تلاوات خاشعة

الأحد، 3 نوفمبر 2019

﴿ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ﴾ [البقرة ٣]

نتيجة بحث الصور عن الذين يؤمنون بالغيب

جامع البيان — ابن جرير الطبري (٣١٠ هـ)

﴿ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ﴾ [البقرة ٣]
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ﴾
٢٦٧- حدثنا محمد بن حُميد الرازي، قال: حدثنا سَلَمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"الذين يؤمنون"، قال: يصدِّقون.
٢٦٨- حدثني يحيى بن عثمان بن صالح السَّهمي، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"يؤمنون": يصدِّقون(١) .
٢٦٩- حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"يؤمنون": يخشَوْنَ.
٢٧٠- حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن مَعْمَر، قال: قال الزهري: الإيمانُ العملُ(٢) .
٢٧١- حُدِّثْتُ عن عمّار بن الحسن قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن العلاء بن المسيَّب بن رافع، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، قال: الإيمان: التَّصْديق(٣) .
ومعنى الإيمان عند العرب: التصديق، فيُدْعَى المصدِّق بالشيء قولا مؤمنًا به، ويُدْعى المصدِّق قولَه بفِعْله، مؤمنًا. ومن ذلك قول الله جل ثناؤه: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾ [سورة يوسف: ١٧] ، يعني: وما أنت بمصدِّق لنا في قولنا. وقد تدخل الخشية لله في معنى الإيمان، الذي هو تصديق القولِ بالعمل. والإيمان كلمة جامعةٌ للإقرارَ بالله وكتُبه ورسلِه، وتصديقَ الإقرار بالفعل. وإذْ كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بتأويل الآيةِ، وأشبه بصفة القوم: أن يكونوا موصوفين بالتصديق بالغَيْبِ قولا واعتقادًا وعملا إذ كان جلّ ثناؤه لم يحصُرْهم من معنى الإيمان على معنى دون معنى، بل أجمل وصْفهم به، من غير خُصوصِ شيء من معانيه أخرجَهُ من صفتهم بخبرٍ ولا عقلٍ.
* * *
القول في تأويل قول الله جل ثناؤه: ﴿بِالْغَيْبِ﴾
٢٧٢- حدثنا محمد بن حُميد الرازي، قال: حدثنا سَلَمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"بالغيب"، قال: بما جاء منه، يعني: من الله جل ثناؤه.
٢٧٣- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرّة الهَمْداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي ﷺ،"بالغيب": أما الغيْبُ فما غابَ عن العباد من أمر الجنة وأمرِ النار، وما ذكر الله تبارك وتعالى في القرآن. لم يكن تصديقهُم بذلك -يعني المؤمنين من العرب- من قِبَل أصْل كتابٍ أو عِلْم كان عندَهم.
٢٧٤- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزّبيري، قال: حدثنا سفيان، عن عاصم، عن زرٍّ، قال: الغيبُ القرآن(٤) .
٢٧٥- حدثنا بشر بن مُعَاذ العَقَدي، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيْع، عن سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة في قوله"الذين يُؤمنون بالغيب"، قال: آمنوا بالجنّة والنار، والبَعْث بعدَ الموت، وبيوم القيامة، وكلُّ هذا غيبٌ(٥) .
٢٧٦- حُدِّثت عن عمّار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس،"الذين يؤمنون بالغيب": آمنوا بالله وملائكته ورُسُلِه واليومِ الآخِر، وجَنّته وناره ولقائه، وآمنوا بالحياة بعد الموت. فهذا كله غيبٌ(٦) .
وأصل الغيب: كُلّ ما غاب عنك من شيءٍ. وهو من قولك: غاب فُلان يغيبُ غيبًا.
وقد اختلفَ أهلُ التأويل في أعيان القوم الذين أنزل الله جل ثناؤه هاتين الآيتين من أول هذه السورة فيهم، وفي نَعْتهم وصِفَتهم التي وَصفَهم بها، من إيمانهم بالغيب، وسائر المعاني التي حوتها الآيتان من صفاتهم غيرَه.
فقال بعضُهم: هم مؤمنو العربِ خاصة، دون غيرهم من مؤمني أهل الكتاب.
واستدَلُّوا على صحّة قولهم ذلك وحقيقة تأويلهم، بالآية التي تتلو هاتين الآيتين، وهو قول الله عز وجل: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ . قالوا: فلم يكن للعرب كتابٌ قبل الكتاب الذي أنزله الله عزّ وجلّ على محمد ﷺ، تدينُ بتصديقِه والإقرار والعملِ به. وإنما كان الكتابُ لأهل الكتابين غيرِها. قالوا: فلما قصّ الله عز وجل نبأ الذين يؤمنون بما أنزل إلى محمد وما أنزل من قبله -بعد اقتصاصه نبأ المؤمنين بالغيب- علمنا أن كلَّ صِنفٍ منهم غيرُ الصنف الآخر، وأن المؤمنين بالغيب نوعٌ غيرُ النوع المصدِّق بالكتابين اللذين أحدهما مُنزل على محمد ﷺ، والآخرُ منهما على مَنْ قَبْلَ رسول الله(٧) .
قالوا: وإذْ كان ذلك كذلك، صحَّ ما قلنا من أن تأويل قول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ ، إنما هم الذين يؤمنون بما غاب عنهم من الجنة والنار، والثَّواب والعقاب والبعث، والتصديقِ بالله ومَلائكته وكُتُبه ورسله، وجميع ما كانت العرب لا تدينُ به في جاهليِّتها، مما أوجب الله جل ثناؤه على عِبَاده الدَّيْنُونة به - دون غيرهم.
* ذكر من قال ذلك:
٢٧٧- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حمّاد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي ﷺ: أما ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ ، فهم المؤمنون من العرب، ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ . أما الغيب فما غاب عن العباد من أمر الجنة والنار، وما ذكر الله في القرآن. لم يكن تصديقهم بذلك من قبل أصل كتاب أو علم كان عندهم. ﴿والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب(٨) .
وقال بعضهم: بل نزلت هذه الآيات الأربع في مؤمني أهل الكتاب خاصة، لإيمانهم بالقرآن عند إخبار الله جل ثناؤه إياهم فيه عن الغيوب التي كانوا يخفونها بينهم ويسرونها، فعلموا عند إظهار الله جل ثناؤه نبيه ﷺ على ذلك منهم في تنزيله، أنه من عند الله جل وعز، فآمنوا بالنبي ﷺ، وصدقوا بالقرآن وما فيه من الإخبار عن الغيوب التي لا علم لهم بها، لما استقر عندهم - بالحجة التي احتج الله تبارك وتعالى بها عليهم في كتابه، من الإخبار فيه عما كانوا يكتمونه من ضمائرهم - أن جميع ذلك من عند الله.
وقال بعضهم: بل الآيات الأربع من أول هذه السورة، أنزلت على محمد ﷺ بوصف جميع المؤمنين الذين ذلك صفتهم من العرب والعجم، وأهل الكتابين وسواهم(٩) . وإنما هذه صفة صنف من الناس، والمؤمن بما أنزل الله على محمد ﷺ، وما أنزل من قبله، هو المؤمن بالغيب.
قالوا: وإنما وصفهم الله بالإيمان بما أنزل إلى محمد وبما أنزل إلى من قبله، بعد تقضي وصفه إياهم بالإيمان بالغيب، لأن وصفه إياهم بما وصفهم به من الإيمان بالغيب، كان معنيا به أنهم يؤمنون بالجنة والنار والبعث وسائر الأمور التي كلفهم الله جل ثناؤه الإيمان بها، مما لم يروه ولم يأت بعد مما هو آت، دون الإخبار عنهم أنهم يؤمنون بما جاء به محمد ﷺ ومن قبله من الرسل ومن الكتب.
قالوا: فلما كان معنى قوله تعالى ذكره: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ غير موجود في قوله ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ - كانت الحاجة من العباد إلى معرفة صفتهم بذلك ليعرفوهم، نظير حاجتهم إلى معرفتهم بالصفة التي وصفوا بها من إيمانهم بالغيب، ليعلموا ما يرضى الله من أفعال عباده ويحبه من صفاتهم، فيكونوا به -إن وفقهم له ربهم-[مؤمنين](١٠) .
* ذكر من قال ذلك:
٢٧٨- حدثني محمد بن عمرو بن العباس الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد، قال: حدثنا عيسى بن ميمون المكي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: أربع آيات من سورة البقرة في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة في المنافقين(١١) .
٢٧٩- حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد، بمثله(١٢) .
٢٨٠- حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا موسى بن مسعود، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، مثله(١٣) .
٢٨١- حُدِّثت عن عمار بن الحسن قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، قال: أربعُ آياتٍ من فاتحة هذه السورة -يعني سورة البقرة- في الذين آمنوا، وآيتان في قادة الأحزاب.
وأولى القولين عندي بالصواب، وأشبههما بتأويل الكتاب، القولُ الأول، وهو: أنّ الذين وَصَفهم الله تعالى ذِكره بالإيمان بالغيب، وبما وصفهم به جَلَّ ثناؤه في الآيتين الأوَّلتَيْن(١٤) ، غير الذين وصفهم بالإيمان بالذي أنزِل على محمد والذي أنزل على مَنْ قبله من الرسل، لما ذكرت من العلل قبلُ لمن قال ذلك.
ومما يدلّ أيضًا مع ذلك على صحّة هذا القول، أنه جنَّسَ - بعد وصف المؤمنين بالصِّفتين اللتين وَصَف، وبعد تصنيفه كلَّ صنف منهما على ما صنَّف الكفار - جنْسَيْن(١٥) فجعل أحدهما مطبوعًا على قلبه، مختومًا عليه، مأيوسًا من إيابه(١٦) والآخرَ منافقًا، يُرائي بإظهار الإيمان في الظاهر، ويستسرُّ النفاق في الباطن. فصيَّر الكفار جنسَيْن، كما صيَّر المؤمنين في أول السورة جِنْسين. ثم عرّف عباده نَعْتَ كلِّ صنف منهم وصِفَتَهم، وما أعدَّ لكلّ فريق منهم من ثواب أو عقاب، وَذمّ أهل الذَّم منهم، وشكرَ سَعْيَ أهل الطاعة منهم.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿وَيُقِيمُونَ﴾
وإقامتها: أداؤها -بحدودها وفروضها والواجب فيها- على ما فُرِضَتْ عليه. كما يقال: أقام القومُ سُوقَهم، إذا لم يُعَطِّلوها من البَيع والشراء فيها، وكما قال الشاعر:
أَقَمْنَا لأَهْلِ الْعِرَاقَيْنِ سُوقَ الـ ... ـضِّرَاب فَخَامُوا وَوَلَّوْا جَمِيعَا(١٧)
٢٨٢- وكما حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سَلَمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس،"ويقيمون الصلاة"، قال: الذين يقيمون الصلاةَ بفرُوضها.
٢٨٣- حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عُمارة، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس،"ويقيمون الصلاة" قال: إقامة الصلاة تمامُ الرُّكوع والسُّجود، والتِّلاوةُ والخشوعُ، والإقبالُ عليها فيها(١٨) .
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿الصَّلاةَ﴾
٢٨٤- حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا جُوَيْبر، عن الضحاك في قوله:"الذين يقيمون الصلاة": يعني الصلاة المفروضة(١٩) .
وأما الصلاةُ فإنها في كلام العرب الدُّعاءُ، كما قال الأعشى:
لَهَا حَارِسٌ لا يَبْرَحُ الدَّهْرَ بَيْتَهَا ... وَإِنْ ذُبِحَتْ صَلَّى عَلَيْهَا وَزَمْزَمَا(٢٠)
يعني بذلك: دعا لها، وكقول الأعشى أيضًا(٢١) .
وَقَابَلَهَا الرِّيحَ فِي دَنِّهَا ... وصَلَّى عَلَى دَنِّهَا وَارْتَسَمْ
(٢٢)
وأرى أن الصلاة المفروضة سُمِّيت"صلاة"، لأنّ المصلِّي متعرِّض لاستنجاح طَلِبتَه من ثواب الله بعمله، مع ما يسأل رَبَّه من حاجاته، تعرُّضَ الداعي بدعائه ربَّه استنجاحَ حاجاته وسؤلَهُ.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) ﴾
اختلف المفسرون في تأويل ذلك، فقال بعضهم بما:-
٢٨٥- حدثنا به ابن حُميد، قال: حدثنا سَلَمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس،"ومما رزقناهم ينفقون"، قال: يؤتون الزكاة احتسابًا بها.
٢٨٦- حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس،"ومما رزقناهم ينفقون"، قال: زكاةَ أموالهم(٢٣) .
٢٨٧- حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا جُوَيْبر، عن الضحاك،"ومما رزقناهم يُنفقون"، قال: كانت النفقات قُرُبات يتقرَّبون بها إلى الله على قدر ميسورهم وجُهْدهم، حتى نَزَلت فرائضُ الصدقات: سبعُ آيات في سورة براءَة، مما يذكر فيهنّ الصدقات، هنّ المُثْبَتات الناسخات(٢٤) .
وقال بعضهم بما:-
٢٨٨- حدثني موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّي في خبر ذَكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة الهَمْداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي ﷺ،"ومما رَزقناهم ينفقون": هي َنفقَةُ الرّجل على أهله. وهذا قبل أن تنزِل الزكاة(٢٥) .
وأوْلى التأويلات بالآية وأحقُّها بصفة القوم: أن يكونوا كانوا لجميع اللازم لهم في أموالهم، مُؤدِّين، زكاةً كان ذلك أو نفَقةَ مَنْ لزمتْه نفقتُه، من أهل وعيال وغيرهم، ممن تجب عليهم نَفَقتُه بالقرابة والمِلك وغير ذلك. لأن الله جل ثناؤه عَمّ وصفهم إذْ وصَفهم بالإنفاق مما رزقهم، فمدحهم بذلك من صفتهم. فكان معلومًا أنه إذ لم يخصُصْ مدْحَهم ووصفَهم بنوع من النفقات المحمود عليها صاحبُها دونَ نوعٍ بخبر ولا غيره - أنهم موصوفون بجميع معاني النفقات المحمودِ عليها صاحبُها من طيِّب ما رزقهم رَبُّهم من أموالهم وأملاكهم، وذلك الحلالُ منه الذي لم يَشُبْهُ حرامٌ.

(١) الأثر ٢٦٧- سيأتي باقيه بهذا الإسناد: ٢٧٢. ونقلهما ابن كثير ١: ٧٣ مفرقين. ونقل ٢٦٨ مع أولهما. ونقل السيوطي ١: ٢٥ الثلاثة مجتمعة.
(٢) الأثران ٢٦٩ - ٢٧٠: ذكرهما ابن كثير ١: ٧٣
(٣) الخبر ٢٧١- عبد الله: هو ابن مسعود. وقد نقل ابن كثير هذا الخبر وحده ١: ٧٣، ثم نقل الخبر الآتي ٢٧٣ وحده. وفصل إسناد كل واحد منهما. أما السيوطي ١: ٢٥ فقد جمع اللفظين دون بيان، وأدخل معهما لفظ الخبر ٢٧٧! وهو تصرف غير سديد، لاختلاف الإسنادين أولا، ولأن ٢٧٣، ٢٧٧ ليسا عن ابن مسعود وحده، كما ترى.
(٤) الأثر ٢٧٤- سفيان: هو الثوري، عاصم: هو ابن أبي النجود -بفتح النون- القارئ. زر، بكسر الزاي وتشديد الراء: هو ابن حبيش، بضم الحاء. وهو تابعي كبير إمام. وهذا الأثر عند ابن كثير ١: ٧٣ - ٧٤.
(٥) الأثر ٢٧٥- ذكره ابن كثير والسيوطي أيضًا.
(٦) الأثر ٢٧٦- ذكره ابن كثير ١: ٧٣ هكذا: "قال أبو جعفر الرازي عن الربيع ابن أنس عن أبي العالية. . . ". وذكره السيوطي ١: ٢٥ هكذا: "وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية. . ". فأخشى أن يكون ذكر"عن أبي العالية" سقط من الإسناد من نسخ الطبري، لثبوته عند هذين الناقلين عنه.
(٧) في المخطوطة: "والآخر منهما على من قبله رسول الله"، والظاهر أن صوابها: "على من قبل رسول الله"، كما أثبتناها. وأما المطبوعة ففيها: "على من قبله من رسل الله تعالى ذكره".
(٨) الخبر ٢٧٧- سبق أوله بهذا الإسناد: ٢٧٣. ولم يذكره ابن كثير بهذا اللفظ المطول. وقد مضى في شرح ٢٧١ أن السيوطي جمع الألفاظ الثلاثة: ٢٧١، ٢٧٣، ٢٧٧ في سياقة واحدة!
(٩) في المطبوعة والمخطوطة"وأهل الكتابين سواهم"، والصواب أن يقال"وسواهم". فقد ذكر الطبري ثلاثة أقوال: أما الأول: فهو أن المعنى به العرب خاصة، والثاني: أن المعنى به أهل الكتاب خاصة، فيكون الثالث: أن يعني به الصنفين جميعا وسواهم من الناس.
(١٠) هذه الزيادة بين القوسين واجبة لتمام المعنى. وليست في المطبوعة ولا المخطوطة.
(١١) الأثر ٢٧٨- أبو عاصم: هو النبيل، الحافظ الكبير. عيسى بن ميمون المكي: هو المعروف بابن داية، قال ابن عيينة: "كان قارئًا للقرآن. قرأ على ابن كثير". وثقه أبو حاتم وغيره.
(١٢) الأثر ٢٧٩- هذا إسناد ضعيف، بضعف سفيان بن وكيع، ولإبهام الرجل الذي روى عنه سفيان الثوري. ولكن الأثر موصول بالإسنادين اللذين قبله وبعده.
(١٣) الأثر ٢٨٠- موسى بن مسعود: هو أبو حذيفة النهدي، وهو ثقة، روى عنه البخاري في صحيحه، ووثقه ابن سعد والعجلي. وترجمه البخاري في الكبير ٤/١/ ٢٩٥. شبل: هو ابن عباد المكي القارئ، وهو ثقة، وثقه أحمد وابن معين وغيرهما.
وهذا الأثر، بأسانيده الثلاثة، ذكره ابن كثير ١: ٨٠ دون تفصيلها، قال: "والظاهر قول مجاهد - فيما رواه الثوري عن رجل عن مجاهد، ورواه غير واحد عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، أنه قال. . . ".
(١٤) الأولة: الأولى، وليست خطأ.
(١٥) سياقه: "جنَّس. . . جنسين"، وما بينهما فصل، وجنس الشيء: جعله أجناسًا، كصنفه أصنافًا.
(١٦) في المطبوعة: "إيمانه"، وهي صحيحة المعنى أيضًا. والإياب: الرجوع إلى الله بالتوبة والطاعة. ومنه قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾
(١٧) في المطبوعة"فحاسوا"، وفي المخطوطة"مجآمرا". وخام في الحرب عن قرنه بخيم خيمًا: جبن ونكص وانكسر. ولم أعرف قائل البيت.
(١٨) الخبران ٢٨٢، ٢٨٣- في تفسير ابن كثير ١: ٧٧، والدر المنثور ١: ٢٧، والشوكاني ١: ٢٥.
(١٩) الأثر ٢٨٤- إسناده ضعيف جدًّا. يحيى بن أبي طالب جعفر بن الزبرقان: قال الذهبي: "محدث مشهور. . . وثقه الدارقطني وغيره. . . والدارقطني من أخبر الناس به". مات سنة ٢٧٥ عن ٩٥ سنة. يزيد: هو ابن هارون، أحد الحفاظ الأعلام المشاهير، من شيوخ الأئمة أحمد وابن معين وابن راهويه وابن المديني. جويبر - بالتصغير: هو ابن سعيد الأزدي البلخي، ضعيف جدًّا، ضعفه يحيى القطان، فيما روى عنه البخاري في الكبير ١/٢/ ٢٥٦، والصغير: ١٧٦، وقال النسائي في الضعفاء: ٨"متروك الحديث"، وفي التهذيب ٢: ١٢٤"قال أبو قدامة السرخسي: قال يحيى القطان: تساهلوا في أخذ التفسير عن قوم لا يوثقونهم في الحديث. ثم ذكر الضحاك وجويبرًا ومحمد بن السائب. وقال: هؤلاء لا يحتمل حديثهم، ويكتب التفسير عنهم".
(٢٠) ديوانه: ٢٠٠، يذكر الخمر في دنها. وزمزم العلج من الفرس: إذا تكلف الكلام عند الأكل وهو مطبق فمه بصوت خفي لا يكاد يفهم. وفعلهم ذلك هو الزمزمة. "ذبحت" أي بزلت وأزيل ختمها. وعندئذ يدعو مخافة أن تكون فاسدة، فيخسر.
(٢١) في المطبوعة والمخطوطة: "وكقول الآخر أيضًا"، والصواب أنه الأعشى، وسبق قلم الناسخ.
(٢٢) ديوان الأعشى: ٢٩. وقوله"وقابلها الريح" أي جعلها قبالة مهب الريح، وذلك عند بزلها وإزالة ختمها. ويروى: "فأقبلها الريح" وهو مثله. وارتسم الرجل: كبر ودعا وتعوذ، مخافة أن يجدها قد فسدت، فتبور تجارته.
(٢٣) الخبر ٢٨٦- في المخطوطة"ابن المثنى"، وهو خطأ. والخبر ذكره ابن كثير ١: ٧٧.
(٢٤) الأثر ٢٨٧- ذكره ابن كثير ١: ٧٧، والسيوطي ١: ٢٧، والشوكاني ١: ٢٥. وقوله"المثبتات": بفتح الباء، أي التي أثبت حكمها ولم ينسخ، ويجوز كسرها، بمعنى أنها أثبتت الفريضة بعد نسخها ما سبقها في النزول. وبدلها عند السيوطي والشوكاني"الناسخات المبينات". وليس بشيء
(٢٥) الخبر ٢٨٨- نقله ابن كثير أيضًا. ونقله السيوطي مختصرًا، وجعله من كلام ابن مسعود وحده. وقلده الشوكاني دون بحث.
 
تفسير القرآن العظيم — ابن كثير (٧٧٤ هـ)

﴿ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ﴾ [البقرة ٣]
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: الْإِيمَانُ التَّصْدِيقُ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ وَغَيْرُهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ يُصَدِّقُونَ.
وَقَالَ مَعْمَر عَنِ الزُّهْرِيِّ: الْإِيمَانُ الْعَمَلُ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ: ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ يَخْشَوْنَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ: وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونُوا مَوْصُوفِينَ بِالْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ قَوْلًا وَاعْتِقَادًا وَعَمَلًا قَالَ: وَقَدْ تَدْخُلُ الْخَشْيَةُ لِلَّهِ فِي مَعْنَى الْإِيمَانِ، الَّذِي هُوَ تَصْدِيقُ الْقَوْلِ بِالْعَمَلِ، وَالْإِيمَانُ كَلِمَةٌ جامعةٌ لِلْإِقْرَارِ بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَتَصْدِيقُ الْإِقْرَارِ بِالْفِعْلِ. قُلْتُ: أَمَّا الْإِيمَانُ فِي اللُّغَةِ فَيُطْلَقُ عَلَى التَّصْدِيقِ الْمَحْضِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْقُرْآنِ، وَالْمُرَادُ بِهِ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [التَّوْبَةِ: ٦١] ، وَكَمَا قَالَ إِخْوَةُ يُوسُفَ لِأَبِيهِمْ: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾ [يُوسُفَ: ١٧] ، وَكَذَلِكَ إِذَا اسْتُعْمِلَ مَقْرُونًا مَعَ الْأَعْمَالِ؛ كَقَوْلِهِ: ﴿إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [الِانْشِقَاقِ: ٢٥، وَالتِّينِ: ٦] ، فَأَمَّا إِذَا اسْتُعْمِلَ مُطْلَقًا فَالْإِيمَانُ الشَّرْعِيُّ الْمَطْلُوبُ لَا يَكُونُ إِلَّا اعْتِقَادًا وَقَوْلًا وَعَمَلًا.
هَكَذَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ، بَلْ قَدْ حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو عُبَيد وَغَيْرُ وَاحِدٍ إِجْمَاعًا: أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ. وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ آثَارٌ كَثِيرَةٌ وَأَحَادِيثُ أَوْرَدْنَا(١) الْكَلَامَ فِيهَا فِي أَوَّلِ شَرْحِ الْبُخَارِيِّ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِالْخَشْيَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ﴾ [الْمُلْكِ: ١٢] ، وَقَوْلِهِ: ﴿مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ﴾ [ق: ٣٣] ، وَالْخَشْيَةُ خُلَاصَةُ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فَاطِرٍ: ٢٨] .
وَأَمَّا الْغَيْبُ الْمُرَادُ هَاهُنَا فَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ السَّلَفِ فِيهِ، وَكُلُّهَا صَحِيحَةٌ تَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الْجَمِيعَ مُرَادٌ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ قَالَ: يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَجَنَّتِهِ وَنَارِهِ وَلِقَائِهِ، وَيُؤْمِنُونَ بِالْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَبِالْبَعْثِ، فَهَذَا غَيْبٌ كُلُّهُ.
وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ بْنُ دِعَامَةَ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ(٢) ﷺ: أَمَّا الغَيب فَمَا غَابَ عَنِ الْعِبَادِ مِنْ أَمْرِ الْجَنَّةِ، وَأَمْرِ النَّارِ، وَمَا ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمة، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿بِالْغَيْبِ﴾ قَالَ: بِمَا جَاءَ مِنْهُ، يَعْنِي: مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عاصم، عن زِرّ، قال: الْغَيْب القرآن.
وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ فَقَدْ آمَنَ بِالْغَيْبِ.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ: ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ قَالَ: بِغَيْبِ الْإِسْلَامِ.
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ قَالَ: بِالْقَدَرِ. فَكُلُّ هَذِهِ مُتَقَارِبَةٌ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عِمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ(٣) قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ جُلُوسًا، فَذَكَرْنَا أصحَاب النَّبِيِّ ﷺ وَمَا سَبَقُوا بِهِ، قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّ أَمْرَ مُحَمَّدٍ ﷺ كَانَ بَيِّنًا لِمَنْ رَآهُ، وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا آمَنَ أَحَدٌ قَطُّ إِيمَانًا أَفْضَلَ مِنْ إِيمَانٍ بِغَيْبٍ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿الْمُفْلِحُونَ﴾ [الْبَقَرَةِ: ١-٥](٤) .
وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدُويه، والحاكم في مستدركه، من طرق، عن الْأَعْمَشِ، بِهِ(٥) .
وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.
وَفِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ [الْإِمَامُ](٦) أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، أَخْبَرَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي أُسَيْدُ(٧) بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ دُرَيك، عَنِ ابْنِ مُحَيريز، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي جُمُعَةَ: حَدِّثْنَا حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: نَعَمْ، أُحَدِّثُكَ حَدِيثًا جَيِّدًا: تَغَدَّيْنَا(٨) مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَمَعَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ أَحَدٌ(٩) خَيْرٌ مِنَّا؟ أَسْلَمْنَا مَعَكَ وَجَاهَدْنَا مَعَكَ. قَالَ: "نَعَمْ"، قَوْمٌ مِنْ بَعْدِكُمْ يُؤْمِنُونَ بِي وَلَمْ يَرَوْنِي"(١٠) .
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُويه فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ جُبَيْر، قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا أَبُو جُمُعَةَ الْأَنْصَارِيُّ، صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، لِيُصَلِّيَ فِيهِ، وَمَعَنَا يَوْمَئِذٍ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ(١١) خَرَجْنَا نُشَيِّعُهُ، فَلَمَّا أَرَادَ الِانْصِرَافَ قَالَ: إِنَّ لَكُمْ جَائِزَةً وَحَقًّا؛ أُحَدِّثُكُمْ بِحَدِيثٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، قُلْنَا: هَاتِ رَحِمَكَ اللَّهُ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَمَعَنَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ عَاشِرُ عَشَرَةٍ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ مِنْ قَوْمٍ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَّا؟ آمَنَّا بك واتبعناك، قال: "مَا يَمْنَعُكُمْ مِنْ ذَلِكَ وَرَسُولُ اللَّهِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ يَأْتِيكُمْ بِالْوَحْيِ مِنَ السَّمَاءِ، بَلْ قَوْمٌ مِنْ بَعْدِكُمْ يَأْتِيهِمْ كِتَابٌ بَيْنَ لَوْحَيْنِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَعْمَلُونَ بِمَا فِيهِ، أُولَئِكَ أَعْظَمُ مِنْكُمْ أَجْرًا" مَرَّتَيْنِ(١٢) .
ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ ضَمْرَة بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ مَرْزُوقِ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي جُمُعَةَ، بِنَحْوِهِ(١٣) .
وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْعَمَلِ بالوِجَادة الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا أَهْلُ الْحَدِيثِ، كَمَا قَرَّرْتُهُ فِي أَوَّلِ شَرْحِ الْبُخَارِيِّ؛ لِأَنَّهُ مَدَحَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَذَكَرَ أَنَّهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ لَا مُطْلَقًا.
وَكَذَا الْحَدِيثُ الْآخَرُ الَّذِي رَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ الْعَبْدِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ الْحِمْصِيُّ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ قَيْسٍ التَّمِيمِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَيُّ الْخَلْقِ أَعْجَبُ إِلَيْكُمْ إِيمَانًا؟ ". قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ. قَالَ: "وَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ؟ ". قَالُوا: فَالنَّبِيُّونَ. قَالَ: "وَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ؟ ". قَالُوا: فَنَحْنُ. قَالَ: "وَمَا لَكَمَ لَا تُؤْمِنُونَ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ ". قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَلَا إِنَّ أَعْجَبَ الْخَلْقِ إِلَيَّ إِيمَانًا لَقَوْمٌ يَكُونُونَ مِنْ بَعْدِكُمْ يَجدونَ صُحُفًا فِيهَا كِتَابٌ يُؤْمِنُونَ بِمَا فِيهَا"(١٤) .
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: الْمُغِيرَةُ بْنُ قَيْسٍ الْبَصْرِيُّ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ.
قُلْتُ: وَلَكِنْ قَدْ رَوَى أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حُمَيْدٍ، وَفِيهِ ضَعْفٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، بِمِثْلِهِ أَوْ نَحْوِهِ. وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ(١٥) وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوعًا(١٦) ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُسْنَدِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِدْرِيسَ، أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ سَلَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ، أَخْبَرَنِي جَعْفَرُ بْنُ مَحْمُودٍ، عَنْ جَدَّتِهِ تَوِيلَةَ(١٧) بِنْتِ أَسْلَمَ، قَالَتْ: صَلَّيْتُ الظُّهْرَ أَوِ الْعَصْرَ فِي مَسْجِدِ بَنِي حَارِثَةَ، فَاسْتَقْبَلْنَا مَسْجِدَ إِيلِيَاءَ(١٨) ، فَصَلَّيْنَا سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ جَاءَنَا مَنْ يُخْبِرُنَا: أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اسْتَقْبَلَ الْبَيْتَ(١٩) الْحَرَامَ، فَتَحَوَّلَ النِّسَاءُ مَكَانَ الرِّجَالِ، وَالرِّجَالُ مَكَانَ النِّسَاءِ، فَصَلَّيْنَا السَّجْدَتَيْنِ الْبَاقِيَتَيْنِ، وَنَحْنُ مُسْتَقْبِلُونَ(٢٠) الْبَيْتَ الْحَرَامَ.
قَالَ إِبْرَاهِيمُ: فَحَدَّثَنِي رِجَالٌ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حِينَ بَلَغَهُ ذَلِكَ قَالَ: "أولئك قوم آمَنُوا بِالْغَيْبِ"(٢١) .
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ٣﴾
قَالَ ابن عباس: أَيْ: يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ بِفُرُوضِهَا.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِقَامَةُ(٢٢) الصَّلَاةِ إِتْمَامُ(٢٣) الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ والتلاوة والخشوع والإقبال عليها فيها.
وَقَالَ قَتَادَةُ: إِقَامَةُ(٢٤) الصَّلَاةِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَوَاقِيتِهَا وَوُضُوئِهَا، وَرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا.
وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: إِقَامَتُهَا: الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَوَاقِيتِهَا، وَإِسْبَاغُ الطُّهُورِ فِيهَا(٢٥) وَتَمَامُ رُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا(٢٦) وَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ فِيهَا، وَالتَّشَهُّدُ وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَهَذَا إِقَامَتُهَا.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ قَالَ: زَكَاةُ أَمْوَالِهِمْ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ(٢٧) ﷺ ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ قَالَ: هِيَ نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ، وَهَذَا قَبْلَ أَنْ تُنَزَّلَ الزَّكَاةُ.
وَقَالَ جُوَيْبر، عَنِ الضَّحَّاكِ: كَانَتِ النَّفَقَاتُ قُرُبَاتٍ(٢٨) يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إِلَى اللَّهِ عَلَى قَدْرِ مَيْسَرَتِهِمْ وَجُهْدِهِمْ، حَتَّى نَزَلَتْ فَرَائِضُ الصَّدَقَاتِ: سبعُ آيَاتٍ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ، مِمَّا يُذْكَرُ فِيهِنَّ الصَّدَقَاتُ، هُنَّ النَّاسِخَاتُ المُثْبَتَات.
وَقَالَ قَتَادَةُ: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ فَأَنْفِقُوا مِمَّا أَعْطَاكُمُ اللَّهُ، هَذِهِ الْأَمْوَالَ عَوَارِيٌّ وَوَدَائِعُ عِنْدَكَ يَا ابْنَ آدَمَ، يُوشِكُ أَنْ تُفَارِقَهَا.
وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي الزَّكَاةِ وَالنَّفَقَاتِ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَأَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ وَأَحَقُّهَا بِصِفَةِ الْقَوْمِ: أَنْ يَكُونُوا لِجَمِيعِ اللَّازِمِ لَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ مُؤَدّين، زَكَاةً كَانَ ذَلِكَ أَوْ نَفَقَةَ مَنْ لَزِمَتْهُ نَفَقَتُهُ، مِنْ أَهْلٍ أَوْ عِيَالٍ وَغَيْرِهِمْ، مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِمْ نَفَقَتُهُ بِالْقَرَابَةِ وَالْمِلْكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَمَّ وَصَفَهُمْ وَمَدَحَهُمْ بِذَلِكَ، وَكُلٌّ مِنَ الْإِنْفَاقِ وَالزَّكَاةِ مَمْدُوحٌ بِهِ مَحْمُودٌ عَلَيْهِ.
قُلْتُ: كَثِيرًا مَا يَقْرِنُ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالْإِنْفَاقِ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ حَقُّ اللَّهِ وَعِبَادَتُهُ، وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَتَمْجِيدِهِ وَالِابْتِهَالِ إِلَيْهِ، وَدُعَائِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ؛ والإنفاق هو الْإِحْسَانُ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ بِالنَّفْعِ الْمُتَعَدِّي إِلَيْهِمْ، وَأَوْلَى النَّاسِ بِذَلِكَ الْقَرَابَاتُ وَالْأَهْلُونَ وَالْمُمَالِيكُ، ثُمَّ الْأَجَانِبُ، فَكُلٌّ مِنَ النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ وَالزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال: "بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ"(٢٩) . وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ.
وَأَصْلُ الصَّلَاةِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الدُّعَاءُ، قَالَ الْأَعْشَى:
لَهَا حَارِسٌ لَا يبرحُ الدهرَ بَيْتَها ... وَإِنْ ذُبحَتْ صَلَّى عَلَيْهَا وزَمْزَما(٣٠)
وَقَالَ أَيْضًا(٣١) وَقَابَلَهَا الرِّيحُ فِي دَنّها ... وَصَلَّى عَلَى دَنّها وَارْتَسَمَ(٣٢)
أَنْشَدَهُمَا ابْنُ جَرِيرٍ مُسْتَشْهِدًا عَلَى ذلك.
وقال الآخر -وهو الأعشى أيضًا-:
تَقُولُ بِنْتِي وَقَدْ قَرَّبتُ مُرْتَحِلًا ... يَا رَبِّ جَنِّبْ أَبِي الأوصابَ والوَجَعَا ...
عليكِ مثلُ الَّذِي صليتِ فَاغْتَمِضِي ... نَوْمًا فَإِنَّ لِجَنب الْمَرْءِ مُضْطجعا ...
يَقُولُ: عَلَيْكِ مِنَ الدُّعَاءِ مِثْلَ الَّذِي دَعَيْتِهِ لِي. وَهَذَا ظَاهِرٌ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَتِ الصَّلَاةُ فِي الشَّرْعِ فِي ذَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْأَفْعَالِ الْمَخْصُوصَةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَخْصُوصَةِ، بِشُرُوطِهَا الْمَعْرُوفَةِ، وَصِفَاتِهَا، وَأَنْوَاعِهَا [الْمَشْرُوعَةِ](٣٣) الْمَشْهُورَةِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَأَرَى أَنَّ الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ سُمِّيَتْ صَلَاةً؛ لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يَتَعَرَّضُ لِاسْتِنْجَاحِ طلبتَه مِنْ ثَوَابِ اللَّهِ بِعَمَلِهِ، مَعَ مَا يَسْأَلُ رَبَّهُ مِنْ(٣٤) حَاجَتِهِ(٣٥) .
[وَقِيلَ: هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الصلَوَيْن إِذَا تَحَرَّكَا فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ(٣٦) الرُّكُوعِ، وَهُمَا عِرْقَانِ يَمْتَدَّانِ مِنَ الظَّهْرِ حَتَّى يَكْتَنِفَا(٣٧) عَجْبَ الذَّنَبِ، وَمِنْهُ سُمِّي الْمُصَلِّي؛ وَهُوَ الثَّانِي لِلسَّابِقِ فِي حَلْبَةِ الْخَيْلِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَقِيلَ: هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الصَّلَى، وَهُوَ الْمُلَازَمَةُ لِلشَّيْءِ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿لَا يَصْلاهَا﴾ أَيْ: يَلْزَمُهَا وَيَدُومُ فِيهَا ﴿إِلا الأشْقَى﴾ [اللَّيْلِ: ١٥] وَقِيلَ: مُشْتَقَّةٌ مِنْ تَصْلِيَةِ الْخَشَبَةِ فِي النَّارِ لِتُقَوَّمَ، كَمَا أَنَّ الْمُصَلِّيَ يُقَوِّمُ عِوَجَهُ بِالصَّلَاةِ: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ [الْعَنْكَبُوتِ: ٤٥] وَاشْتِقَاقُهَا مِنَ الدُّعَاءِ أَصَحُّ وَأَشْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ](٣٨) .
وَأَمَّا الزَّكَاةُ فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا في موضعه، إن شاء الله.

(١) في جـ، ط: "وأفردنا".
(٢) في جـ، ط: "رسول الله".
(٣) في أ: "زيد".
(٤) سنن سعيد بن منصور برقم (١٨٠) تحقيق د. الحميد.
(٥) تفسير ابن أبي حاتم (١/٣٤) والمستدرك (٢/٢٦٠) .
(٦) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(٧) في هـ: "أسد".
(٨) في جـ: "فعدنا".
(٩) في جـ: "أأحد".
(١٠) المسند (٤/١٠٦) قال الحافظ ابن حجر في الإصابة (٤/٣٣) : "واختلف فيه على الأوزاعي، فقال الأكثر: عن أسيد عَنْ خَالِدِ بْنِ دُرَيْكٍ عَنِ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ. وقال ابن شماسة: عن الأوزاعي عن أسيد عن صالح بن محمد حدثني أبو جمعة به" وقال في فتح الباري (٧/٦) : "إسناده حسن".
(١١) في جـ: "انصرفنا".
(١٢) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (٤/٢٣) عن بكر بن سهل عن عبد الله بن صالح به.
(١٣) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (٤/٢٣) من طريق ضمرة بن ربيعة به.
(١٤) جزء الحسن بن عرفة برقم (١٩) .
(١٥) مسند أبي يعلى (١/١٤٧) والمستدرك (٤/٨٥) وتعقب الذهبي الحاكم فقال: "بل ضعفوه".
(١٦) رواه البزار في مسنده (٢٨٤٠) "كشف الأستار" من طريق سعيد بن بشير، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وقال: "غريب من حديث أنس".
(١٧) في هـ: "نويلة".
(١٨) في جـ: "المسجد الأقصى".
(١٩) في جـ، ط: "بيت الله".
(٢٠) في طـ، ب، أ، و: "مستقبلوا".
(٢١) تفسير ابن أبي حاتم (١/٣٦) وفي إسناده إسحاق بن إدريس قال البخاري: "تركه الناس". وقال ابن معين: "يضع الحديث". ورواه الطبراني في المعجم الكبير (٢٤/٢٠٧) من طريق إبراهيم بن حمزة الزبيري، عن إبراهيم بن جعفر عن أبيه به نحوه.
(٢٢) في جـ، ط: "إقام".
(٢٣) في جـ، ط، ب: "تمام".
(٢٤) في طـ: "إقام".
(٢٥) في جـ: "لها".
(٢٦) في جـ: "وإتمام الركوع والسجود".
(٢٧) في جـ: "النبي".
(٢٨) في جـ، ط، ب: "قربانا".
(٢٩) صحيح البخاري برقم (٨) وصحيح مسلم برقم (١٦) .
(٣٠) البيت في تفسير الطبري (١/٢٤٢) .
(٣١) في ب: "الآخر".
(٣٢) البيت في تفسير الطبري (١/٢٤٢) .
(٣٣) زيادة من ط.
(٣٤) في جـ، ط، ب، أ، و: "فيها".
(٣٥) في أ، و: "حاجاته".
(٣٦) في أ: "في".
(٣٧) في أ: "يكشفا".
(٣٨) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
   الجامع لأحكام القرآن — القرطبي (٦٧١ هـ)

﴿ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ﴾ [البقرة ٣]
فِيهَا سِتٌّ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً:
الْأُولَى قَوْلُهُ: (الَّذِينَ) فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ نَعْتٌ "لِلْمُتَّقِينَ"، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى الْقَطْعِ أَيْ هُمُ الَّذِينَ، وَيَجُوزُ النَّصْبُ عَلَى الْمَدْحِ.
(يُؤْمِنُونَ) يُصَدِّقُونَ. وَالْإِيمَانُ فِي اللُّغَةِ: التَّصْدِيقُ، وَفِي التَّنْزِيلِ:" وَما أَنْتَ(١) بِمُؤْمِنٍ لَنا "أَيْ بِمُصَدِّقٍ، وَيَتَعَدَّى بِالْبَاءِ وَاللَّامِ، كَمَا قَالَ:" وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ(٢)  "... " فَما آمَنَ لِمُوسى(٣) " وَرَوَى حَجَّاجُ بْنُ حجاج
الْأَحْوَلُ وَيُلَقَّبُ بِزِقِّ الْعَسَلِ قَالَ سَمِعْتُ قَتَادَةَ يقول: يا بن آدَمَ، إِنْ كُنْتَ لَا تُرِيدُ أَنْ تَأْتِيَ الْخَيْرَ إِلَّا عَنْ نَشَاطٍ فَإِنَّ نَفْسَكَ مَائِلَةٌ إِلَى السَّأْمَةِ وَالْفَتْرَةِ وَالْمَلَّةِ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ هُوَ الْمُتَحَامِلُ(٤)، وَالْمُؤْمِنُ هُوَ الْمُتَقَوِّي، وَالْمُؤْمِنُ هُوَ الْمُتَشَدِّدُ، وإن المؤمنين هم العجاجون(٥) إلى الله اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَاللَّهِ مَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ يَقُولُ: ربنا رَبَّنَا فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ حَتَّى اسْتَجَابَ لَهُمْ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ. الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿بِالْغَيْبِ﴾ الْغَيْبُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كُلُّ مَا غَابَ عَنْكَ، وَهُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْيَاءِ، يُقَالُ مِنْهُ: غَابَتِ الشَّمْسُ تَغِيبُ، وَالْغِيبَةُ مَعْرُوفَةٌ. وَأَغَابَتِ الْمَرْأَةُ فَهِيَ مُغِيبَةٌ إِذَا غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَوَقَعْنَا فِي غَيْبَةٍ وَغِيَابَةٍ، أَيْ هَبْطَةٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَالْغِيَابَةُ: الْأَجَمَةُ، وَهِيَ جِمَاعُ الشَّجَرِ يُغَابُ فِيهَا، وَيُسَمَّى الْمُطْمَئِنُّ مِنَ الْأَرْضِ: الْغَيْبُ، لِأَنَّهُ غَابَ عَنِ الْبَصَرِ. الثَّالِثَةُ وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَأْوِيلِ الْغَيْبِ هُنَا، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْغَيْبُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: اللَّهُ سُبْحَانَهُ. وَضَعَّفَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْقُرْآنُ وَمَا فِيهِ مِنَ الْغُيُوبِ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْغَيْبُ كُلُّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِمَّا لَا تَهْتَدِي إِلَيْهِ الْعُقُولُ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ لَا تَتَعَارَضُ بَلْ يَقَعُ الْغَيْبُ عَلَى جَمِيعِهَا. قُلْتُ: وهذا هو الْإِيمَانُ الشَّرْعِيُّ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ قَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ. قَالَ: (أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ (. قَالَ: صَدَقْتَ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَا آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة: ٣]. قُلْتُ: وَفِي التَّنْزِيلِ:" وَما كُنَّا غائِبِينَ(٦)  "وَقَالَ:" الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ(٧) ". فَهُوَ سُبْحَانُهُ غَائِبٌ عَنِ الْأَبْصَارِ، غَيْرُ مَرْئِيٍّ فِي هَذِهِ الدَّارِ، غير غائب بالنظر والاستدلال، فَهُمْ يُؤْمِنُونَ أَنَّ لَهُمْ رَبًّا قَادِرًا يُجَازِي عَلَى الْأَعْمَالِ، فَهُمْ يَخْشَوْنَهُ فِي سَرَائِرِهِمْ وَخَلْوَاتِهِمُ الَّتِي يَغِيبُونَ فِيهَا عَنِ النَّاسِ، لِعِلْمِهِمْ بِاطِّلَاعِهِ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى هَذَا تَتَّفِقُ الْآيُ وَلَا تَتَعَارَضُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَقِيلَ: "بِالْغَيْبِ" أَيْ بِضَمَائِرِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ بِخِلَافِ الْمُنَافِقِينَ، وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَبِالْغَيْبِ آمَنَّا وَقَدْ كَانَ قَوْمُنَا ... يُصَلُّونَ لِلْأَوْثَانِ قَبْلَ مُحَمَّدِ
الرَّابِعَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾ مَعْطُوفٌ جُمْلَةٌ عَلَى جُمْلَةٍ. وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ أَدَاؤُهَا بِأَرْكَانِهَا وَسُنَنِهَا وَهَيْئَاتِهَا فِي أَوْقَاتِهَا، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ. يُقَالُ: قَامَ الشَّيْءُ أَيْ دَامَ وَثَبَتَ، وَلَيْسَ مِنَ الْقِيَامِ عَلَى الرِّجْلِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِكَ: قَامَ الْحَقُّ أَيْ ظَهَرَ وَثَبَتَ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَقَامَتِ الْحَرْبُ بِنَا عَلَى سَاقٍ

وَقَالَ آخَرُ:
وَإِذَا يُقَالُ أَتَيْتُمْ لَمْ يَبْرَحُوا ... حَتَّى تُقِيمَ الْخَيْلُ سُوقَ طِعَانِ
وَقِيلَ: "يُقِيمُونَ" يُدِيمُونَ، وَأَقَامَهُ أَيْ أَدَامَهُ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ عُمَرُ بِقَوْلِهِ: مَنْ حَفِظَهَا وَحَافَظَ عَلَيْهَا حَفِظَ دِينَهُ، وَمَنْ ضَيَّعَهَا فَهُوَ لِمَا سِوَاهَا أَضْيَعُ. الْخَامِسَةُ إِقَامَةُ الصَّلَاةِ مَعْرُوفَةٌ، وَهِيَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَأَنَّهُ لَا إِعَادَةَ عَلَى تَارِكِهَا. وَعِنْدَ الْأَوْزَاعِيِّ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى هِيَ وَاجِبَةٌ وَعَلَى مَنْ تَرَكَهَا الْإِعَادَةُ، وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ قَالَ: لِأَنَّ فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ (وَأَقِمْ) فَأَمَرَهُ بِالْإِقَامَةِ كَمَا أَمَرَهُ بِالتَّكْبِيرِ وَالِاسْتِقْبَالِ وَالْوُضُوءِ. قَالَ: فَأَمَّا أَنْتُمُ الْآنَ وَقَدْ وَقَفْتُمْ عَلَى الْحَدِيثِ فَقَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَقُولُوا بِإِحْدَى رِوَايَتَيْ مَالِكٍ الْمُوَافِقَةِ لِلْحَدِيثِ وَهِيَ أَنَّ الْإِقَامَةَ فَرْضٌ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَوْلُهُ ﷺ: (وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الصَّلَاةِ مَنْ لَمْ يُحْرِمْ، فَمَا كَانَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ فَحُكْمُهُ أَلَّا تُعَادَ مِنْهُ الصَّلَاةُ إِلَّا أَنْ يجمعوا على شي فَيُسَلَّمَ لِلْإِجْمَاعِ كَالطَّهَارَةِ وَالْقِبْلَةِ وَالْوَقْتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: مَنْ تَرَكَهَا عَمْدًا أَعَادَ الصَّلَاةَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِوُجُوبِهَا إِذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَاسْتَوَى سَهْوُهَا وَعَمْدُهَا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِلِاسْتِخْفَافِ بِالسُّنَنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
السَّادِسَةُ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ سَمِعَ الْإِقَامَةَ هَلْ يسرع أولا؟ فَذَهَبَ الْأَكْثَرُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُسْرِعُ وَإِنْ خَافَ فَوْتَ الرَّكْعَةِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ وَأْتُوهَا تَمْشُونَ وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةَ فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا (. رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْهُ أَيْضًا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:) إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ فَلَا يَسْعَ إليها أحدكم ولكن ليمشي وَعَلَيْهِ السَّكِينَةَ وَالْوَقَارَ صَلِّ مَا أَدْرَكْتَ وَاقْضِ مَا سَبَقَكَ (. وَهَذَا نَصٌّ. وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا أَسْرَعَ انْبَهَرَ(٨) فَشَوَّشَ عَلَيْهِ دُخُولَهُ فِي الصَّلَاةِ وَقِرَاءَتِهَا وَخُشُوعِهَا. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ مِنْهُمُ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ مَسْعُودٍ عَلَى اخْتِلَافٍ عَنْهُ أَنَّهُ إِذَا خَافَ فَوَاتَهَا أَسْرَعَ. وَقَالَ إِسْحَاقُ: يُسْرِعُ إِذَا خَافَ فَوَاتَ الرَّكْعَةِ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ نَحْوُهُ، وَقَالَ: لَا بَأْسَ لِمَنْ كَانَ عَلَى فَرَسٍ أَنْ يُحَرِّكَ الْفَرَسَ، وَتَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَاشِي وَالرَّاكِبِ، لِأَنَّ الرَّاكِبَ لَا يَكَادُ أَنْ يَنْبَهِرَ كَمَا يَنْبَهِرُ الْمَاشِي. قُلْتُ: وَاسْتِعْمَالُ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي كُلِّ حَالٍ أَوْلَى، فَيَمْشِي كَمَا جَاءَ الْحَدِيثُ وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، لِأَنَّهُ فِي صَلَاةٍ وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ خَبَرُهُ ﷺ عَلَى خِلَافِ ما أخبره، فَكَمَا أَنَّ الدَّاخِلَ فِي الصَّلَاةِ يَلْزَمُ الْوَقَارَ وَالسُّكُونَ كَذَلِكَ الْمَاشِيَ، حَتَّى يَحْصُلَ لَهُ التَّشَبُّهُ بِهِ فَيَحْصُلُ لَهُ ثَوَابُهُ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صحة هذا ما ذكرناه من السنة، وَمَا خَرَّجَهُ الدَّارِمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنِ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (إِذَا تَوَضَّأْتَ فَعَمِدْتَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلَا تُشَبِّكَنَّ بَيْنَ أَصَابِعِكَ فَإِنَّكَ فِي صَلَاةٍ). فَمَنَعَ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ صَحِيحٌ مِمَّا هُوَ أَقَلُّ مِنَ الْإِسْرَاعِ وَجَعَلَهُ كَالْمُصَلِّي، وَهَذِهِ السُّنَنُ تُبَيِّنُ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: "فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ"(٩) وَأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الِاشْتِدَادُ عَلَى الْأَقْدَامِ، وَإِنَّمَا عَنَى الْعَمَلَ وَالْفِعْلَ، هَكَذَا فَسَّرَهُ مَالِكٌ. وهو الصواب في ذلك والله أعلم.
السَّابِعَةُ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا) وَقَوْلِهِ: (وَاقْضِ مَا سَبَقَكَ) هَلْ هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ أَوْ لَا؟ فَقِيلَ: هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَأَنَّ الْقَضَاءَ قَدْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ التَّمَامُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ"(١٠) وَقَالَ:" فَإِذا قَضَيْتُمْ(١١) مَناسِكَكُمْ". وَقِيلَ: مَعْنَاهُمَا مُخْتَلِفٌ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ خِلَافٌ فِيمَا يُدْرِكُهُ الدَّاخِلُ هَلْ هُوَ أَوَّلُ صَلَاتِهِ أَوْ آخِرِهَا؟ فَذَهَبَ إِلَى الْأَوَّلِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ مِنْهُمُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَلَكِنَّهُ يَقْضِي مَا فَاتَهُ بِالْحَمْدِ وَسُورَةٍ، فَيَكُونُ بَانِيًا فِي الْأَفْعَالِ قَاضِيًا فِي الْأَقْوَالِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنَ الْمَذْهَبِ. وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ: وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَالطَّبَرِيِّ وَدَاوُدَ ابن عَلِيٍّ. وَرَوَى أَشْهَبُ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ، وَرَوَاهُ عِيسَى عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ، أَنَّ مَا أَدْرَكَ فَهُوَ آخِرُ صَلَاتِهِ، وَأَنَّهُ يَكُونُ قَاضِيًا فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ، وَهُوَ قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْوَهَّابِ: وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مَنْ جَعَلَ مَا أَدْرَكَ أَوَّلَ صَلَاتِهِ فَأَظُنُّهُمْ رَاعَوُا الْإِحْرَامَ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ، وَالتَّشَهُّدُ وَالتَّسْلِيمُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي آخِرِهَا، فَمِنْ هَاهُنَا قَالُوا: إِنَّ مَا أَدْرَكَ فَهُوَ أَوَّلُ صَلَاتِهِ، مَعَ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: (فَأَتِمُّوا) وَالتَّمَامُ هُوَ الْآخِرُ. وَاحْتَجَّ الْآخَرُونَ بِقَوْلِهِ: (فَاقْضُوا) وَالَّذِي يَقْضِيهِ هُوَ الْفَائِتُ، إِلَّا أَنَّ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى "فَأَتِمُّوا" أَكْثَرُ، وَلَيْسَ يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَا أَدْرَكَ أَوَّلَ صَلَاتِهِ وَيَطَّرِدُ، إِلَّا مَا قَالَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونَ وَالْمُزَنِيُّ وَإِسْحَاقُ وَدَاوُدُ مِنْ أَنَّهُ يَقْرَأُ مَعَ الْإِمَامِ بِالْحَمْدِ وَسُورَةٍ إِنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مَعَهُ، وَإِذَا قَامَ لِلْقَضَاءِ قَرَأَ بِالْحَمْدِ وَحْدَهَا، فَهَؤُلَاءِ اطَّرَدَ عَلَى أَصْلِهِمْ قَوْلُهُمْ وَفِعْلُهُمْ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. الثَّامِنَةُ الْإِقَامَةُ تَمْنَعُ مِنَ ابْتِدَاءِ صَلَاةِ نَافِلَةٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ) خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، فَأَمَّا إذا شرع في نافلة فَلَا يَقْطَعْهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ"(١٢) وَخَاصَّةً إِذَا صَلَّى رَكْعَةً مِنْهَا. وَقِيلَ: يَقْطَعُهَا لِعُمُومِ الْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. التَّاسِعَةُ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَلَمْ يَكُنْ رَكَعَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَدْخُلُ مَعَ الْإِمَامِ وَلَا يَرْكَعْهُمَا، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلِ الْمَسْجِدَ فَإِنْ لَمْ يَخَفْ فَوَاتَ رَكْعَةٍ فَلْيَرْكَعْ خَارِجَ الْمَسْجِدِ، وَلَا يَرْكَعْهُمَا في شي مِنْ أَفْنِيَةِ الْمَسْجِدِ الَّتِي تُصَلَّى فِيهَا الْجُمُعَةُ اللَّاصِقَةِ بِالْمَسْجِدِ، وَإِنْ خَافَ أَنْ تَفُوتَهُ الرَّكْعَةُ الْأُولَى فَلْيَدْخُلْ وَلْيُصَلِّ مَعَهُ، ثُمَّ يُصَلِّيهِمَا إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ إِنْ أَحَبَّ، وَلَأَنْ يُصَلِّيهُمَا إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ أَحَبُّ إِلَيَّ وَأَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهِمَا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: إِنْ خَشِيَ أَنْ تَفُوتَهُ الرَّكْعَتَانِ وَلَا يُدْرِكَ الْإِمَامَ قَبْلَ رَفْعِهِ مِنَ الرُّكُوعِ فِي الثَّانِيَةِ دَخَلَ مَعَهُ، وَإِنْ رَجَا أَنْ يُدْرِكَ رَكْعَةً صَلَّى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ يَدْخُلُ مَعَ الْإِمَامِ وَكَذَلِكَ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، إِلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ رُكُوعُهُمَا فِي الْمَسْجِدِ مَا لَمْ يَخَفْ فَوْتَ الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إِنْ خَشِيَ فَوْتَ رَكْعَةٍ دَخَلَ مَعَهُمْ وَلَمْ يُصَلِّهِمَا وَإِلَّا صَلَّاهُمَا وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ وَيُقَالُ ابْنُ حَيَّانَ: إِذَا أَخَذَ الْمُقِيمُ فِي الْإِقَامَةِ فَلَا تَطَوُّعَ إِلَّا رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَقَدْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ دَخَلَ مَعَ الْإِمَامِ وَلَمْ يَرْكَعْهُمَا لَا خَارِجَ الْمَسْجِدِ وَلَا فِي الْمَسْجِدِ. وَكَذَلِكَ قَالَ الطَّبَرِيُّ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
(إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ). وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ إِمَّا سُنَّةٌ، وَإِمَّا فَضِيلَةٌ، وَإِمَّا رَغِيبَةٌ، وَالْحُجَّةُ عِنْدَ التَّنَازُعِ حُجَّةُ السُّنَّةِ. وَمِنْ حُجَّةِ قَوْلِ مَالِكٍ الْمَشْهُورِ وَأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ جَاءَ وَالْإِمَامُ يُصَلِّي صَلَاةَ الصُّبْحِ فَصَلَّاهُمَا فِي حُجْرَةِ حَفْصَةَ، ثُمَّ إِنَّهُ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ. وَمِنْ حُجَّةِ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ. وَقَدْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّى إِلَى أُسْطُوَانَةٍ(١٣) فِي الْمَسْجِدِ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، ثُمَّ دَخَلَ الصَّلَاةَ بِمَحْضَرٍ مِنْ حُذَيْفَةَ وَأَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. قَالُوا: (وإذا جاز أن يشتغل بالنافلة عن الْمَكْتُوبَةِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ (، رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكِ ابْنِ بُحَيْنَةَ(١٤) قَالَ: أُقِيمَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ فَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رَجُلًا يُصَلِّي وَالْمُؤَذِّنُ يُقِيمُ، فَقَالَ:) أَتُصَلِّي الصُّبْحَ أَرْبَعًا) وَهَذَا إِنْكَارٌ مِنْهُ ﷺ عَلَى الرَّجُلِ لِصَلَاتِهِ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ فِي الْمَسْجِدِ وَالْإِمَامُ يُصَلِّي، وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ إِنْ وَقَعَتْ فِي تِلْكَ الْحَالِ صَحَّتْ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَقْطَعْ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْعَاشِرَةُ الصَّلَاةُ أَصْلُهَا فِي اللُّغَةِ الدُّعَاءُ، مَأْخُوذَةٌ مِنْ صَلَّى يُصَلِّي إِذَا دَعَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ فَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَطْعَمْ وَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ) أَيْ فَلْيَدْعُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْمُرَادَ الصَّلَاةُ الْمَعْرُوفَةُ، فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَيَنْصَرِفُ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ وَعَلَيْهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْأَكْثَرُ. وَلَمَّا وَلَدَتْ أَسْمَاءُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ أَرْسَلَتْهُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، قَالَتْ أَسْمَاءُ: ثُمَّ مَسَحَهُ وَصَلَّى عَلَيْهِ، أَيْ دَعَا لَهُ. وَقَالَ تَعَالَى: "وَصَلِّ عَلَيْهِمْ"(١٥) أَيِ ادْعُ لَهُمْ. وَقَالَ الْأَعْشَى:
تَقُولُ بِنْتِي وَقَدْ قَرُبْتُ مُرْتَحِلًا ... يَا رَبِّ جَنِّبْ أَبِي الْأَوْصَابَ وَالْوَجَعَا
عَلَيْكَ مِثْلُ الَّذِي صَلَّيْتِ فَاغْتَمِضِي ... نَوْمًا فَإِنَّ لِجَنْبِ الْمَرْءِ مُضْطَجَعَا
وَقَالَ الْأَعْشَى أَيْضًا:
وَقَابَلَهَا الرِّيحُ فِي دَنِّهَا ... وَصَلَّى عَلَى دَنِّهَا وَارْتَسَمَ
ارْتَسَمَ الرَّجُلُ: كَبَّرَ وَدَعَا، قَالَهُ فِي الصِّحَاحِ. وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الصَّلَا وَهُوَ عِرْقٌ فِي وَسَطِ الظَّهْرِ وَيَفْتَرِقُ عِنْدَ الْعَجْبِ فَيَكْتَنِفُهُ، وَمِنْهُ أُخِذَ الْمُصَلِّي فِي سَبَقِ الْخَيْلِ، لِأَنَّهُ يَأْتِي فِي الْحَلْبَةِ وَرَأْسُهُ عِنْدَ صَلْوَى السَّابِقِ، فَاشْتُقَّتِ الصَّلَاةُ مِنْهُ، إِمَّا لِأَنَّهَا جَاءَتْ ثَانِيَةَ لِلْإِيمَانِ فَشُبِّهَتْ بِالْمُصَلِّي مِنَ الْخَيْلِ، وَإِمَّا لِأَنَّ الرَّاكِعَ تُثْنَى صَلَوَاهُ. والصلاة: مغرز الذنب من الفرس، وَالِاثْنَانِ صَلَوَانِ. وَالْمُصَلِّي: تَالِي السَّابِقِ، لِأَنَّ رَأْسَهُ عِنْدَ صَلَاهُ. وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سَبَقَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ وَثَلَّثَ عُمَرُ. وَقِيلَ: هِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ اللُّزُومِ، وَمِنْهُ صَلِيَ بِالنَّارِ إِذَا لزمها، ومنه" تَصْلى ناراً حامِيَةً(١٦) " [الغاشية: ٤]. وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ عُبَادَ:
لَمْ أَكُنْ مِنْ جُنَاتِهَا علم اللَّ ... هـ وَإِنِّي بِحَرِّهَا الْيَوْمَ صَالِ
أَيْ مُلَازِمٌ لِحَرِّهَا، وَكَأَنَّ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا مُلَازَمَةُ الْعِبَادَةِ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ. وَقِيلَ: هِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ صَلَيْتُ الْعُودَ بِالنَّارِ إِذَا قَوَّمْتُهُ وَلَيَّنْتُهُ بِالصِّلَاءِ. وَالصِّلَاءُ: صِلَاءُ النَّارِ بِكَسْرِ الصَّادِ مَمْدُودٌ، فَإِنْ فَتَحْتَ الصَّادَ قَصَرْتَ، فَقُلْتَ صَلَا النَّارَ، فَكَأَنَّ الْمُصَلِّيَ يُقَوِّمُ نَفْسَهُ بِالْمُعَانَاةِ فِيهَا وَيَلِينُ وَيَخْشَعُ، قَالَ الْخَارْزَنْجِيُّ:(١٧)
فَلَا تَعْجَلْ بِأَمْرِكَ وَاسْتَدِمْهُ ... فَمَا صَلَّى عَصَاكَ كَمُسْتَدِيمِ(١٨)
وَالصَّلَاةُ: الدُّعَاءُ وَالصَّلَاةُ: الرَّحْمَةُ، وَمِنْهُ: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ) الْحَدِيثَ. وَالصَّلَاةُ: الْعِبَادَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ﴾(١٩) [الأنفال: ٣٥] الْآيَةَ، أَيْ عِبَادَتُهُمْ. وَالصَّلَاةُ: النَّافِلَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ﴾(٢٠) [طه: ١٣٢]. والصلاة التسبيح، ومنه قوله تعالى: ﴿فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ﴾(٢١) [الصافات: ١٤٣] أَيْ مِنَ الْمُصَلِّينَ. وَمِنْهُ سُبْحَةُ الضُّحَى. وَقَدْ قيل في تأويل ﴿نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ﴾(٢٢) [البقرة: ٣٠] نُصَلِّي. وَالصَّلَاةُ: الْقِرَاءَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ﴾(٢٣) [الاسراء: ١١٠] فَهِيَ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ. وَالصَّلَاةُ: بَيْتٌ يُصَلَّى فِيهِ، قَالَهُ ابْنُ فَارِسٍ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الصَّلَاةَ اسْمُ عَلَمٍ وُضِعَ لِهَذِهِ الْعِبَادَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُخْلِ زَمَانًا مِنْ شَرْعٍ، وَلَمْ يَخْلُ شَرْعٌ مِنْ صَلَاةٍ، حَكَاهُ أَبُو نَصْرٍ الْقُشَيْرِيُّ. قُلْتُ: فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا اشْتِقَاقَ لَهَا، وَعَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَهِيَ: الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ هَلْ هِيَ مُبْقَاةٌ عَلَى أَصْلِهَا اللُّغَوِيِّ الْوَضْعِيِّ الِابْتِدَائِيِّ، وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ وَالزَّكَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْحَجُّ، وَالشَّرْعُ إِنَّمَا تَصَرَّفَ بِالشُّرُوطِ وَالْأَحْكَامِ، أَوْ هَلْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ مِنَ الشَّرْعِ تُصَيِّرُهَا مَوْضُوعَةً كَالْوَضْعِ الِابْتِدَائِيِّ مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ. هُنَا اخْتِلَافُهُمْ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ ثَبَتَتْ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَالْقُرْآنُ نَزَلَ بِهَا بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، وَلَكِنْ لِلْعَرَبِ تَحَكُّمٌ فِي الْأَسْمَاءِ، كَالدَّابَّةِ وُضِعَتْ لِكُلِ مَا يَدِبُّ، ثُمَّ خَصَّصَهَا الْعُرْفُ بِالْبَهَائِمِ فَكَذَلِكَ لِعُرْفِ الشَّرْعِ تَحَكُّمٌ فِي الْأَسْمَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالصَّلَاةِ هُنَا، فَقِيلَ: الْفَرَائِضُ. وَقِيلَ: الْفَرَائِضُ وَالنَّوَافِلُ مَعًا، وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ وَالْمُتَّقِي يَأْتِي بِهِمَا. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ الصَّلَاةُ سَبَبٌ لِلرِّزْقِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ﴾ [طه: ١٣٢] الْآيَةَ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي "طه"(٢٤) إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَشِفَاءٌ مِنْ وَجَعِ الْبَطْنِ وَغَيْرِهِ، رَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: هَجَّرَ(٢٥) النَّبِيُّ ﷺ فَهَجَّرْتُ فَصَلَّيْتُ ثُمَّ جَلَسْتُ، فَالْتَفَتَ إِلَيَّ النَّبِيُّ ﷺ فَقَالَ: (أَشْكَمْتَ دَرْدِهْ) قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (قُمْ فَصَلِّ فَإِنَّ فِي الصَّلَاةِ شِفَاءٌ). فِي رِوَايَةٍ: (أَشْكَمْتَ دَرْدِ) يَعْنِي تَشْتَكِي بَطْنَكَ بِالْفَارِسِيَّةِ، وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِذَا حَزَبَهُ(٢٦) أَمْرٌ فَزِعَ إِلَى الصَّلَاةِ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ الصَّلَاةُ لَا تَصِحُّ إِلَّا بِشُرُوطٍ وَفُرُوضٍ، فَمِنْ شُرُوطِهَا: الطَّهَارَةُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ أَحْكَامِهَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ(٢٧) وَالْمَائِدَةِ(٢٨). وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ، يَأْتِي فِي الْأَعْرَافِ(٢٩) الْقَوْلُ فِيهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا فُرُوضُهَا: فَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ، وَالنِّيَّةُ، وَتَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ وَالْقِيَامِ لَهَا، وَقِرَاءَةُ أُمِّ الْقُرْآنِ وَالْقِيَامُ لَهَا، وَالرُّكُوعُ وَالطُّمَأْنِينَةُ فِيهِ، وَرَفْعُ الرَّأْسِ مِنَ الرُّكُوعِ وَالِاعْتِدَالُ فِيهِ، وَالسُّجُودُ وَالطُّمَأْنِينَةُ فِيهِ، وَرَفْعُ الرَّأْسِ مِنَ السُّجُودِ، وَالْجُلُوسُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَالطُّمَأْنِينَةُ فِيهِ، وَالسُّجُودُ الثَّانِي وَالطُّمَأْنِينَةُ فِيهِ. وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الرَّجُلِ الَّذِي عَلَّمَهُ النَّبِيُّ ﷺ الصَّلَاةَ لَمَّاَ أَخَلَّ بِهَا، فَقَالَ لَهُ: (إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ ثُمَّ اسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ ثُمَّ كَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا) خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. ومثله حديث رفاعة بن رافع، أخرجه الدارقطني وَغَيْرُهُ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فَبَيَّنَ قَوْلُهُ ﷺ أَرْكَانَ الصَّلَاةِ، وَسَكَتَ عَنِ الْإِقَامَةِ وَرَفْعِ الْيَدَيْنِ وَعَنْ حَدِّ الْقِرَاءَةِ وَعَنْ تَكْبِيرِ الِانْتِقَالَاتِ، وَعَنِ التَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَعَنِ الْجِلْسَةِ الْوُسْطَى، وَعَنِ التَّشَهُّدِ وَعَنِ الْجِلْسَةِ الْأَخِيرَةِ وَعَنِ السَّلَامِ. أَمَّا الْإِقَامَةُ وَتَعْيِينُ الْفَاتِحَةِ فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِمَا(٣٠). وَأَمَّا رَفْعُ الْيَدَيْنِ فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عِنْدَ جَمَاعَةِ الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحَدِيثِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ. وَقَالَ دَاوُدُ وَبَعْضُ أَصْحَابِهِ بِوُجُوبِ ذَلِكَ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: الرَّفْعُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ وَعِنْدَ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ وَاجِبٌ، وَإِنَّ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْحُمَيْدِيِّ، وَرِوَايَةٌ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ. وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. قَالُوا: فَوَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَفْعَلَ كَمَا رَأَيْنَاهُ يَفْعَلُ، لِأَنَّهُ الْمُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ مُرَادَهُ. وَأَمَّا التَّكْبِيرُ مَا عَدَا تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ فَمَسْنُونٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ. وَكَانَ ابْنُ قَاسِمٍ صَاحِبُ مَالِكٍ يَقُولُ: مَنْ أَسْقَطَ مِنَ التكبيرة فِي الصَّلَاةِ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ فَمَا فَوْقَهَا سَجَدَ للسهو قَبْلَ السَّلَامِ، وَإِنْ لَمْ يَسْجُدْ بَطُلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ نَسِيَ تَكْبِيرَةً وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ سَجَدَ أيضا للسهو، فإن لم يفعل في شي عَلَيْهِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ التَّكْبِيرَةَ الْوَاحِدَةَ لَا سَهْوَ عَلَى مَنْ سَهَا فِيهَا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِظَمَ التَّكْبِيرِ وَجُمْلَتَهُ عِنْدَهُ فَرْضٌ، وَأَنَّ الْيَسِيرَ مِنْهُ مُتَجَاوَزٌ عَنْهُ. وَقَالَ أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: لَيْسَ عَلَى مَنْ لَمْ يُكَبِّرْ فِي الصَّلَاةِ من أولها إلى آخرها شي إِذَا كَبَّرَ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ، فَإِنْ تَرَكَهُ سَاهِيًا سجد للسهو، فإن لم يسجد فلا شي عَلَيْهِ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ التَّكْبِيرَ عَامِدًا، لِأَنَّهُ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الصَّلَاةِ، فَإِنْ فعل فقد أساء ولا شي عَلَيْهِ وَصَلَاتُهُ مَاضِيَةٌ. قُلْتُ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاعَةُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ مِنَ الشَّافِعِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ وَجَمَاعَةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْمَالِكِيِّينَ غَيْرَ مَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ ابْنِ الْقَاسِمِ. وَقَدْ تَرْجَمَ البخاري رَحِمَهُ اللَّهُ (بَابُ إِتْمَامِ التَّكْبِيرِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ) وَسَاقَ حَدِيثَ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَا وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، فَكَانَ إِذَا سَجَدَ كَبَّرَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ كَبَّرَ، وَإِذَا نَهَضَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ كَبَّرَ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ أَخَذَ بِيَدَيْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فَقَالَ: لَقَدْ ذَكَّرَنِي هَذَا صَلَاةَ مُحَمَّدٍ ﷺ، أَوْ قَالَ: لَقَدْ صَلَّى بِنَا صَلَاةَ مُحَمَّدٍ ﷺ. وَحَدِيثَ عِكْرِمَةَ قَالَ: رَأَيْتُ رَجُلًا عِنْدَ الْمَقَامِ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ، وَإِذَا قَامَ وَإِذَا وَضَعَ، فَأَخْبَرْتُ ابن عباس فقال: أو ليس تِلْكَ صَلَاةَ النَّبِيِّ ﷺ لَا أُمَّ لَكَ(٣١)! فَدَلَّكَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِهَذَا الْبَابِ عَلَى أَنَّ التَّكْبِيرَ لَمْ يَكُنْ مَعْمُولًا بِهِ عِنْدَهُمْ. رَوَى أَبُو إِسْحَاقَ السُّبَيْعِيُّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: صَلَّى بِنَا عَلِيٌّ يَوْمَ الْجَمَلِ صَلَاةً أَذْكَرَنَا بِهَا صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، كَانَ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ، وَقِيَامٍ وَقُعُودٍ، قَالَ أَبُو مُوسَى: فَإِمَّا نَسِينَاهَا وَإِمَّا تَرَكْنَاهَا عَمْدًا. قُلْتُ: أَتَرَاهُمْ أَعَادُوا الصَّلَاةَ! فَكَيْفَ يُقَالُ مَنْ تَرَكَ التَّكْبِيرَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ! وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْفَرْضِ، وَالشَّيْءُ إِذَا لَمْ يَجِبْ أَفْرَادُهُ لَمْ يَجِبْ جَمِيعُهُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ وَأَمَّا التَّسْبِيحُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَغَيْرُ وَاجِبٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَأَوْجَبَهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، وَأَنَّ مَنْ تَرَكَهُ أَعَادَ الصَّلَاةَ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (أَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ). السَّادِسَةَ عَشْرَةَ وَأَمَّا الْجُلُوسُ وَالتَّشَهُّدُ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ: الْجُلُوسُ الْأَوَّلُ وَالتَّشَهُّدُ لَهُ سُنَّتَانِ. وَأَوْجَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْجُلُوسَ الْأَوَّلَ وَقَالُوا: هُوَ مَخْصُوصٌ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْفُرُوضِ بِأَنْ يَنُوبَ عَنْهُ السُّجُودُ كَالْعَرَايَا(٣٢) مِنَ الْمُزَابَنَةِ(٣٣)، وَالْقِرَاضِ(٣٤) مِنَ الْإِجَارَاتِ، وَكَالْوُقُوفِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ لِمَنْ وَجَدَ الْإِمَامَ رَاكِعًا. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ سنة ما كان الْعَامِدُ لِتَرْكِهِ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ كَمَا لَا تَبْطُلُ بِتَرْكِ سُنَنِ الصَّلَاةِ. احْتَجَّ مَنْ لَمْ يُوجِبْهُ بِأَنْ قَالَ: لَوْ كَانَ مِنْ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ لَرَجَعَ السَّاهِي عَنْهُ إِلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ، كَمَا لَوْ تَرَكَ سَجْدَةً أَوْ رَكْعَةً، وَيُرَاعَى فِيهِ مَا يُرَاعَى فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مِنَ الْوِلَاءِ وَالرُّتْبَةِ، ثُمَّ يَسْجُدُ لِسَهْوِهِ كَمَا يَصْنَعُ مَنْ تَرَكَ رَكْعَةً أَوْ سَجْدَةً وَأَتَى بِهِمَا. وفي حديث عبد الله بن بُحَيْنَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَامَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ وَنَسِيَ أَنْ يَتَشَهَّدَ فَسَبَّحَ النَّاسُ خَلْفَهُ كَيْمَا يَجْلِسَ فَثَبَتَ قَائِمًا فَقَامُوا، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ سَجَدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، فَلَوْ كَانَ الْجُلُوسُ فَرْضًا لَمْ يُسْقِطْهُ النِّسْيَانُ وَالسَّهْوُ، لِأَنَّ الْفَرَائِضَ فِي الصَّلَاةِ يَسْتَوِي فِي تَرْكِهَا السَّهْوُ وَالْعَمْدُ إِلَّا فِي الْمُؤْتَمِّ. وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ الْجُلُوسِ الْأَخِيرِ فِي الصَّلَاةِ وَمَا الْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ. وَهِيَ: السَّابِعَةَ عَشْرَةَ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الجلوس فرض والتشهيد فَرْضٌ وَالسَّلَامَ فَرْضٌ. وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةٍ، وَحَكَاهُ أَبُو مُصْعَبٍ فِي مُخْتَصَرِهِ عَنْ مَالِكٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَبِهِ قَالَ دَاوُدُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَنْ تَرَكَ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ وَالصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ سَجَدَتَا السَّهْوِ لِتَرْكِهِ. وَإِذَا تَرَكَ التَّشَهُّدَ الْأَخِيرَ سَاهِيًا أَوْ عَامِدًا أَعَادَ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ بَيَانَ النَّبِيِّ ﷺ فِي الصَّلَاةِ فَرْضٌ، لِأَنَّ أَصْلَ فَرْضِهَا مُجْمَلٌ يَفْتَقِرُ إِلَى الْبَيَانِ إِلَّا مَا خَرَجَ بِدَلِيلٍ وَقَدْ قَالَ ﷺ: (صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي). الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْجُلُوسَ وَالتَّشَهُّدَ وَالسَّلَامَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ كُلُّهُ سُنَّةٌ مَسْنُونَةٌ، هَذَا قَوْلُ بَعْضِ الْبَصْرِيِّينَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُلَيَّةَ، وَصَرَّحَ بِقِيَاسِ الْجِلْسَةِ الْأَخِيرَةِ عَلَى الْأُولَى، فَخَالَفَ الْجُمْهُورَ وَشَذَّ، إِلَّا أَنَّهُ يَرَى الْإِعَادَةَ عَلَى مَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَمِنْ حُجَّتِهِمْ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: (إِذَا رَفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ مِنْ آخِرِ سَجْدَةٍ فِي صَلَاتِهِ ثُمَّ أَحْدَثَ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ) وَهُوَ حَدِيثٌ لَا يَصِحُّ عَلَى مَا قَالَهُ أَبُو عُمَرَ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْمُقْتَبَسِ(٣٥). وَهَذَا اللَّفْظُ إِنَّمَا يُسْقِطُ السَّلَامَ لا الجلوس.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّ الْجُلُوسَ مِقْدَارَ التَّشَهُّدِ فَرْضٌ، وَلَيْسَ التَّشَهُّدُ وَلَا السَّلَامُ بِوَاجِبٍ فَرْضًا. قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْكُوفِيِّينَ. وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنِ الْإِفْرِيقِيِّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَفِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: (إِذَا جَلَسَ أَحَدُكُمْ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ فَأَحْدَثَ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ). قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَكَانَ شَيْخُنَا فَخْرُ الْإِسْلَامِ يُنْشِدُنَا فِي الدَّرْسِ:
وَيَرَى الْخُرُوجَ مِنَ الصَّلَاةِ بِضَرْطَةٍ .. أَيْنَ الضُّرَاطُ مِنَ السَّلَامِ عَلَيْكُمُ
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَسَلَكَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَرْعَيْنِ ضَعِيفَيْنِ، أَمَّا أَحَدُهُمَا: فَرَوَى عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ أَنَّ مَنْ سَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ مُتَلَاعِبًا، فَخَرَجَ الْبَيَانُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ عَلَى أَرْبَعٍ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الْعِرَاقِ بِعَيْنِهِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَوَقَعَ فِي الْكُتُبِ الْمَنْبُوذَةِ أَنَّ الامام إذا أحدث بعد التشهد متعمدا وقيل السَّلَامِ أَنَّهُ يُجْزِئُ مَنْ خَلْفَهُ، وَهَذَا مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُلْتَفَتَ إِلَيْهِ فِي الْفَتْوَى، وَإِنْ عَمَرَتْ بِهِ الْمَجَالِسُ لِلذِّكْرَى. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْجُلُوسَ فَرْضٌ وَالسَّلَامَ فَرْضٌ، وَلَيْسَ التَّشَهُّدُ بِوَاجِبٍ. وَمِمَّنْ قَالَ هَذَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَأَصْحَابُهُ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةٍ. وَاحْتَجُّوا بأن قالوا: ليس شي مِنَ الذِّكْرِ يَجِبُ إِلَّا تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ وَقِرَاءَةَ أُمِّ الْقُرْآنِ. الْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَنَّ التَّشَهُّدَ وَالْجُلُوسَ وَاجِبَانِ، وَلَيْسَ السَّلَامُ بِوَاجِبٍ، قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، وَاحْتَجَّ إِسْحَاقُ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ حِينَ عَلَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ التَّشَهُّدَ وَقَالَ لَهُ: (إِذَا فَرَغْتَ مِنْ هَذَا فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُكَ وَقَضَيْتَ مَا عَلَيْكَ). قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: قَوْلُهُ (إِذَا فَرَغْتَ مِنْ هَذَا فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُكَ) أَدْرَجَهُ بَعْضُهُمْ عَنْ زُهَيْرٍ فِي الْحَدِيثِ، وَوَصَلَهُ بِكَلَامِ النَّبِيِّ ﷺ، وَفَصَلَهُ شَبَابَةُ عَنْ زُهَيْرٍ وَجَعَلَهُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَوْلُهُ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ مِنْ قَوْلِ مَنْ أَدْرَجَهُ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ ﷺ. وَشَبَابَةُ ثِقَةٌ. وَقَدْ تَابَعَهُ غَسَّانُ بْنُ الرَّبِيعِ عَلَى ذَلِكَ، جَعَلَ آخِرَ الْحَدِيثِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَمْ يَرْفَعْهُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ.
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي السَّلَامِ، فَقِيلَ: وَاجِبٌ، وَقِيلَ: لَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَالصَّحِيحُ وُجُوبُهُ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ وَحَدِيثِ عَلِيٍّ الصَّحِيحِ خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَرَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ) وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي إِيجَابِ التَّكْبِيرِ وَالتَّسْلِيمِ، وَأَنَّهُ لَا يُجْزِئُ عَنْهُمَا غَيْرُهُمَا كَمَا لَا يُجْزِئُ عَنِ الطَّهَارَةِ غَيْرُهَا بِاتِّفَاقٍ. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: لَوِ افْتَتَحَ رَجُلٌ صَلَاتَهُ بِسَبْعِينَ اسْمًا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَمْ يُكَبِّرْ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ لَمْ يُجْزِهِ، وَإِنْ أَحْدَثَ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ لَمْ يُجْزِهِ، وَهَذَا تَصْحِيحٌ مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ، وَهُوَ إِمَامٌ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ وَمَعْرِفَةِ صَحِيحِهِ مِنْ سَقِيمِهِ. وَحَسْبُكَ بِهِ! وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ التَّكْبِيرِ عِنْدَ الِافْتِتَاحِ وَهِيَ: التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَطَائِفَةٌ: تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمَأْمُومِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ إِيجَابُ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَأَنَّهَا فَرْضٌ وَرُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ الصَّوَابُ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَكُلُّ مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ فَمَحْجُوجٌ بِالسُّنَّةِ. الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي اللَّفْظِ الَّذِي يَدْخُلُ بِهِ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابِهِ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: لَا يُجْزِئُ إِلَّا التَّكْبِيرُ، لَا يُجْزِئُ مِنْهُ تَهْلِيلٌ وَلَا تَسْبِيحٌ وَلَا تَعْظِيمٌ وَلَا تَحْمِيدٌ. هَذَا قَوْلُ الْحِجَازِيِّينَ وَأَكْثَرُ الْعِرَاقِيِّينَ، وَلَا يُجْزِئُ عِنْدَ مَالِكٍ إِلَّا" اللَّهُ أَكْبَرُ "لَا غَيْرَ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَزَادَ: وَيُجْزِئُ" اللَّهُ الْأَكْبَرُ "وَ" اللَّهُ الْكَبِيرُ "وَالْحُجَّةُ لِمَالِكٍ حَدِيثُ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة ب" الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ". وَحَدِيثُ عَلِيٍّ: وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ. وَحَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ: فَكَبِّرْ. وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّنَافِسِيُّ قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا حُمَيْدٍ السَّاعِدِيَّ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: "اللَّهُ أَكْبَرُ" وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ وَحَدِيثٌ صَحِيحٌ فِي تَعْيِينِ لَفْظِ التَّكْبِيرِ، قال الشاعر:
رأيت الله أكبر كل شي ... مُحَاوَلَةً وَأَعْظَمُهُ جُنُودًا
ثُمَّ إِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْقِدَمَ، وَلَيْسَ يَتَضَمَّنُهُ كَبِيرٌ وَلَا عَظِيمٌ، فَكَانَ أَبْلَغَ فِي الْمَعْنَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَ افْتَتَحَ بِلَا إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ يُجْزِيهِ، وَإِنْ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي لَمْ يُجْزِهِ، وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُجْزِئُهُ إِذَا كَانَ يُحْسِنُ التَّكْبِيرَ. وكان الحكم ابن عُتَيْبَةَ يَقُولُ: إِذَا ذَكَرَ اللَّهَ مَكَانَ التَّكْبِيرِ أَجْزَأَهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلَا أَعْلَمُهُمْ يَخْتَلِفُونَ أَنَّ مَنْ أَحْسَنَ الْقِرَاءَةَ فَهَلَّلَ وَكَبَّرَ وَلَمْ يَقْرَأْ أَنَّ صَلَاتَهُ فَاسِدَةٌ، فَمَنْ كَانَ هَذَا مَذْهَبُهُ فَاللَّازِمُ لَهُ أَنْ يَقُولَ لَا يُجْزِيهِ مَكَانَ التَّكْبِيرِ غَيْرُهُ، كَمَا لَا يُجْزِئُ مَكَانَ الْقِرَاءَةِ غَيْرُهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُجْزِئُهُ التَّكْبِيرُ بِالْفَارِسِيَّةِ وَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يُجْزِيهِ لِأَنَّهُ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ جَمَاعَاتُ الْمُسْلِمِينَ، وَخِلَافُ مَا عَلَّمَ النَّبِيُّ ﷺ أُمَّتَهُ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا وَافَقَهُ عَلَى مَا قَالَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ وَاتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ عَلَى وُجُوبِ النِّيَّةِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ إِلَّا شَيْئًا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي آيَةِ الطَّهَارَةِ، وَحَقِيقَتُهَا قَصْدُ التَّقَرُّبِ إِلَى الْآمِرِ بِفِعْلِ مَا أَمَرَ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالْأَصْلُ فِي كُلِّ نِيَّةٍ أَنْ يَكُونَ عَقْدُهَا مَعَ التَّلَبُّسِ بِالْفِعْلِ الْمَنْوِيِّ بِهَا، أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ بِشَرْطِ اسْتِصْحَابِهَا، فَإِنْ تَقَدَّمَتِ النِّيَّةُ وَطَرَأَتْ غَفْلَةٌ فَوَقَعَ التَّلَبُّسُ بِالْعِبَادَةِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهَا، كَمَا لَا يُعْتَدُّ بِالنِّيَّةِ إِذَا وَقَعَتْ بَعْدَ التَّلَبُّسِ بِالْفِعْلِ، وَقَدْ رُخِّصَ فِي تَقْدِيمِهَا فِي الصَّوْمِ لِعِظَمِ الْحَرَجِ فِي اقْتِرَانِهَا بِأَوَّلِهِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَقَالَ لَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْقَرَوِيُّ بِثَغْرِ عَسْقَلَانَ: سَمِعْتُ إِمَامَ الْحَرَمَيْنِ يَقُولُ: يُحْضِرُ الْإِنْسَانُ عِنْدَ التَّلَبُّسِ بِالصَّلَاةِ النِّيَّةَ، وَيُجَرِّدُ النَّظَرَ فِي الصَّانِعِ وَحُدُوثِ الْعَالَمِ وَالنُّبُوَّاتِ حَتَّى يَنْتَهِيَ نَظَرُهُ إِلَى نِيَّةِ الصَّلَاةِ، قَالَ: وَلَا يَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى زَمَانٍ طَوِيلٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي أَوْحَى(٣٦) لحظة، لان تَعْلِيمَ الْجُمَلِ يَفْتَقِرُ إِلَى الزَّمَانِ الطَّوِيلِ، وَتِذْكَارُهَا يَكُونُ فِي لَحْظَةٍ، وَمِنْ تَمَامِ النِّيَّةِ أَنْ تَكُونَ مُسْتَصْحَبَةً عَلَى الصَّلَاةِ كُلِّهَا، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَمَّا كَانَ أَمْرًا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ سَمَحَ الشَّرْعُ فِي عُزُوبِ النِّيَّةِ فِي أَثْنَائِهَا. سَمِعْتُ شَيْخَنَا أَبَا بَكْرٍ الْفِهْرِيَّ بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى يَقُولُ قال محمد بن سحنون: رأيت أبي سحنونا رُبَّمَا يُكْمِلُ الصَّلَاةَ فَيُعِيدُهَا، فَقُلْتُ لَهُ مَا هَذَا؟ فَقَالَ: عَزَبَتْ نِيَّتِي فِي أَثْنَائِهَا فَلِأَجْلِ ذَلِكَ أَعَدْتُهَا. قُلْتُ: فَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِنْ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ، وَسَائِرِ أَحْكَامِهَا يَأْتِي بَيَانُهَا فِي مَوَاضِعِهَا مِنْ هَذَا الْكِتَابِ بِحَوْلِ اللَّهُ تَعَالَى، فَيَأْتِي ذِكْرُ الرُّكُوعِ وَصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَالْقِبْلَةِ وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى الْأَوْقَاتِ، وَبَعْضِ صَلَاةِ الْخَوْفِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَيَأْتِي ذِكْرُ قَصْرِ الصَّلَاةِ وَصَلَاةِ الْخَوْفِ، فِي "النساء"(٣٧) والأوقات في" هود(٣٨) وسبحان(٣٩) والروم(٤٠)  "وَصَلَاةِ اللَّيْلِ فِي" الْمُزَّمِّلِ(٤١)  "وَسُجُودِ التِّلَاوَةِ فِي" الْأَعْرَافِ(٤٢)  "وَسُجُودِ الشُّكْرِ فِي" ص(٤٣)  "كُلٌّ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ رَزَقْنَاهُمْ: أَعْطَيْنَاهُمْ، وَالرِّزْقُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ مَا صَحَّ الِانْتِفَاعُ بِهِ حَلَالًا كَانَ أَوْ حَرَامًا، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْحَرَامَ لَيْسَ بِرِزْقٍ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَمَلُّكُهُ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَرْزُقُ الْحَرَامَ وَإِنَّمَا يَرْزُقُ الْحَلَالَ، وَالرِّزْقُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِمَعْنَى الْمِلْكِ. قَالُوا: فَلَوْ نَشَأَ صَبِيٌّ مَعَ اللُّصُوصِ وَلَمْ يَأْكُلْ شَيْئًا إِلَّا مَا أَطْعَمَهُ اللُّصُوصُ إِلَى أَنْ بَلَغَ وَقَوِيَ وَصَارَ لِصًّا، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَتَلَصَّصُ وَيَأْكُلُ مَا تَلَصَّصَهُ إِلَى أَنْ مَاتَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْزُقْهُ شَيْئًا إِذْ لَمْ يُمَلِّكْهُ، وَإِنَّهُ يَمُوتُ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْ رِزْقِ اللَّهِ شَيْئًا. وَهَذَا فَاسِدٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الرِّزْقَ لَوْ كَانَ بِمَعْنَى التَّمْلِيكِ لَوَجَبَ أَلَّا يَكُونَ الطِّفْلُ مَرْزُوقًا، وَلَا الْبَهَائِمُ الَّتِي تَرْتَعُ فِي الصَّحْرَاءِ، وَلَا السِّخَالُ مِنَ الْبَهَائِمِ، لِأَنَّ لَبَنَ أُمَّهَاتِهَا مِلْكٌ لِصَاحِبِهَا دُونَ السِّخَالِ. وَلَمَّا اجْتَمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الطِّفْلَ وَالسِّخَالَ وَالْبَهَائِمَ مَرْزُوقُونَ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرْزُقُهُمْ مَعَ كَوْنِهِمْ غَيْرَ مَالِكِينَ عُلِمَ أَنَّ الرِّزْقَ هُوَ الْغِذَاءُ وَلِأَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ على أن العبيد والإماء مرزوقون، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرْزُقُهُمْ مَعَ كَوْنِهِمْ غَيْرَ مَالِكِينَ، فَعُلِمَ أَنَّ الرِّزْقَ مَا قُلْنَاهُ لَا مَا قَالُوهُ. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا رَازِقَ سِوَاهُ قَوْلُهُ الْحَقُّ:" هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ(٤٤) مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ" [فاطر: ٣] وَقَالَ:" إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ(٤٥) ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ" [الذاريات: ٥٨] وَقَالَ:" وَما مِنْ دَابَّةٍ(٤٦) فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها" [هود: ٦] وَهَذَا قَاطِعٌ، فَاللَّهُ تَعَالَى رَازِقٌ حَقِيقَةً وَابْنُ آدَمَ رَازِقٌ تَجَوُّزًا، لِأَنَّهُ يَمْلِكُ مِلْكًا مُنْتَزَعًا كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْفَاتِحَةِ(٤٧)، مَرْزُوقٌ حَقِيقَةً كَالْبَهَائِمِ الَّتِي لَا مِلْكَ لَهَا، إِلَّا أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي تَنَاوُلِهِ فَهُوَ حَلَالٌ حُكْمًا، وَمَا كَانَ مِنْهُ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ فِي تَنَاوُلِهِ فَهُوَ حَرَامٌ حُكْمًا، وَجَمِيعُ ذَلِكَ رِزْقٌ. وَقَدْ خَرَّجَ بَعْضُ النُّبَلَاءِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:" كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ(٤٨) وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ" [سبأ: ١٥] فَقَالَ: ذِكْرُ الْمَغْفِرَةِ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الرِّزْقَ قَدْ يَكُونُ فِيهِ حَرَامٌ. الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ﴾ الرِّزْقُ مَصْدَرُ رَزَقَ يَرْزُقُ رَزْقًا وَرِزْقًا، فَالرَّزْقُ بِالْفَتْحِ الْمَصْدَرُ، وَبِالْكَسْرِ الِاسْمُ، وَجَمْعُهُ أَرْزَاقٌ، وَالرِّزْقُ: الْعَطَاءُ. وَالرَّازِقِيَّةُ: ثِيَابُ كَتَّانٍ [بِيضٌ(٤٩). وَارْتَزَقَ الْجُنْدُ: أَخَذُوا أَرْزَاقَهُمْ. وَالرَّزْقَةُ: الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ، هَكَذَا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ. وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: الرِّزْقُ بِلُغَةِ أَزْدِ شَنُوءَةَ: الشُّكْرُ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:" وَتَجْعَلُونَ(٥٠) رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ" [الواقعة: ٨٢] أَيْ شُكْرُكُمُ التَّكْذِيبُ. وَيَقُولُ: رَزَقَنِي أَيْ شَكَرَنِي. الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يُنْفِقُونَ﴾ يُنْفِقُونَ: يُخْرِجُونَ. وَالْإِنْفَاقُ: إِخْرَاجُ الْمَالِ مِنَ الْيَدِ، وَمِنْهُ نَفَقَ الْبَيْعُ: أَيْ خَرَجَ مِنْ يَدِ الْبَائِعِ إِلَى الْمُشْتَرِي. وَنَفَقَتِ الدَّابَّةُ: خَرَجَتْ رُوحُهَا، وَمِنْهُ النَّافِقَاءُ لِجُحْرِ الْيَرْبُوعِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ إِذَا أُخِذَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى. وَمِنْهُ الْمُنَافِقُ، لِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ الْإِيمَانِ أَوْ يَخْرُجُ الْإِيمَانُ مِنْ قَلْبِهِ. وَنَيْفَقُ السَّرَاوِيلَ مَعْرُوفَةٌ وَهُوَ مَخْرَجُ الرِّجْلِ مِنْهَا. وَنَفَقَ الزَّادُ: فَنِيَ وَأَنْفَقَهُ صَاحِبُهُ. وَأَنْفَقَ الْقَوْمُ: فَنِيَ زَادُهُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ(٥١) " [الاسراء: ١٠٠].
الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالنَّفَقَةِ هَاهُنَا، فَقِيلَ: الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِمُقَارَنَتِهَا الصَّلَاةَ. وَقِيلَ: نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ لِأَنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ النَّفَقَةِ. رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: (دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ أَعْظَمُهَا أَجْرًا الذي أنفقته على أهلك (. وروي عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:) أَفْضَلُ دِينَارٍ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ دِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى عِيَالِهِ وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ عَلَى دَابَّتِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) قَالَ أَبُو قِلَابَةَ(٥٢): وَبَدَأَ بِالْعِيَالِ [ثُمَّ] قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: وَأَيُّ رَجُلٍ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ رَجُلٍ يُنْفِقُ عَلَى عِيَالٍ صِغَارٍ يُعِفُّهُمْ أَوْ يَنْفَعُهُمُ اللَّهُ بِهِ وَيُغْنِيهِمْ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ رُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ نَظَرًا إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَأْتِي إِلَّا بِلَفْظِهَا الْمُخْتَصِّ بِهَا وَهُوَ الزَّكَاةُ، فَإِذَا جَاءَتْ بِلَفْظٍ غَيْرِ الزَّكَاةِ احْتَمَلَتِ الْفَرْضَ وَالتَّطَوُّعَ، فَإِذَا جَاءَتْ بِلَفْظِ الْإِنْفَاقِ لَمْ تَكُنْ إِلَّا التَّطَوُّعَ. قَالَ الضَّحَّاكُ: كَانَتِ النَّفَقَةُ قُرْبَانًا يتقربون بها إلى الله عز وجل عَلَى قَدْرِ جَدَّتِهِمْ حَتَّى نَزَلَتْ فَرَائِضُ الصَّدَقَاتِ وَالنَّاسِخَاتُ(٥٣) فِي "بَرَاءَةٌ". وَقِيلَ: إِنَّهُ الْحُقُوقُ الْوَاجِبَةُ الْعَارِضَةُ فِي الْأَمْوَالِ مَا عَدَا الزَّكَاةَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَرَنَهُ بِالصَّلَاةِ كَانَ فَرْضًا، وَلَمَّا عَدَلَ عَنْ لَفْظِهَا كَانَ فَرْضًا سِوَاهَا. وَقِيلَ: هُوَ عَامٌّ وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْمَدْحِ فِي الْإِنْفَاقِ مِمَّا رُزِقُوا، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْحَلَالِ، أَيْ يُؤْتُونَ مَا أَلْزَمَهُمُ الشَّرْعُ مِنْ زَكَاةٍ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَعِنُّ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ مَعَ مَا نَدَبَهُمْ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ حَظُّ الْقَلْبِ. وَإِقَامُ الصَّلَاةِ حَظُّ الْبَدَنِ. وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ حَظُّ الْمَالِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ" أَيْ مِمَّا عَلَّمْنَاهُمْ يُعَلِّمُونَ، حَكَاهُ أَبُو نَصْرٍ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ القشيري.

