تلاوات خاشعة

الأحد، 29 مارس 2020

خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ




جامع البيان — ابن جرير الطبري (٣١٠ هـ)

﴿خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَعَلَىٰ سَمۡعِهِمۡۖ وَعَلَىٰۤ أَبۡصَـٰرِهِمۡ غِشَـٰوَةࣱۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِیمࣱ﴾ [البقرة ٧]
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾
قال أبو جعفر: وأصلُ الختم: الطَّبْع. والخاتَم هو الطَّابع. يقال منه: ختمتُ الكتابَ، إذا طبَعْتَه.
فإن قال لنا قائل: وكيف يختِمُ على القلوبِ، وإنما الختمُ طبعٌ على الأوعية والظروف والغلف(١) ؟
قيل: فإن قلوبَ العباد أوعيةٌ لما أُودِعت من العلوم، وظروفٌ لما جُعل فيها من المعارف بالأمور(٢) . فمعنى الختم عليها وعلى الأسماع - التي بها تُدرَك المسموعات، ومن قِبَلها يوصَل إلى معرفة حقائق الأنباء عن المُغَيَّبات - نظيرُ معنى الختم على سائر الأوعية والظروف.
فإن قال: فهل لذلك من صفةٍ تصفُها لنا فنفهمَها؟ أهي مثل الختم الذي يُعْرَف لما ظَهَر للأبصار، أم هي بخلاف ذلك؟
قيل: قد اختلف أهل التأويل في صفة ذلك، وسنخبر بصفته بعد ذكرنا قولهم:
٣٠٠- فحدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرَّمْلي، قال: حدثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش، قال: أرانا مُجاهدٌ بيَدِه فقال: كانوا يُرَوْنَ أنّ القلبَ في مثل هذا - يعني الكفَّ - فإذا أذنبَ العبد ذنبًا ضُمّ منه - وقال بإصبعِه الخنصر هكذا(٣) - فإذا أذنب ضُمَّ - وقال بإصبع أخرى - فإذا أذنب ضُمَّ - وقال بإصبع أخرى هكذا، حتى ضم أصابعَه كلَّها، قال: ثم يُطبع عليه بطابَعٍ. قال مُجاهد: وكانوا يُرَوْن أنّ ذلك: الرَّيْنُ(٤) .
٣٠١- حدثنا أبو كُريب، قال: حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن مجاهد، قال: القلبُ مثلُ الكفّ، فإذا أذنب ذنبًا قبض أصبعًا حتى يقبض أصابعه كلها - وكان أصحابنا يُرون أنه الرَّان(٥) .
٣٠٢- حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، قال: حدثنا ابن جُريج، قال: قال مجاهد: نُبِّئت أنِّ الذنوبَ على القلب تحُفّ به من نواحيه حتى تلتقي عليه، فالتقاؤُها عليه الطَّبعُ، والطبعُ: الختم. قال ابن جريج: الختْم، الخَتْم على القلب والسَّمع(٦) .
٣٠٣- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قال: حدثني عبد الله بن كَثير، أنه سمع مجاهدًا يقول: الرّانُ أيسَرُ من الطَّبْع، والطَّبع أيسر من الأقْفَال، والأقفال أشدُّ ذلك كله(٧) .
وقال بعضهم: إنما معنى قوله"ختم الله على قُلوبهم" إخبارٌ من الله جل ثناؤه عن تكبرهم، وإعراضهم عن الاستماع لِمَا دُعُوا إليه من الحق، كما يقال:"إنّ فلانًا لأصَمُّ عن هذا الكلام"، إذا امتنع من سَمَاعه، ورفع نفسه عن تفهُّمه تكبرًا.
قال أبو جعفر: والحق في ذلك عندي ما صَحَّ بنظيره الخبرُ عن رسول الله ﷺ، وهو ما:-
٣٠٤- حدثنا به محمد بن بشار قال: حدثنا صفوان بن عيسى، قال: حدثنا ابن عَجْلان، عن القَعْقَاع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ: إنّ المؤمنَ إذا أذنب ذنبًا كانت نُكْتهٌ سوداءُ في قلبه، فإن تاب وَنزع واستغفر، صَقَلت قلبه، فإن زاد زادت حتى تُغْلق قلبه، فذلك"الرَّانُ" الذي قال الله جل ثناؤه: ﴿كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾(٨) [سورة المطففين: ١٤] .
فأخبر ﷺ أنّ الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلفتها أتاها حينئذ الخَتْم من قبل الله عز وجلّ والطبع(٩) ، فلا يكون للإيمان إليها مَسْلك، ولا للكفر منها مَخْلَص، فذلك هو الطَّبع. والختم الذي ذكره الله تبارك وتعالى في قوله: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ ، نظيرُ الطبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف، التي لا يوصَل إلى ما فيها إلا بفضِّ ذلك عنها ثم حلّها. فكذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وَصَف الله أنه ختم على قلوبهم، إلا بعد فضِّه خَاتمَه وحلِّه رباطَه عنها.
ويقال لقائلي القول الثاني، الزاعمين أنّ معنى قوله جل ثناؤه"ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم"، هو وَصْفُهم بالاستكبار والإعراض عن الذي دُعوا إليه من الإقرار بالحق تكبُّرًا: أخبرونا عن استكبار الذين وَصَفهم الله جل ثناؤه بهذه الصفة، وإعراضِهم عن الإقرار بما دُعوا إليه من الإيمان وسائر المعاني اللَّواحق به - أفعلٌ منهم، أم فعلٌ من الله تعالى ذكرُه بهم؟
فإن زعموا أنّ ذلك فعلٌ منهم -وذلك قولهم- قيل لهم: فإنّ الله تبارك وتعالى قد أخبر أنه هو الذي خَتم على قلوبهم وسمْعهم. وكيف يجوز أن يكون إعراضُ الكافرِ عن الإيمان، وتكبُّره عن الإقرار به -وهو فعله عندكم- خَتمًا من الله على قلبه وسمعه، وختمهُ على قَلبه وسَمْعه، فعلُ الله عز وجل دُون الكافر؟
فإن زعموا أن ذلك جائز أن يكون كذلك - لأن تكبُّرَه وإعراضه كانا عن ختم الله على قلبه وسمعه، فلما كان الختمُ سببًا لذلك، جاز أن يسمى مُسَبِّبه به - تركوا قولَهم، وأوجبوا أنّ الختمَ من الله على قلوب الكفار وأسماعهم، معنًى غيرُ كفْرِ الكافِر، وغيرُ تكبره وإعراضه عن قبول الإيمان والإقرار به. وذلك دخولُ فيما أنكروه(١٠) .
