، وقَدْ أعادَ إلَيْهِ الدِّينَ الحَنِيفَ كَما ابْتَدَأهُ فِيهِ، وأوْجَبَ حَجَّهُ عَلى المُؤْمِنِينَ، وأظْهَرَ ضَلالاتِ اليَهُودِ، وسُوءَ مَقالَتِهِمْ، وافْتِرائِهِمْ في دِينِهِمْ وكِتْمانِهِمْ ما أُنْزِلَ إلَيْهِمْ. وذَكَّرَ المُسْلِمِينَ بِنِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ بِدِينِ الإسْلامِ، وأمَرَهم بِالِاتِّحادِ والوِفاقِ، وذَكَّرَهم بِسابِقِ سُوءِ حالِهِمْ في الجاهِلِيَّةِ، وهَوَّنَ عَلَيْهِمْ تَظاهُرَ مُعانِدِيهِمْ مِن أهْلِ الكِتابِ والمُشْرِكِينَ، وذَكَّرَهم بِالحَذَرِ مِن كَيْدِهِمْ وكَيْدِ الَّذِينَ أظْهَرُوا الإسْلامَ ثُمَّ عادُوا إلى الكُفْرِ فَكانُوا مَثَلًا لِتَمْيِيزِ الخَبِيثِ مِنَ الطِّيبِ، وأمَرَهم بِالِاعْتِزازِ بِأنْفُسِهِمْ، والصَّبْرِ عَلى تَلَقِّي الشَّدائِدِ، والبَلاءِ، وأذى العَدُوِّ، ووَعَدَهم عَلى ذَلِكَ بِالنَّصْرِ والتَّأْيِيدِ وإلْقاءِ الرُّعْبِ مِنهم في نُفُوسِ عَدُوِّهِمْ، ثُمَّ ذَكَّرَهم بِيَوْمِأُحُدٍ، ويَوْمِ بَدْرٍ، وضَرَبَ لَهُمُ الأمْثالَ بِما حَصَلَ فِيهِما، ونَوَّهَ، بِشَأْنِ الشُّهَداءِ مِنَ المُسْلِمِينَ، وأمَرَ المُسْلِمِينَ بِفَضائِلِ الأعْمالِ: مِن بَذْلِ المالِ في مُواساةِ الأُمَّةِ، والإحْسانِ، وفَضائِلِ الأعْمالِ، وتَرْكِ البُخْلِ، ومَذَمَّةِ الرِّبا وخُتِمَتِ السُّورَةُ بِآياتِ التَّفْكِيرِ في مَلَكُوتِ اللَّهِ.
وقَدْ عَلِمْتَ أنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ قَضِيَّةُ وفْدِ نَجْرانَ مِن بِلادِ اليَمَنِ.
ووَفْدُ نَجْرانَ هم قَوْمٌ مِن نَجْرانَ بَلَغَهم مَبْعَثُ النَّبِيءِ ﷺ، وكانَ أهْلُ نَجْرانَ مُتَدَيِّنِينَ بِالنَّصْرانِيَّةِ، وهم مِن أصْدَقِ العَرَبِ تَمَسُّكًا بِدِينِ المَسِيحِ، وفِيهِمْ رُهْبانٌ مَشاهِيرُ، وقَدْ أقامُوا لِلْمَسِيحِيَّةِ كَعْبَةً بِبِلادِهِمْ هي الَّتِي أشارَ إلَيْها الأعْشى حِينَ مَدَحَهم بِقَوْلِهِ:
فَكَعْبَةُ نَجْرانَ حَتْمٌ عَلَيْـ ـكَ حَتّى تُناخِي بِأبْوابِها
فاجْتَمَعَ وفْدٌ مِنهم يَرْأسُهُ العاقِبُ - فِيهِ سِتُّونَ رَجُلًا - واسْمُهُ عَبْدُ المَسِيحِ، وهو أمِيرُ الوَفْدِ، ومَعَهُ السَّيِّدُ واسْمُهُ الأيْهَمُ، وهو ثِمالُ القَوْمِ ووَلِيُّ تَدْبِيرِ الوَفْدِ، ومُشِيرُهُ وذُو الرَّأْيِ فِيهِ، وفِيهِمْ أبُو حارِثَةَ بْنُ عَلْقَمَةَ البَكْرِيُّ وهو أُسْقُفُهم وصاحِبُ مِدْراسِهِمْ ووَلِيُّ دِينِهِمْ، وفِيهِمْ أخُو أبِي حارِثَةَ، ولَمْ يَكُنْ مِن أهْلِ نَجْرانَ، ولَكِنَّهُ كانَ ذا رُتْبَةٍ: شَرَّفَهُ مُلُوكُ الرُّومِ ومَوَّلُوهُ. فَلَقُوا النَّبِيءَ ﷺ وجادَلَهم في دِينِهِمْ، وفي شَأْنِ أُلُوهِيَّةِ المَسِيحِ، فَلَمّا قامَتِ الحُجَّةُ عَلَيْهِمْ أصَرُّوا عَلى كُفْرِهِمْ وكابَرُوا، فَدَعاهُمُ النَّبِيءُ ﷺ إلى المُباهَلَةِ، فَأجابُوا ثُمَّ اسْتَعْظَمُوا ذَلِكَ، وتَخَلَّصُوا مِنهُ، ورَجَعُوا إلى أوْطانِهِمْ، ونَزَلَتْ بِضْعٌ وثَمانُونَ آيَةً مِن أوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ في شَأْنِهِمْ كَما في سِيرَةِ ابْنِ هِشامٍ عَنِ ابْنِ إسْحاقَ. وذَكَرَ ذَلِكَ الواحِدِيُّ والفَخْرُ، فَمَن ظَنَّ مِن أهْلِ السِّيَرِ أنَّ وفْدَ نَجْرانَ وفَدُوا في سَنَةِ تِسْعٍ فَقَدْ وهِمَ وهْمًا انْجَرَّ إلَيْهِ مِنِ اشْتِهارِ سَنَةِ تِسْعٍ بِأنَّها سَنَةُ الوُفُودِ. والإجْماعُ عَلى أنَّ سُورَةَ آلِ عِمْرانَ مِن أوائِلِ المَدَنِيّاتِ، وتَرْجِيحُ أنَّها نَزَلَتْ في وفْدِ نَجْرانَ يُعَيِّنانِ أنَّ وفْدَ نَجْرانَ كانَ قَبْلَ سَنَةِ الوُفُودِ.
0 التعليقات:
إرسال تعليق