(١) سورة يوسف آية ١٧.
(٢) سورة آل عمران آية ٧٣.
(٣) سورة يونس آية ٨٣
(٤) تحامل في الامر وبه: تكلفه على مشقة وإعياء.
(٥) العج: رفع الصوت بالتلبية.
(٦) سورة الأعراف آية ٧.
(٧) سورة الأنبياء آية ٤٩.
(٨) البهر (بالضم): تتابع النفس من الإعياء.
(٩) سورة الجمعة آية ٩
(١٠) سورة الجمعة آية ١٠.
(١١) سورة البقرة آية ٢٠٠
(١٢) سورة محمد آية ٣٣.
(١٣) الأسطوانة: العامود.
(١٤) .
(بحينة): أمه، وهي بنت الحارث بن عبد المطلب. وأبوه مالك بن القشب بن فضلة الأزدي.
(١٥) سورة التوبة آية ١٠٣.
(١٦) سورة الغاشية آية ٤.
(١٧) كذا في جميع الأصول وفي اللسان والتاج مادة (صلا): ( .. قيس بن زهير).
(١٨) كذا في جميع الأصول. وفي اللسان: (عصاه).
(١٩) سورة الأنفال آية ٣٥.
(٢٠) سورة طه آية ١٣٢.
(٢١) سورة الصافات آية ١٤٣.
(٢٢) سورة البقرة آية ٣٠.
(٢٣) سورة الاسراء آية ١١٠.
(٢٤) راجع ج ١١ ص ٢٦٣
(٢٥) التهجير: التبكير إلى كل شي والمبادرة إليه.
(٢٦) حزبه الامر: نابه واشتد عليه، وقيل: ضغطه.
(٢٧) راجع ج ٥ ص ٢٠٤ فما بعد.
(٢٨) راجع ج ٦ ص ٨٠ فما بعد.
(٢٩) راجع ج ٧ ص ١٨٢ فما بعد.
(٣٠) راجع ص ١١٧، ١٦٤ من هذا الجزء.
(٣١) قوله: لا أم لك. في النهاية ابن الأثير: (هو ذم وسب. أي أنت لقيط لا تعرف لك أم. وقيل: قد يقع مدحا بمعنى التعجب منه وفية بعد).
(٣٢) العرايا: نخل كانت توهب ثمارها للمساكين فلا يستطيعون أن ينتظروا بها رخص لهم أن يبيعوها بما شاءوا من التمر.
(٣٣) المزابنة: بيع الرطب على رءوس النخل بالتمر كيلا، وبيع الزبيب بالكرم.
(٣٤) القراض (بالكسر): إجارة على التجر في مال بجزء من ربحه.
(٣٥) في بعض الأصول: (المفتين).
(٣٦) أوحى: أسرع.
(٣٧) راجع ج ٥ ص ٣٥١ فما بعد.
(٣٨) راجع ج ٩ ص ١٠٩ فما بعد.
(٣٩) راجع ج ١٠ ص ٣٠٣ فما بعد.
(٤٠) راجع ج ١٤ ص ١٤ فما بعد.
(٤١) راجع ج ١٩ ص ٥١ فما بعد.
(٤٢) راجع ج ٧ ص ٣٥٧ فما بعد.
(٤٣) راجع ج ١٥ ص ١٨٣.
(٤٤) راجع ج ١٤ ص ٣٢١ فما بعد.
(٤٥) راجع ج ١٧ ص ٥٥.
(٤٦) راجع ج ٩ ص ٦ فما بعد.
(٤٧) راجع ص ١٤٠ فما بعدها من هذا الجزء.
(٤٨) راجع ج ١٤ ص ٢٨٤.
(٤٩) الزيادة عن اللسان مادة (رزق).]
(٥٠) ج ١٧ ص ٢٢٨ فما بعد.
(٥١) راجع ج ١٠ ص ٣٣٥
(٥٢) أبو قلابة: أحد رواة سند هذا الحديث.
(٥٣) مثل قوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) الآية. ج ٨ ص ٢٤٤ فقد قال ابن العربي إنها ناسخة لآية (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) الآية انظر صفحة ٣٨١ من الجزء الأول من تفسيره المطبوع بمصر سنة ١٣٣١ هـ. وكذلك روى الجصاص نسخها بها عن عمر بن عبد العزيز.
   
معالم التنزيل — البغوي (٥١٦ هـ)

﴿الۤمۤ (١) ذَ ٰ⁠لِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ (٢) ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ (٣) وَٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ وَمَاۤ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡـَٔاخِرَةِ هُمۡ یُوقِنُونَ (٤) أُو۟لَـٰۤىِٕكَ عَلَىٰ هُدࣰى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ (٥)﴾ [البقرة ١-٥]
سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَدَنِيَّةٌ(١)
وَهِيَ مِائَتَانِ وَثَمَانُونَ وَسَبْعُ آيَاتٍ
* * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿الم﴾ قَالَ الشَّعْبِيُّ وَجَمَاعَةٌ: الم وَسَائِرُ حُرُوفِ الْهِجَاءِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهِ وَهِيَ سِرُّ الْقُرْآنِ. فَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِظَاهِرِهَا وَنَكِلُ الْعِلْمَ فِيهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَفَائِدَةُ ذِكْرِهَا طَلَبُ الْإِيمَانِ بِهَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: فِي كُلِّ كِتَابٍ سِرٌّ وَسِرُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ أَوَائِلُ السُّوَرِ، وَقَالَ عَلِيٌّ: لِكُلِّ كِتَابٍ صَفْوَةٌ وَصَفْوَةُ هَذَا الْكِتَابِ حُرُوفُ (التَّهَجِّي)(٢) وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ: كُنْتُ أَسْأَلُ الشَّعْبِيَّ عَنْ فَوَاتِحِ السُّوَرِ فَقَالَ: يَا دَاوُدُ إِنَّ لِكُلِّ كِتَابٍ سِرًّا وَإِنَّ سِرَّ الْقُرْآنِ فَوَاتِحُ السُّوَرِ فَدَعْهَا وَسَلْ عَمَّا سِوَى ذَلِكَ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ هِيَ مَعْلُومَةُ الْمَعَانِي فَقِيلَ: كُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا مِفْتَاحُ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي كهيعص: الْكَافُ مِنْ كَافِي وَالْهَاءُ مِنْ هَادِي وَالْيَاءُ مِنْ حَكِيمٍ وَالْعَيْنُ مِنْ عَلِيمٍ وَالصَّادُ مِنْ صَادِقٍ. وَقِيلَ فِي المص أَنَا اللَّهُ الْمَلِكُ الصَّادِقُ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ فِي الم: الْأَلِفُ مِفْتَاحُ اسْمِهِ اللَّهِ وَاللَّامُ مِفْتَاحُ اسْمِهِ اللَّطِيفِ، وَالْمِيمُ مِفْتَاحُ اسْمِهِ الْمَجِيدِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: الْأَلِفُ آلَاءُ اللَّهِ وَاللَّامُ لُطْفُهُ، وَالْمِيمُ مُلْكُهُ، وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ مَعْنَى الم: أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ: وَمَعْنَى(٣) المص: أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ وأفضل وَمَعْنَى الر: أَنَا اللَّهُ أَرَى، وَمَعْنَى المر: أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ وَأَرَى. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهَذَا حَسَنٌ فَإِنَّ الْعَرَبَ تَذْكُرُ حَرْفًا مِنْ كَلِمَةٍ تُرِيدُهَا كَقَوْلِهِمْ: قُلْتُ لَهَا: قِفِي لَنَا قَالَتْ: قَافْ(٤)
أَيْ: وَقَفْتُ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ هِيَ أَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى (مُقَطَّعَةٌ)(٥) لَوْ عَلِمَ النَّاسُ تَأْلِيفَهَا لَعَلِمُوا اسْمَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ. أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ الر، وَحم، وَن، فَتَكُونُ الرَّحْمَنَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُهَا إِلَّا أَنَّا لَا نَقْدِرُ عَلَى وَصْلِهَا، وَقَالَ قَتَادَةُ: هَذِهِ الْحُرُوفُ أَسْمَاءُ الْقُرْآنِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ: هِيَ أَسْمَاءُ (السُّوَرِ)(٦) وَبَيَانُهُ: أَنَّ الْقَائِلَ إِذَا قَالَ: قَرَأْتُ المص عَرَفَ السَّامِعُ أَنَّهُ قَرَأَ السُّورَةَ الَّتِي افْتُتِحَتْ بِالمص. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهَا أَقْسَامٌ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّمَا أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ لِشَرَفِهَا وَفَضْلِهَا لِأَنَّهَا (مَبَادِئُ)(٧) كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ، وَمَبَانِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى(٨) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ أَيْ هَذَا الْكِتَابُ وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَقِيلَ: هَذَا فِيهِ مُضْمَرٌ أَيْ هَذَا ذَلِكَ الْكِتَابُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: كَانَ اللَّهُ قَدْ وَعَدَ نَبِيَّهُ ﷺ أَنْ يُنْزِلَ عَلَيْهِ كِتَابًا لَا يَمْحُوهُ الْمَاءُ، وَلَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، فَلَمَّا أَنْزَلَ الْقُرْآنَ قَالَ هَذَا ﴿ذَلِكَ﴾(٩) الْكِتَابُ الَّذِي وَعَدْتُكَ أَنْ أُنْزِلَهُ عَلَيْكَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَعَلَى لِسَانِ النَّبِيِّينَ مِنْ قَبْلِكَ "وَهَذَا" لِلتَّقْرِيبِ "وَذَلِكَ" لِلتَّبْعِيدِ، وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ قَبْلَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ سُوَرًا كَذَّبَ بِهَا الْمُشْرِكُونَ ثُمَّ أَنْزَلَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَقَالَ ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ يَعْنِي مَا تَقَدَّمَ الْبَقَرَةَ مِنَ السُّوَرِ لَا شَكَّ فِيهِ.
وَالْكِتَابُ مَصْدَرٌ وَهُوَ بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ كَمَا يُقَالُ لِلْمَخْلُوقِ خَلْقٌ، وَهَذَا الدِّرْهَمُ ضَرْبُ فُلَانٍ أَيْ مَضْرُوبُهُ. وَأَصْلُ الْكَتْبِ: الضَّمُّ وَالْجَمْعُ، وَيُقَالُ لِلْجُنْدِ: كَتِيبَةٌ لِاجْتِمَاعِهَا، وَسُمِّيَ الْكِتَابُ كِتَابًا لِأَنَّهُ جَمْعُ حَرْفٍ إِلَى حَرْفٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ أَيْ لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنَّهُ الْحَقُّ وَالصِّدْقُ، وَقِيلَ هُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ أَيْ لَا تَرْتَابُوا فِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ﴾ (١٩٧-الْبَقَرَةِ) أَيْ لَا تَرْفُثُوا وَلَا تَفْسُقُوا. قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: فِيهِ بِالْإِشْبَاعِ فِي الْوَصْلِ وَكَذَلِكَ كَلُّ هَاءِ كِنَايَةٍ قَبْلَهَا سَاكِنٌ يُشْبِعُهَا وَصْلًا مَا لَمْ يَلْقَهَا سَاكِنٌ ثُمَّ إِنْ كَانَ السَّاكِنُ قَبْلَ الْهَاءِ يَاءً يُشْبِعُهَا بِالْكَسْرَةِ يَاءً وَإِنْ كَانَ غَيْرَ يَاءٍ يُشْبِعُهَا بِالضَّمِّ وَاوًا وَوَافَقَهُ حَفْصٌ فِي قَوْلِهِ ﴿فِيهِ مُهَانًا﴾ (٦٩-الْفُرْقَانِ) (فَيُشْبِعُهُ)(١٠) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ يُدْغِمُ الْغُنَّةَ عِنْدَ اللَّامِ وَالرَّاءِ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ، زَادَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ عِنْدَ الْيَاءِ وَزَادَ حَمْزَةُ عِنْدَ الْوَاوِ وَالْآخَرُونَ لَا يُدْغِمُونَهَا وَيُخْفِي أَبُو جَعْفَرٍ النُّونَ وَالتَّنْوِينَ عِنْدَ الْخَاءِ وَالْغَيْنِ ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ أَيْ هُوَ هُدًى أَيْ رُشْدٌ وَبَيَانٌ لِأَهْلِ التَّقْوَى، وَقِيلَ هُوَ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ أَيْ هَادِيًا تَقْدِيرُهُ لَا رَيْبَ فِي هِدَايَتِهِ لِلْمُتَّقِينَ وَالْهُدَى مَا يَهْتَدِي بِهِ الْإِنْسَانُ، لِلْمُتَّقِينَ أَيْ لِلْمُؤْمِنِينَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الْمُتَّقِي مَنْ يَتَّقِي الشِّرْكَ وَالْكَبَائِرَ وَالْفَوَاحِشَ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الِاتِّقَاءِ. وَأَصْلُهُ الْحَجْزُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ وَمِنْهُ يُقَالُ اتَّقَى بِتُرْسِهِ أَيْ جَعَلَهُ حَاجِزًا بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَ مَا يَقْصِدُهُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: "كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ"(١١) أَيْ إِذَا اشْتَدَّ الْحَرْبُ جَعَلْنَاهُ حَاجِزًا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْعَدُوِّ، فَكَأَنَّ الْمُتَّقِي يَجْعَلُ امْتِثَالَ أَمْرِ اللَّهِ وَالِاجْتِنَابَ عَمَّا نَهَاهُ حَاجِزًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَذَابِ. قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِكَعْبِ الْأَحْبَارِ(١٢) حَدِّثْنِي عَنِ التَّقْوَى فَقَالَ: هَلْ أَخَذْتَ طَرِيقًا ذَا شَوْكٍ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهِ قَالَ: حَذِرْتُ وَشَمَّرْتُ: قَالَ كَعْبٌ: ذَلِكَ التَّقْوَى. وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: الْمُتَّقِي الَّذِي يَتْرُكُ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا لِمَا بِهِ بَأْسٌ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: التَّقْوَى تَرْكُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَأَدَاءُ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ فَمَا رَزَقَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ خَيْرٌ إِلَى خَيْرٍ. وَقِيلَ هُوَ الِاقْتِدَاءُ بِالنَّبِيِّ ﷺ وَفِي الْحَدِيثِ: "جِمَاعُ التَّقْوَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾ (٩٠-النَّحْلِ) الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: التَّقْوَى أَنْ لَا تَرَى نَفْسَكَ خَيْرًا مِنْ أَحَدٍ. وَتَخْصِيصُ الْمُتَّقِينَ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفٌ لَهُمْ أَوْ لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُتَّقُونَ بِالْهُدَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ﴾ مَوْضِعُ الَّذِينَ خَفْضٌ نَعْتًا لِلْمُتَّقِينَ. يُؤْمِنُونَ: يُصَدِّقُونَ [وَيَتْرُكُ الْهَمْزَةَ أَبُو عَمْرٍو وَوَرْشٌ وَالْآخَرُونَ يَهْمِزُونَهُ وَكَذَلِكَ يَتْرُكَانِ كُلَّ هَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ هِيَ فَاءُ الْفِعْلِ نَحْوَ يُؤْمِنُ وَمُؤْمِنٌ إِلَّا أَحْرُفًا مَعْدُودَةً](١٣) .
وَحَقِيقَةُ الْإِيمَانِ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا﴾ (١٧-يُوسُفَ) [أَيْ بِمُصَدِّقٍ لَنَا](١٤) وَهُوَ فِي الشَّرِيعَةِ: الِاعْتِقَادُ بِالْقَلْبِ وَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ وَالْعَمَلُ بِالْأَرْكَانِ، فَسُمِّيَ الْإِقْرَارُ وَالْعَمَلُ إِيمَانًا؛ لِوَجْهٍ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ، لِأَنَّهُ مِنْ شَرَائِعِهِ.
وَالْإِسْلَامُ: هُوَ الْخُضُوعُ وَالِانْقِيَادُ، فَكُلُّ إِيمَانٍ إِسْلَامٌ وَلَيْسَ كُلُّ إِسْلَامٍ إِيمَانًا، إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ تَصْدِيقٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ (١٤-الْحُجُرَاتِ) وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَكُونُ مُسْتَسْلِمًا فِي الظَّاهِرِ غَيْرَ مُصَدِّقٍ فِي الْبَاطِنِ. وَقَدْ يَكُونُ مُصَدِّقًا فِي الْبَاطِنِ غَيْرَ مُنْقَادٍ فِي الظَّاهِرِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ جَوَابُ النَّبِيِّ ﷺ عَنْهُمَا حِينَ سَأَلَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ مَا أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ بَوَيْهٍ الزَّرَّادُ الْبُخَارِيُّ: أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْخُزَاعِيُّ ثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ الشَّاشِيُّ ثَنَا أَبُو أحمد عيسى ٦/أبْنُ أَحْمَدَ الْعَسْقَلَانِيُّ أَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَنَا كَهَمْسُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ قَالَ: كَانَ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْقَدَرِ، يَعْنِي بِالْبَصْرَةِ، مَعْبَدًا الْجُهَنِيَّ فَخَرَجْتُ أَنَا وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ نُرِيدُ مَكَّةَ فَقُلْنَا: لَوْ لَقِينَا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَسَأَلْنَاهُ عَمَّا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ فَلَقِينَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَاكْتَنَفْتُهُ أَنَا وَصَاحِبِي أَحَدُنَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ سَيَكِلُ الْكَلَامَ إِلَيَّ فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ قِبَلَنَا نَاسٌ يَتَفَقَّرُونَ هَذَا الْعِلْمَ وَيَطْلُبُونَهُ يَزْعُمُونَ أَنْ لَا قَدَرَ إِنَّمَا الْأَمْرُ أُنُفٌ قَالَ: فَإِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي مِنْهُمْ بَرِيءٌ وَإِنَّهُمْ مِنِّي بُرَآءُ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ (لِأَحَدِهِمْ)(١٥) مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا قَبِلَ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ثُمَّ قَالَ:
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: "بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ مَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ فَأَقْبَلَ حَتَّى جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ [وَرُكْبَتُهُ تَمَسُّ(١٦) رُكْبَتَهُ] فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا فَقَالَ: صَدَقْتَ فَتَعَجَّبْنَا مِنْ سُؤَالِهِ وَتَصْدِيقِهِ. ثُمَّ قَالَ: فَمَا الْإِيمَانُ قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرَسُولِهِ وَبِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ فَقَالَ: صَدَقْتَ. ثُمَّ قَالَ: فَمَا الْإِحْسَانُ قَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ قَالَ: صَدَقْتَ ثُمَّ قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ فَقَالَ مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ بِهَا مِنَ السَّائِلِ قَالَ: صَدَقْتَ قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَاتِهَا قَالَ: أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي بُنْيَانِ الْمَدَرِ قَالَ: صَدَقْتَ ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ثَالِثَةٍ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: يَا عُمَرُ هَلْ تَدْرِي مَنِ الرَّجُلُ؟ قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قال: ذلك جبرئيل أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ أَمْرَ دِينِكُمْ وَمَا أَتَانِي فِي صُورَةٍ إِلَّا عَرَفْتُهُ فِيهَا إِلَّا فِي صُورَتِهِ هَذِهِ"(١٧) فَالنَّبِيُّ ﷺ جَعَلَ الْإِسْلَامَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ اسْمًا لِمَا ظَهَرَ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَالْإِيمَانَ اسْمًا لِمَا بَطَنَ مِنَ الِاعْتِقَادِ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ لَيْسَتْ مِنَ الْإِيمَانِ أَوِ التَّصْدِيقَ بِالْقَلْبِ لَيْسَ مِنَ الْإِسْلَامِ بَلْ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ لِجُمْلَةٍ هِيَ كُلُّهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ وَجِمَاعُهَا الدِّينُ، وَلِذَلِكَ قَالَ ذَاكَ جَبْرَائِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ أَمْرَ دِينِكُمْ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ مِنَ الْإِيمَانِ مَا أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الشَّاهِ ثَنَا أَبُو أَحْمَدَ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قُرَيْشِ بْنِ سُلَيْمَانَ ثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى ثَنَا خَلَفُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ جَرِيرٍ الرَّازِيِّ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ "الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ"(١٨) .
وَقِيلَ: الْإِيمَانُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْأَمَانِ، فَسُمِّيَ الْمُؤْمِنُ مُؤْمِنًا لِأَنَّهُ يُؤَمِّنُ نَفْسَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى مُؤْمِنٌ لِأَنَّهُ يُؤَمِّنُ الْعِبَادَ مِنْ عَذَابِهِ(١٩) .
قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿بِالْغَيْبِ﴾: وَالْغَيْبُ مَصْدَرٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الِاسْمِ فَقِيلَ لِلْغَائِبِ غَيْبٌ [كَمَا قِيلَ لِلْعَادِلِ عَدْلٌ وَلِلزَّائِرِ زَوْرٌ. وَالْغَيْبُ مَا كَانَ مَغِيبًا عَنِ الْعُيُونِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْغَيْبُ هَاهُنَا كُلُّ مَا أُمِرْتَ بِالْإِيمَانِ بِهِ فِيمَا غَابَ عَنْ بَصَرِكَ مِثْلَ الْمَلَائِكَةِ وَالْبَعْثِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ. وَقِيلَ الْغَيْبُ هَاهُنَا: هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقِيلَ: الْقُرْآنُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: بِالْآخِرَةِ وَقَالَ زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ: بِالْوَحْيِ. نَظِيرُهُ: ﴿أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ﴾ (٣٥-النَّجْمِ) وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: بِالْقَدَرِ وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ: كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَذَكَرْنَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ ﷺ [وَمَا سَبَقُونَا بِهِ](٢٠) فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّ أَمْرَ مُحَمَّدٍ كَانَ بَيِّنًا لِمَنْ رَآهُ وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا آمَنَ أَحَدٌ قَطُّ إِيمَانًا أَفْضَلَ مِنْ إِيمَانٍ بِغَيْبٍ ثُمَّ قَرَأَ "الم ذَلِكَ الْكِتَابُ" إِلَى قَوْلِهِ "الْمُفْلِحُونَ". قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَوَرْشٌ يُؤْمِنُونَ بِتَرْكِ الْهَمْزَةِ وَكَذَلِكَ أَبُو جَعْفَرٍ بِتَرْكِ كُلِّ هَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ إِلَّا فِي أَنْبِئْهُمْ وَنَبِّئْهُمْ وَنَبِّئْنَا وَيَتْرُكُ أَبُو عَمْرٍو كُلَّهَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ عَلَامَةً لِلْجَزْمِ نَحْوَ نَبِّئْهُمْ وَأَنْبِئْهُمْ وَتَسُؤْهُمْ وَإِنْ نَشَأْ وَنَنْسَأْهَا وَنَحْوَهَا أَوْ يَكُونَ خُرُوجًا مِنْ لُغَةٍ إِلَى أُخْرَى نَحْوَ مُؤْصَدَةٌ وَرِئْيًا. وَيَتْرُكُ وَرْشٌ كُلَّ هَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ كَانَتْ فَاءَ الْفِعْلِ إِلَّا تُؤْوِي وَتُؤْوِيهِ وَلَا يَتْرُكُ مِنْ عَيْنِ الْفِعْلِ: إِلَّا الرُّؤْيَا وَبَابَهُ، إِلَّا مَا كَانَ عَلَى وَزْنِ فِعْلٍ. مِثْلَ: ذِئْبٍ](٢١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ أَيْ يُدِيمُونَهَا وَيُحَافِظُونَ عَلَيْهَا فِي مَوَاقِيتِهَا بِحُدُودِهَا، وَأَرْكَانِهَا وَهَيْئَاتِهَا يُقَالُ: قَامَ بِالْأَمْرِ، وَأَقَامَ الْأَمْرَ إِذَا أَتَى بِهِ مُعْطًى حُقُوقَهُ، وَالْمُرَادُ بِهَا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ ذُكِرَ بِلَفْظِ (الْوُحْدَانِ)(٢٢) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ (٢١٣-الْبَقَرَةِ) يَعْنِي الْكُتُبَ.
وَالصَّلَاةُ فِي اللُّغَةِ: الدُّعَاءُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَصَلِّ عَلَيْهِمْ﴾ (١٠٣-التَّوْبَةِ) أَيِ ادْعُ لَهُمْ، وَفِي الشَّرِيعَةِ اسْمٌ لِأَفْعَالٍ مَخْصُوصَةٍ مِنْ قِيَامٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ وَقُعُودٍ وَدُعَاءٍ وَثَنَاءٍ. وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ﴾ (٥٦-الْأَحْزَابِ) الْآيَةَ إِنَّ الصَّلَاةَ مِنَ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الرَّحْمَةُ وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ الِاسْتِغْفَارُ، وَمِنَ الْمُؤْمِنِينَ: الدُّعَاءُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾ (أَيْ)(٢٣) أَعْطَيْنَاهُمْ وَالرِّزْقُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ حَتَّى الْوَلَدِ وَالْعَبْدِ وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ الْحَظُّ وَالنَّصِيبُ ﴿يُنْفِقُونَ﴾ يَتَصَدَّقُونَ. قَالَ قَتَادَةُ: يُنْفِقُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ. وَأَصْلُ الْإِنْفَاقِ: الْإِخْرَاجُ عَنِ الْيَدِ وَالْمُلْكِ، وَمِنْهُ نِفَاقُ السُّوقِ؛ لِأَنَّهُ تَخْرُجُ فِيهِ السِّلْعَةُ عَنِ الْيَدِ، ومنه: نَفَقَتِ الدَّابَّةُ إِذَا خَرَجَتْ رُوحُهَا. فَهَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمُؤْمِنِينَ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ يَعْنِي الْقُرْآنَ ﴿وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَسَائِرُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَيَتْرُكُ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَقَالُونُ (وَأَبُو عَمْرٍو)(٢٤) وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ وَيَعْقُوبُ كُلَّ مَدَّةٍ تَقَعُ بَيْنَ كُلِّ كَلِمَتَيْنِ. وَالْآخَرُونَ يَمُدُّونَهَا. وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَبِالآخِرَةِ﴾ أي بالدار الآخرة سميت الدنيا دنيا لدنوها من الآخرة وسميت الآخرة آخرة لتأخرها وكونها بعد الدنيا ﴿هُمْ يُوقِنُونَ﴾ أي يستيقنون أنها كائنة، مِنَ الْإِيقَانِ: وَهُوَ الْعِلْمُ. وَقِيلَ: الْإِيقَانُ وَالْيَقِينُ: عِلْمٌ عَنِ اسْتِدْلَالٍ. وَلِذَلِكَ لَا يُسَمَّى اللَّهُ مُوقِنًا وَلَا عِلْمُهُ يَقِينًا إِذْ لَيْسَ عِلْمُهُ عَنِ اسْتِدْلَالٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ﴾ أَيْ أَهْلُ هَذِهِ الصِّفَةِ وَأُولَاءِ كَلِمَةٌ مَعْنَاهَا الْكِنَايَةُ عَنْ جَمَاعَةٍ نَحْوُ: هُمْ، وَالْكَافُ لِلْخِطَابِ كَمَا فِي حَرْفِ ذَلِكَ ﴿عَلَى هُدًى﴾ أَيْ رُشْدٍ وَبَيَانٍ وَبَصِيرَةٍ ﴿مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ أي الناجون ٦/ب وَالْفَائِزُونَ فَازُوا بِالْجَنَّةِ وَنَجَوْا مِنَ النَّارِ، وَيَكُونُ الْفَلَاحُ بِمَعْنَى الْبَقَاءِ أَيْ بَاقُونَ فِي النَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَأَصْلُ الْفَلَاحِ الْقَطْعُ وَالشَّقُّ وَمِنْهُ سُمِّي الزَّرَّاعُ فَلَّاحًا لِأَنَّهُ يَشُقُّ الْأَرْضَ وَفِي الْمَثَلِ: الْحَدِيدُ بِالْحَدِيدِ يُفْلَحُ أَيْ يُشَقُّ فَهُمْ (مَقْطُوعٌ)(٢٥) لَهُمْ بِالْخَيْرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

(١) البقرة: مائتان وثمانون وخمس، وقيل ست، وقيل سبع. (الإتقان - المجلد الأول- ٢٣٥) .
(٢) في ب: الهجاء.
(٣) في أ: المعنى.
(٤) هذا الرجز للوليد بن عقبة، وتمامه: "لا نحسبي أنا نسينا الإيجاف". انظر: تفسير الطبري: ١ / ٢١٢، تفسير الواحدي: ١ / ٢٦.
(٥) في هامش (أ) : مقطعة غير مؤلفة.
(٦) في الأصل: السورة.
(٧) في المطبوع: مباني.
(٨) انظر في هذه الأقوال: تفسير الطبري: ١ / ٢٠٥-٢٢٤، تفسير الواحدي: ١ / ٢٥-٢٦.
(٩) ساقط من (ب) .
(١٠) في ب: فأشبعه.
(١١) رواه مسلم في الجهاد والسير باب في غزوة حنين (١٧٧٦) عن البراء: ٣ / ١٤٠١. وأخرجه المصنف في شرح السنة ٤ / ٣٣.
(١٢) انفرد ابن كثير بأن المسئول هو أبي بن كعب - حاشية ابن كثير.
(١٣) زيادة من (ب) .
(١٤) زيادة من (ب) .
(١٥) في الأصل: لأحد.
(١٦) في الأصل: يمس ركبته.
(١٧) أخرجه البخاري في الإيمان، باب سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام: ١ / ١١٤. ومسلم في الإيمان، باب الإيمان والإسلام والإحسان برقم ٨و٩: ١ / ٣٦-٣٧. وأخرجه المصنف في شرح السنة: ١ / ٨-٩.
(١٨) أخرجه البخاري في الإيمان، باب أمور الإيمان: ١ / ٥٠. ومسلم في الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها برقم (٥٧) : ١ / ٦٣ وأخرجه المصنف في شرح السنة: ١ / ٣٤.
(١٩) راجع بالتفصيل فيما يتعلق بمباحث الإيمان كتاب "الإيمان" لشيخ الإسلام ابن تيمية.
(٢٠) زيادة من "ب".
(٢١) ساقط من حاشية ابن كثير ومثبت على حاشية الخازن ص (٢٥) .
(٢٢) في (ب) : الواحد.
(٢٣) زيادة من (ب) .
(٢٤) زيادة من (ب) .
(٢٥) في ب: المقطوع.
   
فتح البيان — صديق حسن خان (١٣٠٧ هـ)

﴿ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ﴾ [البقرة ٣]
(الذين يؤمنون بالغيب) هو وصف للمتقين كاشف، وأصل الإيمان في اللغة التصديق، قال تعالى (وما أنت بمؤمن لنا) أي بمصدق وتعديته بالباء لتضمنه معنى الإعتراف، وقد يطلق بمعنى الوثوق وكلا الوجهين حسن هنا، والغيب في كلام العرب كل ما غاب عنك. قال القرطبي واختلف المفسرون في تأويل الغيب هنا فقالت فرقة الغيب هو الله سبحانه، وضعفه ابن العربي، وقال آخرون القضاء والقدر. وقال آخرون القرآن وما فيه من الغيوب وقيل القلب أي يصدقون بقلوبهم، وقيل الغيب الخفاء، وقال آخرون الغيب كل ما أخبر به الرسول مما لا تهدي إليه العقول من أشراط الساعة، وعذاب القبر والحشر والنشر والصراط والميزان والجنة والنار.
قال ابن عطية وهذه الأقوال لا تتعارض بل يقع الغيب على جميعها. قال وهذا هو الإيمان الشرعي المشار إليه في حديث جبرائيل حين قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - " فأخبرني عن الإيمان قال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ونؤمن بالقدر خيره وشره قال صدقت " انتهى، وهذا الحديث هو ثابت في الصحيح بلفظ " والقدر خيره وشره "(١).
وقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن منده وأبو نعيم كلاهما في معرفة الصحابة عن نزيلة بنت أسلم قالت صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة واستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا سجدتين ثم جاءنا من يخبرنا بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد استقبل البيت فتحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال، فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيت الحرام، فبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال " أولئك قوم آمنوا بالغيب " وأخرج البزار وأبو يعلى والحاكم وصححه عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال كنت جالساً مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أنبئوني بأفضل أهل الإيمان إيماناً " فقالوا يا رسول الله الملائكة قال هم كذلك ويحق لهم، وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها قالوا يا رسول الله " الأنبياء الذين أكرمهم الله برسالته ونبوته " قال هم كذلك ويحق لهم وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها قالوا يا رسول الله الشهداء الذين استشهدوا مع الأنبياء. قال هم كذلك وما يمنعهم وقد أكرمهم الله بالشهادة.
قالوا فمن يا رسول الله؟ قال " أقوام في أصلاب الرجال يأتون من بعدي يؤمنون بى ولم يروني ويصدقوني ولم يروني يجدون الورق المعلق فيعملون بما فيه فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيماناً "(٢) وفي إسناده محمد بن أبي حميد، وفيه ضعف.
وأخرج حسن بن عرفة في جزئه المشهور والبيهقي في الدلائل عن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر نحو الحديث الأول وفي إسناده المغيرة بن قيس البصري وهو منكر الحديث وأخرج نحوه الطبراني عن ابن عباس مرفوعاً والإسماعيلي عن أبي هريرة مرفوعاً أيضاً والبزار عن أنس مرفوعاً.
وأخرج ابن أبي شيبة في مسنده عن عوف بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يا ليتني قد لقيت إخواني " قالوا يا رسول الله ألسنا إخوانك، قال " بلى ولكن قوم يجيئون من بعدكم يؤمنون بي إيمانكم ويصدقوني تصديقكم وينصروني نصركم، فيا ليتني قد لقيت إخواني "(٣) وعن أبي جمعة الأنصاري قال: قلت يا رسول الله هل من قوم أعظم منا أجراً: آمنا بك واتبعناك قال: ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم، يأتيكم بالوحي من السماء، بل قوم يأتون من بعدكم، يأتيهم كتاب الله بين لوحين فيؤمنون بي ويعملون بما فيه، أولئك أعظم منكم أجراً(٤) " أخرجه أحمد والدارمي والبارودي وابن قانع معاً في معجم الصحابة، والبخاري في تاريخه والطبراني والحاكم عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى لمن آمن بي ولم يرني سبع مرات " أخرجه الطيالسي وأحمد والبخاري في تاريخه والطبراني والحاكم.
وأخرج أحمد وابن حبان عن أبي سعيد أن رجلاً قال يا رسول الله طوبى لمن رآك وآمن بك. قال: " طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني " وأخرج الطيالسي وعبد بن حميد عن ابن عمر نحوه، وأخرج أحمد وأبو يعلى والطبراني من حديث أنس نحو حديث الباهلي المتقدم.
وعن ابن مسعود أنه قال والذي لا إله غيره ما آمن أحد أفضل من إيمان بغيب ثم قرأ (آلم) الآية، وللتابعين أقوال، والراجح ما تقدم من أن الإيمان الشرعي يصدق على جميع ما ذكر هنا.
وذكر الحافظ ابن حجر في الفتح كلاماً مفيداً في حديث عمر بن الخطاب المتقدم باعتبار ما ورد في الصحابة، وحاصله أن فضيلة الصحابة لا يعدلها عمل لمشاهدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومجرد زيادة الأجر لا يستلزم أفضلية غير الصحابة على الصحابة لأن الأجر إنما يقع مفاضلة بالنسبة إلى ما يماثله من العمل، ومشاهدة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعدلها عمل، هذا حاصل ما أشار إليه وهو محتاج إليه لأنه كثيراً ما يستشكل الجمع بين الأحاديث والله أعلم.
قال ابن جرير في هذه الاَية: والأولى أن يكونوا موصوفين بالإيمان بالغيب قولاً واعتقاداً وعملاً، وتدخل الخشية لله في معنى الإيمان الذي هو تصديق القول بالعمل، والإيمان كلمة جامعة للإقرار بالله وكتبه ورسله وتصديق الإقرار بالفعل، وقال ابن كثير إن الإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقاداً وقولاً وعملاً، هكذا ذهب إليه أكثر الأئمة بل قد حكاه الشافعي وأحمد وأبو عبيد وغير واحد إجماعاً أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، وقد ورد فيه آثار كثيرة انتهى.
وقد أنكر أكثر المتكلمين زيادة الإيمان ونقصانه، وقال أهل السنة إن نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص، والإيمان الشرعي يزيد وينقص بزيادة الأعمال ونقصانها، وبهذا أمكن الجمع بين ظواهر النصوص من الكتاب والسنة التي جاءت بزيادة الإيمان ونقصانه، وبين أصله من اللغة.
والدليل على أن الأعمال من الإيمان قوله - صلى الله عليه وسلم - " الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان(٥) " أخرجه الشيخان عن أبي هريرة.
ولشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام كلام في معنى الغيب وعالمه في كتاب العقل والنقل حاصله أن من زعم أن عالم الغيب الذي أخبر به الله والرسل هو العالم العقلي الذي يثبته هؤلاء الفلاسفة فهو من أضل الناس، فإن ابن سينا ومن سلك سبيله في هذا كالشهرستاني والرازي وغيرهما يقولون إن الإلهيين يثبتون العالم العقلي ويردون على الطبيعيين منهم الذين لا يثبتون إلا العالم الحسي ويدعون أن العالم العقلي الذي يثبتونه هو ما أخبرت به الرسل من الغيب الذي أمروا بالإيمان به مثل وجود الرب والملائكة والجنة، وليس الأمر كذلك، فإن ما يثبتونه من العقليات إذا حقق الأمر لم يكن لها وجود إلا في العقل، وسميت مجردات ومفارقات لأن العقل يجرد الأمور الكلية عن المغيبات، وأما تسميتها مفارقات فكان أصله أن النفس الناطقة تفارق البدن وتصير حينئذ عقلاً وكانوا يسمون ما جامع المادة بالتدبير لها كالنفس قبل الموت نفساً وما فارقها بالكلية فلم يتعلق بها لا تعلق تدبير ولا غيره عقلاً، ولا ريب أن النفس الناطقة قائمة بنفسها باقية بعد الموت منعمة أو معذبة كما دل على ذلك نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها ثم تعاد إلى الأبدان.
والمقصود هنا أن ما يثبتونه من العقليات إذا حققت لم يكن إلا ما ثبت في عقل الإنسان، ولهذا كان منتهى تحقيقهم الوجود المطلق، وهو الوجود المترك بين الموجودات. وهذا إنما يكون مطلقاً في الأذهان لا في الأعيان، والمتفلسفة يجعلون الكلي المشترك موضوع العلم الإلهي، وأما الوجود الواجب فتارة يقولون هو الوجود المقيد بالقيود السلبية كما يقوله ابن سينا، وتارة يجعلونه المجرد عن كل قيد سلبي وثبوتي كما يقوله بعض الملاحدة من باطنية الرافضة والإتحادية، وتارة يجعلونه نفس وجود الموجودات فلا يجعلون للممكنات وجوداً غير الوجود الواجب، وغايتهم أنهم يجعلون في أنفسهم شيئاً ويظنون أن ذلك موجود في الخارج، ولهذا يمدهم الشياطين، فإن الشياطين تتصرف في الخيال وتلقي في خيالات الناس أموراً لا حقيقة لها، ومحققو هؤلاء يقولون أرض الحقيقة هي أرض الخيال.
وأما ما أخبرت به الرسل موجودة من الغيب، فهو أمور ثابتة أكمل وأعظم مما نشاهده نحن في هذه الدار وتلك أمور محسوسة تشاهد وتحس، ولكن بعد الموت وفي الدار الآخرة، ويمكن أن يشاهدها في هذه الدار من يختصه الله بذلك ليست عقلية قائمة بالعقل، ولهذا كان الفرق بينها وبين الحسيات التي نشاهدها أن تلك غيب وهذه شهادة قال تعالى (الذين يؤمنون بالغيب) وكون الشيء غائباً وشاهداً أمر إضافي بالنسبة إلينا، فإذا غاب عنا كان غيباً، وإذا شاهدناه كان شهادة، ليس هو فرقاً يعود إلى أن ذاته تعقل ولا تشاهد ولا تحس، بل كل ما يعقل ولا يمكن أن يشاهد بحال فإنما يكون في الذهن، والملائكة يمكن أن يشاهدوا ويروا الرب تعالى، وممكن رؤيته بالأبصار والمؤمنون يرونه يوم القيامة وفي الجنة كما تواترت النصوص في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، واتفق على ذلك سلف الأمة وأئمتها، وإمكان رؤيته يعلم بالدلائل العقلية القاطعة، لكن ليس هو الدليل الذي سلكه طائفة من أهل الكلام كأبي الحسن وأمثاله حيث ادعوا أن كل موجود يمكن رؤيته، بل قالوا وممكن أن يتعلق به الحواس الخمس السمع والبصر والشم والذوق واللمس، فإن هذا مما يعلم فساده بالضرورة عند جماهير العلماء، وهذا من أغاليط بعض المتكلمين، هذا. قوله (ويقيمون الصلاة) أي يداومون عليها، والإقامة في الأصل الدوام والثبات، وليس من القيام على الرجل، وإنما هو من قولك قام الحق أي ظهر وثبت، وإقامة الصلاة أداؤها بأركانها وسننها وهيآتها في أوقاتها وحفظها من أن يقع فيها خلل في فرائضها وحدودها وزيغ في أفعالها وإتمام أركانها، والصلاة أصلها في اللغة الدعاء من صلى يصلي إذا دعا، ذكر هذا الجوهري وغيره، وقال قوم هي مأخوذة من الصلا، وهو عرق في وسط الظهر ويفترق عند العجب، ذكر هذا القرطبي، وهذا هو المعنى اللغوي.
وأما المعنى الشرعي فهو هذه الصلاة التي هي ذات الأركان والأذكار، قال ابن عباس المراد به الصلوات الخمس وقال قتادة إن إقامة الصلاة المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها.
(ومما رزقناهم ينفقون) أي يخرجون ويتصدقون في طاعة الله وفي سبيله والرزق عند الجمهور ما صلح للإنتفاع به حلالاً كان أو حراماً خلافاً للمعتزلة فقالوا إن الحرام ليس برزق، وللبحث في هذه المسألة موضع غير هذا، والإنفاق إخراج المال من اليد وأنفق الشيء وأنفده أخوان، ولو استقريت الألفاظ وجدت كل ما فاؤه نون وعينه فاء دالاً على معنى الذهاب والخروج.
وفي المجيء بمن التبعيضية ههنا نكتة سرية هي الإرشاد إلى ترك الإسراف والتبذير، وتقديم المفعول للاهتمام به والمحافظة على رؤوس الآي، قال أبو بكر الباقلاني: ذهب الأشاعرة كلهم إلى نفي السجع عن القرآن، وذهب كثير ممن خالفهم إلى إثباته انتهى، قال البقاعي الثاني فاسد، وأطال في بيان ذلك بلا طائل، والحق أنه في القرآن من غير التزام له في الأكثر، وكأن من نفاه نفى التزامه أو أكثريته، ومن أثبته أراد وروده فيه في الجملة، فاحفظه ولا تلتفت لما سواه، والذي عليه العلماء أنه تطلق الفواصل عليه دون السجع قاله الخفاجي.
قال: ابن عباس يعني زكاة أموالهم، وعن قتادة يعني الإنفاق في فرائض الله التي افترض عليهم في طاعته وسبيله كالزكاة والنذر وفي الجهاد وعلى النفس وقال ابن مسعود هي نفقة الرجل على أهله، واختار ابن جرير أن الآية عامة في الزكاة والنفقات وهو الحق من غير فرق بين النفقة على الأقارب وغيرهم وصدقة الفرض والنفل، وعدم التصريح بنوع من الأنواع التي يصدق عليها مسمى الإنفاق يشعر أتم إشعار بالتعميم(٦).
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)

(١) جزء من الحديث الطويل عن عمر بن الخطاب انظر تمامة مسلم/8.
(٢) الدارمي رقاق 31، أحمد بن حنبل 4/ 106. المستدرك 4/ 85.
(٣) أحمد بن حنبل 3/ 71 - 5/ 248 - 257 - 264.
(٤) أحمد بن حنبل 3/ 71 - 5/ 248 - 257 - 264.
(٥) مسلم/35 - البخاري/9.
(٦) وقد ذكر ابن الجوزي في تفسيره زاد المسير في علم التفسير لهذه الآية أراء عدة منها: " أنها النفقة التي كانت واجبة قبل وجوب الزكاة، ذكره بعض المفسرين، وقالوا: إنه كان فرض على الرجل أن يمسك مما في يده مقدار كفايته يومه وليلته، ويفرق باقيه على الفقراء. فعلى قول هؤلاء الآية منسوخة بآية الزكاة، وغير هذا القول أثبت.
واعلم أن الحكمة في الجمع بين الإيمان بالغيب وهو عقد القلب وبين الصلاة وهي فعل البدن، وبين الصدقة وهو تكليف يتعلق بالمال، إنه ليس في التكليف قسم رابع، إذا ما عدا هذه الأقسام فهو ممتزج بين اثنين منهما كالحج والصوم ونحوهما إ - هـ. (زاد المسير 1/ 26).
   
فتح القدير — الشوكاني (١٢٥٠ هـ)

﴿ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ﴾ [البقرة ٣]
هُوَ وصْفٌ لِلْمُتَّقِينَ كاشِفٌ، والإيمانُ في اللُّغَةِ: التَّصْدِيقُ، وفي الشَّرْعِ ما سَيَأْتِي.
والغَيْبُ في كَلامِ العَرَبِ: كُلُّ ما غابَ عَنْكَ.
قالَ القُرْطُبِيُّ: واخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في تَأْوِيلِ الغَيْبِ هُنا، فَقالَتْ فِرْقَةٌ: الغَيْبُ في هَذِهِ الآيَةِ هو اللَّهُ سُبْحانَهُ، وضَعَفَّهُ ابْنُ العَرَبِيِّ.
وقالَ آخَرُونَ: القَضاءُ والقَدْرُ.
وقالَ آخَرُونَ: القُرْآنُ وما فِيهِ مِنَ الغُيُوبِ.
وقالَ آخَرُونَ: الغَيْبُ كُلُّ ما أخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ مِمّا لا تَهْتَدِي إلَيْهِ العُقُولُ مِن أشْراطِ السّاعَةِ وعَذابِ القَبْرِ والحَشْرِ والنَّشْرِ والصِّراطِ والمِيزانِ والجَنَّةِ والنّارِ.
قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذِهِ الأقْوالُ لا تَتَعارَضُ بَلْ يَقَعُ الغَيْبُ عَلى جَمِيعِها، قالَ: وهَذا هو الإيمانُ الشَّرْعِيُّ المُشارُ إلَيْهِ في حَدِيثِ جِبْرِيلَ حِينَ قالَ لِلنَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «فَأخْبِرْنِي عَنِ الإيمانِ ؟ قالَ: أنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ واليَوْمِ الآخِرِ، وتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ، قالَ: صَدَقْتَ انْتَهى» .
وهَذا الحَدِيثُ هو ثابِتٌ في الصَّحِيحِ بِلَفْظِ: «أنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ، والقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ» .
وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ والطَّبَرانِيُّ وابْنُ مَندَهْ وأبُو نُعَيْمٍ كِلاهُما في مَعْرِفَةِ الصَّحابَةِ عَنْ تَوِيلَةَ بِنْتِ أسْلَمَ قالَتْ: «صَلَّيْتُ الظُّهْرَ أوِ العَصْرَ في مَسْجِدِ بَنِي حارِثَةَ، فاسْتَقْبَلْنا مَسْجِدَ إيلِيا فَصَلَّيْنا سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ جاءَنا مَن يُخْبِرُنا بِأنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قَدِ اسْتَقْبَلَ البَيْتَ، فَتَحَوَّلَ الرِّجالُ مَكانَ النِّساءِ والنِّساءُ مَكانَ الرِّجالِ، فَصَلَّيْنا السَّجْدَتَيْنِ الباقِيَتَيْنِ ونَحْنُ مُسْتَقْبِلُونَ البَيْتَ الحَرامَ، فَبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ فَقالَ: أُولَئِكَ قَوْمٌ آمَنُوا بِالغَيْبِ» .
وأخْرَجَ البَزّارُ وأبُو يَعْلى والحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ قالَ: كُنْتُ جالِسًا مَعَ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ فَقالَ: «أنْبِئُونِي بِأفْضَلِ أهْلِ الإيمانِ إيمانًا ؟ فَقالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ المَلائِكَةُ، قالَ: هم كَذَلِكَ ويَحِقُّ لَهم، وما يَمْنَعُهم وقَدْ أنْزَلَهُمُ اللَّهُ المَنزِلَةَ الَّتِي أنْزَلَهم بِها، قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ الأنْبِياءُ الَّذِينَ أكْرَمَهُمُ اللَّهُ بِرِسالَتِهِ والنُّبُوَّةِ، قالَ: هم كَذَلِكَ ويَحِقُّ لَهم، وما يَمْنَعُهم وقَدْ أنْزَلَهُمُ اللَّهُ المَنزِلَةَ الَّتِي أنْزَلَهم بِها، قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ الشُّهَداءُ الَّذِينَ اسْتَشْهَدُوا مَعَ الأنْبِياءِ، قالَ: هم كَذَلِكَ، وما يَمْنَعُهم وقَدْ أكْرَمَهُمُ اللَّهُ بِالشَّهادَةِ، قالُوا: فَمَن يا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قالَ: أقْوامٌ في أصْلابِ الرِّجالِ يَأْتُونَ مِن بَعْدِي يُؤْمِنُونَ بِي ولَمْ يَرَوْنِي ويُصَدِّقُونِي ولَمْ يَرَوْنِي، يَجِدُونَ الوَرَقَ المُعَلَّقَ فَيَعْمَلُونَ بِما فِيهِ، فَهَؤُلاءِ أفْضَلُ أهْلِ الإيمانِ إيمانًا» وفي إسْنادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ أبِي حُمَيْدٍ وفِيهِ ضَعْفٌ.
وأخْرَجَ الحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ في حِزْبِهِ المَشْهُورِ والبَيْهَقِيُّ في الدَّلائِلِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ، فَذَكَرَ نَحْوَ الحَدِيثِ الأوَّلِ، وفي إسْنادِهِ المُغِيرَةُ بْنُ قَيْسٍ البَصَرِيُّ وهو مُنْكَرُ الحَدِيثِ.
وأخْرَجَ نَحْوَهُ الطَّبَرانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مَرْفُوعًا، والإسْماعِيلِيُّ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا أيْضًا، والبَزّارُ عَنْ أنَسٍ مَرْفُوعًا، وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ في مُسْنَدِهِ عَنْ عَوْفِ بْنِ مالِكٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «يا لَيْتَنِي قَدْ لَقِيتُ إخْوانِي. قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ ألَسْنا إخْوانَكَ ؟ قالَ: بَلى، ولَكِنْ قَوْمٌ يَجِيئُونَ مِن بَعْدِكم يُؤْمِنُونَ بِي إيمانَكم ويُصَدِّقُونِي تَصْدِيقَكم ويَنْصُرُونِي نَصْرَكم، فَيا لَيْتَنِي قَدْ لَقِيتُ إخْوانِي» وأخْرَجَ نَحْوَهُ ابْنُ عَساكِرَ في الأرْبَعِينَ السُّباعِيَّةِ مِن حَدِيثِ أنَسٍ، وفي إسْنادِهِ أبُو هُدْبَةَ وهو كَذّابٌ، وزادَ فِيهِ «ثُمَّ قَرَأ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾» [البقرة: ٣] الآيَةَ " .
وأخْرَجَ أحْمَدُ والدّارِمِيُّ والبارُودِيُّ وابْنُ قانِعٍ مَعًا في مُعْجَمِ الصَّحابَةِ والبُخارِيُّ في تارِيخِهِ والطَّبَرانِيُّ والحاكِمُ عَنْ أبِي جُمُعَةَ الأنْصارِيِّ قالَ: قُلْتُ: «يا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ مِن قَوْمٍ أعْظَمَ مِنّا أجْرًا آمَنّا بِكَ واتَّبَعْناكَ ؟ قالَ: ما يَمْنَعُكم مِن ذَلِكَ ورَسُولُ اللَّهِ بَيْنَ أظْهُرِكم يَأْتِيكم بِالوَحْيِ مِنَ السَّماءِ، بَلْ قَوْمٌ يَأْتُونَ مِن بَعْدِكم يَأْتِيهِمْ كِتابُ اللَّهِ بَيْنَ لَوْحَيْنِ فَيُؤْمِنُونَ بِي ويَعْمَلُونَ بِما فِيهِ أُولَئِكَ أعْظَمُ مِنكم أجْرًا» .
وأخْرَجَ أحْمَدُ وابْنُ أبِي شَيْبَةَ والحاكِمُ عَنْ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الجُهَنِيِّ قالَ: «بَيْنَما نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ إذْ طَلَعَ راكِبانِ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: كِنْدِيّانِ أوْ مَذْحَجِيّانِ حَتّى أتَيا، فَإذا رَجُلانِ مِن مَذْحِجٍ، فَدَنا أحَدُهُما لِيُبايِعَهُ، فَلَمّا أخَذَ بِيَدِهِ قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ أرَأيْتَ مَن جاءَكَ فَآمَنَ بِكَ واتَّبَعَكَ وصَدَّقَكَ فَماذا لَهُ ؟ قالَ: طُوبى لَهُ، فَمَسَحَ عَلى زَنْدِهِ وانْصَرَفَ، ثُمَّ جاءَ الآخَرُ حَتّى أخَذَ بِيَدِهِ لِيُبايِعَهُ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ أرَأيْتَ مَن آمَنَ بِكَ وصَدَّقَكَ واتَّبَعَكَ ولَمْ يَرَكَ ؟ قالَ: طُوبى لَهُ ثُمَّ طُوبى لَهُ، ثُمَّ مَسَحَ عَلى زَنْدِهِ وانْصَرَفَ» .
وأخْرَجَ الطَّيالِسِيُّ وأحْمَدُ والبُخارِيُّ في تارِيخِهِ والطَّبَرانِيُّ والحاكِمُ عَنْ أبِي أُمامَةَ الباهِلِيِّ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «طُوبى لِمَن رَآنِي وآمَنَ بِي، وطُوبى لِمَن آمَنَ بِي ولَمْ يَرَنِي سَبْعَ مَرّاتٍ» .
وأخْرَجَ أحْمَدُ وابْنُ حِبّانَ عَنْ أبِي سَعِيدٍ أنَّ رَجُلًا قالَ: «يا رَسُولَ اللَّهِ طُوبى لِمَن رَآكَ وآمَنَ بِكَ ؟ قالَ: طُوبى لِمَن رَآنِي وآمَنَ بِي، وطُوبى ثُمَّ طُوبى ثُمَّ طُوبى لِمَن آمَنَ بِي ولَمْ يَرَنِي» وأخْرَجَ الطَّيالِسِيُّ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ.
وأخْرَجَ أحْمَدُ وأبُو يَعْلى والطَّبَرانِيُّ مِن حَدِيثِ أنَسٍ نَحْوَ حَدِيثِ أبِي أُمامَةَ الباهِلِيِّ المُتَقَدِّمِ.
وأخْرَجَ سُفْيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وسَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ وأحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ في مُسْنَدِهِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ الضُّبارِيِّ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أنَّهُ قالَ: والَّذِي لا إلَهَ غَيْرُهُ ما آمَنَ أحَدٌ أفْضَلَ مِن إيمانٍ بِغَيْبٍ، ثُمَّ قَرَأ ﴿الم﴾ ﴿ذَلِكَ الكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿المُفْلِحُونَ﴾ [البقرة: ١ - ٥] .
ولِلتّابِعِينَ أقْوالٌ، والرّاجِحُ ما تَقَدَّمَ مِن أنَّ الإيمانَ الشَّرْعِيَّ يَصْدُقُ عَلى جَمِيعِ ما ذُكِرَ هُنا.
قالَ ابْنُ جَرِيرٍ: والأوْلى أنْ تَكُونُوا مَوْصُوفِينَ بِالإيمانِ بِالغَيْبِ قَوْلًا واعْتِقادًا وعَمَلًا.
قالَ: وتَدْخُلُ الخَشْيَةُ لِلَّهِ في مَعْنى الإيمانِ الَّذِي هو تَصْدِيقُ القَوْلِ بِالعَمَلِ.
والإيمانُ كَلِمَةٌ جامِعَةٌ لِلْإقْرارِ بِاللَّهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ وتَصْدِيقُ الإقْرارِ بِالفِعْلِ.
وقالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إنَّ الإيمانَ الشَّرْعِيَّ المَطْلُوبَ لا يَكُونُ إلّا اعْتِقادًا وقَوْلًا وعَمَلًا، هَكَذا ذَهَبَ إلَيْهِ أكْثَرُ الأئِمَّةِ.
بَلْ قَدْ حَكاهُ الشّافِعِيُّ وأحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وأبُو عُبَيْدٍ وغَيْرُ واحِدٍ إجْماعًا أنَّ الإيمانَ قَوْلٌ وعَمَلٌ ويَزِيدُ ويَنْقُصُ.
وقَدْ ورَدَ فِيهِ آياتٌ كَثِيرَةٌ.
انْتَهى.
* * *
هُوَ مَعْطُوفٌ عَلى ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ والإقامَةُ في الأصْلِ: الدَّوامُ والثَّباتُ.
يُقالُ: قامَ الشَّيْءُ: أيْ دامَ وثَبَتَ.
ولَيْسَ مِنَ القِيامِ عَلى الرِّجْلِ، وإنَّما هو مِن قَوْلِكَ قامَ الحَقُّ: أيْ ظَهَرَ وثَبَتَ، قالَ الشّاعِرُ:
وقامَتِ الحَرْبُ بِنا عَلى ساقِ

وقالَ آخَرُ:
وإذا يُقالُ أقِيمُوا لَمْ تَبْرَحُوا ∗∗∗ حَتّى تُقِيمَ الخَيْلُ سُوقَ طِعانِ

وإقامَةُ الصَّلاةِ أداؤُها بِأرْكانِها وسُنَنِها وهَيْئاتِها في أوْقاتِها.
والصَّلاةُ أصْلُها في اللُّغَةِ: الدُّعاءُ مِن صَلّى يُصَلِّي إذا دَعا.
وقَدْ ذَكَرَ هَذا الجَوْهَرِيُّ وغَيْرُهُ.
وقالَ قَوْمٌ: هي مَأْخُوذَةٌ مِنَ الصَّلا، وهو عِرْقٌ في وسَطِ الظَّهْرِ ويَفْتَرِقُ عِنْدَ العَجْبِ.
ومِنهُ أخَذَ المُصَلِّي في سَبْقِ الخَيْلِ؛ لِأنَّهُ يَأْتِي في الحَلْبَةِ ورَأْسُهُ عِنْدَ صَلْوَيِ السّابِقِ، فاشْتُقَّتْ مِنهُ الصَّلاةُ لِأنَّها ثانِيَةٌ لِلْإيمانِ فَشُبِّهَتْ بِالمُصَلِّي مِنَ الخَيْلِ.
وإمّا لِأنَّ الرّاكِعَ يُثْنِي صَلْوَيْهِ، والصَّلا مَغْرِزُ الذَّنَبِ مِنَ الفَرَسِ والِاثْنانِ صَلْوانِ، والمُصَلِّي تالِي السّابِقِ لِأنَّ رَأْسَهُ عِنْدَ صَلْوِهِ.
ذَكَرَ هَذا القُرْطُبِيُّ في تَفْسِيرِهِ.
وقَدْ ذُكِرَ المَعْنى الثّانِي في الكَشّافِ، هَذا المَعْنى اللُّغَوِيُّ.
وأمّا المَعْنى الشَّرْعِيُّ فَهو هَذِهِ الصَّلاةُ الَّتِي هي ذاتُ الأرْكانِ والأذْكارِ.
وقَدِ اخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ هَلْ هي مُبْقاةٌ عَلى أصْلِها اللُّغَوِيِّ أوْ مَوْضُوعَةٌ وضْعًا شَرْعِيًّا ابْتِدائِيًّا.
فَقِيلَ: بِالأوَّلِ، وإنَّما جاءَ الشَّرْعُ بِزِياداتٍ هي الشُّرُوطُ والفُرُوضُ الثّابِتَةُ فِيها.
وقالَ قَوْمٌ: بِالثّانِي.
والرِّزْقُ عِنْدَ الجُمْهُورِ ما صَلَحَ لِلِانْتِفاعِ بِهِ حَلالًا كانَ أوْ حَرامًا خِلافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ.
فَقالُوا: إنَّ الحَرامَ لَيْسَ بِرِزْقٍ، ولِلْبَحْثِ في هَذِهِ المَسْألَةِ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذا.
والإنْفاقُ: إخْراجُ المالِ مِنَ اليَدِ، وفي المَجِيءِ بِمِنَ التَّبْعِيضِيَّةِ هاهُنا نُكْتَةٌ سَرِيَّةٌ هي الإرْشادُ إلى تَرْكِ الإسْرافِ.
وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ إسْحاقَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿يُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾ قالَ: الصَّلَواتُ الخَمْسُ ﴿ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ قالَ: زَكاةُ أمْوالِهِمْ.
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتادَةَ أنَّ إقامَةَ الصَّلاةِ المُحافَظَةُ عَلى مَواقِيتِها ووُضُوئِها ورُكُوعِها وسُجُودِها ﴿ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ قالَ: أنْفَقُوا في فَرائِضِ اللَّهِ الَّتِي افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ في طاعَتِهِ وسَبِيلِهِ.
وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوَهُ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ في قَوْلِهِ: ﴿ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ قالَ: هي نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلى أهْلِهِ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحّاكِ قالَ: كانَتِ النَّفَقاتُ قُرُباتٍ يَتَقَرَّبُونَ بِها إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ عَلى قَدْرِ مَيْسُورِهِمْ وجُهْدِهِمْ حَتّى نَزَلَتْ فَرائِضُ الصَّدَقاتِ في سُورَةِ بَراءَةَ هُنَّ النّاسِخاتُ المُبَيِّناتُ.
واخْتارَ ابْنُ جَرِيرٍ أنَّ الآيَةَ عامَّةٌ في الزَّكاةِ والنَّفَقاتِ، وهو الحَقُّ مِن غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ النَّفَقَةِ عَلى الأقارِبِ وغَيْرِهِمْ وصَدَقَةِ الفَرْضِ والنَّفْلِ، وعَدَمُ التَّصْرِيحِ بِنَوْعٍ مِنَ الأنْواعِ الَّتِي يَصْدُقُ عَلَيْها مُسَمّى الإنْفاقِ يُشْعِرُ أتَمَّ إشْعارٍ بِالتَّعْمِيمِ.
* * *
﴿أُولَئِكَ عَلى هُدًى مِن رَبِّهِمْ وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ هَذا كَلامٌ مُسْتَأْنَفٌ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا، كَأنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ حالُ هَؤُلاءِ الجامِعِينَ بَيْنَ التَّقْوى والإيمانِ بِالغَيْبِ والإتْيانِ بِالفَرائِضِ والإيمانِ بِما أُنْزِلَ عَلى رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ وعَلى مَن قَبْلَهُ مِنَ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ فَقِيلَ: ﴿أُولَئِكَ عَلى هُدًى﴾ ويُمْكِنُ أنْ يَكُونَ هَذا خَبَرًا عَنِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ إلَخْ فَيَكُونُ مُتَّصِلًا بِما قَبْلَهُ.
قالَ في الكَشّافِ: ومَعْنى الِاسْتِعْلاءِ في قَوْلِهِ: عَلى هُدًى مَثَلٌ لِتَمَكُّنِهِمْ مِنَ الهُدى واسْتِقْرارِهِمْ عَلَيْهِ وتَمَسُّكِهِمْ بِهِ، شُبِّهَتْ حالُهم حالَ مَنِ اعْتَلى الشَّيْءَ ورَكِبَهُ، ونَحْوَهُ: هو عَلى الحَقِّ وعَلى الباطِلِ.
وقَدْ صَرَّحُوا بِذَلِكَ في قَوْلِهِ: جَعَلَ الغَوايَةَ مَرْكَبًا وامْتَطى الجَهْلَ واقْتَعَدَ عازِبَ الهَوى انْتَهى.
وقَدْ أطالَ المُحَقِّقُونَ الكَلامَ عَلى هَذا بِما لا يَتَّسِعُ لَهُ المَقامُ، واشْتُهِرَ الخِلافُ في ذَلِكَ بَيْنَ المُحَقِّقِ السَّعْدِ والمُحَقِّقِ الشَّرِيفِ.
واخْتَلَفَ مَن بَعْدَهم في تَرْجِيحِ الرّاجِحِ مِنَ القَوْلَيْنِ، وقَدْ جَمَعْتُ في ذَلِكَ رِسالَةً سَمَّيْتُها [ الطَّوْدُ المُنِيفُ في تَرْجِيحٍ ما قالَهُ السَّعْدُ عَلى ما قالَهُ الشَّرِيفُ ] فَلْيَرْجِعْ إلَيْها مَن أرادَ أنْ يَتَّضِحَ لَهُ المَقامُ ويَجْمَعَ بَيْنَ أطْرافِ الكَلامِ عَلى التَّمامِ.
وقالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إنَّ مَعْنى ﴿أُولَئِكَ عَلى هُدًى مِن رَبِّهِمْ﴾ عَلى نُورٍ مِن رَبِّهِمْ وبُرْهانٍ واسْتِقامَةٍ وسَدادٍ بِتَسْدِيدِ اللَّهِ إيّاهم وتَوْفِيقِهِ لَهم، والمُفْلِحُونَ أيِ المُنْجِحُونَ المُدَّكِرُونَ ما طَلَبُوا عِنْدَ اللَّهِ بِأعْمالِهِمْ وإيمانِهِمْ بِاللَّهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ.
هَذا مَعْنى كَلامِهِ.
والفَلاحُ أصْلُهُ في اللُّغَةِ: الشَّقُّ والقَطْعُ، قالَهُ أبُو عُبَيْدٍ: ويُقالُ الَّذِي شُقَّتْ شَفَتُهُ أفْلَحُ، ومِنهُ سُمِّيَ الأكّارُ فَلّاحًا لِأنَّهُ شَقَّ الأرْضَ بِالحَرْثِ، فَكَأنَّ المُفْلِحَ قَدْ قَطَعَ المَصاعِبَ حَتّى نالَ مَطْلُوبَهُ.
قالَ القُرْطُبِيُّ: وقَدْ يُسْتَعْمَلُ في الفَوْزِ والبَقاءِ وهو أصْلُهُ أيْضًا في اللُّغَةِ، فَمَعْنى ﴿أُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ الفائِزُونَ بِالجَنَّةِ والباقُونَ.
وقالَ في الكَشّافِ: المُفْلِحُ الفائِزُ بِالبُغْيَةِ، كَأنَّهُ الَّذِي انْفَتَحَتْ لَهُ وُجُوهُ الظَّفَرِ ولَمْ تَسْتَغْلِقْ عَلَيْهِ انْتَهى.
وقَدِ اسْتُعْمِلَ الفَلاحُ في السُّحُورِ، ومِنهُ الحَدِيثُ الَّذِي أخْرَجَهُ أبُو داوُدَ " «حَتّى كادَ يَفُوتُنا الفَلاحُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ» .
قُلْتُ: وما الفَلاحُ ؟ قالَ: السُّحُورُ.
فَكَأنَّ مَعْنى الحَدِيثِ: أنَّ السُّحُورَ بِهِ بَقاءُ الصَّوْمِ فَلِهَذا سُمِّيَ فَلاحًا.
وفِي تَكْرِيرِ اسْمِ الإشارَةِ دَلالَةٌ عَلى أنَّ كُلًّا مِنَ الهُدى والفَلاحِ مُسْتَقِلٌّ بِتَمَيُّزِهِمْ بِهِ عَنْ غَيْرِهِمْ، بِحَيْثُ لَوِ انْفَرَدَ أحَدُهُما لَكَفى تَمَيُّزًا عَلى حِيالِهِ.
وفائِدَةُ ضَمِيرِ الفَصْلِ الدَّلالَةُ عَلى اخْتِصاصُ المُسْنَدُ إلَيْهِ بِالمُسْنَدِ دُونَ غَيْرِهِ.
وقَدْ رَوى السُّدِّيُّ عَنْ أبِي مالِكٍ وأبِي صالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وعَنْ مُرَّةَ الهَمْدانِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وعَنْ أُناسٍ مِنَ الصَّحابَةِ أنَّ ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ﴾: هُمُ المُؤْمِنُونَ مِنَ العَرَبِ - الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إلى رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ وما أُنْزِلَ إلى مَن قَبْلَهُ: هم، والمُؤْمِنُونَ مِن أهْلِ الكِتابِ. ثُمَّ جَمَعَ الفَرِيقَيْنِ فَقالَ: ﴿أُولَئِكَ عَلى هُدًى مِن رَبِّهِمْ وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ وقَدْ قَدَّمْنا الإشارَةَ إلى هَذا وإلى ما هو أرْجَحُ مِنهُ كَما هو مَنقُولٌ عَنْ مُجاهِدٍ وأبِي العالِيَةِ والرَّبِيعِ بْنِ أنَسٍ وقَتادَةَ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ مِن حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قالَ: «قِيلَ: يا رَسُولَ اللَّهِ إنّا نَقْرَأُ مِنَ القُرْآنِ فَنَرْجُو ونَقْرَأُ فَنَكادُ أنْ نَيْأسَ أوْ كَما قالَ: فَقالَ: ألا أُخْبِرُكم عَنْ أهْلِ الجَنَّةِ وأهْلِ النّارِ ؟ قالُوا: بَلى يا رَسُولَ اللَّهِ، قالَ: ﴿الم﴾ ﴿ذَلِكَ الكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿المُفْلِحُونَ﴾ [البقرة: ١ - ٥] هَؤُلاءِ أهْلُ الجَنَّةِ، قالُوا: إنّا نَرْجُو أنْ نَكُونَ هَؤُلاءِ، ثُمَّ قالَ: ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ﴾ [البقرة: ٦] إلى قَوْلِهِ: ﴿عَظِيمٌ﴾، هَؤُلاءِ أهْلُ النّارِ، قالُوا: ألَسْنا هم يا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قالَ: أجَلْ» .
وقَدْ ورَدَ في فَضْلِ هَذِهِ الآياتِ الشَّرِيفَةِ أحادِيثُ: مِنها ما أخْرَجَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أحْمَدَ في زَوائِدِ المُسْنَدِ والحاكِمُ والبَيْهَقِيُّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قالَ: «كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ، فَجاءَ أعْرابِيٌّ فَقالَ: يا نَبِيَّ اللَّهِ إنَّ لِي أخًا وبِهِ وجَعٌ فَقالَ: وما وجَعُهُ ؟ قالَ: بِهِ لَمَمٌ، قالَ: فائْتِنِي بِهِ، فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَعَوَّذَهُ النَّبِيُّ بِفاتِحَةِ الكِتابِ وأرْبَعِ آياتٍ مِن أوَّلِ سُورَةِ البَقَرَةِ، وهاتَيْنِ الآيَتَيْنِ ﴿وإلَهُكم إلَهٌ واحِدٌ﴾ [البقرة: ١٦٣] وآيَةِ الكُرْسِيِّ وثَلاثِ آياتٍ مِن آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ، وآيَةٍ مِن آلِ عِمْرانَ ﴿شَهِدَ اللَّهُ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا هُوَ﴾ [آل عمران: ١٨]، وآيَةٍ مِنَ الأعْرافِ ﴿إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ﴾ [الأعراف: ٥٤]، وآخِرِ سُورَةِ المُؤْمِنِينَ ﴿فَتَعالى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ﴾ [المؤمنون: ١١٤]، وآيَةٍ مِن سُورَةِ الجِنِّ ﴿وأنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا﴾ [الجن: ٣]، وعَشْرِ آياتٍ مِن أوَّلِ الصّافّاتِ، وثَلاثِ آياتٍ مِن آخِرِ سُورَةِ الحَشْرِ، وقُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ والمُعَوِّذَتَيْنِ، فَقامَ الرَّجُلُ كَأنَّهُ لَمْ يَشْتَكِ قَطُّ» .
وأخْرَجَ نَحْوَهُ ابْنُ السُّنِّيِّ في عَمَلِ اليَوْمِ واللَّيْلَةَ مِن طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبِي يَعْلى عَنْ رَجُلٍ عَنْ أُبَيٍّ مِثْلَهُ.
وأخْرَجَ الدّارِمِيُّ وابْنُ الضُّرَيْسِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: مَن قَرَأ أرْبَعَ آياتٍ مَن أوَّلِ سُورَةِ البَقَرَةِ وآيَةِ الكُرْسِيِّ وآيَتَيْنِ بَعْدَ آيَةِ الكُرْسِيِّ وثَلاثًا مِن آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ لَمْ يَقْرَبْهُ ولا أهْلَهُ يَوْمَئِذٍ شَيْطانٌ، ولا شَيْءٌ يَكْرَهُهُ في أهْلِهِ ولا مالِهِ، ولا تُقْرَأُ عَلى مَجْنُونٍ إلّا أفاقَ.
وأخْرَجَ الدّارِمِيُّ وابْنُ المُنْذِرِ والطَّبَرانِيُّ عَنْهُ قالَ: " مَن قَرَأ عَشْرَ آياتٍ مِن سُورَةِ البَقَرَةِ في لَيْلَةٍ لَمْ يَدْخُلْ ذَلِكَ البَيْتَ شَيْطانٌ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتّى يُصْبِحَ: أرْبَعٌ مِن أوَّلِها، وآيَةُ الكُرْسِيِّ، وآيَتانِ بَعْدَها، وثَلاثٌ خَواتِمُها أوَّلُها ﴿لِلَّهِ ما في السَّماواتِ﴾ [البقرة: ٢٨٤] " .
وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ والدّارِمِيُّ والبَيْهَقِيُّ عَنِ المُغِيرَةِ بْنِ سُبَيْعٍ، وكانَ مِن أصْحابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ بِنَحْوِهِ.
وأخْرَجَ الطَّبَرانِيُّ والبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «إذا ماتَ أحَدُكم فَلا تَحْبِسُوهُ، وأسْرِعُوا بِهِ إلى قَبْرِهِ، ولْيُقْرَأْ عِنْدَ رَأْسِهِ بِفاتِحَةِ البَقَرَةِ وعِنْدَ رِجْلَيْهِ بِخاتِمَةِ سُورَةِ البَقَرَةِ» وقَدْ ورَدَ في ذَلِكَ غَيْرُ هَذا.
   