وهذه الآية من أوْضحِ الدليل على فساد قول المنكرين تكليفَ ما لا يُطاق إلا بمعونة الله، لأن الله جل ثناؤه أخبرَ أنه ختم على قلوب صِنْف من كُفَّار عباده وأسماعهم، ثم لم يُسقط التكليف عنهم، ولم يَضَعْ عن أحدٍ منهم فرائضَه، ولم يعذِرْهُ في شيء مما كان منه من خلاف طاعته بسبب ما فعل به من الختم والطبع على قلبه وسمعه - بَلْ أخبر أن لجميعِهم منه عذابًا عظيما على تركِهم طاعتَه فيما أمرهم به ونهاهم عنه من حدوده وفرائضه، مع حَتْمه القضاءَ عليهم مع ذلك، بأنهم لا يؤمنون.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾
قال أبو جعفر: وقوله ﴿وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ خبرٌ مبتدأ بعد تمام الخبر عمَّا ختم الله جلَّ ثناؤه عليه من جوارح الكفّار الذين مضت قِصَصهم. وذلك أن"غِشاوةٌ" مرفوعة بقوله"وعلى أبصارهم"، فذلك دليل على أنه خَبرٌ مبتدأ، وأن قوله"ختم الله على قلوبهم"، قد تناهى عند قوله"وعلى سمْعهم".
وذلك هو القراءة الصحيحة عندنا لمعنيين:
أحدهما: اتفاق الحجة من القُرَّاء والعلماء على الشهادة بتصحيحها، وانفرادُ المخالف لهم في ذلك، وشذوذه عمّا هم على تَخطئته مجمعون. وكفى بإجماع الحجة على تخطئة قراءته شاهدًا على خطئها.
والثاني: أنّ الختمَ غيرُ موصوفةٍ به العيونُ في شيء من كتاب الله، ولا في خبر عن رسول الله ﷺ، ولا موجودٍ في لغة أحد من العرب. وقد قال تبارك وتعالى في سورة أخرى: ﴿وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ﴾ ، ثم قال: (وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً) [سورة الجاثية: ٢٣] ، فلم يدخل البصرَ في معنى الختم. وذلك هو المعروف في كلام العرب، فلم يَجُزْ لنا، ولا لأحدٍ من الناس، القراءةُ بنصب الغِشاوة، لما وصفتُ من العلّتين اللتين ذكرت، وإن كان لنَصْبها مخرجٌ معروفٌ في العربية.
وبما قلنا في ذلك من القولِ والتأويلِ، رُوي الخبر عن ابن عباس:
٣٠٥- حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي الحسين بن الحسن، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس:"ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم"، والغشاوة على أبصارهم(١١) .
فإن قال قائل: وما وجهُ مخرج النَّصْب فيها؟
قيل له: أن تنصبها بإضمار"جعل"(١٢) ، كأنه قال: وجعل على أبصارهم غِشَاوةً، ثم أسقط"جعل"، إذْ كان في أول الكلام ما يدُلّ عليه. وقد يحتمل نَصبُها على إتباعهِا موضعَ السمع، إذ كان موضعه نصبًا، وإن لم يكن حَسَنًا إعادةُ العامل فيه على"غشاوة"، ولكن على إتباع الكلام بعضِه بعضًا، كما قال تعالى ذكره: ﴿يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ﴾ ، ثم قال: ﴿وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ﴾ ، [سورة الواقعة: ١٧-٢٢] ، فخفَضَ اللحمَ والحورَ على العطف به على الفاكهة، إتباعًا لآخر الكلام أوّلَه. ومعلومٌ أن اللحمَ لا يطاف به ولا بالحور العين، ولكن كما قال الشاعر يصف فرسه:
عَلَفْتُهَا تِبْنًا ومَاء بارِدًا ... حَتَّى شَتَتْ هَمَّالَةً عَيْنَاهَا(١٣)
ومعلومٌ أن الماء يُشرَب ولا يعلف به، ولكنه نَصب ذلك على ما وصفتُ قبلُ، وكما قال الآخر:
ورأَيْتُ زَوْجَكِ فِي الوَغَى ... مُتَقَلِّدًا سَيْفًا ورُمْحَا(١٤)
وكان ابن جُريج يقول - في انتهاء الخبر عن الختم إلى قوله"وعلى سَمْعهم"، وابتداءِ الخبر بعده - بمثل الذي قلنا فيه، ويتأوّل فيه من كتاب الله ﴿فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ﴾ [سورة الشورى: ٢٤] .
٣٠٦- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: حدثنا ابن جُريج، قال: الختمُ على القلب والسمع، والغشاوة على البَصَر، قال الله تعالى ذكره: ﴿فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ﴾(١٥) ، وقال: ﴿وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً﴾ [سورة الجاثية: ٢٣] .
والغشاوة في كلام العرب: الغطاءُ، ومنه قول الحارث بن خالد بن العاص:
تَبِعْتُكَ إذْ عَيْني عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ ... فَلَمَّا انْجَلَتْ قَطعْتُ نَفْسِي أَلُومُهَا(١٦)
ومنه يقال: تغشَّاه الهم: إذا تجلَّله وركبه، ومنه قول نابغة بني ذبيان:
هَلا سَأَلْتِ بَنِي ذُبيَان مَا حَسَبي ... إذَا الدُّخانُ تَغَشَّى الأشمَط البَرَمَا(١٧)
يعني بذلك: تجلّله وَخالطه.
وإنما أخبر الله تعالى ذكره نبيه محمدًا ﷺ عن الذين كفروا به من أحبار اليهود، أنه قد خَتَم على قلوبهم وطَبَع عليها - فلا يعقلون لله تبارك وتعالى موعظةً وعظهم بها، فيما آتاهم من علم ما عندهم من كُتبِه، وفيما حدَّد في كتابه الذي أوحاه وأنزله إلى نبيّه محمد ﷺ - وعلى سمعهم، فلا يسمَعُون من محمد ﷺ نبيِّ الله تحذيرًا ولا تذكيرًا ولا حجةً أقامها عليهم بنبوَّته، فيتذكُروا ويحذروا عقاب الله عز وجلّ في تكذيبهم إياه، مع علمهم بصدقه وصحّة أمره. وأعلمه مع ذلك أنّ على أبصارهم غشاوةً عن أن يُبصروا سبيل الهُدَى، فيعلموا قُبْحَ ما هم عليه من الضلالة والرَّدَى.
وبنحو ما قلنا في ذلك، رُوي الخبر عن جماعة من أهل التأويل:
٣٠٧- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ ، أيْ عن الهدى أن يُصيبوه أبدًا بغير ما كذبوك به من الحقّ الذي جاءك من ربِّك، حتى يؤمنوا به، وإن آمنوا بكل ما كان قبلك(١٨) .
٣٠٨- حدثني موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرّة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول الله ﷺ:"ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم" يقول: فلا يعقلون ولا يَسْمعون. ويقول:"وجَعل على أبصارهم غشاوة" يقول: على أعينهم فلا يُبصرون(١٩) .
وأما آخرون، فإنهم كانوا يتأولون أنّ الذين أخبر الله عنهم من الكفّار أنه فعل ذلك بهم، هم قادة الأحزاب الذين قتلوا يوم بدر.
٣٠٩- حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، قال: هاتان الآيتان إلى ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ هم ﴿الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ﴾ [سورة إبراهيم: ٢٨] ، وهمُ الذين قُتلوا يوم بدر، فلم يدخل من القادة أحدٌ في الإسلام إلا رجلان: أبو سفيان بن حَرْب، والحَكَم بن أبي العاص(٢٠) .
٣١٠- وحدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، عن الحسن، قال: أما القادةُ فليس فيهم مُجيبٌ ولا ناجٍ ولا مُهْتَدٍ.
وقد دللنا فيما مضى على أوْلى هذين التأويلين بالصواب، فكرهنا إعادته.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٧) ﴾
وتأويلُ ذلك عندي، كما قاله ابن عباس وتأوّله:
٣١١- حدثنا ابنُ حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ولهم بما هُمْ عليه من خلافك عذابٌ عظيم. قال: فهذا في الأحبار من يهود، فيما كذَّبوكِ به من الحق الذي جاءك من رّبك بعد معرفتهم(٢١) .

(١) الغلف جمع غلاف: وهو الصوان الذي يشتمل على ما أوعيت فيه.
(٢) في المخطوطة: "من المعارف بالعلوم".
(٣) قال بإصبعه: أشار بإصبعه.
(٤) الأثر ٣٠٠- عيسى بن عثمان بن عيسى بن عبد الرحمن، التميمي النهشلي: قال النسائي: "صالح". وهو من شيوخ الترمذي وابن مندة وغيرهما، مات سنة ٢٥١، وروى عنه البخاري أيضًا في التاريخ الصغير: ٢٢٤ في ترجمة عمه. وعمه"يحيى بن عيسى". وثقه أحمد والعجلي وغيرهما، وترجمه البخاري في الصغير، قال: "حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى، قال: مات يحيى بن عيسى أبو زكريا التميمي سنة ٢٠١ أو نحوها. كوفي الأصل، وإنما قيل: الرملي، لأنه حدث بالرملة ومات فيها"، وترجمه في الكبير أيضًا ٤/٢: ٢٩٦"يحيى بن عيسى بن عبد الرحمن الرملي، سمع الأعمش، وهو التميمي أبو زكريا الكوفي، سكن الرملة. . . ". ولم يذكر فيه جرحًا.
وهذا الأثر، سيأتي بهذا الإسناد في تفسير آية سورة المطففين: ١٤ (٣٠: ٦٣ بولاق) . وذكره ابن كثير ١: ٨٢، والسيوطي ٦: ٣٢٦.
(٥) الأثر ٣٠١- سيأتي أيضًا (٣٠: ٦٣ بولاق) . وأشار إليه ابن كثير ١: ٨٣ دون أن يذكر لفظه. وكذلك السيوطي ٦: ٣٢٥.
(٦) الأثر ٣٠٢- هذا من رواية ابن جريج عن مجاهد، والظاهر أنه منقطع، لأن ابن جريج يروي عن مجاهد بالواسطة، كما سيأتي في الأثر بعده. وهذا الأثر ذكره ابن كثير ١: ٨٣، ولكنه محرف فيه من الناسخ أو الطابع.
(٧) الأثر ٣٠٣- عبد الله بن كثير: هو الداري المكي، أحد القراء السبعة المشهورين، وهو ثقة. وقد قرأ القرآن على مجاهد. وقد خلط ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ٢/٢: ١٤٤ بينه وبين"عبد الله بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة السهمي". ويظهر من كلام الحافظ في التهذيب ٥: ٣٦٨ أن هذا الوهم كان من البخاري نفسه، فلعل ابن أبي حاتم تبعه في وهمه دون تحقيق.
وهذا الأثر ذكره ابن كثير ١: ٨٣، وكذلك السيوطي ٦: ٣٢٦، وزاد نسبته إلى البيهقي.
(٨) الحديث ٣٠٤- سيأتي في الطبري بهذا الإسناد ٣٠: ٦٢ بولاق. ورواه هناك بإسناد آخر قبله، وبإسنادين آخرين بعده: كلها من طريق محمد بن عجلان عن القعقاع.