التسهيل لعلوم التنزيل — ابن جُزَيّ (٧٤١ هـ)

﴿ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ﴾ [البقرة ٣]
﴿ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ﴾ فيه قولان: يؤمنون بالأمور المغيبات كالآخرة وغيرها، فالغيب على هذا بمعنى الغائب إما تسمية بالمصدر كعدل، وإما تخفيفاً في فعيل: كمَيْت، والآخر: يؤمنون في حال غيبهم، أي باطناً وظاهراً، وبالغيب: على القول الأوّل: يتعلق بيؤمنون، وعلى الثاني: في موضع الحال، ويجوز في الذين: أن يكون خفضاً على النعت، أو نصباً على إضمار فعل، أو رفعاً على أنه خبر مبتدأ ﴿وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ﴾ إقامتها: علمها من  قولك: قامت السوق، وشبه ذلك، والكمال: المحافظة عليها في أوقاتها، بالإخلاص لله في فعلها، وتوفية شروطها، وأركانها وفضائلها، وسننها، وحضور القلب الخشوع فيها، وملازمة الجماعة في الفرائض والإكثار من النوافل. ﴿وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ فيه ثلاثة أقوال: الزكاة لاقترانها مع الصلاة، والثاني: أنه التطوّع، والثالث: العموم. وهو الأرجح: لأنه لا دليل على التخصيص.
   الميسر — مجمع الملك فهد

﴿ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ﴾ [البقرة ٣]
وهم الذين يُصَدِّقون بالغيب الذي لا تدركه حواسُّهم ولا عقولهم وحدها؛ لأنه لا يُعْرف إلا بوحي الله إلى رسله، مثل الإيمان بالملائكة، والجنة، والنار، وغير ذلك مما أخبر الله به أو أخبر به رسوله ﷺ، - والإيمان: كلمة جامعة للإقرار بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وتصديق الإقرار بالقول والعمل بالقلب واللسان والجوارح - وهم مع تصديقهم بالغيب يحافظون على أداء الصلاة في مواقيتها أداءً صحيحاً وَفْق ما شرع الله لنبيه محمد ﷺ، ومما أعطيناهم من المال يخرجون صدقة أموالهم الواجبة والمستحبة.
   
المختصر — مركز تفسير

﴿ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ (٣) وَٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ وَمَاۤ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡـَٔاخِرَةِ هُمۡ یُوقِنُونَ (٤)﴾ [البقرة ٣-٤]
الذين يؤمنون بالغيب وهو كل ما لا يُدرك بالحواس وغاب عنّا، مما أخبر الله عنه أو أخبر عنه رسوله، كاليوم الآخر، وهم الذين يقيمون الصلاة بأدائها وفق ما شرع الله من شروطها، وأركانها، وواجباتها، وسننها، وهم الذين ينفقون مما رزقهم الله، بإخراج الواجب كالزكاة، أو غير الواجب كصدقة التطوع، رجاء ثواب الله، وهم الذين يؤمنون بالوحي الذي أنزل الله عليك - أيها النبي - والذي أنزل على سائر الأنبياء عليهم السلام من قبلك دون تفريق، وهم الذين يؤمنون إيمانًا جازمًا بالآخرة وما فيها من الثواب والعقاب.
   
تيسير الكريم الرحمن — السعدي (١٣٧٦ هـ)

﴿ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ﴾ [البقرة ٣]
ثم وصف المتقين بالعقائد والأعمال الباطنة، والأعمال الظاهرة، لتضمن التقوى لذلك فقال: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ حقيقة الإيمان: هو التصديق التام بما أخبرت به الرسل، المتضمن لانقياد الجوارح، وليس الشأن في الإيمان بالأشياء المشاهدة بالحس، فإنه لا يتميز بها المسلم من الكافر. إنما الشأن في الإيمان بالغيب، الذي لم نره ولم نشاهده، وإنما نؤمن به، لخبر الله وخبر رسوله. فهذا الإيمان الذي يميز به المسلم من الكافر، لأنه تصديق مجرد لله ورسله. فالمؤمن يؤمن بكل ما أخبر الله به، أو أخبر به رسوله، سواء شاهده، أو لم يشاهده وسواء فهمه وعقله، أو لم يهتد إليه عقله وفهمه. بخلاف الزنادقة والمكذبين بالأمور الغيبية، لأن عقولهم القاصرة المقصرة لم تهتد إليها فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ففسدت عقولهم، ومرجت أحلامهم. وزكت عقول المؤمنين المصدقين المهتدين بهدى الله. ويدخل في الإيمان بالغيب، [الإيمان بـ] بجميع ما أخبر الله به من الغيوب الماضية والمستقبلة، وأحوال الآخرة، وحقائق أوصاف الله وكيفيتها، [وما أخبرت به الرسل من ذلك] فيؤمنون بصفات الله ووجودها، ويتيقنونها، وإن لم يفهموا كيفيتها. ثم قال: ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ لم يقل: يفعلون الصلاة، أو يأتون بالصلاة، لأنه لا يكفي فيها مجرد الإتيان بصورتها الظاهرة. فإقامة الصلاة، إقامتها ظاهرا، بإتمام أركانها، وواجباتها، وشروطها. وإقامتها باطنا بإقامة روحها، وهو حضور القلب فيها، وتدبر ما يقوله ويفعله منها، فهذه الصلاة هي التي قال الله فيها: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ وهي التي يترتب عليها الثواب. فلا ثواب للإنسان من صلاته، إلا ما عقل منها، ويدخل في الصلاة فرائضها ونوافلها. ثم قال: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ يدخل فيه النفقات الواجبة كالزكاة، والنفقة على الزوجات والأقارب، والمماليك ونحو ذلك. والنفقات المستحبة بجميع طرق الخير. ولم يذكر المنفق عليهم، لكثرة أسبابه وتنوع أهله، ولأن النفقة من حيث هي، قربة إلى الله، وأتى بـ " من " الدالة على التبعيض، لينبههم أنه لم يرد منهم إلا جزءا يسيرا من أموالهم، غير ضار لهم ولا مثقل، بل ينتفعون هم بإنفاقه، وينتفع به إخوانهم. وفي قوله: ﴿رَزَقْنَاهُمْ﴾ إشارة إلى أن هذه الأموال التي بين أيديكم، ليست حاصلة بقوتكم وملككم، وإنما هي رزق الله الذي خولكم، وأنعم به عليكم، فكما أنعم عليكم وفضلكم على كثير من عباده، فاشكروه بإخراج بعض ما أنعم به عليكم، وواسوا إخوانكم المعدمين. وكثيرا ما يجمع تعالى بين الصلاة والزكاة في القرآن، لأن الصلاة متضمنة للإخلاص للمعبود، والزكاة والنفقة متضمنة للإحسان على عبيده، فعنوان سعادة العبد إخلاصه للمعبود، وسعيه في نفع الخلق، كما أن عنوان شقاوة العبد عدم هذين الأمرين منه، فلا إخلاص ولا إحسان.
   
أيسر التفاسير — أبو بكر الجزائري (١٤٣٩ هـ)

﴿الۤمۤ (١) ذَ ٰ⁠لِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ (٢) ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ (٣) وَٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ وَمَاۤ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡـَٔاخِرَةِ هُمۡ یُوقِنُونَ (٤) أُو۟لَـٰۤىِٕكَ عَلَىٰ هُدࣰى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ (٥)﴾ [البقرة ١-٥]
﴿الۤمۤ﴾
شرح الكلمة:
الۤمۤ: هذه من الحروف المقطعة تكتب الۤمۤ وتقرأ هكذا:
ألِفْ لام مِّيمْ. والسور المفتتحة بالحروف المقطعة تسع وعشرون سورة أولها البقرة هذه وآخرها القلم «نۤ» ومنها الأحادية مثل صۤ. وقۤ، ونۤ، ومنها الثنائية مثل طه، ويسۤ، وحمۤ، ومنها الثلاثية والرباعية والخماسية ولم يثبت في تفسيرها عن النبي ﷺ شيء وكونها من المتشابه الذي استأثر الله تعالى بعلمه أقرب إلى الصواب ولذا يقال فيها: الۤمۤ: الله أعلم بمراده بذلك.
وقد استخرج منها بعض أهل العلم فائدتين: الأولى أنه لما كان المشركون يمنعون سماع القرآن مخافة أن يؤثر في نفوس السامعين كان النطق بهذه الحروف حمۤ. طسۤ. قۤ. كۤهيعۤصۤ وهو منطق غريب عنهم يستميلهم إلى سماع القرآن فيسمعون فيتأثرون وينجذبون فيؤمنون ويسمعون وكفى بهذه الفائدة من فائدة. والثانية لما انكر المشركون كون القرآن كلام الله أوحاه إلى رسوله محمد ﷺ كانت هذه الحروف بمثابة المتحدِّي لهم كأنها تقول لهم: إن هذا القرآن مؤلف من مثل هذه الحروف فألفوا أنتم مثله. ويشهد بهذه الفائدة ذكر لفظ القرآن بعدها غالباً نحو ﴿الۤمۤ ذَلِكَ ٱلْكِتابُ﴾. ﴿الۤر تِلْكَ آياتُ ٱلْكِتابِ﴾ [يونس: ١، يوسف: ١، الحجر: ١]، ﴿طسۤ تِلْكَ آياتُ ٱلْقُرْآنِ﴾ [النمل: ١]، كأنها تقول: إنه من مثل هذه الحروف تألف القرآن فألفوا أنتم نظيره فإن عجزتم فسلموا أنه كلام الله ووحيه وآمنوا به تفلحوا.
﴿ذَلِكَ ٱلْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾
شرح الكلمات:
ذلك: هذا، وإنما عُدل عن لفظ هذا إلى ذلك. لما تفيده الإشارة بلام البعد من علو المنزلة وارتفاع القدر والشأن.
الكتاب: القرآن الكريم الذي يقرأه رسول الله صلى الله علي وسلم على الناس.
لا ريب: لا شك في أنه وحي الله وكلامه أوحاه إلى رسوله.
فيه هدىً: دلالةٌ على الطريق الموصل إلى السعادة والكمال في الدارين.
للمتقين: المتقين أي عذاب الله بطاعته بفعل أوامره واجتناب نواهيه.
معنى الآية:
يخبر تعالى أن ما أنزله على عبده ورسوله من قرآن يمثل كتاباً فخماً عظيماً لا يحتمل الشك ولا يتطرق إليه احتمال كونه غير وحي الله وكتابه بحال، وذلك لإعجازه، وما يحمله من هدى ونور لأهل الإيمان والتقوى يهتدون بهما الى سبل السلام والسعادة والكمال.
هداية الآية:
من هداية الآية:
١- تقوية الإيمان بالله تعالى وكتابه ورسوله، الحث على طلب الهداية من الكتاب الكريم.
٢- بيان فضيلة التقوى وأهلها.
الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون.
والذين يؤمنون بما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون.
أولئك على هدىً من ربهم، وأولئك هم المفلحون.
شرح الجمل:
يؤمنون بالغيب: يصدقون تصديقاً جازماً لكل ما هو غيب لا يدرك بالحواس كالربّ تبارك وتعالى ذاتاً وصفاتٍ والملائكة والبعث، والجنة ونعيمها والنار وعذابها.
ويقيمون الصلاة: يُديمون أداء الصلوات الخمس في أوقاتها مع مراعاة شرائطها وأركانها وسننها ونوافلها الراتبة وغيرها.
ومما رزقناهم ينفقون: من بعض ما آتاهم الله من مال ينفقون وذلك بإخراجهم لزكاة أموالهم وبإنفاقهم على أنفسهم وأزواجهم وأولادهم ووالديهم وتصدقهم على الفقراء والمساكين.
يؤمنون بما أنزل إليك: يصدقون بالوحي الذي أنزل إليك أيها الرسول وهو الكتاب والسنة.
وما أنزل من قبلك: ويصدقون بما أنزل الله تعالى من كتب على الرسل من قبلك كالتوراة والإنجيل والزبور.
وبالآخرة هم يوقنون: وبالحياة في الدار الآخرة وما فيها من حساب وثواب وعقاب هم عالمون متيقنون لا يشكون في شيء من ذلك ولا يرتابون لكامل إيمانهم وعظم اتقائهم.
أولئك على هدى من ربهم: الإشارة إلى أصحاب الصفات الخمس السابقة والإخبار عنهم بأنهم بما هداهم الله تعالى إليه من الإيمان وصالح الأعمال هم متمكنون من الاستقامة على منهج الله المفضي بهم إلى الفلاح.
وأولئك هم المفلحون: الإشارة الى أصحاب الهداية الكاملة والإخبار عنهم بأنهم هم المفلحون الجديرون بالفوز الذي هو دخول الجنة بعد النجاة من النار.
معنى الآيات:
ذكر تعالى في هذه الآيات الثلاث صفات المتقين من الإيمان بالغيب وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والإيمان بما أنزل الله من كتب والإيمان بالدار الآخرة وأخبر عنهم بأنهم لذلك هم على أتم هداية من ربهم، وأنهم هم الفائزون في الدنيا بالطهر والطمأنينة وفي الآخرة بدخول الجنة بعد النجاة من النار.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
دعوة المؤمنين وترغيبهم في الاتصاف بصفات أهل الهداية والفلاح، ليسلكوا سلوكهم فيهتدوا ويفلحوا في دنياهم وأخراهم.
   
روح المعاني — الآلوسي (١٢٧٠ هـ)

﴿ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ﴾ [البقرة ٣]
﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ صِفَةٌ لِلْمُتَّقِينَ قَبْلُ، فَإنْ أُرِيدَ بِالتَّقْوى أُولى مَراتِبِها فَمُخَصَّصَةٌ، أوْ ثانِيَتُها فَكاشِفَةٌ، أوْ ثالِثَتُها فَمادِحَةٌ، وفي شَرْحِ المِفْتاحِ الشَّرِيفِيِّ: إنَّ حَمْلَ المُتَّقِي عَلى مَعْناهُ الشَّرْعِيِّ أعْنِي الَّذِي يَفْعَلُ الواجِباتِ، ويَتْرُكُ السَّيِّئاتِ، فَإنْ كانَ المُخاطَبُ جاهِلًا بِذَلِكَ المَعْنى كانَ الوَصْفُ كاشِفًا، وإنْ كانَ عالِمًا كانَ مادِحًا، وإنْ حُمِلَ عَلى ما يَقْرُبُ مِن مَعْناهُ اللُّغَوِيِّ كانَ مُخَصَّصًا، واسْتُظْهِرَ كَوْنُ المَوْصُولِ مَفْصُولًا قَصَدَ الإخْبارَ عَنْهُ بِما بَعْدَهُ، إثْباتُهُ لِما قَبْلَهُ، وإنْ فُهِمَ ضِمْنًا، فَهو وإنْ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ كالجارِي، وهَذا كافٍ في الِارْتِباطِ، والِاسْتِئْنافُ إمّا نَحْوِيٌّ أوْ بَيانِيٌّ، كَأنَّهُ قِيلَ: ما بالُ المُتَّقِينَ خُصُّوا بِذَلِكَ الهُدى، والوَقْفُ عَلى المُتَّقِينَ تامٌّ عَلى هَذا الوَجْهِ، حَسَنٌ عَلى الوَجْهِ الأوَّلِ، والإيمانُ في اللُّغَةِ التَّصْدِيقُ، أيْ إذْعانُ حُكْمِ المُخْبِرِ وقَبُولُهُ وجَعْلُهُ صادِقًا، وهو إفْعالٌ مِنَ الأمْنِ، كَأنَّ حَقِيقَةَ آمَنَ بِهِ، آمَنَهُ التَّكْذِيبَ والمُخالَفَةَ، ويَتَعَدّى بِاللّامِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أنُؤْمِنُ لَكَ واتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ﴾ وبِالياءِ كَما في قَوْلِهِ ﷺ: «(الإيمانُ أنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ)» الحَدِيثَ، قالُوا: والأوَّلُ بِاعْتِبارِ تَضْمِينِهِ مَعْنى الإذْعانِ، والثّانِي بِاعْتِبارِ تَضْمِينِهِ مَعْنى الِاعْتِرافِ إشارَةً إلى أنَّ التَّصْدِيقَ لا يُعْتَبَرُ ما لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ الِاعْتِرافُ، وقَدْ يُطْلَقُ بِمَعْنى الوُثُوقِ مِن حَيْثُ إنَّ الواثِقَ صارَ ذا أمْنٍ، وهو فِيهِ حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ أيْضًا كَما في الأساسِ، ويُفْهِمُ مَجازِيَّتُهُ ظاهِرُ كَلامِ الكَشّافِ، وأمّا في الشَّرْعِ، فَهو التَّصْدِيقُ بِما عُلِمَ مَجِيءُ النَّبِيِّ ﷺ بِهِ ضَرُورَةً تَفْصِيلًا، فِيما عُلِمَ تَفْصِيلًا، وإجْمالًا فِيما عُلِمَ إجْمالًا، وهَذا مَذْهَبُ جُمْهُورِ المُحَقِّقِينَ، لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا في أنَّ مَناطَ الأحْكامِ الأُخْرَوِيَّةِ مُجَرَّدُ هَذا المَعْنى، أمْ مَعَ الإقْرارِ، فَذَهَبَ الأشْعَرِيُّ وأتْباعُهُ إلى أنَّ مُجَرَّدَ هَذا المَعْنى كافٍ، لِأنَّهُ المَقْصُودُ، والإقْرارُ إنَّما هو لِيُعْلَمَ وُجُودُهُ، فَإنَّهُ أمْرٌ باطِنٌ، ويَجْرِي عَلَيْهِ الأحْكامُ، فَمَن صَدَّقَ بِقَلْبِهِ، وتَرَكَ الإقْرارَ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنهُ كانَ مُؤْمِنًا شَرْعًا فِيما بَيْنَهُ وبَيْنَ اللَّهِ تَعالى، ويَكُونُ مَقَرُّهُ الجَنَّةَ، لَكِنْ ذَكَرَ ابْنُ الهُمامِ أنَّ أهْلَ هَذا القَوْلِ اتَّفَقُوا عَلى أنَّهُ يَلْزَمُ أنْ يَعْتَقِدَ أنَّهُ مَتى طُلِبَ مِنهُ الإقْرارُ أتى بِهِ، فَإنْ طُولِبَ، ولَمْ يُقِرَّ فَهو كَفْرُ عِنادٍ، وذَهَبَ إمامُنا أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وغالِبُ مَن تَبِعَهُ إلى أنَّ الإقْرارَ وما في حُكْمِهِ كَإشارَةِ الأخْرَسِ لا بُدَّ مِنهُ، فالمُصَدِّقُ المَذْكُورُ لا يَكُونُ مُؤْمِنًا إيمانًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الأحْكامُ الأُخْرَوِيَّةُ كالمُصَلِّي مَعَ الرِّياءِ، فَإنَّهُ لا تَنْفَعُهُ صَلاتُهُ، ولَعَلَّ هَذا لِأنَّهُ تَعالى ذَمَّ المُعانِدِينَ أكْثَرَ مِمّا ذَمَّ الجاهِلِينَ المُقَصِّرِينَ، ولِلْمانِعِ أنْ يَجْعَلَ الذَّمَّ لِلْإنْكارِ اللِّسانِيِّ، ولا شَكَّ أنَّهُ عَلامَةُ التَّكْذِيبِ أوْ لِلْإنْكارِ القَلْبِيِّ الَّذِي هو التَّكْذِيبُ، وحاصِلُ ذَلِكَ مَنعُ حُصُولِ التَّصْدِيقِ لِلْمُعانِدِ، فَإنَّهُ ضِدَّ الإنْكارِ، وإنَّما الحاصِلُ لَهُ المَعْرِفَةُ الَّتِي هي ضِدَّ النَّكارَةِ والجَهالَةِ، وقَدِ اتَّفَقُوا عَلى أنَّ تِلْكَ المَعْرِفَةَ خارِجَةٌ عَنِ التَّصْدِيقِ اللُّغَوِيِّ، وهو المُعْتَبَرُ في الإيمانِ، نَعَمِ اخْتَلَفُوا في أنَّها هَلْ هي داخِلَةٌ في التَّصَوُّرِ أمْ في التَّصْدِيقِ المَنطِقِيِّ، فالعَلّامَةُ الثّانِي عَلى الأوَّلِ، وأنَّهُ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ الصُّورَةُ الحاصِلَةُ مِنَ النِّسْبَةِ التّامَّةِ الخَبَرِيَّةِ تَصَوُّرًا، وأنَّ التَّصْدِيقَ المَنطِقِيَّ بِعَيْنِهِ التَّصْدِيقُ اللُّغَوِيُّ، ولِذا فَسَّرَهُ رَئِيسُهم في الكُتُبِ الفارِسِيَّةِ (بِكَرْ وِيدَنْ)، وفي العَرَبِيَّةِ بِما يُخالِفُ التَّكْذِيبَ والإنْكارَ، وهَذا بِعَيْنِهِ المَعْنى اللُّغَوِيُّ، ويُؤَيِّدُهُ ما أوْرَدَهُ السَّيِّدُ السَّنَدُ في حاشِيَةِ شَرْحِ التَّلْخِيصِ أنَّ المَنطِقِيَّ إنَّما يُبَيِّنُ ما هو في العُرْفِ واللُّغَةِ إلّا أنَّهُ يَرِدُ أنَّ المَعْنى المُعَبَّرَ عَنْهُ (بِكَرْ وِيدِنْ)، أمْرٌ قَطْعِيٌّ، وقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ العَلّامَةُ في المَقاصِدِ، ولِذا يَكْفِي في بابِ الإيمانِ التَّصْدِيقُ البالِغُ حَدَّ الجَزْمِ، والإذْعانِ، مَعَ أنَّ التَّصْدِيقَ المَنطِقِيَّ يَعُمُّ الظَّنِّيَّ بِالِاتِّفاقِ، فَإنَّهم يُقَسِّمُونَ العِلْمَ بِالمَعْنى الأعَمِّ تَقْسِيمًا حاصِرًا إلى التَّصَوُّرِ والتَّصْدِيقِ تَوَسُّلًا بِهِ إلى بَيانِ الحاجَةِ إلى المَنطِقِ بِجَمِيعِ أجْزائِهِ الَّتِي مِنها القِياسُ الجَدَلِيُّ المُتَألِّفُ مِنَ المَشْهُوراتِ، والمُسَلَّماتِ، ومِنها القِياسُ الخِطابِيُّ المُتَألِّفُ مِنَ المَقْبُولاتِ، والمَظْنُوناتِ، والشِّعْرِيُّ المُتَألِّفُ مِنَ المُخَيَّلاتِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ التَّصْدِيقُ المَنطِقِيُّ عامًّا لَمْ يَثْبُتِ الِاحْتِياجُ إلى هَذِهِ الأجْزاءِ، وهو ظاهِرٌ، وصَدْرُ الشَّرِيعَةِ عَلى الأخِيرِ، فَإنَّ الصُّورَةَ الحاصِلَةَ مِنَ النِّسْبَةِ التّامَّةِ الخَبَرِيَّةِ تَصْدِيقٌ قَطْعًا، فَإنْ كانَ حاصِلًا بِالقَصْدِ، والِاخْتِيارِ بِحَيْثُ يَسْتَلْزِمُ الإذْعانَ والقَبُولَ فَهو تَصْدِيقٌ لُغَوِيٌّ، وإنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَمَن وقَعَ بَصَرُهُ عَلى شَيْءٍ، فَعَلِمَ أنَّهُ جِدارٌ مَثَلًا فَهو مَعْرِفَةٌ يَقِينِيَّةٌ، ولَيْسَ بِتَصْدِيقٍ لُغَوِيٍّ، فالتَّصْدِيقُ اللُّغَوِيُّ عِنْدَهُ أخَصُّ مِنَ المَنطِقِيِّ، وذَهَبَ الكَرامِيَّةُ إلى أنَّ الإيمانَ شَرْعًا إقْرارُ اللِّسانِ بِالشَّهادَتَيْنِ لا غَيْرُ، والخَوارِجُ والعَلّافُ، وعَبْدُ الجَبّارِ مِنَ المُعْتَزِلَةِ إلى أنَّ كُلَّ طاعَةٍ إيمانٌ فَرْضًا كانَتْ أوْ نَفَلًا، والجُبّائِيُّ وابْنُهُ وأكْثَرُ مُعْتَزِلَةِ البَصْرَةِ إلى أنَّهُ الطّاعاتُ المُفْتَرَضَةُ دُونَ النَّوافِلِ مِنها، والقَلانِسِيُّ مِن أهْلِ السُّنَّةِ، والنَّجّارُ مِنَ المُعْتَزِلَةِ وهو مَذْهَبُ أكْثَرِ أهْلِ الأثَرِ إلى أنَّهُ المَعْرِفَةُ بِالجَنانِ، والإقْرارُ بِاللِّسانِ، والعَمَلُ بِالأرْكانِ، قِيلَ: وسِرُّ هَذا الِاخْتِلافِ الِاخْتِلافُ في أنَّ المُكَلَّفَ هو الرُّوحُ فَقَطْ، أوِ البَدَنُ فَقَطْ، أوْ مَجْمُوعُهُما، والحَقُّ أنَّ مَنشَأ كُلِّ مَذْهَبٍ دَلِيلٌ دَعا صاحِبَهُ إلى السُّلُوكِ فِيهِ، وأوْضَحُ المَذاهِبِ أنَّهُ التَّصْدِيقُ، ولِذا قالَ يَعْسُوبُ المُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ: إنَّ الإيمانَ مَعْرِفَةٌ والمَعْرِفَةَ تَسْلِيمٌ، والتَّسْلِيمَ تَصْدِيقٌ، ويُؤَيِّدُ هَذا المَذْهَبَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإيمانَ﴾ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَمّا يَدْخُلِ الإيمانُ في قُلُوبِكُمْ﴾ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمانِ﴾ وقَوْلُهُ ﷺ: «(اللَّهُمَّ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلى دِينِكَ)،» حَيْثُ نَسَبَهُ فِيها وفي نَظائِرِها الغَيْرِ المَحْصُورَةِ إلى القَلْبِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ فِعْلُ القَلْبِ، ولَيْسَ سِوى التَّصْدِيقِ، إذْ لَمْ يُبَيَّنْ في الشَّرْعِ بِمَعْنًى آخَرَ، فَلا نَقْلَ، وإلّا لَكانَ الخِطابُ بِالإيمانِ خِطابًا بِما لا يُفْهَمُ، ولِأنَّهُ خِلافُ الأصْلِ، فَلا يُصارُ إلَيْهِ بِلا دَلِيلٍ، واحْتِمالُ أنْ يُرادَ بِالنُّصُوصِ الإيمانُ اللُّغَوِيُّ فَهو الَّذِي مَحَلُّهُ القَلْبُ، لا الإيمانُ الشَّرْعِيُّ، فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ الإقْرارُ أوْ غَيْرُهُ جُزْءًا مِن مَعْناهُ، يَدْفَعُهُ أنَّ الإيمانَ مِنَ المَنقُولاتِ الشَّرْعِيَّةِ بِحَسَبِ خُصُوصِ المُتَعَلِّقِ، ولِذا بَيَّنَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ مُتَعَلِّقَهُ دُونَ مَعْناهُ، فَقالَ: «(أنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ ومَلائِكَتِهِ)» الحَدِيثَ، فَهُوَ في المَعْنى اللُّغَوِيِّ مَجازٌ في كَلامِ الشّارِعِ، والأصْلُ في الإطْلاقِ الحَقِيقَةُ، وأيْضًا ورَدَ عَطْفُ الأعْمالِ عَلى الإيمانِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ”إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحات“ والجُزْءُ لا يُعْطَفُ عَلى كُلِّهِ، وتَنَزُّلُ المَلائِكَةِ والرُّوحِ عَلى أحَدِ الوَجْهَيْنِ بِتَأْوِيلِ الخُرُوجِ لِاعْتِبارٍ خِطابِيٍّ، وتَخْصِيصُها بِالنَّوافِلِ بِناءً عَلى خُرُوجِها خِلافُ الظّاهِرِ، وكَفى بِالظّاهِرِ حُجَّةً، وأيْضًا جُعِلَ الإيمانُ شَرْطَ صِحَّةِ الأعْمالِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ومَن يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ وهو مُؤْمِنٌ﴾ مَعَ القَطْعِ بِأنَّ المَشْرُوطَ لا يَدْخُلُ في الشَّرْطِ لِامْتِناعِ اشْتِراطِ الشَّيْءِ لِنَفْسِهِ، إذْ جُزْءُ الشَّرْطِ شَرْطٌ، وأيْضًا ورَدَ إثْباتُ الإيمانِ لِمَن تَرَكَ بَعْضَ الأعْمالِ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا﴾ مَعَ أنَّهُ لا يَتَحَقَّقُ لِلشَّيْءِ بِدُونِ رُكْنِهِ، وأيْضًا ما ذَكَرْناهُ أقْرَبُ إلى الأصْلِ، إذْ لا فَرْقَ بَيْنَهُما إلّا بِاعْتِبارِ خُصُوصِ المُتَعَلِّقِ كَما لا يَخْفى، وقَدْ أوْرَدَ الخَصْمُ وُجُوهًا في الإلْزامِ، الأوَّلُ أنَّ الإيمانَ لَوْ كانَ عِبارَةً عَنِ التَّصْدِيقِ لَما اخْتَلَفَ مَعَ أنَّ إيمانَ الرَّسُولِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ لا يُشْبِهُهُ إيمانُ العَوامِّ، بَلْ ولا الخَواصِّ، الثّانِي أنَّ الفُسُوقَ يُناقِضُ الإيمانَ، ولا يُجامِعُهُ بِنَصِّ ﴿ولَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الإيمانَ وزَيَّنَهُ في قُلُوبِكم وكَرَّهَ إلَيْكُمُ الكُفْرَ والفُسُوقَ﴾ ولَوْ كانَ بِمَعْنى التَّصْدِيقِ لَما امْتَنَعَ مُجامَعَتُهُ، الثّالِثُ أنَّ فِعْلَ الكَبِيرَةِ مِمّا يُنافِيهِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وكانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ مَعَ قَوْلِهِ تَعالى في المُرْتَكِبِ: ﴿ولا تَأْخُذْكم بِهِما رَأْفَةٌ﴾ ولَوْ كانَ بِمَعْنى التَّصْدِيقِ ما نافاهُ، الرّابِعُ أنَّ المُؤْمِنَ غَيْرُ مَخْزِيٍّ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ وقالَ سُبْحانَهُ في قُطّاعِ الطَّرِيقِ ﴿ذَلِكَ لَهم خِزْيٌ في الدُّنْيا ولَهم في الآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ فَهم لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ مَعَ أنَّهم مُصَدِّقُونَ
الخامِسُ مُسْتَطِيعُ الحَجِّ إذا تَرَكَهُ مِن غَيْرِ عُذْرٍ كافِرٌ، لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولِلَّهِ عَلى النّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلا ومَن كَفَرَ فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العالَمِينَ﴾ مَعَ أنَّهُ مُصَدِّقٌ، السّادِسُ مَن لَمْ يَحْكم بِما أنْزَلَ اللَّهُ مُصَدِّقٌ مَعَ أنَّهُ كافِرٌ بِنَصِّ ﴿ومَن لَمْ يَحْكم بِما أنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ﴾ السّابِعُ أنَّ الزّانِيَ كَذَلِكَ بِنَصِّ قَوْلِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «(لا يَزْنِي الزّانِي وهو مُؤْمِنٌ)،» وكَذا تارِكُ الصَّلاةِ عَمْدًا مِن غَيْرِ عُذْرٍ، وأمْثالُ ذَلِكَ، الثّامِنُ أنَّ المُسْتَخِفَّ بِنَبِيٍّ مَثَلًا مُصَدِّقٌ مَعَ أنَّهُ كافِرٌ بِالإجْماعِ، التّاسِعِ أنَّ فِعْلَ الواجِباتِ هو الدِّينُ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما أُمِرُوا إلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ ويُقِيمُوا الصَّلاةَ ويُؤْتُوا الزَّكاةَ وذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ﴾ والدِّينُ هو الإسْلامُ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ﴾ والإسْلامُ هو الإيمانُ لِأنَّهُ لَوْ كانَ غَيْرَهُ لَما قُبِلَ مِن مُبْتَغِيهِ لِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنهُ﴾ العاشِرُ أنَّهُ لَوْ كانَ هو التَّصْدِيقَ لَما صَحَّ وصْفُ المُكَلَّفِ بِهِ حَقِيقَةً إلّا وقْتَ صُدُورِهِ مِنهُ، كَما في سائِرِ الأفْعالِ، مَعَ أنَّ النّائِمَ والغافِلَ يُوصَفانِ بِهِ إجْماعًا، مَعَ أنَّ التَّصْدِيقَ غَيْرُ باقٍ فِيهِما، الحادِيَ عَشَرَ أنَّهُ يَلْزَمُ أنْ يُقالَ لِمَن صَدَّقَ بِآلِهِيَّةِ غَيْرِ اللَّهِ سُبْحانَهُ مُؤْمِنٌ، وهو خِلافُ الإجْماعِ، الثّانِيَ عَشَرَ أنَّ اللَّهَ تَعالى وصَفَ بَعْضَ المُؤْمِنِينَ بِهِ عَزَّ وجَلَّ بِكَوْنِهِ مُشْرِكًا، فَقالَ: ﴿وما يُؤْمِنُ أكْثَرُهم بِاللَّهِ إلا وهم مُشْرِكُونَ﴾ ولَوْ كانَ هو التَّصْدِيقَ لامْتَنَعَ مُجامَعَتُهُ لِلشِّرْكِ، سَلَّمْنا أنَّهُ هُوَ، ولَكِنْ ما المانِعُ أنْ يَكُونَ هو التَّصْدِيقَ بِاللِّسانِ كَما قالَهُ الكَرامِيَّةُ، كَيْفَ وأهْلُ اللُّغَةِ لا يَفْهَمُونَ مِنَ التَّصْدِيقِ غَيْرَ التَّصْدِيقِ بِاللِّسانِ؟ وأُجِيبَ عَنِ الأوَّلِ بِأنَّ التَّصْدِيقَ لِلْواحِدِ، وإنْ سَلَّمْنا عَدَمَ الزِّيادَةِ والنُّقْصانِ فِيهِ مِنَ النَّبِيِّ والواحِدِ مِنّا، إلّا أنَّهُ لا يَمْتَنِعُ التَّفاوُتُ بَيْنَ الإيمانَيْنِ بِسَبَبِ تَخَلُّلِ الفَعَلَةِ والقُوَّةِ بَيْنَ أعْدادِ الإيمانِ المُتَجَدِّدَةِ وقِلَّةِ تَخَلُّلِها، أوْ بِسَبَبِ عُرُوضِ الشُّبَهِ والتَّشْكِيكاتِ، وعَدَمِ عُرُوضِها، ولِلنَّبِيِّ الأكْمَلِ الأكْمَلِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
ولِلزُّنْبُورِ والبازِي جَمِيعًا لَدى الطَّيَرانِ أجْنِحَةٌ وخَفْقُ

ولَكِنْ بَيْنَ ما يَصْطادُ بازٌ ∗∗∗ وما يَصْطادُهُ الزُّنْبُورُ فَرْقُ

وعَنِ الثّانِي بِأنَّ الآيَةَ لَيْسَ فِيها ما يَدُلُّ عَلى أنَّ الفُسُوقَ لا يُجامِعُ الإيمانَ، فَإنَّهُ لَوْ قِيلَ: حَبَّبَ إلَيْكُمُ العِلْمَ وكَرَّهَ إلَيْكُمُ الفُسُوقَ لَمْ يَدُلَّ عَلى المُناقَضَةِ بَيْنَ العِلْمِ والفُسُوقِ، وكَوْنُ الكُفْرِ مُقابِلًا لِلْإيمانِ لَمْ يُسْتَفَدْ مِنَ الآيَةِ، بَلْ مِن خارِجٍ، ولَئِنْ سَلَّمْنا دِلالَةَ الآيَةِ عَلى ما ذَكَرْتُمْ إلّا أنَّ ذَلِكَ مُعارَضٌ بِما يَدُلُّ عَلى عَدَمِهِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمانَهم بِظُلْمٍ﴾ فَإنَّهُ يَدُلُّ عَلى مُقارَنَةِ الظُّلْمِ لِلْإيمانِ في بَعْضٍ، وعَنِ الثّالِثِ بِأنّا لا نُسَلِّمُ أنَّ فِعْلَ الكَبِيرَةِ مُنافٍ لِلْإيمانِ،﴿ولا تَأْخُذْكم بِهِما رَأْفَةٌ في دِينِ اللَّهِ﴾ عَلى مَعْنى لا تَحْمِلَنَّكُمُ الشَّفَقَةُ عَلى إسْقاطِ حُدُودِ اللَّهِ تَعالى بَعْدَ وُجُوبِها، وعَنِ الرّابِعِ بِأنَّ ما ذُكِرَ مِنَ الآيَتَيْنِ لَيْسَ فِيهِ دِلالَةً، لِأنَّ آيَةَ نَفْيِ الخِزْيِ إنَّما دَلَّتْ عَلى نَفْيِهِ في الآخِرَةِ عَنِ المُؤْمِنِينَ مُطْلَقًا، أوْ أصْحابِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وآيَةُ القاطِعِ دالَّةٌ عَلى الخِزْيِ في الدُّنْيا، ولا يَلْزَمُ مِن مُنافاةِ الخِزْيِ يَوْمَ القِيامَةِ لِلْإيمانِ مُنافاتُهُ لِلْإيمانِ في الدُّنْيا، وعَنِ الخامِسِ بِأنّا لا نُسَلِّمُ كَفْرَ مَن تَرَكَ الحَجَّ مِن غَيْرِ عُذْرٍ، و(مَن كَفَرَ) ابْتِداءُ كَلامٍ، أوِ المُرادُ مَن لَمْ يُصَدِّقْ بِمَناسِكِ الحَجِّ، وجَحَدَها، ولا يُتَصَوَّرُ مَعَ ذَلِكَ التَّصْدِيقُ، وعَنِ السّادِسِ بِأنَّ مَعْنى ”مَن لَمْ يَحْكم“ الآيَةَ مَن لَمْ يُصَدِّقْ، أوْ مَن لَمْ يَحْكم بِشَيْءٍ مِمّا أنْزَلَ اللَّهُ، أوِ المُرادُ بِذَلِكَ التَّوْراةُ بِقَرِينَةِ السّابِقِ، وعَنِ السّابِعِ بِأنَّهُ يُمْكِنُ أنْ يُقالَ: مَعْنى لا يَزْنِي الزّانِي وهو مُؤْمِنٌ، أيْ آمِنٌ مِن عَذابِ اللَّهِ، أيْ إنْ زَنى، والعِياذُ بِاللَّهِ، فَلْيَخَفْ عَذابَهُ سُبْحانَهُ وتَعالى، ولا يَأْمَن مَكْرَهُ، أوِ المُرادُ لا يَزْنِي مُسْتَحِلًّا لِزِناهُ، وهو مُؤْمِنٌ، أوْ لا يَزْنِي وهو عَلى صِفاتِ المُؤْمِنِ مِنِ اجْتِنابِ المَحْظُوراتِ، وهَذا التَّأْوِيلُ أوْلى مِن مُخالَفَةِ الأوْضاعِ اللُّغَوِيَّةِ لِكَثْرَتِهِ دُونَها، وكَذا يُقالُ في نَظائِرِ هَذا، وعَنِ الثّامِنِ بِأنّا لا نُنْكِرُ مُجامَعَةَ الكَبائِرِ لِلْإيمانِ عَقْلًا غَيْرَ أنَّ الأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلى إكْفارِ المُسْتَخِفِّ، فَعَلِمْنا انْتِفاءَ التَّصْدِيقِ عِنْدَ وُجُودِ الِاسْتِخْفافِ مَثَلًا سَمْعًا، والجَمْعُ بَيْنَ العَمَلِ بِوَضْعِ اللُّغَةِ، وإجْماعِ الأُمَّةِ عَلى الإكْفارِ أوْلى مِن إبْطالِ أحَدِهِما، وعَنِ التّاسِعِ بِأنَّ الآيَةَ قَدْ فَرَّقَتْ بَيْنَ الدِّينِ، وفِعْلِ الواجِباتِ لِلْعَطْفِ، وهو ظاهِرًا دَلِيلُ المُغايَرَةِ، سَلَّمْنا أنَّ الدِّينَ فِعْلُ الواجِباتِ، وأنَّ الدِّينَ هو الإسْلامُ، لَكِنْ لا نُسَلِّمُ أنَّ الإسْلامَ هو الإيمانُ، ولَيْسَ المُرادُ بِغَيْرِ الإسْلامِ في الآيَةِ ما هو مُغايِرٌ لَهُ بِحَسَبِ المَفْهُومِ، وإلّا يَلْزَمُ أنْ لا تُقْبَلَ الصَّلاةُ والزَّكاةُ مَثَلًا، بَلِ المُغايِرُ لَهُ بِحَسَبِ الصِّدْقِ، فَحِينَئِذٍ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الإسْلامُ أعَمَّ، وهَذا كَما إذا قُلْتَ: مَن يَبْتَغِ غَيْرَ العِلْمِ الشَّرْعِيِّ فَقَدْ سَها، فَإنَّكَ لا تَحْكُمُ بِسَهْوِ مَنِ ابْتَغى الكَلامَ، وظاهِرٌ أنَّ ذَمَّ غَيْرِ الأعَمِّ لا يَسْتَلْزِمُ ذَمَّ الأخَصِّ، فَإنَّ قَوْلَكَ: غَيْرُ الحَيَوانِ، مَذْمُومٌ لا يَسْتَلْزِمُ أنْ يَكُونَ الإنْسانُ مَذْمُومًا، وعَنِ العاشِرِ بِأنَّهُ مُشْتَرَكُ الإلْزامِ، فَما هو جَوابُكُمْ، فَهو جَوابُنا عَلى أنّا نَقُولُ التَّصْدِيقُ في حالَةِ النَّوْمِ، والغَفْلَةِ باقٍ في القَلْبِ والذُّهُولِ، إنَّما هو عَنْ حُصُولِهِ، والنَّوْمُ ضِدٌّ لِإدْراكِ الأشْياءِ ابْتَداءً لا أنَّهُ مُنافٍ لِبَقاءِ الإدْراكِ الحاصِلِ حالَةَ اليَقَظَةِ، سَلَّمْنا إلّا أنَّ الشّارِعَ جَعَلَ المُحَقِّقَ الَّذِي لا يَطْرَأُ عَلَيْهِ ما يُضادُّهُ في حُكْمِ الباقِي، حَتّى كانَ المُؤْمِنُ اسْمًا لِمَن آمَنَ في الحالِ، أوْ في الماضِي، ولَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ ما هو عَلامَةُ التَّكْذِيبِ، وعَنِ الحادِيَ عَشَرَ بِأنَّ عَدَمَ تَسْمِيَةِ مَن صَدَّقَ بِآلِهِيَّةِ غَيْرِ اللَّهِ مُؤْمِنًا، إنَّما هو لِخُصُوصِيَّةِ مُتَعَلِّقِ الإيمانِ شَرْعًا، فَتَسْمِيَتُهُ مُؤْمِنًا يَصِحُّ نَظَرًا إلى الوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، ولا يَصِحُّ نَظَرًا إلى الِاسْتِعْمالِ الشَّرْعِيِّ، وعَنِ الثّانِيَ عَشَرَ بِأنَّ الإيمانَ ضِدُّ الشِّرْكِ بِالإجْماعِ، وما ذَكَرُوهُ لازِمٌ عَلى كُلِّ مَذْهَبٍ، ونَحْنُ نَقُولُ: إنَّ الإيمانَ هُناكَ لُغَوِيٌّ، إذْ في الشَّرْعِيِّ يُعْتَبَرُ التَّصْدِيقُ بِجَمِيعِ ما عُلِمَ مَجِيئُهُ بِهِ ﷺ، كَما تَقَدَّمَ، فالمُشْرِكُ المُصَدِّقُ بِبَعْضٍ لا يَكُونُ مُؤْمِنًا إلّا بِحَسَبِ اللُّغَةِ دُونَ الشَّرْعِ، لِإخْلالِهِ بِالتَّوْحِيدِ، والآيَةُ إشارَةٌ إلَيْهِ، وقَوْلُهُمْ: أهْلُ اللُّغَةِ لا يَفْهَمُونَ إلَخْ، مُجَرَّدُ دَعْوى لا يُساعِدُها البُرْهانُ، نَعَمْ لا شَكَّ أنَّ المُقِرَّ بِاللِّسانِ وحْدَهُ يُسَمّى مُؤْمِنًا لُغَةً لِقِيامِ دَلِيلِ الإيمانِ الَّذِي هو التَّصْدِيقُ القَلْبِيُّ فِيهِ، كَما يُطْلَقُ الغَضْبانُ والفَرْحانُ عَلى سَبِيلِ الحَقِيقَةِ لِقِيامِ الدَّلائِلِ الدّالَّةِ عَلَيْها مِنَ الآثارِ اللّازِمَةِ لِلْغَضَبِ والفَرَحِ، ويَجْرِي عَلَيْهِ أحْكامُ الإيمانِ ظاهِرًا، ولا نِزاعَ في ذَلِكَ، وإنَّما النِّزاعُ في كَوْنِهِ مُؤْمِنًا عِنْدَ اللَّهِ تَعالى، والنَّبِيِّ ﷺ، ومَن بَعْدَهُ، كَما كانُوا يَحْكُمُونَ بِإيمانِ مَن تَكَلَّمَ بِالشَّهادَتَيْنِ كانُوا يَحْكُمُونَ بِكُفْرِ المُنافِقِ، فَدَلَّ عَلى أنَّهُ لا يَكْفِي في الإيمانِ فِعْلُ اللِّسانِ وهَذا مِمّا لا يَنْبَغِي أنْ يَنْتَطِحَ فِيهِ كَبْشانِ، وكَأنَّهُ لِهَذا اشْتَرَطَ الرَّقاشِيُّ والقَطّانُ مُواطَأةَ القَلْبِ مَعَ المَعْرِفَةِ عِنْدَ الأوَّلِ، والتَّصْدِيقَ المُكْتَسَبَ بِالِاخْتِيارِ عِنْدَ الثّانِي، وقالَ الكَرامِيَّةُ: مَن أضْمَرَ الإنْكارَ وأظْهَرَ الإذْعانَ وإنْ كانَ مُؤْمِنًا لُغَةً وشَرْعًا لِتَحَقُّقِ اللَّفْظِ الدّالِّ الَّذِي وُضِعَ لَفْظُ الإيمانِ بِإزائِهِ إلّا أنَّهُ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ الشَّخْصُ الخُلُودَ في النّارِ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ مَدْلُولِ ذَلِكَ اللَّفْظِ الَّذِي هو مَقْصُودٌ مِنِ اعْتِبارِ دِلالَتِهِ، هَذا وبَعْدَ سَبْرِ الأقْوالِ في هَذا المَقامِ، لَمْ يَظْهَرْ لِي بَأْسٌ فِيما ذَهَبَ إلَيْهِ السَّلَفُ الصّالِحُ، وهو أنَّ لَفْظَ الإيمانِ مَوْضُوعٌ لِلْقَدْرِ المُشْتَرَكِ بَيْنَ التَّصْدِيقِ، وبَيْنَ الأعْمالِ، فَيَكُونُ إطْلاقُهُ عَلى التَّصْدِيقِ فَقَطْ، وعَلى مَجْمُوعِ التَّصْدِيقِ والأعْمالِ حَقِيقَةً كَما أنَّ المُعْتَبَرَ في الشَّجَرَةِ المُعَيَّنَةِ بِحَسَبِ العُرْفِ القَدْرُ المُشْتَرَكُ بَيْنَ ساقِها ومَجْمُوعِ ساقِها مَعَ الشُّعَبِ والأوْراقِ، فَلا يُطْلَقُ الِانْعِدامُ عَلَيْها ما بَقِيَ السّاقُ، فالتَّصْدِيقُ بِمَنزِلَةِ أصْلِ الشَّجَرَةِ، والأعْمالُ بِمَنزِلَةِ فُرُوعِها وأغْصانِها، فَما دامَ الأصْلُ باقِيًا يَكُونُ الإيمانُ باقِيًا، وقَدْ ورَدَ في الصَّحِيحِ: «(الإيمانُ بِضْعٌ وسَبْعُونَ شُعْبَةً أعْلاها قَوْلُ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، وأدْناها إماطَةُ الأذى عَنِ الطَّرِيقِ)،» وقَرِيبٌ مِن هَذا قَوْلُ مَن قالَ: إنَّ الأعْمالَ آثارٌ خارِجَةٌ عَنِ الإيمانِ، مُسَبِّبَةٌ لَهُ، ويُطْلَقُ عَلَيْها لَفْظُ الإيمانِ مَجازًا، ولا مُخالَفَةَ بَيْنَ القَوْلَيْنِ، إلّا بِأنَّ إطْلاقَ اللَّفْظِ عَلَيْها حَقِيقَةٌ عَلى الأوَّلِ مَجازٌ عَلى الثّانِي، وهو بَحْثٌ لَفْظِيٌّ، والمُتَبادِرُ مِنَ الإيمانِ ها هُنا التَّصْدِيقُ كَما لا يَخْفى، (والغَيْبُ) مَصْدَرٌ أُقِيمَ مَقامَ الوَصْفِ، وهو غائِبٌ لِلْمُبالَغَةِ بِجَعْلِهِ كَأنَّهُ هُوَ، وجَعْلُهُ بِمَعْنى المَفْعُولِ يَرُدُّهُ كَما في البَحْرِ أنَّ الغَيْبَ مَصْدَرُ غابَ، وهو لازِمٌ، لا يُبْنى مِنهُ اسْمُ مَفْعُولٍ، وجَعْلُهُ تَفْسِيرًا بِالمَعْنى لِأنَّ الغائِبَ يَغِيبُ بِنَفْسِهِ تَكَلُّفٌ مِن غَيْرِ داعٍ، أوْ فَيْعَلٌ خُفِّفَ كَقِيلٍ ومَيْتٍ، وفي البَحْرِ لا يَنْبَغِي أنْ يُدَّعى ذَلِكَ إلّا فِيما سُمِعَ مُخَفَّفًا ومُثَقَّلًا، وفَسَّرَهُ جَمْعٌ هُنا بِما لا يَقَعُ تَحْتَ الحَواسِّ، ولا تَقْتَضِيهِ بَداهَةُ العَقْلِ، فَمِنهُ ما لَمْ يُنْصَبْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، وتَفَرَّدَ بِعِلْمِهِ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ سُبْحانَهُ وتَعالى كَعِلْمِ القَدَرِ مَثَلًا، ومِنهُ ما نُصِبَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ كالحَقِّ تَعالى وصِفاتِهِ العُلا، فَإنَّهُ غَيْبٌ يَعْلَمُهُ مَن أعْطاهُ اللَّهُ تَعالى نُورًا عَلى حَسَبِ ذَلِكَ النُّورِ، فَلِهَذا تَجِدُ النّاسَ مُتَفاوِتِينَ فِيهِ، ولِلْأوْلِياءِ نَفَعَنا اللَّهُ تَعالى بِهِمُ الحَظُّ الأوْفَرُ مِنهُ.
ومِن هُنا قِيلَ: الغَيْبُ مُشاهَدَةُ الكُلِّ بِعَيْنِ الحَقِّ، فَقَدْ يُمْنَحُ العَبْدُ قُرْبَ النَّوافِلِ، فَيَكُونُ الحَقُّ سُبْحانَهُ بَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وسَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، ويَرْقى مِن ذَلِكَ إلى قُرْبِ الفَرائِضِ فَيَكُونُ نُورًا، فَهُناكَ يَكُونُ الغَيْبُ لَهُ شُهُودًا، والمَفْقُودُ لَدَيْنا عِنْدَهُ مَوْجُودًا، ومَعَ هَذا لا أُسَوِّغُ لِمَن وصَلَ إلى ذَلِكَ المَقامِ أنْ يُقالَ فِيهِ: إنَّهُ يَعْلَمُ الغَيْبَ ﴿قُلْ لا يَعْلَمُ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ الغَيْبَ إلا اللَّهُ﴾
وقُلْ لِقَتِيلِ الحُبِّ وفَّيْتَ حَقَّهُ ∗∗∗ ولِلْمُدَّعِي هَيْهاتَ ما الكُحْلُ الكُحْلُ

واخْتَلَفَ النّاسُ في المُرادِ بِهِ هُنا عَلى أقْوالٍ شَتّى حَتّى زَعَمَتِ الشِّيعَةُ أنَّهُ القائِمُ، وقَعَدُوا عَنْ إقامَةِ الحُجَّةِ عَلى ذَلِكَ، والَّذِي يَمِيلُ إلَيْهِ القَلْبُ أنَّهُ ما أخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ في حَدِيثِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وهو اللَّهُ تَعالى، ومَلائِكَتُهُ، وكُتُبُهُ، ورُسُلُهُ، واليَوْمُ الآخِرُ، والقَدَرُ خَيْرُهُ وشَرُّهُ، لِأنَّ الإيمانَ المَطْلُوبَ شَرْعًا هو ذاكَ، لا سِيَّما وقَدِ انْضَمَّ إلَيْهِ الوَصْفانِ بَعْدَهُ، وكَوْنُ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمًا لِإطْلاقِ الغَيْبِ عَلَيْهِ سُبْحانَهُ ضِمْنًا، والغَيْبُ والغائِبُ ما يَجُوزُ عَلَيْهِ الحُضُورُ، والغَيْبَةُ مِمّا لا يَضُرُّ، إذْ لَيْسَ فِيهِ إطْلاقُهُ عَلَيْهِ سُبْحانَهُ بِخُصُوصِهِ، فَهَذا لَيْسَ مِن قَبِيلِ التَّسْمِيَةِ، عَلى أنَّهُ لا نُسَلِّمُ أنَّ الغَيْبَ لا يُسْتَعْمَلُ إلّا فِيما يَجُوزُ عَلَيْهِ الحُضُورُ، وبَعْضُ أهْلِ العِلْمِ فَرَّقَ بَيْنَ الغَيْبِ والغائِبِ فَيَقُولُونَ: اللَّهُ تَعالى غَيْبٌ، ولَيْسَ بِغائِبٍ، ويَعْنُونَ بِالغائِبِ ما لا يَراكَ، ولا تَراهُ، وبِالغَيْبِ ما لا تَراهُ أنْتَ، ولا يَبْعُدُ أنْ يُقالَ بِالتَّغْلِيبِ لِيَدْخُلَ إيمانُ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم بِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، إذْ لَيْسَ بِغَيْبٍ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ، أوْ يُقالُ: الإيمانُ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ راجِعٌ إلى الإيمانِ بِرِسالَتِهِ مَثَلًا، إذْ لا مَعْنى لِلْإيمانِ بِهِ نَفْسِهِ مُعَرًّى عَنِ الحَيْثِيّاتِ، ورِسالَتُهُ غَيْبٌ نُصِبَ عَلَيْها الدَّلِيلُ كَما نُصِبَ لَنا، وإنِ افَتَرَقْنا بِالخَبَرِ والمُعايَنَةِ، أوْ أنَّهُ مِن إسْنادِ ما لِلْبَعْضِ إلى الكُلِّ مَجازًا، كَبَنُو فُلانٍ قَتَلُوا فُلانًا، أوِ المُرادُ أنَّهم يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ كَما يُؤْمِنُونَ بِالشَّهادَةِ، فاسْتَوى عِنْدَهُمُ المُشاهَدُ وغَيْرُهُ، واخْتارَ أبُو مُسْلِمٍ الأصْفَهانِيُّ أنَّ المُرادَ أنَّ هَؤُلاءِ المُتَّقِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ أيْ حالَ الغَيْبَةِ عَنْكُمْ، كَما يُؤْمِنُونَ حالَ الحُضُورِ لا كالمُنافِقِينَ الَّذِينَ ﴿وإذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا وإذا خَلَوْا إلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إنّا مَعَكم إنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ فَهو عَلى حَدِّ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أنِّي لَمْ أخُنْهُ بِالغَيْبِ﴾ ويُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ: حالَ غَيْبَةِ المُؤْمِنِ بِهِ، فَفي سُنَنِ الدّارِمِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أنَّ الحارِثَ بْنَ قَيْسٍ قالَ لَهُ: عِنْدَ اللَّهِ نَحْتَسِبُ ما سَبَقْتُمُونا إلَيْهِ مِن رُؤْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ عِنْدَ اللَّهِ نَحْتَسِبُ إيمانَكم بِمُحَمَّدٍ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ ولَمْ تَرَوْهُ، إنَّ أمْرَ مُحَمَّدٍ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ كانَ بَيِّنًا لِمَن رَآهُ، والَّذِي لا إلَهَ إلّا هو ما مِن أحَدٍ أفْضَلَ مِن إيمانٍ بِغَيْبٍ، ثُمَّ قَرَأ ﴿الم﴾ ﴿ذَلِكَ الكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿المُفْلِحُونَ﴾ ولا يَلْزَمُ مِن تَفْضِيلِ إيمانٍ عَلى آخَرَ مِن حَيْثِيَّةِ تَفْضِيلِهِ عَلَيْهِ مِن سائِرِ الحَيْثِيّاتِ، ولا تَفْصِيلِ المُتَّصِفِ بِأحَدِهِما عَلى المُتَّصِفِ بِالآخَرِ، فَإنَّ الأفْضَلِيَّةَ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الإضافاتِ والِاعْتِباراتِ، وقَدْ يُوجَدُ في المَفْضُولِ ما لَيْسَ في الفاضِلِ، ويا لَيْتَ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ سَكَّنَ لَوْعَةَ الحارْثِ بِما ورَدَ عَنْهُ ﷺ مَرْفُوعًا، «(نِعْمَ قَوْمٌ يَكُونُونَ بَعْدَكم يُؤْمِنُونَ بِي ولَمْ يَرَوْنِي)،» وما كانَ أغْناهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ عَمّا أجابَ بِهِ، إذْ يَخْرُجُ الصَّحابَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم عَنْ هَذا العُمُومِ الَّذِي في هَذِهِ الآيَةِ، كَما يُشْعِرُ بِهِ قِراءَتُهُ لَها، مُسْتَشْهِدًا بِها، وبِهِ قالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ، وأنا لا أمِيلُ إلى ذَلِكَ، وقِيلَ: المُرادُ بِالغَيْبِ القَلْبُ أيْ يُؤْمِنُونَ بِقُلُوبِهِمْ، لا كَمَن يَقُولُونَ بِأفْواهِهِمْ ما لَيْسَ في قُلُوبِهِمْ، والباءُ عَلى الأوَّلِ لِلتَّعْدِيَةِ، وعَلى الثّانِي والثّالِثِ لِلْمُصاحَبَةِ، وعَلى الرّابِعِ لِلْآلَةِ، وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ، وعاصِمٌ في رِوايَةِ الأعْشى عَنْ أبِي بَكْرٍ بِتَرْكِ الهَمْزَةِ مِن (يُؤْمِنُونَ)، وكَذا كُلُّ هَمْزَةٍ ساكِنَةٍ، بَلْ قَدْ يَتْرُكانِ كَثِيرًا مِنَ المُتَحَرِّكَةِ مِثْلَ ”لا يُؤاخِذُكم“ و﴿يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ﴾ وتَفْصِيلُ مَذْهَبِ أبِي جَعْفَرٍ طَوِيلٌ، وأمّا أبُو عَمْرٍو فَيَتْرُكُ كُلَّ هَمْزَةٍ ساكِنَةٍ إلّا أنْ يَكُونَ سُكُونُها عَلامَةً لِلْجَزْمِ مِثْلَ ”يهيئ لَكم“ (ونَبِّئْهُمْ)، و﴿اقْرَأْ كِتابَكَ﴾ فَإنَّهُ لا يَتْرُكُ الهَمْزَةَ فِيها، ورُوِيَ عَنْهُ أيْضًا الهَمْزَةُ في السّاكِنَةِ، وأمّا نافِعٌ، فَيَتْرُكُ كُلَّ هَمْزَةٍ ساكِنَةٍ ومُتَحَرِّكَةٍ إذا كانَتْ فاءَ الفِعْلِ نَحْوَ (يُؤْمِنُونَ) و(لا يُؤاخِذُكُمْ)، واخْتَلَفَتْ قِراءَةُ الكِسائِيِّ وحَمْزَةَ، ولِكُلٍّ مَذْهَبٌ يَطُولُ ذِكْرُهُ، (ويُقِيمُونَ) مِنَ الإقامَةِ، يُقالُ: أقَمْتُ الشَّيْءَ إقامَةً إذا وفَّيْتَ حَقَّهُ، قالَ تَعالى: ﴿لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ والإنْجِيلَ﴾ أيْ تُوَفُّوا حَقَّهُما بِالعِلْمِ والعَمَلِ، ومَعْنى: يُقِيمُونَ الصَّلاةَ، يَعْدِلُونَ أرْكانَها بِأنْ يُوقِعُوها مُسْتَجْمِعَةً لِلْفَرائِضِ والواجِباتِ أوْ لَها مَعَ الآدابِ والسُّنَنِ مِن أقامَ العُودَ إذا قَوَّمَهُ، أوْ يُواظِبُونَ عَلَيْها ويُداوِمُونَ، مِن قامَتِ السُّوقُ إذا نَفَقَتْ، وأقَمْتُها إذا جَعَلْتَها نافِقَةً، أوْ يَتَشَمَّرُونَ لِأدائِها بِلا فَتْرَةٍ عَنْها، ولا تَوانٍ، مِن قَوْلِهِمْ: قامَ بِالأمْرِ، وأقامَهُ إذا جَدَّ فِيهِ، أوْ يُؤَدُّونَها ويَفْعَلُونَها، وعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالإقامَةِ لِأنَّ القِيامَ بَعْضُ أرْكانِها، فَهَذِهِ أرْبَعَةُ أوْجُهٍ، وفي الكَلامِ عَلى الأوَّلَيْنِ مِنها اسْتِعارَةٌ تَبَعِيَّةٌ، وعَلى الأخِيرَيْنِ مَجازٌ مُرْسَلٌ، وبَيانُ ذَلِكَ في الأوَّلِ أنْ يُشَبِّهَ تَعْدِيلَ الأرْكانِ بِتَقْوِيمِ العُودِ بِإزالَةِ اعْوِجاجِهِ، فَهو قَوِيمٌ تَشْبِيهًا لَهُ بِالقائِمِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ الإقامَةُ مِن تَسْوِيَةِ الأجْسامِ الَّتِي صارَتْ حَقِيقَةً فِيها لِتَسْوِيَةِ المَعانِي، كَتَعْدِيلِ أرْكانِ الصَّلاةِ عَلى ما هو حَقُّها، وقِيلَ: الإقامَةُ بِمَعْنى التَّسْوِيَةِ حَقِيقَةٌ في الأعْيانِ والمَعانِي، بَلِ التَّقْوِيمُ في المَعانِي كالدِّينِ، والمَذْهَبِ أكْثَرُ فَلا حاجَةَ إلى الِاسْتِعارَةِ، ولا يَخْفى ما فِيهِ، فَإنَّ المَجازِيَّةَ ما لا شُبْهَةَ فِيها دِرايَةً ورِوايَةً، وذاكَ الِاسْتِعْمالُ مَجازٌ مَشْهُورٌ، أوْ حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ، وفي الثّانِي بِأنَّ نَفاقَ السُّوقِ كانْتِصابِ الشَّخْصِ في حُسْنِ الحالِ والظُّهُورِ التّامِّ، فاسْتَعْمَلَ القِيامَ فِيهِ، والإقامَةَ في إنْفاقِها ثُمَّ اسْتُعِيرَتْ مِنهُ لِلْمُداوَمَةِ، فَإنَّ كُلًّا مِنهُما يَجْعَلُ مُتَعَلِّقَهُ مَرْغُوبًا مُتَنافَسًا فِيهِ مُتَوَجَّهًا إلَيْهِ، وهَذا مَعْنًى لَطِيفٌ لا يَقِفُ عَلَيْهِ إلّا الخَواصُّ، إلّا أنَّ فِيهِ تَجَوُّزًا مِنَ المَجازِ، وكَأنَّهُ لِهَذا مالَ الطِّيبِيُّ إلى أنَّ في هَذا الوَجْهِ كِنايَةً تَلْوِيحِيَّةَ حَيْثُ عَبَّرَ عَنِ الدَّوامِ بِالإقامَةِ، فَإنَّ إقامَةَ الصَّلاةِ بِالمَعْنى الأوَّلِ مُشْعِرَةٌ بِكَوْنِها مَرْغُوبًا فِيها، وإضاعَتُها تَدُلُّ عَلى ابْتِذالِها كالسُّوقِ إذا شُوهِدَتْ قائِمَةً دَلَّتْ عَلى نَفاقِ سِلْعَتِها ونَفاقِها عَلى تَوَجُّهِ الرَّغَباتِ إلَيْها، وهو يَسْتَدْعِي الِاسْتِدامَةَ بِخِلافِها إذا لَمْ تَكُنْ قائِمَةً، وفي الثّالِثِ بِأنَّ القِيامَ بِالأمْرِ يَدُلُّ عَلى الِاعْتِناءِ بِشَأْنِهِ، ويَلْزَمُهُ التَّشَمُّرُ فَأُطْلِقَ القِيامُ عَلى لازِمِهِ، وقَدْ يُقالُ بِأنَّ قامَ بِالأمْرِ مَعْناهُ جَدَّ فِيهِ، وخَرَجَ عَنْ عُهْدَتِهِ بِلا تَأْخِيرٍ ولا تَقْصِيرٍ، فَكَأنَّهُ قامَ بِنَفْسِهِ لِذَلِكَ، وأقامَهُ أيْ رَفَعَهُ عَلى كاهِلِهِ بِجُمْلَتِهِ فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ أنْ يَكُونَ فِيهِ اسْتِعارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ أوْ مَكْنِيَّةٌ أوْ تَصْرِيحِيَّةٌ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ أيْضًا مَجازًا مُرْسَلًا، لِأنَّ مَن قامَ لِأمْرٍ عَلى أقْدامِ الإقْدامِ، ورَفَعَهُ عَلى كاهِلِ الجِدِّ، فَقَدْ بَذَلَ فِيهِ جُهْدَهُ، وفي الرّابِعِ بِأنَّ الأداءَ المُرادُ بِهِ فِعْلُ الصَّلاةِ، والقَيْدُ خارِجٌ عَبَّرَ عَنْهُ بِالإقامَةِ بِعَلاقَةِ اللُّزُومِ، إذْ يَلْزَمُ مِن تَأْدِيَةِ الصَّلاةِ وإيجادِها كُلِّها فِعْلُ القِيامِ، وهو الإقامَةُ، لِأنَّ فِعْلَ الشَّيْءِ فِعْلٌ لِأجْزائِهِ، أوِ العَلاقَةِ الجُزْئِيَّةِ، لِأنَّ الإقامَةَ جُزْءٌ أوْ جُزْئِيٌّ لِمُطْلَقِ الفِعْلِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ هُناكَ اسْتِعارَةٌ لِمُشابَهَةِ الأداءِ لِلْإقامَةِ في أنَّ كُلًّا مِنهُما فِعْلٌ مُتَعَلِّقٌ بِالصَّلاةِ
وإلى تَرْجِيحِ أوَّلِ الأوْجُهِ مالَ جَمْعٌ لِأنَّهُ أظْهَرُ وأقْرَبُ إلى الحَقِيقَةِ، وأفْيَدُ، وهو المَرْوِيُّ عَنْ تُرْجُمانِ القُرْآنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما كَما أخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ مِن طُرُقٍ عَنْهُ، ولَعَلَّ ذَلِكَ مِنهُ عَنْ تَوْقِيفٍ مِن رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، أوْ حَمْلٌ لِكَلامِ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى عَلى أحْسَنِ مَحامِلِهِ، حَيْثُ إنَّهُ المُناسِبُ لِتَرْتِيبِ الهُدى الكامِلِ، والفَلاحِ التّامِّ الشّامِلِ، وفِيهِ المَدْحُ العَظِيمُ والثَّناءُ العَمِيمُ، ولا يَبْعُدُ أنْ يُقالَ بِاسْتِلْزامِهِ لِما في الأوْجُهِ الأخِيرَةِ، وتَعَيَّنَ الأخِيرُ كَما قِيلَ في حَدِيثِ: «(أُمِرْتُ أنْ أُقاتِلَ النّاسَ حَتّى يَشْهَدُوا أنَّ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ويُقِيمُوا الصَّلاةَ ويُؤْتُوا الزَّكاةَ فَإذا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدْ عَصَمُوا مِنِّي دِماءَهم وأمْوالَهم إلّا بِحَقِّ الإسْلامِ)،» لا يَضُرُّ في أرْجَحِيَّةِ الأوَّلِ في الكَلامِ القَدِيمِ، إذْ يَرِدُ أنَّهُ لَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ قِيلَ: يُصَلُّونَ، والعُدُولُ عَنِ الأخْصَرِ الأظْهَرِ بِلا فائِدَةٍ لا يَتَّجِهُ في كَلامٍ بَلِيغٍ فَضْلًا عَنْ أبْلَغِ الكَلامِ، ولِكُلِّ مَقامٍ مَقالٌ، فافْهَمْ، (والصَّلاةُ) في الأصْلِ عِنْدَ بَعْضٍ بِمَعْنى الدُّعاءِ، ومِنهُ قَوْلُهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «(إذا دُعِيَ أحَدُكم إلى طَعامٍ فَلْيُجِبْ، وإنْ كانَ صائِمًا فَلْيُصَلِّ)،» وهي عِنْدَ أهْلِ الشَّرْعِ مُسْتَعْمَلَةٌ في ذاتِ الأرْكانِ، لِأنَّها دُعاءٌ بِالألْسِنَةِ الثَّلاثَةِ، الحالِ والفِعْلِ والمَقالِ، والمَشْهُورُ في أُصُولِ الفِقْهِ أنَّ المُعْتَزِلَةَ عَلى أنَّ هَذِهِ وأمْثالَها حَقائِقُ مُخْتَرَعَةٌ شَرْعِيَّةٌ لِأنَّها مَنقُولَةٌ عَنْ مَعانٍ لُغَوِيَّةٍ، والقاضِي أبُو بَكْرٍ مِنّا عَلى أنَّها مَجازاتٌ لُغَوِيَّةٌ مَشْهُورَةٌ لَمْ تَصِرْ حَقائِقَ، وجَماهِيرُ الأصْحابِ عَلى أنَّها حَقائِقُ شَرْعِيَّةٌ عَنْ مَعانٍ لُغَوِيَّةٍ، وقالَ أبُو عَلِيٍّ ورَجَّحَهُ السُّهَيْلِيُّ: الصَّلاةُ مِنَ الصَّلَوَيْنِ لِعِرْقَيْنِ في الظَّهْرِ، لِأنَّ أوَّلَ ما يُشاهَدُ مِن أحْوالِها تَحْرِيكُهُما لِلرُّكُوعِ، واسْتَحْسَنَهُ ابْنُ جِنِّي، وسُمِّيَ الدّاعِي مُصَلِّيًا تَشْبِيهًا لَهُ في تَخَشُّعِهِ بِالرّاكِعِ السّاجِدِ، وقِيلَ: أُخِذَتِ الصَّلاةُ مِن ذاكَ لِأنَّها جاءَتْ ثانِيَةً لِلْإيمانِ، فَشُبِّهَتْ بِالمَصْلِيِّ مِنَ الخَيْلِ لِلْآتِي مَعَ صَلَوَيِ السّابِقِ، وأنْكَرَ الإمامُ الِاشْتِقاقَ مِنَ الصَّلَوَيْنِ مُسْتَنِدًا إلى أنَّ الصَّلاةَ مِن أشْهَرِ الألْفاظِ، فاشْتِقاقُها مِن غَيْرِ المَشْهُورِ في غايَةِ البُعْدِ، وأكادُ أُوافِقُهُ وإنْ قِيلَ: إنَّ عَدَمَ الِاسْتِشْهارِ لا يَقْدَحُ في النَّقْلِ، وقِيلَ: مِن صَلَيْتُ العَصا إذا قَوَّمْتَها بِالصَّلْيِ، فالمُصَلِّي كَأنَّهُ يَسْعى في تَعْدِيلِ ظاهِرِهِ وباطِنِهِ مِثْلَ ما يُحاوِلُ تَعْدِيلَ الخَشَبَةِ بِعَرْضِها عَلى النّارِ، وهي فَعَلَةٌ بِفَتْحِ العَيْنِ، عَلى المَشْهُورِ، وجَوَّزَ بَعْضُهم سُكُونَها، فَتَكُونُ حَرَكَةُ العَيْنِ مَنقُولَةً مِنَ اللّامِ، وقَدِ اتَّفَقَتِ المَصاحِفُ عَلى رَسْمِ الواوِ مَكانَ الألِفِ في مِشْكَوَةٍ، ونَجاةٍ، ومَناةٍ، وصَلاةٍ، وزَكاةٍ، وحَياةٍ، حَيْثُ كُنَّ مُوَحَّداتٍ مُفْرَداتٍ مُحَلّاتٍ بِاللّامِ، وعَلى رَسْمِ المُضافِ مِنها كَصَلاتِي بِالألِفِ، وحُذِفَتْ مِن بَعْضِ المَصاحِفِ العُثْمانِيَّةِ، واتَّفَقُوا عَلى رَسْمِ المَجْمُوعِ مِنها بِالواوِ عَلى اللَّفْظِ قالَ الجُعْبَرِيُّ: ووَجْهُ كِتابَةِ الواوِ الدِّلالَةُ عَلى أنَّ أصْلَها المُنْقَلِبَةَ عَنْهُ واوٌ وهو إتْباعٌ لِلتَّفْخِيمِ، وهَذا مَعْنى قَوْلِ ابْنِ قُتَيْبَةَ: بَعْضُ العَرَبِ يُمِيلُونَ الألِفَ إلى الواوِ، ولَمْ أخْتَرِ التَّعْلِيلَ بِهِ لِعَدَمِ وُقُوعِهِ في القُرْآنِ العَظِيمِ، وكَلامِ الفُصَحاءِ، والمُرادُ بِالصَّلاةِ هُنا الصَّلاةُ المَفْرُوضَةُ وهي الصَّلَواتُ الخَمْسُ، كَما قالَهُ مُقاتِلٌ أوِ الفَرائِضُ والنَّوافِلُ، كَما قالَهُ الجُمْهُورُ، والأوَّلُ هو المَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما، وادَّعى الإمامُ أنَّهُ هو المُرادُ لِأنَّهُ الَّذِي يَقَعُ عَلَيْهِ الفَلاحُ لِأنَّهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ لَمّا بَيَّنَ لِلْأعْرابِيِّ صِفَةَ الصَّلاةِ المَفْرُوضَةِ قالَ: «(واللَّهِ لا أزِيدُ عَلَيْها، ولا أنْقُصُ مِنها، فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: أفْلَحَ الأعْرابِيُّ إنْ صَدَقَ)،» (والرَّزْقُ) بِالفَتْحِ لُغَةً الإعْطاءُ لِما يَنْتَفِعُ الحَيَوانُ بِهِ، وقِيلَ: إنَّهُ يَعُمُّ غَيْرَهُ كالنَّباتِ، وبِالكَسْرِ اسْمٌ مِنهُ، ومَصْدَرٌ أيْضًا عَلى قَوْلٍ، وقِيلَ: أصْلُ الرِّزْقِ الحَظُّ، ويُسْتَعْمَلُ بِمَعْنى المَرْزُوقِ المُنْتَفَعِ بِهِ، وبِمَعْنى المُلْكِ، وبِمَعْنى الشُّكْرِ عِنْدَ أزْدٍ، واخْتَلَفَ المُتَكَلِّمُونَ في مَعْناهُ شَرْعًا، فالمُعَوَّلُ عَلَيْهِ عِنْدَ الأشاعِرَةِ ما ساقَهُ اللَّهُ تَعالى إلى الحَيَوانِ فانْتَفَعَ بِهِ، سَواءٌ كانَ حَلالًا أوْ حَرامًا، مِنَ المَطْعُوماتِ، أوِ المَشْرُوباتِ، أوِ المَلْبُوساتِ أوْ غَيْرِ ذَلِكَ، والمَشْهُورُ أنَّهُ اسْمٌّ لِما يَسُوقُهُ اللَّهُ تَعالى إلى الحَيَوانِ لِيَتَغَذّى بِهِ، ويَلْزَمُ عَلى الأوَّلِ أنْ تَكُونَ العَوارِي رِزْقًا، لِأنَّها مِمّا ساقَهُ اللَّهُ تَعالى لِلْحَيَوانِ فانْتَفَعَ بِهِ، وفي جَعْلِها رِزْقًا بَعْدُ بِحَسَبِ العُرْفِ كَما لا يَخْفى، ويَلْزَمُ أيْضًا أنْ يَأْكُلَ شَخْصٌ رِزْقَ غَيْرِهِ، لِأنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَنْتَفِعَ بِهِ الآخَرُ بِالأكْلِ، إلّا أنَّ الآيَةَ تُوافِقُهُ إذْ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ الِانْتِفاعُ مِن جِهَةِ الإنْفاقِ عَلى الغَيْرِ بِخِلافِ التَّعْرِيفِ الثّانِي، إذْ ما يُتَغَذّى بِهِ لا يُمْكِنُ إنْفاقُهُ إلّا أنْ يُقالَ: إطْلاقُ الرِّزْقِ عَلى المُنْفَقِ مُجازٌ لِكَوْنِهِ بِصَدَدِهِ، والمُعْتَزِلَةُ فَسَّرُوهُ في المَشْهُورِ تارَةً بِما أعْطاهُ اللَّهُ تَعالى عَبْدَهُ ومَكَّنَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، وتارَةً بِما أعْطاهُ اللَّهُ تَعالى لِقِوامِهِ وبَقائِهِ خاصَّةً، وحَيْثُ إنَّ الإضافَةَ إلى اللَّهِ تَعالى مُعْتَبَرَةٌ في مَعْناهُ، وأنَّهُ لا رازِقَ إلّا اللَّهُ سُبْحانَهُ، وأنَّ العَبْدَ يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ والعِقابَ عَلى أكْلِ الحَرامِ، وما يَسْتَنِدُ إلى اللَّهِ تَعالى عَزَّ وجَلَّ عِنْدَهم لا يَكُونُ قَبِيحًا ولا مُرْتَكِبُهُ مُسْتَحِقًّا ذَمًّا وعِقابًا، قالُوا: إنَّ الرِّزْقَ هو الحَلالُ، والحَرامُ لَيْسَ بِرِزْقٍ، وإلى ذَلِكَ ذَهَبَ الجَصّاصُ مِنّا في كِتابِ أحْكامِ القُرْآنِ، وعِنْدَنا الكُلُّ مِنهُ وبِهِ وإلَيْهِ ﴿قُلْ كُلٌّ مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾ ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللَّهِ وإلى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُور والذَّمُّ والعِقابُ لِسُوءِ مُباشَرَةِ الأسْبابِ بِالِاخْتِيارِ، نَعَمِ الأدَبُ مِن خَيْرِ رَأْسِ مالِ المُؤْمِنِ، فَلا يَنْبَغِي أنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ سُبْحانَهُ إلّا الأفْضَلُ، فالأفْضَلُ كَما قالَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿وإذا مَرِضْتُ فَهو يَشْفِينِ﴾ وقالَ تَعالى: ﴿أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ فالحَرامُ رِزْقٌ في نَفْسِ الأمْرِ، لَكِنّا نَتَأدَّبُ في نِسْبَتِهِ إلَيْهِ سُبْحانَهُ، والدَّلِيلُ عَلى شُمُولِ الرِّزْقِ لَهُ ما أخْرَجَهُ ابْنُ ماجَهْ، وأبُو نُعَيْمٍ والدَّيْلَمِيُّ مِن حَدِيثِ صَفْوانَ بْنِ أُمَيَّةَ قالَ: «(جاءَ عَمْرُو بْنُ قُرَّةَ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ اللَّهَ قَدْ كَتَبَ عَلَيَّ الشِّقْوَةَ، فَلا أُرانِي أُرْزَقُ إلّا مِن دُفِّي بِكَفِّي، فَأْذَنْ لِي في الغِنى مِن غَيْرِ فاحِشَةٍ، فَقالَ ﷺ: لا إذَنَ لَكَ، ولا كَرامَةَ، ولا نِعْمَةَ، كَذَبْتَ، أيْ عَدُوَّ اللَّهِ، لَقَدْ رَزَقَكَ اللَّهُ تَعالى رِزْقًا حَلالًا طَيِّبًا فاخْتَرْتَ ما حَرَّمَ اللَّهُ تَعالى عَلَيْكَ مِن رِزْقِهِ، مَكانَ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكَ مِن حَلالِهِ)،» وحَمْلُهُ عَلى المُشاكَلَةِ كالقَوْلِ بِأنَّهُ يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ (فاخْتَرْتَ) إلَخْ، كَوْنَهُ رِزْقًا لِمَن أُحِلَّ لَهُ، فَيَسْقُطُ الِاسْتِدْلالُ لِقِيامِ الِاحْتِمالِ، خِلافُ الظّاهِرِ جِدًّا، ومِثْلُ هَذا الِاحْتِمالِ إنْ قَدَحَ في الِاسْتِدْلالِ لا يَبْقى عَلى وجْهِ الأرْضِ دَلِيلٌ، والطَّعْنُ في السَّنَدِ لا يُقْبَلُ مِن غَيْرِ مُسْتَنَدٍ، وهو مَناطُ الثُّرَيّا، كَما لا يَخْفى، والِاسْتِدْلالُ عَلى هَذا المَطْلَبِ كَما فَعَلَ البَيْضاوِيُّ وغَيْرُهُ بِأنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ الحَرامُ رِزْقًا لَمْ يَكُنِ المُتَغَذِّي بِهِ طُولَ عُمْرِهِ مَرْزُوقًا، ولَيْسَ كَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما مِن دابَّةٍ في الأرْضِ إلا عَلى اللَّهِ رِزْقُها﴾ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأنَّ لِلْمُعْتَزِلَةِ أنْ لا يَخُصُّوا الرِّزْقَ بِالغِذاءِ، بَلْ يَكْتَفُوا بِمُطْلَقِ الِانْتِفاعِ دُونَ الِانْتِفاعِ بِالفِعْلِ، بَلِ التَّمَكُّنِ فِيهِ، فَلا يَتِمُّ الدَّلِيلُ إلّا إذا فُرِضَ أنَّ ذَلِكَ الشَّخْصَ لَمْ يَنْتَفِعْ مِن وقْتِ وفاتِهِ إلى وقْتِ مَوْتِهِ بِشَيْءٍ انْتِفاعًا مُحَلّالًا، لا رَضْعَةَ مِن ثَدْيٍ، ولا شَرْبَةَ مِن ماءٍ مُباحٍ، ولا نَظْرَةَ إلى مَحْبُوبٍ، ولا وصْلَةَ إلى مَطْلُوبٍ، بَلْ ولا تَمَكُّنَ مِن ذَلِكَ أصْلًا، والعادَةُ تَقْضِي بِعَدَمِ وُجُودِهِ، ومادَّةُ النَّقْضِ لا بُدَّ مِن تَحَقُّقِها عَلى أنَّهُ لَوْ قُدِّرَ وُجُودُهُ لَقالُوا: إنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مُحَرَّمًا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ، و﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ ولا عادٍ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ﴾ وأيْضًا لَهم أنْ يَعْتَرِضُوا بِمَن عاشَ يَوْمًا مَثَلًا، ثُمَّ ماتَ قَبْلَ أنْ يَتَناوَلَ حَلالًا ولا حَرامًا، وما يَكُونُ جَوابَنا لَهُمْ، يَكُونُ جَوابَهم لَنا، عَلى أنَّ الآيَةَ لَمْ تَدُلَّ عَلى أنَّ اللَّهَ تَعالى يُوصِلُ جَمِيعَ ما يَنْتَفِعُ بِهِ كُلُّ أحَدٍ إلَيْهِ، فَإنَّ الواقِعَ خِلافُهُ بَلْ دَلَّتْ عَلى أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى يَسُوقُ الرِّزْقَ، ويُمَكِّنُ مِنَ الِانْتِفاعِ بِهِ، فَإذا حَصَلَ الإعْراضُ مِنَ الحَلالِ إلى الحَرامِ لَمْ يَقْدَحْ في تَحَقُّقِ رازِقِيَّتِهِ جَلَّ وعَلا، وأيْضًا قَدْ يُقالُ: مَعْنى الآيَةِ ما مِن دابَّةٍ مُتَّصِفَةٍ بِالمَرْزُوقِيَّةِ، فَلا تَدْخُلُ مادَّةُ النَّقْضِ لِيَضُرَّ خُرُوجُها، كَما لا يَدْخُلُ السَّمَكُ في قَوْلِهِمْ: كُلُّ دابَّةٍ تُذْبَحُ بِالسِّكِّينِ، أيْ كُلُّ دابَّةٍ تَتَّصِفُ بِالمَذْبُوحَةِ، فالِاتِّصافُ أنَّ هَذا لا يَصْلُحُ دَلِيلًا، والأحْسَنُ الِاسْتِدْلالُ بِالإجْماعِ قَبْلَ ظُهُورِ المُعْتَزِلَةِ، عَلى أنَّ مَن أكَلَ الحَرامَ طُولَ عُمْرِهِ مَرْزُوقٌ طُولَ عُمْرِهِ ذَلِكَ الحَرامَ، والظَّواهِرُ تَشْهَدُ بِانْقِسامِ الرِّزْقِ إلى طَيِّبٍ وخَبِيثٍ، وهي تَكْفِي في مِثْلِ هَذِهِ المَسْألَةِ، والأصْلُ الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ التَّخْصِيصُ قَدْ تَرَكَهُ أهْلُ السُّنَّةِ قاعًا صَفْصَفًا، (والإنْفاقُ) الإنْفادُ يُقالُ: أنْفَقْتُ الشَّيْءَ، وأنْفَدْتُهُ بِمَعْنًى، والهَمْزَةُ لِلتَّعْدِيَةِ، وأصْلُ المادَّةِ تَدُلُّ عَلى الخُرُوجِ والذَّهابِ، ومِنهُ نافَقَ، والنّافِقاءُ ونَفَقَ، وإنَّما قَدَّمَ سُبْحانَهُ وتَعالى المَعْمُولَ اعْتِناءً بِما خَوَّلَ اللَّهُ تَعالى العَبْدَ، أوْ لِأنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلى الإنْفاقِ في الخارِجِ، ولِتَناسُبِ الفَواصِلِ، والمُرادُ بِالرِّزْقِ هُنا الحَلالُ لِأنَّهُ في مَعْرِضِ وصْفِ المُتَّقِي، ولا مَدْحَ أيْضًا في إنْفاقِ الحَرامِ، قِيلَ: ولا يُرَدُّ قَوْلُ الفُقَهاءِ إذا اجْتَمَعَ عِنْدَ أحَدٍ مالٌ لا يَعْرِفُ صاحِبَهُ يَنْبَغِي أنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ، فَإذا وجَدَ صاحِبَهُ دَفَعَ قِيمَتَهُ، أوْ مِثْلَهُ إلَيْهِ، فَهَذا الإنْفاقُ مِمّا يُثابُ عَلَيْهِ، لِأنَّهُ لَمّا فَعَلَهُ بِإذْنِ الشّارِعِ اسْتَحَقَّ المَدْحَ، لِأنَّهُ لَمّا لَمْ يَعْرِفْ صاحِبَهُ كانَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ، وانْتَقَلَ بِالضَّمانِ إلى مِلْكِهِ، وتَبَدَّلَتِ الحُرْمَةُ إلى ثَمَنِهِ، عَلى أنَّهُ قَدْ وقَعَ الخِلافُ فِيما لَوْ عَمِلَ الخَيْرَ بِمالٍ مَغْصُوبٍ عُرِفَ صاحِبُهُ كَما قالَ ابْنُ القَيِّمِ في بَدائِعِ الفَوائِدِ، فَذَهَبَ ابْنُ عَقِيلٍ إلى أنَّهُ لا ثَوابَ لِلْغاصِبِ فِيهِ، لِأنَّهُ آثِمٌ ولا لِرَبِّ المالِ، لِأنَّهُ لا نِيَّةَ لَهُ، ولا ثَوابَ بِدُونِها، وإنَّما يُأْخَذُ مِن حَسَناتِ الغاصِبِ بِقَدْرِ مالِهِ، وقِيلَ: إنَّهُ نَفْعٌ حَصَلَ بِمالِهِ، وتَوَلَّدَ مِنهُ، ومِثْلُهُ يُثابُ عَلَيْهِ، كالوَلَدِ الصّالِحِ يُؤْجَرُ بِهِ، وإنْ لَمْ يَقْصِدْهُ، ويُفْهَمُ كَلامُ البَعْضِ وهو مِنَ الغَرابَةِ بِمَكانٍ أنَّ الغاصِبَ أيْضًا يُؤْجَرُ إذا صَرَفَها بِخَيْرٍ، وإنْ تَعَدَّ واقْتُصَّ مِن حَسَناتِهِ بِسَبَبِ أخْذِهِ لِأنَّهُ لَوْ فَسَقَ بِهِ عُوقِبَ مَرَّتَيْنِ، مَرَّةً عَلى الغَصْبِ، ومَرَّةً عَلى الفِسْقِ، فَإذا عَمِلَ بِهِ خَيْرًا يَنْبَغِي أنْ يُثابَ عَلَيْهِ، ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ ﴿ومَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ ولا يَرِدُ عَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «(لا يَقْبَلُ اللَّهُ صَدَقَةً مِن غُلُولٍ)،» وقَوْلُهُ: «(إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلّا طِيِّبًا)،» لِأنَّ مَآلَ ما ذُكِرَ أنَّ الثَّوابَ عَلى نَفْسِ العُدُولِ مِنَ الصَّرْفِ في المَعْصِيَةِ إلى الصَّرْفِ فِيما هو طاعَةٌ في نَفْسِهِ، لا عَلى نَفْسِ الصَّدَقَةِ مَثَلًا بِالمالِ الحَرامِ مِن حَيْثُ إنَّهُ حَرامٌ، والفَرْقُ دَقِيقٌ لا يُهْتَدى إلَيْهِ إلّا بِتَوْفِيقٍ.
وقَدِ اخْتُلِفَ في الإنْفاقِ ها هُنا فَقِيلَ وهو الأوْلى: صَرْفُ المالِ في سُبُلِ الخَيْراتِ، أوِ البَذْلُ مِنَ النِّعَمِ الظّاهِرَةِ والباطِنَةِ، وعِلْمٌ لا يُقالُ بِهِ، كَكَنْزٍ لا يُنْفَقُ مِنهُ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ الزَّكاةُ، وعَنْهُ وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَفَقَةُ العِيالِ، وعَنِ الضَّحّاكِ التَّطَوُّعُ قَبْلَ فَرْضِ الزَّكاةِ أوِ النَّفَقَةُ في الجِهادِ، ولَعَلَّ هَذِهِ الأقْوالَ تَمْثِيلٌ لِلْمُنْفَقِ لا خِلافَ فِيهِ، وبَعْضُهم جَعَلَها خِلافًا، ورَجَّحَ كَوْنَها الزَّكاةَ المَفْرُوضَةَ بِاقْتِرانِها بِأُخْتِها الصَّلاةِ في عِدَّةِ مَواضِعَ مِنَ القُرْآنِ، ومِنَ التَّبَعُّضِيَّةُ حِينَئِذٍ مِمّا لا يُسْئَلُ عَنْ سِرِّها، إذِ الزَّكاةُ المَفْرُوضَةُ لا تَكُونُ بِجَمِيعِ المالِ، وأمّا إذا كانَ المُرادُ بِالإنْفاقِ مُطْلَقَهُ الأعَمَّ مَثَلًا، فَفائِدَةُ إدْخالِها الإشارَةُ إلى أنَّ إنْفاقَ بَعْضِ المالِ يَكْفِي في اتِّصافِ المُنْفِقِ بِالهِدايَةِ والفَلاحِ، ولا يَتَوَقَّفُ عَلى إنْفاقِ جَمِيعِ المالِ، وقَوْلُ مَوْلانا البَيْضاوِيِّ تَبَعًا لِلزَّمَخْشَرِيِّ: إنَّهُ لِلْكَفِّ عَنِ الإسْرافِ المَنهِيِّ عَنْهُ مَخْصُوصٌ بِمَن لَمْ يَصْبِرْ عَلى الفاقَةِ، ويَتَجَرَّعْ مَرارَةَ الإضافَةِ، وإلّا فَقَدْ تَصَدَّقَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ بِجَمِيعِ مالِهِ، ولَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ لِعِلْمِهِ بِصَبْرِهِ واطِّلاعِهِ عَلى ما وقَرَ في صَدْرِهِ، ومِن ها هُنا لَمّا قِيلَ لِلْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ: لا خَيْرَ في الإسْرافِ، قالَ: لا إسْرافَ في الخَيْرِ، وقِيلَ: النُّكْتَةُ في إدْخالِ مِنَ التَّبَعُّضِيَّةِ هي أنَّ الرِّزْقَ أعَمُّ مِنَ الحَلالِ والحَرامِ، فَأُدْخِلَتْ إيذانًا بِأنَّ الإنْفاقَ المُعْتَدَّ بِهِ ما يَكُونُ مِنَ الحَلالِ، وهو بَعْضٌ مِنَ الرِّزْقِ، (وما) في الآيَةِ إمّا مَوْصُولَةٌ أوْ مَصْدَرِيَّةٌ أوْ مَوْصُوفَةٌ، والأوَّلُ أوْلى، فالعائِدُ مَحْذُوفٌ، واسْتُشْكِلَ بِأنَّهُ إنْ قُدِّرَ مُتَّصِلًا يَلْزَمُ اتِّصالُ ضَمِيرَيْنِ مُتَّحِدَيِ الرُّتْبَةِ، والِانْفِصالُ في مِثْلِهِ واجِبٌ، وإنْ قُدِّرَ مُنْفَصِلًا امْتَنَعَ حَذْفُهُ، إذْ قَدْ أوْجَبُوا ذِكْرَ المُنْفَصِلِ مُعَلِّلِينَ بِأنَّهُ لَمْ يَنْفَصِلْ إلّا لِغَرَضٍ، وإذا حُذِفَ فَأتَتِ الدِّلالَةُ عَلَيْهِ، وأُجِيبُ عَلى اخْتِيارِ كُلٍّ، أمّا الأوَّلُ فَبِأنَّهُ لَمّا اخْتَلَفَ الضَّمِيرانِ جَمْعًا وإفْرادًا جازَ اتِّصالُهُما، وإنِ اتَّحَدا رُتْبَةً كَقَوْلِهِ:
لِوَجْهِكَ في الإحْسانِ بَسْطٌ وبَهْجَةٌ ∗∗∗ أنا لَهُماهُ قَفْوُ أكْرَمِ والِدِ