محمد بن بشار: هو الحافظ البصري، عرف بلقب"بندار" بضم الباء وسكون النون. روى عنه أصحاب الكتب الستة وغيرهم من الأئمة. ووقع في المطبوعة هنا"محمد بن يسار"، وهو خطأ. ابن عجلان، بفتح العين وسكون الجيم: هو محمد بن عجلان المدني، أحد العلماء العاملين الثقات. القعقاع بن حكيم الكناني المدني: تابعي ثقة. أبو صالح: هو السمان، واسمه"ذكوان". تابعي ثقة، قال أحمد: "ثقة ثقة، من أجل الناس وأوثقهم".
والحديث رواه أحمد في المسند ٧٩٣٩ (٢: ٢٩٧ حلبي) عن صفوان بن عيسى، بهذا الإسناد. ورواه الحاكم ٢: ٥١٧ من طريق بكار بن قتيبة القاضي عن صفوان. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي. ورواه الترمذي ٤: ٢١٠، وابن ماجه ٢: ٢٩١، من طريق محمد بن عجلان. قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
وذكره ابن كثير ١: ٨٤ من رواية الطبري هذه، ثم قال: هذا الحديث من هذا الوجه، قد رواه الترمذي والنسائي عن قتيبة عن الليث بن سعد، وابن ماجه عن هشام بن عمار عن حاتم بن إسماعيل والوليد ابن مسلم - ثلاثتهم عن محمد بن عجلان، به. وقال الترمذي: "حسن صحيح"، ثم ذكره مرة أخرى ٩: ١٤٣ من رواية هؤلاء ومن رواية أحمد في المسند. وذكره السيوطي ٦: ٣٢٥، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن حبان، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان.
وفي متن الحديث هنا، في المطبوعة"كان نكتة. . . صقل قلبه. . . حتى يغلف قلبه". وهو في رواية الطبري الآتية، كما في المخطوطة، إلا قوله"حتى تغلق قلبه"، فهي هناك"حتى تعلو قلبه".
(٩) في المطبوعة: "أغلفتها" في الموضعين، والتصحيح من المخطوطة وابن كثير.
(١٠) في المطبوعة: "وذلك دخول فيما أنكروه".
(١١) الخبر ٣٠٥- هذا الإسناد من أكثر الأسانيد دورانًا في تفسير الطبري، وقد مضى أول مرة ١١٨، ولم أكن قد اهتديت إلى شرحه. وهو إسناد مسلسل بالضعفاء من أسرة واحدة، إن صح هذا التعبير! وهو معروف عند العلماء بـ "تفسير العوفي"، لأن التابعي -في أعلاه- الذي يرويه عن ابن عباس، هو"عطية العوفي"، كما سنذكر. قال السيوطي في الإتقان ٢: ٢٢٤: "وطريق العوفي عن ابن عباس، أخرج منها ابن جرير، وابن أبي حاتم، كثيرًا. والعوفي ضعيف، ليس بواه، وربما حسن له الترمذي". وسنشرحه هنا مفصلا، إن شاء الله:
محمد بن سعد، الذي يروى عنه الطبري: هو محمد بن سعد بن محمد بن الحسن بن عطية بن سعد بن جنادة العوفي، من"بني عوف بن سعد" فخذ من"بني عمرو بن عياذ بن يشكر بن بكر بن وائل". وهو لين في الحديث، كما قال الخطيب. وقال الدارقطني: "لا بأس به". مات في آخر ربيع الآخر سنة ٢٧٦. ترجمه الخطيب في تاريخ بغداد ٥: ٣٢٢ - ٣٢٣. والحافظ في لسان الميزان ٥: ١٧٤. وهو غير"محمد بن سعد بن منيع" كاتب الواقدي، وصاحب كتاب الطبقات الكبير، فهذا أحد الحفاظ الكبار الثقات المتحرين، قديم الوفاة، مات في جمادي الآخرة سنة ٢٣٠.
أبوه"سعد بن محمد بن الحسن العوفي": ضعيف جدًّا، سئل عنه الإمام أحمد، فقال: "ذاك جهمي"، ثم لم يره موضعًا للرواية ولو لم يكن، فقال: "لو لم يكن هذا أيضًا لم يكن ممن يستأهل أن يكتب عنه، ولا كان موضعًا لذاك". وترجمته عند الخطيب ٩: ١٣٦ - ١٢٧، ولسان الميزان ٣: ١٨ - ١٩.
عن عمه: أي عم سعد، وهو"الحسين بن الحسن بن عطية العوفي". كان على قضاء بغداد، قال ابن معين: "كان ضعيفًا في القضاء. ضعيفًا في الحديث". وقال ابن سعد في الطبقات: "وقد سمع سماعًا كثيرًا، وكان ضعيفًا في الحديث". وضعفه أيضًا أبو حاتم والنسائي. وقال ابن حبان في المجروحين: "منكر الحديث. . ولا يجوز الاحتجاج بخبره". وكان طويل اللحية جدا، روى الخطيب من أخبارها طرائف، مات سنة ٢٠١. مترجم في الطبقات ٧/٢/ ٧٤، والجرح والتعديل ١/٢/ ٤٨، وكتاب المجروحين لابن حبان، رقم ٢٢٨ ص ١٦٧، وتاريخ بغداد ٨: ٢٩ - ٣٢، ولسان الميزان ٢: ٢٧٨.
عن أبيه: وهو"الحسن بن عطية بن سعد العوفي"، وهو ضعيف أيضًا، قال البخاري في الكبير: "ليس بذاك"، وقال أبو حاتم: " ضعيف الحديث". وقال ابن حبان: "يروى عن أبيه، روى عنه ابنه محمد بن الحسن، منكر الحديث، فلا أدري: البلية في أحاديثه منه، أو من أبيه، أو منهما معًا؟ لأن أباه ليس بشيء في الحديث، وأكثر روايته عن أبيه، فمن هنا اشتبه أمره، ووجب تركه". مترجم في التاريخ الكبير ١/٢/ ٢٩٩، وابن أبي حاتم ١/٢/ ٢٦، والمجروحين لابن حبان، رقم ٢١٠ ص ١٥٨، والتهذيب.