وأيْضًا يَلْزَمُ مِن مَنعِ ذَلِكَ مَلْفُوظًا بِهِ مَنعُهُ مُقَدَّرًا، لِزَوالِ القُبْحِ اللَّفْظِيِّ، وأمّا الثّانِي فَبِأنَّ الَّذِي يُمْنَعُ حَذْفُهُ ما كانَ مُنْفَصِلًا لِغَرَضٍ مَعْنَوِيٍّ كالحَصْرِ لا مُطْلَقًا، كَما قالَ ابْنُ هِشامٍ في الجامِعِ الصَّغِيرِ، وأشارَ إلَيْهِ غَيْرُ واحِدٍ، وكُتِبَتْ (مِن) مُتَّصِلَةً (بِما) مَحْذُوفَةَ النُّونِ، لِأنَّ الجارَّ والمَجْرُورَ كَشَيْءٍ واحِدٍ، وقَدْ حُذِفَتِ النُّونُ لَفْظًا، فَناسَبَ حَذْفُها في الخَطِّ، قالَهُ في البَحْرِ، وجَعَلَ سُبْحانَهُ صِلاتِ (الَّذِينَ) أفْعالًا مُضارِعَةً، ولَمْ يَجْعَلِ المَوْصُولَ ألْ فَيَصِلُهُ بِاسْمِ الفاعِلِ، لِأنَّ المُضارِعَ فِيما ذَكَرَهُ البَعْضُ مُشْعِرٌ بِالتَّجَدُّدِ والحُدُوثِ، مَعَ ما فِيهِ هُنا مِنَ الِاسْتِمْرارِ التَّجَدُّدِيِّ، وهَذِهِ الأوْصافُ مُتَجَدِّدَةٌ في المُتَّقِينَ، واسْمُ الفاعِلِ عِنْدَهم لَيْسَ كَذَلِكَ، ورُتِّبَتْ هَذا النَّحْوَ مِنَ التَّرْتِيبِ لِأنَّ الأعْمالَ إمّا قَلْبِيَّةٌ وأعْظَمُها اعْتِقادُ حَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ والنُّبُوَّةِ، والمَعادِ، إذْ لَوْلاهُ كانَتِ الأعْمالُ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً، أوْ قالَبِيَّةٌ وأصْلُها الصَّلاةُ لِأنَّها الفارِقَةُ بَيْنَ الكُفْرِ والإسْلامِ، وهي عَمُودُ الدِّينِ ومِعْراجُ المُوَحِّدِينَ، والأُمُّ الَّتِي يَتَشَعَّبُ مِنها سائِرُ الخَيْراتِ والمَبَرّاتِ، ولِهَذا قالَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «(وجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي في الصَّلاةِ)،» وقَدْ أطْلَقَ اللَّهُ تَعالى عَلَيْها الإيمانَ كَما قالَهُ جَمْعٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمانَكُمْ﴾ أوْ مالِيَّةٌ وهي الإنْفاقُ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعالى، وهي الَّتِي إذا وُجِدَتْ عُلِمَ الثَّباتُ عَلى الإيمانِ، وهَذِهِ الثَّلاثَةُ مُتَفاوِتَةُ الرُّتَبِ، فَرَتَّبَ سُبْحانَهُ وتَعالى ذَلِكَ مُقَدِّمًا الأهَمَّ فالأهَمَّ، والألْزَمَ فالألْزَمَ، لِأنَّ الإيمانَ لازِمٌ لِلْمُكَلَّفِ في كُلِّ آنٍ، والصَّلاةَ في أكْثَرِ الأوْقاتِ، والنَّفَقَةَ في بَعْضِ الحالاتِ، فافْهَمْ ذاكَ، واللَّهُ يَتَوَلّى هُداكَ.
   القرآن – تدبّر وعمل — شركة الخبرات الذكية

﴿الۤمۤ (١) ذَ ٰ⁠لِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ (٢) ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ (٣) وَٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ وَمَاۤ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡـَٔاخِرَةِ هُمۡ یُوقِنُونَ (٤) أُو۟لَـٰۤىِٕكَ عَلَىٰ هُدࣰى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ (٥)﴾ [البقرة ١-٥]
* الوقفات التدبرية
١- ﴿الٓمٓ (١) ذَٰلِكَ ٱلْكِتَٰبُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ 
إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بياناً لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، هذا مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها ... ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن، وبيان إعجازه وعظمته، وهذا معلوم بالاستقراء. [ابن كثير: ١/٣٦-٣٧]
السؤال: ما سبب ارتباط الحروف المقطعة بذكر عظمة القرآن وإعجازه؟
٢- ﴿ذَٰلِكَ ٱلْكِتَٰبُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ 
لم يقل: هدى للمصلحة الفلانية، ولا للشيء الفلاني؛ لإرادة العموم، وأنه هدى لجميع مصالح الدارين؛ فهو مرشد للعباد في المسائل الأصولية والفروعية، ومُبَيِّن للحق من الباطل، والصحيح من الضعيف، ومبين لهم كيف يسلكون الطرق النافعة لهم في دنياهم وأُخراهم. [السعدي: ٤٠]
السؤال: كيف يستدل بهذه الآية على شمول هداية القرآن لمصالح الدارين؟
٣- ﴿ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ﴾ 
الإيمان بالغيب حظ القلب، وإقام الصلاة حظ البدن، ﴿ومما رزقناهم ينفقون﴾حظ المال، وهذا ظاهر . [القرطبي: ١/٢٧٤]
السؤال: جمعت الآية بين ثلاثة من مواضع التقوى، فما هي؟ 
٤- ﴿وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ﴾ 
لم يقل: يفعلون الصلاة، أو يأتون بالصلاة؛ لأنه لا يكفي فيها مجرد الإتيان بصورتها الظاهرة؛ فإقامة الصلاة: إقامتها ظاهراًً بإتمام أركانها وواجباتها وشروطها، وإقامتها باطناًً بإقامة روحها؛ وهو حضور القلب فيها، وتدبر ما يقوله ويفعله منها. [السعدي: ٤١]
السؤال: لماذا عُبِّر عن فعل الصلاة بالإقامة؟
٥- ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ﴾ 
وأتى بـ ﴿من﴾ الدالة على التبعيض؛ لينبههم أنه لم يرد منهم إلا جزءاً يسيراً من أموالهم، غير ضار لهم، ولا مثقل، بل ينتفعون هم بإنفاقه، وينتفع به إخوانهم ,وفي قوله: ﴿رزقناهم﴾ إشارة إلى أن هذه الأموال التي بين أيديكم، ليست حاصلة بقوتكم وملككم، وإنما هي رزق الله الذي خولكم، وأنعم به عليكم؛ فكما أنعم عليكم وفضلكم على كثير من عباده فاشكروه بإخراج بعض ما أنعم به عليكم. [السعدي: ٤١]
السؤال: لماذا جيء بـ﴿من﴾ الدالة على التبعيض؟
٦- ﴿ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ﴾ 
وجه ترتب الإنفاق على الإيمان بالغيب أن المدد غيب؛ لأن الإنسان لما كان لا يطلع على جميع رزقه كان رزقه غيبا، فاذا أيقن بالخلف جاد بالعطية، فمتى أمد بالأرزاق تمت خلافته، وعظم فيها سلطانه، وانفتح له باب إمداد برزق أعلى وأكمل من الأول. [البقاعي: ١/٣٠]
السؤال: ما وجه ترتب الإنفاق على الإيمان بالغيب؟
٧- ﴿وَبِٱلْءَاخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ 
واليقين أعلى درجات العلم؛ وهو الذي لا يمكن أن يدخله شك بوجه. [ابن عطية: ١/٨٦]
السؤال: كلما عظم العلم بالآخرة عظم العمل لها, وضح ذلك من الآية.

* التوجيهات
١- من أسباب حصول الهداية بالقرآن تقوى الله تعالى، فقدم دائما مراد الله على هوى نفسك، ﴿ذَٰلِكَ ٱلْكِتَٰبُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾
٢- سعادتك بالفلاح، والفلاح لا يناله إلا من اتصف بهذه الصفات، ﴿ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ (٣) وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلْءَاخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُو۟لَٰٓئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُو۟لَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ﴾
٣- من أهم صفات المؤمنين: ثباتهم على إيمانهم في حال الغيب وحال الشهادة، ومراقبتهم لله على كل الأحوال، ﴿ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ﴾

* العمل بالآيات
١- مبنى التقوى على مخالفة شرع الله لهوى نفسك اختباراًً لإيمانك، فحدد أمراًً في حياتك ترى أنك تقدِّم فيه هوى نفسك على شرع الله سبحانه وتراجع عنه مستغفراً ربك، ﴿ذَٰلِكَ ٱلْكِتَٰبُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾
٢- حاسب نفسك في أمر الصلاة، وتفقد اليوم جوانب التقصير فيها فكمله، وأقمه على الوجه المطلوب شرعاً، ﴿ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ﴾
٣- اختبر إيمانك باليوم الآخر ويقينك به بالإنفاق اليوم من مال الله الذي آتاك، موقناً أن الله تعالى سيخلفه عليك في الدنيا والآخرة، ﴿ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ﴾

* معاني الكلمات
﴿الم﴾ هَذَا الْقُرْآنُ مُؤَلَّفٌ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ، وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ الإِتْيَانَ بِمِثْلِهِ.
﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ مَنْ جَعَلُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَذَابِ اللهِ وِقَايَةً بِفِعْلِ الأَوَامِرِ وَتَرْكِ النَّوَاهِي.
   
تفسير القرآن الكريم — ابن عثيمين (١٤٢١ هـ)

﴿الۤمۤ (١) ذَ ٰ⁠لِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ (٢) ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ (٣) وَٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ وَمَاۤ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡـَٔاخِرَةِ هُمۡ یُوقِنُونَ (٤) أُو۟لَـٰۤىِٕكَ عَلَىٰ هُدࣰى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ (٥) إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ سَوَاۤءٌ عَلَیۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ (٦) خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَعَلَىٰ سَمۡعِهِمۡۖ وَعَلَىٰۤ أَبۡصَـٰرِهِمۡ غِشَـٰوَةࣱۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِیمࣱ (٧) وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن یَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِینَ (٨) یُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَمَا یَخۡدَعُونَ إِلَّاۤ أَنفُسَهُمۡ وَمَا یَشۡعُرُونَ (٩)﴾ [البقرة ١-٩]
نبدأ أولًا في الفاتحة، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (١) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: ١ – ٣] إلى آخره. 
* أولًا: سورة الفاتحة سميت بذلك لأنه افتُتح بها القرآن الكريم، وقد قيل: إنها أول سورة نزلت كاملة، وقيل: إن أول سورة نزلت كاملة (اقرأ)، وإن الله تعالى كمّلها، ثم جاءت السور، فالله أعلم. 
هذه السورة قال العلماء: إنها تشتمل على مجمل معاني القرآن؛ في التوحيد، والأحكام، والجزاء، وطرق بني آدم، وغير ذلك، ولهذا سميت أم القرآن، والأمّ هو المرجع، المرجع للشيء يسمى أُمًّا، وهذه السورة لها مميزات تتميز بها عن غيرها؛ منها: أنها ركن في الصلوات التي هي أفضل أركان الإسلام بعد الشهادتين، فلا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب. 
ومنها: أنها رقية، إذا قُرئ بها على المريض شفي بإذن الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال للذي قرأها على اللديغ قال له: « وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟»(١). 
وقد ابتدع بعض الناس اليوم في هذه السورة بدعة وصاروا يختمون بها الدعاء ويبتدئون بها الخطب أو الأحوال، وهذا غلط، تجد مثلا إذا دعا ثم دعا ثم دعا قال بعد ذلك: الفاتحة، إيش الفاتحة؟ من أين جاء بها؟ أو بعض الناس يبتدئ بها في خطبه أو في أحواله، وهذا أيضا غلط؛ لأن العبادات مبناها على التوقيف والاتباع. 
يقول الله عز وجل: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، ولا حاجة إلى الكلام عن البسملة من حيث المعنى ولا من حيث الإعراب؛ لأنها تكررت علينا كثيرًا، لكن الكلام: هل البسملة آية من الفاتحة أو لا؟ 
في هذا خلاف بين العلماء: 
فمنهم من يقول: إنها آية من الفاتحة، ويقرأ بها جهرًا في الصلاة الجهرية، ويرى أنه لا تصح الصلاة إلا بقراءة البسملة لأنها من الفاتحة. 
ومنهم من يقول: إنها ليست من الفاتحة، وهذا القول هو الحق، ودليل هذا: النص، وسياق السورة. 
أما النص: فقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: « قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ؛ فَإِذَا قَالَ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ قَالَ: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ قَالَ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَإِذَا قَالَ: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ - إِلَى آخِرِهِ - قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ»(٢)، وهذا كالنص على أن البسملة ليست من الفاتحة. 
أما من حيث السياق: فالفاتحة سبع آيات بالاتفاق، وإذا أردت أن توزع سبع الآيات على موضوع السورة وجدت أن نصفها هو قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، وهي الآية التي قال الله فيها: « قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ»؛ لأن ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ واحدة، ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ الثانية، ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ الثالثة، وكلها حق لله. ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ الرابعة، يعني وسط الآن، وهي قسمان: قسم منها حق لله، وقسم حق للعبد. ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ للعبد، ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ للعبد، ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ للعبد. 
ثم من جهة السياق من حيث اللفظ: لو قلنا: إن البسملة آية لزم أن تكون الآية السابعة طويلة على قدر، كم؟ على قدر آيتين، لزم أن تكون طويلة على قدر آيتين، شوف ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾، كم من سطر عندكم؟ سطرين. ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ سطر عندي، ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ أقل من سطر، ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ كذلك، و ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ كذلك، فكيف يكون هناك تناسب مع أن بعض الآيات أقل من السطر وهذه سطران، فالصواب الذي لا شك فيه أن البسملة ليست منها، كما أنها - أي البسملة - ليست من بقية السور. 
قال الله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الحمد) وصف المحمود بالكمال الذاتي والوصفي والفعلي، فهو كامل في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله، فهو وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم، ولا بد من هذا القيد؛ قال أهل العلم: لأن مجرد الوصف بالكمال بدون محبة ولا تعظيم لا يسمى حمدا، وإنما يسمى مدحا، ولهذا يقع من إنسان لا يحب الممدوح لكنه يريد أن ينال منه شيئا، تجد بعض الشعراء يقف أمام الخلفاء ثم يأتي لهم بأوصاف عظيمة، لا محبةً فيه ولكنْ محبةً في المال الذي يعطونه أو خوفًا منهم، لكن حمْدنا لربنا عز وجل محبة وتعظيم، فلذلك صار لا بد من القيد في الحمد أنه وصف المحمود بالكمال، إيش؟ مع المحبة والتعظيم. 
وقوله: ﴿لِلَّهِ﴾ الله عز وجل، هذا اللفظ علم على ربنا عز وجل لا يسمى به غيره، وهو علم تتبعه الأعلام الأخرى، أي تتبعه الأسماء، ولهذا دائما يأتي متبوعا، إلا في مواضع قليلة مثل قوله تعالى: ﴿صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [إبراهيم ١، ٢] فإن هذه الكلمة تابعة لما قبلها، وهو قليل. 
وقوله: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الرب هو ما اجتمع فيه ثلاثة أوصاف: الخلق، والملك، والتدبير، فهو الخالق عز وجل، وهو المدبر لجميع الأمور، وهو المالك لكل شيء. 
و﴿الْعَالَمِينَ﴾ قال العلماء: كل من سوى الله فهو من العالَم، ووُصفوا بذلك لأنهم عَلَم على خالقهم سبحانه وتعالى. 
﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ الرحمن صفة للفظ الجلالة، والرحيم صفة أخرى، والرحمن هو ذو الرحمة الواسعة، والرحيم هو ذو الرحمة الواصلة، فالرحمن وصْفُه، والرحيم فِعْله، ولو أنه جيء بالرحيم وحده وبالرحمن وحده لشمل الوصف والفعل، لكن إذا اقترنا فُسِّر الرحمن بالوصف، والرحيم بالفعل ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾. وفي ذكر ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ بعد ذكر الربوبية دليل على أن ربوبيته تبارك وتعالى مبنية على الرحمة، الرحمة للخلق، الرحمة الواسعة الواصلة. 
﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة ٤] مالك: صفة لرب، ويوم الدين: هو يوم القيامة، والدين هنا بمعنى إيش؟ الجزاء، بمعنى الجزاء، يعني أنه سبحانه وتعالى مالك لذلك اليوم الذي يجازَى فيه الخلائق، فلا مالك غيره في ذلك اليوم. 
فإن قال قائل: أليس مالك الدين والدنيا؟ فالجواب: بلى، لكن ظهور ملكوته وملكه وسلطانه إنما يكون في ذلك اليوم؛ لأن الله تعالى ينادي ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾ [غافر ١٦]؟ فلا يجيب أحد فيقول: ﴿لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [غافر ١٦]. في الدنيا يظهر الملوك، بل يظهر ملوك يعتقد شعوبهم أنه لا مالك إلا هم، فالشيوعيون مثلا لا يرون أن هناك ربا للسماوات والأرض، يرون أنها حياة، أرحام تدفع وأرض تبلع، وأن ربهم هو رئيسهم، طيب، إذن خُص ملكه بيوم الدين لأنه يظهر فيه ملكوته وملكه. وفي قراءة سبعية ﴿مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾(٣) والملك أخص من المالك؛ لأن الملك هو ذو السلطة المطلقة، ولا يسمى ملك إلا مَن تحته رعية، أما مالك فهو ليس له سلطة مطلقة، ثم هو لا يحتاج إلى أن يكون تحته رعية، ولهذا تجد الفقير الصعلوك يملك بقرته، يملك شاته، لكن في الجمع بين القراءتين فائدة عظيمة، وهو أن ملكه جل وعلا ملك حقيقي؛ لأن من الخلق من يكون ملكا ولكن ليس بمالك، يسمى ملكا اسما وليس له من التدبير شيء، ومن الناس من يكون مالكا ولا يكون ملكا، كعامة الناس، لكن الرب عز وجل مالك ملك. 
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة ٥]، نعبد، ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ لو طلبنا إعراب ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ فبماذا تجيبون؟ 
* طالب: مفعول به مقدم. 
* الشيخ: أنه مفعول به مقدم، ولماذا انفصل مع إمكان الوصل، يعني يمكن أن يقول: نعبدك، فنقول: لو وصلنا فات أمر مهم، ألا وهو الحصر، فهنا لما قدمناه للحصر لزم أن يُفصل، لو قلت: ك نعبد، ما يستقيم الكلام وليس بلغة عربية. ﴿إِيَّاكَ﴾ يعني لا سواك، ﴿نَعْبُدُ﴾ أي نتذلل له أكمل ذل، ولهذا تجد المؤمنين -جعلني الله وإياكم منهم- يضعون أشرف ما في أجسامهم في موطئ الأقدام ذلّا لله عز وجل، يسجد على التراب، تمتلئ جبهته من التراب، يسجد على موطئ الأقدام،كل هذا ذلّا لله، ولو أن إنسانا قال: أنا أعطيك الدنيا كلها واسجد لي، ما وافق المؤمن أبدا؛ لأن هذا الذل لله عز وجل، والعبادة تتضمن القيام بكل ما أمر الله به، وترْك كل ما نهى الله عنه؛ لأن من لم يكن كذلك فليس بعابد، لو لم يفعل الأمر، يعني لو لم يفعل المأمورَ به فهل يكون عابدا حقا؟ أبدا، ولو لم يترك المنهي عنه ما كان عبدا حقا، العبد الذي يوافق المعبود في مراده الشرعي، إذن فالعبادة تستلزم أن يقوم الإنسان بكل ما أُمر به، وأن يترك كل ما نُهي عنه، ولكن هل قيامك هذا يمكن أن يكون بغير معونة الله؟ لا، لا يمكن، ولهذا قال: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، يعني لا نستعين إلا إياك على العبادة، والله سبحانه وتعالى يجمع بين العبادة والاستعانة أو التوكل في مواطن عدة من القرآن الكريم؛ لأنه لا قيام بالعبادة على الوجه الأكمل إلا بمعونة الله، والتفويض إليه، والتوكل عليه. 
﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة ٦] ﴿الصِّرَاطَ﴾ فيها قراءتان: بالسين(٤) وبالصاد الخالصة؛ ﴿السِّرَاطَ﴾ و﴿الصِّرَاطَ﴾، والمراد بالصراط هنا: الطريق، والمراد بالهداية: هداية الإرشاد وهداية التوفيق، فأنت بقولك: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ تسأل الله تعالى علما وعملا، ولهذا جاءت متعدية بنفسها إلى المفعول لا بحرف (إلى) الدال على الغاية، عرفتم؟ فيشمل الهداية إلى الطريق، وهذا بالعلم، والهداية في الطريق، وهذا بالعمل والتوفيق. 
وقوله: ﴿الْمُسْتَقِيمَ﴾ الذي لا اعوجاج فيه، وهذا الصراط الذي لا اعوجاج فيه بيّن الله تعالى في هذه الآية قوله: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة ٧]، ففي هذه الآية بيّن الله عز وجل أصناف الناس أنها ثلاثة: الذين أنعم الله عليهم، والمغضوب عليهم، وإيش؟ والضالون، فمن هؤلاء؟ الذين أنعم الله عليهم هم الذين علموا الحق وعملوا به، والذين غضب الله عليهم هم الذين علموا الحق ولم يعملوا به، والضالون هم الذين عملوا بغير علم، جاهلون، يريدون الحق ويريدون العبادة لكنهم جاهلون تعبّدوا لله بغير علم، انظر كيف قدم المغضوب عليهم على الضالين لأن مخالفتهم لطريق الذين أنعم الله عليهم أشد؛ لأنهم خالفوا عن علم، والمخالف عن علم أشد كبرا واستكبارا وعقوبة من الذين خالفوا عن غير علم، وكلتا الطائفتين ضالة، وذلك لأنهم ليسوا على هدى من الله. 
وفي قوله: ﴿أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ قراءتان كذلك (عليهم) ضم الهاء وكسرها أي ﴿صِرَاطَ الذَّيِنَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهُمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهُمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ قراءة سبعية(٥)، ولكن أكرر ما قلته سابقا أن القراءات التي ليست في المصحف لا ينبغي أن نقرأ بها عند العامة؛ لسببين بل لأسباب ثلاثة، السبب الأول: أن العامة إذا رأوا هذا القرآن العظيم الذي قد ملأ قلوبهم تعظيمُه، إذا رأوه مرة كذا ومرة كذا تنزل منزلته لا شك، تهبط عندهم؛ لأنهم عوام لا يفرقون، فينبغي أن يبقى القرآن الكريم محترما لا يُغيَّر فيه بشيء، ثانيا: أن القارئ يُتهم بأنه لا يعرف، العامي ما الذي يعلم؟! لو يأتي إنسان يقرأ عليه مثلا بقراءة غير التي في مصحفه لكان يهجم عليه وربما يضربه، ربما يطرده من المسجد، القرآن عند العامة محترم جدا، وهو عندنا والحمد لله، لكن إذا أتيت بما لا يعرف العامي فيا ويلك منه، وهذه مفسدة أن الناس يستهينونك ويقولون: هذا ما فيه خير، هذا ما يعرف ولا يقرأ، نعم، الآن لو تقرأ عند العامي ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهُمْ﴾ نعم، قال: هذا ما يعرف يضم اسم (...) يقول عليهم، ليش ما قال ﴿عَلَيْهِمْ﴾ بالكسرة. 
المفسدة الثالثة: أنك إذا قرأت عند العوام وأحسن العامي بك الظن، وقال هذا: إنه لم يقرأ إلا عن علم، ثم حاول أن يقلدك مرة أخرى فقد يخطئ، ثم يقرأ القرآن لا على قراءة المصحف، ولا على قراءة التالي الذي قرأها، وهذه مفسدة، ولهذا قال علِيّ: «حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يُكذَّب الله ورسوله »(٦)؟ 
وقال ابن مسعود: إنك لم تحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة(٧)،« عمر بن الخطاب مع هشام بن الحكم ماذا فعل به حين قرأ في سورة الفرقان بقراءة لم يسمعها عمر؟ نعم جبذه وتلّه وخاصمه، وأنكر قراءته، حتى وصلا إلى النبي ﷺ وقال: « اقْرَأْ». فقرأ، فقال: « هَكَذَا أُنْزِلَتْ». قال لعمر: « اقْرَأْ». فقرأ، قال: « هَكَذَا أُنْزِلَتْ»(٨)؛ لأن القرآن في الأول نزل على سبعة أحرف، فإذا كان عمر رضي الله عنه فعل ما فعل بصحابي، فما بالك بعامي يسمعك تقرأ غير قراءتك، نعم؟ يا ويلك منه، والحمد لله، ما دام أن العلماء متفقون على أنه لا يجب أن يقرأ الإنسان بكل قراءة، وأنه لو اقتصر على واحدة من القراءات فلا بأس، هدأ الفتنة وأسبابها، والسورة فيها فوائد عظيمة، وقد شرحها ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين شرحا لا تجده في غيره من الكتب، شرحا عظيما. الحمد لله رب العالمين. 
* من فوائد الآية الكريمة ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾: إثبات الحمد لله عز وجل الكامل، وإثبات استحقاقه واختصاصه بذلك، أما الكامل فمن صيغة (أل) ﴿الْحَمْدُ﴾، وأما الاختصاص والاستحقاق فمن اللام ﴿لِلَّهِ﴾. 
* ومن فوائد الآية الكريمة: تقديم وصف الله تعالى بالألوهية على وصفه بالربوبية، لم يقل: لرب العالمين، ولكنه قال: ﴿لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، وهذا إما لأن (الله) هو الاسم العلم الخاص به والذي تتبعه جميع الأسماء، وإما أن يقال: لأن الألوهية قدمها الله عز وجل على ذكر ربوبيته سبحانه وتعالى؛ لأن الذين جاءت إليهم الرسل ينكرون الألوهية فقط. 
* ومن فوائدها: عموم ربوبية الله تعالى لجميع العالم؛ لقوله: ﴿الْعَالَمِينَ﴾ وسبق لنا في التفسير أن المراد بالعالَم مَن سوى الله عز وجل، كل المخلوقات النامي وغير النامي، والعاقل وغير العاقل. 
﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ * من فوائد هذه الآية: إثبات هذين الاسمين الكريمين: الرحمن والرحيم، وإثبات ما تضمناه من الرحمة التي هي الوصف، والرحمة التي هي الفعل. 
* ومن فوائدها: أن ربوبية الله عز وجل مبنية على الرحمة؛ لأنه لما قال: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ كأن سائلًا يسأل: ما نوع هذه الربوبية؟ هل هي ربوبية أخذ وانتقام، أو ربوبية رحمة وإنعام؟ قال: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾. 
* ومن فوائد الآية التي بعدها ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ أو ﴿مَلِكِ﴾ : إثبات ملك الله عز وجل وملكوته ليوم الدين، وإنما خص ذلك لما ذكرناه في التفسير من أنه في ذلك اليوم تتلاشى جميع الملكيات والملوك أيضا. 
* ومن فوائدها: إثبات البعث؛ لقوله: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾. 
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ من فوائدها: إخلاص العبادة لله، في قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، ووجه الإخلاص تقديم المعمول. 
* ومن فوائدها أيضا: إخلاص الاستعانة لله عز وجل؛ لقوله: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ حيث قدم المفعول. 
فإن قال قائل: كيف يقال: إخلاص الاستعانة لله وقد جاء في قوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة ٢] إثبات المعونة من غير الله عز وجل؟ 
قلنا: الاستعانة نوعان: استعانة تفويض، بمعنى أنك تعتمد على الله عز وجل وتتبرأ من حولك وقوتك، وهذا خاص بالله عز وجل، واستعانة بمعنى المشاركة فيما تريد أن تقوم به، فهذه ليست عبادة، ولهذا قال الله تعالى: ﴿تَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾. 
فإن قال قائل: وهل الاستعانة بالمخلوق جائزة في جميع الأحوال؟ قلنا: لا، الاستعانة بالمخلوق إنما تجوز حيث كان المستعان قادرا عليها، وأما إذا لم يكن قادرا فإنه لا يجوز أن تستعين به، فلو أن أحدا من الناس استعان بقبر فإن هذا حرام، بل هو شرك؛ لأن صاحب القبر لا يغني عن نفسه شيئا، فكيف ينفعك؟! ولو استعان بغائب في أمر لا يقدر عليه، مثل أن يعتقد أن الولي الذي في شرق الدنيا يعينه على مهمته في بلده، فهذا أيضا شرك شركا أكبر؛ لأنه لا يقدر على أن يعينك وهو هناك. 
فإن قال قائل: وهل الاستعانة بالمخلوق جائزة؟ قلنا: الأولى أن لا تفعل، فالإنسان مأمور أن يعين أخاه، لكن الغير لا ينبغي أن يستعين؛ لأن الاستعانة بغيره من باب السؤال المذموم، لكن أنت إذا رأيت أخاك قد احتاج إلى معونة فأنت مأمور بأن تعينه، ولكن لو استعنته فإنه ليس حراما، ليس حراما عليك، إنما هو ترك للأولى، إلا إذا علمت أن استعانتك به مما يسره وينشرح له صدره، فهنا إذا استعنته تكون محسنا إليه، ولا يعد هذا من المسألة المذمومة، كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام« حين دخل بيته ووجد البرمة على النار فيها اللحم، فلما قُدِّم له الطعام قال: « أَلَمْ أَرَ الْبُرْمَةَ عَلَى النَّارِ؟»، قالوا: بلى يا رسول الله، لكن هذا لحم تُصُدِّق به على بريرة، فقال: « هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا مِنْهَا هَدِيَّةٌ»(٩)، أرأيتم بريرة في هذه الحال هل سيكون هذا الأمر شاقا عليها؟ أبدا، بل ستُسَر به وتفرح، فأنت مثلا إذا استعنت بأخيك في حاجة من الحوائج وأنت تعلم أنه يُسَر بهذا ويفرح فإن استعانتك به تكون إحسانا إليه، لكن لو استعنت بشخص يرى أن استعانتك به أثقل عليه من جبل أحد، هل تستعينه؟ لا؛ لأن هذا فيه إحراج عليه، وفيه إذلال لك أيضا. 
ومن فوائد قوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ لجوء الإنسان إلى الله عز وجل بعد استعانته على العبادة أن يهديه الصراط المستقيم؛ لأنه لا بد في العبادة من إخلاص يدل عليه ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، ومن استعانة لتقوى على العبادة؛ لقوله: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، ومن اتباع للشريعة في قوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾، فصارت هذه الآيات الثلاث متضمنة للدين كله: عبادة، والثاني: استعانة، والثالث: اتباع؛ لأن الصراط المستقيم هو الشريعة التي جاءت بها الرسل، وبالنسبة لنا هي الشريعة التي جاء بها مَن؟ نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ويعني هذا أن نتبع الرسول عليه الصلاة والسلام. 
* ومن فوائد الآية الكريمة: بلاغة القرآن، حيث حُذف حرف الجر من ﴿اهْدِنَا﴾، يعني لم يقل: اهدنا إلى، بل قال: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ﴾، والفائدة من ذلك لأجل أن يتضمن طلب الهداية التي هي دلالة العلم وهداية التوفيق؛ لأن الهداية تنقسم إلى قسمين: هداية علم وإرشاد، وهداية توفيق وعمل؛ فالأولى ليس فيها إلا مجرد الدلالة، والله سبحانه وتعالى قد هدى كل أحد، الثانية فيها التوفيق للهدى واتباع الشريعة، وهذه قد يُحرَمها بعض الناس، قال الله تعالى: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ [فصلت ٤١] ﴿هَدَيْنَاهُمْ﴾ يعنى بيّنّا لهم الحق ودللناهم عليه، ولكنهم لم يوفَّقوا له، فلهذا حُذفت (إلى) ليكون طلب الهداية في هذه الآية شاملا لهداية العلم والإرشاد وهداية التوفيق والاتباع. 
* ومن فوائدها: أن الصراط ينقسم إلى قسمين: مستقيم، ومعوج، فما كان موافقا للحق فهو مستقيم، قال الله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ﴾ [الأنعام ١٥٣]، وما كان مخالفا له فهو معوج. 
ثم قال: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ إلى آخره. 
* من فوائد هذه الآية الكريمة: ذكر التفصيل بعد الإجمال ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ لأن التفصيل بعد الإجمال فيه فائدة؛ فإن النفس إذا جاءها الكلام مجملا تترقب وتتشوف لإيش؟ للتفصيل والبيان، فقال: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾، ثم فيه أيضا الفائدة الثانية، وهو بيان أن الذين أنعم الله عليهم على الصراط المستقيم. 
* ومن فوائدها أيضا هي وما بعدها: انقسام الناس إلى ثلاثة أقسام: قسم أنعم الله عليهم، وقسم آخر غضب الله عليهم، وقسم ضالون؛ فالذين أنعم الله عليهم سبق أنهم الذين علموا الحق واتبعوه، وأما المغضوب عليهم فهم الذين علموا الحق وخالفوه، وأما الضالون فهم الذين جهلوا الحق. وأسباب الضلال والخروج عن الصراط المستقيم إما الجهل أو العناد، فمن الذي سبب خروجهم العناد؟ هم المغضوب عليهم وعلى رأسهم اليهود، والآخرون الذين سبب خروجهم الجهل هم كل من لا يعلم الحق، وعلى رأسهم النصارى، وهذا بالنسبة لحالهم قبل البعثة، أعني النصارى، أما بعد البعثة فقد علموا الحق، فصاروا هم واليهود سواء، كلهم مغضوب عليهم بل هم أشد؛ لأنهم يؤمنون بالنسخ، أعني النصارى، ولهذا يؤمنون بأن شريعة عيسى ناسخة لشريعة موسى، واليهود لا يؤمنون بذلك فهم على جادة باطلة، وأولئك تناقضوا فآمنوا بنسخ الشرائع في مَن؟ في عيسى بالنسبة لشريعة موسى، ولم يؤمنوا بنسخ الشرائع في شريعة محمد ﷺ بالنسبة لشريعة عيسى، فكانوا متناقضين، وكان طريقهم أخبث من طريق اليهود. 
وعلى كل حال السورة هذه عظيمة، ولا يمكن لا لي ولا لغيري أن يحيط بمعانيها العظيمة، لكن هذا قطرة من بحر.
ثم قال تعالى بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة ١، ٢]. 
هذه تسمى سورة البقرة؛ لأنه ذُكرت فيها البقرة، واعلم أن التسمية تكون بأدنى ملابسة، ولذلك تجد بعض السور فيها كلام كثير عن موضوع معين ولا تسمى به السورة، وفيها كلام قليل تسمى به السورة، وتسمية السور منها ما هو توقيفي، ومنها ما هو اجتهادي، فقد سمّى النبي ﷺ، سمى سورة البقرة وآل عمران(١٠) وغيرهما كثيرا، وفي بعضها التسمية توقيفية. 
أما البسملة فقد سبق الكلام عليها، وبيّنّنا أنها آية مستقلة يؤتى بها في ابتداء كل سورة سوى (براءة). 
قال الله تعالى: ﴿الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ (الم) هذه الكلمة مكونة من ثلاثة أحرف هجائية: ألف، ولام، وميم، فما معنى هذه الحروف التي تركبت منها هذه الكلمة؟ كثير من المفسرين يقول: الله أعلم بما أراد، وهذا لا شك أنه تأدُّب مع الله عز وجل، وإمساك عما لا يعلمه الإنسان. ومنهم من جعلها رموزا لأشياء معينة إما من أسماء الله أو غيرها من الحوادث، وهذا لم يَبْن ما قاله على علم، ومنهم من قال: إنها حروف هجائية ليس لها معنى، ولا نعلم لها معنى حسب مقتضى اللغة العربية، والقرآن الكريم نزل باللغة العربية، وعلى هذا فمن حقنا أن نقول: ليس لها معنى، بناء على أن القرآن عربي وأن مثل هذه الحروف المركبة ليس لها معنى، وهذا قول مجاهد رحمه الله، وهو إمام التابعين في التفسير، وهو القول الذي تقتضيه الأدلة، ولكن يبقى النظر لماذا جاء الله بها وهي ليس لها معنى حسب اللغة العربية؟ نقول: إشارة إلى أن هذا القرآن الكريم الذي أعجزكم أيها العرب لم يأت بجديد من كلامكم، بل أتى بما ترتبون منه كلامكم وتبنونه، أنتم كلامكم حروف: ألف، باء، تاء، ثاء، إلى آخره، هل القرآن جاء بشيء زائد؟ لا، ومع ذلك عجزتم أن تركبوا مثله، أعجزكم. 
وقد ذكر الله تعالى إعجاز القرآن على أربعة أوجه: إعجاز بكل القرآن، وإعجاز بعشر سور منه، وإعجاز بسورة منه، وإعجاز بمثله، كلها تكررت في القرآن، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾، وقال تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ﴾ [هود ١٣] وقال تعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ﴾، [الإسراء: ٨٨] وقال تعالى: ﴿فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِين﴾ [الطور ٣٤]، وقد تحدى الله عز وجل الخلق على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ولو بآية واحدة، كما تحداهم على أن يخلقوا أدنى مخلوقات الله، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَه﴾ [الحج ٧٣]. 
فالقول الراجح في هذه المسألة أعني الحروف الهجائية التي تُبتدأ بها بعض السور أنه ليس لها معنى، ولكن لها مغزى، وهو أن هذا القرآن الكريم لم يأت بجديد في الحروف التي جاء بها، بل هو جاء بالحروف التي تركّبون منها كلامكم ومع ذلك أعجزكم، ولهذا تجد السور المبدوءة بهذه الحروف الهجائية يأتي من بعدها ذكر القرآن أو شيء لا يكون إلا بوحي، فمثلا: ﴿الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ جاء بعدها ذكر القرآن، ﴿الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾ [الروم ١ - ٣] لم يأت فيها ذكر القرآن، ولكن جاء بعدها ما لا يمكن إلا بوحي. 
﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ يجوز أن نجعل (الكتاب) خبر (ذا)، ويجوز أن نجعلها نعتا أو عطف بيان، فإن جعلناها خبر (ذا) صار قوله: (لا ريب فيه) جملة مستأنفة، وإن جعلناه بدلا أو عطف بيان صارت (لا ريب فيه) إيش؟ خبر اسم الإشارة، والكتاب المشار إليه هو القرآن، وسمي كتابًا لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ، ومكتوب في الصحف التي بأيدي الملائكة، ﴿كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ﴾ [عبس ١١ - ١٥]، ومكتوب في المصاحف التي بين أيدينا. 
﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ (لا ريب)، ما معنى الريب؟ الشك، هكذا فسره أكثر العلماء، أن الريب هو الشك، لكن شيخ الإسلام رحمه الله(١١) له رأي في مثل هذه الألفاظ المترادفة؛ يقول: لا يوجد في اللغة العربية كلمة مرادفة لأخرى من كل وجه، لا بد أن يكون بينهما فرق، فالريب هنا ليس مطابقا للشك في إزائه من كل وجه؛ لأن الريب، يقول: شك مع قلق وارتياب، فهو إذن أخص من الشك، لكن لا مانع أن نفسر الكلمة بما هو قريب منها، لا سيما إذا كان المخاطَب لا يتصور الفرق. 
وقوله: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ (لا) نافية للجنس، فيشمل أدنى ريب، يعني ما فيه أدنى ريب. 
وقوله: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ الهدى بمعنى الدلالة، القرآن نفسه لا يهدي هداية توفيق، لكنه يهدي هداية دلالة؛ ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾. في آية أخرى ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاس﴾ [البقرة ١٨٥] فأي فرق بين هذا وهذا؟ نقول: أما كونه هدى للناس فهذا هو الأصل، أن القرآن يمكن أن يهتدي به كل أحد، وأما إضافة الهدى إلى المتقين فلأن المتقين هم الذين انتفعوا به فصار هدى لهم، ومَن المتقون؟ الذين قاموا بأوامر الله وتركوا نواهي الله. 
في هذه الآية الكريمة بيان أن كلام الله عز وجل حروف، خلافا لمن قال: إن كلامه هو المعنى القائم بالنفس، ونحن نشرح ذلك: أصول الخلاف في هذا القرآن الكريم أو في كلام الله عمومًا: 
أولا: من قال: إن كلام الله هو المعنى القائم بنفسه، وما يُنقل من كلامه أو يسمع فهو عبارة عنه وليس هو كلام الله، بل عبارة عنه، وهو مخلوق. 
والثاني قال: إن الله تعالى لا يتكلم، وكلامه مخلوق كسائر مخلوقاته. 
ومنهم من قال: إن الله يتكلم بحرف وصوت، وليس كلامه هو المعنى فقط، بل كلامه اللفظ والمعنى. وهذا الذي قبله مذهب المعتزلة والجهمية، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، ومذهبهم هو الحق؛ لأن الأدلة تدل عليه، قال الله تعالى في موسى: ﴿وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا﴾ [مريم ٥٢] فلما كان بعيدا قال: ﴿نَادَيْنَاهُ﴾؛ لأن النداء يكون للبعيد، ولما قرب يعني لما قربه الله قال: ﴿قَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا﴾، أي: بصوت ليس نداء، وفي الحديث الصحيح:« أَنَّ اللهَ يُنَادِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ: يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، فَيُنَادِي بِصَوْتٍ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إِلَى النَّارِ(١٢) »، وهذا أمر لا يشك فيه إنسان، ولولا أن الخلاف وقع فيه ما كنا نتكلم فيه، لكن وقع ولا بد من بيان الحق، المعتزلة يقولون: القرآن مخلوق من المخلوقات، أصوات يخلقها الله وحروف تكتب فهو كسائر المخلوقات، ولا شك أننا إذا قلنا بهذا أبطلنا الأمر والنهي؛ لأن الأمر يكون صوتا سُمع على هذا الوجه، قولوا: صوت سُمع على هذا الوجه، يعني كأنه صدى، أرأيت الآن الشمس والقمر والجبال مخلوقة على هذا الوجه، هم يقولون: هذا صوت خُلق على هذا الوجه، كصوت الرعد. 
الأشعرية يقولون: الكلام معنى قائم بنفسه، لكن خلق أصواتا، فإذا قلنا: إن الأوامر والنواهي مخلوقة، بطل الأمر والنهي؛ لأن (قل) خلق الله كلمة على صورة (قل) ولا تفيد أمرا، ﴿لَا تَقْرَبُوا الزِّنَا﴾ [الإسراء ٣٢] خلق الله تعالى حروفا على هذا الشكل فلا تفيد نهيا، ولهذا صدق من قال: إن القائلين بخلق القرآن سواء جعلوه عبارة عن كلام الله أو هو كلام الله، إنهم أبطلوا الأمر والنهي والشرائع كلها. 

* * *
* الطالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم ﴿الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ﴾ [البقرة ١ - ٧] 
* الشيخ: ﴿وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ قف. 
* الطالب: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [البقرة ٧] 
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال ربنا عز وجل: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿الم﴾، البسملة سبق لنا الكلام عليها فلا حاجة للإعادة، أما قوله: ﴿الم﴾ فإنها حروف هجائية، وسبق الكلام عليها إذن، ولا حاجة للمناقشة ولا للإعادة. 
﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ قوله: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ إن جعلنا ﴿الْكِتَابُ﴾ صفة لـ(ذا) صار ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ خبر. وإن جعلنا ﴿الْكِتَابُ﴾ خبرا؛ ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾، صارت الجملة استئنافية محلها النصب على الحال، يعني حال كونه منتفيا عنه الريبة. وقوله: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾، أي: لا شك، وتفسير الريب بالشك إنما هو للتقريب، ونفي الشك هنا الشك في ثبوته، يعني لا شك في ثبوته، وأنه من عند الله. 
ثانيا: لا شك فيما تضمنه من الأخبار، فكل خبر في القرآن الكريم فإنه لا شك فيه عند كل مؤمن، بل هو حق ثابت. وقوله: ﴿فِيهِ﴾ قيل: إنها خبر (لا) النافية، وقيل: إنه خبر مقدم لقوله: ﴿هُدًى﴾، ولكن الأولى أن يكون خبرا لـ(لا) النافية. وقوله: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ تكون حالا من الكتاب يعني حال كونه ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾، وهو هدى للمتقين من الناحيتين: العلمية والعملية، أما العلمية فهي هداية الدلالة، فإن مصدر العلم هو هذا القرآن الكريم، هو الذي يهديك إلى الحق ويدلك عليه، ويهديك إلى الباطل ويبينه لك ويحذرك منه، أما الثاني فهو هداية العمل، فإن المتقين هم الذين اهتدوا به عملا. 
وقوله: ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ اسم فاعل، والفعل منه (اتقى)، ومعنى اتقى: اتخذ وقاية من عذاب الله، وهذا لا يكون إلا بفعل الأوامر واجتناب النواهي، وعلى هذا فأشمل الحدود في التقوى أنها اتخاذ وقاية من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه، فهي فعل الأوامر واجتناب النواهي. 
واعلم أن التقوى تُقرن تارة بالبر، كقوله: ﴿تَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة ٢]، وتارة تُقرن بالإيمان، كما في هذه الآية: ﴿لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾، وتارة تُذكر وحدها، فإن ذُكرت وحدها شملت الدين كله؛ لأن الدين كله وقاية من عذاب الله، وإن اقترنت بالبر صار البر فعل الأوامر، والتقوى ترك النواهي، فهي تفسَّر في كل سياق بحسبه. 
ثم قال: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾، هذه من صفات المتقين أنهم يؤمنون بالغيب، أي يقرّون به ويعترفون به، والمراد بالغيب هنا ما غاب عن الناس مما أخبر الله به ورسوله، سواء كان ذلك فيما يتعلق بصفات الله، أو فيما يتعلق بعباد الله فيما مضى، أو فيما يتعلق بعباد الله في المستقبل، يؤمنون به، فيؤمنون بالله عز وجل بأسمائه وصفاته، بألوهيته، ربوبيته، يؤمنون كذلك بما أخبر الله به من الأمم السابقين، يؤمنون بما أخبر الله به من المستقبل من علم الآخرة؛ لأن كل هذا داخل في قوله: ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾. ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾، نعم هل يدخل في الإيمان بالغيب الإيمان بالملائكة؟ نعم؛ لأنهم عالم غيببي. 
﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾، أي: يأتون بها قائمة لا اعوجاج فيها، وذلك بالقيام بواجباتها واجتناب محظوراتها، وقوله: ﴿الصَّلَاةَ﴾ يشمل صلاة الفريضة والنافلة؛ لأنها هنا اسم جنس يشمل كل الصلاة. 
﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُون﴾ (مما رزقناهم) جار ومجرور متعلق بـ(ينفقون)، المعنى: مما أعطيناهم ينفقون، وأول ما يدخل في ذلك الزكاة، إنفاق الزكاة؛ فإنهم يقومون بها، وعلى هذا تكون الآية من جنس الآيات الأخرى التي فيها ﴿يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ [المائدة ٥٥]. 
﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ ﴿أُولَئِكَ﴾ المشار إليهم المتقون الذين اهتدوا بالقرآن. ﴿عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾، ﴿عَلَى هُدًى﴾ أي: على طريق مستقيم من الله عز وجل، هداهم الله تعالى علما وهداهم الله عملا. 
﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾، هذا أيضا من صفاتهم. 
﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ الآية هنا معطوفة على ما سبق عطفَ صفات لا ذوات، والأصل في المعطوفات أن تكون ذواتًا، لكن هنا العطف عطف صفات؛ لأن الذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك هم الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة، وعطف الصفات بعضها على بعض أمر لا يُستغرب لا في القرآن ولا في لغة العرب، قال الله تعالى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (٤) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى﴾ [الأعلى ١ - ٥]، فهذا عطف صفات بعضها على بعض. 
﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ وهو القرآن، وربما نقول: إنه أشمل من القرآن؛ لقوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة﴾ [النساء ١١٣] فهو القرآن والسنة، ﴿وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ من الكتب كالتوراة والإنجيل. 
﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ قوله: ﴿بِالْآخِرَةِ﴾ جار ومجرور متعلق بـ﴿يُوقِنُونَ﴾، وأتى بكلمة ﴿هُمْ﴾ للتوكيد، وإلا لو حُذفت وقيل: وبالآخرة يوقنون، استقام الكلام، لكن من أجل التوكيد أُتي بالضمير (هم)، وقوله: ﴿يُوقِنُونَ﴾، أي: يؤمنون إيمانا لا شك فيه ولا يتطرق إليه الاحتمال؛ لأن اليقين هو العلم القطعي، هذه من صفاتهم. 
﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ ﴿أُولَئِكَ﴾، المشار إليه المتقون الذين يؤمنون بما سبق، ﴿عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِم﴾ أي: على صراط من الله عز وجل، وقال: ﴿مِنْ رَبِّهِم﴾؛ لإفادة أن منة الله عليهم بهذا منة خاصة، فهي ربوبية خاصة لهم ليست الربوبية العامة. 
﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، كرر ﴿أُولَئِكَ﴾؛ للتنويه بفضلهم وعلو مرتبتهم، وقوله: ﴿هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ يقول العلماء إن (هم) هنا ضمير فصل، وهو ضمير لا محل له من الإعراب؛ لأنه إنما أُتِي به للتوكيد، قالوا: وفوائده ثلاثة: الفائدة الأولى: التوكيد، والثانية: الحصر الذي هو التخصيص، الثالثة: إفادة أن ما بعده خبر وليس صفة، ولهذا سمي ضمير فصل، يعني أن الفلاح محصور فيهم، والفلاح هو الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب. 
نرجع إلى هذه الآيات نجد أن الله سبحانه وتعالى ذكر فيها ما يدل على عدة فوائد، أولا: بيان أن هذا القرآن الكريم هو من الحروف التي يتكلم بها العرب؛ لقوله: ﴿الم﴾، كما بينّا ذلك واضحا في التفسير. 
* ومن فوائد هذه الآيات: علو مرتبة القرآن؛ لقوله: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾، فأشار إليه إشارة البعيد مع قربه، فإنه بين أيدينا إشارة إلى علو مرتبته، وهو واللهِ أعلى مراتب القول، إن خير الحديث كتاب الله، كما كان الرسول ﷺ يعلنه في كل جمعة يقول على المنبر: « إِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ»(١٣). 
* ومن فوائد هذه الآيات: أنه لا يجوز لأحد أن يرتاب في هذا القرآن، وأن القرآن ليس محلا للريبة، المعنى الأول لا يجوز لأحد أن يرتاب في هذا القرآن على تقدير أن النفي هنا بمعنى؟ 
* طالب: النهي. 
* الشيخ: النهي، والثاني: أن هذا القرآن ليس محلا للريبة، على تقدير أن (لا) نافية، وقد بيننا لكم في التفسير أن قوله: ﴿لَا رَيْبَ فِيه﴾ فيها قولان للعلماء، القول الأول: أن النفي هنا بمعنى النهي، وأن المعنى: لا ترتابوا فيه. والقول الثاني: أن النفي هنا على بابه، والمعنى أن القرآن لا ريب فيه ولا إشكال فيه، واضح يا جماعة؟ إذن من الفوائد تحريم الارتياب في القرآن وبيان أنه ليس محلا للريبة. 
* ومن فوائد هذه الآيات: أن القرآن هدى للمتقين، وهو واضح في الآية ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾، ويترتب على هذه الفائدة أنك إذا رأيت الله قد منّ عليك بفهم كتابه والعمل به، فاعلم أنك ممن؟ ممن يا جماعة؟ من المتقين؛ لأن الله قال: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾، فإذا رأيت من نفسك أن الله من عليك بالعلم والعمل بكتابه فأبشر فإنك من المتقين. 
ويتفرع أيضا على هذا فائدة أخرى: إذا رأيت الغفلة وعدم الانتفاع بالقرآن فاحذر؛ فإن هذا يدل على نقص تقواك؛ لأنه لو كانت تقواك كاملة لكان هذا القرآن هدى لك، ويتفرع على هذا أيضا: الحث على التقوى، وأنها سبب للاهتداء بالقرآن، وأنك كلما اتقيت الله ازددت انتفاعا بالقرآن واهتداء به. 
* ومن فوائد الآيات: فضيلة الإيمان بالغيب، وإن شئت فقل: إن الإيمان حقيقة هو الإيمان بالغيب؛ لقوله: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾؛ لأن الإيمان بالشهادة ما هو إيمان، الإيمان بالشهادة المحسوسة ليس إيمانا، أي نعم، والدليل: أن فرعون كان ينكر رب العالمين، ويقول لموسى: ما رب العالمين؟ ولما أدركه الغرق قال: ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ﴾ [يونس ٩٠]، وفي هذا من الذل ما فيه، كان بالأول يقتل بني إسرائيل إذا لم يوافقوه، والآن صار تبعا لهم، ما قال: آمنت بالله أو برب العالمين، آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل، فأتى باسم الموصول الدال على التفخيم والتعظيم، ثم بـ ﴿الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ﴾؛ ليقول: أنا تابع لهم مؤمن بما يؤمنون به، وهذا غاية ما يكون من الذل، انتبهوا لهذه النقطة. 
طيب، هل هذا الإيمان الذي جرى من فرعون في تلك الساعة هل هو إيمان نافع؟ لا، ولهذا قيل له: ﴿آلْآنَ﴾؟ ما فيه فائدة، ﴿آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [يونس ٩١]، وهذا حق. 
الإيمان بالشيء الشاهد؛ تشوف هذا الباب تقول: هذا باب، أومن بأن هذا باب؟ نعم؟ هذا إيمان؟ 
* الطلبة: لا. 
* الشيخ: لو قلت: أنا أومن بأن حولي رجالا يطلبون العلم، هذا إيمان؟ هو إيمان؟ 
* الطلبة: ليس إيمانًا. 
* الشيخ: أما حولي رجالا، صحيح ليس إيمانًا؛ لأنه مشاهد، أما يطلبون العلم، فهو إيمان؛ لأنه مبني على ظني فيما يريدون بطلب العلم، وهل هم حريصون أو يحضرون بالأبدان دون القلوب، أو ما أشبه ذلك، على كل حال اجعلوها إن شاء الله إيمانا، لا تجعلوها إيمانا بالغيب، اجعلوها إيمانا بالمحسوس. 
من فوائد هذه الآيات الكريمة: فضيلة الصلاة، وأنها أعلى أنواع الأعمال البدنية، ولهذا تأتى دائما بعد الإيمان؛ لقوله: ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾. 
* ومن فوائدها: الحث على إقامة الصلاة، وأن الإنسان يأتي بها كاملة على الوجه الذي يرضي الرب عز وجل الذي فرضها على عباده، أما أن يصلي صلاة لا روح فيها، أو صلاة لا تجزئ رسميا أو ما أشبه ذلك، فهذا ليس بمقيم للصلاة، أفهمتم؟ يعني ربما يجيء إنسان يصلي صلاة من أتقن ما يكون ظاهريا، فهذا باعتبار الرسم أقامها، قائم يقوم بخشوع في الرأس، في الركوع يطمئن، وفي السجود يطمئن، لكن قلبه في وادٍ، وجسمه في وادٍ، هل أقامها؟ لا، ما أقامها، هي قشر، قشر منتفخ لكن تطلع ما فيه لب؛ لعدم الخشوع، ولهذا تجد الناس كثيرا منهم يخرج من الصلاة لا يحس بنفسه أنه كره المنكر ولا كره الفحشاء، مع أن الله يقول: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت ٤٥]، لكن لا يحس بذلك؛ لأنها قشور صلاة، نسأل الله أن يعيننا وإياكم على الخشوع في الصلاة؛ لأنه الآن أشد ما نجاهد عليه هو هذا، يعني قضية الرسم بأن الإنسان يأتي بالصلاة باطمئنان ظاهري هذا شيء سهل، لكن الكلام على اللب وهو الخشوع هذا أمر صعب، لكن حاول مرة بعد أخرى، كلما جذب الشيطان قلبك رده، وثِق أنه من حين ما تجذبه إلى الصلاة ترده إلى الصلاة سوف يرده، سوف يجد هناك تجاذب، لكن استمر، وإن شاء الله في النهاية يزول، طيب من إقامة الصلاة الطمأنينة فيها التي قد افتقدها بعض الناس، ولا سيما في الركنين ما بين الركوع والسجود، وما بين السجودين، هذان الركنان مظلومان عند بعض الناس، تجده يقول: سمع الله لمن حمده، الله أكبر، إيش قلت؟ اطمأن؟ ما اطمأن، هذا لا صلاة له، لو يصلي إلى يوم الدين ما فيه صلاة؛ لأن «الرسول قال للرجل: « ثُمَّ ارْفَعْ - يعني من الركوع- حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا»(١٤)، وفي لفظ « حَتَّى تَطْمَئِنَّ قَائِمًا»(١٥)، لا بد من الطمأنينة، وعلى كل حال لا حاجة إلى أن نأتي على الصلاة بجميع ما يُخل فيها بعض الناس؛ لأنها معروفة. 
من فوائد هذه الآيات الكريمة: فضيلة الإنفاق في سبيل الله، فضيلة إنفاق المال؛ لقوله: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾. 
* ومن فوائدها: أن صدقة الغاصب باطلة، من أين تؤخذ؟ ﴿مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾؛ لأن الغاصب لا يملك المال الذي تصدق به فلا تُقبل صدقته. 
* ومن فوائدها: الإشارة إلى ذم البخل؛ لقوله: ﴿مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾، هل أنت حصّلت المال بكسبك؟ لا، الذي أعطاك المال هو الله، ﴿مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾ ولم يقل: مما كسبوا، قال: ﴿مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾، وحتى ما كسبه الإنسان هو بتيسير الله، وكم من إنسان ضرب أبواب الرزق من كل جانب ولكن لم يوفق، إذن من فوائد هذه الآية الكريمة: فضيلة الإنفاق، لكن هنا أطلق بل هنا أجمل المنفَق فيه؛ قال: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ يعني بيّن المنفَق منه ولم يبيّن المنفَق فيه، نقول: نعم، لكنها بُيّنت في آيات كثيرة، ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ﴾ [البقرة ٢١٥] الجواب: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾، أي شيء ينفقون؟ ﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ﴾، كأنه قال: اسألوا عن ماذا تنفقون؟ نعم، اسألوا فيم تنفقون؟ ﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ﴾، ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾، عن إيش؟ قولوا يا جماعة؟ 
* الطلبة: (...) 
* الشيخ: وإيش ينفقون؟ ماذا ينفقون، فقال الله عز وجل: ﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ﴾، فبيّن ما ينفَق فيه؛ لأنه هو المهم، كثير من الناس ربما يخرج نصف ماله لكن في سبيل الطاغوت، والشيء النافع في سبيل الله، أي فيما يرضي الله عز وجل، لكن قد يقال: إن قوله: ﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ﴾، قد يقول قائل: فيه إشارة إلى المنفَق منه، وهو أن يكون الإنفاق خيرا، على كل حال الآية هنا أجمل الله فيها الإنفاق: ﴿مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾، فأجمل، فيقال: إن هذا المجمل مبين في نصوص أخرى من القرآن والسنة. 
* * *
 * الطالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٧) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ [البقرة ٦ - ١٠] 
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ﴾، قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُون﴾، هذه عطف على ما سبق في قوله: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾، يعني ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ﴾، وقد سبق أن قلنا: إنه يجوز عطف الصفات بعضها على بعض كما في قوله تعالى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى﴾ [الأعلى ١ - ٤]، مع أن الأصل في الصفات أن لا تكون معطوفة. 
* من فوائد الآية: الثناء على الذين يؤمنون بما أنزل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وما أنزل من قبله، وأن هذا من خصال المتقين؛ لقوله: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾. 
ومن فوائد الآية أيضا: الثناء على الموقنين بالآخرة، وقد سبق في التفسير أنه ليس المراد بالإيقان بالآخرة أن تؤمن بأن هناك يوما يُبعث الناس فيه، بل تؤمن بكل ما جاء في الكتاب والسنة مما يقع في ذلك اليوم، بل إن شيخ الإسلام رحمه الله قال: يدخل في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلي الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت(١٦). 
ثم قال عز وجل: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ هذا أيضا بيان حالهم ومآلهم؛ أما حالهم فقال: ﴿عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾ أي: على علم وبينة، ففيه دليل على سلامة هؤلاء في منهجهم، لقوله: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾. 
* ومن فوائدها أيضا: أن ربوبية الله عز وجل تكون خاصة وعامة؛ لأن قوله: ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾ إضافته إلى هؤلاء فقط، لكنها ربوبية خاصة اقتضت العناية التامة بهم. 
* ومن فوائدها أيضا: أن مآل هؤلاء هو الفلاح؛ لقوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾. 
* ومن فوائدها: أن الفلاح خاص بهم؛ لأن هذه الجملة: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ تفيد الحصر. 
ثم قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُون﴾، هذا بيان للقسم الثاني من الناس؛ لأن هذه السورة ذكر الله أصناف الناس وأقسامهم، الأول: المؤمنون الخلّص، والثاني: الكفار الخلص في هذه الآية. 
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، كفروا بمن؟ كفروا بكل ما يجب الإيمان به؛ كفروا بالله، كفروا برسله، كفروا بملائكته، كفروا بكتبه، كفروا باليوم الآخر، كفروا بالقدر خيره وشره، أو ما أشبه ذلك، المهم أنه عام بكل ما يجب الإيمان به، فإذا كفروا به فهؤلاء كفار. 
طيب وإن كفروا ببعضه؟ فكذلك؛ لقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (١٥٠) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ [النساء ١٥٠، ١٥١] 
وقوله: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾، هذه جملة مسبوكة بمصدر دون أن يوجد حرف مصدري؛ لأن الجملة التي تُسبك في المصدر يعني تُحوَّل إلى مصدر لا بد أن تقترن بحرف مصدري، مثل: (أنّ) و(أنْ) و(ما) المصدرية و(لو) المصدرية، لكن هذه سُبكت بمصدر مع أنها ليس فيها شيء من أدوات المصدر، لكن إذا جاء السواء ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ فهذه تُسبك بمصدر، فالتقدير: سواء عليهم إنذارك أم عدمه، والمراد بهؤلاء الكفار الذين حقت عليهم كلمة العذاب، فهؤلاء لا يؤمنون سواء أنذرهم أم لم ينذرهم؛ لأنه قد خُتم على قلوبهم ـ والعياذ بالله ـ وليس المراد بهذا أن لا يدعوهم الرسول عليه الصلاة والسلام، بل المراد أن يتسلى إذا لم يؤمنوا فيقال: هؤلاء قد طبع الله على قلوبهم فلا يؤمنون. 
وقوله: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ﴾، ﴿سَوَاءٌ﴾ بمعنى مستوٍ عليهم إنذارك وعدمه، وقوله: ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ﴾ الإنذار هو الإعلام بتخويف وترهيب، ﴿أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ هذا القسم الثاني. 
هذه (أم) هنا متصلة أو منقطعة؟ 
* طالب: متصلة. 
* الشيخ: هذه متصلة؛ لأن المتصلة هي التي تأتي بين شيئين متعادلين كما هنا، والمنقطعة التي تأتي بين شيئين منفصلين، هذا فرق معنوي، والفرق اللفظي: المتصلة يصح أن يحل محلها (أو)، والمنقطعة لا يصح أن يحل محلها (أو)، بل يحل محلها (بل)، ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُون﴾ الجملة هذه خبر ثاني، أين الخبر الأول؟ ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ هذه هي الخبر الأول، وقوله: ﴿لَا يُؤْمِنُون﴾ الخبر الثاني. 
في هذه الآية الكريمة تسلية الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين يرده الكفار ولا يقبلون دعوته. 
وفيها أيضا: أن من حقت عليه كلمة العذاب فإنه لا يؤمن مهما كان المنذِر والداعي؛ لأنه لا يستفيد، قد خُتم على قلبه، ﴿أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ﴾ [الزمر ١٩] يعني هؤلاء لهم النار وانتهى أمرهم، ولا يمكن أن تنقذهم. 
* من فوائد الآية الكريمة: أن الإنسان إذا كان لا يشعر بالخوف عند الموعظة ولا بالإقبال على الله فإن فيه شبها مِمن؟ من الكفار الذين لا يتعظون بالمواعظ ولا يؤمنون عند الدعوة إلى الله. 
قال الله تعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ الختم بمعنى الطبع، وأصله من الختم الذي هو الخاتم؛ لأنه عند انتهاء القول في الكتابة يُختم القول بالكتابة، يعني أنه انتهى الأمر، فهؤلاء ختم الله على قلوبهم؛ وأيضا يشبه وعاء النفقة إذا خُتم عليه بالشمع الأحمر كما يقولون فإن أمره منتهٍ. ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾، يعني: وختم على سمعهم، وإذا ختم على القلوب صارت لا تفقه، وعلى السمع صارت لا تسمع سماعا ينفع. 
قال: ﴿وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ هذه جملة مستأنفة، والغشاوة الغطاء، فإذا كان على الأبصار غشاوة صارت لا تبصر، فخُتمت الطرق الثلاثة للهدى، وهي: القلب، والثاني: السمع لما يقال، والثالث: البصر فيما يُرى، فالأبواب الثلاثة كلها سُدت، قال الله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّه﴾ [الجاثية ٢٣] لا أحد. 
فإن قال قائل: هذا الختم هل له سبب أو هو ابتلاء وامتحان من الله؟ 
فالجواب: أن له سببا بيّنه الله تعالى في قوله: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الأنعام ١١٠]، وبقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [الصف ٥] فإذا رأيت أحدا قد ضل فاعلم أنه هو السبب في ضلال نفسه. 
﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، ﴿وَلَهُمْ﴾ أي لهؤلاء الكفار الذين بقوا على كفرهم لهم عذاب عظيم، وهو عذاب النار، وعظمه الله تعالى لأنه لا يوجد أشد من عذاب النار، أعاذنا الله وإياكم منها بكرمه وجوده. 
انتهى الكلام على الصنف الثاني من أصناف الخلق وهم الكفار الخلّص الصرحاء. 
في هذه الآية الكريمة الأخيرة دليل على أن القلوب محل الوعي؛ لقوله: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾، يعني: فلا يصل إليها الخير. 
وفيها أيضا من فوائدها: أن طرق الهدى إما بالسمع وإما بالبصر؛ لأن الهدى قد يكون بالسمع وقد يكون بالبصر؛ بالسمع فيما يقال، وبالبصر فيما يشاهَد، وهكذا آيات الله عز وجل تكون مقروءة مسموعة، وتكون بيّنة مشهودة. 
* ومن فوائد هذه الآية: وعيد هؤلاء الكفار بالعذاب العظيم؛ لقوله: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾. 
ثم قال عز وجل: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِين﴾، ﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾ (مِن) هنا للتبعيض؛ وعلامة (مِن) التي للتبعيض أن يحل محلها (بعض)، فهنا لو في غير القرآن لو قال: وبعض الناس يقول، لكان الكلام مستقيما، إذن (مِن) للتبعيض ﴿مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ﴾ (مَن) هذه مبتدأ مؤخر، ﴿مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، لكن يقول ذلك بلسانه، أما في قلبه فلا، ولهذا قال: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾، بمؤمنين في إيش؟ 
* الطلبة: (...) 
* الشيخ: ما سمعت. 
* الطلبة: (...). 
* الشيخ: طيب، وما هم بمؤمنين في قلوبهم، لكن بلسانهم يقولون: آمنا بالله وباليوم الآخر، بل قد قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ﴾، بعد ﴿وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِم﴾ [المنافقون ٤]، فهم يفتنون الناس برؤيتهم وبسماع أقوالهم، لكن لا خير فيهم، ومن أراد أن يعرف صفات المنافقين فعليه بكتاب مدارج السالكين ، ذكر ابن القيم رحمه الله جمع صفاتهم في مقال واحد، فمن أراد أن يراجعها فليراجع. 
يقول: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، ذكر الإيمان بالله؛ لأنه هو المبتدى سبحانه وتعالى، يعني الذي ابتدأت منه الأمور، واليوم الآخر؛ لأنه هو المنتهى، والإنسان إذا آمن بالله وباليوم الآخر استقام، ولهذا يقرن الله تعالى دائما بين الإيمان به واليوم الآخر دون الإيمان بالملائكة والكتب والرسل؛ لأن حقيقة الأمر أن من لم يؤمن باليوم الآخر فإنه لن يؤمن بالله؛ لأنه ماذا يحصّل؟ ماذا ينتظر؟ إذا كان لا يؤمن باليوم الآخر فلن يؤمن بالله. 
قال: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ هذا تكذيب لهم في قولهم: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، كقول الله تعالى مكذبا لهم: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [المنافقون ١، ٢]. 
ثم قال: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة ٩]، وفي قراءة: ﴿وَمَا يُخَادِعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ . ﴿يُخَادِعُونَ﴾ المخادعة: مُفَاعَلَة من الخداع، والخداع والمكر والكيد كلها معان متقاربة، ويشملها هذا التعريف: التوصل إلى الإيقاع بالخصم من حيث لا يشعر، هذا الخداع وهذا المكر، يتوصل إلى الإيقاع بالخصم من حيث لا يشعر، هذا هو الخداع، هؤلاء إذا قالوا إنهم مؤمنون قالوا: غنمنا الآن، يقولون: غنمنا؛ لأننا خدعنا محمدا وأصحابه، ولكنهم في الحقيقة هل خدعوا الرسول وأصحابه؟ خدعوا الله، ولهذا قال: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ وعلى رأس الذين آمنوا رسول الله ﷺ، قال تعالى: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ يخدعون أنفسهم في الواقع؛ لأنهم غروها، حيث أظهروا خلاف ما يبطنون، وهم يعلمون أن ما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام حق، لكنهم لم يؤمنوا به، بل أنكروه فخدعوا أنفسهم بذلك، فإن قال قائل: ما وجه خداعهم لله والذين آمنوا؟ قلنا: وجه خداعهم أنهم إذا أظهروا الإيمان سَلِمت أموالهم.
هذا الخداع وهذا المكر يتوصل إلى الإيقاع بالخصم من حيث لا يشعر، هذا هو الخداع، هؤلاء إذا قالوا إنهم مؤمنون، غنمنا الآن، يقولون: غنمنا؛ لأنا خدعنا محمدًا وأصحابه، ولكنهم في الحقيقة هل خدعوا الرسول وأصحابه؟ لا، خدعوا الله؟ ولهذا قال: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة ٩]، وعلى رأس الذين آمنوا رسول الله ﷺ. قال تعالى: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾، يخدعون أنفسهم في الواقع؛ لأنهم غروها حيث أظهروا خلاف ما يبطنون وهم يعلمون أن ما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام حق؛ لكنهم لم يؤمنوا به، بل أنكروه فخدعوا أنفسهم بذلك. فإن قال قائل: ما وجه خداعهم لله والذين آمنوا؟ قلنا: وجه خداعهم أنهم إذا أظهروا الإيمان سلمت أموالهم ورقابهم من القتل، وصار لهم حرمة، فيقولون: خدعنا محمدًا وأصحابه، حيث قالوا إنهم مؤمنون، وليسوا بمؤمنين، لكنهم بقولهم هذا نجوا من المعاملة كما يعامل الكفار. 
قال تعالى: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾، أي أنهم لا شعور لهم يتبين به أنهم خادعون لأنفسهم؛ لأن على أبصارهم غشاوة، وقلوبهم مختوم عليها وكذلك السمع. 
* طالب: أحيانًا يعلَّق الفلاح والإيمان والتدبر على القلب في القرآن، وأحيانًا يربط ذلك بالعقل، ما العلاقة؟ 
* الشيخ: مثل؟ 
* الطالب: ﴿مَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة ٢٦٩]. 
* الشيخ: أي العقول؟ لكن المراد بالعقول هنا عقول الرشد لا عقول الإدراك. 
* الطالب: والقلب يا شيخ؟ 
* الشيخ: والقلب هو محل العقل، ولهذا قال تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا﴾ [الحج ٤٦] ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج ٤٦].
* الشيخ: نعم.
* طالب: امتنع النبي ﷺ عن قتل المنافقين حتى لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه، فالناس في هذا طرفان ووسط، فبعض الناس يتابع الناس في كل شيء، يراقبهم، وبعضهم يقول: ما علي في الناس ما دمت أسير في الدرب الصحيح، ما هو الضابط في مراقبة الناس؟ 
* الشيخ: الضابط أن الإنسان مؤتمن على دينه، ولا يحمل الإنسان أن يراقب أحدا في دينه أبدًا، اللهم إلا إذا كان هناك شبهة قوية وأراد أن يتأكد، وإلا فلا يجب؛ لأن الأصل أن المسلم محترم، محترم في عرضه، محترم في ماله، محترم في نفسه. 
* الطالب: لا، بعض الناس يا شيخ إذا قلت له: لا تفعل هكذا، كان الناس يظنون بك كذا وكذا، يقول: أنا ما على في الناس، خل الناس يقولون اللي يقولوه؟ 
* الشيخ: يعني هو قصده يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟ 
* الطالب: لا، أي شيء حتى في المعاملات العادية. 
* الشيخ: لا يمنع، الذي ينبغي للإنسان يكون مبتعدا عن هذا الأمر؛ لأن الرسول عليه ﷺ يقول: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحِي فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» . »(١٧)
* الطالب: شيخ قول الله تعالى: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الأنعام ١١٠] ألا يؤيد يا شيخ قول من قال من العلماء أنه لا تُقبل من تكررت ردته لقوله: ﴿أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾؟ 
* الشيخ: نعم، إن أخذ، لكن أحيانًا يمن الله على من يشاء من عباده، فتكرر الردة ويمن الله عليه بالإيمان الصادق، ونحن نقول: الذي تتكرر ردته لا بد أن يحتاط الإنسان له، ليس بمجرد أن يقول إنه آمن وأنه تاب يُرفع عنه القتل، بل ننظر، نعم. 
* طالب: يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة٣] ما في دليل هنا على كفر تارك الصلاة؟ 
* الشيخ: إيش وجهه؟ 
* الطالب: وجهه أن الله عز وجل ذكر: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ لفظ الآية الإيمان (...). 
* الشيخ: كيف؟ 
* الطالب: بعد ذلك ذكر ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾؟ 
* الشيخ: الزكاة؟ 
* الطالب: نعم، لفظ الآية: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ شرط (...). 
* الشيخ: هذا ليس واضحا، عندي فيها أدلة غير هذا. 
* طالب: غفر الله لكم، سؤال في التفسير الذي مضى، شيخ هل نثبت صفة التهكم لله بقول الله تعالى: ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ﴾ [النساء ١٣٨]؟ 
* الشيخ: لا، إذا قلنا معنى بشر فيما يسوء جرت اللغة العربية أن المقصود بذلك التهكم بهم، فالرسول لو بشرهم بهذا ليس بشرهم بما يسرهم بل متهكما بهم. 
* طالب: الله سبحانه وتعالى كثيرا ما يذكر الاستفهام في القرآن على سبيل التهكم للكفار فهل يصح ذكر..؟ 
* الشيخ: مقتضى اللغة العربية أن يقال هذا الاستفهام للتهكم، فالله يتهكم بهم. 
* طالب: (...) 
* الشيخ: نعم، صيغة فعلية. 
* طالب: أبو الحسن كان أشعريًّا أم معتزليًّا؟ 
* الشيخ: كان معتزليًّا، ثم بعد أربعين سنة من الاعتزال اتصل بعبد الله بن سعيد بن كُلّاب مؤسس مذهب الكلابية وأخذ منه بعض الشيء، وبقي على ذلك مدة ليست طويلة، ثم وفقه الله عز وجل إلى أن أخذ بقول الإمام أحمد رحمه الله. 
* طالب: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة ١٣] 
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ 
* في هذه الآية الكريمة فوائد، منها: النص على هذا الصنف من الناس وهم المنافقون، ﴿مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾.﴾ 
* ومن فوائدها: نفي الوصف على من لم يتحقق فيه من جانب؛ لأنهم يقولون إنهم مؤمنون، ولكن مؤمنون بالظاهر وليسوا مؤمنين بالباطن، ولهذا قال: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾، أي باطنًا. 
* ومن فوائدها: أن الاستسلام الظاهر إذا لم يكن مبنيًّا على عقيدة فإنه لغو لا فائدة منه؛ لقوله: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾.﴾ 
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن من قلب الحقائق وادعى ما لم يكن عليه من الأوصاف ففيه شبه بمن؟ بالمنافقين، ولهذا جعل النبي ﷺ آية المنافق ثلاثًا، منها: «إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ». »(١٨)
* ومن فوائد هذه الآية وما بعدها: أن المنافقين يخادعون الله والذين آمنوا، فيُستفاد من ذلك أن المخادعة من صفات المنافقين. فإن قال قائل: التورية فيها نوع مخادعة، فهل يكون المورّي متصفا بصفات المنافقين؛ لأنه أظهر خلاف ما يريد؟ فالجواب أن يقال: التورية إذا كان لها مقصود صحيح خرجت عن مشابهة المنافقين، وإذا لم يكن لها مقصود صحيح فإنه يُخشى أن يكون الإنسان مشابها للمنافقين، ولهذا حرم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله التورية إلا لحاجة أو ضرورة(١٩)، ولكن أكثر العلماء يقولون: إن التورية من غير ظالم لا بأس بها. 
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ جواز عطف غير الله على الله بحرف يقتضي المشاركة؛ لقوله: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾، ولم يقل: ثم الذين آمنوا، ووجه ذلك أن العلة واحدة، فمخادعتهم لله مخادعة للمؤمنين، ومخادعتهم للمؤمنين مخادعة لله عز وجل، بخلاف الأمور الكونية، فيجب أن تذكر ما سوى الله معطوفًا بـ(ثم)؛ لأن الأمور الكونية تتعلق بالربوبية، وما يتعلق بالربوبية فإنّ فعلَنا فيه تابع لفعل الله عز وجل، بخلاف الأمور الشرعية، ولهذا قال الله تعالى في آيات كثيرة، أو نسب الشيء إليه وإلى رسوله بالواو في آيات كثيرة، لكنها في أمور شرعية. 
* ومن فوائد هذه الآية: أن من خادع الله والمؤمنين فإنما يخادع نفسه؛ لأنهم سوف يعاملونه بالظاهر، ويستمر على هذا الباطل، وهذه لا شك أنه خداع للنفس، حيث يظن أنه على صواب فيستمر في عمله فيخدع نفسه بذلك. 
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن هؤلاء المنافقين يخادعون الله والذين آمنوا، وهم في الحقيقة يخدعون أنفسهم، لكن ليس عندهم شعور في أنفسهم، ولذلك استمروا على هذا، ولو شعروا أنهم يخدعون أنفسهم ما استمروا على ذلك.
ثم قال الله سبحانه وتعالى: ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾   
البسملة تقدم لنا الكلام عليها مرارًا وتكرارًا، وقلنا: إن الجار والمجرور متعلق بمحذوف، وهذا المحذوف يقدر فعلًا متأخرًا مناسبًا، كذا؟ يقدر فعلا متأخرا مناسبا، فإذا قلت: (باسم اللهِ) وأنت تريد أن تأكل كيف تقدر الفعل؟ باسم الله آكل، طيب، قلنا: إنه يجب أن يقدر أن يكون متعلقا بمحذوف، لماذا؟ لماذا لا نقول إنه غير متعلق؟ لأن الجار والمجرور لا بد له من متعلق يتعلق به، 
لَا بُدَّ لِلْجَارِ مِنَ التَّعَلُّقِ  ∗∗∗ بِفِعْلٍ اوْ مَعْنَاهُ نَحْوِ مُرْتَقِي 

لأن الجار والمجرور معمول وبمنزلة المفعول به فلا بد له من عامل، لماذا قدرناه فعلا متأخرا؟ 
لفائدتين: الفائدة الأولى: التبرك بتقديم اسم الله عز وجل. 
والفائدة الثانية: الحصر؛ لأن تأخير العامل يفيد الحصر، كأنك تقول: لا آكل باسم أحد متبركا به ومستعينا إلا باسم الله عز وجل، لماذا قدرناه فعلا؟ لأن الأصل في العمل الأفعال، وهذه يعرفها أهل النحو، الأصل في العمل الأفعال؛ ولذلك لا تعمل الأسماء إلا بشروط، اسم الفاعل يعمل عمل الفعل بشروط، المصدر يعمل عمل الفعل بشروط، اسم المفعول يعمل عمل الفعل بشروط، الفعل يعمل بشروط؟ لا؛ لأنه هو الأصل في العمل، ولهذا نقدره فعلًا، لماذا قدرناه خاصا؟ لأنه أدل على المقصود، أدل على المقصود ممكن أن نقدر: باسم الله أبتدئ، لكن تبتدئ أيش؟ ما ندري، تبتدئ أكل، تبتدئ شرب، تبتدئ وضوء، تبتدئ عمل، ما ندري، إذا قلت: باسم الله آكل وعينت الفعل صار أدل على المقصود؛ ولهذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام: «مَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ»(٢٠) أو قال: «عَلَى اسْمِ اللَّهِ» فخص الفعل، إذن نقول: الجار والمجرور متعلق بمحذوف، كمِّل. 
* طلبة: مناسب. 
* الشيخ: متأخر.. 
* الطلبة: مناسب. 
* الشيخ: فعل مناسب للمقام. أما ﴿اللَّهِ﴾ فهو علم على ذات الله سبحانه وتعالى، على الذات المقدسة لا يكون إلا له، وهو أصل الأسماء، ولهذا تأتي الأسماء تابعة له، بسم الله الرحمن الرحيم، تأتي تابعة له. 
﴿الرَّحْمَن﴾ ذو الرحمة الواسعة، ولهذا جاء على صفة على وزن فعلان الذي يدل على الامتلاء والسعة. 
﴿الرَّحِيم﴾ الموصل للرحمة من يشاء من عباده؛ ولهذا جاءت على وزن فعيل الدال على وقوع الفعل، فهنا رحمة هي صفته هذه دل عليها ﴿الرَّحْمَن﴾، ورحمة هي فعله أي إيصال الرحمة إلى المرحوم دل عليها ﴿الرَّحِيم﴾. 
الرحمن الرحيم اسمان من أسماء الله يدلان على الذات، وعلى صفة الرحمة، وعلى الأثر أو الحكم الدال عليه ذلك المعنى، ولَّا لا؟ إذن اجتمع في هذين الاسمين كل ما يجب أن يتعلق بالإيمان باسم الله؛ لأن الإيمان باسم الله لا بد أن يكون أن تؤمن بالاسم وأيش بعد؟ والصفة والأثر الذي هو الحكم المترتب على هذا، فنقول: الله رحمن ذو رحمة يرحم، كلها موجودة في القرآن ﴿الرَّحْمَنِ﴾ كما ترون، ذو الرحمة: ﴿وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ﴾ [الأنعام ١٣٣]، يرحم: ﴿يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ﴾ [العنكبوت ٢١]. ﴿الرَّحْمَن﴾ اسم دال على الرحمة، وهي رحمة حقيقية دل عليها السمع والعقل، ما أدري كلام اللغة عربي ولَّا غير عربي؟ 
* الطلبة: عربي. 
* الشيخ: عربي، دل عليه السمع والعقل، وأيش معنى السمع؟ 
* الطلبة: النص.. النصوص. 
* الشيخ: النصوص الكتاب والسنة، العقل: النظر والاعتبار، دلالة السمع على رحمة الله كثيرة ما تحصى، دلالة النظر أن نقول: كم في العالم من نعمة؟ كم في العالم من نعمة؟ وأيش الجواب؟ لا تحصى ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ [النحل ١٨]. كذا لا تحصى بأنواعها وأجناسها فضلا عن أفرادها، هذه النعم وأيش تدل عليه؟ تدل على أن المنعم راحم، تدل على أن المنعم راحم، ولولا الرحمة ما حصلت النعمة، وكم في العالم من اندفاع نقمة، أليس كذلك؟ بماذا؟ 
من آثار الرحمة، لولا الرحمة ما اندفعت النقمة، ومن عجب أن قوما يدعون العقل يقولون: إن الرحمة لا يدل عليها العقل، بل العقل يدل على خلافها، أعوذ بالله، لأيش؟ قال: لأن الرحمة انعطاف، ولين، وخضوع، ورقة، وهذا لا يليق بالله عز وجل، شوف الشيطان، لا يليق، صحيح لا يليق؟ نقول: الرحمة بهذا المعنى من هي رحمته؟ 
* طالب: الإنسان. 
* الشيخ: رحمة المخلوق، لكن رحمة الخالق ليست كرحمة المخلوق، ثم إننا نمنع أن تكون الرحمة كما زعمتم حتى في المخلوق، يأتي ملك تام السلطان لا يخشى أحدا إلا الله ويرحم هذا الفقير، هل نقول: رحمته هذه تنافي ما عنده من السلطان والعظمة اللائقة به؟ أبدا ما تنافي، ولا يقال: والله هذا ملك مهين، إنه يرحم الفقراء، ويرحم الضعفاء، لا، بل يعد هذا من كماله، ثم نقول لهم: العقل دل عليه، العقل دل عليه، نمنع قولكم إن العقل لا يدل، ونقول: إن العقل دل عليه، لو تسأل عامي في السوق بعد أن نزل المطر في الليل وخرج الناس يمشون في المطر ونقع المطر وهواء المطر والرطوبة، تلقي عامي تقول: ما شاء الله نزل البارحة مطر، إي وقال: الله، الحمد لله، رحمة الله واسعة، رحمة الله واسعة، وأيش عرفنا إن هذا المطر منين؟ من الرحمة، لكن يقولون: الإرادة ثبتت بالعقل، إرادة الله ثبتت بالعقل، طيب بماذا؟ 
قالوا: ثبتت بالتخصيص، إنه خص هذا، اجعل هذا سماء، واجعل هذه أرض، وهذه بقرة، وهذه شاة، وهذه بعير، وهذا حمار إلى آخره، الذي خصص هذا من هذا هو الإرادة، إذن فيه إرادة لله دل عليها التخصيص، اسأل طالب علم ما هو عامي؟ قل: كيف تستدل بالعقل على الإرادة على إرادة الله وأيش بيقول لك؟ ما يستطيع، ربما يستطيع يقول: أستدل على إرادة الله، ها الكون هذا كله بإرادة الله، لكن ما يقول كلمة تخصيص ولا يدل على الإرادة، كذا ولَّا لا؟ 
ومع ذلك الرحمة ما دل عليها العقل عندهم، والإرادة دل عليها العقل، ونحن نقول: إن الإرادة والرحمة كلتاهما دل عليها العقل ولا شك في هذا. 
البسملة ذكرنا فيما سبق أنها آية من القرآن لا شك، مستقلة، لا تابعة لا للتي قبلها ولا للتي بعدها، مستقلة، لكن يؤتى بها لابتداء السورة، يؤتى بها لابتداء السورة، كل سورة تبتدئ بالبسملة إلا واحدة من السور وهي براءة، فإنه لم يثبت عند الصحابة أن الرسول ﷺ ابتدأها بالبسملة؛ ولذلك جعلوا فاصلا بينها وبين الأنفال ولم يجعلوا بسملة؛ لأنهم ترددوا هل هي من بقية الأنفال أو هي مستقلة، فقالوا: نجعل الفاصل ولا نجعل البسملة، إنما البسملة آية مستقلة تبتدئ بها كل سورة حتى الفاتحة وهي أول السور تبتدئ بها، وهل هي من السورة؟ قلنا: لا، وعلى هذا فما يوجد في المصحف الآن المرقم في الفاتحة خاصة فيها رقم واحد على أنها أول آية من الفاتحة هو قول مرجوح، والراجح أنها ليست آية من الفاتحة، وقد مر علينا بيان رجحان هذا القول. 
* طالب: شيخ، ندعو الله أن ينصرنا على الكافرين ونحن ما نستطيع أن نقاتلهم ولكن ندعو الله ولا نقاتلهم إما أن يقوينا فنقاتلهم أو ينصرنا عليهم؟ 
* الشيخ: إي نعم، هو يسأل، يقول: نحن ندعو الله أن ينصرنا على القوم الكافرين، واحنا ما عندنا سلاح نقاوم به، نقول: النصرة على القوم الكافرين بأن يهيئ الله لنا أسلحة نقاومهم بها، أو يدمر أسلحتهم، تدمير أسلحتهم نصر لنا ولَّا لا. 
* طالب: شيخ، الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر ٩] خلاف العلماء في كون البسملة آية أو غير آية، ألا يؤدي ذلك إلى حذف البسملة؟ 
* الشيخ: لا لا، أعوذ بالله! هل حذفت من المصحف؟ حفظت. 
* طالب: (...) 
* الشيخ: لا لا نقول: آية بالاتفاق أنها آية، لكن هل هي من السورة اللي بعدها أو لأ، الخلاف في العدد. 
* * *
* طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم ﴿الم (١) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ﴾ [آل عمران ١ - ٤] 
* الشيخ: ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ تبع للي قبلها. 
* طالب: ﴿وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾ [آل عمران٣، ٤]. 
* الشيخ: بس، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، تقدم الكلام على البسملة إعرابا ومعنى ومحلًا، وتقدم الكلام أيضًا على الحروف الهجائية التي ابتدئت بها السور. 
الحروف الهجائية التي ابتدأ الله بها بعض السور قيل: إنها رموز وإشارات إلى أشياء، وعينها بعض المفسرين، وقيل: إنها حروف لا ندري ما معناها، فالله أعلم بما أراد بها، وقيل: بل هي حروف هجائية ليس لها معنى، وهذا القول هو الصحيح؛ وذلك لأن هذا القرآن نزل باللسان العربي المبين، واللسان العربي لا يعطي هذه الحروف الهجائية معنى، وإذا كان لا يعطيها معنى فبمقتضى نزوله به أن لا يكون لها معنى، لكن قال بعض حذاق العلماء: إن لها مغزى؛ أي هذه الحروف لها مغزى وهو: أن هذا القرآن الذي أعجز فصحاء البلاغة العرب العرباء إنما كان بالحروف التي هم يعرفونها، ويركبون كلامهم منها ومع ذلك أعجزهم، يعني لو جاء بلسان غير عربي لقالوا: نعجز عنه، لكن جاء باللسان العربي الذي يُكَوِّنون كلامهم بالحروف التي كان بها هذا القرآن، قال: ولهذا لا تكاد تجد سورة مبدوءة بهذه الحروف الهجائية إلا وبعدها ذكر القرآن، وهذا ما قاله الزمخشري وشيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من أهل العلم. 
وقوله: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ هذه جملة مكونة من مبتدأ وخبر، فالله مبتدأ، وجملة ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ خبر المبتدأ، لكن هذه الجملة جملة أيضًا، لكنها تسمى عند النحويين جملة صغرى؛ لأن الخبر إذا وقع جملة فهو جملة صغرى، والكبرى: مجموع المبتدأ والخبر. 
وقوله: ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ خبران آخران. ﴿الْحَيُّ﴾ خبر ل﴿اللَّهُ﴾ ثان، و﴿الْقَيُّومُ﴾ خبر ثالث. 
فقوله: ﴿اللَّهُ﴾ علم على الذات المقدسة، علم على الرب عز وجل، وأصله الإله بمعنى المألوه، وحذفت الهمزة تخفيفا كما حذفت الهمزة من خير وشر في مثل قول الرسول ﷺ: «خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا، وَشَرُّهَا آخِرُهَا»(٢١) أي أخيرها وأشرها، وكما حذفت الهمزة أيضًا من: الناس، وأصلها: أناس. 
﴿اللَّهُ﴾ علم على الذات المقدسة، وهو أعلم المعارف على الإطلاق، هو أعلم المعارف على الإطلاق، ومعناه: المعبود حبًّا وتعظيمًا، فهو فعال بمعنى مفعول، وما أكثر ما يأتي فعال بمعنى مفعول، كغراس بمعنى مغروس، وبناء بمعنى مبني. 
وقوله: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ أي: لا معبود حق إلا هو، فإله اسم لا النافية للجنس، وخبرها محذوف تقديره: حق، وهناك آلهة باطلة ولكنها آلهة وضعت عليها الأسماء بدون حق، كما قال الله تعالى: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا﴾ [يوسف ٤٠]. 
وقال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (٢١) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ﴾ [النجم ١٩ - ٢٣]. 
وبهذا التقدير للخبر في ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ يزول الإشكال، وهو أنه كيف ينفى الإله في مثل هذه الجملة ويثبت في مثل قوله: ﴿فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [هود ١٠١]؟ 
والجمع: أن تلك الآلهة أيش؟ باطلة، وأما الإله في: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ فهو إله حق ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ﴾ [الحج ٦٢].
وقوله: ﴿هو﴾ هذا ضمير وليس اسمًا، بدليل قوله: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ [محمد ١٩] هذا علم ولَّا ضمير؟ 
* الطلبة: علم. 
* الشيخ: علم، وبدليل قوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء ٢٥] وأنا هنا ضمير، فعلى هذا نقول: أنا وهو في قوله: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا﴾ [النحل ٢] وقوله: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ كلاهما ضمير رفع منفصل، كلاهما ضمير رفع منفصل، فكما أن الذاكر لا يقول: لا إله إلا أنا، أو كما أن الذاكر لا يجعل أنا اسما لله فلا يجوز أن يجعل هو اسما لله، وبهذا نعرف بطلان ذكر الصوفية الذين يذكرون الله بلفظ: هو هو، ويرون أن هذا الذكر أفضل الأذكار، وهو ذكر باطل. 
وقوله: ﴿الْحَيُّ﴾ أل هنا للاستغراق؛ أي الكامل الحياة، وحياة الله عز وجل كاملة في وجودها، وكاملة في زمنها، فهو حي لا أول له، ولا نهاية له، حياته لم تسبق بعدم ولا يلحقها زوال، هي أيضًا كاملة حال وجودها، لا يدخلها نقص بوجه من الوجوه، فهو كامل في سمعه، وعلمه، وقدرته، وجميع صفاته. 
إذا رأينا الآدمي، بل إذا رأينا غير الله عز وجل وجدنا أنه ناقص في حياته زمنًا ووجودًا، فحياته مسبوقة بماذا؟ بعدم، ملحوقة بزوال وفناء، هي أيضًا ناقصة في وجودها، هل هو كامل السمع؟ الحي ليس كامل السمع، ولا البصر، ولا العلم، ولا القدرة، كل حي فهو ناقص، إذن حياته ناقصة في الوجود والزمن، ففي الزمن مسبوقة بعدم وملحوقة بزوال، وفي الوجود ناقصة في جميع الصفات. وقوله: ﴿الْقَيُّومُ﴾ على وزن فيعول، وهو مأخوذ من القيام، ومعناه: القائم بنفسه، القائم على غيره، القائم بنفسه فلا يحتاج إلى أحد، والقائم على غيره فكل أحد محتاج إليه، وفي الجمع بين الاسمين الكريمين: ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ في الجمع بينهما استغراق لجميع ما يوصف الله به لجميع الكمالات، ففي ﴿الْحَيّ﴾ كمال الصفات، وفي ﴿الْقَيُّومُ﴾ كمال الأفعال، وفيهما جميعا كمال الذات. ﴿الْحَيُّ﴾ كمال الصفات، ﴿الْقَيُّومُ﴾ كمال الأفعال، وباجتماعهما كمال الذات، فهو كامل الصفات والأفعال والذات. 
* * *
* طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم ﴿الم (١) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (٤) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾ [آل عمران ١ - ٥]. 
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، سبق لنا تفسير قوله تعالى: ﴿الم (١) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ وبينا أن القول الراجح في ﴿ألم﴾ وأخواتها. 
* طالب: ما اختاروا (...) أنها -الحروف المقطعة- لا معنى لها؟ 
* الشيخ: لا، هو ما قال لا معنى لها. 
* طالب: ألا تدل على المغزى أن هذا القرآن الذي يعجزكم أنه مكون من هذه الحروف لذلك كلما ذكر الحروف يذكر بعدها شيء من القرآن من ذكره أو (...)؟ 
* الشيخ: طيب. 
* الطالب: قلنا إن القرآن نزل باللغة العربية. 
* الشيخ: لا لا. 
* طالب: هي لا معنى لها بذاتها، ولكن لها مغزى. 
* الشيخ: ولكن لها مغزى، طيب. ما هو الدليل على أنه ليس لها معنى في ذاتها؟ 
* طالب: الدليل أنها دائمًا يعقبها في القرآن.. 
* الشيخ: الدليل على أنه ليس لها معنى؟ 
* طالب: أن القرآن بلسان عربي مبين، وهذه الحروف بلسان عربي مبين ليس لها معنى. 
* الشيخ: صح، الدليل أن القرآن نزل باللسان العربي المبين وهذه الحروف ليس لها معنى في اللغة العربية في ذاتها، إذن ليس لها معنى. طيب ما الدليل على أن لها مغزى؟ 
* طالب: هذه الحروف يعقبها القرآن. 
* الشيخ: ذكر القرآن والتحدث عنه. 
* الطالب: ثاني شيء: يعني إن هذه الحروف التي أنتم تعرفونها وتتحدثون بها يعني القرآن الكريم مركب منها. 
* الشيخ: كان منها أحسن من كلمة مركب كان منها. قوله: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُو﴾ ما معناها؟ 
* طالب: لا معبود بحق إلا الله سبحانه وتعالى. 
* الشيخ: لا معبود بحق؟ لا معبود حق إلا الله. لماذا لا نقول: إن النفي مسلط على ما بعد إلا؟ يعني لا إله إلا الله، ما يوجد إله إلا الله؟ 
* طالب: لأنه توجد آلهة لكن هي باطلة، يعني نحصرها بحق. 
* الشيخ: أحسنت، نعم، نقول: لا يمكن أن ننفي الألوهية مطلقا؛ لأن غير الله قد يسمى إلها. 
ما هو الدليل على إطلاق الإله على غير الله؟ 
* طالب: قوله تعالى: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا﴾ [مريم ٨١].
* الشيخ: نعم، ﴿وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ﴾ [الإسراء ٣٩]، ﴿فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [هود ١٠١]. 
﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ ذكرنا أنهما يشتملان على اسم الله الأعظم، فلماذا؟ 
* طالب: لأن لها معنيان: المعنى الزمني لم يسبقه العدم. 
* الشيخ: لا. 
* طالب: لأنهما اسمان يتضمنان الصفات الفعلية والذاتية. 
* الشيخ: صح، الكمال الذاتي والفعلي، ففي ﴿الْحَيُّ﴾ الكمال الذاتي، و﴿الْقَيُّومُ﴾ الكمال الفعلي؛ لذلك كانا متضمنين لجميع الكمال، الذاتي والفعلي. ﴿الْحَيُّ﴾ تفسيره؟ 
* طالب: الحي الذي لا يموت ولا.. 
* الشيخ: يعني ذو الحياة الكاملة التي لم تُسبق؟ 
* الطالب: بعدم. 
* الشيخ: ولا يَلحقها؟ 
* الطالب: زوال. 
* الشيخ: زوال. ﴿الْقَيُّومُ﴾؟ 
* طالب: هو القائم بنفسه، والقائم على.. 
* الشيخ: على غيره، القائم بنفسه والقائم على غيره. الدليل على قيامه بنفسه؟ 
* طالب: أن الله سبحانه وتعالى غني عن العالمين لا يحتاج إلى أحد. 
* الشيخ: نعم 
* طالب: أما الدليل أن كل ما سواه.. 
* الشيخ: إذن وصف الغنى مثل و﴿هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ ﴿فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [التغابن ٦] هذا قيامه بنفسه، قيامه على غيره ما هو الدليل؟ 
* طالب: أن العباد كلهم فقراء إلى الله سبحانه وتعالى. 
* الشيخ: ما هو الدليل؟ ما هو التعليل؟ 
* الطالب: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ﴾ [فاطر ١٥]. 
* الشيخ: وغيره، فيه آية صريحة في الموضوع؟ 
* طالب: قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ [الرعد ٣٣] 
* الشيخ: صحيح، قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ يعني كمن لا يقوم بنفسه. تصريف القيوم في اللغة العربية؟ تصريف القيوم في اللغة العربية كيف هو؟ 
* طالب: على وزن فيعول. 
* الشيخ: على وزن فيعول، وماذا تدل عليه هذه الصيغة؟ 
* طالب: تدل على (...) سبحانه وتعالى. 
* الشيخ: لا، هذه الصيغة؛ لأن أصلها قائم حولت إلى قيوم، فحول فاعل إلى فيعول؟ 
* طالب: يقوم على غيره ويقوم بنفسه. 
* طالب آخر: تدل على الكثرة والمبالغة. 
* الشيخ: المبالغة، صح. 
* * *
قال الله تعالى: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ [آل عمران ٣] ﴿نَزَّلَ﴾ التنزيل يكون من أعلى إلى أسفل، ويكون بالتدريج شيئًا فشيئًا؛ كما قال الله تعالى: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا﴾ [الإسراء ١٠٦]، وقال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ [الفرقان ٣٢]. 
يعني نزلناه ليس جملة واحدة، فقوله: ﴿نزل﴾ يفيد أن هذا القرآن من عند الله، وأنه نزل أيش؟ بالتدريج ليس مرة واحدة، وقوله: ﴿عَلَيْكَ﴾ الضمير يعود على الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد بين الله تعالى في آية أخرى أنه نزل على قلب الرسول ﷺ؛ ليكون أدل على وعيه لهذا القرآن الذي نزل عليه. 
وقوله: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ الكتاب هو هذا القرآن، وهو فعال بمعنى مفعول؛ لأنه مكتوب، فهو كتاب؛ لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ؛ كما قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ﴾ [الواقعة ٧٧، ٧٨] اللوح المحفوظ، وهو كتاب في الصحف التي بأيدي الملائكة ﴿فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ﴾ [عبس ١٢، ١٣]، وهو كتاب في الصحف التي بأيدينا.

(١) متفق عليه، البخاري (٢٢٧٦)، ومسلم (٢٢٠١ / ٦٥) من حديث أبي سعيد الخدري.
(٢) أخرجه مسلم (٣٩٥) (٣٨).
(٣) وهي قراءة: نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وحمزة. راجع التيسير في القراءات السبع (ص٢٧).
(٤) وهي قراءة قنبل عن ابن كثير، والباقون بالصاد الخالصة. راجع التيسير في القراءات السبع (ص٢٧). 
(٥) قراءة حمزة بضم الهاء، والباقون بكسرها. انظر التيسير (ص٢٧).
(٦) أخرجه البخاري (١٢٧).
(٧) أخرجه مسلم في المقدمة (٥).
(٨) متفق عليه. البخاري (٢٤١٩)، ومسلم (٨١٨ / ٢٧١) من حديث عمر بن الخطاب.
(٩) متفق عليه، البخاري (٥٢٧٩)، ومسلم (١٥٠٤ / ١٤) من حديث عائشة.
(١٠) أخرج مسلم في صحيحه (٨٠٤ / ٢٥٢) من حديث أبي أمامة مرفوعا: «اقرءوا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران».
(١١) انظر مجموع الفتاوى (٢٠ / ٤٢٣).
(١٢) متفق عليه، البخاري (٣٣٤٨)، ومسلم (٢٢٢ / ٣٧٩) من حديث أبي سعيد الخدري.
(١٣) أخرجه مسلم (٨٦٧ / ٤٣) من حديث جابر بن عبد الله.
(١٤) متفق عليه، البخاري (٧٥٧)، ومسلم (٣٩٧ / ٤٥) من حديث أبي هريرة.
(١٥) أخرجه ابن ماجه (١٠٦٠)، وأحمد (١٨٩٩٧).
(١٦)  العقيدة الواسطية (ص٩٣).
(١٧) أخرجه البخاري (٣٤٨٤) من حديث أبي مسعود البدري.
(١٨) متفق عليه، أخرجه البخاري (٣٣)، ومسلم (٥٩/١٠٧) من حديث أبي هريرة.
(١٩) انظر: أعلام الموقعين لابن القيم (٣/٢٣٤) ط. دار الجيل.
(٢٠) متفق عليه؛ البخاري (٩٨٥) ومسلم (١٩٦٠ / ١)، من حديث جندب بن سفيان. 
(٢١) أخرجه مسلم (٤٤٠ / ١٣٢)، من حديث أبي هريرة. 
   
مفاتيح الغيب — فخر الدين الرازي (٦٠٦ هـ)

﴿ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ﴾ [البقرة ٣]
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾
اعْلَمْ أنَّ فِيهِ مَسائِلَ:
المَسْألَةُ الأُولى: قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ﴾ إمّا مَوْصُولٌ بِالمُتَّقِينَ عَلى أنَّهُ صِفَةٌ مَجْرُورَةٌ، أوْ مَنصُوبٌ أوْ مَدْحٌ مَرْفُوعٌ بِتَقْدِيرِ أعْنِي الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ، أوْ هُمُ الَّذِينَ، وإمّا مُنْقَطِعٌ عَنِ المُتَّقِينَ مَرْفُوعٌ عَلى الِابْتِداءِ مُخْبَرٌ عَنْهُ ﴿أُولَئِكَ عَلى هُدًى﴾ فَإذا كانَ مَوْصُولًا كانَ الوَقْفُ عَلى المُتَّقِينَ حَسَنًا غَيْرَ تامٍّ، وإذا كانَ مُنْقَطِعًا كانَ وقْفًا تامًّا.
* * *
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ بَعْضُهم: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ كالتَّفْسِيرِ لِكَوْنِهِمْ مُتَّقِينَ، وذَلِكَ لِأنَّ المُتَّقِيَ هو الَّذِي يَكُونُ فاعِلًا لِلْحَسَناتِ وتارِكًا لِلسَّيِّئاتِ، أمّا الفِعْلُ فَإمّا أنْ يَكُونَ فِعْلَ القَلْبِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ﴾ - وإمّا أنْ يَكُونَ فِعْلَ الجَوارِحِ، وأساسُهُ الصَّلاةُ والزَّكاةُ والصَّدَقَةُ؛ لِأنَّ العِبادَةَ إمّا أنْ تَكُونَ بَدَنِيَّةً وأجَلُّها الصَّلاةُ، أوْ مالِيَّةً، وأجَلُّها الزَّكاةُ؛ ولِهَذا سَمّى الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«الصَّلاةُ عِمادُ الدِّينِ، والزَّكاةُ قَنْطَرَةُ الإسْلامِ» “ وأمّا التَّرْكُ فَهو داخِلٌ في الصَّلاةِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿اتْلُ ما أُوحِيَ إلَيْكَ مِنَ الكِتابِ﴾ [العَنْكَبُوتِ: ٤٥] والأقْرَبُ أنْ لا تَكُونَ هَذِهِ الأشْياءُ تَفْسِيرًا لِكَوْنِهِمْ مُتَّقِينَ؛ وذَلِكَ لِأنَّ كَمالَ السَّعادَةِ لا يَحْصُلُ إلّا بِتَرْكِ ما لا يَنْبَغِي وفِعْلِ ما يَنْبَغِي، فالتَّرْكُ هو التَّقْوى، والفِعْلُ إمّا فِعْلُ القَلْبِ، وهو الإيمانُ، أوْ فِعْلُ الجَوارِحِ، وهو الصَّلاةُ والزَّكاةُ، وإنَّما قَدَّمَ التَّقْوى الَّذِي هو التَّرْكُ عَلى الفِعْلِ الَّذِي هو الإيمانُ والصَّلاةُ والزَّكاةُ، لِأنَّ القَلْبَ كاللَّوْحِ القابِلِ لِنُقُوشِ العَقائِدِ الحَقَّةِ والأخْلاقِ الفاضِلَةِ، واللَّوْحُ يَجِبُ تَطْهِيرُهُ أوَّلًا عَنِ النُّقُوشِ الفاسِدَةِ، حَتّى يُمْكِنَ إثْباتُ النُّقُوشِ الجَيِّدَةِ فِيهِ، وكَذا القَوْلُ في الأخْلاقِ، فَلِهَذا السَّبَبِ قَدَّمَ التَّقْوى وهو تَرْكُ ما لا يَنْبَغِي، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ فِعْلَ ما يَنْبَغِي.
* * *
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: الإيمانُ إفْعالٌ مِنَ الأمْنِ، ثُمَّ يُقالُ: آمَنَهُ، إذا صَدَقَهُ، وحَقِيقَتُهُ آمَنَهُ مِنَ التَّكْذِيبِ والمُخالَفَةِ، وأمّا تَعْدِيَتُهُ بِالباءِ فَلِتَضَمُّنِهِ مَعْنى ”أُقِرُّ وأعْتَرِفُ“ وأمّا ما حَكى أبُو زَيْدٍ: ما آمَنتُ أنْ أجِدَ صَحابَةً، أيْ ما وثِقْتُ، فَحَقِيقَتُهُ صِرْتُ ذا أمْنٍ، أيْ ذا سُكُونٍ وطُمَأْنِينَةٍ، وكِلا الوَجْهَيْنِ حَسَنٌ في ﴿يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ﴾ أيْ يَعْتَرِفُونَ بِهِ أوْ يَثِقُونَ بِأنَّهُ حَقٌّ. وأقُولُ: اخْتَلَفَ أهْلُ القِبْلَةِ في مُسَمّى الإيمانِ في عُرْفِ الشَّرْعِ، ويَجْمَعُهم فِرَقٌ أرْبَعُ.
الفِرْقَةُ الأُولى: الَّذِينَ قالُوا: الإيمانُ اسْمٌ لِأفْعالِ القُلُوبِ والجَوارِحِ والإقْرارِ بِاللِّسانِ، وهُمُ المُعْتَزِلَةُ والخَوارِجُ والزَّيْدِيَّةُ، وأهْلُ الحَدِيثِ، أمّا الخَوارِجُ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلى أنَّ الإيمانَ بِاللَّهِ يَتَناوَلُ المَعْرِفَةَ بِاللَّهِ وبِكُلِّ ما وضَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ دَلِيلًا عَقْلِيًّا أوْ نَقْلِيًّا مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ، ويَتَناوَلُ طاعَةَ اللَّهِ في جَمِيعِ ما أمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الأفْعالِ والتُّرُوكِ صَغِيرًا كانَ أوْ كَبِيرًا، فَقالُوا: مَجْمُوعُ هَذِهِ الأشْياءِ هو الإيمانُ، وتَرْكُ كُلِّ خَصْلَةٍ مِن هَذِهِ الخِصالِ كُفْرٌ، وأمّا المُعْتَزِلَةُ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلى أنَّ الإيمانَ إذا عُدِّيَ بِالباءِ فالمُرادُ بِهِ التَّصْدِيقُ، ولِذَلِكَ يُقالُ: فُلانٌ آمَنَ بِاللَّهِ وبِرَسُولِهِ، ويَكُونُ المُرادُ التَّصْدِيقَ، إذِ الإيمانُ بِمَعْنى أداءِ الواجِباتِ لا يُمْكِنُ فِيهِ هَذِهِ التَّعْدِيَةُ، فَلا يُقالُ: فُلانٌ آمَنَ بِكَذا إذا صَلّى وصامَ، بَلْ يُقالُ: فُلانٌ آمَنَ بِاللَّهِ كَما يُقالُ: صامَ وصَلّى لِلَّهِ، فالإيمانُ المُعَدّى بِالباءِ يَجْرِي عَلى طَرِيقَةِ أهْلِ اللُّغَةِ، أمّا إذا ذُكِرَ مُطْلَقًا غَيْرَ مُعَدًّى فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلى أنَّهُ مَنقُولٌ مِنَ المُسَمّى اللُّغَوِيِّ الَّذِي هو التَّصْدِيقُ إلى مَعْنًى آخَرَ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلى وُجُوهٍ:
أحَدُها: أنَّ الإيمانَ عِبارَةٌ عَنْ فِعْلِ كُلِّ الطّاعاتِ سَواءٌ كانَتْ واجِبَةً أوْ مَندُوبَةً، أوْ مِن بابِ الأقْوالِ أوِ الأفْعالِ أوِ الِاعْتِقاداتِ، وهو قَوْلُ واصِلِ بْنِ عَطاءٍ وأبِي الهُذَيْلِ والقاضِي عَبْدِ الجَبّارِ بْنِ أحْمَدَ.
وثانِيها: أنَّهُ عِبارَةٌ عَنْ فِعْلِ الواجِباتِ فَقَطْ دُونَ النَّوافِلِ، وهو قَوْلُ أبِي عَلِيٍّ وأبِي هاشِمٍ.
وثالِثُها: أنَّ الإيمانَ عِبارَةٌ عَنِ اجْتِنابِ كُلِّ ما جاءَ فِيهِ الوَعِيدُ، فالمُؤْمِنُ عِنْدَ اللَّهِ كُلُّ مَنِ اجْتَنَبَ كُلَّ الكَبائِرِ، والمُؤْمِنُ عِنْدَنا كُلُّ مَنِ اجْتَنَبَ كُلَّ ما ورَدَ فِيهِ الوَعِيدُ، وهو قَوْلُ النَّظّامِ، ومِن أصْحابِهِ مَن قالَ: شَرْطُ كَوْنِهِ مُؤْمِنًا عِنْدَنا وعِنْدَ اللَّهِ اجْتِنابُ الكَبائِرِ كُلِّها. وأمّا أهْلُ الحَدِيثِ فَذَكَرُوا وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّ المَعْرِفَةَ إيمانٌ كامِلٌ وهو الأصْلُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ كُلُّ طاعَةٍ إيمانٌ عَلى حِدَةٍ، وهَذِهِ الطّاعاتُ لا يَكُونُ شَيْءٌ مِنها إيمانًا إلّا إذا كانَتْ مُرَتَّبَةً عَلى الأصْلِ الَّذِي هو المَعْرِفَةُ. وزَعَمُوا أنَّ الجُحُودَ وإنْكارَ القَلْبِ كُفْرٌ، ثُمَّ كَلُّ مَعْصِيَةٍ بَعْدَهُ كُفْرٌ عَلى حِدَةٍ، ولَمْ يَجْعَلُوا شَيْئًا مِنَ الطّاعاتِ إيمانًا ما لَمْ تُوجَدِ المَعْرِفَةُ والإقْرارُ، ولا شَيْئًا مِنَ المَعاصِي كُفْرًا ما لَمْ يُوجَدِ الجُحُودُ والإنْكارُ، لِأنَّ الفَرْعَ لا يَحْصُلُ بِدُونِ ما هو أصْلُهُ، وهو قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كِلابٍ.
الثّانِي: زَعَمُوا أنَّ الإيمانَ اسْمٌ لِلطّاعاتِ كُلِّها، وهو إيمانٌ واحِدٌ، وجَعَلُوا الفَرائِضَ والنَّوافِلَ كُلَّها مِن جُمْلَةِ الإيمانِ، ومَن تَرَكَ شَيْئًا مِنَ الفَرائِضِ فَقَدِ انْتَقَصَ إيمانُهُ، ومَن تَرَكَ النَّوافِلَ لا يَنْتَقِصُ إيمانُهُ، ومِنهم مَن قالَ: الإيمانُ اسْمٌ لِلْفَرائِضِ دُونَ النَّوافِلِ.
الفِرْقَةُ الثّانِيَةُ: الَّذِينَ قالُوا: الإيمانُ بِالقَلْبِ واللِّسانِ مَعًا، وقَدِ اخْتَلَفَ هَؤُلاءِ عَلى مَذاهِبَ، الأوَّلُ: أنَّ الإيمانَ إقْرارٌ بِاللِّسانِ ومَعْرِفَةٌ بِالقَلْبِ، وهو قَوْلُ أبِي حَنِيفَةَ وعامَّةِ الفُقَهاءِ، ثُمَّ هَؤُلاءِ اخْتَلَفُوا في مَوْضِعَيْنِ، أحَدُهُما: اخْتَلَفُوا في حَقِيقَةِ هَذِهِ المَعْرِفَةِ، فَمِنهم مَن فَسَّرَها بِالِاعْتِقادِ الجازِمِ سَواءٌ كانَ اعْتِقادًا تَقْلِيدِيًّا أوْ كانَ عِلْمًا صادِرًا عَنِ الدَّلِيلِ وهُمُ الأكْثَرُونَ الَّذِينَ يَحْكُمُونَ بِأنَّ المُقَلِّدَ مُسْلِمٌ، ومِنهم مَن فَسَّرَها بِالعِلْمِ الصّادِرِ عَنِ الِاسْتِدْلالِ. وثانِيهِما: اخْتَلَفُوا في أنَّ العِلْمَ المُعْتَبَرَ في تَحَقُّقِ الإيمانِ عِلْمٌ بِماذا ؟ قالَ بَعْضُ المُتَكَلِّمِينَ: هو العِلْمُ بِاللَّهِ وبِصِفاتِهِ عَلى سَبِيلِ التَّمامِ والكَمالِ، ثُمَّ إنَّهُ لَمّا كَثُرَ اخْتِلافُ الخَلْقِ في صِفاتِ اللَّهِ تَعالى لا جَرَمَ أقْدَمَ كُلُّ طائِفَةٍ عَلى تَكْفِيرِ مَن عَداها مِنَ الطَّوائِفِ. وقالَ أهْلُ الإنْصافِ: المُعْتَبَرُ هو العِلْمُ بِكُلِّ ما عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ كَوْنُهُ مِن دِينِ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَعَلى هَذا القَوْلِ العِلْمُ بِكَوْنِهِ تَعالى عالِمًا بِالعِلْمِ أوْ عالِمًا لِذاتِهِ وبِكَوْنِهِ مَرْئِيًّا أوْ غَيْرِهِ لا يَكُونُ داخِلًا في مُسَمّى الإيمانِ. القَوْلُ الثّانِي: أنَّ الإيمانَ هو التَّصْدِيقُ بِالقَلْبِ واللِّسانِ مَعًا، وهو قَوْلُ بِشْرِ بْنِ عَتّابٍ المَرِيسِيِّ، وأبِي الحَسَنِ الأشْعَرِيِّ، والمُرادُ مِنَ التَّصْدِيقِ بِالقَلْبِ الكَلامُ القائِمُ بِالنَّفْسِ. القَوْلُ الثّالِثُ: قَوْلُ طائِفَةٍ مِنَ الصُّوفِيَّةِ: الإيمانُ إقْرارٌ بِاللِّسانِ، وإخْلاصٌ بِالقَلْبِ.
الفِرْقَةُ الثّالِثَةُ: الَّذِينَ قالُوا: الإيمانُ عِبارَةٌ عَنْ عَمَلِ القَلْبِ فَقَطْ، وهَؤُلاءِ قَدِ اخْتَلَفُوا عَلى قَوْلَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ الإيمانَ عِبارَةٌ عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ بِالقَلْبِ، حَتّى أنَّ مَن عَرَفَ اللَّهَ بِقَلْبِهِ ثُمَّ جَحَدَ بِلِسانِهِ وماتَ قَبْلَ أنْ يُقِرَّ بِهِ فَهو مُؤْمِنٌ كامِلُ الإيمانِ، وهو قَوْلُ جَهْمِ بْنِ صَفْوانَ. أمّا مَعْرِفَةُ الكُتُبِ والرُّسُلِ واليَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ زَعَمَ أنَّها غَيْرُ داخِلَةٍ في حَدِّ الإيمانِ. وحَكى الكَعْبِيُّ عَنْهُ: أنَّ الإيمانَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ مَعَ مَعْرِفَةِ كُلِّ ما عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ كَوْنُهُ مِن دِينِ مُحَمَّدٍ ﷺ . وثانِيهِما: أنَّ الإيمانَ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ بِالقَلْبِ، وهو قَوْلُ الحُسَيْنِ بْنِ الفَضْلِ البَجَلِيِّ.
الفِرْقَةُ الرّابِعَةُ: الَّذِينَ قالُوا: الإيمانُ هو الإقْرارُ بِاللِّسانِ فَقَطْ، وهم فَرِيقانِ: الأوَّلُ: أنَّ الإقْرارَ بِاللِّسانِ هو الإيمانُ فَقَطْ، لَكِنَّ شَرْطَ كَوْنِهِ إيمانًا حُصُولُ المَعْرِفَةِ في القَلْبِ، فالمَعْرِفَةُ شَرْطٌ لِكَوْنِ الإقْرارِ اللِّسانِيِّ إيمانًا، لا أنَّها داخِلَةٌ في مُسَمّى الإيمانِ، وهو قَوْلُ غَيْلانَ بْنِ مُسْلِمٍ الدِّمَشْقِيِّ والفَضْلِ الرَّقاشِيِّ، وإنْ كانَ الكَعْبِيُّ قَدْ أنْكَرَ كَوْنَهُ قَوْلًا لِغَيْلانَ. الثّانِي: أنَّ الإيمانَ مُجَرَّدُ الإقْرارِ بِاللِّسانِ، وهو قَوْلُ الكَرّامِيَّةِ، وزَعَمُوا أنَّ المُنافِقَ مُؤْمِنُ الظّاهِرِ كافِرُ السَّرِيرَةِ، فَثَبَتَ لَهُ حُكْمُ المُؤْمِنِينَ في الدُّنْيا وحُكْمُ الكافِرِينَ في الآخِرَةِ، فَهَذا مَجْمُوعُ أقْوالِ النّاسِ في مُسَمّى الإيمانِ في عُرْفِ الشَّرْعِ، والَّذِي نَذْهَبُ إلَيْهِ أنَّ الإيمانَ عِبارَةٌ عَنِ التَّصْدِيقِ بِالقَلْبِ ونَفْتَقِرُ هَهُنا إلى شَرْحِ ماهِيَّةِ التَّصْدِيقِ بِالقَلْبِ، فَنَقُولُ: إنَّ مَن قالَ العالَمُ مُحْدَثٌ، فَلَيْسَ مَدْلُولُ هَذِهِ الألْفاظِ كَوْنَ العالَمِ مَوْصُوفًا بِالحُدُوثِ، بَلْ مَدْلُولُها حُكْمُ ذَلِكَ القائِلِ بِكَوْنِ العالَمِ حادِثًا، والحُكْمُ بِثُبُوتِ الحُدُوثِ لِلْعالَمِ مُغايِرٌ لِثُبُوتِ الحُدُوثِ لِلْعالَمِ، فَهَذا الحُكْمُ الذِّهْنِيُّ بِالثُّبُوتِ أوْ بِالِانْتِفاءِ أمْرٌ يُعَبَّرُ عَنْهُ في كُلِّ لُغَةٍ بِلَفْظٍ خاصٍّ، واخْتِلافُ الصِّيَغِ والعِباراتِ مَعَ كَوْنِ الحُكْمِ الذِّهْنِيِّ أمْرًا واحِدًا يَدُلُّ عَلى أنَّ الحُكْمَ الذِّهْنِيَّ أمْرٌ مُغايِرٌ لِهَذِهِ الصِّيَغِ والعِباراتِ، ولِأنَّ هَذِهِ الصِّيَغَ دالَّةٌ عَلى ذَلِكَ الحُكْمِ والدّالُّ غَيْرُ المَدْلُولِ، ثُمَّ نَقُولُ هَذا الحُكْمُ الذِّهْنِيُّ غَيْرُ العِلْمِ، لِأنَّ الجاهِلَ بِالشَّيْءِ قَدْ يَحْكُمُ بِهِ، فَعَلِمْنا أنَّ هَذا الحُكْمَ الذِّهْنِيَّ مُغايِرٌ لِلْعِلْمِ، فالمُرادُ مِنَ التَّصْدِيقِ بِالقَلْبِ هو هَذا الحُكْمُ الذِّهْنِيُّ، بَقِيَ هَهُنا بَحْثٌ لَفْظِيٌّ، وهو أنَّ المُسَمّى بِالتَّصْدِيقِ في اللُّغَةِ هو ذَلِكَ الحُكْمُ الذِّهْنِيُّ أمِ الصِّيغَةُ الدّالَّةُ عَلى ذَلِكَ الحُكْمِ الذِّهْنِيِّ، وتَحْقِيقُ القَوْلِ فِيهِ قَدْ ذَكَرْناهُ في أُصُولِ الفِقْهِ.
* * *
إذا عَرَفْتَ هَذِهِ المُقَدِّمَةَ فَنَقُولُ: الإيمانُ عِبارَةٌ عَنِ التَّصْدِيقِ بِكُلِّ ما عُرِفَ بِالضَّرُورَةِ كَوْنُهُ مِن دِينِ مُحَمَّدٍ ﷺ مَعَ الِاعْتِقادِ، فَنَفْتَقِرُ في إثْباتِ هَذا المَذْهَبِ إلى إثْباتِ قُيُودٍ أرْبَعَةٍ:
القَيْدُ الأوَّلُ: أنَّ الإيمانَ عِبارَةٌ عَنِ التَّصْدِيقِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: أنَّهُ كانَ في أصْلِ اللُّغَةِ لِلتَّصْدِيقِ، فَلَوْ صارَ في عُرْفِ الشَّرْعِ لِغَيْرِ التَّصْدِيقِ لَزِمَ أنْ يَكُونَ المُتَكَلِّمُ بِهِ مُتَكَلِّمًا بِغَيْرِ كَلامِ العَرَبِ، وذَلِكَ يُنافِي وصْفَ القُرْآنِ بِكَوْنِهِ عَرَبِيًّا.
الثّانِي: أنَّ الإيمانَ أكْثَرُ الألْفاظِ دَوَرانًا عَلى ألْسِنَةِ المُسْلِمِينَ، فَلَوْ صارَ مَنقُولًا إلى غَيْرِ مُسَمّاهُ الأصْلِيِّ لَتَوَفَّرَتِ الدَّواعِي عَلى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ المُسَمّى، ولاشْتَهَرَ وبَلَغَ إلى حَدِّ التَّواتُرِ، فَلَمّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنا أنَّهُ بَقِيَ عَلى أصْلِ الوَضْعِ.
الثّالِثُ: أجْمَعْنا عَلى أنَّ الإيمانَ المُعَدّى بِحَرْفِ الباءِ مُبْقًى عَلى أصْلِ اللُّغَةِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ غَيْرُ المُعَدّى كَذَلِكَ.
الرّابِعُ: أنَّ اللَّهَ تَعالى كُلَّما ذَكَرَ الإيمانَ في القُرْآنِ أضافَهُ إلى القَلْبِ، قالَ: ﴿مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنّا بِأفْواهِهِمْ ولَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ﴾ [البَقَرَةِ: ٤١] وقَوْلُهُ: ﴿وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمانِ﴾ [النَّحْلِ: ١٠٦] ﴿كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإيمانَ﴾ [المُجادَلَةِ: ٢٢] ﴿ولَكِنْ قُولُوا أسْلَمْنا ولَمّا يَدْخُلِ الإيمانُ في قُلُوبِكُمْ﴾ [الحُجُراتِ: ١٤]
الخامِسُ: أنَّ اللَّهَ تَعالى أيْنَما ذَكَرَ الإيمانَ قَرَنَ العَمَلَ الصّالِحَ بِهِ، ولَوْ كانَ العَمَلُ الصّالِحُ داخِلًا في الإيمانِ لَكانَ ذَلِكَ تَكْرارًا.
السّادِسُ: أنَّهُ تَعالى كَثِيرًا ذَكَرَ الإيمانَ وقَرَنَهُ بِالمَعاصِي، قالَ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمانَهم بِظُلْمٍ﴾ [الأنْعامِ: ٨٢] ﴿وإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإنْ بَغَتْ إحْداهُما عَلى الأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إلى أمْرِ اللَّهِ﴾ [الحُجُراتِ: ٩] واحْتَجَّ ابْنُ عَبّاسٍ عَلى هَذا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصاصُ في القَتْلى﴾ [البَقَرَةِ: ١٧٨] مِن ثَلاثَةِ أوْجُهٍ:
أحَدُهُما: أنَّ القِصاصَ إنَّما يَجِبُ عَلى القاتِلِ المُتَعَمِّدِ، ثُمَّ إنَّهُ خاطَبَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البَقَرَةِ: ١٧٨] فَدَلَّ عَلى أنَّهُ مُؤْمِنٌ.
وثانِيها: قَوْلُهُ: ﴿فَمَن عُفِيَ لَهُ مِن أخِيهِ شَيْءٌ﴾ [البَقَرَةِ: ١٧٨] وهَذِهِ الأُخُوَّةُ لَيْسَتْ إلّا أُخُوَّةَ الإيمانِ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّما المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ﴾ [الحُجُراتِ: ١٠] .
وثالِثُها: قَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِن رَبِّكم ورَحْمَةٌ﴾ [البَقَرَةِ: ١٧٨] وهَذا لا يَلِيقُ إلّا بِالمُؤْمِنِ، ومِمّا يَدُلُّ عَلى المَطْلُوبِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يُهاجِرُوا﴾ [الأنْفالِ: ٧٢] هَذا أبْقى اسْمَ الإيمانِ لِمَن لَمْ يُهاجِرْ مَعَ عِظَمِ الوَعِيدِ في تَرْكِ الهِجْرَةِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسِهِمْ﴾ [النَّحْلِ: ٢٨] وقَوْلِهِ: ﴿ما لَكم مِن ولايَتِهِمْ مِن شَيْءٍ حَتّى يُهاجِرُوا﴾ [الأنْفالِ: ٧٢] ومَعَ هَذا جَعَلَهم مُؤْمِنِينَ، ويَدُلُّ أيْضًا عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكم أوْلِياءَ﴾ [المُمْتَحِنَةِ: ١] وقالَ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ والرَّسُولَ وتَخُونُوا أماناتِكُمْ﴾ [الأنْفالِ: ٢٧] وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إلى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا﴾ [التَّحْرِيمِ: ٨] والأمْرُ بِالتَّوْبَةِ لِمَن لا ذَنْبَ لَهُ مُحالٌ، وقَوْلُهُ: ﴿وتُوبُوا إلى اللَّهِ جَمِيعًا أيُّها المُؤْمِنُونَ﴾ [النُّورِ: ٣١] لا يُقالُ فَهَذا يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ كُلُّ مُؤْمِنٍ مُذْنِبًا ولَيْسَ كَذَلِكَ قَوْلُنا: هَبْ أنَّهُ خَصَّ فِيما عَدا المُذْنِبَ، فَبَقِيَ فِيهِمْ حُجَّةٌ.
القَيْدُ الثّانِي: أنَّ الإيمانَ لَيْسَ عِبارَةً عَنِ التَّصْدِيقِ اللِّسانِيِّ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ آمَنّا بِاللَّهِ وبِاليَوْمِ الآخِرِ وما هم بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البَقَرَةِ: ٨] نَفى كَوْنَهم مُؤْمِنِينَ، ولَوْ كانَ الإيمانُ بِاللَّهِ عِبارَةً عَنِ التَّصْدِيقِ اللِّسانِيِّ لَما صَحَّ هَذا النَّفْيُ.
القَيْدُ الثّالِثُ: أنَّ الإيمانَ لَيْسَ عِبارَةً عَنْ مُطْلَقِ التَّصْدِيقِ لِأنَّ مَن صَدَّقَ بِالجِبْتِ والطّاغُوتِ لا يُسَمّى مُؤْمِنًا.
القَيْدُ الرّابِعُ: لَيْسَ مِن شَرْطِ الإيمانِ التَّصْدِيقُ بِجَمِيعِ صِفاتِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ؛ لِأنَّ الرَّسُولَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - كانَ يَحْكُمُ بِإيمانِ مَن لَمْ يَخْطُرْ بِبالِهِ كَوْنُهُ تَعالى عالِمًا لِذاتِهِ أوْ بِالعِلْمِ، ولَوْ كانَ هَذا القَيْدُ وأمْثالُهُ شَرْطًا مُعْتَبَرًا في تَحْقِيقِ الإيمانِ لَما جازَ أنْ يَحْكُمَ الرَّسُولُ بِإيمانِهِ قَبْلَ أنْ يُجَرِّبَهُ في أنَّهُ هَلْ يَعْرِفُ ذَلِكَ أمْ لا. فَهَذا هو بَيانُ القَوْلِ في تَحْقِيقِ الإيمانِ، فَإنْ قالَ قائِلٌ: هَهُنا صُورَتانِ: الصُّورَةُ الأُولى: مَن عَرَفَ اللَّهَ تَعالى بِالدَّلِيلِ والبُرْهانِ، ولَمّا تَمَّ العِرْفانُ ماتَ ولَمْ يَجِدْ مِنَ الزَّمانِ والوَقْتِ ما يَتَلَفَّظُ فِيهِ بِكَلِمَةِ الشَّهادَةِ، فَهَهُنا إنْ حَكَمْتُمْ أنَّهُ مُؤْمِنٌ فَقَدْ حَكَمْتُمْ بِأنَّ الإقْرارَ اللِّسانِيَّ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ في تَحْقِيقِ الإيمانِ، وهو خَرْقٌ لِلْإجْماعِ، وإنْ حَكَمْتُمْ بِأنَّهُ غَيْرُ مُؤْمِنٍ فَهو باطِلٌ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«يَخْرُجُ مِنَ النّارِ مَن كانَ في قَلْبِهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ مِن إيمانٍ» “ وهَذا قَلْبٌ طافِحٌ بِالإيمانِ، فَكَيْفَ لا يَكُونُ مُؤْمِنًا ؟
الصُّورَةُ الثّانِيَةُ: مَن عَرَفَ اللَّهَ تَعالى بِالدَّلِيلِ، ووَجَدَ مِنَ الوَقْتِ ما أمْكَنَهُ أنْ يَتَلَفَّظَ بِكَلِمَةِ الشَّهادَةِ، ولَكِنَّهُ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِها، فَإنْ قُلْتُمْ إنَّهُ مُؤْمِنٌ فَهو خَرْقٌ لِلْإجْماعِ، وإنْ قُلْتُمْ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ فَهو باطِلٌ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«يَخْرُجُ مِنَ النّارِ مَن كانَ في قَلْبِهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ مِنَ الإيمانِ» “ ولا يَنْتَفِي الإيمانُ مِنَ القَلْبِ بِالسُّكُوتِ عَنِ النُّطْقِ.
والجَوابُ: أنَّ الغَزالِيَّ مَنَعَ مِن هَذا الإجْماعِ في الصُّورَتَيْنِ، وحَكَمَ بِكَوْنِهِما مُؤْمِنَيْنِ، وأنَّ الِامْتِناعَ عَنِ النُّطْقِ يَجْرِي مَجْرى المَعاصِي الَّتِي يُؤْتى بِها مَعَ الإيمانِ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قِيلَ: ”الغَيْبُ“ مَصْدَرٌ أُقِيمَ مَقامِ اسْمِ الفاعِلِ، كالصَّوْمِ بِمَعْنى الصّائِمِ، والزَّوْرِ بِمَعْنى الزّائِرِ، ثُمَّ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ﴾ قَوْلانِ: الأوَّلُ: وهو اخْتِيارُ أبِي مُسْلِمٍ الأصْفَهانِيِّ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿بِالغَيْبِ﴾ صِفَةُ المُؤْمِنِينَ مَعْناهُ أنَّهم يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ حالَ الغَيْبِ كَما يُؤْمِنُونَ بِهِ حالَ الحُضُورِ، لا كالمُنافِقِينَ الَّذِينَ إذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا، وإذا خَلَوْا إلى شَياطِينِهِمْ قالُوا: إنّا مَعَكم إنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ. ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أنِّي لَمْ أخُنْهُ بِالغَيْبِ﴾ [يُوسُفَ: ٥٢] ويَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: نِعْمَ الصَّدِيقُ لَكَ فُلانٌ بِظَهْرِ الغَيْبِ، وكُلُّ ذَلِكَ مَدْحٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِكَوْنِ ظاهِرِهِمْ مُوافِقًا لِباطِنِهِمْ ومُبايَنَتِهِمْ لِحالِ المُنافِقِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِأفْواهِهِمْ ما لَيْسَ في قُلُوبِهِمْ، والثّانِي: وهو قَوْلُ جُمْهُورِ المُفَسِّرِينَ أنَّ الغَيْبَ هو الَّذِي يَكُونُ غائِبًا عَنِ الحاسَّةِ، ثُمَّ هَذا الغَيْبُ يَنْقَسِمُ إلى ما عَلَيْهِ دَلِيلٌ، وإلى ما لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ. فالمُرادُ مِن هَذِهِ الآيَةِ مَدْحُ المُتَّقِينَ بِأنَّهم يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ بِأنْ يَتَفَكَّرُوا ويَسْتَدِلُّوا فَيُؤْمِنُوا بِهِ، وعَلى هَذا يَدْخُلُ فِيهِ العِلْمُ بِاللَّهِ تَعالى وبِصِفاتِهِ والعِلْمُ بِالآخِرَةِ والعِلْمُ بِالنُّبُوَّةِ والعِلْمُ بِالأحْكامِ وبِالشَّرائِعِ، فَإنَّ في تَحْصِيلِ هَذِهِ العُلُومِ بِالِاسْتِدْلالِ مَشَقَّةً، فَيَصْلُحُ أنْ يَكُونَ سَبَبًا لِاسْتِحْقاقِ الثَّناءِ العَظِيمِ. واحْتَجَّ أبُو مُسْلِمٍ عَلى قَوْلِهِ بِأُمُورٍ: الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إلَيْكَ وما أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وبِالآخِرَةِ هم يُوقِنُونَ﴾ [البَقَرَةِ: ٤] إيمانٌ بِالأشْياءِ الغائِبَةِ فَلَوْ كانَ المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ﴾ هو الإيمانُ بِالأشْياءِ الغائِبَةِ لَكانَ المَعْطُوفُ نَفْسَ المَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وإنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ. الثّانِي: لَوْ حَمَلْناهُ عَلى الإيمانِ بِالغَيْبِ يَلْزَمُ إطْلاقُ القَوْلِ بِأنَّ الإنْسانَ يَعْلَمُ الغَيْبَ، وهو خِلافُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وعِنْدَهُ مَفاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُها إلّا هُوَ﴾ [الأنْعامِ: ٥٩] أمّا لَوْ فَسَّرْنا الآيَةَ بِما قُلْنا لا يَلْزَمُ هَذا المَحْذُورُ. الثّالِثُ: لَفْظُ الغَيْبِ إنَّما يَجُوزُ إطْلاقُهُ عَلى مَن يَجُوزُ عَلَيْهِ الحُضُورُ، فَعَلى هَذا لا يَجُوزُ إطْلاقُ لَفْظِ الغَيْبِ عَلى ذاتِ اللَّهِ تَعالى وصِفاتِهِ، فَقَوْلُهُ: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ﴾ لَوْ كانَ المُرادُ مِنهُ الإيمانَ بِالغَيْبِ لَما دَخَلَ فِيهِ الإيمانُ بِذاتِ اللَّهِ تَعالى وصِفاتِهِ، ولا يَبْقى فِيهِ إلّا الإيمانُ بِالآخِرَةِ، وذَلِكَ غَيْرُ جائِزٍ؛ لِأنَّ الرُّكْنَ العَظِيمَ في الإيمانِ هو الإيمانُ بِذاتِ اللَّهِ وصِفاتِهِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلى مَعْنًى يَقْتَضِي خُرُوجَ الأصْلِ، أمّا لَوْ حَمَلْناهُ عَلى التَّفْسِيرِ الَّذِي اخْتَرْناهُ لَمْ يَلْزَمْنا هَذا المَحْذُورُ.
والجَوابُ عَنِ الأوَّلِ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ﴾ يَتَناوَلُ الإيمانَ بِالغائِباتِ عَلى الإجْمالِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إلَيْكَ وما أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ﴾ [البَقَرَةِ: ٤] يَتَناوَلُ الإيمانَ بِبَعْضِ الغائِباتِ، فَكانَ هَذا مِن بابِ عَطْفِ التَّفْصِيلِ عَلى الجُمْلَةِ، وهو جائِزٌ كَما في قَوْلِهِ: ﴿ومَلائِكَتِهِ ورُسُلِهِ وجِبْرِيلَ ومِيكالَ﴾ [البَقَرَةِ: ٩٨] وعَنِ الثّانِي: أنَّهُ لا نِزاعَ في أنّا نُؤْمِنُ بِالأشْياءِ الغائِبَةِ عَنّا، فَكانَ ذَلِكَ التَّخْصِيصُ لازِمًا عَلى الوَجْهَيْنِ جَمِيعًا. فَإنْ قِيلَ: أفَتَقُولُونَ: العَبْدُ يَعْلَمُ الغَيْبَ أمْ لا ؟ قُلْنا: قَدْ بَيَّنّا أنَّ الغَيْبَ يَنْقَسِمُ إلى ما دَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ وإلى ما لا دَلِيلَ عَلَيْهِ، أمّا الَّذِي لا دَلِيلَ عَلَيْهِ فَهو سُبْحانَهُ وتَعالى العالِمُ بِهِ لا غَيْرُهُ، وأمّا الَّذِي عَلَيْهِ دَلِيلٌ فَلا يَمْتَنِعُ أنْ تَقُولَ: نَعْلَمُ مِنَ الغَيْبِ ما لَنا عَلَيْهِ دَلِيلٌ، ويُفِيدُ الكَلامُ فَلا يَلْتَبِسُ، وعَلى هَذا الوَجْهِ قالَ العُلَماءُ: الِاسْتِدْلالُ بِالشّاهِدِ عَلى الغائِبِ أحَدُ أقْسامِ الأدِلَّةِ.
وعَنِ الثّالِثِ: لا نُسَلِّمُ أنَّ لَفْظَ الغَيْبَةِ لا يُسْتَعْمَلُ إلّا فِيما يَجُوزُ عَلَيْهِ الحُضُورُ، والدَّلِيلُ عَلى ذَلِكَ أنَّ المُتَكَلِّمِينَ يَقُولُونَ هَذا مِن بابِ إلْحاقِ الغائِبِ بِالشّاهِدِ. ويُرِيدُونَ بِالغائِبِ ذاتَ اللَّهِ تَعالى وصِفاتِهِ واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
(المَسْألَةُ الخامِسَةُ): قالَ بَعْضُ الشِّيعَةِ: المُرادُ بِالغَيْبِ المَهْدِيُّ المُنْتَظَرُ الَّذِي وعَدَ اللَّهُ تَعالى بِهِ في القُرْآنِ والخَبَرِ، أمّا القُرْآنُ فَقَوْلُهُ: ﴿وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكم وعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهم في الأرْضِ كَما اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ [النُّورِ: ٥٥] وأمّا الخَبَرُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيا إلّا يَوْمٌ واحِدٌ لَطَوَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ اليَوْمَ حَتّى يَخْرُجَ رَجُلٌ مِن أهْلِ بَيْتِي، يُواطِئُ اسْمُهُ اسْمِي وكُنْيَتُهُ كُنْيَتِي، يَمْلَأُ الأرْضَ عَدْلًا وقِسْطًا كَما مُلِئَتْ جَوْرًا وظُلْمًا» “ واعْلَمْ أنَّ تَخْصِيصَ المُطْلَقِ مِن غَيْرِ الدَّلِيلِ باطِلٌ.
* * *
(المَسْألَةُ السّادِسَةُ): ذَكَرُوا في تَفْسِيرِ إقامَةِ الصَّلاةِ وُجُوهًا:
أحَدُها: أنَّ إقامَتَها عِبارَةٌ عَنْ تَعْدِيلِ أرْكانِها وحِفْظِها مِن أنْ يَقَعَ خَلَلٌ في فَرائِضِها وسُنَنِها وآدابِها، مِن: أقامَ العُودَ، إذا قَوَّمَهُ.
وثانِيها: أنَّها عِبارَةٌ عَنِ المُداوَمَةِ عَلَيْها كَما قالَ تَعالى: ﴿والَّذِينَ هم عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ﴾ [المَعارِجِ: ٣٤] وقالَ: ﴿الَّذِينَ هم عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ﴾ [المَعارِجِ: ٢٣] مِن: قامَتِ السُّوقُ، إذا نَفَقَتْ، وإقامَتُها نَفاقُها؛ لِأنَّها إذا حُوفِظَ عَلَيْها كانَتْ كالشَّيْءِ النّافِقِ الَّذِي تَتَوَجَّهُ إلَيْهِ الرَّغَباتُ، وإذا أُضِيعَتْ كانَتْ كالشَّيْءِ الكاسِدِ الَّذِي لا يُرْغَبُ فِيهِ، وثالِثُها: أنَّها عِبارَةٌ عَنِ التَّجَرُّدِ لِأدائِها، وأنْ لا يَكُونَ في مُؤَدِّيها فُتُورٌ مِن قَوْلِهِمْ: قامَ بِالأمْرِ، وقامَتِ الحَرْبُ عَلى ساقِها، وفي ضِدِّهِ: قَعَدَ عَنِ الأمْرِ، وتَقاعَدَ عَنْهُ إذا تَقاعَسَ وتَثَبَّطَ. ورابِعُها: إقامَتُها عِبارَةٌ عَنْ أدائِها، وإنَّما عَبَّرَ عَنِ الأداءِ بِالإقامَةِ؛ لِأنَّ القِيامَ بَعْضُ أرْكانِها، كَما عَبَّرَ عَنْها بِالقُنُوتِ وبِالرُّكُوعِ وبِالسُّجُودِ، وقالُوا: سَبَّحَ إذا صَلّى، لِوُجُودِ التَّسْبِيحِ فِيها، قالَ تَعالى: ﴿فَلَوْلا أنَّهُ كانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ﴾ [الصّافّاتِ: ١٤٣] واعْلَمْ أنَّ الأوْلى حَمْلُ الكَلامِ عَلى ما يَحْصُلُ مَعَهُ مِنَ الثَّناءِ العَظِيمِ، وذَلِكَ لا يَحْصُلُ إلّا إذا حَمَلْنا الإقامَةَ عَلى إدامَةِ فِعْلِها مِن غَيْرِ خَلَلٍ في أرْكانِها وشَرائِطِها؛ ولِذَلِكَ فَإنَّ القَيِّمَ بِأرْزاقِ الجُنْدِ إنَّما يُوصَفُ بِكَوْنِهِ قَيِّمًا إذا أعْطى الحُقُوقَ مِن دُونِ بَخْسٍ ونَقْصٍ؛ ولِهَذا يُوصَفُ اللَّهُ تَعالى بِأنَّهُ قائِمٌ وقَيُّومٌ؛ لِأنَّهُ يَجِبُ دَوامُ وُجُودِهِ؛ ولِأنَّهُ يُدِيمُ إدْرارَ الرِّزْقِ عَلى عِبادِهِ.
* * *
(المَسْألَةُ السّابِعَةُ): ذَكَرُوا في لَفْظِ الصَّلاةِ في أصْلِ اللُّغَةِ وُجُوهًا:
أحَدُها: أنَّها الدُّعاءُ قالَ الشّاعِرُ:
وقابَلَها الرِّيحُ في دَنِّها وصَلّى عَلى دَنِّها وارْتَسَمْ

وثانِيها: قالَ الخارْزَنْجِيُّ: اشْتِقاقُها مِنَ الصَّلى، وهي النّارُ، مِن قَوْلِهِمْ: صَلَيْتُ العَصا إذا قَوَّمْتُها بِالصَّلى، فالمُصَلِّي كَأنَّهُ يَسْعى في تَعْدِيلِ باطِنِهِ وظاهِرِهِ مِثْلَ مَن يُحاوِلُ تَقْوِيمَ الخَشَبَةِ بِعَرْضِها عَلى النّارِ.
وثالِثُها: أنَّ الصَّلاةَ عِبارَةٌ عَنِ المُلازَمَةِ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿تَصْلى نارًا حامِيَةً﴾ [الغاشِيَةِ: ٤] ﴿سَيَصْلى نارًا ذاتَ لَهَبٍ﴾ [المَسَدِ: ٣] وسُمِّيَ الفَرَسُ الثّانِي مِن أفْراسِ المُسابَقَةِ مُصَلِّيًا. ورابِعُها: قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: الصَّلاةُ فَعْلَةٌ مِن ”صَلّى“ كالزَّكاةِ مِن ”زَكّى“ وكَتَبْتُها بِالواوِ عَلى لَفْظِ المُفَخَّمِ، وحَقِيقَةُ صَلّى حَرَّكَ الصَّلَوَيْنِ، لِأنَّ المُصَلِّيَ يَفْعَلُ ذَلِكَ في رُكُوعِهِ وسُجُودِهِ، وقِيلَ لِلدّاعِي مُصَلٍّ تَشْبِيهًا لَهُ في تَخَشُّعِهِ بِالرّاكِعِ والسّاجِدِ، وأقُولُ: هَهُنا بَحْثانِ:
الأوَّلُ: أنَّ هَذا الِاشْتِقاقَ الَّذِي ذَكَرَهُ صاحِبُ الكَشّافِ يُفْضِي إلى طَعْنٍ عَظِيمٍ في كَوْنِ القُرْآنِ حُجَّةً، وذَلِكَ لِأنَّ لَفْظَ الصَّلاةِ مِن أشَدِّ الألْفاظِ شُهْرَةً وأكْثَرِها دَوَرانًا عَلى ألْسِنَةِ المُسْلِمِينَ، واشْتِقاقُهُ مِن تَحْرِيكِ الصَّلَوَيْنِ مِن أبْعَدِ الأشْياءِ اشْتِهارًا فِيما بَيْنَ أهْلِ النَّقْلِ، ولَوْ جَوَّزْنا أنْ يُقالَ: مُسَمّى الصَّلاةِ في الأصْلِ ما ذَكَرَهُ، ثُمَّ إنَّهُ خَفِيَ وانْدَرَسَ حَتّى صارَ بِحَيْثُ لا يَعْرِفُهُ إلّا الآحادُ، لَكانَ مِثْلُهُ في سائِرِ الألْفاظِ جائِزًا، ولَوْ جَوَّزْنا ذَلِكَ لَما قَطَعْنا بِأنَّ مُرادَ اللَّهِ تَعالى مِن هَذِهِ الألْفاظِ ما تَتَبادَرُ أفْهامُنا إلَيْهِ مِنَ المَعانِي في زَمانِنا هَذا، لِاحْتِمالِ أنَّها كانَتْ في زَمانِ الرَّسُولِ مَوْضُوعَةً لِمَعانٍ أُخَرَ، وكانَ مُرادُ اللَّهِ تَعالى مِنها تِلْكَ المَعانِيَ، إلّا أنَّ تِلْكَ المَعانِيَ خَفِيَتْ في زَمانِنا وانْدَرَسَتْ، كَما وقَعَ مِثْلُهُ في هَذِهِ اللَّفْظَةِ، فَلَمّا كانَ ذَلِكَ باطِلًا بِإجْماعِ المُسْلِمِينَ عَلِمْنا أنَّ الِاشْتِقاقَ الَّذِي ذَكَرَهُ مَرْدُودٌ باطِلٌ.
الثّانِي: الصَّلاةُ في الشَّرْعِ عِبارَةٌ عَنْ أفْعالٍ مَخْصُوصَةٍ يَتْلُو بَعْضُها بَعْضًا مُفْتَتَحَةٌ بِالتَّحْرِيمِ، مُخْتَتَمَةٌ بِالتَّحْلِيلِ، وهَذا الِاسْمُ يَقَعُ عَلى الفَرْضِ والنَّفْلِ. لَكِنَّ المُرادَ بِهَذِهِ الآيَةِ الفَرْضُ خاصَّةً؛ لِأنَّهُ الَّذِي يَقِفُ الفَلاحُ عَلَيْهِ؛ لِأنَّهُ «عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا بَيَّنَ لِلْأعْرابِيِّ صِفَةَ الصَّلاةِ المَفْرُوضَةِ قالَ: واللَّهِ لا أزِيدُ عَلَيْها ولا أنْقُصُ مِنها، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”أفْلَحَ إنْ صَدَقَ“»  .
* * *
(المَسْألَةُ الثّامِنَةُ): الرِّزْقُ في كَلامِ العَرَبِ هو الحَظُّ، قالَ تَعالى: ﴿وتَجْعَلُونَ رِزْقَكم أنَّكم تُكَذِّبُونَ﴾ [الواقِعَةِ: ٨٢] أيْ حَظَّكم مِن هَذا الأمْرِ، والحَظُّ هو نَصِيبُ الرَّجُلِ وما هو خاصٌّ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ، ثُمَّ قالَ بَعْضُهم: الرِّزْقُ كُلُّ شَيْءٍ يُؤْكَلُ أوْ يُسْتَعْمَلُ، وهو باطِلٌ، لِأنَّ اللَّهَ تَعالى أمَرَنا بِأنْ نُنْفِقَ مِمّا رَزَقَنا، فَقالَ: ﴿وأنْفِقُوا مِن ما رَزَقْناكُمْ﴾ [المُنافِقُونَ: ١٠] فَلَوْ كانَ الرِّزْقُ هو الَّذِي يُؤْكَلُ لَما أمْكَنَ إنْفاقُهُ. وقالَ آخَرُونَ: الرِّزْقُ هو ما يُمْلَكُ وهو أيْضًا باطِلٌ، لِأنَّ الإنْسانَ قَدْ يَقُولُ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي ولَدًا صالِحًا، أوْ زَوْجَةً صالِحَةً، وهو لا يَمْلِكُ الوَلَدَ ولا الزَّوْجَةَ، ويَقُولُ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي عَقْلًا أعِيشُ بِهِ، ولَيْسَ العَقْلُ بِمَمْلُوكٍ، وأيْضًا البَهِيمَةُ يَكُونُ لَها رِزْقٌ، ولا يَكُونُ لَها مِلْكٌ. وأمّا في عُرْفِ الشَّرْعِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقالَ أبُو الحُسَيْنِ البَصْرِيُّ: الرِّزْقُ هو تَمْكِينُ الحَيَوانِ مِنَ الِانْتِفاعِ بِالشَّيْءِ والحَظْرُ عَلى غَيْرِهِ أنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الِانْتِفاعِ بِهِ، فَإذا قُلْنا: قَدْ رَزَقَنا اللَّهُ تَعالى الأمْوالَ، فَمَعْنى ذَلِكَ أنَّهُ مَكَّنَنا مِنَ الِانْتِفاعِ بِها، وإذا سَألْناهُ تَعالى أنْ يَرْزُقَنا مالًا فَإنّا نَقْصِدُ بِذَلِكَ أنْ يَجْعَلَنا بِالمالِ أخَصَّ، وإذا سَألْناهُ أنْ يَرْزُقَ البَهِيمَةَ فَإنّا نَقْصِدُ بِذَلِكَ أنْ يَجْعَلَها بِهِ أخَصَّ، وإنَّما تَكُونُ بِهِ أخَصَّ إذا مَكَّنَها مِنَ الِانْتِفاعِ بِهِ، ولَمْ يَكُنْ لِأحَدٍ أنْ يَمْنَعَها مِنَ الِانْتِفاعِ بِهِ، واعْلَمْ أنَّ المُعْتَزِلَةَ لَمّا فَسَّرُوا الرِّزْقَ بِذَلِكَ لا جَرَمَ قالُوا: الحَرامُ لا يَكُونُ رِزْقًا. وقالَ أصْحابُنا: الحَرامُ قَدْ يَكُونُ رِزْقًا، فَحُجَّةُ الأصْحابِ مِن وجْهَيْنِ.
الأوَّلُ: أنَّ الرِّزْقَ في أصْلِ اللُّغَةِ هو الحَظُّ والنَّصِيبُ عَلى ما بَيَّنّاهُ، فَمَنِ انْتَفَعَ بِالحَرامِ فَذَلِكَ الحَرامُ صارَ حَظًّا ونَصِيبًا، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ رِزْقًا لَهُ. الثّانِي: أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿وما مِن دابَّةٍ في الأرْضِ إلّا عَلى اللَّهِ رِزْقُها﴾ [هُودٍ: ٦] وقَدْ يَعِيشُ الرَّجُلُ طُولَ عُمُرِهِ لا يَأْكُلُ إلّا مِنَ السَّرِقَةِ، فَوَجَبَ أنْ يُقالَ: إنَّهُ طُولَ عُمُرِهِ لَمْ يَأْكُلْ مِن رِزْقِهِ شَيْئًا. أمّا المُعْتَزِلَةُ فَقَدِ احْتَجُّوا بِالكِتابِ والسُّنَّةِ والمَعْنى. أمّا الكِتابُ فَوُجُوهٌ:
أحَدُها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ مَدَحَهم عَلى الإنْفاقِ مِمّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ تَعالى، فَلَوْ كانَ الحَرامُ رِزْقًا لَوَجَبَ أنْ يَسْتَحِقُّوا المَدْحَ إذا أنْفَقُوا مِنَ الحَرامِ، وذَلِكَ باطِلٌ بِالِاتِّفاقِ.
وثانِيها: لَوْ كانَ الحَرامُ رِزْقًا لَجازَ أنْ يُنْفِقَ الغاصِبُ مِنهُ، لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأنْفِقُوا مِن ما رَزَقْناكُمْ﴾ [المُنافِقُونَ: ١٠] وأجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلى أنَّهُ لا يَجُوزُ لِلْغاصِبِ أنْ يُنْفِقَ مِمّا أخَذَهُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهُ، فَدَلَّ عَلى أنَّ الحَرامَ لا يَكُونُ رِزْقًا.
وثالِثُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ أرَأيْتُمْ ما أنْزَلَ اللَّهُ لَكم مِن رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنهُ حَرامًا وحَلالًا قُلْ آللَّهُ أذِنَ لَكُمْ﴾ [يُونُسَ: ٥٩] فَبَيَّنَ أنَّ مَن حَرَّمَ رِزْقَ اللَّهِ فَهو مُفْتَرٍ عَلى اللَّهِ، فَثَبَتَ أنَّ الحَرامَ لا يَكُونُ رِزْقًا، وأمّا السُّنَّةُ فَما رَواهُ أبُو الحُسَيْنِ في كِتابِ الغَرَرِ بِإسْنادِهِ «عَنْ صَفْوانَ بْنِ أُمَيَّةَ، قالَ: كُنّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إذْ جاءَهُ عَمْرُو بْنُ قُرَّةَ، فَقالَ لَهُ: يا رَسُولَ اللَّهِ، إنِ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيَّ الشِّقْوَةَ، فَلا أرانِي أُرْزَقُ إلّا مِن دُفِّي بِكَفِّي، فائْذَنْ لِي في الغِناءِ مِن غَيْرِ فاحِشَةٍ، فَقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”لا إذْنَ لَكَ، ولا كَرامَةَ، ولا نِعْمَةَ، كَذَبْتَ أيْ عَدُوَّ اللَّهِ، لَقَدْ رَزَقَكَ اللَّهُ رِزْقًا طَيِّبًا، فاخْتَرْتَ ما حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ مِن رِزْقِهِ مَكانَ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكَ مِن حَلالِهِ، أما إنَّكَ لَوْ قُلْتَ بَعْدَ هَذِهِ المُقَدِّمَةِ شَيْئًا ضَرَبْتُكَ ضَرْبًا وجِيعًا“»  وأمّا المَعْنى فَإنَّ اللَّهَ تَعالى مَنَعَ المُكَلَّفَ مِنَ الِانْتِفاعِ بِالحَرامِ، وأمَرَ غَيْرَهُ بِمَنعِهِ مِنَ الِانْتِفاعِ بِهِ، ومَن مَنَعَ مِن أخْذِ الشَّيْءِ والِانْتِفاعِ بِهِ لا يُقالُ إنَّهُ رَزَقَهُ إيّاهُ، ألا تَرى أنَّهُ لا يُقالُ: إنَّ السُّلْطانَ قَدْ رَزَقَ جُنْدَهُ مالًا قَدْ مَنَعَهم مِن أخْذِهِ، وإنَّما يُقالُ: إنَّهُ رَزَقَهم ما مَكَّنَهم مِن أخْذِهِ، ولا يَمْنَعُهم مِنهُ، ولا أمَرَ بِمَنعِهِمْ مِنهُ، أجابَ أصْحابُنا عَنِ التَّمَسُّكِ بِالآياتِ بِأنَّهُ وإنْ كانَ الكُلُّ مِنَ اللَّهِ، لَكِنَّهُ كَما يُقالُ: يا خالِقَ المُحْدَثاتِ والعَرْشِ والكُرْسِيِّ، ولا يُقالُ: يا خالِقَ الكِلابِ والخَنازِيرِ، وقالَ: ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ﴾ [الإنْسانِ: ٦] فَخَصَّ اسْمَ العِبادِ بِالمُتَّقِينَ، وإنْ كانَ الكُفّارُ أيْضًا مِنَ العِبادِ، وكَذَلِكَ هَهُنا خَصَّ اسْمَ الرِّزْقِ بِالحَلالِ عَلى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ، وإنْ كانَ الحَرامُ رِزْقًا أيْضًا، وأجابُوا عَنِ التَّمَسُّكِ بِالخَبَرِ بِأنَّهُ حُجَّةٌ لَنا، لِأنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«فاخْتَرْتَ ما حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ مِن رِزْقِهِ» “ صَرِيحٌ في أنَّ الرِّزْقَ قَدْ يَكُونُ حَرامًا، وأجابُوا عَنِ المَعْنى بِأنَّ هَذِهِ المَسْألَةَ مَحْضُ اللُّغَةِ، وهو أنَّ الحَرامَ هَلْ يُسَمّى رِزْقًا أمْ لا ؟ ولا مَجالَ لِلدَّلائِلِ العَقْلِيَّةِ في الألْفاظِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
(المَسْألَةُ التّاسِعَةُ): أصْلُ الإنْفاقِ إخْراجُ المالِ مِنَ اليَدِ، ومِنهُ نَفَقَ المَبِيعُ نَفاقًا إذا كَثُرَ المُشْتَرُونَ لَهُ، ونَفَقَتِ الدّابَّةُ إذا ماتَتْ أيْ خَرَجَ رُوحُها، ونافِقاءُ الفَأْرَةِ لِأنَّها تَخْرُجُ مِنها ومِنهُ النَّفَقُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا في الأرْضِ﴾ [الأنْعامِ: ٣٥] .
(المَسْألَةُ العاشِرَةُ): في قَوْلِهِ: ﴿ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ فَوائِدُ:
أحَدُها: أدْخَلَ مِنَ التَّبْعِيضِيَّةَ صِيانَةً لَهم، وكَفًّا عَنِ الإسْرافِ والتَّبْذِيرِ المَنهِيِّ عَنْهُ.
وثانِيها: قَدَّمَ مَفْعُولَ الفِعْلِ دَلالَةً عَلى كَوْنِهِ أهَمَّ، كَأنَّهُ قالَ: ويَخُصُّونَ بَعْضَ المالِ بِالتَّصَدُّقِ بِهِ.
وثالِثُها: يَدْخُلُ في الإنْفاقِ المَذْكُورِ في الآيَةِ، الإنْفاقُ الواجِبُ، والإنْفاقُ المَندُوبُ، والإنْفاقُ الواجِبُ أقْسامٌ:
أحَدُها: الزَّكاةُ وهي قَوْلُهُ في آيَةِ الكَنْزِ: ﴿ولا يُنْفِقُونَها في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [التَّوْبَةِ: ٣٤] .
وثانِيها: الإنْفاقُ عَلى النَّفْسِ وعَلى مَن تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ.
وثالِثُها: الإنْفاقُ في الجِهادِ.
وأمّا الإنْفاقُ المَندُوبُ فَهو أيْضًا إنْفاقٌ؛ لِقَوْلِهِ: ﴿وأنْفِقُوا مِن ما رَزَقْناكم مِن قَبْلِ أنْ يَأْتِيَ أحَدَكُمُ المَوْتُ﴾ [المُنافِقُونَ: ١٠] وأرادَ بِهِ الصَّدَقَةَ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: ﴿فَأصَّدَّقَ وأكُنْ مِنَ الصّالِحِينَ﴾ [المُنافِقُونَ: ١٠] فَكُلُّ هَذِهِ الإنْفاقاتِ داخِلَةٌ تَحْتَ الآيَةِ لِأنَّ كُلَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِاسْتِحْقاقِ المَدْحِ.
   
زاد المسير — ابن الجوزي (٥٩٧ هـ)

﴿ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ﴾ [البقرة ٣]
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ﴾ الإيمانُ في اللُّغَةِ: التَّصْدِيقُ، والشَّرْعُ أقَرَّهُ عَلى ذَلِكَ، وزادَ فِيهِ القَوْلَ والعَمَلَ. وأصِلُ الغَيْبِ: المَكانُ المُطَمْئِنُّ الَّذِي يَسْتَتِرُ فِيهِ لِنُزُولِهِ عَمّا حَوْلَهُ، فَسُمِّيَ كُلُّ مُسْتَتِرٍ: غَيْبًا.
وَفِي المُرادِ بِالغَيْبِ هاهُنا سِتَّةُ أقْوالٍ.
أحَدُها: أنَّهُ الوَحْيُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ جُرَيٍجٍ.
والثّانِي: القُرْآَنُ، قالَهُ أبُو رَزِينٍ العُقَيْلِيُّ، وزِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ.
والثّالِثُ: اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ، قالَهُ عَطاءٌ، وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ.
والرّابِعُ: ما غابَ عَنِ العِبادِ مِن أمْرِ الجَنَّةِ والنّارِ، ونَحْوُ ذَلِكَ مِمّا ذُكِرَ في القُرْآَنِ. رَواهُ السَّدِّيُّ عَنْ أشْياخِهِ، وإلَيْهِ ذَهَبَ أبُو العالِيَةِ، وقَتادَةُ.
والخامِسُ: أنَّهُ قَدَّرَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ، قالَهُ الزُّهْرِيُّ.
والسّادِسُ: أنَّهُ الإيمانُ بِالرَّسُولِ في حَقِّ مَن لَمْ يَرَهُ. قالَ عَمْرُو بْنُ مَرَّةَ: قالَ أصْحابُ عَبْدِ اللَّهِ لَهُ: طُوبى لَكَ، جاهَدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وجالَسْتُهُ. فَقالَ: إنَّ شَأْنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كانَ مُبَيِّنًا لِمَن رَآَهُ، ولَكِنْ أعْجَبُ مِن ذَلِكَ: قَوْمٌ يَجِدُونَ كِتابًا مَكْتُوبًا يُؤْمِنُونَ بِهِ ولَمْ يَرَوْهُ، ثُمَّ قَرَأ: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ﴾ .
***
قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾ الصَّلاةُ في اللُّغَةِ: الدُّعاءُ. وفي الشَّرِيعَةِ: أفْعالٌ وأقْوالٌ عَلى صِفاتٍ مَخْصُوصَةٍ. وفي تَسْمِيَتِها بِالصَّلاةِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ.
أحَدُها: أنَّها سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِرَفْعِ الصَّلا، وهو مَغْرَزُ الذَّنْبِ مِنَ الفَرَسِ.
والثّانِي: أنَّها مِن صَلِيَتُ العُودَ إذا لَيَّنْتُهُ، فالمُصَلِّي يَلِينُ ويَخْشَعُ.
والثّالِثُ: أنَّها مَبْنِيَّةٌ عَلى السُّؤالِ والدُّعاءِ، والصَّلاةِ في اللُّغَةِ: الدُّعاءُ. وهي في هَذا المَكانِ اسْمُ جِنْسٍ.
قالَ مُقاتِلٌ: أرادَ بِها هاهُنا: الصَّلَواتِ الخَمْسِ.
وَفِي مَعْنى إقامَتِها ثَلاثَةُ أقْوالٍ.
أحَدُها: أنَّهُ تَمامُ فِعْلِها عَلى الوَجْهِ المَأْمُورِ بِهِ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٍ.
والثّانِي: أنَّهُ المُحافَظَةُ عَلى مَواقِيتِها ووُضُوئِها ورُكُوعِها وسُجُودِها، قالَهُ قَتادَةُ، ومُقاتِلٌ.
والثّالِثُ: إدامَتُها، والعَرَبُ تَقُولُ في الشَّيْءِ الرّاتِبِ: قائِمٌ، وفُلانٌ يُقِيمُ أرْزاقَ الجُنْدِ، قالَهُ ابْنُ كَيْسانَ.
***
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمِمّا رَزَقْناهُمْ﴾ أيْ: أعْطَيْناهم. ﴿يُنْفِقُونَ﴾ أيْ: يُخْرِجُونَ. وأصْلُ الإنْفاقِ الإخْراجُ. يُقالُ: نَفَقَتِ الدّابَّةُ إذا خَرَجَتْ رُوحُها.
وَفِي المُرادِ بِهَذِهِ النَّفَقَةِ أرْبَعَةُ أقْوالٍ.
أحَدُها: أنَّها النَّفَقَةُ عَلى الأهْلِ والعِيالِ، قالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وحُذَيْفَةُ.
والثّانِي: أنَّها الزَّكاةُ المَفْرُوضَةُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، وقَتادَةُ.
والثّالِثُ: أنَّها الصَّدَقاتُ النَّوافِلُ، قالَهُ مُجاهِدٌ، والضَّحّاكُ.
والرّابِعُ: أنَّها النَّفَقَةُ الَّتِي كانَتْ واجِبَةٌ قَبْلَ وُجُوبِ الزَّكاةِ، ذَكَرَهُ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ، وقالُوا: إنَّهُ كانَ فَرْضٌ عَلى الرَّجُلِ أنْ يُمْسِكَ مِمّا في يَدِهِ مِقْدارَ كِفايَتِهِ يَوْمَهُ ولَيْلَتَهُ، ويُفَرِّقُ باقِيهِ عَلى الفُقَراءِ. فَعَلى قَوْلِ هَؤُلاءِ، الآَيَةُ مَنسُوخَةٌ بِآيَةِ الزَّكاةِ، وغَيْرِ هَذا القَوْلِ أُثْبِتَ. واعْلَمْ أنَّ الحِكْمَةَ في الجَمْعِ بَيْنَ الإيمانِ بِالغَيْبِ وهو عَقْدُ القَلْبِ، وبَيْنَ الصَّلاةِ وهي فِعْلُ البَدَنِ، وبَيْنَ الصَّدَقَةِ وهو تَكْلِيفٌ يَتَعَلَّقُ بِالمالِ - أنَّهُ لَيْسَ في التَّكْلِيفِ قِسْمٌ رابِعٌ، إذْ ما عَدا هَذِهِ الأقْسامِ فَهو مُمْتَزِجٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ مِنهُما كالحَجِّ والصَّوْمِ ونَحْوِهِما.
   