عن جده: وهو"عطية بن سعد بن جنادة العوفي"، وهو ضعيف أيضًا، ولكنه مختلف فيه، فقال ابن سعد: "كان ثقة إن شاء الله، وله أحاديث صالحة. ومن الناس من لا يحتج به"، وقال أحمد: "هو ضعيف الحديث. بلغني أن عطية كان يأتي الكلبي فيأخذ عنه التفسير. وكان الثوري وهشيم يضعفان حديث عطية". قال: صالح". وقد رجحنا ضعفه في شرح حديث المسند: ٣٠١٠، وشرح حديث الترمذي: ٥٥١، وإنما حسن الترمذي ذاك الحديث لمتابعات، ليس من أجل عطية. وقد ضعفه النسائي أيضًا في الضعفاء: ٢٤. وضعفه ابن حبان جدًّا، في كتاب المجروحين، قال: ". . فلا يحل كتبة حديثه إلا على وجه التعجب"، الورقة: ١٧٨. وانظر أيضًا: ابن سعد ٦: ٢١٢ - ٢١٣ والكبير البخاري ٤/١/ ٨ - ٩. والصغير ١٢٦. وابن أبي حاتم ٣/١/ ٣٨٢ - ٣٨٣. والتهذيب.
والخبر نقله ابن كثير ١: ٨٥، والسيوطي في الدر المنثور ١: ٢٩، وزاد نسبته لابن أبي حاتم. وكذلك صنع الشوكاني ١: ٢٨.
(١٢) في المطبوعة: "إن نصبها. . ".
(١٣) لا يعرف قائله، وأنشده الفراء في معاني القرآن ١: ١٤ وقال: "أنشدني بعض بني أسد يصف فرسه"، وفي الخزانة ١: ٤٩٩: "رأيت في حاشية صحيحة من الصحاح أنه لذي الرمة، ففتشت ديوانه فلم أجده". وسيأتي في تفسير آية سورة المائدة: ١٠٩ (٧: ٨١ بولاق) . وقوله"شتت" من شتا بالمكان: أقام فيه زمن الشتاء، وهو زمن الجدب، وهمالة: تهمل دمعها أي تسكبه وتصبه من شدة البرد.
(١٤) مضى تخريج هذا البيت في ص ١٤٠.
(١٥) الأثر ٣٠٦- ساقه ابن كثير في تفسيره ١: ٨٥، والشوكاني ١: ٢٨.
(١٦) الشاعر هو الحارث بن خالد المخزومي، ويأتي البيت في تفسير آية سورة الأعراف: ١٨ (٨: ١٠٣ بولاق) ، وروايته هناك: "صحبتك إذ عيني. . أذيمها"، شاهدًا على"الذام"، وهو أبلغ في العيب من الذم، ثم قال أبو جعفر: "وأكثر الرواة على إنشاده: ألومها"، وخبر البيت: أن عبد الملك بن مروان لما ولى الخلافة حج البيت، فلما انصرف رحل معه الحارث إلى دمشق، فظهرت له منه جفوة، وأقام ببابه شهرًا لا يصل إليه، فانصرف عنه وقال البيت الشاهد وبعده: وما بِيَ إن أقصَيتنِي من ضَرَاعةٍ ... وَلاَ افْتَقَرَتْ نَفْسِي إلى مَنْ يَضِيمُها
(انظر الأغاني ٣: ٣١٧) ، وبلغ عبد الملك شعره، فأرسل إليه من رده إليه.
(١٧) ديوانه: ٥٢. والأشمط: الذي شاب رأسه من الكبر، والبرم: الذي لا يدخل مع القوم في الميسر. قال ابن قتيبة في المعاني الكبير ٤١٠، ١٢٣٨: "وإنما خص الأشمط، لأنه قد كبر وضعف، فهو يأتي مواضع اللحم".
(١٨) الخبر ٣٠٧- ذكره السيوطي ١: ٢٩ متصلا بما مضى: ٢٩٥، ٢٩٩ وبما يأتي: ٣١١. ساقها سياقًا واحدًا.
(١٩) الخبر ٣٠٨- ساقه ابن كثير ١: ٨٥. وذكره السيوطي ١: ٢٩، والشوكاني ١: ٢٨ عن ابن مسعود فقط.
(٢٠) الأثر ٣٠٩- هو تتمة الأثر الماضي: ٢٩٨، كما ساقه السيوطي ١: ٢٩، والشوكاني ١: ٢٨. وقد أشرنا إليه هناك.
(٢١) الخبر ٣١١- هو تتمة الأخبار: ٢٩٥، ٢٩٩، ٣٠٧، ساقها السيوطي ١: ٢٩ مساقًا واحدًا، كما أشرنا من قبل. ولكنه حذف من آخره ما بعد قوله"فهذا في الأحبار من يهود". لعله ظنه من كلام الطبري. والسياق واضح أنه من تتمة الخبر.






















  تفسير القرآن العظيم — ابن كثير (٧٧٤ هـ)

﴿خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَعَلَىٰ سَمۡعِهِمۡۖ وَعَلَىٰۤ أَبۡصَـٰرِهِمۡ غِشَـٰوَةࣱۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِیمࣱ﴾ [البقرة ٧]
قَالَ السُّدِّيُّ: ﴿خَتَمَ اللَّهُ﴾ أَيْ: طَبَعَ اللَّهُ، وَقَالَ قَتَادَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ إِذْ أَطَاعُوهُ؛ فَخَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ، فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ هُدًى وَلَا يَسْمَعُونَ وَلَا يَفْقَهُونَ وَلَا يَعْقِلُونَ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج: قَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ قَالَ: نُبِّئْتُ أَنَّ الذُّنُوبَ عَلَى الْقَلْبِ تَحُفُّ بِهِ(١) مِنْ كُلِّ نَوَاحِيهِ حَتَّى تَلْتَقِيَ عَلَيْهِ، فَالْتِقَاؤُهَا عَلَيْهِ الطَّبْعُ، وَالطَّبْعُ الْخَتْمُ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْخَتْمُ عَلَى الْقَلْبِ وَالسَّمْعِ.