النكت والعيون — الماوردي (٤٥٠ هـ)

﴿ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ﴾ [البقرة ٣]
﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ﴾ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ﴾ فِيهِ تَأْوِيلانِ: أحَدُهُما: يُصَدِّقُونَ بِالغَيْبِ، وهَذا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ.
والثّانِي: يَخْشَوْنَ بِالغَيْبِ، وهَذا قَوْلُ الرَّبِيعِ بْنِ أنَسٍ.
وَفي أصْلِ الإيمانِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ: أحَدُها: أنَّ أصْلَهُ التَّصْدِيقُ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما أنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا﴾ أيْ بِمُصَدِّقٍ لَنا.
والثّانِي: أنَّ أصْلَهُ الأمانُ فالمُؤْمِنُ يُؤْمِنُ نَفْسَهُ مِن عَذابِ اللَّهِ، واللَّهُ المُؤْمِنُ لِأوْلِيائِهِ مِن عِقابِهِ. 
والثّالِثُ: أنَّ أصْلَهُ الطُّمَأْنِينَةُ، فَقِيلَ لِلْمُصَدِّقِ بِالخَبَرِ مُؤْمِنٌ، لِأنَّهُ مُطْمَئِنٌ.
وَفي الإيمانِ ثَلاثَةُ أقاوِيلَ: أحَدُها: أنَّ الإيمانَ اجْتِنابُ الكَبائِرِ.
والثّانِي: أنَّ كُلَّ خَصْلَةٍ مِنَ الفَرائِضِ إيمانٌ.
والثّالِثُ: أنَّ كُلَّ طاعَةٍ إيمانٌ.
وَفي الغَيْبِ ثَلاثَةُ تَأْوِيلاتٍ: أحَدُها: ما جاءَ مِن عِنْدِ اللَّهِ، وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ.
والثّانِي: أنَّهُ القُرْآنُ، وهو قَوْلُ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ.
والثّالِثُ: الإيمانُ بِالجَنَّةِ والنّارِ والبَعْثِ والنُّشُورِ.
﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ وفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾ تَأْوِيلانِ: أحَدُهُما: يُؤَدُّونَها بِفُرُوضِها.
والثّانِي: أنَّهُ إتْمامُ الرُّكُوعِ والسُّجُودِ والتِّلاوَةِ والخُشُوعِ فِيها، وهَذا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ.
واخْتُلِفَ لِمَ سُمِّيَ فِعْلُ الصَّلاةِ عَلى هَذا الوَجْهِ إقامَةً لَها، عَلى قَوْلَيْنِ: أحَدُهُما: مِن تَقْوِيمِ الشَّيْءِ مِن قَوْلِهِمْ: قامَ بِالأمْرِ إذا أحْكَمَهُ وحافَظَ عَلَيْهِ.
والثّانِي: أنَّهُ فِعْلُ الصَّلاةِ سُمِّيَ إقامَةً لَها، لِما فِيها مِنَ القِيامِ فَلِذَلِكَ قِيلَ: قَدْ قامَتِ الصَّلاةُ.
وَفي قَوْلِهِ: ﴿وَمِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ ثَلاثَةُ تَأْوِيلاتٍ: أحَدُها: إيتاءُ الزَّكاةِ احْتِسابًا لَها، وهَذا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ. 
والثّانِي: نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلى أهْلِهِ، وهَذا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ.
والثّالِثُ: التَّطَوُّعُ بِالنَّفَقَةِ فِيما قُرِّبَ مِنَ اللَّهِ تَعالى، وهَذا قَوْلُ الضَّحّاكِ: وأصْلُ الإنْفاقِ الإخْراجُ، ومِنهُ قِيلَ: نَفَقَتِ الدّابَّةُ إذا خَرَجَتْ رُوحُها.
واخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ، فِيمَن نَزَلَتْ هاتانِ الآيَتانِ فِيهِ، عَلى ثَلاثَةِ أقْوالٍ: أحَدُها: أنَّها نَزَلَتْ في مُؤْمِنِي العَرَبِ دُونَ غَيْرِهِمْ، لِأنَّهُ قالَ بَعْدَ هَذا: ﴿والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إلَيْكَ وما أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ﴾ يَعْنِي بِهِ أهْلَ الكِتابِ، وهَذا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ.
والثّانِي: أنَّها مَعَ الآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ مِن بَعْدِ أرْبَعِ آياتٍ نَزَلَتْ في مُؤْمِنِي أهْلِ الكِتابِ، لِأنَّهُ ذَكَرَهم في بَعْضِها.
والثّالِثُ: أنَّ الآياتِ الأرْبَعَ مِن أوَّلِ السُّورَةِ، نَزَلَتْ في جَمِيعِ المُؤْمِنِينَ، ورَوى ابْنُ أبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجاهِدٍ قالَ: (نَزَلَتْ أرْبَعُ آياتٍ مِن سُورَةِ البَقَرَةِ في نَعْتِ المُؤْمِنِينَ، وآيَتانِ في نَعْتِ الكافِرِينَ، وثَلاثَ عَشْرَةَ في المُنافِقِينَ.
   
أضواء البيان — محمد الأمين الشنقيطي (١٣٩٤ هـ)

﴿ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ﴾ [البقرة ٣]
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾
عَبَّرَ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ ”بِمَن“ التَّبْعِيضِيَّةِ الدّالَّةِ عَلى أنَّهُ يُنْفِقُ لِوَجْهِ اللَّهِ بَعْضَ مالِهِ لا كُلِّهِ. ولَمْ يُبَيِّنْ هُنا القَدْرَ الَّذِي يَنْبَغِي إنْفاقُهُ، والَّذِي يَنْبَغِي إمْساكُهُ. ولَكِنَّهُ بَيَّنَ في مَواضِعَ أُخَرَ أنَّ القَدْرَ الَّذِي يَنْبَغِي إنْفاقُهُ: هو الزّائِدُ عَلى الحاجَةِ وسَدِّ الخَلَّةِ الَّتِي لا بُدَّ مِنها، وذَلِكَ كَقَوْلِهِ: ﴿يَسْألُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما﴾ [البقرة: ٢١٩]، والمُرادُ بِالعَفْوِ: الزّائِدُ عَلى قَدْرِ الحاجَةِ الَّتِي لا بُدَّ مِنها عَلى أصَحِّ التَّفْسِيراتِ، وهو مَذْهَبُ الجُمْهُورِ.
وَمِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿حَتّى عَفَوْا﴾ [الأعراف: ٩٥]، أيْ: كَثُرُوا، وكَثُرَتْ أمْوالُهم وأوْلادُهم.
وَقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: العَفْوُ نَقِيضُ الجَهْدِ، وهو أنْ يُنْفِقَ ما لا يَبْلُغُ إنْفاقُهُ مِنهُ الجَهْدَ واسْتِفْراغَ الوُسْعِ. ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: [ الطَّوِيلُ ]
خُذِي العَفْوَ مِنِّي تَسْتَدِيمِي مَوَدَّتِي ولا تَنْطِقِي في سَوْرَتِي حِينَ أغْضَبُ

وَهَذا القَوْلُ راجِحٌ إلى ما ذَكَرْنا، وبَقِيَّةُ الأقْوالِ ضَعِيفَةٌ.
وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ ولا تَبْسُطْها كُلَّ البَسْطِ﴾ [الإسراء: ٢٩] فَنَهاهُ عَنِ البُخْلِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ﴾ ونَهاهُ عَنِ الإسْرافِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَلا تَبْسُطْها كُلَّ البَسْطِ﴾، فَيَتَعَيَّنُ الوَسَطُ بَيْنَ الأمْرَيْنِ، كَما بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ إذا أنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا ولَمْ يَقْتُرُوا وكانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوامًا﴾ [الفرقان: ٦٧] فَيَجِبُ عَلى المُنْفِقِ أنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الجُودِ والتَّبْذِيرِ، وبَيْنَ البُخْلِ والِاقْتِصادِ. فالجُودُ غَيْرُ التَّبْذِيرِ، والِاقْتِصادُ غَيْرُ البُخْلِ. فالمَنعُ في مَحَلِّ الإعْطاءِ مَذْمُومٌ. وقَدْ نَهى اللَّهُ عَنْهُ نَبِيَّهُ ﷺ بِقَوْلِهِ: ﴿وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ﴾، والإعْطاءُ في مَحَلِّ المَنعِ مَذْمُومٌ أيْضًا وقَدْ نَهى اللَّهُ عَنْهُ نَبِيَّهُ ﷺ بِقَوْلِهِ: ﴿وَلا تَبْسُطْها كُلَّ البَسْطِ﴾ . وقَدْ قالَ الشّاعِرُ: [ البَسِيطُ ]
لا تَمْدَحَنَّ ابْنَ عَبّادٍ وإنْ هَطَلَتْ ∗∗∗ يَداهُ كالمُزْنِ حَتّى تَخْجَلَ الدِّيَما ∗∗∗ فَإنَّها فَلَتاتٌ مِن وساوِسِهِ ∗∗∗ يُعْطِي ويَمْنَعُ لا بُخْلًا ولا كَرَما

وَقَدْ بَيَّنَ تَعالى في مَواضِعَ أُخَرَ: أنَّ الإنْفاقَ المَحْمُودَ لا يَكُونُ كَذَلِكَ، إلّا إذا كانَ مَصْرِفُهُ الَّذِي صُرِفَ فِيهِ مِمّا يُرْضِي اللَّهَ. كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ ما أنْفَقْتُمْ مِن خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ﴾ الآيَةَ [البقرة: ٢١٥] وصَرَّحَ بِأنَّ الإنْفاقَ فِيما لا يُرْضِي اللَّهَ حَسْرَةٌ عَلى صاحِبِهِ في قَوْلِهِ: ﴿فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً﴾ الآيَةَ [الأنفال: ٣٦] وقَدْ قالَ الشّاعِرُ:
إنَّ الصَّنِيعَةَ لا تُعَدُّ صَنِيعَةً ∗∗∗ حَتّى يُصابَ بِها طَرِيقُ المَصْنَعِ

فَإنْ قِيلَ: هَذا الَّذِي قَرَّرْتُمْ يَقْتَضِي أنَّ الإنْفاقَ المَحْمُودَ هو إنْفاقُ ما زادَ عَلى الحاجَةِ الضَّرُورِيَّةِ، مَعَ أنَّ اللَّهَ تَعالى أثْنى عَلى قَوْمٍ بِالإنْفاقِ وهم في حاجَةٍ إلى ما أنْفَقُوا، وذَلِكَ في قَوْلِهِ: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلى أنْفُسِهِمْ ولَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: ٩] .
فالظّاهِرُ في الجَوابِ - واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ - هو ما ذَكَرَهُ بَعْضُ العُلَماءِ مِن أنَّ لِكُلِّ مَقامٍ مَقالًا، فَفي بَعْضِ الأحْوالِ يَكُونُ الإيثارُ مَمْنُوعًا. وذَلِكَ كَما إذا كانَتْ عَلى المُنْفِقِ نَفَقاتٌ واجِبَةٌ، كَنَفَقَةِ الزَّوْجاتِ ونَحْوِها فَتَبَرَّعَ بِالإنْفاقِ في غَيْرِ واجِبٍ، وتَرَكَ الفَرْضَ لِقَوْلِهِ ﷺ: «وابْدَأْ بِمَن تَعُولُ» وكَأنْ يَكُونَ لا صَبْرَ عِنْدَهُ عَنْ سُؤالِ النّاسِ فَيُنْفِقُ مالَهُ ويَرْجِعُ إلى النّاسِ يَسْألُهم مالَهم، فَلا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ، والإيثارُ فِيما إذا كانَ لَمْ يُضَيِّعْ نَفَقَةً واجِبَةً وكانَ واثِقًا مِن نَفْسِهِ بِالصَّبْرِ والتَّعَفُّفِ وعَدَمِ السُّؤالِ.
وَأمّا عَلى القَوْلِ بِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وَمِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ يَعْنِي بِهِ الزَّكاةَ، فالأمْرُ واضِحٌ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
   
تفسير الجلالين — المحلّي والسيوطي (٨٦٤، ٩١١ هـ)

﴿ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ﴾ [البقرة ٣]
﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ﴾ يُصَدِّقُونَ ﴿بِالغَيْبِ﴾ بِما غابَ عَنْهُمْ مِن البَعْث والجَنَّة والنّار ﴿ويُقِيمُونَ الصَّلاة﴾ أيْ يَأْتُونَ بِها بِحُقُوقِها ﴿ومِمّا رَزَقْناهُمْ﴾ أعْطَيْناهُمْ ﴿يُنْفِقُونَ﴾ فِي طاعَة اللَّه
  تفسير ابن قيّم الجوزيّة — ابن القيم (٧٥١ هـ)

﴿ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ﴾ [البقرة ٣]
* (فائدة)
تأمل الحكمة في التشديد في أول التكليف ثم التيسير في آخره بعد توطين النفس على العزم والامتثال فيحصل للعبد الأمران الأجر على عزمه وتوطين نفسه على الامتثال والتيسير والسهولة بما خفف الله عنه.
فمن ذلك أمر الله تعالى رسوله بخمسين صلاة ليلة الإسراء ثم خففها وتصدق بجعلها خمسا.
ومن ذلك انه أمر أولا بصبر الواحد إلى العشرة ثم خفف عنهم ذلك إلى الاثنين.
ومن ذلك أنه حرم عليهم في الصيام إذا نام أحدهم أن يأكل بعد ذلك أو يجامع ثم خفف عنهم.
ومن ذلك أنه أوجب عليهم تقديم الصدقة بين يدي مناجاة رسوله فلما وطنوا له أنفسهم على ذلك خففه عنهم بإباحة ذلك عنهم إلى الفجر.
ومن ذلك تخفيف الاعتداد بالحول بأربعة اشهر وعشرا وهذا كما قد يقع في الابتلاء بالأوامر فقد يقع في الابتلاء بالقضاء والقدر يشدد على العبد أولا ثم يخفف عنه وحكمه تسهيل الثاني بالأول وتلقى الثاني بالرضي وشهود المنة والرحمة.
وقد يفعل الملوك ببعض رعاياهم قريبا من هذا فهؤلاء المصادرون يطلب منهم الكثير جدا الذي ربما عجزوا عنه ثم يحطون إلى ما دونه لتطوع لهم أنفسهم بذلة ويسهل عليهم وقد يفعل بعض الحمالين قريبا من هذا فيزيدون على الحمل شيئا لا يحتاجون إليها ثم يحط تلك الأشياء فيسهل حمل الباقي عليهم.
والمقصود أن هذا باب من الحكمة خلقا وأمرا ويقع في الأمر والقضاء والقدر أيضا ضد هذا فينقل عباده بالتدريج من اليسير إلى ما هو أشد منه لئلا يفجأ هذا التشديد بغتة فلا تحمله ولا تنقاد له.
وهذا كتدريجهم في الشرائع شيئا بعد شيء دون أن يؤمروا بها كلها وهلة واحدة. وكذلك المحرمات ومن هذا أنهم أمروا بالصلاة أولا ركعتين ركعتين فلما ألفوها زيد فيها ركعتين أخريين في الحضر.
ومن هذا أنهم أمروا أولا بالصيام وخيروا فيه بين الصوم عينا وبين التخيير بينه وبين الفدية فلما ألفوه أمروا بالصوم عينا.
ومن هذا أنهم أذن لهم بالجهاد أولا من غير أن يوجبه عليهم فلما توطنت عليه نفوسهم وباشروا حسن عاقبته وثمرته أمروا به فرضا.
وحكمة هذا التدريج التربية على قبول الأحكام والإذعان لها والانقياد لها شيئا فشيئا وكذلك يقع مثل هذا في قضائه وقدره مقدر على عبده بل لا بد منه اقتضاه حمده وحكمته فيبتليه بالأخف أولا ثم يرقيه إلى ما هو فوقه حتى يستكمل ما كتب عليه منه ولهذا قد يسعى العبد في أول البلاء في دفعه وزواله ولا يزداد إلا شدة لأنه كالمرض في أوله وتزايده فالعاقل يستكين له أولا وينكسر ويذل لربه ويمد عنقه خاضعا ذليلا لعزته حتى إذا مر به معظمه وغمرته وأذن ليله بالصباح فإذا سعى في زواله ساعدته الأسباب ومن تأمل هذا في الخلق أنتفع به انتفاعا عظيما ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى.
* (فصل)
ويكفي العاقل البصير الحي القلب فكرة في فرع واحد من فروع الأمر والنهي وهو الصلاة وما اشتملت عليه من الحكم الباهرة والمصالح الباطنة والظاهرة والمنافع المتصلة بالقلب والروح والبدن والقوى التي لو اجتمع حكماء العالم قاطبة واستفرغوا قواهم وأذهانهم لما أحاطوا بتفاصيل حكمها وأسرارها وغاياتها المحمودة بل انقطعوا كلهم دون أسرار الفاتحة وما فيها من المعارف الإلهية والحكم الربانية والعلوم النافعة والتوحيد التام والثناء على الله بأصول أسمائه وصفاته وذكر أقسام الخلقة باعتبار غاياتهم ووسائلهم وما في مقدماتها وشروطها من الحكم العجيبة من تطهير الأعضاء والثياب والمكان وأخذ الزينة واستقبال بيته الذي جعله إماما للناس وتفريغ القلب وإخلاص النية وافتتاحها بكلمة جامعة لمعاني العبودية دالة على أصول الثناء وفروعه مخرجة من القلب الالتفات إلى ما سواه والإقبال على غيره فيقدم بقلبه الوقوف بين يدي عظيم جليل أكبر من كل شيء وأجل من كل شيء وأعظم من كل شيء بلا سبب في كبريائه السماوات وما أظلت والأرض وما أقلت والعوالم كلها عنت له الوجوه وخضعت له الرقاب وذلت له الجبابرة قاهر عباده ناظر إليهم عالم بما تكن صدورهم يسمع كلامهم ويرى مكانهم لا يخفى عليه خافية من أمرهم ثم أخذ في تسبيحه وحمده وذكر تبارك اسمه وتعالى جده وتفرده بالإلهية ثم أخذ في الثناء عليه بأفضل ما يثنى عليه به من حمده وذكر ربوبيته للعالم وإحسانه إليهم ورحمته بهم وتمجيده بالملك الأعظم في اليوم الذي لا يكون فيه ملك سواه حتى يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد ويدينهم بأعمالهم ثم إفراده بنوعي التوحيد توحيد ربوبيته استعانة به وتوحيد إلهيته عبودية له ثم سؤاله أفضل مسئول وأجل مطلوب على الإطلاق وهو هداية الصراط المستقيم الذي نصبه لأنبيائه ورسله وأتباعهم وجعله صراطا موصلا لمن سلكه إليه وإلى جنته وأنه صراط من اختصهم بنعمته بأن عرفهم الحق وجعلهم متبعين له دون صراط أمة الغضب الذي عرفوا الحق ولم يتبعوه، وأهل الضلال الذين ضلوا عن معرفته واتّباعه فتضمنت تعريف الرب والطريق الموصل إليه والغاية بعد الوصول وتضمنت الثناء والدعاء وأشرف الغايات وهي العبودية وأقرب الوسائل إليها وهي الاستعانة مقدما فيها على الوسيلة والمعبود المستعان على الفعل إيذانا لاختصاصه وإن ذلك لا يصلح إلا له سبحانه وتضمنت ذكر الإلهية والربوبية والرحمة فيثنى عليه ويعبد بإلهيته ويخلق ويرزق ويميت ويحيى ويدبر الملك ويضل من يستحق الإضلال ويغضب على من يستحق الغضب بربوبيته وحكمته وينعم ويرحم ويجود ويعفو ويغفر ويهدي ويتوب برحمته فلله كم في هذه السورة من أنواع المعارف والعلوم والتوحيد وحقائق الإيمان ثم يأخذ بعد ذلك في تلاوة ربيع القلوب وشفاء الصدور ونور البصائر وحياة الأرواح وهو كلام رب العالمين فيحل به في ما شاء من روضات مونقات وحدائق معجبات زاهية أزهارها مونقة ثمارها قد ذللت قطوفها تذليلا وسهلت لمتناولها تسهيلا فهو يجتني من تلك الثمار خيرا يؤمر به وشرا ينهى عنه وحكمة وموعظة وتبصرة وتذكرة وعبرة وتقريرا لحق ودحضا لباطل وإزالة لشبهة وجوابا عن مسألة وإيضاحا لمشكل وترغيبا في أسباب فلاح وسعادة وتحذيرا من أسباب خسران وشقاوة ودعوة إلى هدى ورد عن ردي فتنزل على القلوب نزول الغيث على الأرض التي لا حياة لها بدونه ويحل منها محل الأرواح من أبدانها فأي نعيم وقرة عين ولذة قلب وابتهاج وسرور لا يحصل له في هذه المناجاة والرب تعالى يسمع لكلامه جاريا على لسان عبده ويقول حمدني عبدي أثنى علي عبدي مجدني عبدي ثم يعود إلى تكبير ربه عز وجل فيجد ربه عهد التذكرة كونه أكبر من كل شيء بحق عبوديته وما ينبغي أن يعامل به ثم يرجع جاثيا له ظهره خضوعا لعظمته وتذللا لعزته واستكانة لجبروته مسبحا له بذكر اسمه العظيم فنزه عظمته عن حال العبد وذله وخضوعه وقابل تلك العظمة بهذا الذل والانحناء والخضوع قد تطامن وطأطأ رأسه وطوى ظهره وربه فوقه يرى خضوعه وذله ويسمع كلامه فهو ركن تعظيم وإجلال كما قال ﷺ:
"أما الركوع فعظموا فيه الرب" ثم عاد إلى حاله من القيام حامدا لربه مثنيا عليه بأكمل محامده وأجمعها وأعمها مثنيا عليه بأنه أهل الثناء والمجد ومعترفا بعبوديته شاهدا بتوحيده وأنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع وأنه لا ينفع أصحاب الجدد والأموال والحظوظ جدودهم عنه ولو عظمت ثم يعود إلى تكبيره ويخر له ساجدا على أشرف ما فيه وهو الوجه فيعفره في التراب ذلا بين يديه ومسكنه وانكسارا وقد أخذ كل عضو من البدن حظه من هذا الخضوع حتى أطراف الأنامل ورؤوس الأصابع وندب له أن يسجد معه ثيابه وشعره فلا يكفيه، وأن لا يكون بعضه محمولا على بعض وأن يتأسر التراب بجبهته وينال قبل وجهة المصلى ويكون رأسه أسفل ما فيه تكميلا للخضوع والتذليل لمن له العز كله والعظمة كلها وهذا أيسر اليسير من حقه على عبده فلو دام كذلك من حين خلق إلى أن يموت لما أدى حق ربه عليه ثم أمر أن يسبح ربه الأعلى فيذكر علوه سبحانه في حال سفوله وهو وينزهه عن مثل هذه الحال وأن من هو فوق كل شيء وعال على كل شيء ينزه عن السفول بكل معنى بل هو الأعلى بكل معنى من معاني العلو ولما كان هذا غاية ذل العبد وخضوعه وانكساره كان أقرب ما يكون الرب منه في هذه الحال فأمر أن يجتهد في الدعاء لقربه من القريب المجيب وقد قال تعالى: ﴿واسْجُدْ واقْتَرِبْ﴾
وكان الركوع كالمقدمة بين يدي السجود والتوطئة له فينتقل من خضوع إلى خضوع أكمل وأتم منه وأرفع شأنا وفصل بينهما بركن مقصود في نفسه يجتهد فيه بالحمد والثناء والتمجيد وجعل بين خضوع خضوع قبله وخضوع بعده وجعل خضوع السجود بعد الحمد والثناء والمجد كما جعل خضوع الركوع بعد ذلك فتأمل هذا الترتيب العجيب وهذا التنقل في مراتب العبودية كيف ينتقل من مقام الثناء على الرب بأحسن أوصافه وأسمائه وأكمل محامده إلى من له خضوعه وتذلله أن له هذا الثناء ويستصحب في مقامه خضوعه بما يناسب ذلك المقام ويليق به فتذكر عظمة الرب في حال خضوعه وعلوه في حال سفوله ولما كان أشرف أذكار الصلاة القرآن شرع في أشرف أحوال الإنسان وهي هيئة القيام التي قد انتصب فيها قائما على أحسن هيئة ولما كان أفضل أركانها الفعلية السجود شرع فيها بوصف التكرار وجعل خاتمة الركعة وغايتها التي انتهت إليها مطابق افتتاح الركعة بالقرآن واختتامها بالسجود أول سورة افتتح بها الوحي فإنها بدئت بالقراءة وختمت بالسجود وشرع له بين هذين الخضوعين أن يجلس جلسة العبيد ويسأل ربه أن يغفر له ويرحمه ويرزقه ويهديه ويعافيه وهذه الدعوات تجمع له خير دنياه وآخرته ثم شرع له تكرار هذه الركعة مرة بعد مرة كما شرع تكرار الأذكار والدعوات مرة بعد مرة ليستعد بالأول لتكميل ما بعده ويجبر بما بعده ما قبله وليشبع القلب من هذا الغذاء وليأخذ رواه ونصيبه وافرا من الدواء ليقاومه فإن منزلة الصلاة من القلب منزلة الغذاء والدواء فإذا تناول الجائع الشديد الجوع من اللقمة أو اللقمتين كان غناؤها عنه وسدها من جوعه يسيرا جدا وكذلك المرض الذي يحتاج إلى قدر يغني من الدواء إذا أخذ منه المريض قيراطا من ذلك لم يزل مرضه بالكلية وأزال بحسبه فما حصل الغذاء أو الشفاء للقلب بمثل الصلاة وهي لصحته ودوائه بمنزلة غذاء البدن ودوائه ثم لما أكمل صلاته شرع له أن يقعد قعدة العبد الذليل المسكين لسيده ويثني عليه بأفضل التحيات ويسلم على من جاء بهذا الحظ الجزيل ومن نالته الأمة على يديه ثم يسلم على نفسه وعلى سائر عباد الله المشاركين له في هذه العبودية ثم يتشهد شهادة الحق ثم يعود فيصلي على من علم الأمة هذا الخير ودلهم عليه ثم شرع له أن يسأل حوائجه ويدعو بما أحب ما دام بين يدي ربه مقبلا عليه
فإذا قضى ذلك أذن له في الخروج منها بالتسليم على المشاركين له في الصلاة هذا إلى ما تضمنته الأحوال والمعارف من أول المقامات إلى آخرها فلا تجد منزلة من منازل السير إلى الله ولا مقاما من مقامات العارفين إلا وهو في ضمن الصلاة وهذا الذي ذكرناه من شأنها كقطرة من بحر فكيف يقال إنها تكليف محض لم يشرع لحكمة ولا لغاية قصدها الشارع بل هي محض وكلفة ومشقة مستندة إلى محض المشيئة لا لغرض ولا لفائدة ألبتة بل مجرد قهر وتكليف وليست سببا لشيء من مصالح الدنيا والآخرة.
ثم تأمل أبواب الشريعة ووسائلها وغاياتها كيف تجدها مشحونة بالحكم المقصودة والغايات الحميدة التي شرعت لأجلها التي لولاها لكان الناس كالبهائم بل أسوأ حالا فكم في الطهارة من حكمة ومنفعة للقلب والبدن وتفريح للقلب وتنشيط للجوارح وتخفيف من أحمال ما أوجبته الطبيعة وألقاه عز النفس من درن المخالفات فهي منظفة للقلب والروح والبدن وفي غسل الجنابة من زيادة النعومة والإخلاف على البدن نظير ما تحلل منه بالجنابة ما هو من أنفع الأمور.
   نظم الدرر — البقاعي (٨٨٥ هـ)

﴿ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ﴾ [البقرة ٣]
ثُمَّ وصَفَهم بِمَجامِعِ الأعْمالِ تَعْرِيفًا لَهم فَقالَ: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ﴾، أيِ الأمْرِ الغائِبِ الَّذِي لا نافِعَ في الإيمانِ غَيْرُهُ، وعَبَّرَ بِالمَصْدَرِ لِلْمُبالَغَةِ.
﴿ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾ أيِ الَّتِي هي حَضْرَةُ المُراقَبَةِ وأفْضَلُ أعْمالِ البَدَنِ، بِالمُحافَظَةِ عَلَيْها، وبِحِفْظِها في ذاتِها وجَمِيعِ أحْوالِها. ولَمّا ذَكَرَ وصْلَةَ الخَلْقِ بِالخالِقِ وكانَتِ النَّفَقَةُ مَعَ أنَّها مِن أعْظَمِ دَعائِمِ الدِّينِ صِلَةً بَيْنَ الخَلائِقِ أتْبَعَها بِها فَقالَ مُقَدِّمًا لِلْجارِّ ناهِيًا عَنِ الإسْرافِ ومُنَبِّهًا بِالتَّبْعِيضِ عَلى طِيبِ النَّفَقَةِ لِأنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلّا طَيِّبًا وآمِرًا بِالوَرَعِ وزاجِرًا عَمّا فِيهِ شُبْهَةٌ [ لِأنَّ الرِّزْقَ يَشْمَلُ الحَلالَ والحَرامَ والمُشْتَبِهَ ] ﴿ومِمّا رَزَقْناهُمْ﴾ أيْ مَكَّنّاهم مِنَ الِانْتِفاعِ بِهِ عَلى عَظَمَةِ خَزائِنِنا وهو لَنا دُونَهم،
﴿يُنْفِقُونَ﴾ أيْ في مَرْضاتِنا مِمّا يَلْزَمُهم مِنَ الزَّكاةِ والحَجِّ والغَزْوِ وغَيْرِها ومِمّا يَتَطَوَّعُونَ بِهِ مِنَ الصَّدَقاتِ وغَيْرِها، والمُرادُ بِهَذِهِ الأفْعالِ هُنا إيجادُ حَقائِقِها عَلى الدَّوامِ.
قالَ أبُو حَيّانَ، وغَيْرُهُ، في قَوْلِهِ تَعالى في سُورَةِ الحَجِّ: ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ويَصُدُّونَ﴾ [الحج: ٢٥] المُضارِعُ قَدْ لا يُلْحَظُ فِيهِ زَمانٌ مُعَيَّنٌ مَن حالٍ أوِ اسْتِقْبالٍ فَيَدُلُّ إذْ ذاكَ عَلى الِاسْتِمْرارِ. انْتَهى. وهَذا مِمّا لا مَحِيدَ عَنْهُ، وإلّا لَمْ يَشْمَلْ هَذا في هَذِهِ السُّورَةِ المَدَنِيَّةِ مَن تَخَلَّقَ بِهِ قَبْلَ الهِجْرَةِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلِمَ تَقْتُلُونَ أنْبِياءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ﴾ [البقرة: ٩١] قاطِعٌ في ذَلِكَ.
وقالَ الحَرالِّيُّ: ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ مِنَ الإيمانِ وهو مَصْدَرُ آمَنَهُ يُؤْمِنُهُ إيمانًا إذا آمَنَ مَن يُنَبِّهُهُ عَلى أمْرٍ لَيْسَ عِنْدَهُ أنْ يُكَذِّبَهُ أوْ يَرْتابَ فِيهِ، و”الغَيْبُ“ ما غابَ عَنِ الحِسِّ ولَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ عِلْمٌ يَهْتَدِي بِهِ العَقْلُ فَيَحْصُلُ بِهِ العِلْمُ؛ وصِيغَةُ يُؤْمِنُونَ ويُقِيمُونَ تَقْتَضِي الدَّوامَ إلى الخَتْمِ، وإدامَةُ العَمَلِ إلى الخَتْمِ تَقْتَضِي ظُهُورَهُ عَنْ فِطْرَةٍ أوْ جِبِلَّةٍ وأنَّهُ لَيْسَ عَنْ تَعَمُّلٍ ومُراءاةٍ، وعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ عَلَمًا عَلى الجَزاءِ؛ والصَّلاة الإقْبالُ بِالكُلِّيَّةِ عَلى أمْرٍ، فَتَكُونُ مِنَ الأعْلى عَطْفًا شامِلًا، ومِنَ الأدْنى وفاءً بِأنْحاءِ التَّذَلُّلِ والإقْبالِ بِالكُلِّيَّةِ عَلى التَّلَقِّي، وإيمانُهم بِالغَيْبِ قَبُولُهم مِنَ النَّبِيِّ ﷺ ما تَلَقّاهُ بِالوَحْيِ مِن أمْرٍ غائِبِ الدُّنْيا الَّذِي هو الآخِرَةُ وما فِيها وأمْرٍ غائِبِ المَلَكُوتِ وما فِيهِ إلى غَيْبِ الجَبَرُوتِ وما بِهِ بِحَيْثُ يَكُونُ عَمَلُهم عَلى الغائِبِ الَّذِي تَلَقَّتْهُ قُلُوبُهم عَلى سَبِيلِ آذانِهِمْ كَعَمَلِهِمْ عَلى ما تَلَقَّتْهُ أنْفُسُهم عَلى سَبِيلِ أعْيُنِهِمْ وسائِرِ حَواسِّهِمْ ودامُوا عَلى عَمَلِهِمْ ذَلِكَ عَلى حُكْمِ إيمانِهِمْ إلى الخاتِمَةِ.
ولَمّا كانَتِ الصَّلاةُ التِزامَ عَهِدِ العِبادَةِ مَبْنِيًّا عَلى تَقَدُّمِ الشَّهادَةِ مُتَمَّمَةً بِجِماعِ الذِّكْرِ وأنْواعِ التَّحِيّاتِ لِلَّهِ؛ مِنَ القِيامِ لَهُ تَعالى، والرُّكُوعِ لَهُ، والسُّجُودِ الَّذِي هو أعْلاها، والسَّلامِ بِالقَوْلِ الَّذِي هو أدْنى التَّحِيّاتِ؛ كانَتْ لِذَلِكَ تَعَهُّدًا لِلْإيمانِ وتَكْرارًا، ولِذَلِكَ مَن لَمْ يُدِمِ الصَّلاةَ ضَعُفَ إيمانُهُ ورانَ عَلَيْهِ كُفْرٌ فَلا إيمانَ لِمَن لا صَلاةَ لَهُ، والتَّقْوى وحْدَهُ أصْلٌ والإيمانُ فالصَّلاةُ ثَمَرَتُهُ، والإنْفاقُ خِلافَةٌ ولِذَلِكَ البُخْلُ عَزْلٌ عَنْ خِلافَةِ اللَّهِ ﴿وأنْفِقُوا مِمّا جَعَلَكم مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ [الحديد: ٧] وهَذا الأمْرُ بِتَمامِهِ هو الَّذِي جُعِلَتِ الخِلافَةُ لِآدَمَ بِهِ إلى ما وراءَ ذَلِكَ مِن كَمالِ أمْرِ اللَّهِ الَّذِي أكْمَلَهُ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، فالتَّقْوى قَلْبٌ باطِنٌ، والإنْفاقُ وجْهٌ ظاهِرٌ، والإيمانُ فالصَّلاةُ وُصْلَةٌ بَيْنَهُما. ووَجْهُ تَرَتُّبِ الإيمانِ بِالغَيْبِ عَلى التَّقْوى أنَّ المُتَّقِيَ لَمّا كانَ مُتَوَقِّفًا غَيْرَ مُتَمَسِّكٍ بِأمْرٍ كانَ إذا أُرْشِدَ إلى غَيْبٍ لا يَعْلَمُهُ؛ لَمْ يَدْفَعْهُ بِمُقْتَضى ما تَقَدَّمَ لَهُ عِلْمُهُ؛ ووَجْهُ تَرَتُّبِ الإنْفاقِ عَلى الإيمانِ بِالغَيْبِ أنَّ المَدَدَ غَيْبٌ، لِأنَّ الإنْسانَ لَمّا كانَ لا يَطَّلِعُ عَلى جَمِيعِ رِزْقِهِ كانَ رِزْقُهُ غَيْبًا، فَإذا أيْقَنَ بِالخَلَفِ جادَ بِالعَطِيَّةِ، فَمَتى أُمِدَّ بِالأرْزاقِ تَمَّتْ خِلافَتُهُ وعَظُمَ فِيها سُلْطانُهُ وانْفَتَحَ لَهُ بابُ إمْدادٍ بِرِزْقٍ أعْلى وأكْمَلَ مِنَ الأوَّلِ. فَإذا أحْسَنَ الخِلافَةَ فِيهِ بِالإنْفاقِ مِنهُ أيْضًا انْفَتَحَ لَهُ بابٌ إلى أعْلى إلى أنْ يَنْتَهِيَ إلى حَيْثُ لَيْسَ وراءَهُ مَرْأًى وذَلِكَ هو الكَمالُ المُحَمَّدِيُّ، وإنْ بَخِلَ فَلَمْ يُنْفِقْ واسْتَغْنى بِما عِنْدَهُ فَلَمْ يَتَّقِ فَكَذَبَ تَضاءَلَ أمْرُ خِلافَتِهِ وانْقَطَعَ عَنْهُ المَدَدُ مِنَ الأعْلى؛ فَبِحَقٍّ سُمِّيَ الإنْفاقُ زَكاةً؛ وفي أوَّلِ الشُّورى كَلامٌ في الإيمانِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَفِيسٌ. انْتَهى.
   
جامع البيان — الإيجي (٩٠٥ هـ)

﴿الۤمۤ (١) ذَ ٰ⁠لِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ (٢) ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ (٣) وَٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ وَمَاۤ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡـَٔاخِرَةِ هُمۡ یُوقِنُونَ (٤) أُو۟لَـٰۤىِٕكَ عَلَىٰ هُدࣰى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ (٥) إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ سَوَاۤءٌ عَلَیۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ (٦) خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَعَلَىٰ سَمۡعِهِمۡۖ وَعَلَىٰۤ أَبۡصَـٰرِهِمۡ غِشَـٰوَةࣱۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِیمࣱ (٧)﴾ [البقرة ١-٧]
﴿الم﴾: أوائل مثل هذه السورة مما استأتر الله بعلمه وهو المنقول عن الخلفاء الأربعة وغيرهم أو أسماء السور أو أقسام أقسم بها لشرفها لأنها مباني كتبه المنزلة أو أنا الله أعلم، ﴿ذَلِكَ الكتابُ﴾: أي: هذا القرآن مصدر بمعنى المفعول ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾: لا شك أنه من عند الله لو تأمل عاقل فيه لا يشك وقيل بمعنى النهي أي: لا ترتابوا، ﴿هُدًى﴾: بيان ونور ﴿لِّلْمُتَّقِينَ﴾: الصائرين إلى الإيمان وترك الشرك أو مزيد هداية لهم، ﴿الذِينَ يُؤْمِنُونَ﴾: يصدقون ﴿بِالغَيب﴾: أي ما هو غائب كأمور الآخرة والقدر أو محمد عليه الصلاة والسلام من غير رؤيته، ﴿ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾، يعدلون أركان الصلوات الخمس أو يواظبون عليها، ﴿ومِمّا رَزَقاهم يُنفقونَ﴾: أعطيناهم يصرفون في الخير أو المراد الزكاة، ﴿والّذِينَ يُؤْمِنُون بِما أُنزِلَ إلَيْكَ﴾: هذا في مؤمني أهل الكتاب أو عام كالأول، ﴿وما أنزِلَ مِن قَبْلِكَ﴾ سائر الكتب، ﴿وبِالآخِرَةِ﴾ الدار الآخرة ﴿هم يُوقِنُونَ﴾ لا يشكون أصلًا، ﴿أُولَئِكَ﴾ من هذه صفته، ﴿عَلى هُدًى﴾: أي: مستقر ومستعل على بيان ونور ﴿مِّن ربهِمْ وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾: الفائزون بمطالبهم. ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾: ستروا الحق وهجروا التوحيد ﴿سَواءٌ﴾: مصدر وصف به ﴿عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ تخويفك وعدمه فهو مبتدأ وسواء خبره والهمزة وأم مجردتان لمعنى الاستواء في علم المستفهم كأنه قيل في جواب أأنذِرهم أم لا المستويان في علمك مستويان في عدم النفع ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾، جملة مفسرة ومؤكدة، ﴿خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ﴾، أي: طبع واستوثق بضرب الخاتم على قلوبهم، ﴿وعلى سَمْعِهِمْ﴾، أي: مواضعه أو أطلق مجازًا على العضو وكذا البصر ووحد السمع لأنه مصدر والمسموع ليس إلا الصوت بخلاف المعقولات والمبصرات فإنها أنواع من الجواهر والأعراض، ﴿وعَلى أبْصارِهِمْ غشاوَة﴾: غطاء والحاصل أنه أحدث فيهم شيئًا يمرنهم على حب الكفر لا يفقهون الحق ولا يسمعون ولا يبصرون، ﴿ولَهم عَذابٌ عَظِيم﴾: في الآخرة.
   
تفسير القرآن — السمعاني (٤٨٩ هـ)

﴿ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ﴾ [البقرة ٣]
قَوْله تَعَالَى: ﴿الَّذين يُؤمنُونَ بِالْغَيْبِ ويقيمون الصَّلَاة﴾
قَوْله: ﴿الَّذين﴾ نعت الْمُتَّقِينَ ﴿يُؤمنُونَ﴾ من الْإِيمَان. وَهُوَ التَّصْدِيق، قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَمَا أَنْت بِمُؤْمِن لنا﴾ أَي: بمصدق لنا.
وَالْإِيمَان فِي الشَّرِيعَة يشْتَمل على الِاعْتِقَاد بِالْقَلْبِ، وَالْإِقْرَار بِاللِّسَانِ، وَالْعَمَل بالأركان. وَقيل: الْإِيمَان مَأْخُوذ من الْأمان، فسعي الْمُؤمن مُؤمنا؛ لِأَنَّهُ يُؤمن نَفسه من عَذَاب الله. وَالله مُؤمن؛ لِأَنَّهُ يُؤمن الْعباد من عَذَابه.
﴿بِالْغَيْبِ﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: الْغَيْب كل مَا أمرت بِالْإِيمَان بِهِ مِمَّا غَابَ عَن بَصرك، وَذَلِكَ مثل الْمَلَائِكَة، وَالْجنَّة، وَالنَّار، والصراط، وَالْمِيزَان، وَنَحْوهَا.
وَقَالَ غَيره: الْغَيْب هَاهُنَا هُوَ الله تَعَالَى.
وَقَالَ ابْن كيسَان: أَرَادَ بِهِ الْقدر. ﴿يُؤمنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ ، أَي: بِالْقدرِ.
﴿ويقيمون الصَّلَاة﴾ أَي: يديمون الصَّلَاة. وَحَقِيقَة إِقَامَة الصَّلَاة الْمُحَافظَة على أَدَائِهَا بأركانها وسننها وهيئاتها.
فَالصَّلَاة فِي اللُّغَة: الدُّعَاء، وَقد ورد فِي الْخَبَر: " من دعى إِلَى الطَّعَام فليجب، فَإِن كَانَ مُفطرا فَليَأْكُل، وَإِن كَانَ صَائِما فَليصل ". أَي: فَليدع. وَقد قَالَ الشَّاعِر:
(تَقول بِنْتي وَقد [قربت] مرتحلا ... يَا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا) (عَلَيْك مثل الَّذِي صليت فاغتمضي ... عينا فَإِن بِجنب الْمَرْء مُضْطَجعا)
معنى قَوْله: صليت أَي: مثل الَّذِي دَعَوْت.
وَقيل: الصَّلَاة من الله الرَّحْمَة، وَمن الْمَلَائِكَة الاسْتِغْفَار، وَمن النَّاس الدُّعَاء، وَهِي فِي الشَّرِيعَة تشْتَمل على أَفعَال مَخْصُوصَة وعَلى الثَّنَاء وَالدُّعَاء.
قَوْله: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ﴾ أما الرزق اسْم لكل مَا ينْتَفع بِهِ الْخلق، فَيدْخل فِيهِ الْوَلَد وَالْعَبْد.
﴿يُنْفقُونَ﴾ من الْإِنْفَاق، وَأَصله الْإِخْرَاج، وَمِنْه نفاق السُّوق؛ لِأَنَّهُ تخرج فِيهِ السّلْعَة وَيُقَال: نفقت الدَّابَّة إِذا خرجت روحها، فَهَذِهِ الْآيَة فِي الْمُؤمنِينَ من مُشْركي الْعَرَب.
   
الهداية إلى بلوغ النهاية — مكي بن أبي طالب (٤٣٧ هـ)

﴿ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ﴾ [البقرة ٣]
وقوله: ﴿ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ﴾ الآية.
"الذين": اسم مبهم ناقص لا بد له من صلة وعائد، وهو مبني في الجمع والواحد لمشابهة الحروف، ولأنه بعض اسم، فإن ثَنَّيْتَهُ أَعْربتَه، لأن التثنية تخرجه من مشابهة الحروف إذ الحروف لا تثنى.
فإن قيل: فأعربه في الجمع إذ الحروف لا تجمع.
فالجواب: إن الجمع مشبه بالواحد، لأنه يأتي إعرابه في آخره كالواحد، ولأنه يأتي على صور وأبنية مختلفة كالواحد، فجرى مجرى الواحد في البناء، والتثنية لا تختلف أبنيتها، ولا يقع إعرابها في آخرها، فخالفت الواحد والجمع فأعربت، هذه لغة القرآن وأكثر كلام العرب.
ومن العرب من يعرب الجمع فيقول في الرفع "أَلَّذُون" فهؤلاء أعربوا الجمع إذ  الحروف لا تجمع، وأصل "الذي" تدغم الياء منه محذوفة للتنوين كما تحذف في "عم" و "قاض" في الرفع والخفض. فلما دخلته الألف واللام رجعت الياء لزوال التنوين، وكتب "الذي" بلام واحدة، وأصلها لامان، تخفيفاً ولكثرة الاستعمال.
وجرى "الذين" في الجمع على ذلك لقربه من الواحد في المشابهة المتقدمة الذكر، وكتبت "اللذين" في التثنية بلامين على الأصل، لأن التثنية لا تختلف ولا تأتي في جمع الأسماء إلا على نظام واحد. فلما جرت على أصلها، ولم تختلف كاختلاف الجمع جرت على أصلها في الخط. وأصل الإيمان: التصديق، فالعبد المؤمن يُصَدِّقُ بما أتاه من ربه، والله يصدق عبده بانتظاره ما وعده به من المجازاة على إيمانه، فالله جل ذكره مؤمن، ولا يقال: بكذا، والعبد مؤمن بكذا.
وقد قيل: إن المؤمن مأخوذ من الأمان، وذلك أن العبد يُؤَمِّن نفسه من عذاب الله بإيمانه. والله مُؤَمِّن: أي: يُؤَمِّنُ مطيعه من عذابه.
والهمز في "يؤمن" الأصل، وبدل الهمزة بواو لانضمام ما قبلها حسن فصيح.
والغيب: كل ما استتر عنك. وهو في هذه الآية البعث، والحساب، والجنة، والنار، وشبهه. قاله سفيان وغيره.
وقيل: معنى ﴿بِٱلْغَيْبِ﴾: بالقدر.
وقال عطاء: "﴿بِٱلْغَيْبِ﴾: بالله جل ذكره". وقيل: بالقرآن. وقال بعض المتصوفة: "الغيب: القلب، أي يؤمنون بقلوبهم، لأن المنافق يؤمن بلسانه لا بقلبه".
فالإيمان الصحيح النافع ما اعتقده القلب.
وقال بعض العلماء: ﴿يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ﴾، أي: يؤمنون إذا غابوا عن الناس، كما يؤمنون إذا حضروا، أي ليسوا كمن يؤمن بالحضرة، ويكفر بالغيب.
* * *
وقوله: ﴿وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ﴾.
معناه يديمون أداءها بفروضها في أوقاتها.
وقال الضحاك: "إقامتها تمام سجودها وركوعها وخشوعها وتلاوتها وسنتها".
وأصل "يُقيمُونَ، "يُقْوِمُونَ" على وزن "يُفْعِلُونَ" فألقيت حركة الواو على القاف وأبدل من الواو ياء لسكونها، وانكسار ما قبلها. كما قالوا: ميزانٌ وميعادٌ، وهما من الوَعْدِ والْوَزْنِ. وأصل الصلاة في اللغة: الدعاء، لكن سمي الركوع والسجود صلاة للدعاء المستعمل فيها. والعرب تسمي الشيء باسم [ما لابَسَه وقاربه].
والصلاة من الله: الرحمة لعباده، ومن الملائكة. والأنبياء: الدعاء، وكذلك هي من الناس.
وروى أبو هريرة أن النبي [ﷺ] قال: "إذا دُعِيَ أحَدُكُمْ إلى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ، فإنْ كَانَ مُفْطِراً فَلْيَأكُلْ، وإنْ كَانَ صَائِمَاً فَلْيُصَلِّ"أي: فليدع.
وقال الأعشى لابنته لما دعت له في قولها:
... ... ... ... ∗∗∗ "يا ربِّ جَنِّب أَبي الأوصَابَ والْوَجَعَا.

عليك مثل الذي صليت فاغتمضي ∗∗∗ نوماً فإن لجنب المرء مضطجعاً.

أي: دعوت.
وقيل: إنما سميت الصلاة صلاة لأنها مشتقة من الصلويْن وهما عرقان في الردف، ينحنيان في الصلاة.
وكتبت الصلاة في المصاحف بالواو لتدل على أصلها، لأن أصل الألف الواو، وأصلها صلوة. فلما تحركت الواو وانفتح ما قبلها، قلبت في اللفظ ألفاً؛ دليله قولهم في الجمع: "صَلَواتٌ". وقد ذكرنا أن الجمع يرد الأشياء إلى أصولها ولذلك قلنا: إن أصل "ماء": مَوْهٌ" وإن الألف بدل من الواو، والهمزة بدل من الهاء. ودل على ذلك قولهم في الجمع: أمْوَاءٌ، فرد إلى أصله.
وقيل: إنما كتبت بالواو لأن بعض العرب يفخم اللام والألف حتى تظهر الألف كأن لفظها يشوبه شيء من الواو.
والقول الأول والآخر، به يعلل ما كتبوه من "الزكوة" و "الحيوة" وشبهه بالواو، فأعلمه. وهاتان الآيتان نزلتا في مؤمني العرب دون غيرهم، بدلالة قوله بعد ذلك: ﴿وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ﴾ يريد من آمن من اليهود والنصارى.
وقيل: [بل الأربع] الآيات نزلت في مؤمني أهل الكتاب.
وقيل: بل هي في جميع من آمن بمحمد عليه السلام. إذ لم يؤمن [أحد به] إلا وهو مؤمن بالغيب مما أخبره به النبي ﷺ والكتاب.
واختار الطبري القول الأول.
وقال مجاهد: "أربع آيات من سورة البقرة في نعت المؤمنين وآيتان بعدها في نعت الكافرين وهم قادة الأحزاب و [ثلاث عشر] آية بعد ذلك في المنافقين".
* * *
وقوله: ﴿وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾.
معناه: يتصدقون ويزكون.
وقيل: "هي نفقة الرجل على عياله". قاله السدي.
وأصل "ما" في قوله: ﴿وَممَّا﴾ أن تكتب منفصلة، لأنها بمعنى "الذي". والهاء محذوفة من ﴿رَزَقْنَاهُمْ﴾، أي وبعض الذي رزقناهم ينفقون منه. فحذفت من صلة "ما" لطول الاسم. فإن كانت "ما" بغير معنى "الذي"، وإنما هي صلة، كان أصلها أن تكتب متصلة بما قبلها نحو قوله: ﴿إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ﴾ [النساء: ١٧١]، ﴿إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ [الحج: ٤٩] وشبهه. وقد وقعت "ما" متصلة بما قبلها من الجار في الخط، وهي بمعنى "الذي"، وأصلها الانفصال، وإنما جاز ذلك فيها لأن الجار والمجرور كالشيء الواحد، وذلك نحو "مما" و "عما".
وأيضاً فإنه لما كان حرف الجر الذي على حرف واحد لا ينفصل مما جرى ما كان على حرفين على ذلك لأنها كلها حروف الجر، فوصلن بما قبلهن من الجار في الخط لارتباط الجار بالمجرور مع كثرة الاستعمال.
وقيل: إنه لما أدغمت النون في الميم فلم يظهر للنون لفظ لم يثبت في الخط في مواضع وثبت في الخط في مواضع لبقاء الغنة ظاهرة، فمرة حمل على زوال لفظ النون ومرة حمل على بقاء الغنة في اللفظ.
واعلم أن "كل ما"، إذا كانت بمعنى "إذا" و "متى"، وصلتها مع "ما"، فإن كانت على غير ذلك فصلتها من "كل"، تقول: "كلما جاءني زيد أكرمني. أي "إذا جاءني زيد"، فتصل "ما" "بكل". وتقول "يسرني كل ما يسرك" فتفصل "ما" من "كل" لأنها بمعنى "الذي". وقد كتبت "بِئْسَما" و "نِعِمّا" مَوْصُولةَ وأصلها أن تفصل "ما" مما قبلها في الخط لأن "ما" اسم، وليست بصلة وكذلك وصلت "حينئِذٍ" و "يؤمَئِِذٍ".
وأصل "إذا" الانفصال مما قبلها، لكن وصلت لكثرة الاستعمال والاختصار والإيجاز.
   
محاسن التأويل — القاسمي (١٣٣٢ هـ)

﴿ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ﴾ [البقرة ٣]
القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[٣ ] ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾
" الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ" أيْ يُصَدِّقُونَ "بِالغَيْبِ" الغَيْبُ في الأصْلِ مَصْدَرُ غابَ. بِمَعْنى اسْتَتَرَ واحْتَجَبَ وخَفِيَ، وهو بِمَعْنى الفاعِلِ - كالزُّورِ لِلزّائِرِ - أُطْلِقَ عَلَيْهِ مُبالَغَةً، والمُرادُ بِهِ ما لا يَقَعُ تَحْتَ الحَواسِّ، ولا تَقْتَضِيهِ بَداهَةُ العُقُولِ، وإنَّما يَعْلَمُ بِخَبَرِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، والمَعْنى يُؤْمِنُونَ بِما لا يَتَناوَلُهُ حِسُّهم. كَذاتِهِ تَعالى، ومَلائِكَتِهِ، والجَنَّةِ، والنّارِ، والعَرْشِ، والكُرْسِيِّ، واللَّوْحِ، ونَحْوِها.
" ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ"، أيْ: يُؤَدُّونَها بِحُدُودِها وفُرُوضِها الظّاهِرَةِ والباطِنَةِ. كالخُشُوعِ والمُراقَبَةِ وتَدَبُّرِ المَتْلُوِّ والمَقْرُوءِ.
قالَ الرّاغِبُ: إقامَةُ الصَّلاةِ تَوْفِيَةُ حُدُودِها، وإدامَتُها. وتَخْصِيصُ الإقامَةِ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّهُ لَمْ يُرِدْ إيقاعَها فَقَطْ، ولِهَذا لَمْ يَأْمُرْ بِالصَّلاةِ ولَمْ يَمْدَحْ بِها إلّا بِلَفْظِ الإقامَةِ نَحْوَ: ﴿أقِمِ الصَّلاةَ﴾ [الإسراء: ٧٨] وقَوْلِهِ: ﴿والمُقِيمِينَ الصَّلاةَ﴾ [النساء: ١٦٢] و: ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾ [الأنفال: ٣] ولَمْ يَقُلِ: المُصَلِّي، إلّا في المُنافِقِينَ: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ﴾ [الماعون: ٤] ﴿الَّذِينَ هم عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ﴾ [الماعون: ٥] وذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ المُصَلِّينَ كَثِيرٌ والمُقِيمِينَ لَها قَلِيلٌ - كَما قالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الحاجُّ قَلِيلٌ والرَّكْبُ كَثِيرٌ - ولِهَذا قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ««مَن صَلّى رَكْعَتَيْنِ مُقْبِلًا بِقَلْبِهِ عَلى رَبِّهِ خَرَجَ مِن ذُنُوبِهِ كَيَوْمَ ولَدَتْهُ أُمُّهُ»» . فَذَكَرَ مَعَ قَوْلِهِ: «صَلّى» الإقْبالَ بِقَلْبِهِ عَلى اللَّهِ تَنْبِيهًا عَلى مَعْنى الإقامَةِ، وبِذَلِكَ عَظُمَ ثَوابُهُ، وكَثِيرٌ مِنَ الأفْعالِ الَّتِي حَثَّ تَعالى عَلى تَوْفِيَةِ حَقِّهِ، ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الإقامَةِ، نَحْوَ: ﴿ولَوْ أنَّهم أقامُوا التَّوْراةَ والإنْجِيلَ﴾ [المائدة: ٦٦] ونَحْوَ: ﴿وأقِيمُوا الوَزْنَ بِالقِسْطِ﴾ [الرحمن: ٩] تَنْبِيهًا عَلى المُحافَظَةِ عَلى تَعْدِيلِهِ. انْتَهى.
فالإقامَةُ مِن أقامَ العُودَ إذا قَوَّمَهُ. و"الصَّلَوةَ" فِعْلَةٌ مِن صَلّى إذا دَعا، كَـ "الزَّكَوةِ" مِن زَكى - وإنَّما كُتِبَتا بِالواوِ مُراعاةً لِلَّفْظِ المُفَخَّمِ - وإنَّما سُمِّيَ الفِعْلُ المَخْصُوصُ بِها لِاشْتِمالِهِ عَلى الدُّعاءِ.
" ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ" أيْ: يُؤْتُونَ مِمّا رَزَقْناهم مِنَ الأمْوالِ مَن شُرِعَ لَهم إيتاؤُهُ والإنْفاقُ عَلَيْهِ مِنَ الفُقَراءِ والمَساكِينِ وذَوِي القُرْبى واليَتامى وأمْثالِهِمْ، عَلى ما بَيَّنَ في آياتٍ كَثِيرَةٍ.
   
الجواهر الحسان — الثعالبي (٨٧٥ هـ)

﴿الۤمۤ (١) ذَ ٰ⁠لِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ (٢) ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ (٣)﴾ [البقرة ١-٣]
(١)
هذه السورة مدنيّة نزلت في مدد شتّى، وفيها آخر آية نزلت على رسول الله ﷺ، وهي: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة: 281] ، ويقال لسورة البقرة: «فسطاط القرآن» ، وذلك لعظمها وبهائها، وما تضمّنت من الأحكام والمواعظ، وفيها خمسمائة حكم، وخمسة عشر مثلا، وروي أنّ رسول الله ﷺ قال: «أعطيت سورة البقرة من الذّكر الأوّل، وأعطيت طه والطّواسين(٢) من ألواح موسى(٣) ، وأعطيت فاتحة الكتاب وخواتم سورة البقرة من تحت العرش»(٤) .
ت: وها أنا إن شاء الله أذكر أصل الحديث بكماله لما اشتمل عليه من الفوائد العظيمة.
خرّج الحاكم أبو عبد الله(٥) في «المستدرك على الصحيحين» عن معقل بن يسار(٦) رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: «أعملوا بالقرآن أحلّوا حلاله، وحرّموا حرامه، واقتدوا به، ولا تكفروا بشيء منه، وما تشابه عليكم منه فردّوه إلى الله وإلى أولي العلم من بعدي كي ما يخبرونكم، وآمنوا بالتّوراة والإنجيل والزّبور وما أوتي النّبيّون من ربّهم، وليسعكم القرآن وما فيه من البيان، فإنّه شافع مشفّع، وما حل»
مصدّق، وإنّي أعطيت سورة البقرة من الذّكر الأوّل وأعطيت طه والطّواسين والحواميم(٧) من الواح موسى، وأعطيت فاتحة الكتاب من تحت العرش»(٨) ، ما حل بالمهملة، أي:
ساع، وقيل: خصم. انتهى من «السّلاح» .
وفي الحديث الصحيح، عن النبيّ ﷺ أنه قال: «تجيء البقرة وآل عمران يوم القيامة كأنّهما غيايتان(٩) ، بينهما شرق، أو غمامتان سوداوان، أو كأنّهما ظلّة من طير صوافّ تجادلان عن صاحبهما»(١٠) .
ت: أصل الحديث في صحيح مسلم عن أبي أمامة الباهليّ(١١) رضي اللَّه عنه قَالَ: سَمِعْتُ رسُولَ اللَّهِ ﷺ يقول: «اقرءوا القرآن فإنّه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه اقرءوا الزّهراوين البقرة وآل عمران فإنّهما يأتيان كأنّهما غمامتان، أو كأنّهما غيايتان، أو كأنّهما فرقان(١٢) من طير صوّاف يحاجّان عن أصحابهما، اقرءوا سورة البقرة فإنّ أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة» ، قال معاوية(١٣) : بلغني أنّ البطلة: السّحرة(١٤) ، فقوله ﷺ: «غمامتان» ، يعني: سحابتين بيضاوين، والغيايتان بالغين المعجمة.
أبو عبيد: الغياية كلّ شيء أظلّ الإنسان فوق رأسه، وهو مثل السحابة، وفرقان بكسر الفاء، أي: جماعتان. انتهى من «السلاح» .
وروى أبو هريرة عنه ﷺ، أنه قال: «لكلّ شيء سنام، وسنام القرآن سورة البقرة فيها آية هي سيّدة آي القرآن، هي آية الكرسيّ»(١٥) ، وفي «البخاريّ» أنه ﷺ قال: «من قرأ بالآيتين مِنْ آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ/ فِي لَيْلَةٍ، كَفَتَاهُ»(١٦) وروى أبو هريرة عنه ﷺ أنه قال: 9 ب «البيت الّذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشّيطان»(١٧) .
ت: وعن ابن عبّاس قال: بينما جبريل قاعد عند النبيّ ﷺ سمع نقيضا من فوقه، فقال له: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قطّ إلّا اليوم، وقال: أبشر بنورين أوتيتهما، لم يؤتهما نبيّ قبلك فاتحة الكتاب، وخواتم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منها إلّا أعطيته» رواه مسلم، والنسائيّ(١٨) ، والنقيض بالنون والقاف: هو الصوت انتهى من «السلاح» .
وعدد آي سورة البقرة مائتان، وخمس وثمانون آية، وقيل: وستّ وثمانون آية، وقيل: وسبع وثمانون.
قوله تعالى: الم: اختلف في الحروف التي في أوائل السور على قولين(١٩) فقال الشَّعْبِيُّ، وسفيانُ الثوريُّ، وجماعةٌ من المحدِّثين: هي سر اللَّه في القرآن، وهي من المتشابه الذي انفرد اللَّه بعلمه، ولا يجب أن يُتكلَّم فيها، ولكن يؤمن بها، وتُمَرُّ كما جاءت(٢٠) ، وقال الجمهور من العلماء، بل يجب أن يُتكلَّم فيها، وتلتمس الفوائد التي تحتها، والمعاني التي تتخرَّج عليها، واختلفوا في ذلك على اثنَيْ عَشَرَ قولاً.
فقال عليٌّ، وابن عَبَّاس رضي اللَّه عنهما: الحروف المقطَّعة في القرآن: هي اسم اللَّه الأعظم إلا أنا لا نعرف تأليفه منها(٢١) .
وقال ابن عبَّاس أيضًا: هي أسماء اللَّه أقسم بها(٢٢) ، وقال أيضًا: هي حروف تدلُّ على: أَنَا اللَّهُ أعلم، أنا الله أرى(٢٣) ، وقال قوم: هي حسابُ أَبِي جَاد(٢٤) لتدلَّ على مدَّة ملّة محمّد ﷺ كما ورد في حديث حُيَيِّ بن أَخْطب(٢٥) ، وهو قول أبي العالية وغيره(٢٦) .
ت: وإِليه مال السُّهَيْلِيُّ(٢٧) في «الرَّوْضِ الأُنُفِ» ، فانظره.
قوله تعالى: ذلِكَ الْكِتابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ: الاسمُ من «ذَلِكَ» : الذال، والألف، واللام لبعد المشار إليه، والكاف للخطاب.
واختلف في «ذَلِكَ» هنا فقيل: هو بمعنى «هَذَا» ، وتكون الإشارة إلى هذه الحروف من القرآن، وذلك أنه قد يشار بذلك إلى حاضرٍ تعلَّق به بعضُ غَيْبَةٍ، وقيل: هو على بابه، إِشارةً إِلى غائب.
واختلفوا في ذلك الغائب فقيل: ما قد كان نزل من القرآن، وقيل غير ذلك انظره.
ولا رَيْبَ فِيهِ: معناه: لا شكّ فيه، وهُدىً: معناه إِرشادٌ وبيانٌ، وقوله:
لِلْمُتَّقِينَ: اللفظ مأخوذ من «وقى» ، والمعنى: الذين يَتَّقُونَ اللَّه تعالى بامتثال أوامره، واجتناب معاصيه، كان ذلك وقايةً بينهم وبين عذابه.
قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ.
يُؤْمِنُونَ: معناه يُصَدِّقون، وقوله: بِالْغَيْبِ قالت طائفةٌ: معناه: يُصَدِّقون، إِذا غَابُوا وَخَلَوْا، لا كالمنافقين الَّذين يؤمنون إذَا حضروا، ويكْفُرُونَ إِذا غابوا، وقال آخرون: معناه:
يصدِّقون بما غاب عنهم مما أخبرتْ به الشرائعُ، وقوله: يُقِيمُونَ الصَّلاةَ معناه:
يظهرونها ويثبتونها كما يقال: أُقِيمَتِ السُّوقُ.
ت: وقال أبو عبد اللَّه النَّحْوِيُّ في اختصاره لتفسيرِ الطَّبَرِيِّ: إِقامة الصلاة إتمام الركوع، والسجود، والتلاوة، والخشوع، والإِقبال عليها. انتهى.
قال ص(٢٨) : يقيمون الصلاةَ من التقويمِ ومنه: أَقَمْتُ العُودَ، أو الإِْدَامَةِ ومنه: قامتِ السُّوقُ، أو التشميرِ والنهوضِ ومنه: قام بالأمر. انتهى.
وقوله تعالى/: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ: الرزْقُ(٢٩) عند أهل السنة ما صحّ الانتفاع 10 أ به، حلالا كان أو حراما، ويُنْفِقُونَ: معناه هنا: يؤْتُونَ ما ألزمهُمُ الشرعُ من زكاةٍ، وما ندبهم إِلَيْهِ من غير ذلك.

(١) هذه السورة مترامية أطرافها، وأساليبها ذات أفنان، قد جمعت من وشائج أغراض السور ما كان مصداقا لتلقيبها فسطاط القرآن. فلا تستطيع إحصاء محتوياتها بحسان. وعلى الناظر أن يترقب تفاصيل منها فيما يأتي لنا من تفسيرها، ولكن هذا لا يحجم بنا عن التعرض إلى لائحات منها. وقد حيكت بنسج المناسبات والاعتبارات البلاغية من لحمة محكمة في نظم الكلام، وسدى متين من فصاحة الكلمات.
ومعظم أغراضها ينقسم إلى قسمين: قسم يثبت سمو هذا الدين على ما سبقه وعلو هديه وأصول تطهيره النفوس، وقسم يبين شرائع هذا الدين لأتباعه وإصلاح مجتمعهم.
وكان أسلوبها أحسن ما يأتي عليه أسلوب جامع لمحاسن الأساليب الخطابية وأساليب الكتب التشريعية وأساليب التذكير والموعظة. يتجدد بمثله نشاط السامعين بتفنن الأفانين، ويحضر لنا من أغراضها أنها ابتدئت بالرمز إلى تحدي العرب المعاندين تحديا إجماليا بحروف التهجي المفتتح بها رمزا يقتضي استشرافهم لما يرد بعده، وانتظارهم لبيان مقصده، فأعقب بالتنويه بشأن القرآن، فتحول الرمز إيماء إلى بعض المقصود من ذلك الرمز له أشد وقعا على نفوسهم، فتبقى في انتظار ما يتعقبه من صريح التعجيز الذي سيأتي بعد قوله: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة: 23] الآيات.
فعدل بهم إلى ذات جهة التنويه بفائق صدق هذا الكتاب وهديه، وتخلص إلى تصنيف الناس تجاه تلقيهم هذا الكتاب وانتفاعهم بهديه أصنافا أربعة، وكانوا قبل الهجرة صنفين بحسب اختلاف أحوالهم في ذلك التلقي، وإذ قد كان أخص الأصناف انتفاعا بهديه هم المؤمنين بالغيب المقيمين الصلاة يعني المسلمين- ابتدئ بذكرهم، ولما كان أشد الأصناف عنادا وحقدا صنفي المشركين الصرحاء، والمنافقين، لف الفريقان لفا واحدا، فقورعوا بالحجج الدامغة والبراهين الساطعة، ثم خص بالإطناب صنف أهل النفاق تشويها لنفاقهم وإعلانا لدخائلهم، ورد مطاعنهم، ثم كان خاتمة ما قرعت من أنوفهم صريح التحدي الذي رمز إليه بدءا تحديا يلجئهم إلى الاستكانة ويخرس ألسنتهم عن التطاول والإبانة، ويلقي في قرارات أنفسهم مذلة الهزيمة وصدق الرسول الذي تحداهم، فكان ذلك من رد العجز على الصدر، فاتسع المجال لدعوة المنصفين إلى عبادة الرب الحق الذي خلقهم وخلق السماوات والأرض، وأنعم عليهم بما في الأرض جميعا، وتخلص إلى صفة بدء خلق الإنسان فإن في ذلك تذكيرا لهم بالخلق الأول قبل أن توجد أصنامهم التي يزعمونها من صالحي قوم نوح ومن بعدهم، ومنّه على النوع بتفضيل أصلهم على مخلوقات هذا العالم وبمزيته بعلم ما لم يعلمه أهل الملأ الأعلى، وكيف نشأت عداوة الشيطان له ولنسله لتهيئة نفوس السامعين لاتهام شهواتها ولمحاسبتها على دعواتها، فهذه المنة التي شملت كل الأصناف الأربعة المتقدم ذكرها كانت مناسبة للتخلص إلى منة عظمى تخص الفريق الرابع وهم أهل الكتاب الذين هم أشد الناس مقاومة لهدي القرآن، وأنفذ الفرق قولا في عامة العرب لأن أهل الكتاب يومئذ هم أهل-- العلم، ومظنة اقتداء العامة لهم من قوله: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي [البقرة: 40] الآيات، فأطنب في تذكيرهم بنعم الله وأيامه لهم، ووصف ما لاقوا به نعمه الجمة من الانحراف عن الصراط السوي انحرافا بلغ بهم حد الكفر، وذلك جامع لخلاصة تكوين أمة إسرائيل وجامعتهم في عهد موسى ثم ما كان من أهم أحداثهم مع الأنبياء الذين قفوا موسى إلى أن تلقوا دعوة الإسلام بالحسد والعداوة حتى على الملك جبريل وبيان أخطائهم لأن ذلك يلقي في النفوس شكا في تأهلهم للاقتداء بهم. وذكر من ذلك نموذجا من أخلاقهم في تعلق الحياة وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ [البقرة: 96] ومحاولة العمل بالسحر وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ [البقرة: 102] إلخ، وأذى النبي بموجبة الكلام لا تَقُولُوا راعِنا [البقرة: 104] .
ثم قرن اليهود والنصارى والمشركين في قرن حسدهم المسلمين والسخط على الشريعة الجديدة ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ- إلى قوله- وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:
105- 112] ثم ما أثير من الخلاف بين اليهود والنصارى، وادعاء كل فريق أنه هو المحق وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ- إلى- يَخْتَلِفُونَ [البقرة: 112] ثم خص المشركين بأنهم أظلم هؤلاء الأصناف الثلاثة لأنهم منعوا المسلمين من ذكر الله في المسجد الحرام، وسمحوا بذلك في خرابه، وأنهم تشابهوا في ذلك هم واليهود والنصارى واتحدوا في كراهية الإسلام.
والاحتراز عن إجابتها في الذين كفروا منهم، وأن الإسلام على أساس ملة إبراهيم وهو التوحيد، وأن اليهودية والنصرانية ليستا ملة إبراهيم، وأن من ذلك الرجوع إلى استقبال الكعبة، ادخره الله للمسلمين آية على أن الإسلام هو القائم على أساس الحنيفية، وذكر شعائر الله بمكة، وإبكات أهل الكتاب في طعنهم على تحويل القبلة، وإن العناية بتزكية النفوس أجدر من العناية باستقبال الجهات: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [البقرة: 177] وذكروا بنسخ الشرائع لصلاح الأمم، وأنه لا بدع في نسخ شريعة التوراة أو الإنجيل بما هو خير منهما. ثم عاد إلى محاجة المشركين بآثار صنعة الله إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ [البقرة: 164] إلخ ومحاجة المشركين في يوم يتبرءون فيه من قادتهم، وإبطال مزاعم دين الفريقين في محرمات من الأكل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ [البقرة: 172] وقد كمل ذلك بذكر صنف من الناس قليل، وهم المشركون الذين لم يظهروا الإسلام ولكنهم أظهروا مودة المسلمين وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [البقرة: 204] .
ولما قضى حق ذلك كله بأبدع بيان وأوضح برهان انتقل إلى قسم تشريعات الإسلام إجمالا بقوله:
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [البقرة: 177] ثم تفصيلا: القصاص، الوصية، الصيام، الاعتكاف، الحج، الجهاد، ونظام المعاشرة والعائلة والمعاملات المالية، والإنفاق في سبيل الله والصدقات، والمسكرات، واليتامى، والمواريث، والبيوع، والربا، والديون، والإشهاد، والرهن، والنكاح، وأحكام النساء والعدة والطلاق، والرضاع، والنفقات، والأيمان.
وختمت السورة بالدعاء المتضمن لخصائص الشريعة الإسلامية، وذلك من جوامع الكلم فكان هذا الختام تذليلا وفذلكة: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ [البقرة: 284] الآيات.
وكانت في خلال ذلك كله أغراض شتى سيقت في معرض الاستطراد في متفرق المناسبات تجديدا-
(٢) وهي السور المبدوءة ب «طس» أو «طسم» .
(٣) «موسى» اسم عبراني معرب عن «موشى» ، «مو» بالعبرانية: الماء، و «شى» الشجر، سمي به لأنه أخذ من بين الماء والشجر. وهو اسم نبي بني إسرائيل عليه الصلاة والسلام، وهو علم أعجمي لا يقضى عليه بالاشتقاق، وإنما يشتق «موسى الحديد» . ينظر: «التبيان» (1/ 63) .
وهو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسماعيل بن إبراهيم الخليل.
«الكامل» لابن الأثير (1/ 169) .
(٤) أخرجه الحاكم (1/ 561) ، (2/ 259) ، وعنه البيهقي في «شعب الإيمان» (2/ 485) ، رقم (2478) ، كلاهما من طريق عبيد الله بن أبي حميد، عن أبي المليح، عن معقل بن يسار به مرفوعا.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
وتعقبه الذهبي فقال: عبيد الله، قال أحمد: تركوا حديثه.
(٥) محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نعيم بن الحكم، الضبي، الطهماني، الحافظ أبو عبد الله، الحاكم النيسابوري المعروف بابن البيع، صاحب «المستدرك» ، وغيره من الكتب المشهورة، كان مولده سنة (321) ، ورحل في طلب الحديث، وسمع الكثير على شيوخ يزيدون على ألفين، وتفقه على أبي علي بن أبي هريرة وأبي الوليد النيسابوري وأبي سهل الصعلوكي وغيرهم، أخذ عنه أبو بكر البيهقي وصنف المصنفات الكثيرة. مات سنة (405) . انظر: «طبقات ابن قاضي شهبة» (1/ 193) ، «لسان الميزان» (5/ 232) .
(٦) معقل بن يسار المزني، أبو علي، بايع تحت الشجرة. له أربعة وثلاثون حديثا، اتفقا على حديث، وانفرد البخاري بآخر، ومسلم بحديثين وعنه عمران بن حصين. مات في خلافة معاوية.
ينظر: «الخلاصة» (3/ 45) ، و «تهذيب التهذيب» (10/ 235) ، و «الثقات» (3/ 392) .
(٧) يعني السور المبدوءة ب «حم» .
(٨) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (3/ 578) كتاب «معرفة الصحابة» باب معقل بن يسار وسكت عنه هو والذهبي.
(٩) الغياية: السحابة المنفردة، أو هي كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه. ينظر: «النهاية» (3/ 403) ، و «لسان العرب» (3332) .
(١٠) سيأتي تخريجه.
(١١) هو: صدي بن عجلان بن الحارث وقيل: عجلان بن وهب ... أبو أمامة. الباهلي. السهمي. سكن «مصر» ثم انتقل منها فسكن «حمص» من الشام، ومات بها، وكان من المكثرين في الرواية، وأكثر حديثه عند الشاميين. وقال ابن الأثير في موضع آخر. روى عنه سليم بن عامر الجنائزي، والقاسم أبو عبد الرحمن، وأبو غالب حزور، وشرحبيل بن مسلم، ومحمد بن زياد، وغيرهم. توفي سنة (81) .
ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (3/ 16) ، (6/ 16) ، «الإصابة» (7/ 9) ، «الاستيعاب» (4/ 1602) «تجريد أسماء الصحابة» (2/ 148) ، «بقي بن مخلد» (17) ، «الطبقات الكبرى» (1/ 415) .
(١٢) الفرقان: القطعتان. ينظر: «النهاية» (3/ 440) .
(١٣) هو: معاوية بن صخر (أبي سفيان) بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف أبو عبد الرحمن.
القرشي. الأموي. أمه: هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، قيل: ولد قبل البعثة بخمس سنين، وقيل: بسبع، وقيل: بثلاث عشرة، والقول الأول أشهر على الصحيح من الأقوال. وهو خال المؤمنين، وكاتب النبي ﷺ وهو الذي طالب بدم عثمان، فكان من الحروب بينه وبين عليّ ما كان، وإسلامه وحروبه وإمارته شهيرة جدّا، ولا يتسع المقام للحديث عنه. توفي في رجب سنة (60) هـ.
ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (5/ 209) ، «الإصابة» (6/ 112) ، «الاستيعاب» (3/ 1416) ، «الاستبصار» (40، 67) ، «الكاشف» (3/ 157) ، «الأعلام» (7/ 261) ، «شذرات الذهب» (1/ 418) ، «العبر» (1/ 549) ، «العقد الثمين» (7/ 227) ، «تهذيب التهذيب» (10/ 207) ، «تهذيب الكمال» (3/ 1344) ، «التاريخ الكبير» (7/ 326) .
(١٤) أخرجه مسلم (1/ 553) ، كتاب «صلاة المسافرين» ، باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة، حديث (252) ، وأحمد (5/ 249) ، والطبراني في «الكبير» (8/ 139) ، رقم (7544) ، والبيهقي في «السنن الكبرى» (2/ 395) ، كتاب «الصلاة» ، باب المعاهدة على قراءة القرآن، وفي «شعب الإيمان» (2/ 451) ، رقم (2372) ، والبغوي في «شرح السنة» (3/ 19- بتحقيقنا) ، كلهم من طريق معاوية بن سلام، عن أخيه زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام أنه سمع أبا أمامة، فذكره.
وللحديث شاهد من حديث النواس بن سمعان الكلابي: أخرجه مسلم (1/ 553) كتاب «صلاة المسافرين» ، باب فضل قراءة القرآن، وسورة البقرة، حديث (253) ، والترمذي (5/ 160) ، كتاب «فضائل القرآن» ، باب ما جاء في سورة آل عمران، حديث (2883) . والبيهقي في «شعب الإيمان» (2373) ، عن النواس بن سمعان بنحو حديث أبي أمامة.
(١٥) أخرجه الترمذي (5/ 157) ، كتاب «فضائل القرآن» ، باب ما جاء في فضل سورة البقرة وآية الكرسي، حديث (2878) ، وعبد الرزاق (3/ 376- 377) ، رقم (6019) ، والحميدي (2/ 437) ، رقم (994) ، والحاكم (1/ 560- 561) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (2/ 452) ، رقم (2375) ، وابن عدي في «الكامل» (2/ 637) . كلهم من طريق حكيم بن جبير، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعا. -[.....]- وقال الترمذي: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث حكيم بن جبير، وقد تكلم شعبة في حكيم بن جبير وضعفه اه.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه والشيخان لم يخرجا عن حكيم لوهن في رواياته، وإنما تركاه لغلوه في التشيع. ووافقه الذهبي.
قلت: والشيخان لم يتركا حكيم لتشيعه فقط، إنما لضعفه أيضا.
فقال الحافظ في «التقريب» (1468) : ضعيف، رمي بالتشيع، ولأول الحديث شاهد من حديث سهل بن سعد: أخرجه أبو يعلى (13/ 547) ، رقم (7554) ، وابن حبان (1727- موارد) ، والعقيلي في «الضعفاء» (2/ 6) ، وأبو نعيم في «تاريخ أصبهان» (1/ 101) ، والطبراني في «الكبير» (6/ 163) ، رقم (5864) كلهم من طريق خالد بن سعيد المدني، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد به.
وخالد بن سعيد، قال العقيلي: لا يتابع على حديثه.
وقال: وفي فضل سورة البقرة رواية أحسن من هذا الإسناد وأصلح.
والنسائي في «الكبرى» (5/ 14) ، كتاب «فضائل القرآن» ، باب الآيتان من سورة البقرة، حديث (8020) ، والحميدي (1/ 215) ، رقم (452) ، وعبد الرزاق (3/ 377) ، رقم (6021) ، وابن خزيمة (2/ 180) ، رقم (1141) ، كلهم من طريق سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن علقمة، عن أبي مسعود به مرفوعا. وعند بعضهم: قال عبد الرحمن: ثم لقيت أبا مسعود في الطواف فسألته عنه، فحدثني أن رسول الله ﷺ ... ، وذكر الحديث وللحديث طرق أخرى واختلاف فيها تكلم عليها الحافظ علي بن عمر الدارقطني في كتابه القيم «العلل الواردة في الأحاديث النبوية» (6/ 171- 174) .
(١٦) أخرجه البخاري (8/ 672) ، كتاب «فضائل القرآن» : باب فضل سورة البقرة، حديث (5009) ، ومسلم (1/ 555) ، كتاب «صلاة المسافرين» : باب فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة (255/ 807) ، وأبو داود (1/ 444) ، كتاب «الصلاة» ، باب تحزيب القرآن، حديث (1397) ، والترمذي (5/ 159) ، كتاب «فضائل القرآن» ، باب ما جاء في آخر سورة البقرة، حديث (2881) ، والنسائي في «الكبرى» ، (5/ 9) كتاب «فضائل القرآن» ، باب سورة كذا وسورة كذا، حديث (8003) ، و (5/ 14) ، باب الآيتان من آخر سورة البقرة، حديث (8018) ، وأحمد (4/ 121، 122) ، وعبد بن حميد في «المنتخب من المسند» (ص 105- 106) ، رقم (233) ، وعبد الرزاق (3/ 377) ، رقم (6020) ، والدارمي (1/ 288) ، وسعيد بن منصور (475) ، وابن الضريس في «فضائل القرآن» (ص- 83) ، رقم (161) ، والطبراني في «الكبير» (17/ 204- 205) رقم (550، 552) ، والبيهقي في «السنن الكبرى» ، (3/ 20) ، كتاب «الصلاة» ، باب كم يكفي الرجل قراءة القرآن في ليله، وفي «شعب الأيمان» (2/ 462) ، رقم (2405، 2406) ، كلهم من طريق منصور، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: كنت أحدّث عن أبي مسعود حديثا فلقيته وهو يطوف بالبيت، فسألته، فحدث عن النبي ﷺ أنه قال: «من قرأ الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة في ليلة كفتاه» .
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
قلت: والذي حدث عبد الرحمن بن يزيد بهذا الحديث هو علقمة بلا شك فأخرجه البخاري (8/ 712) ، كتاب «فضائل القرآن» ، باب في كم يقرأ القرآن، حديث (5051) .
(١٧) الحديث بهذا اللفظ عن عبد الله بن المغفل ذكره الهيثمي في «معجم الزوائد» (6/ 315) ، وقال: رواه الطبراني، وفيه عدي بن الفضل، وهو ضعيف.
أما الحديث الذي ورد عن أبي هريرة في هذا المعنى، فأخرجه مسلم (1/ 539) من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعا: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر فإن الشيطان يفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة» .
(١٨) أخرجه مسلم (1/ 554) ، كتاب: «الإيمان» ، باب: في ذكر سدرة المنتهى، حديث (254/ 806) ، والنسائي في «الكبرى» (5/ 15) ، كتاب «فضائل القرآن» ، باب «الآيتان من آخر سورة البقرة» ، حديث (8021) ، والبغوي في «شرح السنة» (2/ 23- بتحقيقنا) ، من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس به.
(١٩) إنه مما علم باستقراء كتاب الله تعالى أن تسعا وعشرين سورة من القرآن الكريم قد افتتحت بحروف مقطعة، من جنس كلام العرب.
وبداية، فإن هذه الحروف لم ينقل عن العرب دلالات لها، ولو كانت لها دلالات لتواتر النقل عليها، ولنقل ذلك علماء الصحابة وأئمتهم، وهذا الأمر- أعني افتتاح السور بها- لهو في حد ذاته نوع من التحدي للقيام بالكشف عن أسرارها والتفكر فيها.
ولما لم يذكر عن الغرب لها دلالات فقد كان للعلماء بشأنها موقفان: أولهما: ذهب الشعبي وسفيان الثوري، وجماعة من أهل الحديث إلى أنها سر الله في القرآن، وهي من المتشابه. وثانيهما: وهو ما ذهب إليه الجمهور من أهل العلم: أنه يجب أن يتكلم فيها، وتلتمس الفوائد التي تحتها والمعاني التي تتخرج عليها.
وقد كان لابن عباس ترجمان القرآن النصيب الأوفر من الأقوال في هذه الأحرف.
وجاء المفسرون من بعده، فاتسعوا في تحديد معاني هذه الفواتح، فقد ذكروا منها: أنها: -- 1- اسم الله الأعظم.
2- قسم أقسم الله به وهو من أسمائه.
3- أسماء للسور التي وردت فيها.
4- اسم من أسماء القرآن.
5- فواتح يفتح الله بها القرآن.
6- لكل كتاب سر، وسر القرآن فواتحه.
7- حروف مقطعة من أسماء وأفعال، كل حرف من ذلك لمعنى غير معنى الحرف الآخر.
8- حروف هجاء موضوع.
9- حروف يشتمل كل حرف منها على معان شتى مختلفة.
10- ابتدئت بذلك السور ليفتح لاستماعه أسماع المشركين.
11- علامات لأهل الكتاب أنه سينزل على محمد كتاب يفتتح بالحروف المقطعة.
12- حروف من حساب الجمل.
ينظر: «البرهان» (1/ 169) ، و «جامع البيان» (1/ 205) ، و «المحرر الوجيز» (1/ 81) ، و «مفاتيح الغيب» (2/ 3) ، و «البحر المحيط» (1/ 154) .
(٢٠) ذكره السمرقندي في تفسيره (1/ 87) ، والبغوي (1/ 44) ، وابن عطية الأندلسي (1/ 82) ، والقرطبي (1/ 133- 134) .
(٢١) أخرجه ابن جرير (1/ 119) ، (233) مختصرا. وذكره السمرقندي في «تفسيره» (1/ 87) ، عن علي بلفظ «وهو اسم من أسماء الله تعالى» . وابن عطية في «تفسيره» (1/ 82) ، وابن كثير (1/ 36) ، القرطبي (1/ 134) ، والسيوطي في «الدر» (1/ 54) ، بلفظ «اسم الله أعظم» ، وعزاه لابن جريج وابن أبي حاتم.
(٢٢) أخرجه ابن جرير (1/ 119) (236) ، وذكره ابن عطية الأندلسي في «تفسيره» (1/ 82) ، والبغوي (1/ 44) ، بلفظ «أنها أقسام» عن ابن عباس، والماوردي في «تفسيره» (1/ 64) وابن كثير (1/ 36) ، والسيوطي في «الدر» (1/ 54) ، وعزاه لابن مردويه.
(٢٣) أخرجه ابن جرير (1/ 119) برقم (239) بلفظ: «أنا الله أعلم» . وفي (6/ 525) برقم (17534) ، -- بلفظ: «أنا الله أرى» . والسيوطي في «الدر» (1/ 54) ، بلفظ: «أنا الله أعلم» ، وعزاه لوكيع، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس. وفي (3/ 534) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، والبيهقي في «الأسماء والصفات» ، وابن النجار في «تاريخه» ، وذكره القرطبي (1/ 135) ، وابن كثير (1/ 36) ، وابن عطية الأندلسي في «تفسيره» (1/ 82) .
(٢٤) وأبو جاد: الكلمة الأولى من الكلمات الثماني التي تجمع حروف الهجاء العربية. ويقال: أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- لقي أعرابيّا فسأله: هل تحسن القراءة؟ فقال: نعم، قال: فاقرأ أم القرآن، فقال الأعرابي: والله ما أحسن البنات فكيف الأم؟!، فضربه عمر، وأسلمه إلى الكتّاب، فمكث حينا ثم هرب، ولما رجع إلى أهله أنشدهم [الوافر] :
أتيت مهاجرين فعلموني ... ثلاثة أسطر متتابعات
وخطوا لي أبا جاد وقالوا ... تعلم سعفصا وقريشيات
وما أنا والكتابة والتهجي ... وما حظ البنين مع البنات
ينظر: «المعجم الكبير» (1/ 22، 23) .
(٢٥) حييّ بن أخطب النضري: جاهلي، من الأشداء العتاة. كان ينعت ب «سيد الحاضر والبادي» . أدرك الإسلام، وآذى المسلمين فأسروه يوم «قريظة» . ثم قتلوه. ينظر: «سيرة ابن هشام» (2/ 148- 149) ، «تهذيب الأسماء» (1/ 171) ، و «الأعلام» (2/ 292) .
(٢٦) ذكره ابن عطية الأندلسي (1/ 82) والسيوطي في «الدر» (1/ 56) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.
(٢٧) عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد الخثعمي السهيلي: حافظ، عالم باللغة والسير، ضرير. ولد في «مالقة» ، وعمي وعمره (17 سنة) . ونبغ فاتصل خبره بصاحب «مراكش» فطلبه إليها وأكرمه، فأقام يصنّف كتبه، من كتبه «الروض الأنف» في شرح «السيرة النبوية» لابن هشام، وغيرها من الكتب في التفسير. ولد سنة (508 هـ.) ، وتوفي سنة (581 هـ.) .
انظر: «وفيات الأعيان» (1/ 28) ، «نكت الهميان» (187) ، «زاد المسافر» (96) «الأعلام» (3/ 313) .
(٢٨) «المجيد» ص 84.
(٢٩) اختلف العلماء في تعريف الرزق في عرف الشرع، فقال أبو الحسين البصري من المعتزلة: الرزق هو تمكين الحيوان من الانتفاع بالشيء والحظر على غيره أن يمنعه من الانتفاع به، فإذا قلنا: قد رزقنا الله تعالى الأموال. فمعنى ذلك أنه مكننا من الانتفاع بها، وإذا سألناه تعالى أن يرزقنا مالا فإنا نقصد بذلك أن يجعلنا بالمال أخص.
واعلم أن المعتزلة لما فسروا الرزق بذلك لا جرم قالوا: الحرام لا يكون رزقا.
وقال الأشاعرة: الحرام قد يكون رزقا، وحجتهم من وجهين:
الأول: أن الرزق في أصل اللغة هو الحظ والنصيب على ما بيناه، فمن انتفع بالحرام، فذلك الحرام صار حظا ونصيبا، فوجب أن يكون رزقا له.
الثاني: أنه تعالى قال: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هود: 6] وقد يعيش الرجل طول عمره لا يأكل إلا من السرقة، فوجب أن يقال: إنه طول عمره لم يأكل من رزقه شيئا.
وقد احتج المعتزلة بالكتاب، والسنة، والمعنى:
أما الكتاب فعدة وجوه:
أحدها: قوله تعالى: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [البقرة: 3] مدحهم الله تعالى على الإنفاق مما رزقهم، فلو كان الحرام رزقا لوجب أن يستحقوا المدح إذا أنفقوا من الحرام، وهذا باطل بالاتفاق.
ثانيها: قالوا: لو كان الحرام رزقا لجاز أن ينفق الغاصب منه لقوله سبحانه: وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ [المنافقون: 10] ، وقد أجمع المسلمون على أنه لا يجوز للغاصب أن ينفق مما أخذه، بل يجب عليه-- رده فدل ذلك على أن الحرام لا يكون رزقا.
ثالثها: استدلوا بقوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ [يونس: 59] . فبين سبحانه أن من حرم رزق الله فهو مفتر على الله فثبت أن الحرام لا يكون رزقا.
وأما السنة، فما رواه أبو الحسين البصري بإسناده عن صفوان بن أمية قال: كنا عند رسول الله ﷺ إذ جاءه عمرو بن قرة، فقال له: يا رسول الله! إن الله كتب علي الشقوة، فلا أراني أرزق إلا من دفّي بكفي، فائذن لي في الغناء من غير فاحشة، فقال عليه السلام «لا إذن لك ولا كرامة ولا نعمة، كذبت، أي عدو الله: لقد رزقك الله رزقا طيبا فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله، أما إنك لو قلت بعد هذه المقدمة شيئا ضربتك ضربا وجيعا» وأما المعنى، فإن الله تعالى منع المكلف من الانتفاع بالحرام، وأمر غيره بمنعه من الانتفاع به، ومن منع من أخذ الشيء والانتفاع به لا يقال: إنه رزقه إياه ألا ترى أنه لا يقال: إن السلطان قد رزق جنده مالا قد منعهم من أخذه، وإنما يقال: إنه رزقهم ما مكنهم من أخذه ولا يمنعهم منه ولا أمر بمنعهم منه، أجاب أصحابنا عن التمسك بالآيات بأنه وإن كان الكل من الله، لكنه كما يقال: يا خالق المحدثات والعرش والكرسي، ولا يقال: يا خالق الكلاب والخنازير، وقال: عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ [الإنسان: 6] فخص اسم العباد بالمتقين، وإن كان الكفار أيضا من العباد، وكذلك هاهنا خص اسم الرزق بالحلال على سبيل التشريف وإن كان الحرام رزقا أيضا، وأجابوا عن التمسك بالخبر بأنه حجة لنا لأن قوله عليه السلام: «فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه» صريح في أن الرزق قد يكون حراما. وأجابوا عن المعنى بأن هذه المسألة محض اللغة، وهو أن الحرام هل يسمى رزقا أم لا؟ ولا مجال للدلائل العقلية في الألفاظ. والله أعلم. ينظر:
«الفخر الرازي» (2/ 28، 29) .
   