قَالَ ابْنُ جُرَيْج: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثير، أَنَّهُ سَمِعَ مُجَاهِدًا يَقُولُ: الرّانُ أَيْسَرُ مِنَ الطَّبْعِ، وَالطَّبْعُ أَيْسَرُ مِنَ الْأَقْفَالِ، وَالْأَقْفَالُ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ: أَرَانَا مُجَاهِدٌ بِيَدِهِ فَقَالَ: كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الْقَلْبَ فِي مِثْلِ هَذِهِ(٢) -يَعْنِي: الْكَفَّ-فَإِذَا أَذْنَبَ الْعَبْدُ ذَنْبًا ضُمَّ مِنْهُ، وَقَالَ بِأُصْبُعِهِ الْخِنْصَرِ هَكَذَا، فَإِذَا أَذْنَبَ ضَمّ. وَقَالَ بِأُصْبُعٍ أُخْرَى، فَإِذَا أَذْنَبَ ضُمّ. وَقَالَ بِأُصْبُعٍ أُخْرَى وَهَكَذَا، حَتَّى ضَمَّ أَصَابِعَهُ كُلَّهَا، ثُمَّ قَالَ(٣) : يُطْبَعُ عَلَيْهِ بِطَابَعٍ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا(٤) يَرَوْنَ أَنَّ ذَلِكَ: الرَّيْنُ.
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ: عَنْ أَبِي كُرَيْب، عَنْ وَكِيع، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِنَحْوِهِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ عَنْ تَكَبُّرِهِمْ، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْ الِاسْتِمَاعِ لِمَا دُعُوا إِلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ، كَمَا يُقَالُ: إِنَّ فُلَانًا لأصَمّ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ، إِذَا امْتَنَعَ مِنْ سَمَاعِهِ، وَرَفَعَ(٥) نَفْسَهُ عَنْ تَفَهُّمِهِ تَكَبُّرًا.
قَالَ: وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَتَمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَأَسْمَاعِهِمْ.
(قُلْتُ) : وَقَدْ أَطْنَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَقْرِيرِ مَا رَدَّهُ ابْنُ جَرِيرٍ هَاهُنَا وَتَأَوَّلَ الْآيَةَ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ وَكُلُّهَا ضَعِيفَةٌ جَدًّا، وَمَا جَرَّأَهُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا اعْتِزَالُهُ؛ لِأَنَّ الْخَتْمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَمَنْعَهَا مِنْ وُصُولِ الْحَقِّ إِلَيْهَا قَبِيحٌ عِنْدَهُ -تَعَالَى اللَّهُ عَنْهُ فِي اعْتِقَادِهِ-وَلَوْ فُهِمَ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ وَقَوْلُهُ ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَتَمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْهُدَى جَزَاءً وِفَاقًا عَلَى تَمَادِيهِمْ فِي الْبَاطِلِ وَتَرْكِهِمُ الْحَقَّ، وَهَذَا عَدْلٌ مِنْهُ تَعَالَى حَسَنٌ وَلَيْسَ بِقَبِيحٍ، فَلَوْ أَحَاطَ عِلْمًا بِهَذَا لَمَا قَالَ مَا قَالَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْخَتْمِ وَالطَّبْعِ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ مُجَازَاةً لِكُفْرِهِمْ كَمَا قَالَ: ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾ وَذِكْرُ حَدِيثِ تَقْلِيبِ الْقُلُوبِ: "وَيَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ"، وَذِكْرُ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَاءِ فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادٌّ كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا" الْحَدِيثَ.
قَالَ(٦) وَالْحَقُّ عِنْدِي فِي ذَلِكَ مَا صَحّ بِنَظِيرِهِ(٧) الخبرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ عَجْلان، عَنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا كَانَتْ نُكْتة سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ فَإِنْ تَابَ ونزعَ وَاسْتَعْتَبَ صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ زَادَ زَادَتْ حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، فَذَلِكَ الرَّانُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [الْمُطَفِّفِينَ: ١٤](٨) .
وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ قَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ حَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ وَالْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، بِهِ(٩) .
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فَأَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنَّ الذُّنُوبَ إِذَا تَتَابَعَتْ عَلَى الْقُلُوبِ أَغْلَقَتْهَا، وَإِذَا أَغْلَقَتْهَا أَتَاهَا حِينَئِذٍ الْخَتْمُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى وَالطَّبْعُ، فَلَا يَكُونُ لِلْإِيمَانِ إِلَيْهَا مَسْلَكٌ، وَلَا لِلْكُفْرِ عَنْهَا(١٠) مُخَلِّصٌ، فَذَلِكَ(١١) هُوَ الْخَتْمُ وَالطَّبْعُ الَّذِي ذُكِرَ(١٢) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ نَظِيرُ الطَّبْعِ وَالْخَتْمِ عَلَى مَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ مِنَ الْأَوْعِيَةِ وَالظُّرُوفِ، الَّتِي لَا يُوصَلُ إِلَى مَا فِيهَا إِلَّا بِفَضِّ(١٣) ذَلِكَ عَنْهَا ثُمَّ حَلِّهَا، فَكَذَلِكَ(١٤) لَا يَصِلُ الْإِيمَانُ إِلَى قُلُوبِ مَنْ وَصَفَ اللَّهُ أَنَّهُ خَتَمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ إِلَّا بَعْدَ فَضِّ خَاتَمِهِ وحَلّه رِبَاطَهُ [عَنْهَا](١٥) .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَقْفَ التَّامَّ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ ، وَقَوْلُهُ ﴿وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ جُمْلَةٌ تَامَّةٌ، فَإِنَّ الطَّبْعَ يَكُونُ عَلَى الْقَلْبِ وَعَلَى السَّمْعِ، وَالْغِشَاوَةَ -وَهِيَ الْغِطَاءُ-تَكُونُ عَلَى الْبَصَرِ، كَمَا قَالَ السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ الهَمْداني، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ(١٦) ﷺ فِي قَوْلِهِ: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ يَقُولُ: فَلَا يَعْقِلُونَ وَلَا يَسْمَعُونَ، وَيَقُولُ: وَجَعَلَ عَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةً، يَقُولُ: عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَلَا يُبْصِرُونَ.