بحر العلوم — السمرقندي (٣٧٣ هـ)

﴿ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ﴾ [البقرة ٣]
قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ أي يصدقون بالغيب. والغيب: هو ما غاب عن العين، وهو محضر في القلب. وإنما أراد به أصحاب رسول الله ﷺ ومن تابعهم إلى يوم القيامة، أنهم يصدقون بغيب القرآن أنه من الله تعالى فيحلون حلاله، ويحرمون حرامه. ويقال:
يؤمنون بالغيب يعني بالله تعالى. حدثنا الخليل بن أحمد قال: حدثنا الديبلي قال: حدّثنا أبو عبيد الله، قال: حدّثنا سفيان قال: حدثنا أصحابنا، عن الحارث بن قيس أنه قال لعبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- نحتسب بكم يا أصحاب محمد ما سبقتمونا به من رؤية محمد ﷺ وصحبته، فقال عبد الله بن مسعود: ونحن نحتسب لكم إيمانكم به ولم تروه، وإن أفضل الإيمان الإيمان بالغيب، ثم قرأ عبد الله الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وقد قيل: (يؤمنون بالغيب) يعني يصدقون بالبعث بعد الموت.
وقوله تعالى: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ، أي يديمون الصلاة، وقد قيل أيضاً: إِنَّ العبد يديم الصلاة وقد قيل: يحافظون على الصلوات الخمس بمواقيتها وركوعها وسجودها والتضرع بعدها. وقد قيل: إن العبد إذا صلى صلاة تُقْبَلُ منه، خلق الله تعالى منها ملكاً يقوم ويصلي لله إلى يوم القيامة، وثوابه لصاحب الصلاة فهذا معنى قوله: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ.
وقوله عز وجل: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أي يتصدقون، قال الكلبي: وهو زكاة المال.
وروى أسباط، عن السدي، عن أصحابه قال: هي نفقة الرجل على أهله وهذا قبل نزول آية الزكاة. ويقال: ينفقون أي يتصدقون صدقة التطوع. ويقال: هي عليهم جميعا التطوع والفريضة.
   
الكشف والبيان — الثعلبي (٤٢٧ هـ)

﴿الۤمۤ (١) ذَ ٰ⁠لِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ (٢) ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ (٣) وَٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ وَمَاۤ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡـَٔاخِرَةِ هُمۡ یُوقِنُونَ (٤) أُو۟لَـٰۤىِٕكَ عَلَىٰ هُدࣰى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ (٥) إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ سَوَاۤءٌ عَلَیۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ (٦) خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَعَلَىٰ سَمۡعِهِمۡۖ وَعَلَىٰۤ أَبۡصَـٰرِهِمۡ غِشَـٰوَةࣱۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِیمࣱ (٧)﴾ [البقرة ١-٧]
مدنية: وهي مائتان وست وثمانون آية في العدد الكوفي وهي سند أمير المؤمنين علي عليه السّلام وهي خمسة وعشرون ألف [حرف] وخمسمائة حرف، وستّة آلاف ومائة وإحدى وعشرون كلمة
أخبرنا عبد الله بن حامد بقراءتي عليه، أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف، حدثنا يعقوب ابن سفيان الصغير، حدثنا يعقوب بن سفيان الكبير، حدثنا هشام بن عمّار، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا شعيب بن زرين عن عطاء الخراساني، عن عكرمة، قال: أول سورة نزلت بالمدينة سورة البقرة.

فضلها:
أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد الطبراني بها، أخبرنا دعلج بن أحمد الشجري ببغداد، حدثنا محمد بن أحمد بن هارون، حدثنا خندف عن علي، حدثنا حسّان بن إبراهيم، حدثنا خالد بن شعيب المزني، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله ﷺ‎: «إنّ لكل شيء سناما، وسنام القرآن سورة البقرة، من قرأها في بيته ليلا لم يدخله شيطان ثلاث ليال، ومن قرأها في بيته نهارا لم يدخل في بيته شيطان ثلاثة أيام»(١) [59] .
وأخبرنا محمد بن القاسم بن أحمد المرتّب بقراءتي عليه، حدثنا أبو عمرو بن مطرف، حدثنا أبو عبد الله محمد بن المسيب، حدثنا عبد الله بن الحسين، حدثنا يوسف بن الأسباط، حدثنا حسن بن المهاجر عن عبد الله بن يزيد عن أبيه، قال: قال رسول الله ﷺ‎: «تعلموا البقرة، فإنّ أخذها بركة، وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة»(٢) [60] .
أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن الحسن المقري، حدثنا أبو أحمد عبد الله بن علي الحافظ، أخبرنا محمد بن يحيى بن مندة، حدثنا أبو مصعب، حدثنا عمران بن طلحة الليثي عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: بعث النبي ﷺ‎ بعثا ثم تتبعهم يستقرئهم، فجاء إنسان منهم فقال: «ماذا معك من القرآن؟» حتى أتى على آخرهم، وهو أحدثهم سنّا، فقال: «ما معك من القرآن؟» قال: كذا وكذا وسورة البقرة، فقال: «اخرجوا وهذا عليكم أمين» ، قالوا: يا رسول الله هو أحدثنا سنّا، قال: «معه سورة البقرة»(٣) [61] .

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى: الم: اختلف العلماء في الحروف المعجمة المفتتحة بها السور، فذهب كثير منهم إلى أنّها من المتشابهات التي استأثر الله بعلمها، فنحن نؤمن بتنزيلها ونكل إلى الله تأويلها.
قال أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) : في كل كتاب سر، وسر القرآن أوائل السور.
وقال علي بن أبي طالب عليه السّلام: إنّ لكل كتاب صفوة، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجّي.
وفسّره الآخرون، فقال سعيد بن جبير: هي أسماء الله مقطّعة، لو أحسن الناس تأليفها لعلموا اسم الله الأعظم، ألا ترى أنّك تقول: الر(٤) وتقول: حم(٥) وتقول: ن(٦) فيكون الرَّحْمنُ، وكذلك سائرها على هذا الوجه، إلّا أنّا لا نقدر على وصلها والجمع بينها.
وقال قتادة: هي أسماء القرآن.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هي أسماء للسور المفتتحة بها.
وقال ابن عباس: هي أقسام أقسم الله بها، وروي أنّه ثناء أثنى الله به على نفسه.
وقال أبو العالية: ليس منها حرف إلّا وهو(٧) مفتاح لاسم من أسماء الله عز وجل، وليس منها حرف إلّا وهو في الآية وبلائه»
، وليس منها حرف إلّا في مدّة قوم وآجال آخرين.
وقال عبد العزيز بن يحيى: معنى هذه الحروف أنّ الله ذكرها، فقال: اسمعوها مقطعة، حتى إذا وردت عليكم مؤلفة كنتم قد عرفتموها قبل ذلك، وكذلك تعلم الصبيان أولا مقطعة، وكان الله أسمعهم مقطعة مفردة، ليعرفوها إذا وردت عليهم، ثم أسمعهم مؤلّفة.
وقال أبو روق: إنّها تكتب للكفار، وذلك أنّ رسول الله ﷺ‎ كان يجهر بالقراءة في الصلوات كلّها، وكان المشركون يقولون: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ.
فربما صفّقوا وربما صفّروا وربما لفظوا ليغلّطوا النبي ﷺ‎، فلمّا رأى رسول الله ذلك أسرّ في الظهر والعصر وجهر في سائرها، وكانوا يضايقونه ويؤذونه، فأنزل الله تعالى هذه الحروف المقطعة، فلمّا سمعوها بقوا متحيرين متفكّرين، فاشتغلوا بذلك عن إيذائه وتغليطه، فكان ذلك سببا لاستماعهم وطريقا إلى انتفاعهم.
وقال الأخفش: إنّما أقسم الله بالحروف المعجمة لشرفها وفضلها، ولأنّها مباني كتبه المنزلة بالألسن المختلفة، ومباني أسمائه الحسنى وصفاته العليا، وأصول كلام الأمم بما يتعارفون ويذكرون الله ويوحّدونه، وكأنّه أقسم بهذه الحروف إنّ القرآن كتابه وكلامه لا رَيْبَ فِيهِ.
وقال النقيب: هي النبهة والاستئناف ليعلم أنّ الكلام الأول قد انقطع، كقولك: ولا إنّ زيدا ذهب.
وأحسن الأقاويل فيه وأمتنها أنّها إظهار لإعجاز القرآن وصدق محمد ﷺ‎ وذلك أنّ كل حرف من هذه الحروف الثمانية والعشرين.
والعرب تعبّر ببعض الشيء عن كلّه كقوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ(٨) أي صلّوا لا يصلّون، وقوله: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ(٩) فعبر بالركوع والسجود عن الصلاة إذ كانا من أركانها، وقال: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ(١٠) أراد جميع أبدانكم.
وقال: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ أي الأنف فعبّر باليد عن الجسد، وبالأنف عن الوجه.
وقال الشاعر في امرأته:
لما رأيت أمرها في خطي ... وفنكت في كذب ولط
أخذت منها بقرون شمط ... فلم يزل ضربي بها ومعطي(١١)
فعبّر بلفظة «خطي» عن جملة حروف أبجد.
ويقول القائل: (أب ت ث) وهو لا يريد هذه الأربعة الأحرف دون غيرها، بل يريد جميعها وقرأت الْحَمْدُ لِلَّهِ، وهو يريد جميع السورة، ونحوها كثير، وكذلك عبّر الله بهذه الحروف عن جملة حروف التهجّي، والإشارة فيه أنّ الله تعالى نبّه العرب وتحدّاهم، فقال: إنّي قد نزّلت هذا الكتاب من جملة الثمانية والعشرين التي هي لغتكم ولسانكم، وعليها مباني كلامكم، فإن كان محمد هو النبي يقوله من تلقاء نفسه، فأتوا بمثله أو بعشر سور مثله أو بسورة مثله، فلمّا عجزوا عن ذلك بعد الإجهاد ثبت أنّه معجزة.
هذا قول المبرّد وجماعة من أهل المعاني، فإن قيل: فهل يكون حرفا واحدا عودا للمعنى؟
وهل تجدون في كلام العرب أن يقال: الم زيد قائم؟ وحم عمرو ذاهب؟ قلنا: نعم، هذا عادة العرب يشيرون بلفظ واحد إلى جميع الحروف ويعبّرون به عنه.
قال الراجز:
قلت لها قفي فقالت قاف ... لا تحسبي أنّا نسينا الإيجاف(١٢)
أي قف أنت.
وأنشد سيبويه لغيلان:
نادوهم ألا ألجموا ألا تا ... قالوا جميعا كلّهم ألا فا(١٣)
أي لا تركبون فقالوا: ألا فاركبوا.
وأنشد قطرب في جارية:
قد وعدتني أم عمرو أن تا ... تدهن رأسي وتفليني تا
أراد أن تأتي وتمسح(١٤)
وأنشد الزجّاج:
بالخير خيرات وإن شرّا فا ... ولا أريد الشرّ إلّا أن تا(١٥)
أراد بقوله (فا) : وإن شرا فشر له، وبقوله: تا إلا أن تشاء.
قال الأخفش: هذه الحروف ساكنة لأنّ حروف الهجاء لا تعرب، بل توقف على كلّ حرف على نيّة السكت، ولا بدّ أن تفصل بالعدد في قولهم واحد- اثنان- ثلاثة- أربعة.
قال أبو النجم:
أقبلت من عند زياد كالخرف ... تخط رجلاي بخط مختلف(١٦)
تكتبان في الطريق لام الألف فإذا أدخلت حرفا من حروف العطف حركتها.
وأنشد أبو عبيدة:
إذا اجتمعوا على ألف وواو ... وياء هاج بينهم جدال(١٧)
وهذه الحروف تذكّر على اللفظ وتؤنّث على توهم الكلمة.
قال كعب الأحبار: خلق الله العلم من نور أخضر، ثم أنطقه ثمانية وعشرين حرفا من أصل الكلام، وهيّأها بالصوت الذي سمع وينطق به، فنطق بها العلم فكان أوّل ذلك كلّه [.....](١٨) فنظرت إلى بعضها فتصاغرت وتواضعت لربّها تعالى، وتمايلت هيبة له، فسجدت فصارت همزة، فلمّا رأى الله تعالى تواضعها مدّها وطوّلها وفضّلها، فصارت ألفا، فتلفظه بها، ثم جعل القلم ينطق حرفا حرفا(١٩) إلى ثمانية وعشرين حرفا، فجعلها مدار الكلام والكتب والأصوات واللغات والعبادات كلّها إلى يوم القيامة، وجميعها كلّها في أبجد.
وجعل الألف لتواضعها مفتاح أول أسمائه، ومقدّما على الحروف كلّها، فأمّا قوله عزّ وجلّ: الم فقد اختلف العلماء في تفسيرها.
عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قول الله تعالى: الم قال: أنا الله أعلم.
أبو روق عن الضحاك في قوله الم: أنا الله أعلم.
مجاهد وقتادة: الم اسم من أسماء القرآن.
الربيع بن أنس: (ألف) مفتاح اسم الله، و (لام) مفتاح اسمه لطيف، و (ميم) مفتاح اسمه مجيد.
خالد عن عكرمة قال: الم قسم.
محمد بن كعب: (الألف) آلاء الله، و (اللام) لطفه، و (الميم) ملكه.
وفي بعض الروايات عن ابن عباس: (الألف) الله، و (اللام) جبرئيل، أقسم الله بهم إنّ هذا الكتاب لا رَيْبَ فِيهِ
، ويحتمل أن يكون معناه على هذا التأويل: أنزل الله هذا الكتاب على لسان جبريل إلى محمد ﷺ‎.
وقال أهل الإشارة: (ألف) : أنا، (لام) : لي، (ميم) : منّي.
وعن علي بن موسى الرضا عن جعفر الصادق، وقد سئل عن قوله: الم فقال: في الألف ست صفات من صفات الله: الابتداء لأنّ الله تعالى ابتدأ جميع الخلق، و (الألف) .
ابتداء الحروف، والاستواء: فهو عادل غير جائر، و (الألف) مستو في ذاته، والانفراد: والله فرد والألف فرد، واتصال الخلق بالله، والله لا يتصل بالخلق، فهم يحتاجون إليه وله غنى عنهم.
وكذلك الألف لا يتصل بحرف، فالحروف متصلة: وهو منقطع عن غيره، والله باين بجميع صفاته من خلقه، ومعناه من الألفة، فكما أنّ الله سبب إلفة الخلق، فكذلك الألف عليه تألفت الحروف وهو سبب إلفتها.
وقالت الحكماء: عجز عقول الخلق في ابتداء خطابه، وهو محل الفهم، ليعلموا أن لا سبيل لأحد إلى معرفة حقائق خطابه إلّا بعلمهم، فالعجز عن معرفة الله حقيقة خطابه.
وأما محل الم من الإعراب فرفع بالابتداء وخبره فيما بعده.
وقيل: الم ابتداء، وذلِكَ ابتداء آخر والْكِتابُ خبره، وجملة الكلام خبر الابتداء الأول.
ذلِكَ: قرأت العامة ذلِكَ بفتح الذال، وكذلك هذه وهاتان، وأجاز أبو عمرو الإمالة في هذه، (ذ) للاسم، واللام عماد، والكاف خطاب، وهو إشارة إلى الغائب.
والْكِتابُ: بمعنى المكتوب كالحساب والعماد.
قال الشاعر:
بشرت عيالي إذ رأيت صحيفة ... أتتك من الحجج تتلى كتابها(٢٠)
أو مكتوبها، فوضع المصدر موضع الاسم، كما يقال للمخلوق خلق، وللمصور تصوير، وقال: دراهم من ضرب الأمير، أي هي مضروبة، وأصله من الكتب، وهو ضم الحروف بعضها إلى بعض، مأخوذ من قولهم: كتب الخرز، إذا خرزته قسمين، ويقال للخرز كتبة وجمعها كتب.
قال ذو المرّجة:
وفراء غرفية أثاي خوارزها ... مشلشل ضيعته فبينها الكتب(٢١)
ويقال: كتبت البغل، إذا حرمت من سفرتها الخلقة، ومنه قيل للجند كتيبة، وجمعها كتائب.
قال الشاعر:
وكتيبة جاءوا ترفل ... في الحديد لها ذخر
واختلفوا في هذا الْكِتابُ قال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد والضحاك ومقاتل:
هو القرآن، وعلى هذا القول يكون (ذلِكَ) بمعنى (هذا) كقول الله تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ(٢٢) أي هذه.
وقال خفاف بن ندبه السلمي:
إن تك خيلي قد أصيب صميمها ... فعمدا على عين تيممت مالكا(٢٣)
أقول له الرمح يأطر متنه ... تأمل خفافا إنني أنا ذالكا(٢٤)
يريد [هذا] .
وروى أبو الضحى عن ابن عباس قال: معناه ذلِكَ الْكِتابُ الذي أخبرتك أن أوجّه إليك.
وقال عطاء بن السائب: ذلِكَ الْكِتابُ الذي وعدتكم يوم الميثاق.
وقال يمان بن رئاب: ذلِكَ الْكِتابُ الذي ذكرته في التوراة والإنجيل.
وقال سعيد بن جبير: هو اللوح المحفوظ.
عكرمة: هو التوراة والإنجيل والكتب المتقدّمة.
وقال الفراء: إنّ الله تعالى وعد نبيه أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء ولا يخلق على كثرة الردّ، فلمّا أنزل القرآن قال: هو الكتاب الذي وعدتك.
وقال ابن كيسان: تأويله أنّ الله تعالى أنزل قبل البقرة بضع عشرة سورة(٢٥) كذّب بكلها المشركون ثم أنزل سورة البقرة بعدها فقال: ذلِكَ الْكِتابُ يعني ما تقدم البقرة من القرآن.
وقيل: ذلِكَ الْكِتابُ الذي كذب به مالك بن الصيف اليهودي.
لا رَيْبَ فِيهِ: لا شكّ فيه، إنّه من عند الله.
قال: هُدىً: أي هو هدى، وتم الكلام عند قوله فِيهِ، وقيل: «هو» نصب على الحال، أي هاديا تقديره لا ريب في هدايته للمتقين.
قال أهل المعاني: ظاهره نفي وباطنه نهي، أي لا ترتابوا فيه، كقوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ(٢٦) : أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا في الهدى، والبيان وما يهتدي به ويستبين به الإنسان.

فصل في التقوى
هُدىً لِلْمُتَّقِينَ: اعلم أنّ التقوى أصله وقى(٢٧) من وقيت، فجعلت الواو تاء، كالتكلان فأصله وكلان من وكلت، والتخمة أصلها وخمة من وخم معدته إذا لم يستمرئ.
واختلف العلماء في معنى التقوى وحقيقة المتقي،
فقال رسول الله ﷺ‎: «جماع التقوى في قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ...(٢٨) الآية»(٢٩) [62] .
قال ابن عباس: المتقي الذي يتقي الشرك والكبائر والفواحش.
وقال ابن عمر: التقوى أن لا يرى [نفسه] خيرا من أحد.
وقال الحسن: المتقي الذي يقول لكل من رآه هذا خير مني.
وقال عمر بن الخطاب لكعب الأحبار: حدّثني عن التقوى، فقال: هل أخذت طريقا ذا شوك؟ قال: نعم، وقال: فما عملت فيه؟ قال: حذرت وتشمّرت، فقال كعب: ذلك التقوى، ونظمه ابن المعتز فقال:
خلّ الذنوب صغيرها ... وكبيرها ذاك التقى
واضع كماش فوق أر ... ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحتقرنّ صغيرة ... إنّ الجبال من الحصا(٣٠)
وقال عمر بن عبد العزيز: ليس التقوى قيام النهار وقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك، ولكن التقوى ترك ما حرّم الله وأداء ما افترض الله، فما رزق بعد ذلك فهو خير على خير.
وقيل لطلق بن حبيب: أجمل لنا التقوى؟ فقال: التقوى عمل يطلبه الله على نور من الله رجاء ثواب الله، والتقوى ترك معصية الله على نور من الله مخافة عقاب الله.
وقال بكر بن عبد الله: لا يكون الرجل تقيا حتى يكون يتقي الطمع، ويتقي الغضب.
وقال عمر بن عبد العزيز: المتقي لمحرم لا تحرم، يعني في الحرم.
وقال شهر بن حوشب: المتقي الذي يترك ما لا يأتمن به حذرا لما به بأس.
وروي عن النبي ﷺ‎ أنّه قال: إنّما سمي المتقون؟ لتركهم ما لا بأس به حذرا للوقوع فيما به بأس(٣١) .
وقال سفيان الثوري والفضيل: هو الذي يحب للناس ما يحب لنفسه.
وقال الجنيد بن محمد: ليس المتقي الذي يحب الناس ما يحب لنفسه، إنّما المتقي الذي يحب للناس أكثر مما يحب لنفسه، أتدرون ما وقع لأستاذي سري بن المفلّس؟ سلّم عليه ذات يوم صديق له فردّ عليه، وهو عابس لم يبشّ له، فقلت له في ذلك فقال: بلغني أنّ المرء المسلم إذا سلّم على أخيه وردّ عليه أخوه قسمت بينهما مائة رحمة، فتسعون لأجلهما، وعشرة للآخر فأحببت أن يكون له التسعون.
محمد بن علي الترمذي: هو الذي لا خصم له.
السري بن المفلّس: هو الذي يبغض نفسه.
الشبلي: هو الذي يبغي ما دون الله.
قال جعفر الصادق: أصدق كلمة قالت العرب قول لبيد:
ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل(٣٢)
الثوري: هو الذي اتّقى الدنيا وأقلها.
محمد بن يوسف المقري: مجانبة كل ما يبعدك عن الله.
القاسم بن القاسم: المحافظة على آداب الشريعة.
وقال أبو زيد: هو التورّع عن جميع الشبهات.
وقال أيضا: المتقي من إذا قال قال لله، وإذا سكت سكت لله، وإذا ذكر ذكر لله تعالى.
الفضيل: يكون العبد من المتقين حتى يأمنه عدوّه كما يأمنه صديقه.
وقال سهل: المتقي من تبرّأ من حوله وقوّته.
وقال: التقوى أن لا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك من حيث أمرك.
وقيل: هو الاقتداء بالنبي ﷺ‎.
وقيل: هو أن تتقي بقلبك عن الغفلات، وبنفسك من الشهوات، وبحلقك من اللذات، وبجوارحك من السيئات، فحينئذ يرجى لك الوصول لما ملك الأرض والسموات.
أبو القاسم (حكيم) : هو حسن الخلق.
وقال بعضهم: يستدل على تقوى الرجل بثلاث: بحسن التوكّل فيما لم ينل، وحسن الرضا فيما قد نال، وحسن الصبر على ما فات.
وقيل: المتقي من اتّقى متابعة هواه.
وقال مالك: حدثنا وهب بن كيسان أنّ بعض فقهاء أهل المدينة كتب إلى عبد الله بن الزبير أنّ لأهل التقى علامات يعرفون بها: الصبر عند البلاء، والرضا بالقضاء، والشكر عند النعمة، والتذلل لأحكام القرآن.
وقال ميمون بن مهران: لا يكون الرجل تقيا حتى يكون أشدّ محاسبة لنفسه من الشريك الشحيح والسلطان الجائر.
وقال أبو تراب: بين يدي التقوى عقبات، من لا يجاوزها لا ينالها، اختيار الشدة على النعمة، واختيار القول على الفضول، واختيار الذلّ على العزّ، واختيار الجهد على الراحة، واختيار الموت على الحياة.
وقال بعض الحكماء: لا يبلغ الرجل سنام التقوى إلّا إذا كان بحيث لو جعل ما في قلبه على طبق، فيطاف به في السوق لم يستحي من شيء عليها.
وقيل: التقوى أن تزيّن سرّك للحقّ، كما تزيّن علانيتك للخلق.
وقال أبو الدرداء:
يريد المرء أن يعطى مناه ... ويأبى الله إلّا ما أرادا
يقول(٣٣) المرء فائدتي وذخري ... وتقوى الله أفضل ما استفادا(٣٤)
فصل في الإيمان
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ اعلم أنّ حقيقة الإيمان هي التصديق بالقلب، لأن الخطاب الذي توجّه عليها بلفظ آمنوا إنّما هو بلسان العرب، ولم يكن العرب يعرفون(٣٥) الإيمان غير التصديق، والنقل في اللغة لم يثبت فيه، إذ لو صح النقل عن اللغة لروي عن ذلك، كما روي في الصلاة التي أصلها الدعاء.
إذا كان الأمر كذلك وجب علينا أن نمتثل الأمر على ما يقتضيه لسانهم، كقوله تعالى في قصة يعقوب عليه السّلام وبنيه وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا(٣٦) : أي بمصدق لنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ، ويدل عليه من هذه الآية أنّه لما ذكر الإيمان علّقه بالغيب، ليعلم أنّه تصديق الخبر فيما أخبر به من الغيب، ثم أفرده بالذكر عن سائر الطاعات اللازمة للأبدان وفي الأموال فقال: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ والدليل عليه أيضا أنّ الله تعالى حيث ما ذكر الإيمان [نسبه](٣٧) إلى القلب فقال: مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ(٣٨) ، وقال: وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ»
، وقال: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ(٣٩) ، ونحوها كثير.
فأما محل الإسلام من الإيمان فهو كمحل الشمس من الضوء: كل شمس ضوء، وليس كل ضوء شمسا(٤٠) ، وكل مسك طيب، وليس كل طيب مسكا، كذلك كل إيمان إسلام وليس كل إسلام إيمانا، إذا لم يكن تصديقا لأن الإسلام هو الانقياد والخضوع، يدل عليه قوله تعالى:
قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا(٤١) من خوف السيف،
وقول النبي ﷺ‎:
«الإيمان سرا»(٤٢) [63] وأشار إلى صدره «والإسلام علانية»(٤٣) [64]
، وقوله ﷺ‎: «يا معشر من أسلم بلسانه، ولم يدخل الإيمان في قلبه»(٤٤) [65] .
وكذلك اختلف جوابه لجبرائيل في الإسلام والإيمان، فأجاب في الإيمان بالتصديق، وفي الإسلام بشرائع الإيمان، وهو ما
روى أبو بريده، وهو يحيى بن معمر قال: أول من قال في القدر بالبصرة سعيد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجّين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله ﷺ‎ فسألناه عما يقول هو: ما في القدر؟ فوافقنا عبد الله ابن عمر بن الخطاب داخلا المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله فظننت أن صاحبي سيكل الكلام لي، فقلت: أبا عبد الرحمن، إنّه قد ظهر قبلنا أناس يقرءون القرآن ويفتقرون [إلى](٤٥) العلم وذكر من لسانهم أنّهم يزعمون أن لا قدر، وأنّ الأمر أنف، فقال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنّهم برءاء مني، والذي يحلف به عبد الله ابن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر.
ثم قال: أخبرنا أبي عمر بن الخطاب قال: بينما نحن عند رسول الله ﷺ‎ ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي ﷺ‎ وأسند ركبته إلى ركبته، ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ قال رسول الله ﷺ‎: «الإسلام أن يشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّ محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصوم شهر رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا» ، قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدّقه! قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وتؤمن بالقدر خيره وشره» .
قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: «أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك» ، قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» ، قال: فأخبرني عن إماراتها؟ قال: «أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاة الشاة شاهقون في البنيان» ، قال: ثم انطلق، فلبث علينا ثم قال: يا عمر من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «فإنّه جبرائيل عليه السّلام أتاكم ليعلمكم دينكم»(٤٦) .
ثم يسمى اقرار اللسان وأعمال الأبدان إيمانا بوجه من المناسبة وضرب من المقاربة لأنها من شرائعه وتوابعه وعلاماته وإماراته كما نقول: رأيت الفرح في وجه فلان، ورأيت علم زيد في تصنيفه وإنّما الفرج والعلم في القلب،
وقال رسول الله ﷺ‎: «الإيمان بضع وسبعون بابا، أدناها إماطة الأذى عن الطريق، وأعلاها شهادة(٤٧) أن لا إله إلّا الله» [66](٤٨) .
وعن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي ﷺ‎ قال: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان» [67](٤٩) .
الحسن بن علي قال: حدثني علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: قال رسول الله ﷺ‎:
«الإيمان معرفة بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان» [68](٥٠) .
وعن علي بن الحسين زين العابدين قال: حدثنا أبي سيد شباب أهل الجنة قال: حدثنا أبي سيد الأوصياء قال: حدثنا محمّد سيد الأنبياء قال: «الإيمان قول مقول وعمل معمول وعرفان بالعقول واتباع الرسول» [72](٥١) .
وامّا الغيب فهو ما كان مغيّبا عن العيون محصّلا في القلوب وهو مصدر وضع موضع الاسم فقيل للغائب غيب، كما قيل للصائم: صوم، وللزائر: زور، وللعادل: عدل.
الربيع بن أبي العالية يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ قال: يؤمنون بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وجنته وناره ولقائه، ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث، فهذا غيب كلّه.
عمر بن الأسود عن عطاء بن أبي رباح: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ قال: بالله، من آمن بالله فقد آمن بالغيب(٥٢) .
سفيان عن عاصم بن أبي النجود في قوله يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ قال: الغيب: القرآن. وقال الكلبي: بما نزل من القرآن وبما لم يجيء بعد.
الضحاك: الغيب لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وما جاء به محمّد ﷺ‎، وقال زرّ بن حبيش وابن جريج وابن واقد: يعني بالوحي، نظيره قوله تعالى: أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى(٥٣) وقوله: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً(٥٤) وقوله: وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ(٥٥) .
الحسن: يعني بالآخرة. عبد الله بن هاني: هو ما غاب عنهم من علوم القرآن.
وروى زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) انه قال: كنت مع النبي ﷺ‎ جالسا فقال: «أتدرون أي أهل الأيمان أفضل؟» قالوا: يا رسول الله الملائكة، قال:
«هم كذلك وحقّ لهم ذلك وما يمنعهم وقد أنزلهم الله تعالى بالمنزلة التي أنزلهم، بل غيرهم» .
قلنا: يا رسول الله الأنبياء؟ قال: «هم كذلك وحقّ لهم ذلك وما يمنعهم، بل غيرهم» ، قلنا: يا رسول الله فمن هم؟ قال: «أقوام يأتون من بعدي هم في أصلاب الرجال فيؤمنون بي ولم يرونني، يجدون الورق المعلّق فيعملون بما فيه فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيمانا» [73](٥٦) .
وروى حسن إن الحرث بن قيس عن عبد الله بن مسعود: عند الله يحتسب ما سبقتمونا إليه يا أصحاب محمد من رؤية رسول الله ﷺ‎، فقال عبد الله بن مسعود: نحن عند الله نحتسب إيمانكم بمحمد ﷺ‎ ولم تروه، ثم قال عبد الله: إنّ أمر محمد كان بيّنا لمن رآه والذي لا اله الّا هو ما آمن مؤمن أفضل من إيمان الغيب، ثمّ قرأ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ أي يديمونها ويأتمونها ويحافظون عليها بمواقيتها وركوعها وسجودها وحقوقها وحدودها، وكل من واظب على شيء وقام به فهو مقيم له يقال أقام فلان الحجّ بالناس، وأقام القوم [سوقهم](٥٧) ولم يعطلوها قال الشاعر:
فلا تعجل بأمرك واستدمه ... فما صلّى عصاك [كمستديم](٥٨)
أي أراد بالصلاة هاهنا الصلوات الخمس، فذكرها بلفظ الواحد، كقوله: فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ(٥٩) أراد الكتب، وأصل الصلاة في اللغة: الدّعاء، ثمّ ضمّت إليها [عبادة] سميت مجموعها صلاة لأن الغالب على هذه العبادة الدّعاء.
وقال أبو حاتم الخارزمي: اشتقاقها من الصّلا وهو النار، فأصله من الرفق وحسن المعاناة للشيء وذلك إنّ الخشبة المعوجّة إذا أرادوا تقويمها [سحنوها بالنار] قوموها [بين خشبتين] فلذلك المصلّي ينبغي أن يتأنى في صلاته ويحفظ حدودها ظاهرا وباطنا ولا يعجّل فيها ولا يخفّ [ولا يعرف] قال الشاعر:
فلا تعجّل بأمرك واستدمه ... فما صلّى عصاك كمستديم
أي ما قوّم أمرك كالمباني.
وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ أعطيناهم، والرزق عند أهل السنّة: ما صحّ الانتفاع به، فإن كان طعاما فليتغدّى به، وان كان لباسا فلينقى والتوقي، وإن كان مسكنا فللانتفاع به سكنى، وقد ينتفع المنتفع بما هيّئ الانتفاع به على الوجهين: حلالا وحراما، فلذلك قلنا إنّ الله رزق الحلال والحرام، [وأصل الرزق] في اللغة: هو الحظ والبخت.
يُنْفِقُونَ يتصدقون، وأصل الإنفاق: الإخراج عن اليد أو عن الملك. يقال: نفق المبيع إذا كثر مشتروه وأسرع خروجه، ونفقت الدابة إذا خرجت روحها، ونافقاء اليربوع من ذلك لأنه إذا أتي من قبل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه فانتفق وأنفق إن خرج منه(٦٠) ، والنفق: سرب في الأرض له مخلص إلى مكان آخر يخرج إليه.
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ: أي يصدّقون بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ: يا محمد يعني القرآن وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ: يعني الكتب المتقدمة مثل صحف إبراهيم وموسى والزّبور والإنجيل وغيرها.
وَبِالْآخِرَةِ أي بالدار الآخرة، وسمّيت آخرة لأنّها تكون بعد الدّنيا ولأنّها أخّرت حتى تفنى الدنيا ثم تكون.
هُمْ يُوقِنُونَ يعلمون ويتيقّنون أنها كائنة، ودخل (هُمْ) تأكيدا، يسمّيه الكوفيون عمادا والبصريون فصلا.
أُولئِكَ أهل هذه الصفة، وأولاء: اسم مبني على الكسر، ولا واحد له من لفظه، والكاف خطاب، ومحل أُولئِكَ رفع بالابتداء وخبره في قوله: عَلى هُدىً رشد وبيان وصواب. مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ ابتدائان وهُمُ عماد الْمُفْلِحُونَ خبر الابتداء وهم الناجون الفائزون فازوا بالجنّة ونجوا من النار، وقيل: هم الباقون في الثواب والنعيم المقيم.
وأصل الفلاح في اللغة: البقاء. قال لبيد:
نحلّ بلادا كلها حل قبلنا ... ونرجو فلاحا بعد عاد وحمير(٦١)
وقال آخر:
لو كان حي مدرك الفلاح ... أدركه ملاعب الرماح
أبو براء يدرة المسياح(٦٢)
وقال مجاهد: أربع آيات من أول هذه السورة نزلت في المؤمنين، وآيتان بعدهما نزلت في الكافرين، وثلاث عشرة آية بعدها نزلت في المنافقين.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا: يعني مشركي العرب، وقال الضحّاك: نزلت في أبي جهل وخمسة من أهل بيته. وقال الكلبي: يعني اليهود، وقيل: المنافقون.
والكفر: هو الجحود والإنكار.
وأصله من الكفر وهو التغطية والسّتر، ومنه قيل للحراث: كافر لأنّه [يستر البذر] ، قال الله تعالى: أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ(٦٣) : يعني الزرّاع، وقيل للبحر: كافر، ولليل: كافر. قال لبيد:
حتى إذا ألقت يدا في كافر ... وأجن عورات الثغور ظلامها(٦٤)
في ليلة كفر النجوم غمامها(٦٥) ومنه: المتكفّر بالسلاح، وهو الشاكي الذي غطّى السلاح جميع بدنه.
فيسمى الكافر كافرا لأنه ساتر للحق ولتوحيد الله ونعمه ولنبوّة أنبيائه.
سَواءٌ عَلَيْهِمْ: أي واحد عليهم ومتساوي لديهم، وهو اسم مشتق من التساوي.
أَأَنْذَرْتَهُمْ: أخوّفتهم وحذّرتهم.
قال أهل المعاني: الإنذار والإعلام مع تحذير، يقال: أنذرتهم فنذروا، أي أعلمتهم فعلموا، وفي المثل: وقد أعذر من أنذر، وفي قوله: أَأَنْذَرْتَهُمْ وأخواتها أربع قراءات:
تحقيق الهمزتين وهي لغة تميم وقراءة أهل الكوفة لأنها ألف الاستفهام دخلت على ألف القطع وحذف الهمزة التي وصلت بفاء الفعل وتعويض مده منها كراهة الجمع بين الهمزتين وهي لغة أهل الحجاز، وإدخال ألف بين الهمزتين وهي قراءة أهل الشام في رواية هشام وإحدى الروايتين عن أبي عمرو.
قال الشاعر:
تطاولت فاستشرقت قرابته ... فقلن له: أأنت زيد لا بل قمر(٦٦)
والأخبار اكتفاء بجواب الاستفهام، وهي قراءة الزهري.
أَمْ: حرف عطف على الاستفهام.
لَمْ: حرف جزم لا يلي إلّا الفصل لأنّ الجزم مختص بالأفعال.
تُنْذِرْهُمْ: تحذرهم لا يُؤْمِنُونَ وهذه الآية خاصّة فيمن حقّت عليه كلمة العذاب في سابق علم الله، وظاهرها إنشاء ومعناها إخبار، ثمّ ذكر سبب تركهم للإيمان فقال:
خَتَمَ اللَّهُ: أي طبع عَلى قُلُوبِهِمْ والختم والطبع بمعنى واحد وهما التغطية للشيء [والاستيثاق](٦٧) من أن يدخله شيء آخر.
فمعنى الآية: طبع الله على قلوبهم وأغلقها وأقفلها فليست تعي خبرا ولا تفهمه. يدل عليه قوله: أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها(٦٨) .
وقال بعضهم: معنى الطبع والختم: حكم الله عليهم بالكفر والشقاوة كما يقال للرجل:
ختمت عليك أن لا تفلح أبدا.
وَعَلى سَمْعِهِمْ: فلا يسمعون الحق ولا ينتفعون به، وإنما وحّده لأنه مصدر، والمصادر لا تثنّى ولا تجمع، وقيل: أراد سمع كل واحد منهم كما يقال: آتني برأس كبشين، أراد برأس كل واحد منهما، قال الشاعر:
كلوا في نصف بطنكم تعيشوا ... فإن زمانكم زمن خميص(٦٩)
وقال سيبويه: توحيد السمع يدل على الجمع لأنه لا توحيد جمعين كقوله تعالى:
يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ»
يعني الأنوار.
قال الراعي:
بها جيف الحسرى فأما عظامها ... فبيض وأما جلدها فصليب(٧٠)
وقرأ ابن عبلة: وعلى أسماعهم، وتم الكلام عند قوله وَعَلى سَمْعِهِمْ.
ثم قال: وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ: أي غطاء وحجاب، فلا يرون الحق، ومنه غاشية السرج، وقرأ المفضل بن محمد الضبي: غِشاوَةً بالنصب كأنّه أضمر له فعلا أو جملة على الختم: أي وختم على أبصارهم غشاوة. يدل عليه قوله تعالى: وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً(٧١) .
وقرأ الحسن: غُشاوَةٌ بضم الغين، وقرأ الخدري: غَشاوَةٌ بفتح الغين، وقرأ أصحاب عبد الله: غشوة بفتح الغين من غير ألف.
وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ: القتل والأسر في الدنيا، والعذاب الأليم في العقبى، والعذاب كلّ ما يعنّي الإنسان ويشقّ عليه، ومنه: عذّبه السواط ما فيها من وجود الألم، وقال الخليل:
العذاب ما يمنع الإنسان من مراده، ومنه: الماء العذب لأنه يمنع من العطش، ثم نزلت في المنافقين: عبد الله بن أبي بن سلول الخزرجي، ومعتب بن بشر، وجدّ بن قيس وأصحابهم حين قالوا: تعالوا إلى خلة نسلم بها من محمد وأصحابه ونكون مع ذلك مستمسكين بديننا، فأجمعوا على أن يقرّوا كلمة الإيمان بألسنتهم واعتقدوا خلافها وأكثرهم من اليهود. فقال الله:

(١) كنز العمّال: 1/ 565، ح 2549.
(٢) مسند أحمد: 5/ 352.
(٣) سنن الترمذي: 4/ 234، بتفاوت.
(٤) سورة الحجر: 1.
(٥) سورة الدخان: 1.
(٦) سورة القلم: 1.
(٧) في المخطوط: وهي.
(٨) سورة المرسلات: 48.
(٩) سورة العلق: 19.
(١٠) سورة آل عمران: 182.
(١١) تفسير الطبري: 1/ 132، ولسان العرب: 10/ 480.
(١٢) شرح شافية ابن الحاجب: 4/ 264، والبيت الأوّل موجود في تفسير القرطبي: 1/ 155.
(١٣) تفسير القرطبي: 1/ 156.
(١٤) لسان العرب: 1/ 164 وفيه: تفليني وا.
(١٥) لسان العرب: 15/ 288.
(١٦) لسان العرب: 698.
(١٧) شرح الرضي على الكافية: 1/ 68.
(١٨) كلمة غير مقروءة.
(١٩) في الأصل: حرف حرف.
(٢٠) جامع البيان للطبري: 3/ 341.
(٢١) الصحاح: 1/ 208.
(٢٢) سورة الأنعام: 83.
(٢٣) لسان العرب: 3/ 302.
(٢٤) جامع البيان للطبري: 1/ 143.
(٢٥) في المخطوط: سورا.
(٢٦) سورة البقرة: 197.
(٢٧) في المخطوط: وقوي.
(٢٨) سورة النحل: 90.
(٢٩) تفسير مجمع البيان: 1/ 82.
(٣٠) تفسير القرطبي: 1/ 162.
(٣١) تفسير مجمع البيان: 1/ 83.
(٣٢) لسان العرب: 5/ 351.
(٣٣) في المخطوط: ويقول.
(٣٤) الدرّ المنثور: 1/ 25.
(٣٥) في المخطوط: يعرف.
(٣٦) سورة يوسف: 17.
(٣٧) زيادة اقتضاها السياق.
(٣٨) سورة المائدة: 41.
(٣٩) سورة المجادلة: 22.
(٤٠) في المخطوط: شمس.
(٤١) سورة الحجرات: 14.
(٤٢) تفسير مجمع البيان: 1/ 86.
(٤٣) تفسير مجمع البيان: 1/ 86.
(٤٤) كنز العمّال: 3/ 585، ح 8021.
(٤٥) زيادة اقتضاها السياق.
(٤٦) صحيح مسلم: 1/ 28- 29 بطوله.
(٤٧) في المصدر: وارفعها قول.
(٤٨) مسند أحمد: 2/ 445، وكنز العمّال: 1/ 36.
(٤٩) صحيح مسلم: 1/ 46.
(٥٠) المعجم الأوسط: 6/ 226.
(٥١) تفسير مجمع البيان: 1/ 86.
(٥٢) تفسير ابن كثير: 1/ 43.
(٥٣) سورة النجم: 35.
(٥٤) سورة الجن: 26.
(٥٥) سورة التكوير: 24.
(٥٦) مسند أبي يعلى: 1/ 147.
(٥٧) زيادة عن تفسير الطبري: 1/ 152 والمخطوط ممسوح.
(٥٨) تاج العروس: 8/ 295.
(٥٩) سورة البقرة: 213.
(٦٠) راجع كتاب العين: 5/ 178.
(٦١) تفسير الطبري: 1/ 182.
(٦٢) تاج العروس: 2/ 146 لسان العرب: 2/ 454 وفيه: (أبا براء مدرة السياح) ، والمسياح: من يسيح بالنميمة والشر في الأرض.
(٦٣) سورة الحديد: 20.
(٦٤) لسان العرب: 5/ 147.
(٦٥) جامع البيان للطبري: 1/ 162.
(٦٦) كذا في المخطوط، ولم نجده.
(٦٧) المخطوط غير مقروء وما أثبتناه من تفسير القرطبي: 1/ 186.
(٦٨) سورة محمد: 24.
(٦٩) زاد المسير: 1/ 22.
(٧٠) قائله علقمة بن عبدة راجع ديوانه: 27 وتفسير الطبري: 4/ 324.
(٧١) سورة الجاثية: 23.
   
المحرر الوجيز — ابن عطية (٥٤٦ هـ)

﴿ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ﴾ [البقرة ٣]
قوله عزّ وجلّ:
﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ ويُقِيمُونَ الصَلاةَ ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾
"يُؤْمِنُونَ" مَعْناهُ: يُصَدِّقُونَ، ويَتَعَدّى بِالباءِ، وقَدْ يَتَعَدّى بِاللامِ كَما قالَ تَعالى: ﴿وَلا تُؤْمِنُوا إلا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ [آل عمران: ٧٣] وكَما قالَ: ﴿فَما آمَنَ لِمُوسى﴾ [يونس: ٨٣]، وبَيْنَ التَعْدِيَتَيْنِ فَرْقٌ، وذَلِكَ أنَّ التَعْدِيَةَ بِاللامِ في ضِمْنِها تَعَدٍّ بِالباءِ يُفْهَمُ مِنَ المَعْنى.
واخْتَلَفَ القُرّاءُ في هَمْزِ "يُؤْمِنُونَ": فَكانَ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وعاصِمٌ، وابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ يَهْمِزُونَ "يُؤْمِنُونَ" وما أشْبَهَهُ مِثْلُ: يَأْكُلُونَ، ويَأْمُرُونَ، ويُؤْتُونَ وكَذَلِكَ مَعَ تَحَرُّكِ الهَمْزَةِ مِثْلُ: يُؤَخِّرُكُمْ، ويَؤُودُهُ، إلّا أنَّ حَمْزَةَ كانَ يَسْتَحِبُّ تَرْكَ الهَمْزِ إذا وقَفَ، والباقُونَ يَقِفُونَ بِالهَمْزِ، ورَوى ورْشٌ عن نافِعٍ تَرْكُ الهَمْزِ في جَمِيعِ ذَلِكَ. وقَدْ رُوِيَ عن عاصِمٍ أنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَهْمِزُ الهَمْزَةَ الساكِنَةَ، وكانَ أبُو عَمْرٍو إذا أدْرَجَ القِراءَةَ، أو قَرَأ في الصَلاةِ لَمْ يَهْمِزْ كُلَّ هَمْزَةٍ ساكِنَةٍ، إلّا أنَّهُ كانَ يَهْمِزُ حُرُوفًا مِنَ السَواكِنِ بِأعْيانِها سَتَذْكُرُ في مَواضِعِها إنْ شاءَ اللهُ.
وإذا كانَ سُكُونُ الهَمْزَةِ عَلامَةً لِلْجَزْمِ لَمْ يَتْرُكْ هَمَزَها مِثْلُ: "نَنْسَأْها"، و"هَيِّئْ لَنا" وما أشْبَهَهُ.
وقَوْلُهُ "بِالغَيْبِ" قالَتْ طائِفَةٌ: مَعْناهُ يُصَدِّقُونَ إذا غابُوا وخَلَوْا، لا كالمُنافِقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ إذا حَضَرُوا، ويَكْفُرُونَ إذا غابُوا، وقالَ آخَرُونَ: يُصَدِّقُونَ بِما غابَ عنهم مِمّا أخْبَرَتْ بِهِ الشَرائِعُ. واخْتَلَفَتْ عِبارَةُ المُفَسِّرِينَ في تَمْثِيلِ ذَلِكَ، فَقالَتْ فِرْقَةٌ: الغَيْبُ في هَذِهِ الآيَةِ هو اللهُ عَزَّ وجَلَّ، وقالَ آخَرُونَ: القَضاءُ والقَدَرُ. وقالَ آخَرُونَ: القُرْآنُ وما فِيهِ مِنَ الغُيُوبِ. وقالَ آخَرُونَ: الحَشْرُ والصِراطُ والمِيزانُ والجَنَّةُ والنارُ. وهَذِهِ الأقْوالُ لا تَتَعارَضُ، بَلْ يَقَعُ الغَيْبُ عَلى جَمِيعِها.
والغَيْبُ في اللُغَةِ: ما غابَ عنكَ مِن أمْرٍ، ومِن مُطْمَئِنِّ الأرْضِ الَّذِي يَغِيبُ فِيهِ داخِلُهُ.
وَقَوْلُهُ: "يُقِيمُونَ" مَعْناهُ: يُظْهِرُونَها ويُثْبِتُونَها كَما يُقالُ: أُقِيمَتِ السُوقُ. وهَذا تَشْبِيهٌ بِالقِيامِ مِن حالَةِ خَفاءِ قُعُودٍ أو غَيْرِهِ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ:
وإذا يُقالُ: أتَيْتُمْ لَمْ يَبْرَحُوا حَتّى تُقِيمَ الخَيْلُ سُوقَ طِعانِ

ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ:
أقَمْنا لِأهْلِ العِراقَيْنِ سُوقَ الـ ∗∗∗ ـضِّرابِ فَخاسُوا ووَلَّوْا جَمِيعًا

وأصْلُ "يُقِيمُونَ" يَقُومُونَ، نُقِلَتْ حَرَكَةُ الواوِ إلى القافِ فانْقَلَبَتْ ياءً لِكَوْنِ الكَسْرَةِ قَبْلَها. و"الصَلاةَ" مَأْخُوذَةٌ مِن صَلّى يُصَلِّي إذا دَعا. كَما قالَ الشاعِرُ:
عَلَيْكَ مِثْلَ الَّذِي صَلَّيْتَ فاغْتَمِضِي ∗∗∗ نَوْمًا، فَإنَّ لِجَنْبِ المَرْءِ مُضْطَجَعًا

ومِنهُ قَوْلُ الآخَرِ:
لَها حارِسٌ لا يَبْرَحُ الدَهْرُ بَيْتَها ∗∗∗ وإنْ ذُبِحَتْ صَلّى عَلَيْها وزَمْزَما

فَلَمّا كانَتِ الصَلاةُ في الشَرْعِ دُعاءً انْضافَ إلَيْهِ هَيْآتُ وقِراءَةُ سُمِّيَ جَمِيعُ ذَلِكَ بِاسْمِ الدُعاءِ، وقالَ قَوْمٌ: هي مَأْخُوذَةٌ مِنَ الصَلا وهو عَرَقٌ وسَطَ الظَهْرِ ويَفْتَرِقُ عِنْدَ العَجَبِ فَيَكْتَنِفُهُ، ومِنهُ أخَذَ المُصَلِّي في سَبْقِ الخَيْلِ لِأنَّهُ يَأْتِي مَعَ صَلْوَيِ السابِقِ، فاشْتُقَّتِ الصَلاةُ مِنهُ، إمّا لِأنَّها جاءَتْ ثانِيَةً لِلْإيمانِ فَشُبِّهَتْ بِالمُصَلِّي مِنَ الخَيْلِ، وإمّا لِأنَّ الراكِعَ والساجِدَ يَنْثَنِي صَلَواهُ.
والقَوْلُ إنَّها مِنَ الدُعاءِ أحْسَنُ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ كُتِبَتْ "مِمّا" مُتَّصِلَةٌ، و"ما" بِمَعْنى الَّذِي فَحَقُّها أنْ تَكُونَ مُنْفَصِلَةً، إلّا أنَّ الجارَّ والمَجْرُورَ كَشَيْءٍ واحِدٍ، وأيْضًا فَلَمّا خَفِيَتْ نُونُ "مِن" في اللَفْظِ حُذِفَتْ في الخَطِّ، و"الرِزْقِ" عِنْدَ أهْلِ السُنَّةِ. ما صَحَّ الِانْتِفاعُ بِهِ حَلالًا كانَ أو حَرامًا، بِخِلافِ قَوْلِ المُعْتَزِلَةِ: إنَّ الحَرامَ لَيْسَ بِرِزْقٍ. و"يُنْفِقُونَ" مَعْناهُ هُنا: يُؤْتُونَ ما ألْزَمَهُمُ الشَرْعُ مِن زَكاةٍ، وما نَدَبَهم إلَيْهِ مِن غَيْرِ ذَلِكَ.
قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: "يُنْفِقُونَ" يُؤْتُونَ الزَكاةَ احْتِسابًا لَها. قالَ غَيْرُهُ: الآيَةُ في النَفَقَةِ في الجِهادِ.
قالَ الضَحّاكُ: هي نَفَقَةٌ كانُوا يَتَقَرَّبُونَ بِها إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ عَلى قَدْرِ يُسْرِهِمْ. قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا: هي نَفَقَةُ الرَجُلِ عَلى أهْلِهِ. والآيَةُ تَعُمُّ الجَمِيعَ، وهَذِهِ الأقْوالُ تَمْثِيلٌ لا خِلافَ.
   
البحر المحيط — أبو حيان (٧٤٥ هـ)

﴿ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ﴾ [البقرة ٣]
﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ﴾ الإيمانُ: التَّصْدِيقُ، ﴿وما أنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا﴾ [يوسف: ١٧]، وأصْلُهُ مِنَ الأمْنِ أوِ الأمانَةِ، ومَعْناهُما الطُّمَأْنِينَةُ، أمَّنَهُ: صَدَّقَهُ، وأمِنَ بِهِ: وثِقَ بِهِ، والهَمْزَةُ في أمِنَ لِلصَّيْرُورَةِ كَأعْشَبَ، أوْ لِمُطاوَعَةِ فِعْلٍ كَأكَبَّ، وضُمِّنَ مَعْنى الِاعْتِرافِ أوِ الوُثُوقِ فَعُدِّيَ بِالباءِ، وهو يَتَعَدّى بِالباءِ واللّامِ ﴿فَما آمَنَ لِمُوسى﴾ [يونس: ٨٣]، والتَّعْدِيَةُ بِاللّامِ في ضِمْنِها تَعَدٍّ بِالباءِ، فَهَذا فَرْقُ ما بَيْنَ التَّعْدِيَتَيْنِ. الغَيْبُ: مَصْدَرُ غابَ يَغِيبُ إذا تَوارى، وسُمِّي المُطَمْئِنُ مِنَ الأرْضِ غَيْبًا لِذَلِكَ، أوْ فَعِيلٌ مِن غابَ فَأصْلُهُ غَيَّبَ، وخُفِّفَ نَحْوَ لَيِّنٍ في لِينٍ، والفارِسِيُّ لا يَرى ذَلِكَ قِياسًا في ذَواتِ الياءِ، فَلا يُجِيزُ في لِينٍ التَّخْفِيفَ ويُجِيزُهُ في ذَواتِ الواوِ، ونَحْوَ: سَيِّدٍ ومَيِّتٍ، وغَيْرُهُ قاسَهُ فِيهِما. وابْنُ مالِكٍ وافَقَ أبا عَلِيٍّ في ذَواتِ الياءِ، وخالَفَ الفارِسِيُّ في ذَواتِ الواوِ، فَزَعَمَ أنَّهُ مَحْفُوظٌ لا مَقِيسٌ، وتَقْرِيرُ هَذا في عِلْمِ التَّصْرِيفِ.
﴿ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾ والإقامَةُ: التَّقْوِيمُ، أقامَ العَوْدَ قَوَّمَهُ، أوِ الإدامَةُ، أقامَتِ الغَزالَةُ سُوقَ الضِّرابِ، أيْ أدامَتْها مِن قامَتِ السُّوقُ، أوِ التَّشَمُّرُ والنُّهُوضُ مِن قامَ بِالأمْرِ، والهَمْزَةُ في أقامَ لِلتَّعْدِيَةِ. الصَّلاةُ: فَعَلَةٌ، وأصْلُهُ الواوُ لِاشْتِقاقِهِ مِنَ الصَّلى، وهو عِرْقٌ مُتَّصِلٌ بِالظَّهْرِ يَفْتَرِقُ مِن عِنْدِ عَجْبِ الذَّنَبِ، ويَمْتَدُّ مِنهُ عِرْقانِ، في كُلِّ ورِكٍ عِرْقٌ، يُقالُ لَهُما الصَّلَوانِ، فَإذا رَكَعَ المُصَلِّي انْحَنى صَلاهُ وتَحَرَّكَ فَسُمِّيَ بِذَلِكَ مَصْلِيًّا، ومِنهُ أُخِذَ المُصَلِّي في سَبْقِ الخَيْلِ لِأنَّهُ يَأْتِي مَعَ صِلْوَيِ السّابِقِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فاشْتُقَّتِ الصَّلاةُ مِنهُ إمّا لِأنَّها جاءَتْ ثانِيَةَ الإيمانِ فَشُبِّهَتْ بِالمُصَلّى مِنَ الخَيْلِ، وإمّا لِأنَّ الرّاكِعَ والسّاجِدَ يَنْثَنِي صَلَواهُ، والصَّلاةُ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ تَنْتَظِمُ مِن أقْوالٍ وهَيْئاتٍ مَخْصُوصَةٍ، وصَلّى فَعَلَ الصَّلاةَ، وأمّا صَلّى دَعا فَمَجازٌ وعِلاقَتُهُ تَشْبِيهُ الدّاعِي في التَّخَشُّعِ والرَّغْبَةِ بِفاعِلِ الصَّلاةِ، وجَعَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ الصَّلاةَ مِمّا أُخِذَ مِن صَلّى بِمَعْنى دَعا، كَما قالَ:
عَلَيْكِ مِثْلُ الَّذِي صَلَّيْتِ فاغْتَمِضِي نَوْمًا فَإنَّ لِجَنْبِ المَرْءِ مُضْطَجَعًا.

وقالَ:
لَها حارِسٌ لا يَبْرَحُ الدَّهْرَ بَيْتَها ∗∗∗ وإنْ ذُبِحَتْ صَلّى عَلَيْها وزَمْزَما.

قالَ: فَلَمّا كانَتِ الصَّلاةُ في الشَّرْعِ دُعاءً، وانْضافَ إلَيْهِ هَيْئاتٌ وقِراءَةٌ، سُمِّيَ جَمِيعُ ذَلِكَ بِاسْمِ الدُّعاءِ، والقَوْلُ إنَّها مِنَ الدُّعاءِ أحْسَنُ، انْتَهى كَلامُهُ. وقَدْ ذَكَرْنا أنَّ ذَلِكَ مَجازٌ عِنْدَنا، وذَكَرْنا العَلاقَةَ بَيْنَ الدّاعِي وفاعِلِ الصَّلاةِ. ومِن حَرْفُ جَرٍّ، وزَعَمَ الكِسائِيُّ أنَّ أصْلَها مِنا مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِ بَعْضِ قُضاعَةَ:
بَذَلْنا مارِنَ الخَطِّيِّ فِيهِمْ ∗∗∗ وكُلَّ مُهَنَّدٍ ذَكَرٍ حُسامِ

مِنا أنْ ذَرَّ قَرْنُ الشَمْسِ حَتّى ∗∗∗ أغاثَ شَرِيدَهم فَنَنُ الظَّلامِ

وتَأوَّلَ ابْنُ جِنِّي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ عَلى فِعَلٍ مِن مَنى يُمْنى أيْ قَدَرَ. واغْتَرَّ بَعْضُهم بِهَذا البَيْتِ فَقالَ: وقَدْ يُقالُ مِنا. وقَدْ تَكُونُ لِابْتِداءِ الغايَةِ ولِلتَّبْعِيضِ، وزائِدَةً وزِيدَ لِبَيانِ الجِنْسِ، ولِلتَّعْلِيلِ، ولِلْبَدَلِ، ولِلْمُجاوَزَةِ والِاسْتِعْلاءِ، ولِانْتِهاءِ الغايَةِ، ولِلْفَصْلِ، ولِمُوافَقَةِ الباءِ، ولِمُوافَقَةٍ في (مِثْلَ ذَلِكَ): سِرْتُ مِنَ البَصْرَةِ إلى الكُوفَةِ، أكَلْتُ مِنَ الرَّغِيفِ، ما قامَ مِن رَجُلٍ، ﴿يُحَلَّوْنَ فِيها مِن أساوِرَ مِن ذَهَبٍ﴾ [الكهف: ٣١]، ﴿فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ﴾ [البقرة: ١٩]، ﴿بِالحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الآخِرَةِ﴾ [التوبة: ٣٨]، ﴿غَدَوْتَ مِن أهْلِكَ﴾ [آل عمران: ١٢١]، قَرُبْتَ مِنهُ، ﴿ونَصَرْناهُ مِنَ القَوْمِ﴾ [الأنبياء: ٧٧]، ﴿يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ﴾ [البقرة: ٢٢٠] ﴿يَنْظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ﴾ [الشورى: ٤٥] ﴿ماذا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ﴾ [فاطر: ٤٠] . ما تَكُونُ مَوْصُولَةً، واسْتِفْهامِيَّةً، وشَرْطِيَّةً، ومَوْصُوفَةً، وصِفَةً، وتامَّةً. مَثَلُ ذَلِكَ: ﴿ما عِنْدَكم يَنْفَدُ﴾ [النحل: ٩٦] ﴿مالِ هَذا الرَّسُولِ﴾ [الفرقان: ٧]، ﴿ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنّاسِ مِن رَحْمَةٍ﴾ [فاطر: ٢]، مَرَرْتُ بِما مُعْجَبٍ لَكَ، لِأمْرٍ ما جَدَعَ قَصِيرٌ أنْفَهُ، ما أحْسَنَ زَيْدًا.
﴿رَزَقْناهُمْ﴾ الرِّزْقُ: العَطاءُ، وهو الشَّيْءُ الَّذِي يُرْزَقُ كالطَّحْنِ، والرِّزْقُ المَصْدَرُ، وقِيلَ: الرِّزْقُ أيْضًا مَصْدَرُ رَزَقْتَهُ أعْطَيْتَهُ، ﴿ومَن رَزَقْناهُ مِنّا رِزْقًا حَسَنًا﴾ [النحل: ٧٥]، وقالَ:
رُزِقْتَ مالًا ولَمْ تُرْزَقْ مَنافِعَهُ ∗∗∗ إنَّ الشَّقِيَّ هو المَحْرُومُ ما رُزِقا

وقِيلَ: أصْلُ الرِّزْقِ الحَظَّ، ومَعانِي فَعَلَ كَثِيرَةٌ ذُكِرَ مِنها: الجَمْعُ، والتَّفْرِيقُ، والإعْطاءُ، والمَنعُ، والِامْتِناعُ، والإيذاءُ، والغَلَبَةُ، والدَّفْعُ، والتَّحْوِيلُ، والتَّحَوُّلُ، والِاسْتِقْرارُ، والسَّيْرُ، والسَّتْرُ، والتَّجْرِيدُ، والرَّمْيُ، والإصْلاحُ، والتَّصْوِيتُ (مِثْلُ ذَلِكَ): حَشَرَ، وقَسَمَ، ومَنَحَ، وغَفَلَ، وشَمَسَ، ولَسَعَ، وقَهَرَ، ودَرَأ، وصَرَفَ، وظَعَنَ، وسَكَنَ، ورَمَلَ، وحَجَبَ، وسَلَخَ، وقَذَفَ، وسَبَحَ، وصَرَخَ. وهي هُنا لِلْإعْطاءِ نَحْوُ: نَحَلَ، ووَهَبَ، ومَنَحَ.
﴿يُنْفِقُونَ﴾ الإنْفاقُ: الإنْفاذُ، أنْفَقْتُ الشَّيْءَ وأنْفَذْتُهُ بِمَعْنًى واحِدٍ، والهَمْزَةُ لِلتَّعْدِيَةِ، يُقالُ نَفَقَ الشَّيْءُ نَفَذَ، وأصْلُ هَذِهِ المادَّةِ تَدُلُّ عَلى الخُرُوجِ والذَّهابِ، ومِنهُ نافَقَ والنّافِقاءُ ونَفَقَ.
   
التفسير البسيط — الواحدي (٤٦٨ هـ)

﴿ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ﴾ [البقرة ٣]
قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ﴾.
قال الزجاج(١): موضع ﴿الَّذِين﴾ جر، تبعا ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾، ويجوز أن يكون موضعه(٢) رفعا على المدح، كأنه لما قيل: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾، قيل: من هم؟ فقيك: هم ﴿الَّذِينَ﴾، ويجوز أن يكون موضعه نصبا على المدح، كأنه قيل: أذكر(٣) الذين(٤).
وقوله تعالى: ﴿يُؤمِنوُنَ﴾ قال الأزهري: اتفق العلماء أن (الإيمان) معناه: التصديق، كقوله(٥): ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا﴾ [يوسف: 17]. أي: بمصدق.
ومعنى التصديق: هو اعتقاد السامع صدق(٦) المخبر فيما يخبر، وأصله في اللغة: الطمأنينة إلى الشيء، من قولهم: أمن يأمن أمنا، إذا اطمأن وزال(٧) الخوف عنه.
وآمنت فلانا، إذا جعلته يطمئن وتسكن نفسه. وآمن بالله ورسوله إذا صدقهما واثقا(٨) بذلك مطمئنا إليه.
قال الأزهري: وإنما قلت: إن المؤمن معناه: المصدق، لأن الإيمان مآخوذ من الأمانة، والله يتولى علم السرائر ونية العقد(٩)، وجعل تصديقه أمانة ائتمن كل من أسلم على(١٠) تلك الأمانة، فمن(١١) صدق بقلبه فقد أدى الأمانة، ومن كان قلبه على خلاف ما يظهره بلسانه فقد خان، والله حسيبه.
وإنما قيل للمصدق: مؤمن، وقد آمن؛ لأنه دخل في أداء الأمانة التي ائتمنه الله عليها(١٢).
وأنشد ابن الأنباري على أن (آمن) معناه: صدّق(١٣) قول الشاعر:
وَمِنْ قَبْلُ آمنَّا وَقَدْ كَانَ قَوْمُنَا ... يُصلُون للأوْثَانِ قَبْلُ مُحَمَّدَا(١٤)
معناه: من قبل آمنا محمدا، [أي صدقنا محمدا](١٥) فمحمدا منصوب بمعنى التصديق(١٦).
قال أبو علي الفارسي(١٧): ويجوز من حيث قياس اللغة، أن يكون (آمن) [صار ذا أمن](١٨)، مثل: أجدب، وأعاه(١٩)، أي: صار ذا عاهة في ماله، فكذلك (آمن) صار ذا (أمن) في نفسه وماله بإظهار الشهادتين، كقولهم: أسلم، أي: صار ذا سلم، وخرج عن أن يكون حربا مستحل المال والدم(٢٠).
والقول في معنى الإيمان: ما قاله الأزهري(٢١).
على أن أبا القاسم الزجاجي شرح معنى الإيمان بما هو أظهر مما ذكره الأزهري، وهو أنه قال(٢٢): معنى التصديق في الإيمان لا يعرف من طريق اللغة إلا بالاعتبار والنظر، لأن حقيقته ليست للتصديق، ألا ترى أنك إذا صدقت إنسانا فيما يخبرك به، لا تقول: آمنت به، لكنك إذا نظرت في موضوع(٢٣) هذه الكلمة وصرّفته حق التصريف، ظهر لك من باطنها معنى يرجع إلى التصديق(٢٤).
وذلك أن (آمن) أَفْعَل، من (أَمِنَ)، والواحد إذا قال: آمنت بالله. [فإن (آمنت) فعل متعد، ومعناه: آمنت نفسي، أي: جعلتها في أمان الله بتصديقي(٢٥) إياه، لأن الأمن من عذاب الله لا يحصل إلا بتصديقه، فإذا صدقه فقد آمن نفسه(٢٦)، فصار التصديق إيمانا للعبد، وجاز أن يعبر عن الإيمان بالتصديق، لأن أحدهما سبب للآخر(٢٧).
و (الباء) في قولك: (آمنت بالله)](٢٨) ليست (باء) التعدية، إنما هي (باء) الإلصاق التي يسميها(٢٩) النحويون (باء) الاستعانة(٣٠)، كما تقول: قطعت القلم بالسكين.
كذلك وقع إيمان النفس من العذاب بتصديق الله، وحذف المفعول من قولهم: (آمنت بالله) لدلالة المعنى عليه، كقولهم: حمل فلان على العدو، أي: سلاحه أو نفسه، هذا هو الأصل في الإيمان، ثم جعل الإيمان بمعنى التصديق في قوله: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا﴾ [يوسف: 17] أي: بمصدق(٣١)، ولم يقل: (بنا) لأنه أريد ها هنا التصديق الخالص، لا إيمان بالنفس من العذاب، كما أريد ذلك في قولهم: (آمنت بالله)
وأما الفرق بين الإيمان والإسلام فسنذكره عند قوله: ﴿قُل لم تُؤمِنُواْ وَلَكن قُولُوا أسلمَنَا﴾(٣٢) [الحجرات: 14] إن شاء الله.
وسمي أحدهما(٣٣) باسم الآخر(٣٤) مجازا وتوسعا، كقوله تعالى: ﴿فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَاَ﴾ الآية [الذاريات: 35، 36].
وفي بعض القراءات ﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً﴾ [المنافقون: 2] بكسر الألف(٣٥)، بمعنى الشهادة باللسان(٣٦).
وفي قوله ﴿يُؤمِنُونَ﴾ قراءتان، تحقيق الهمزة وتليينها(٣٧).
فمن حقق، فحجته(٣٨): أن الألف في (آمن) لا تخلو إما أن تكون زائدة، أو منقلبة، فلا(٣٩) يجوز أن تكون زائدة، لأنها لو كانت كذلك لكان (فَاعَل) [ولو كان (فَاعَل)،](٤٠) كان مضارعه (يُفَاعِل) فلما كان مضارعه (يؤمن) دل على أنها غير زائدة، فإذا لم تكن زائدة كانت منقلبة، ولا يخلو أنقلابها من أن يكون عن: (الواو) أو عن (الياء) أو عن (الهمزة)، ولا يجوز أن تكون منقلبة عن (الواو)، لأنها في موضع سكون، [وإذا كانت في موضع سكون](٤١) وجب تصحيحها، وبمثل هذه الدلالة لا يجوز انقلابها عن (الياء)، فإذا(٤٢) لم يجز انقلابها عن (الواو) ولا عن (الياء) ثبت أنها منقلبة عن (الهمزة)، وإنما انقلبت عنها ألفا لوقوعها ساكنة بعد حرف مفتوح، كما أنها إذا خففت في: (بأس) و (رأس)(٤٣) و (فأس) انقلبت عنها ألفا لسكونها وانفتاح ما قبلها(٤٤)، كذلك قلبت في نحو: (آمن) و (آتى)(٤٥)، وفي الأسماء: نحو (آدر)(٤٦) و (آدم)، و (آخر) إلا أن الانقلاب هاهنا لزمها لاجتماع الهمزتين، والهمزتان إذا اجتمعتا في كلمة لزم الثانية منهما القلب بحسب الحركة التي قبلها إذا كانت ساكنة، نحو: (آمن) و (اوتمن) و (ايذن)(٤٧)، و (ايتنا)(٤٨).
فمن حقق(٤٩) (الهمز) في ﴿يؤمنون﴾ فلأنه إنما ترك (الهمز) من (أومن) لاجتماع الهمزتين، كما أن تركها في (آمن) كذلك(٥٠)، فلما زال اجتماعها مع سائر الحروف المضارعة سوى(٥١) الهمزة، رد(٥٢) الكلمة إلى الأصل فهمز؛ لأن الهمز من (الأمن) و (الأمنة) فاء الفعل.
ومما(٥٣) يقوي الهمزة(٥٤) أن من تركها إنما يقلبها (واوا)(٥٥) ساكنة وما قبلها متحرك بالضم، و (الواو) الساكنة إذا انضم ما قبلها فقد استجازوا قلبها(٥٦) همزة.
يدل(٥٧) على هذا، ما ذكره المازني عن الأخفش، قال(٥٨): كان أبو حية النميري يهمز كل واو ساكنة قبلها ضمة نحو: (مؤسى)(٥٩) وأشباهه.
وتقدير ذلك: أن الحركة لما كانت تلي الواو من (مؤسى)(٦٠) صارت كأنها عليها، والواو إذا تحركت بالضمة أبدل منها الهمزة.
وإذا جاز إبدال (الهمزة) من (الواو الساكنة) التي قبلها ضمة، واجتلابها وإن لم تكن من الكلمة، فالهمزة التي هي أصل في الكلمة أولى بالتحقيق، وأن لا يبدل منها الواو.
وحجة من لم يهمز(٦١): أن هذه الهمزة قد لزمها البدل في مثالين من الفعل المضارع والماضي، نحو(٦٢): (آمن) و (أُومِنَ)، والمضارع نحو: (أُومِنُ) ولم يجز تحقيقها في هذه المواضع، وهذا القلب الذي يلزمنا(٦٣) في المثالين إعلال لها، والإعلال إذا لزم مثالا أتبع سائر الأمثلة العارية من موجب الإعلال كإعلالهم: (يقوم)، و (لقام)، و (يُكْرِم)(٦٤) من أجل (أُكْرِمُ)(٦٥) و (أَعِدُ) (لِيَعِد)(٦٦)، فوجب على هذا أن يختار(٦٧) ترك الهمزة في ﴿يؤمنون﴾، ليتبع قولهم ﴿يؤمنون﴾ في الإعلال المثالين الآخرين(٦٨)، لا على التخفيف القياسي(٦٩) نحو: (جونة) في (جؤنة)(٧٠)، و (بوس) في (بؤس)(٧١).
وأيضًا فإن(٧٢) حرف المضارعة المضموم صادف حرفا منقلبا ألف قبل أن يلحقه حرف المضارعة، فلما ولي المضموم من حرف المضارعة، انقلب ذلك الألف واوا، وأي(٧٣) مرضع للهمزة(٧٤) هاهنا.
وقوله تعالى: ﴿بِالْغَيْبِ﴾(٧٥) الغيب: مصدر غاب يغيب غيبا، وكل(٧٦) ما غاب عنك فلم تشهده فهو غيب(٧٧)، قال الله تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾(٧٨) والعرب تسمى(٧٩) المطمئن من الأرض: الغيب(٨٠)، لأنه غاب عن الأبصار.
ومه قول لبيد:
وَتَسمَّعَت رِزَّ الأَنِيس فرَاعَها ... عَن ظَهْرِ(٨١) غَيْبٍ والأنيسُ سَقَامُها(٨٢) قال شمر(٨٣): وكل مكان لا يدرى ما فيه فهو غيب، وكذلك الموضع الذي لا يدرى ما وراءه وجمعه غيوب(٨٤)، ومنه قوله:
وللفؤاد وجيب تحت أبهره ... لدم(٨٥) الغلام وراء الغيب بالحجر(٨٦)
وقال أبو زيد: يقال: بدا غَيَّبَان العود، إذا بدت عروقه التي تغيبت في الأرض لحفر السيل(٨٧).
والمراد بالغيب المذكور هاهنا: ما غاب علمه(٨٨) وعن الحس والضرورة(٨٩) مما يدرك بالدليل(٩٠)،
ولذلك(٩١) استوجبوا حسن الثناء بالإيمان بالغيب، لأنه تصديق بما أخبروا به مما لا يعلم حسا وضرورة، ويكون العلم به مكتسبا، فيدخل(٩٢) في جملة هذا ما أخبر عنه الرسول عليه السلام من أمر الجنة والنار والوعد وغير ذلك(٩٣).
قال أبو العالية في قوله: ﴿يُؤمِنوُنَ بِالغيَب﴾ قال: يؤمنون بالله(٩٤)، وملائكته وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وجنته، وناره، ولقائه(٩٥)، وبالبعث بعد(٩٦) الموت(٩٧).
وكأن هذا إجمال ما فصل في قوله: ﴿كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ [البقرة: 285] وقال عطاء(٩٨): من آمن بالله آمن بالغيب(٩٩).
وكذلك روى أبو العباس عن ابن الأعرابي(١٠٠) في قوله: ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ قال(١٠١): يؤمنون بالله. قال(١٠٢): والغيب- أيضًا- ما غاب عن العيون وإن كان محصلا في القلوب(١٠٣).
قال أبو إسحاق: وكل ما غاب عنهم مما أخبرهم به النبي ﷺ فهو غيب.(١٠٤). هذا طريق المفسرين في معنى (الغيب).
ولأهل المعاني فيه طريق آخر(١٠٥)، وهو أن معنى قوله: {يُؤِمنوُنَ بِالغَيْبِ} أي: يؤمنون إذا غابوا عنكم، ولم يكونوا كالمنافقين(١٠٦) الذين يقولون إذا خلوا إلى شياطينهم: ﴿إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ [البقرة: 14]، ويقوي هذا الوجه قوله: ﴿الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ﴾ [الملك: 12]، وقوله: ﴿من خشي الرحمن بالغيب﴾ [ق:33]، والجار والمجرور هاهنا في موضع (الحال)، أي: يؤمنون غائبين عن مراءاة الناس، لا يريدون بإيمانهم تصنعا لأحد.
وقوله تعالى: ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾:
أي: يديمونها(١٠٧)، ويحافظون عليها، ويقال: قام الشيء إذا دام وثبت، وأقامه إذا أدامه(١٠٨)، والذي يدل على أن قيام الشيء إنما يعنى به دوامه وثباته(١٠٩) ما أنشده أبو زيد:
إنِّي إذَا لم يُنْدِ حَلْقاً رِيقُه ... وَرَكَدَ السَّبُّ فَقَامَتْ سُوقُهْ(١١٠)
والراكد: الدائم الثابت(١١١)، ومن ثم قيل: ماء راكد، وماء دائم.
ومن هذا يقال: أقام القوم سوقهم إذا أداموها وواظبوا(١١٢) عليها(١١٣).
قال أبو علي الفارسي: وهذا التفسير أشبه من أن يفسر بـ (يتمونها)(١١٤). وأما (الصلاة) فمعناها في اللغة: الدعاء(١١٥)، ومنه الحديث: "إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن كان مفطرا فليطعم وإن كان صائما فليصل"(١١٦) قال أبو عبيد: قوله: "فليصل" أي: فليدع له بالبركة والخير، وكل داع فهو مصل(١١٧).
قال الأعشى: عَلَيْكِ مثل الذي صَلَّيْتِ فَاغْتَمِضي ... نَومًا(١١٨) فإنَّ لِجَنْبِ المرءِ مُضْطَجعا(١١٩)
وقال أبو العباس في قوله:
وصَلَّى عَلى دَنِّهَا وارْتَسَمْ(١٢٠)
قال: دعا لها أن لا تحمض ولا تفسد(١٢١).
هذا معنى الصلاة في اللغة، ثم ضمت إليها هيئات وأركان سميت بمجموعها صلاة، هذا مذهب الأكثرين.
وقال الزجاج(١٢٢): الأصل في الصلاة اللزوم، يقال: قد صلى واصطلى(١٢٣): إذا لزم، ومن هذا من يصلى في النار أي: يلزم، قال: والقول عندي هذا؛ لأن الصلاة من أعظم الفرض الذي أمر بلزومه، وألزم ما أمر به من العبادات(١٢٤).
ومن اختار هذه الطريقة(١٢٥) قال: معنى قولهم للداعي إذا دعا: (صلى) معناه: أنه لزم الدعاء لشدة حاجته إلى الإجابة.
و (الصَّلَوَان) من الفرس، العظمان اللذان في العجز(١٢٦)، والواحد: (صلا)، سميا للزوم كل واحد منهما الآخر(١٢٧)، والمُصَلِّي: الذي يأتي في أثر السابق من هذا، لأنه يأتي ورأسه مع ذلك المكان من السابق(١٢٨)، ومنه حديث علي - رضي الله عنه -: (سبق رسول الله ﷺ وصلى أبو بكر)(١٢٩).
وقوله تعالى: ﴿وَمِمَّا رزَقنَهُم﴾. يقال: رَزَق الله الخلق رَزْقا ورِزْقا، فالرَّزْقُ بالفتح: هو المصدر الحقيقي، والرِّزْق: الاسم، ويجوز أن يوضع موضع المصدر(١٣٠)، وكل ما انتفع به العبد هو رزقه، من مال وولد وغيره.

وقوله تعالى: ﴿يُنفِقُونَ﴾ معنى الإنفاق في اللغة: إخراج المال من اليد. ومن هذا يقال: نفق المبيع إذا كثر مشتروه، فخرج عن يد البائع، ونفقت الدابة إذا خرجت روحها(١٣١)، والنفق(١٣٢) سرب له مخلص إلى مكان آخر يخرج منه(١٣٣)، والنافقاء من جحرة اليربوع: وهو الذي يخرج منه إذا أخذ من جهة أخرى، ومنه المنافق، لخروجه عن الإيمان بما ينطوي عليه من الكفر(١٣٤).
والمراد بالإنفاق هاهنا: إنفاق فيما يكون طاعة فرضا أو نفلا؛ لأن الله تعالى مدحهم بهذا الإنفاق(١٣٥).