قَالَ(١٧) ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ(١٨) حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنِي عَمِّي الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ وَالْغِشَاوَةُ عَلَى أَبْصَارِهِمْ.
وَقَالَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، يَعْنِي ابْنَ دَاوُدَ، وهو سُنَيد، حدثني حجاج، وهو ابن مُحَمَّدٍ الْأَعْوَرُ، حَدَّثَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: الْخَتْمُ عَلَى الْقَلْبِ وَالسَّمْعِ، وَالْغِشَاوَةُ عَلَى الْبَصَرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ﴾ [الشُّورَى: ٢٤] ، وَقَالَ ﴿وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً﴾ [الجاثية: ٢٣](١٩) .
قَالَ(٢٠) ابْنُ جَرِيرٍ: وَمَنْ نَصَبَ غِشَاوَةً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ يَحْتَمِلُ(٢١) أَنَّهُ نَصَبَهَا بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، تَقْدِيرُهُ: وَجَعَلَ عَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَصْبُهَا عَلَى الْإِتْبَاعِ، عَلَى مَحَلِّ ﴿وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَحُورٌ عِينٌ﴾ [الْوَاقِعَةِ: ٢٢] ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
عَلَفْتُها تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا ... حَتَّى شَتتْ هَمَّالَةً عَيْنَاهَا(٢٢)
وَقَالَ الْآخَرُ:
وَرَأَيْتُ زَوْجَك فِي الْوَغَى ... متقلِّدًا سَيْفًا ورُمْحًا(٢٣)
تَقْدِيرُهُ: وَسَقَيْتُهَا مَاءً بَارِدًا، ومعتَقِلا رُمْحًا.
لَمَّا تَقَدَّمَ وَصْفُ الْمُؤْمِنِينَ فِي صَدْرِ السُّورَةِ بِأَرْبَعِ آيَاتٍ، ثُمَّ عَرَّفَ حَالَ الْكَافِرِينَ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، شَرَعَ تَعَالَى فِي بَيَانِ حَالِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ، وَلَمَّا كَانَ أَمْرُهُمْ يَشْتَبِهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ أَطْنَبَ فِي ذِكْرِهِمْ بِصِفَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، كُلٌّ مِنْهَا نِفَاقٌ، كَمَا أَنْزَلَ(٢٤) سُورَةَ بَرَاءَةٌ فِيهِمْ، وَسُورَةَ الْمُنَافِقِينَ فِيهِمْ، وَذَكَرَهُمْ فِي سُورَةِ النُّورِ وَغَيْرِهَا مِنَ السُّوَرِ، تَعْرِيفًا لِأَحْوَالِهِمْ لِتُجْتَنَبَ، وَيُجْتَنَبُ مَنْ تَلَبَّسَ(٢٥) بِهَا أَيْضًا، فَقَالَ تَعَالَى:

(١) في جـ، ط، ب، أ، و: "وقال: الطبع ينبت الذنوب على القلب فحفت به".
(٢) في جـ، ط، ب، أ، و: "هذا".
(٣) في طـ، ب: "قال: ثم".
(٤) في جـ، ط، ب: "وكانوا".
(٥) في جـ: "يرفع".
(٦) في جـ، ط: "قال ابن جرير"
(٧) في جـ: "ما صح به بنظره".
(٨) تفسير الطبري (١/٢٦٠) .
(٩) سنن الترمذي برقم (٣٣٣٤) وسنن النسائي الكبرى برقم (١١٦٥٨) وسنن ابن ماجة برقم (٤٢٤٤) .
(١٠) في أ، و: "منها".
(١١) في جـ: "فلذلك".
(١٢) في و: "ذكره الله".
(١٣) في جـ: "إلى نقض".
(١٤) في جـ: "فلذلك".
(١٥) زيادة من جـ، ط.
(١٦) في جـ، ط: "النبي".
(١٧) في جـ، ط: "وقال".
(١٨) في أ: "سفيان".
(١٩) تفسير الطبري (١/٢٦٥) .
(٢٠) في جـ: "وقال".
(٢١) في جـ، ط: "فيحتمل".
(٢٢) البيت في تفسير الطبري (١/٢٦٤) .
(٢٣) البيت في تفسير الطبري (١/٢٦٥) وهو للحارث المخزومي.
(٢٤) في جـ: "كما أنزلت".
(٢٥) في جـ: "يتلبس".