(١) "معاني القرآن" 1/ 33.
(٢) في "معاني القرآن" (موضعهم) قال المحقق: وهو ناظر فيه إلى معنى الكلمة 1/ 33.
(٣) في (ب): (اذكروا) مكررة.
(٤) انتهى من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 33، 34، وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 131، "الإملاء" للعكبري 1/ 11.
(٥) في "تهذيب اللغة": (اتفق العلياء من اللغويين وغيرهم أن الإيمان معناه: التصديق، وقال تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا﴾ "تهذيب اللغة" (أمن) 1/ 210. وقد اعترض بعض العلماء على دعوى الإجماع على أن الإيمان معناه في اللغة التصديق. قال ابن أبي العز في "شرح العقيدة الطحاوية": (وقد اعترض على استدلالهم بأن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق، بمنع الترادف بين التصديق والإيمان، وهب أنه يصح في موضع فلم قلتم إنه يوجب الترادف مطلقا؟) "شرح الطحاوية" ص 321. وقال ابن تيمية في معرض رده على من ادعى إجماع أهل اللغة على أن الإيمان معناه التصديق، قال: (... قوله إجماع أهل اللغة قاطبة على أن الإيمان قبل نزول القرآن هو التصديق، فيقال له: من نقل هذا الإجماع ومن أين يعلم هذا الإجماع؟ وفي أي كتاب ذكر هذا الإجماع؟ ...) ثم ذكر وجوها كثيرة في رد هذِه الدعوى. انظر كتاب الإيمان ضمن "مجموع الفتاوى" 7/ 123 - 130. وعلى فرض أن معنى الإيمان في اللغة (التصديق) فإن الشارع استعمله في معنى اصطلاحي خاص، كما استعمل الصلاة والزكاة في معان شرعية خاصة زائدة على المعنى اللغوي. انظر. "مجموع الفتاوى" 7/ 298.
(٦) في (ب): (مع صدق).
(٧) في (ب): (وزوال).
(٨) في (ب): (واقي).
(٩) في (ب): (العبد).
(١٠) في (ب): (عن).
(١١) في (ب): (فقد).
(١٢) نقل كلام الأزهري بمعناه، انظر "التهذيب" (أمن) 1/ 211.
(١٣) "تهذيب اللغة" (أمن) 1/ 211، وانظر "الزاهر" 1/ 203.
(١٤) البيت أنشده ابن الأنباري في "الزاهر" بدون عزو 1/ 203، وكذلك الأزهري في "التهذيب"، (أمن) 1/ 212، "اللسان" (أمن) 1/ 142.
(١٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ب) و (ج).
(١٦) انظر كلام ابن الأنباري في "الزاهر" 1/ 202، 203.
(١٧) "الحجة" 1/ 220.
(١٨) ما بين المعقوفين ساقط من (ب) وفي (ج) (ذا أمر).
(١٩) في "الحجة": (أجرب، وأقطف، وأعاه) 1/ 220.
(٢٠) انتهى ما نقله عن "الحجة" لأبي علي 1/ 220، وانظر بقية كلام أبي علي ص 226 حيث أفاد أن الإيمان بمعنى التصديق ليس على إطلاقه في كل موضع.
(٢١) أي بمعنى التصديق، فإن أراد المعنى اللغوي، فقد سبق ذكر اعتراض بعض العلماء عليه، وإن أراد المعنى اللغوي والشرعي فهذا مردود، فإن معنى الإيمان عند السلف: تصديق القلب ونطق (اللسان)، وعمل الجوارح. ولو قلنا: إن الإيمان في اللغة التصديق، فإن الشارع استعمله في معنى أوسع من ذلك، كما استعمل الصلاة والزكاة وغيرها من المصطلحات الشرعية التي نقلت من معناها اللغوي إلى معنى شرعي خاص، أو أن الشارع لم ينقلها ولم يغيرها، ولكن استعملها مقيدة لا مطلقة.
انظر: "شرح العقيدة الطحاوية" ص314 - 332، "مجموع الفتاوى" 7/ 170، 287، 298.
(٢٢) لم أجده فيما اطلعت عليه من كتب الزجاجي والله أعلم.
(٢٣) في (ب): (موضع).
(٢٤) إذا حقيقة الإيمان في أصلها ليست للتصديق فقط، وإن كان التصديق أحد معانيها، == كما ذكر: أنك إذا صدقت إنسانا فيما يخبرك به لا تقول: آمنت، وبهذا استدل من قال. إن الإيمان والتصديق ليسا مترادفين على الإطلاق.
قال شارح الطحاوية: (ومما يدل على عدم الترادف، أنه يقال للمُخْبَر إذا صدَّق: صدقه، ولا يقال: آمنه، ولا آمن به، بل يقال: آمن له، كما قال تعالى: ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ﴾ [العنكبوت:26]. ﴿فَمَآءَامَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِيَّهُ مِّن قَومِهِ عَلىَ خَوْفٍ﴾ [يونس:83]. وقال تعالى: ﴿يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة: 61] ففرق بين المعدى بالباء والمعدى باللام، فالأول يقال للمُخْبَر به، والثاني للمُخْبِر ..) "شرح الطحاوية" ص321، وانظر: "مجموع الفتاوى" 7/ 290.
(٢٥) في (ب): (تصديقي).
(٢٦) في (ب). (آمن من نفسه).
(٢٧) في (ب): (الآخر).
(٢٨) ما بين المعقوفين مكرر في (ب).
(٢٩) في (ب): (يسموها).
(٣٠) سماها شارح الطحاوية باء التعدية، لكن هناك فرق بين المعدى بالباء والمعدى باللام، فالمعدى بالباء للمخبر به، وباللام للمخبر. انظر: "شرح الطحاوية" ص 321، "مجموع الفتاوى" 7/ 288.
(٣١) قال الفارسي: (وأما قوله: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾ فليس المعنى على: ما أنت بمصدق لنا ولو كنا صادقين عندك؛ لأن الأنبياء لا تكذب الصادقين، ولكن المعنى: ما أنت واثقا، ولا غير خائف الكذب في قولنا ... فمؤمن هنا من آمن، أي صار ذا أمن أو صار ذا ثقة ...). "الحجة" 1/ 226، 227، ونحو هذا قال ابن تيمية في الآية، إنها بمعنى: أي بمقر لنا ومصدق لنا، لأنهم أخبروه عن غائب ...). "الإيمان الأوسط" ص 71.
(٣٢) في (ب): ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾.
(٣٣) أي: الإيمان والإسلام.
(٣٤) ذكره أبو علىِ الفارسي، انظر: "الحجة" 1/ 220. قال ابن كثير -رادا على من قال ذلك- عند تفسير قوله تعالى: ﴿فأَخرَجنا مَن كاَنَ فِيهَا مِنَ المُؤمنِينَ (35) فما وَجدنَا﴾ الآية قال: (احتج بهذِه من ذهب إلى رأي المعتزلة ممن لا يفرق بين مسمى الإيمان والإسلام، لأنه أطلق عليهم المؤمنين والمسلمين، وهذا الاستدلال ضعيف، لأن هؤلاء كانوا قوما مؤمنين، وعندنا أن كل مؤمن مسلم، ولا ينعكس، فاتفق الإسمان هاهنا لخصوصية الحال، ولا يلزم ذلك في كل حال)، "ابن كثير" 4/ 2498. ط. دار الفكر.
(٣٥) قراءة الجمهور بالفتح، وبالكسر قراءة الحسن. انظر: "المحتسب" 2/ 315، 322، "البحر" 8/ 271، "القراءات الشاذة" للقاضي ص 72.
(٣٦) في (ب): (اللسان). انظر: "الحجة" 1/ 222.
(٣٧) قرأ ورش عن نافع، وأبو عمرو (يومنون) بغير همز، وبقية السبعة يهمزون. انظر "الحجة" لأبي علي1/ 214، "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 84.
(٣٨) نقله عن "الحجة" لأبي علي، قال في "الحجة": (الإعراب: لا تخلو الألف في (آمن) من أن تكون زائدة، أو منقلبة، وليس في القسمة أن تكون أصلا. فلا يجوز أن تكون زائدة لأنها ...) 1/ 235.
(٣٩) في (ب): (ولا يجوز).
(٤٠) ما بين المعقوفين ساقط من (ج).
(٤١) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٤٢) في (ب): (وإذا).
(٤٣) في (ج): (ووأس).
(٤٤) بنصه في "الحجة" 1/ 235، وانظر "الكتاب" 3/ 543.
(٤٥) في جميع النسخ (ااتى) ورسمتها حسب ما في "الحجة" 1/ 235.
(٤٦) الآدر: وهو المنتفخ الخصية. انظر: "اللسان" (أدر) 1/ 44.
(٤٧) (ائذن) مكانها بياض في (ب).
(٤٨) انظر بقية كلام أبي علي في "الحجة" 1/ 236، وما بعده نقله من موضع آخر 1/ 238 حيث قال أبو علي: (أما حجة من قرأ (يؤمنون) بتحقيق الهمز، فلأنه إنما ترك الهمز في (أومن) لاجتماع الهمزتين ...)، 1/ 238، 239.
(٤٩) في (ج): (خفف).
(٥٠) في (أ)، (ج): (لذلك) واخترت ما في ب، لأنه أصح وموافق ما في "الحجة" 1/ 238.
(٥١) في (ب): (سرى).
(٥٢) في (ب): (ورد).
(٥٣) في (ب): (وما).
(٥٤) في (ج): (أن الهمزة أن من تركها).
(٥٥) في (ب): (واو).
(٥٦) في (ب): (قبلها).
(٥٧) في (ب): (نيل).
(٥٨) في "الحجة": (قال محمد بن يزيد: أخبرني أبو عثمان، قال: أخبرني الأخفش قال: كان أبو حية النميري يهمز كل واو ساكنة قبلها ضمة وينشد:
لَحُبَّ المُؤقِدَانِ إلى مُؤْسَى
وتقدير ذلك أن الحركة ... إلخ) 1/ 239.
(٥٩) (موسى) غير مهموزة في جميع النسخ، وهمزتها كما في "الحجة" 1/ 139.
(٦٠) انظر التعليق السابق.
(٦١) "الحجة" 1/ 240.
(٦٢) في "الحجة" (فالماضي نحو: ..) 1/ 240.
(٦٣) في "الحجة" (يلزمها) 1/ 240.
(٦٤) في (ب): (يلزم).
(٦٥) أصل (أُكْرِم) (أُؤكْرِمُ) مضارع (أَكْرَمَ)، ثم حذفت الهمزة في (أُؤَكْرِم) لاجتماع الهمزتين، ثم حملت الياء في (يُكرم) على الهمزة في (أكرم) فحذفت الهمزة معه مثل حذفها مع (أُكْرِم) ليتفق الباب. انظر "سر صناعة الإعراب" 1/ 385.
(٦٦) لأن الواو في (يَعِد) حذفت لوقوعها بين ياء وكسرة، وحملت الهمزة في (أعد) على ذلك، وحذفت الواو معها حتى لا يختلف الباب. انظر: "سر صناعة الإعراب" 1/ 385.
(٦٧) في (ج): (تختاريتك).
(٦٨) أي الإعلال في الماضي نحو (آمن)، والمضارع (أُومِنُ).
(٦٩) أي أن حذف الهمزة في (يؤمنون) إعلال لا تخفيف قياسي. والتخفيف القياسي ما ذكره سيبويه بقوله: (وإن كان ما قبلها مضموماً -أي الهمزة- فأردت أن تخفف، أبدلت مكانها واوا، وذلك قولك في (الجؤنة) و (البؤس) و (المؤمن): الجونة والبوس والمومن) "الكتاب" 3/ 543.
(٧٠) في (ب): (جونة). و (الجؤنة): سليلة مستديرة مغشاة بجلد، يستعملها العطار ظرفا للطيب. انظر: "تهذيب اللغة" (جون) 1/ 6893.
(٧١) إلى هنا انتهى ما نقله الواحدي عن "الحجة" 1/ 240.
(٧٢) في (ب) سقط وتصحيف فالنص فيها: (وأيضًا، قال في حرف المضارعة انقلب ذلك الألف صادق حرفاً).
(٧٣) (الواو) ساقطة من (ب).
(٧٤) في (ب): (للهمز).
(٧٥) في (ب): (الغيب) تصحيف.
(٧٦) في (ب): (وكلما)
(٧٧) انظر: " تفسير الطبري" 1/ 102، و"ابن عطية" 1/ 146، و"تفسير القرطبي" 1/ 142.
(٧٨) هذا جزء من آية وردت في مواضع وهي: 73 من الأنعام، و 94 و 105 من التوبة و 9 من الرعد، و 92 من المؤمنون، و 6 من السجدة و 46 من الزمر، و 22 من الحشر، و 8 من الجمعة، و 18 من التغابن.
(٧٩) (تسمى) ساقط من (ج).
(٨٠) "تهذيب اللغة" (غاب) 3/ 2616.
(٨١) في (ج): (صهر).
(٨٢) البيت في "ديوان لبيد"، وروايتة: (وتوجست رز ..) ويروى: (.. ركز الأنيس) == وهو يصف بقر الوحش، والرز والركز: الصوت الخفي، عن ظهر غيب: من وراء حجاب، وقوله: والأنيس سقامها: لأنهم يصيدونها فهم داؤها. انظر "شرح ديوان لبيد" ص 311، وهو في "المخصص" لابن سيده 2/ 137. بمثل رواية الديوان، وبدل (راعها) (رابها). وفي "البحر المحيط" 6/ 198.
(٨٣) هو شمر بن حمدويه الهروي، اللغوي الأديب، لقي أبا عبيدة، وابن الأعرابي، والأصمعي والفراء وغيرهم، ألف كتابا كبيرا في اللغة على حروف المعجم، وفقد بعده، توفي سنة خمس وخمسين ومائتين.
انظر: "إنباه الرواة" 2/ 77، "معجم الأدباء" 3/ 410، "إشارة التعيين" ص141.
(٨٤) ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" (غاب) 3/ 2621.
(٨٥) في (ب): (دم).
(٨٦) البيت لابن مقبل. (الوجيب): تحرك القلب تحت الأبهر، و (اللدم): الضرب، و (الغيب): ما كان بينك وبينه حجاب، يقول: إن للقلب صوتا يسمعه ولا يراه، كما يسمع صوت الحجر الذي يرمى به الصبي ولا يراه. ورد البيت في "تهذيب اللغة" (بهر) 1/ 401، "الصحاح" (بهر) 2/ 598، "معجم مقاييس اللغة" (لدم) 5/ 243، "الزاهر" 1/ 398، 552، "أساس البلاغة" (لدم) 2/ 338، و"اللسان" (بهر) 1/ 370، (لدم) 4/ 3255.
(٨٧) لم أجده في "نوادر أبي زيد"، وذكره الأزهري نحوه ولم ينسجه لأبي زيد. "تهذيب اللغة" (غاب) 3/ 2616.
(٨٨) في (ب): (محله).
(٨٩) قال البيضاوي: والمراد به: الخفي الذي لا يدركه الحس، ولا يقتضيه بديهة العقل 1/ 7.
(٩٠) الغيب قسمان. قسم لا دليل عليه وهو المعني بقوله: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ﴾ [الأنعام: 59]، وقسم نص عليه دليل كوجود الخالق سبحانه، واليوم الآخر، وغير ذلك من أمور الغيب، وهو المراد هنا، أي: يستدلون عليه فيؤمنوا به. انظر البيضاوي 1/ 7، والرازي 2/ 23.
(٩١) في (ب): (وكذلك).
(٩٢) في (ج): (يدخل).
(٩٣) انظر "معاني القرآن" للزجاج 1/ 35.
(٩٤) في (ب): (به).
(٩٥) (الواو) ساقطة من (ب).
(٩٦) في (ب): (هذا).
(٩٧) ذكره الثعلبي بسنده عن الربيع عن أبي العالية 1/ 46 أ، وأخرجه ابن جرير عن الربيع بن أنس. قال شاكر: لعل ذكر: عن أبي العالية سقط من الإسناد من نسخ الطبري، لثبوته عند الناقلين عنه. الطبري 1/ 237 (ط. شاكر)، وأخرجه ابن أبي حاتم في (تفسيره) 1/ 36، وذكره ابن كثير 1/ 44، "الدر" 1/ 60.
(٩٨) هو عطاء بن أبي رباح، المكي، القرشي مولاهم، روى عن عدد من الصحابة، كان ثقة فقيهًا عالمًا، توفي سنة أربع عشرة ومائة من الهجرة. انظر ترجمته في "طبقات ابن سعد" 5/ 467، "سير أعلام النبلاء" 5/ 78، "تهذيب التهذيب" 3/ 101.
(٩٩) أخرجه ابن أبي حاتم عن عطاء بن أبي رباح، قال المحقق: رجال إسناده ثقات ابنِ أبي حاتم 1/ 178 (رسالة دكتوراه). وأخرجه الثعلبي بسنده عن عطاء قال: ﴿الًذِين يُؤمنوُنَ بِالغيبِ﴾ قال: هو الله عز وجل من آمن بالله فقد آمن بالغيب. الثعلبي في 1/ 46 ب، وذكره ابن كثير 1/ 181.
(١٠٠) هو محمد بن زياد الأعرابي، مولى العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، كان راوية للأشعار نحويا، كثير الحفظ، توفي سنة إحدى وثلاثين ومائتين. انظر ترجمته في: "طبقات النحويين واللغويين" ص 195، "إنباه الرواة" 3/ 128، "نزهة الألباء" ص 119.
(١٠١) في (ب): (ملا).
(١٠٢) (قال) ساقط من (ب).
(١٠٣) "تهذيب اللغة" (غاب) 3/ 2616.
(١٠٤) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 35.
(١٠٥) ما ذكره قال به عدد من المفسرين، ولم أجد أحدا من أهل المعاني فيما اطلعت عليه قال به، بل كلام الزجاج السابق بخلافه وهو أحد أهل المعاني، فلا وجه لتخصيص أهل المعاني بالذكر.
(١٠٦) ذكره ابن عطية 1/ 145، والزمخشري في "الكشاف" 1/ 128، والرازي 2/ 27، وابن كثير 1/ 44، والبيضاوي 1/ 7.
(١٠٧) أنظر: "تفسير أبي الليث" قال: يقيمون الصلاة يحافظون على الصلوات، وقد قيل: معنى يقيمون أي: يديمون الصلاة، 1/ 980. وذكره ابن الجوزي وعزاه لابن كيسان، "زاد المسير" 1/ 25.
(١٠٨) في (ب): (دام).
(١٠٩) انظر. "التهذيب" (قام) 3/ 2864، "اللسان" (قوم) 6/ 3782.
(١١٠) أبيات من الرجز أنشدها أبو زيد في "النوادر" مع أبيات أخرى ولم يعزها، "النوادر" ص 169، وذكر ابن الأنباري في "المذكر والمؤنث" البيت الثاني (وركد السب .. إلخ) مع بيت آخر ص355، وكذا ورد البيت الثاني في "المخصص" 17/ 21.
(١١١) في "غريب الحديث" لأبي عبيد: الدائم الراكد الساكن، 1/ 137، وانظر: "تهذيب اللغة" (دام) 2/ 1134، (الزاهر) 2/ 372.
(١١٢) في (ب): (ووضبوا).
(١١٣) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 104.
(١١٤) وبهذا أخذ الزجاج حيث قال: معناه يتمون الصلاة، كما قال: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [البقرة: 196]. "المعاني" 1/ 35. وقال ابن جرير: إقامتها. أداؤها بحدودها وفروضها والواجب فيها، على ما فرضت عليهم 1/ 104، وانظر ابن كثير 1/ 45.
(١١٥) أنظر: الطبري 1/ 104، "تهذيب اللغة" (صلى) 2/ 2049.
(١١٦) الحديث أخرجه مسلم عن أبي هريرة (14312) في كتاب النكاح، باب: الأمر بإجابة الدعوة دون قوله (إلى طعام)، وأبو داود بمثل رواية مسلم (2460) في كتاب الصوم، باب. في الصائم يدعى إلى وليمة، وأخرج (3736) في كتاب الأطعمة، باب: ما جاء في إجابة الدعوة، نحوه عن ابن عمر.
وأخرجه الترمذي (7980) في كتاب الصيام، باب: ما جاء في إجابة الدعوة دون قوله: (فإن كان مفطرا فليطعم) في لفظه (إلى طعام)، وأحمد في "مسنده" 2/ 507، 2/ 489 دون قوله (فإن كان مفطرا فليطعم).
(١١٧) في "غريب الحديث": (قال: قوله: فليصل ... قال أبو عبيد: كل داع فهو مصل) في الهامش: قالا: أي ابن علية ويزيد. أنظر "غريب الحديث" لأبي عبيد 1/ 110. فالكلام الأول نقله أبو عبيد، والمؤلف هنا نقل من الأزهري وتابعه في نسبة النص لأبي عبيد، "التهذيب" (صلى) 2/ 2049.
(١١٨) في (ب): (يوما) وهي رواية للبيت.
(١١٩) البيت في "ديوان الأعشى" ص 106، وهو من قصيدة يمدح بها (هوذة بن علي الحنفي) ويروى: (يوما) بدل (نوما) ذكره أبو عبيدة في "المجاز"، وقال: فمن رفع (مثل) جعله. عليك مثل الذي قلت لي ودعوت لي به، ومن نصبه جعله. أمرا، يقول: عليك بالترحم والدعاء لي، وذكره الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 214، وابن الأنباري في "الزاهر" 1/ 139، وأبو بكر بن عزيز في "معرفة اشتقاق أسماء نطق بها القرآن" 2/ 539 رسالة ماجستير، وأبو عبيد في "غريب الحديث" 1/ 111، والأزهري في "التهذيب" (صلى) 2/ 2049، وورد في "الدر المصون" 1/ 92 و"القرطبي" 1/ 146، و"ابن كثير" 1/ 46، "البحر المحيط" 1/ 38.
(١٢٠) البيت للأعشى من قصيدة يمدح به قيس بن معد يكرب، وصدره:
قابلها الريح في دنها
يصف الخمر، صلى: دعا، ارتسم: كبَّر ودعا وتعوَّذ مخافة أن يجدها فسدت، فتبور تجارته. انظر: "ديوان الأعشى" ص 196، "غريب الحديث" لأبي عبيد 1/ 111 والطبري 1/ 104، "تهذيب اللغة" (صلى) 2/ 2049، وابن كثير 1/ 46.
(١٢١) "تهذيب اللغة" (صلى) 2/ 2049.
(١٢٢) "معاني القرآن" 1/ 215.
(١٢٣) في (أ) و (ج): (واصطلا) وفي (المعاني) (يقال: صلى وأصلى واصطلى ...) 1/ 215، ونص المؤلف في "التهذيب" فلعله نقل منه، 2/ 2049.
(١٢٤) "معاني القرآن" للزجاج، دون قوله: (وألزم ما أمرت به من العبادات) 1/ 215، وذكره في "تهذيب اللغة" 2/ 2049.
(١٢٥) أي: أن الصلاة بمعنى اللزوم.
(١٢٦) انظر. "معاني القرآن" للزجاج 1/ 215، "تهذيب اللغة" (صلى) 2/ 2049، "مجمل اللغة" (صلى) 2/ 538.
(١٢٧) في (ب): (للآخر).
(١٢٨) المراجع السابقة.
(١٢٩) أخرجه أحمد في "المسند": (عن علي -رضي الله عنه- قال: سبق رسول الله ﷺ وصلى أبو بكر وثلث عمر، ثم خبطتنا فتنة بعدهم يصنع الله فيها ما يشاء) "المسند" 1/ 112، 124، 132، 147. وأخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" 6/ 130، وذكره أبو عبيد في "غريب الحديث" 2/ 142، والأزهري في "تهذيب اللغة" (صلى) 2/ 2050.
(١٣٠) "تهذيب اللغة" (رزق) 2/ 1401.
(١٣١) ذكره الثعلبي 1/ 47 أ، ب. وانظر. "تهذيب اللغة" (نفق) 4/ 3634.
(١٣٢) في (ب): (النعفق).
(١٣٣) في (ب): (منه إذا)، وعند الثعلبي (يخرج إليه) 1/ 47 ب، وهو في "التهذيب" دون قوله: (يخرج منه نفق) 4/ 3635.
(١٣٤) انظر: "التهذيب" (نفق) 4/ 3635.
(١٣٥) ذكر الطبري نحوه، 1/ 105.
   
إرشاد العقل السليم — أبو السعود (٩٨٢ هـ)

﴿ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ﴾ [البقرة ٣]
﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ﴾: إمّا مَوْصُولٌ بِالمُتَّقِينَ؛ ومَحَلُّهُ الجَرُّ؛ عَلى أنَّهُ صِفَةٌ مُقَيِّدَةٌ لَهُ إنْ فُسِّرَ التَّقْوى بِتَرْكِ المَعاصِي فَقَطْ؛ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَيْهِ تَرَتُّبَ التَّحْلِيَةِ عَلى التَّخْلِيَةِ؛ ومُوَضِّحَةٌ إنْ فُسِّرَ بِما هو المُتَعارَفُ شَرْعًا؛ والمُتَبادَرُ عُرْفًا مِن فِعْلِ الطّاعاتِ؛ وتَرْكِ السَّيِّئاتِ مَعًا؛ لِأنَّها حِينَئِذٍ تَكُونُ تَفْصِيلًا لِما انْطَوى عَلَيْهِ اسْمُ المَوْصُوفِ إجْمالًا؛ وذَلِكَ لِأنَّها مُشْتَمِلَةٌ عَلى ما هو عِمادُ الأعْمالِ؛ وأساسُ الحَسَناتِ؛ مِنَ الإيمانِ والصَّلاةِ والصَّدَقَةِ؛ فَإنَّها أُمَّهاتُ الأعْمالِ النَّفْسانِيَّةِ؛ والعِباداتِ البَدَنِيَّةِ والمالِيَّةِ المُسْتَتْبِعَةِ لِسائِرِ القُرَبِ الدّاعِيَةِ إلى التَّجَنُّبِ عَنِ المَعاصِي غالِبًا؛ ألا يُرى إلى قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿إنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ﴾؛ وقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -: « "الصَّلاةُ عِمادُ الدِّينِ؛ والزَّكاةُ قَنْطَرَةُ الإسْلامِ"؟» أوْ مادِحَةٌ لِلْمَوْصُوفِينَ بِالتَّقْوى المُفَسَّرِ بِما مَرَّ مِن فِعْلِ الطّاعاتِ وتَرْكِ السَّيِّئاتِ. وتَخْصِيصُ ما ذُكِرَ مِنَ الخِصالِ الثَّلاثِ بِالذِّكْرِ لِإظْهارِ شَرَفِها وأنافَتِها عَلى سائِرِ ما انْطَوى تَحْتَ اسْمِ التَّقْوى مِنَ الحَسَناتِ؛ أوِ النَّصْبُ عَلى المَدْحِ؛ بِتَقْدِيرِ "أعْنِي"؛ أوِ الرَّفْعُ عَلَيْهِ؛ بِتَقْدِيرِ "هُمْ"؛ وإمّا مَفْصُولٌ عَنْهُ؛ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِداءِ؛ خَبَرُهُ الجُمْلَةُ المُصَدَّرَةُ بِاسْمِ الإشارَةِ؛ كَما سَيَأْتِي بَيانُهُ؛ فالوَقْفُ عَلى "المُتَّقِينَ"؛ حِينَئِذٍ وقْفٌ تامٌّ؛ لِأنَّهُ وقْفٌ عَلى مُسْتَقْبَلٍ؛ ما بَعْدَهُ أيْضًا مُسْتَقْبَلٌ؛ وأمّا عَلى الوُجُوهِ الأُوَلِ فَحَسَنٌ؛ لِاسْتِقْلالِ المَوْقُوفِ عَلَيْهِ؛ غَيْرَ تامٍّ؛ لِتَعَلُّقِ ما بَعْدَهُ بِهِ؛ وتَبَعِيَّتُهُ لَهُ؛ أمّا عَلى تَقْدِيرِ الجَرِّ عَلى الوَصْفِيَّةِ فَظاهِرٌ؛ وأمّا عَلى تَقْدِيرِ النَّصْبِ أوِ الرَّفْعِ عَلى المَدْحِ فَلِما تَقَرَّرَ مِن أنَّ المَنصُوبَ والمَرْفُوعَ مُدِحا؛ وإنْ خَرَجا عَنِ التَّبَعِيَّةِ لِما قَبْلَهُما صُورَةً؛ حَيْثُ لَمْ يَتْبَعاهُ في الإعْرابِ؛ وبِذَلِكَ سُمِّيا قَطْعًا؛ لَكِنَّهُما تابِعانِ لَهُ حَقِيقَةً؛ ألا يُرى كَيْفَ التَزَمُوا حَذْفَ الفِعْلِ والمُبْتَدَإ في النَّصْبِ والرَّفْعِ رَوْمًا؛ لِتَصْوِيرِ كُلٍّ مِنهُما بِصُورَةِ مُتَعَلِّقٍ مِن مُتَعَلِّقاتِ ما قَبْلَهُ؛ وتَنْبِيهًا عَلى شِدَّةِ الِاتِّصالِ بَيْنَهُما؟ قالَ أبُو عَلِيٍّ: إذا ذُكِرَتْ صِفاتٌ لِلْمَدْحِ وخُولِفَ في بَعْضِها الإعْرابُ فَقَدْ خُولِفَ لِلِافْتِنانِ؛ أيْ لِلتَّفَنُّنِ المُوجِبِ لِإيقاظِ السّامِعِ وتَحْرِيكِهِ إلى الجِدِّ في الإصْغاءِ؛ فَإنَّ تَغْيِيرَ الكَلامِ المَسُوقِ لِمَعْنًى مِنَ المَعانِي؛ وصَرْفَهُ عَنْ سَنَنِهِ المَسْلُوكِ يُنْبِئُ عَنِ اهْتِمامٍ جَدِيدٍ بِشَأْنِهِ مِنَ المُتَكَلِّمِ؛ ويَسْتَجْلِبُ مَزِيدَ رَغْبَةٍ فِيهِ مِنَ المُخاطَبِ؛ إنْ قِيلَ: لا رَيْبَ في أنَّ حالَ المَوْصُولِ عِنْدَ كَوْنِهِ خَبَرًا لِمُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ - كَحالِهِ عِنْدَ كَوْنِهِ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ ﴿أُولَئِكَ عَلى هُدًى﴾؛ في أنَّهُ يَنْسَبِكُ بِهِ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ مُفِيدَةٌ لِاتِّصافِ المُتَّقِينَ بِالصِّفاتِ الفاضِلَةِ - ضَرُورَةُ أنَّ كُلًّا مِنَ الضَّمِيرِ المَحْذُوفِ؛ والمَوْصُولِ عِبارَةٌ عَنْ "المُتَّقِينَ"؛ وأنَّ كُلًّا مِنَ اتِّصافِهِمْ بِالإيمانِ وفُرُوعِهِ؛ وإحْرازِهِمْ لِلْهُدى والفَلاحِ مِنَ النُّعُوتِ الجَلِيلَةِ؛ فَما السِّرُّ في أنَّهُ جُعِلَ ذَلِكَ في الصُّورَةِ الأُولى مِن تَوابِعِ المُتَّقِينَ؛ وعُدَّ الوَقْفُ غَيْرَ تامٍّ؛ وفي الثّانِيَةِ مُقْتَطَعًا عَنْهُ؛ وعُدَّ الوَقْفُ تامًّا؟ قُلْنا: السِّرُّ في ذَلِكَ أنَّ المُبْتَدَأ في الصُّورَتَيْنِ - وإنْ كانَ عِبارَةً عَنْ "المُتَّقِينَ" -؛ لَكِنَّ الخَبَرَ في الأُولى - لَمّا كانَ تَفْصِيلًا لِما تَضَمَّنَهُ المُبْتَدَأُ إجْمالًا؛ حَسْبَما تَحَقَّقْتَهُ؛ مَعْلُومَ الثُّبُوتِ لَهُ بِلا اشْتِباهٍ - غَيْرُ مُفِيدٍ لِلسّامِعِ؛ سِوى فائِدَةِ التَّفْصِيلِ والتَّوْضِيحِ؛ نُظِمَ ذَلِكَ في سِلْكِ الصِّفاتِ؛ مُراعاةً لِجانِبِ المَعْنى؛ وإنْ سُمِّيَ قَطْعًا؛ مُراعاةً لِجانِبِ اللَّفْظِ؛ كَيْفَ لا.. وقَدِ اشْتُهِرَ في الفَنِّ أنَّ الخَبَرَ إذا كانَ مَعْلُومَ الِانْتِسابِ إلى المُخْبَرِ عَنْهُ حَقُّهُ أنْ يَكُونَ وصْفًا لَهُ؛ كَما أنَّ الوَصْفَ إذا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومَ الِانْتِسابِ إلى المَوْصُوفِ حَقُّهُ أنْ يَكُونَ خَبَرًا لَهُ؛ حَتّى قالُوا: إنَّ الصِّفاتِ قَبْلَ العِلْمِ بِها أخْبارٌ؛ والأخْبارَ بَعْدَ العِلْمِ بِها صِفاتٌ؟ وأمّا الخَبَرُ في الثّانِيَةِ؛ فَحَيْثُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ - بَلْ كانَ مُشْتَمِلًا عَلى ما لا يُنْبِئُ عَنْهُ المُبْتَدَأُ مِنَ المَعانِي اللّائِقَةِ؛ كَما سَتُحِيطُ بِهِ؛ خَبَرًا مُفِيدًا لِلْمُخاطَبِ فَوائِدَ رائِقَةً -؛ جُعِلَ ذَلِكَ مُقْتَطَعًا عَمّا قَبْلَهُ؛ مُحافَظَةً عَلى الصُّورَةِ والمَعْنى جَمِيعًا. والإيمانُ "إفْعالٌ"؛ مِن "الأمْنُ" المُتَعَدِّي إلى واحِدٍ؛ يُقالُ: آمَنتُهُ؛ وبِالنَّقْلِ تَعَدّى إلى اثْنَيْنِ؛ يُقالُ: آمَنَنِيهِ غَيْرِي؛ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ في التَّصْدِيقِ؛ لِأنَّ المُصَدِّقَ يُؤَمِّنُ المُصَدَّقَ؛ أيْ يَجْعَلُهُ أمِينًا مِنَ التَّكْذِيبِ والمُخالَفَةِ؛ واسْتِعْمالُهُ بِالباءِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنى الِاعْتِرافِ؛ وقَدْ يُطْلَقُ عَلى الوُثُوقِ؛ فَإنَّ الواثِقَ يَصِيرُ ذا أمْنٍ وطُمَأْنِينَةٍ؛ ومِنهُ ما حُكِيَ عَنِ العَرَبِ: ما آمَنتُ أنْ أجِدَ صَحابَةً؛ أيْ: ما صِرْتُ ذا أمْنٍ وسُكُونٍ؛ وكِلا الوَجْهَيْنِ حَسَنٌ هَهُنا؛ وهو في الشَّرْعِ لا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ التَّصْدِيقِ بِما عُلِمَ ضَرُورَةً أنَّهُ مِن دِينِ نَبِيِّنا - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -؛ كالتَّوْحِيدِ والنُّبُوَّةِ والبَعْثِ والجَزاءِ؛ ونَظائِرِها؛ وهَلْ هو كافٍ في ذَلِكَ؛ أوْ لا بُدَّ مِنَ انْضِمامِ الإقْرارِ إلَيْهِ لِلْمُتَمَكِّنِ مِنهُ؟ والأوَّلُ رَأْيُ الشَّيْخِ الأشْعَرِيِّ؛ ومَن شايَعَهُ؛ فَإنَّ الإقْرارَ عِنْدَهُ مُنْشَأٌ لِإجْراءِ الأحْكامِ؛ والثّانِي مَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ؛ ومَن تابَعَهُ؛ وهو الحَقُّ؛ فَإنَّهُ جَعَلَهُما جُزْأيْنِ لَهُ؛ خَلا أنَّ الإقْرارَ رُكْنٌ مُحْتَمِلٌ لِلسُّقُوطِ بِعُذْرٍ؛ كَما عِنْدَ الإكْراهِ؛ وهو مَجْمُوعُ ثَلاثَةِ أُمُورٍ: اعْتِقادِ الحَقِّ؛ والإقْرارِ بِهِ؛ والعَمَلِ بِمُوجِبِهِ؛ عِنْدَ جُمْهُورِ المُحْدَثِينَ؛ والمُعْتَزِلَةِ؛ والخَوارِجِ؛ فَمَن أخَلَّ بِالِاعْتِقادِ وحْدَهُ فَهو مُنافِقٌ؛ ومَن أخَلَّ بِالإقْرارِ فَهو كافِرٌ؛ ومَن أخَلَّ بِالعَمَلِ فَهو فاسِقٌ اتِّفاقًا؛ وكافِرٌ عِنْدَ الخَوارِجِ؛ وخارِجٌ عَنِ الإيمانِ؛ غَيْرُ داخِلٍ في الكُفْرِ عِنْدَ المُعْتَزِلَةِ. وقُرِئَ: "يُومِنُونَ"؛ بِغَيْرِ هَمْزَةٍ. والغَيْبُ إمّا مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ الغائِبُ؛ مُبالَغَةً؛ كالشَّهادَةِ في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿عالِمُ الغَيْبِ والشَّهادَةِ﴾؛ أوْ "فَيْعِلٌ" خُفِّفَ؛ كَـ "قَيْلٌ"؛ في "قَيِّلٌ"؛ و"هَيْنٌ"؛ في "هَيِّنٌ"؛ و"مَيْتٌ"؛ في "مَيِّتٌ"؛ لَكِنْ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِيهِ الأصْلُ كَما اسْتُعْمِلَ في نَظائِرِهِ؛ وأيًّا ما كانَ فَهو ما غابَ عَنِ الحِسِّ والعَقْلِ غَيْبَةً كامِلَةً؛ بِحَيْثُ لا يُدْرَكُ بِواحِدٍ مِنهُما ابْتِداءً؛ بِطَرِيقِ البَداهَةِ؛ وهو قِسْمانِ: قِسْمٌ لا دَلِيلَ عَلَيْهِ؛ وهو الَّذِي أُرِيدَ بِقَوْلِهِ - سُبْحانَهُ -: ﴿وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُها إلا هُوَ﴾؛ وقِسْمٌ نُصِّبَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ؛ كالصّانِعِ وصِفاتِهِ؛ والنُّبُوّاتِ وما يَتَعَلَّقُ بِها مِنَ الأحْكامِ والشَّرائِعِ؛ واليَوْمِ الآخِرِ وأحْوالِهِ مِنَ البَعْثِ والنُّشُورِ والحِسابِ والجَزاءِ؛ وهو المُرادُ هَهُنا؛ فالباءُ صِلَةٌ لِلْإيمانِ - إمّا بِتَضْمِينِهِ مَعْنى الِاعْتِرافِ؛ أوْ بِجَعْلِهِ مَجازًا مِنَ الوُثُوقِ؛ وهو واقِعٌ مَوْقِعَ المَفْعُولِ بِهِ؛ وإمّا مَصْدَرٌ عَلى حالِهِ؛ كالغَيْبَةِ -؛ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ حالًا مِنَ الفاعِلِ؛ كَما في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهم بِالغَيْبِ﴾؛ وقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿لِيَعْلَمَ أنِّي لَمْ أخُنْهُ بِالغَيْبِ﴾؛ أيْ: يُؤْمِنُونَ مُتَلَبِّسِينَ بِالغَيْبَةِ؛ إمّا عَنِ المُؤْمَنِ بِهِ؛ أيْ غائِبِينَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ؛ غَيْرَ مُشاهِدِينَ لِما فِيهِ مِن شَواهِدِ النُّبُوَّةِ؛ لِما رُوِيَ أنَّ أصْحابَ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذَكَرُوا أصْحابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وإيمانَهُمْ؛ فَقالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّ أمْرَ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - كانَ بَيِّنًا لِمَن رَآهُ؛ والَّذِي لا إلَهَ غَيْرُهُ ما آمَنَ مُؤْمِنٌ أفْضَلَ مِنَ الإيمانِ بِغَيْبٍ؛ ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ؛ وإمّا عَنِ النّاسِ؛ أيْ غائِبِينَ عَنِ المُؤْمِنِينَ؛ لا كالمُنافِقِينَ الَّذِينَ إذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا؛ وإذا خَلَوْا إلى شَياطِينِهِمْ قالُوا: إنّا مَعَكُمْ؛ وقِيلَ: المُرادُ بِالغَيْبِ القَلْبُ؛ لِأنَّهُ مَسْتُورٌ؛ والمَعْنى: يُؤْمِنُونَ بِقُلُوبِهِمْ؛ لا كالَّذِينَ يَقُولُونَ بِأفْواهِهِمْ ما لَيْسَ في قُلُوبِهِمْ؛ فالباءُ حِينَئِذٍ لِلْآلَةِ؛ وتَرْكُ ذِكْرِ المُؤْمَنِ بِهِ عَلى التَّقادِيرِ الثَّلاثَةِ إمّا لِلْقَصْدِ إلى إحْداثِ نَفْسِ الفِعْلِ؛ كَما في قَوْلِهِمْ: فُلانٌ يُعْطِي ويَمْنَعُ؛ أيْ يَفْعَلُونَ الإيمانَ؛ وإمّا لِلِاكْتِفاءِ بِما سَيَجِيءُ؛ فَإنَّ الكُتُبَ الإلَهِيَّةَ ناطِقَةٌ بِتَفاصِيلِ ما يَجِبُ الإيمانُ بِهِ.
﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾: إقامَتُها عِبارَةٌ عَنْ تَعْدِيلِ أرْكانِها؛ وحِفْظِها مِن أنْ يَقَعَ في شَيْءٍ مِن فَرائِضِها وسُنَنِها وآدابِها زَيْغٌ؛ مِن "أقامَ العُودَ"؛ إذا قَوَّمَهُ وعَدَّلَهُ؛ وقِيلَ: عَنِ المُواظَبَةِ عَلَيْها؛ مَأْخُوذٌ مِن "قامَتِ السُّوقُ"؛ إذا نَفَقَتْ؛ و"أقَمْتُها"؛ إذا جَعَلْتَها نافِقَةً؛ فَإنَّها إذا حُوفِظَ عَلَيْها كانَتْ كالنّافِقِ الَّذِي يُرْغَبُ فِيهِ؛ وقِيلَ: عَنِ التَّشَمُّرِ؛ لِأدائِها عَنْ غَيْرِ فُتُورٍ وتَوانٍ؛ مِن قَوْلِهِمْ: قامَ بِالأمْرِ؛ وأقامَهُ؛ إذا جَدَّ فِيهِ واجْتَهَدَ؛ وقِيلَ: عَنْ أدائِها؛ عَبَّرَ عَنْهُ بِالإقامَةِ؛ لِاشْتِمالِهِ عَلى القِيامِ؛ كَما عَبَّرَ عَنْهُ بِالقُنُوتِ - الَّذِي هو القِيامُ - وبِالرُّكُوعِ والسُّجُودِ والتَّسْبِيحِ والأوَّلُ هو الأظْهَرُ؛ لِأنَّهُ أشْهَرُ؛ وإلى الحَقِيقَةِ أقْرَبُ؛ و"الصَّلْوَةُ"؛ "فَعْلَةٌ" مِن "صَلّى"؛ إذا دَعا؛ كَـ "الزَّكْوَةُ"؛ مِن "زَكّى"؛ وإنَّما كُتِبَتا بِالواوِ مُراعاةً لِلَّفْظِ المُفَخَّمِ؛ وإنَّما سُمِّيَ الفِعْلُ المَخْصُوصُ بِها لِاشْتِمالِهِ عَلى الدُّعاءِ؛ وقِيلَ: أصْلُ "صَلّى" حَرَّكَ الصَّلَوَيْنِ؛ وهُما العَظْمانِ النّاتِئانِ في أعْلى الفَخِذَيْنِ؛ لِأنَّ المُصَلِّيَ يَفْعَلُهُ في رُكُوعِهِ وسُجُودِهِ؛ واشْتِهارُ اللَّفْظِ في المَعْنى الثّانِي دُونَ الأوَّلِ لا يَقْدَحُ في نَقْلِهِ عَنْهُ؛ وإنَّما سُمِّيَ الدّاعِي مُصَلِّيًا تَشْبِيهًا لَهُ في تَخَشُّعِهِ بِالرّاكِعِ والسّاجِدِ.
﴿وَمِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾: الرِّزْقُ في اللُّغَةِ: العَطاءُ؛ ويُطْلَقُ عَلى الحَظِّ المُعْطى؛ نَحْوَ: "ذِبْحٌ"؛ و"رِعْيٌ"؛ لِلْمَذْبُوحِ؛ والمَرْعِيِّ؛ وقِيلَ: هو بِالفَتْحِ مَصْدَرٌ؛ وبِالكَسْرِ اسْمٌ؛ وفي العُرْفِ: ما يَنْتَفِعُ بِهِ الحَيَوانُ. والمُعْتَزِلَةُ؛ لَمّا أحالُوا تَمْكِينَ اللَّهِ (تَعالى) مِنَ الحَرامِ؛ لِأنَّهُ مَنَعَ مِنَ الِانْتِفاعِ بِهِ؛ وأمَرَ بِالزَّجْرِ عَنْهُ؛ قالُوا: الرِّزْقُ لا يَتَناوَلُ الحَرامَ؛ ألا يُرى أنَّهُ (تَعالى) أسْنَدَ الرِّزْقَ إلى ذاتِهِ؛ إيذانًا بِأنَّهم يُنْفِقُونَ مِنَ الحَلالِ الصِّرْفِ - فَإنَّ إنْفاقَ الحَرامِ بِمَعْزِلٍ مِن إيجابِ المَدْحِ -؛ وذَمَّ المُشْرِكِينَ عَلى تَحْرِيمِ بَعْضِ ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ (تَعالى) بِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ أرَأيْتُمْ ما أنْزَلَ اللَّهُ لَكم مِن رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنهُ حَرامًا وحَلالا﴾ ؟ وأصْحابُنا جَعَلُوا الإسْنادَ المَذْكُورَ لِلتَّعْظِيمِ؛ والتَّحْرِيضِ عَلى الإنْفاقِ؛ والذَّمَّ لِتَحْرِيمِ ما لَمْ يُحَرِّمْ؛ واخْتِصاصَ "ما رَزَقْناهُمْ"؛ بِالحَلالِ لِلْقَرِينَةِ؛ وتَمَسَّكُوا لِشُمُولِ الرِّزْقِ لَهُما بِما رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - «فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ قُرَّةَ؛ حِينَ أتاهُ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيَّ الشِّقْوَةَ؛ فَلا أُرى أُرْزَقُ إلّا مِن دُفِّي بِكَفِّي؛ فَأْذَنْ لِي في الغِناءِ مِن غَيْرِ فاحِشَةٍ؛ مِن أنَّهُ قالَ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -: "لا آذَنُ لَكَ؛ ولا كَرامَةَ؛ ولا نُعْمَةَ [عَيْنٍ]؛ كَذَبْتَ؛ أيْ عَدُوَّ اللَّهِ؛ واللَّهِ لَقَدْ رَزَقَكَ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا؛ فاخْتَرْتَ ما حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ مِن رِزْقِهِ؛ مَكانَ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكَ مِن حَلالِهِ"؛» وبِأنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ الحَرامُ رِزْقًا لَمْ يَكُنِ المُتَغَذِّي بِهِ طُولَ عُمْرِهِ مَرْزُوقًا؛ وقَدْ قالَ اللَّهُ (تَعالى): ﴿وَما مِن دابَّةٍ في الأرْضِ إلا عَلى اللَّهِ رِزْقُها﴾؛ والإنْفاقُ والإنْفادُ أخَوانِ؛ خَلا أنَّ 
فِي الثّانِي مَعْنى الإذْهابِ بِالكُلِّيَّةِ؛ دُونَ الأوَّلِ؛ والمُرادُ بِهَذا الإنْفاقِ الصَّرْفُ إلى سَبِيلِ الخَيْرِ؛ فَرْضًا كانَ أوْ نَفْلًا؛ ومَن فَسَّرَ بِالزَّكاةِ ذَكَرَ أفْضَلَ أنْواعِهِ؛ والأصْلَ فِيهِ؛ أوْ خَصَّصَهُ بِها لِاقْتِرانِهِ بِما هو شَقِيقُها؛ والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى ما قَبْلَها مِنَ الصِّلَةِ؛ وتَقْدِيمُ المَفْعُولِ لِلِاهْتِمامِ والمُحافَظَةِ عَلى رُءُوسِ الآيِ؛ وإدْخالُ "مِن" التَّبْعِيضِيَّةِ عَلَيْهِ لِلْكَفِّ عَنِ التَّبْذِيرِ؛ هَذا.. وقَدْ جُوِّزَ أنْ يُرادَ بِهِ الإنْفاقُ مِن جَمِيعِ المَعاوِنِ الَّتِي مَنَحَهُمُ اللَّهُ (تَعالى)؛ مِنَ النِّعَمِ الظّاهِرَةِ والباطِنَةِ؛ ويُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -: «إنَّ عِلْمًا لا يُنالُ بِهِ كَكَنْزٍ لا يُنْفَقُ مِنهُ»؛ وإلَيْهِ ذَهَبَ مَن قالَ: ومِمّا خَصَصْناهم مِن أنْوارِ المَعْرِفَةِ يُفِيضُونَ.
   
الكشاف — الزمخشري (٥٣٨ هـ)

﴿ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ﴾ [البقرة ٣]
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ إما موصول بالمتقين على أنه صفة مجرورة، أو مدح منصوب، أو مرفوع بتقدير: أعنى الذين يؤمنون، أو هم الذين يؤمنون. وإما مقتطع عن المتقين مرفوع على الابتداء مخبر عنه ب (أُولئِكَ عَلى هُدىً) . فإذا كان موصولا، كان الوقف على المتقين حسناً غير تامّ. وإذا كان مقتطعاً، كان وقفاً تاما. فإن قلت: ما هذه الصفة، أواردة بيانا وكشفا للمتقين؟
أم مسرودة مع المتقين تفيد غير فائدتها؟ أم جاءت على سبيل المدح والثناء كصفات اللَّه الجارية عليه تمجيداً؟ قلت: يحتمل أن ترد على طريق البيان والكشف لاشتمالها على ما أسست عليه حال المتقين من فعل الحسنات وترك السيئات. أمّا الفعل فقد انطوى تحت ذكر الإيمان الذي هو أساس الحسنات ومنصبها، وذكر الصلاة والصدقة لأنّ هاتين أُمّا العبادات البدنية والمالية، وهما العيار على غيرهما. ألم تر كيف سمى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم الصلاة عماد الدين، وجعل الفاصل بين الإسلام والكفر ترك الصلاة؟ وسمى الزكاة قنطرة الإسلام؟(١) وقال اللَّه تعالى: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) . فلما كانتا بهذه المثابة كان من شأنهما استجرار سائر العبادات واستتباعها. ومن ثم اختصر الكلام اختصاراً، بأن استغنى عن عدّ الطاعات بذكر ما هو كالعنوان لها، والذي إذا وجد لم تتوقف أخواته أن تقترن به، مع ما في ذلك من الإفصاح عن فضل هاتين العبادتين. وأما الترك فكذلك. ألا ترى إلى قوله تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) ؟ ويحتمل أن لا تكون بيانا للمتقين، وتكون صفة برأسها دالة على فعل الطاعات، ويراد بالمتقين الذين يجتنبون المعاصي.
ويحتمل أن تكون مدحا للموصوفين بالتقوى، وتخصيصاً للإيمان بالغيب وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة بالذكر إظهاراً لإنافتها على سائر ما يدخل تحت حقيقة هذا الاسم من الحسنات والإيمان: إفعال من الأمن. يقال: أمنته وآمنته غيرى. ثم يقال: آمنه إذا صدّقه.
وحقيقته: آمنه التكذيب والمخالفة. وأمّا تعديته بالباء فلتضمينه معنى أقرّ وأعترف. وأمّا ما حكى أبو زيد عن العرب: ما آمنت أن أجد صحابة- أى ما وثقت- فحقيقته: صرت ذا أمن به، أى ذا سكون وطمأنينة، وكلا الوجهين حسن في (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) أى يعترفون به أو يثقون بأنه حق. ويجوز أن لا يكون (بالغيب) صلة للإيمان، وأن يكون في موضع الحال، أى يؤمنون غائبين عن المؤمن به. وحقيقته: ملتبسين بالغيب، كقوله: (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) ، (لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) . ويعضده ما روى «أن أصحاب عبد اللَّه ذكروا أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم(٢) وإيمانهم، فقال ابن مسعود: إنّ أمر محمد كان بيناً لمن رآه. والذي لا إله غيره، ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ هذه الآية. فإن قلت: فما المراد بالغيب إن جعلته صلة؟ وإن جعلته حالا؟ قلت: إن جعلته صلة كان بمعنى الغائب، إمّا تسمية بالمصدر من قولك. غاب الشيء غيبا، كما سمى الشاهد بالشهادة. قال اللَّه تعالى: (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) . والعرب تسمى المطمئن من الأرض غيباً. وعن النضر بن شميل: شربت الإبل حتى وارت غيوب كلاها. يريد بالغيب: الخمصة التي تكون في موضع الكلية، إذا بطنت الدابة انتفخت. وإما أن يكون فيعلا فخفف، كما قيل «قيل» وأصله:
قيل: والمراد به الخفي الذي لا ينفذ فيه ابتداء إلا علم اللطيف الخبير، وإنما نعلم منه نحن ما أعلمناه، أو نصب لنا دليلا عليه. ولهذا لا يجوز أن يطلق فيقال: فلان يعلم الغيب. وذلك نحو الصانع وصفاته، والنبوّات وما يتعلق بها، والبعث والنشور والحساب والوعد والوعيد، وغير ذلك. وإن جعلته حالا كان بمعنى الغيبة والخفاء، فإن قلت: ما الإيمان الصحيح؟(٣) قلت: أن يعتقد الحق ويعرب عنه بلسانه، ويصدّقه بعمله. فمن أخل بالاعناد- وإن شهد وعمل- فهو منافق. ومن أخل بالشهادة فهو كافر. ومن أخل بالعمل فهو فاسق.
ومعنى إقامة الصلاة تعديل أركانها وحفظها من أن يقع زيغ في فرائضها وسننها وآدابها، من أقام العود- إذا قوّمه- أو الدوام عليها والمحافظة عليها، كما قال عز وعلا: (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) ، (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) من قامت السوق إذا نفقت، وأقامها. قال: أَقَامَتْ غَزَالةُ سُوقَ الضِّرَابِ ... لِأَهْلِ العِرَاقيْنِ حَولًا قَمِيطاً(٤)
لأنها إذا حوفظ عليها، كانت كالشىء النافق الذي تتوجه إليه الرغبات ويتنافس فيه المحصلون. وإذا عطلت وأضيعت، كانت كالشىء الكاسد الذي لا يرغب فيه. أو التجلد والتشمر لأدائها. وأن لا يكون في مؤدّيها فتور عنها ولا توان، من قولهم: قام بالأمر، وقامت الحرب على ساقها. وفي ضدّه: قعد عن الأمر، وتقاعد عنه- إذا تقاعس وتثبط- أو أداؤها، فعبر عن الأداء بالإقامة لأنّ القيام بعض أركانها، كما عبر عنه بالقنوت- والقنوت القيام- وبالركوع وبالسجود. وقالوا: سبح، إذا صلى لوجود التسبيح فيها.
(فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) .
والصلاة: فعلة من صلى، كالزكاة من زكى. وكتابتها بالواو على لفظ المفخم. وحقيقة صلى: حرّك الصلوين لأن المصلى يفعل ذلك في ركوعه وسجوده. ونظيره كفر اليهودي إذا طأطأ رأسه وانحنى عند تعظيم صاحبه لأنه ينثني على الكاذتين(٥) وهما الكافرتان. وقيل للداعي: مصلّ، تشبيها في تخشعه بالراكع والساجد.
وإسناد الرزق إلى نفسه(٦) للإعلام بأنهم ينفقون الحلال(٧) الطلق الذي يستأهل أن يضاف إلى اللَّه، ويسمى رزقا منه. وأدخل من التبعيضة صيانة لهم وكفا عن الإسراف والتبذير المنهي عنه. وقدّم مفعول الفعل دلالة على كونه أهم، كأنه قال: ويخصون بعض المال الحلال بالتصدّق به. وجائز أن يراد به الزكاة المفروضة، لاقترانه بأخت الزكاة وشقيقتها وهي الصلاة وأن تراد هي وغيرها من النفقات في سبل الخير، لمجيئه مطلقاً يصلح أن يتناول كل منفق.
وأنفق الشيء وأنفده أخوان. وعن يعقوب: نفق الشيء، ونفد واحد. وكل ما جاء مما فاؤه نون وعينه فاء، فدالّ على معنى الخروج والذهاب ونحو ذلك إذا تأملت.

(١) أما الحديث الأول، فأخرجه البيهقي في الشعب من طريق عكرمة عن عمر رضى اللَّه عنه في حديث في آخره «والصلاة عماد الدين» قال: وعكرمة لم يسمع من عمر. قال: وأراه عن ابن عمر رضى اللَّه عنهما. وله شاهد من حديث على رضى اللَّه عنه بلفظ «الصلاة عماد الإسلام» أخرجه الأصبهانى في الترغيب. وغفل ابن الصلاح في مشكل الوسيط فقال: هذا حديث غير معروف. قلت: والطيبي عزاه لتخريج الترمذي في حديث معاذ ففيه «وعموده الصلاة» ، ولا يخفى بعده.
وأما الحديث الثاني، فرواه مسلم من حديث جابر رضى اللَّه عنه بلفظ «بين الرجل وبين الكفر تركه الصلاة» .
وأما الحديث الثالث، فرواه إسحاق في مسنده من حديث أبى الدرداء رضى اللَّه عنه به سواء. وفيه الضحاك ابن حمق. وهو ضعيف.
(٢) موقوف. أخرجه الحاكم من طريق عبد الرحمن بن زيد «ذكروا عند عبد اللَّه بن مسعود. الخ» وإسناده صحيح.
(٣) قال محمود رحمه اللَّه تعالى: «إن قلت ما معنى الايمان الصحيح ... الخ» . قال أحمد رحمه اللَّه: يعنى بالفاسق غير مؤمن ولا كافر، وهذا من الأسماء التي سماها القدرية وما أنزل اللَّه بها من سلطان. ومعتقد أمل السنة أن الموحد للَّه الذي لا خلل في عقيدته مؤمن وإن ارتكب الكبائر. وهذا هو الصحيح لغة وشرعا. أما لغة فان الايمان هو التصديق وهو مصدق. وأما شرعا فأقرب شاهد عليه هذه الآية، فانه لما عطف فيها العمل الصالح على الايمان دل على أن الايمان معقول بدونه. ولو كان العمل الصالح من الايمان لكان العطف تكراراً. وانظر حيلة الزمخشري على تقريب معتقده من اللغة بقوله: المؤمن من اعتقد الحق وأعرب عنه بلسانه وصدقه بعمله. فجعل التصديق من حظ العمل حتى يتم له أن من لم يعمل فقد فوت التصديق الذي هو الايمان لغة. ولقد أوضحنا أن التصديق إنما هو بالقلب ولا يتوقف وجوده على عمل الجوارح مما يحقق معتقد أهل السنة أن من آمن باللَّه ورسوله ثم اخترم قبل أن يتعين عليه عمل من أعمال الجوارح فهو مؤمن باتفاق وإن لم يعمل. وأصدق شاهد على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام «إن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى إذا لم يبق بينه وبينها إلا فواق ناقة عمل بعمل أهل الجنة فكتب من أهل الجنة» وإنما مثل عليه الصلاة والسلام بفواق الناقة لأنه الغاية في القصر، ومثل هذا الزمان إنما يتصور فيه القصد الصحيح خاصة، ومع ذلك فقد عده من أهل الجنة. وإنما يدخل المؤمن الجنة باتفاق الفريقين، والأدلة على ذلك تجرد كون الشرط فيه شطرا. أقول: تفسير الفاسق بغير مؤمن ولا كافر كما هو مذهب المعتزلة غير موجه والشيء الذي هو لم يصرح به لا يجب علينا تصريحه وتعريفه فان عندنا «الضال» من أخل بالعمل فهو فاسق.
(٤) لأيمن بن خزيم. وغزالة: امرأة شيب الخارجي، قتله الحجاج فحاربته سنة كاملة، فسوق الضراب: مجاز عن ميدان المحاربة، أو شبه المطاعنة بالرماح والمضاربة بالسيوف بالأمتعة التي تباع وتشترى في السوق على سبيل المكنية والسوق تخييل. والعراقان: البصرة والكوفة. والقميط: التام نعت مؤكد، ويقال: قمط الطائر أنثاه:
سفدها. والقماط: حبل تشد به الأسرى والأخصاص، فالمادة دالة على الاحاطة والضم.
(٥) قوله «على الكاذتين» في الصحاح: الكاذتان ما نشأ من اللحم في أعالى الفخذ اه (ع)
(٦) قال محمود رحمه اللَّه: «أضاف الرزق إلى نفسه للاعلام بأنهم إنما ينفقون من الحلال الطلق ... الخ» . قال أحمد رحمه اللَّه: فهذه بدعة قدرية، فإنهم يرون أن اللَّه تعالى لا يرزق إلا الحلال، وأما الحرام فالعبد يرزقه لنفسه حتى يقسمون الأرزاق قسمين: هذا للَّه بزعمهم، وهذا لشركائه. وإذا أثبتوا خالقا غير اللَّه، فلا يأنفون عن إثبات رازق غيره. أما أهل السنة فلا خالق ولا رازق في عقدهم إلا اللَّه سبحانه. تصديقا بقوله تعالى: (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أيها القدرية.
(٧) قوله «بأنهم ينفقون الحلال» مبنى على أن الرزق مختص بالحلال، وهو مذهب المعتزلة. وعند أهل السنة: الرزق أعم. (ع)
   
تفسير القرآن العظيم مسندًا — ابن أبي حاتم الرازي (٣٢٧ هـ)

﴿ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ﴾ [البقرة ٣]
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ﴾ آيَةُ ٣
[٦٥] حَدَّثَنا أبُو زُرْعَةَ، ثَنا عَمْرُو بْنُ حَمّادٍ، ثَنا أسْباطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ﴾ فَهُمُ المُؤْمِنُونَ مِنَ العَرَبِ.
قَوْلُهُ: ﴿بِالغَيْبِ﴾
[٦٦] حَدَّثَنا أحْمَدُ بْنُ سِنانٍ، ثَنا أبُو مُعاوِيَةَ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ عُمارَةَ بْنَ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، قالَ: ذَكَرُوا أصْحابَ مُحَمَّدٍ وإيمانَهم عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ، فَقالَ عَبْدُ اللَّهِ: إنَّ أمْرَ مُحَمَّدٍ كانَ بَيِّنًا لِمَن رَآهُ، والَّذِي لا إلَهَ غَيْرُهُ، ما آمَنَ مُؤْمِنٌ أفْضَلَ مِن إيمانٍ بِغَيْبٍ، ثُمَّ قَرَأ: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿يُنْفِقُونَ﴾ .
[٦٧] حَدَّثَنا عِصامُ بْنُ رَوّادٍ، ثَنا آدَمُ العَسْقَلانِيُّ، ثَنا أبُو جَعْفَرٍ الرّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أنَسٍ، عَنْ أبِي العالِيَةِ في قَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ﴾ قالَ: يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ واليَوْمِ الآخِرِ وجَنَّتِهِ ونارِهِ ولِقائِهِ. ويُؤْمِنُونَ بِالحَياةِ بَعْدَ المَوْتِ، وبِالبَعْثِ فَهَذا غَيْبٌ كُلُّهُ.
[٦٨] حَدَّثَنا أبُو زُرْعَةَ، ثَنا عَمْرُو بْنُ حَمّادٍ، ثَنا أسْباطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، أمّا الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ فَهُمُ المُؤْمِنُونَ مِنَ العَرَبِ، أمّا الغَيْبُ: فَما غابَ عَنِ العِبادِ مِن أمْرِ الجَنَّةِ وأمْرِ النّارِ وما ذُكِرَ في القُرْآنِ، لَمْ يَكُنْ تَصْدِيقُهم بِذَلِكَ مِن قِبَلِ أصْلِ كِتابٍ أوْ عِلْمٍ كانَ عِنْدَهم.
الوَجْهُ الثّانِي:
[٦٩] حَدَّثَنا أبُو سَعِيدٍ الأشَجُّ، ثَنا أبُو أحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، عَنْ سُفْيانَ، عَنْ عاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، قالَ: الغَيْبُ القُرْآنُ.
[٧٠] حَدَّثَنا أبُو زُرْعَةَ، ثَنا صَفْوانُ، ثَنا الوَلِيدُ، ثَنا عُثْمانُ بْنُ الأسْوَدِ، عَنْ عَطاءِ بْنِ أبِي رَباحٍ في قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ﴾ فَقالَ: مَن آمَنَ بِاللَّهِ، فَقَدْ آمَنَ بِالغَيْبِ.
والوَجْهُ الثّالِثُ:
[٧١] حَدَّثَنا أبِي، ثَنا شِهابُ بْنُ عَبّادٍ، ثَنا إبْراهِيمُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ إسْماعِيلَ بْنِ أبِي خالِدٍ: ﴿يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ﴾ قالَ: بِغَيْبِ الإسْلامِ.
والوَجْهُ الرّابِعُ:
[٧٢] حَدَّثَنا أبِي، ثَنا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسى بْنِ نُفَيْعٍ الحَرَشِيُّ، ثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ﴾ قالَ: بِالقَدَرِ.
والوَجْهُ الخامِسُ:
[٧٣] حَدَّثَنا أبِي ثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ المُسْنَدِيُّ، ثَنا إسْحاقُ بْنُ إدْرِيسَ، أخْبَرَنِي إبْراهِيمُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ سَلَمَةَ الأنْصارِيُّ، أخْبَرَنِي جَعْفَرُ بْنُ مَحْمُودٍ، «عَنْ جَدَّتِهِ تُوَيْلَةَ ابْنَةِ أسْلَمَ قالَتْ: صَلَّيْتُ الظُّهْرَ أوِ العَصْرَ في مَسْجِدِ بَنِي حارِثَةَ فاسْتَقْبَلْنا مَسْجِدَ إيلِيا فَصَلَّيْنا سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ جاءَنا مَن يُخْبِرُنا أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَدِ اسْتَقْبَلَ البَيْتَ الحَرامَ، فَتَحَوَّلَ الرِّجالُ مَكانَ النِّساءِ، والنِّساءُ مَكانَ الرِّجالِ، فَصَلَّيْنا السَّجْدَتَيْنِ الباقِيَتَيْنِ ونَحْنُ مُسْتَقْبِلِي البَيْتِ الحَرامِ. قالَ إبْراهِيمُ: فَحَدَّثَنِي رِجالٌ مِن بَنِي حارِثَةَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حِينَ بَلَغَهُ ذَلِكَ قالَ: أُولَئِكَ قَوْمٌ آمَنُوا بِالغَيْبِ».
قَوْلُهُ: ﴿ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾
[٧٤] حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، ثَنا أبُو غَسّانَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو زُنَيْجٌ، ثَنا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحاقَ قالَ فِيما حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أبِي مُحَمَّدٍ، مَوْلى زَيْدِ بْنِ ثابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: يَقُولُ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى وبِحَمْدِهِ والَّذِينَ ”يُقِيمُونَ الصَّلاةَ“ أيْ: يُقِيمُونَ الصَّلاةَ بِفَرْضِها.
[٧٥] حَدَّثَنا الحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبّاحِ، ثَنا عَبْدُ الوَهّابِ - يَعْنِي ابْنَ عَطاءٍ - الخَفّافَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتادَةَ، ﴿ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾ وإقامَةُ الصَّلاةِ المُحافَظَةُ عَلى مَواقِيتِها ووُضُوئِها ورُكُوعِها وسُجُودِها.
[٧٦] قَرَأْتُ عَلى مُحَمَّدِ بْنِ الفَضْلِ بْنِ مُوسى، ثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، ثَنا أبُو وهْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُزاحِمٍ، ثَنا بُكَيْرُ بْنُ مَعْرُوفٍ، عَنْ مُقاتِلِ بْنِ حَيّانَ، قَوْلُهُ: ﴿ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾ وإقامَتُها المُحافَظَةُ عَلى مَواقِيتِها، وإسْباغُ الطُّهُورِ فِيها، وتَمامُ رُكُوعِها وسُجُودِها، وتِلاوَةُ القُرْآنِ فِيها، والتَّشَهُّدُ والصَّلاةُ عَلى النَّبِيِّ ﷺ فَهَذا إقامَتُها.
قَوْلُهُ ﴿ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾
[٧٧] حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، أنْبَأ أبُو غَسّانَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو زُنَيْجٌ، ثَنا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحاقَ، قالَ: فِيما حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أبِي مُحَمَّدٍ، مَوْلى زَيْدِ بْنِ ثابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: يَقُولُ اللَّهُ سُبْحانَهُ وبِحَمْدِهِ: ﴿ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ احْتِسابًا لَها.
الوَجْهُ الثّانِي:
[٧٨] حَدَّثَنا أبُو زُرْعَةَ، ثَنا عَمْرُو بْنُ حَمّادٍ، ثَنا أسْباطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ فَهي نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلى أهْلِهِ، وهَذا قَبْلَ أنْ تَنْزِلَ الزَّكاةُ.
الوَجْهُ الثّالِثُ:
[٧٩] حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، أنْبَأ العَبّاسُ بْنُ الوَلِيدِ، ثَنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، ثَنا سَعِيدٌ عَنْ قَتادَةَ: ﴿ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ فَأنْفِقُوا مِمّا أعْطاكُمُ اللَّهُ، فَإنَّما هَذِهِ الأمْوالُ عَوارٍ ووَدائِعُ عِنْدَكَ يا ابْنَ آدَمَ، أوْشَكْتَ أنْ تُفارِقَها.
   
الدر المنثور — جلال الدين السيوطي (٩١١ هـ)

﴿ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ﴾ [البقرة ٣]
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ﴾ .
أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتادَةَ ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢] قالَ: نَعَتَهم ووَصَفَهم بِقَوْلِهِ ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ﴾ الآيَةَ.
وأخْرَجَ ابْنُ إسْحاقَ، وابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ﴾ قالَ: يُصَدِّقُونَ ﴿بِالغَيْبِ﴾ قالَ: بِما جاءَ مِنهُ يَعْنِي مِنَ اللَّهِ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ في قَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ﴾ قالَ: هُمُ المُؤْمِنُونَ مِنَ العَرَبِ قالَ: والإيمانُ التَّصْدِيقُ والغَيْبُ: ما غابَ عَنِ العِبادِ مِن أمْرِ الجَنَّةِ والنّارِ، وما ذَكَرَ اللَّهُ في القُرْآنِ، لَمْ يَكُنْ تَصْدِيقُهم بِذَلِكَ مِن قِبَلِ أصْلِ الكِتابِ أوْ عِلْمٍ كانَ عِنْدَهم ﴿والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إلَيْكَ﴾ [البقرة: ٤] هَمَّ المُؤْمِنُونَ مِن أهْلِ الكِتابِ، ثُمَّ جَمَعَ الفَرِيقَيْنِ فَقالَ: ﴿أُولَئِكَ عَلى هُدًى﴾ [البقرة: ٥] الآيَةَ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ أبِي العالِيَةِ في قَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ﴾ قالَ: بِاللَّهِ ومَلائِكَتِهِ ورُسُلِهِ واليَوْمِ الآخِرِ وجَنَّتِهِ ونارِهِ ولِقائِهِ والحَياةِ بَعْدَ المَوْتِ.
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ﴾ قالَ: آمَنُوا بِالبَعْثِ بَعْدَ المَوْتِ والحِسابِ والجَنَّةِ والنّارِ وصَدَّقُوا بِمَوْعُودِ اللَّهِ الَّذِي وعَدَ في القُرْآنِ.
وأخْرَجَ الطَّسْتِيُّ في مَسائِلِهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ نافِعَ بْنَ الأزْرَقِ قالَ لَهُ: أخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ﴾ قالَ: ما غابَ عَنْهم مِن أمْرِ الجَنَّةِ والنّارِ. قالَ: وهَلْ تَعْرِفُ العَرَبُ ذَلِكَ؟ قالَ: نَعَمْ، أما سَمِعْتَ أبا سُفْيانَ بْنَ الحارِثِ يَقُولُ:
وبِالغَيْبِ آمَنّا وقَدْ كانَ قَوْمُنا يُصَلُّونَ لِلْأوْثانِ قَبْلَ مُحَمَّدِ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، والطَّبَرانِيُّ، وابْنُ مِندَهْ، وأبُو نُعَيْمٍ كِلاهُما في ”مَعْرِفَةِ الصَّحابَةِ“ عَنْ تُوَيْلَةَ بِنْتِ أسْلَمَ قالَتْ: «صَلَّيْتُ الظُّهْرَ أوِ العَصْرَ في مَسْجِدِ بَنِي حارِثَةَ فاسْتَقْبَلْنا مَسْجِدَ إيلِياءَ، فَصَلَّيْنا سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ جاءَنا مَن يُخْبِرُنا أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَدِ اسْتَقْبَلَ البَيْتَ الحَرامَ فَتَحَوَّلَ الرِّجالُ مَكانَ النِّساءِ والنِّساءُ مَكانَ الرِّجالِ، فَصَلَّيْنا السَّجْدَتَيْنِ الباقِيَتَيْنِ ونَحْنُ مُسْتَقْبِلُو البَيْتِ الحَرامِ، فَبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ذَلِكَ فَقالَ: أُولَئِكَ قَوْمٌ آمَنُوا بِالغَيْبِ» .
وأخْرَجَ سُفْيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وسَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ، وأحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ في ”مُسْنَدِهِ“، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ الأنْبارِيِّ في ”المَصاحِفِ“، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ، وابْنُ مَرْدُوَيْهِ عَنِ الحارِثِ بْنِ قَيْسٍ أنَّهُ قالَ لابْنِ مَسْعُودٍ: عِنْدَ اللَّهِ نَحْتَسِبُ ما سَبَقْتُمُونا بِهِ يا أصْحابَ مُحَمَّدٍ مِن رُؤْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: عِنْدَ اللَّهِ نَحْتَسِبُ إيمانَكم بِمُحَمَّدٍ ﷺ ولَمْ تَرَوْهُ، إنَّ أمْرَ مُحَمَّدٍ كانَ بَيْنَنا لِمَن رَآهُ، والَّذِي لا إلَهَ غَيْرُهُ، ما آمَنَ أحَدٌ أفْضَلَ مِن إيمانٍ بِغَيْبٍ، ثُمَّ قَرَأ ﴿الم﴾ [البقرة: ١] ﴿ذَلِكَ الكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ﴾ [البقرة: ٢] إلى قَوْلِهِ: ﴿المُفْلِحُونَ﴾ [البقرة: ٥] .
وأخْرَجَ البَزّارُ، وأبُو يَعْلى والمُرْهِبِيُّ في ”فَضْلِ العِلْمِ“، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ قالَ «كُنْتُ جالِسًا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فَقالَ أنْبَئُونِي بِأفْضَلِ أهْلِ الإيمانِ إيمانًا. قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ المَلائِكَةُ، قالَ: هم كَذَلِكَ ويَحِقُّ لَهُمْ، وما يَمْنَعُهم وقَدْ أنْزَلَهُمُ اللَّهُ المَنزِلَةَ الَّتِي أنْزَلَهم بِها. قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، الأنْبِياءُ الَّذِينَ أكْرَمَهُمُ اللَّهُ بِرِسالاتِهِ والنُّبُوَّةِ. قالَ: هم كَذَلِكَ ويَحِقُّ لَهم وما يَمْنَعُهم وقَدْ أنْزَلَهُمُ اللَّهُ المَنزِلَةَ الَّتِي أنْزَلَهم بِها. قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ الشُّهَداءُ الَّذِينَ اسْتُشْهِدُوا مَعَ الأنْبِياءِ، قالَ: هم كَذَلِكَ ويَحِقُّ لَهم وما يَمْنَعُهم وقَدْ أكْرَمَهُمُ اللَّهُ بِالشَّهادَةِ مَعَ الأنْبِياءِ، بَلْ غَيْرَهم. قالُوا: فَمَن يا رَسُولَ اللَّهِ؟ قالَ: أقْوامٌ في أصْلابِ الرِّجالِ يَأْتُونَ مِن بَعْدِي يُؤْمِنُونَ بِي ولَمْ يَرَوْنِي، ويُصَدِّقُونِي ولَمْ يَرَوْنِي، يَجِدُونَ الوَرَقَ المُعَلَّقَ فَيَعْمَلُونَ بِما فِيهِ، فَهَؤُلاءِ أفْضَلُ أهْلِ الإيمانِ إيمانًا» .
وأخْرَجَ الحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ في ”جُزْئِهِ“ المَشْهُورِ والبَيْهَقِيُّ في ”الدَّلائِلِ“ والأصْبِهانِيُّ في ”التَّرْغِيبِ“ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أيُّ الخَلْقِ أعْجَبُ إلَيْكم إيمانًا؟ قالُوا: المَلائِكَةُ، قالَ: وما لَهم لا يُؤْمِنُونَ وهم عِنْدَ رَبِّهِمْ. قالُوا: فالأنْبِياءُ، قالَ: وما لَهم لا يُؤْمِنُونَ والوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ، قالُوا: فَنَحْنُ، قالَ: وما لَكم لا تُؤْمِنُونَ وأنا بَيْنَ أظْهُرِكم ألا إنَّ أعْجَبَ الخَلْقِ إلَيَّ إيمانًا لَقَوْمٌ يَكُونُونَ مِن بَعْدِكم يَجِدُونَ صُحُفًا فِيها كِتابٌ يُؤْمِنُونَ بِما فِيهِ» .
وأخْرَجَ الطَّبَرانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «أصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمًا فَقالَ: ما مِن ماءٍ؟ ما مِن ماءٍ؟ قالُوا: لا، قالَ: فَهَلْ مِن شَنٍّ؟ فَجاءُوا بِالشَّنِّ، فَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ووَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ فَرَّقَ أصابِعَهُ فَنَبَعَ الماءُ مِثْلَ عَصا مُوسى، مِن أصابِعِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: يا بِلالُ اهْتِفْ بِالنّاسِ بِالوُضُوءِ. فَأقْبَلُوا يَتَوَضَّئُونَ مِن بَيْنِ أصابِعِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وكانَتْ هِمَّةُ ابْنِ مَسْعُودٍ الشُّرْبَ، فَلَمّا تَوَضَّئُوا صَلّى بِهِمُ الصُّبْحَ، ثُمَّ قَعَدَ لِلنّاسِ فَقالَ: يا أيُّها النّاسُ، مَن أعْجَبُ الخَلْقِ إيمانًا؟ قالُوا: المَلائِكَةُ. قالَ: كَيْفَ لا تُؤْمِنُ المَلائِكَةُ وهم يُعايِنُونَ الأمْرَ! قالُوا: فالنَّبِيُّونَ يا رَسُولَ اللَّهِ، قالَ: كَيْفَ لا يُؤْمِنُ النَّبِيُّونَ والوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ، قالُوا: فَأصْحابُكَ يا رَسُولَ اللَّهِ، فَقالَ: وكَيْفَ لا يُؤْمِنُ أصْحابِي وهم يَرَوْنَ ما يَرَوْنَ ولَكِنَّ أعْجَبَ النّاسِ إيمانًا قَوْمٌ يَجِيئُونَ بَعْدِي يُؤْمِنُونَ بِي ولَمْ يَرَوْنِي، ويُصَدِّقُونِي ولَمْ يَرَوْنِي، أُولَئِكَ إخْوانِي» .
وأخْرَجَ الإسْماعِيلِيُّ في ”مُعْجَمِهِ“ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أيُّ شَيْءٍ أعْجَبُ إيمانًا؟ قِيلَ: المَلائِكَةُ، قالَ: كَيْفَ وهم في السَّماءِ يَرَوْنَ مِنَ اللَّهِ ما لا تَرَوْنَ. قِيلَ: فالأنْبِياءُ، قالَ: كَيْفَ وهم يَأْتِيهِمُ الوَحْيُ قالُوا: فَنَحْنُ، قالَ: كَيْفَ وأنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكم آياتُ اللَّهِ وفِيكم رَسُولُهُ، ولَكِنْ قَوْمٌ يَأْتُونَ مِن بَعْدِي يُؤْمِنُونَ بِي ولَمْ يَرَوْنِي، أُولَئِكَ أعْجَبُ إيمانًا، وأُولَئِكَ إخْوانِي، وأنْتُمْ أصْحابِي» .
وأخْرَجَ البَزّارُ عَنْ أنَسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أيُّ الخَلْقِ أعْجَبُ إيمانًا؟ قالُوا: المَلائِكَةُ، قالَ: المَلائِكَةُ، كَيْفَ لا يُؤْمِنُونَ! . قالُوا: النَّبِيُّونَ، قالَ: النَّبِيُّونَ يُوحى إلَيْهِمْ، فَكَيْفَ لا يُؤْمِنُونَ! ولَكِنَّ أعْجَبَ النّاسِ إيمانًا قَوْمٌ يَجِيئُونَ مِن بَعْدِكم فَيَجِدُونَ كِتابًا مِنَ الوَحْيِ، فَيُؤْمِنُونَ بِهِ ويَتَّبِعُونَهُ، فَهَؤُلاءِ أعْجَبُ النّاسِ إيمانًا» .
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ في ”مُسْنَدِهِ“ عَنْ عَوْفِ بْنِ مالِكٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يا لَيْتَنِي قَدْ لَقِيتُ إخْوانِي. قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، ألَسْنا إخْوانَكَ وأصْحابَكَ؟ قالَ: بَلى، ولَكِنَّ قَوْمًا يَجِيئُونَ مِن بَعْدِكُمْ، يُؤْمِنُونَ بِي إيمانَكُمْ، ويُصَدِّقُونِي تَصْدِيقَكم ويَنْصُرُونِي نَصْرَكُمْ، فَيا لَيْتَنِي قَدْ لَقِيتُ إخْوانِي» .
وأخْرَجَ ابْنُ عَساكِرَ في ”الأرْبَعِينَ السُّباعِيَّةِ“ مِن طَرِيقِ أبِي هُدْبَةَ وهو كَذّابٌ، عَنْ أنَسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَيْتَنِي قَدْ لَقِيتُ إخْوانِي. فَقالَ لَهُ رَجُلٌ مِن أصْحابِهِ: أوَلَسْنا إخْوانَكَ؟ قالَ: بَلْ، أنْتُمْ أصْحابِي، وإخْوانِي قَوْمٌ يَأْتُونَ مِن بَعْدِي يُؤْمِنُونَ بِي ولَمْ يَرَوْنِي. ثُمَّ قَرَأ ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾ [البقرة»: ٣] .
وأخْرَجَ أحْمَدُ والدّارِمِيُّ والباوَرْدِيُّ، وابْنُ قانِعٍ مَعًا في ”مُعْجَمِ الصَّحابَةِ“، والطَّبَرانِيُّ والحاكِمُ، عَنْ أبِي جُمْعَةَ الأنْصارِيِّ، قالَ: «قُلْنا: يا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ مِن قَوْمٍ أعْظَمُ مِنّا أجْرًا؟ آمَنّا بِكَ واتَّبَعْناكَ، قالَ: ما يَمْنَعُكم مِن ذَلِكَ ورَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَ أظْهُرِكم يَأْتِيكُمُ الوَحْيُ مِنَ السَّماءِ، بَلْ قَوْمٌ يَأْتُونَ مِن بَعْدِكم يَأْتِيهِمْ كِتابٌ بَيْنَ لَوْحَيْنِ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ، ويَعْمَلُونَ بِما فِيهِ، أُولَئِكَ أعْظَمُ مِنكم أجْرًا» .
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وابْنُ أبِي عُمَرَ، وأحْمَدُ، والحاكِمُ عَنْ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الجُهَنِيِّ قالَ: «بَيْنَما نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إذْ طَلَعَ راكِبانِ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: كِنْدِيّانِ أوْ مَذْحِجِيّانِ. حَتّى أتَيا فَإذا رَجُلانِ مِن مَذْحِجٍ، فَدَنا أحَدُهُما لِيُبايِعَهُ، فَلَمّا أخَذَ بِيَدِهِ قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، أرَأيْتَ مَن رَآكَ فَآمَنَ بِكَ واتَّبَعَكَ وصَدَّقَكَ، فَماذا لَهُ؟ قالَ: طُوبى لَهُ. فَمَسَحَ عَلى يَدِهِ وانْصَرَفَ، ثُمَّ جاءَ الآخَرُ حَتّى أخَذَ عَلى يَدِهِ لِيُبايِعَهُ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ أرَأيْتَ مَن آمَنَ بِكَ وصَدَّقَكَ واتَّبَعَكَ ولَمْ يَرَكَ! قالَ: طُوبى لَهُ، ثُمَّ طُوبى لَهُ، ثُمَّ مَسَحَ عَلى يَدِهِ وانْصَرَفَ» .
وأخْرَجَ الطَّيالِسِيُّ، وأحْمَدُ والبُخارِيُّ في ”تارِيخِهِ“، والطَّبَرانِيُّ، والحاكِمُ عَنْ أبِي أُمامَةَ الباهِلِيِّ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «طُوبى لِمَن رَآنِي وآمَنَ بِي، وطُوبى لِمَن آمَنَ بِي ولَمْ يَرَنِي. سَبْعَ مَرّاتٍ» .
وأخْرَجَ أحْمَدُ، وابْنُ حِبّانَ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ «أنَّ رَجُلًا قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، طُوبى لِمَن رَآكَ وآمَنَ بِكَ، قالَ: طُوبى لِمَن رَآنِي وآمَنَ بِي، وطُوبى ثُمَّ طُوبى ثُمَّ طُوبى لِمَن آمَنَ بِي ولَمْ يَرَنِي» .
وأخْرَجَ الطَّيالِسِيُّ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ نافِعٍ قالَ: «جاءَ رَجُلٌ إلى ابْنِ عُمَرَ فَقالَ: يا أبا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، رَأيْتُمْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِأعْيُنِكم هَذِهِ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: وكَلَّمْتُمُوهُ بِألْسِنَتِكم هَذِهِ ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: وبايَعْتُمُوهُ بِأيْمانِكم هَذِهِ ؟ قالَ: نَعَمْ. قالَ: طُوبى لَكُمْ، فَقالَ ابْنُ عُمَرَ: ألا أُخْبِرُكَ بِشَيْءٍ سَمِعْتُهُ مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؟ قالَ: بَلى. قالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: طُوبى لِمَن رَآنِي وآمَنَ بِي، وطُوبى لِمَن آمَنَ بِي ولَمْ يَرَنِي. ثَلاثَ مَرّاتٍ» .
وأخْرَجَ أحْمَدُ، وأبُو يَعْلى، والطَّبَرانِيُّ، عَنْ أنَسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «طُوبى لِمَن رَآنِي وآمَنَ بِي، وطُوبى لِمَن آمَنَ بِي ولَمْ يَرَنِي. سَبْعَ مَرّاتٍ» .
وأخْرَجَ الحاكِمُ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «إنَّ ناسًا مِن أُمَّتِي يَأْتُونَ بَعْدِي، يَوَدُّ أحَدُهم لَوِ اشْتَرى رُؤْيَتِي بِأهْلِهِ ومالِهِ» .
* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾ الآيَةَ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ إسْحاقَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾ قالَ: الصَّلَواتُ الخَمْسُ ﴿ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ قالَ: زَكاةُ أمْوالِهِمْ.
وأخْرَجَ ابْنُ إسْحاقَ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾ قالَ: يُقِيمُونَها بِفُرُوضِها ﴿ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ قالَ: يُؤَدُّونَ الزَّكاةَ احْتِسابًا لَها.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: إقامَةُ الصَّلاةِ إتْمامُ الرُّكُوعِ والسُّجُودِ والتِّلاوَةِ والخُشُوعِ والإقْبالِ عَلَيْها فِيها.
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾ قالَ: إقامَةُ الصَّلاةِ المُحافَظَةُ عَلى مَواقِيتِها ووُضُوئِها ورُكُوعِها وسُجُودِها ﴿ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ قالَ: أنْفِقُوا في فَرائِضِ اللَّهِ الَّتِي افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ في طاعَتِهِ وسَبِيلِهِ.
وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ في قَوْلِهِ: ﴿ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ قالَ: إنَّما يَعْنِي الزَّكاةَ خاصَّةً، دُونَ سائِرِ النَّفَقاتِ، لا يَذْكُرُ الصَّلاةَ إلّا ذَكَرَ مَعَها الزَّكاةَ، فَإذا لَمْ يُسَمِّ الزَّكاةَ قالَ في إثْرِ ذِكْرِ الصَّلاةِ ﴿ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ في قَوْلِهِ: ﴿ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ قالَ: هي نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلى أهْلِهِ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحّاكِ في قَوْلِهِ: ﴿ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ قالَ: كانَتِ النَّفَقاتُ قُرُباتٍ يَتَقَرَّبُونَ بِها إلى اللَّهِ عَلى قَدْرِ مَيْسُورِهِمْ وجُهْدِهِمْ، حَتّى نَزَلَتْ فَرائِضُ الصَّدَقاتِ في سُورَةِ ”بَراءَةَ“، هُنَّ النّاسِخاتُ المُبَيِّناتُ.
   تفسير القرآن العزيز — ابن أبي زمنين (٣٩٩ هـ)

﴿ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ﴾ [البقرة ٣]
﴿الَّذين يُؤمنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ يَعْنِي: يصدقون بِالْبَعْثِ والحساب، وَالْجَنَّة وَالنَّار؛ فِي تَفْسِير قَتَادَة ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاة﴾ يَعْنِي: الصَّلَوَات الْمَفْرُوضَة، يتمونها على مَا سنّ رَسُول اللَّهِ ﷺ فِي كُلِّ صَلَاة مِنْهَا ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ﴾ يَعْنِي: الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة على سنتها أَيْضا.
   



0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More