الجامع لأحكام القرآن — القرطبي (٦٧١ هـ)

﴿خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَعَلَىٰ سَمۡعِهِمۡۖ وَعَلَىٰۤ أَبۡصَـٰرِهِمۡ غِشَـٰوَةࣱۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِیمࣱ﴾ [البقرة ٧]
فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ: الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ﴾ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَانِعَ لَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِقَوْلِهِ: "خَتَمَ اللَّهُ". وَالْخَتْمُ مَصْدَرٌ خَتَمْتُ الشَّيْءَ خَتْمًا فَهُوَ مَخْتُومٌ وَمُخَتَّمٌ، شُدِّدَ لِلْمُبَالَغَةِ، ومعناه التَّغْطِيَةُ عَلَى الشَّيْءِ وَالِاسْتِيثَاقُ مِنْهُ حَتَّى لَا يدخله شي، وَمِنْهُ: خَتَمَ الْكِتَابَ وَالْبَابَ وَمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ، حَتَّى لَا يُوصَلَ إِلَى مَا فِيهِ، وَلَا يُوضَعَ فِيهِ غَيْرُ مَا فِيهِ. وَقَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى قُلُوبَ الْكُفَّارِ بِعَشَرَةِ أَوْصَافٍ: بِالْخَتْمِ وَالطَّبْعِ وَالضِّيقِ وَالْمَرَضِ وَالرَّيْنِ وَالْمَوْتِ وَالْقَسَاوَةِ وَالِانْصِرَافِ وَالْحَمِيَّةِ وَالْإِنْكَارِ. فَقَالَ فِي الْإِنْكَارِ:" قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ(١) " [النحل: ٢٢]. وَقَالَ فِي الْحَمِيَّةِ:" إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ(٢) الْحَمِيَّةَ". [الفتح: ٢٦] وَقَالَ فِي الِانْصِرَافِ:" ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ(٣) اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ" [التوبة: ١٢٧]. وَقَالَ فِي الْقَسَاوَةِ:" فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ(٤) قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ" [الزمر: ٢٢]. وَقَالَ:" ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ(٥) مِنْ بَعْدِ ذلِكَ" [البقرة: ٧٤]. وَقَالَ فِي الْمَوْتِ:" أَوَمَنْ كانَ(٦) مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ" [الانعام: ١٢٢]. وَقَالَ:" إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى(٧) يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ" [الانعام: ٣٦]. وَقَالَ فِي الرَّيْنِ:" كَلَّا بَلْ رانَ(٨) عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ". [المطففين: ١٤]. وقال في المرض: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ [محمد: ٢٩] وَقَالَ فِي الضِّيقِ:" وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً(٩) حَرَجاً". [الانعام: ١٢٥]. وَقَالَ فِي الطَّبْعِ:" فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ(١٠) فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ" [المنافقون: ٣]. وقال:" بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ(١١) " [النساء: ١٥٥]. وَقَالَ فِي الْخَتْمِ: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ﴾ [البقرة: ٧]. وَسَيَأْتِي بَيَانُهَا كُلُّهَا فِي مَوَاضِعِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الثَّانِيَةُ الْخَتْمُ يَكُونُ مَحْسُوسًا كَمَا بَيَّنَّا، وَمَعْنًى كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. فَالْخَتْمُ عَلَى الْقُلُوبِ: عَدَمُ الْوَعْيِ عَنِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ مَفْهُومَ مُخَاطَبَاتِهِ وَالْفِكْرَ فِي آيَاتِهِ. وَعَلَى السَّمْعِ: عَدَمُ فَهْمِهِمْ لِلْقُرْآنِ إِذَا تُلِيَ عَلَيْهِمْ أَوْ دُعُوا إِلَى وَحْدَانِيَّتِهِ. وَعَلَى الْأَبْصَارِ: عَدَمُ هِدَايَتِهَا لِلنَّظَرِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ وَعَجَائِبِ مَصْنُوعَاتِهِ، هَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ. الثَّالِثَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَدَلَّ دَلِيلٍ وَأَوْضَحَ سَبِيلٍ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَالِقُ الْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَالْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، فَاعْتَبِرُوا أَيُّهَا السَّامِعُونَ، وَتَعَجَّبُوا أَيُّهَا الْمُفَكِّرُونَ مِنْ عُقُولِ الْقَدَرِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِخَلْقِ إِيمَانِهِمْ وَهُدَاهُمْ، فَإِنَّ الْخَتْمَ هُوَ الطَّبْعُ فَمِنْ أين لهم الايمان ولو جهدوا، وَقَدْ طُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَجُعِلَ عَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ، فَمَتَى يَهْتَدُونَ، أَوْ مَنْ يَهْدِيهِمْ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ إِذَا أَضَلَّهُمْ وَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ" وَمَنْ يُضْلِلِ(١٢) اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ"! [الزمر: ٢٣] وَكَانَ فِعْلُ اللَّهِ ذَلِكَ عَدْلًا فِيمَنْ أَضَلَّهُ وَخَذَلَهُ، إِذْ لَمْ يَمْنَعْهُ حَقًّا وَجَبَ لَهُ فَتَزُولَ صِفَةُ الْعَدْلِ، وَإِنَّمَا مَنَعَهُمْ مَا كَانَ لَهُ أَنْ يَتَفَضَّلَ بِهِ عَلَيْهِمْ لَا مَا وَجَبَ لَهُمْ. فَإِنْ قَالُوا: إِنَّ مَعْنَى الْخَتْمِ وَالطَّبْعِ وَالْغِشَاوَةِ التَّسْمِيَةُ وَالْحُكْمُ وَالْإِخْبَارُ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، لَا الْفِعْلُ. قُلْنَا: هَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْخَتْمِ وَالطَّبْعِ إِنَّمَا هُوَ فِعْلُ مَا يَصِيرُ بِهِ الْقَلْبُ مَطْبُوعًا مَخْتُومًا، لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَقِيقَتُهُ التَّسْمِيَةَ وَالْحُكْمَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إِذَا قِيلَ: فُلَانٌ طَبَعَ الْكِتَابَ وَخَتَمَهُ، كَانَ حَقِيقَةً أَنَّهُ فَعَلَ مَا صَارَ بِهِ الْكِتَابُ مَطْبُوعًا وَمَخْتُومًا، لَا التَّسْمِيَةَ وَالْحُكْمَ. هَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَلِأَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْخَتْمِ وَالطَّبْعِ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ مُجَازَاةً لِكُفْرِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ﴾ [النساء: ١٥٥]. وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الطَّبْعَ وَالْخَتْمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْمُؤْمِنِينَ مُمْتَنِعٌ، فَلَوْ كَانَ الْخَتْمُ وَالطَّبْعُ هُوَ التَّسْمِيَةُ وَالْحُكْمُ لَمَا امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُؤْمِنُونَ، لِأَنَّهُمْ كُلُّهُمْ يُسَمُّونَ الْكُفَّارَ بِأَنَّهُمْ مَطْبُوعٌ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَأَنَّهُمْ مَخْتُومٌ عَلَيْهَا وَأَنَّهُمْ فِي ضَلَالٍ لَا يُؤْمِنُونَ، وَيَحْكُمُونَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ. فَثَبَتَ أَنَّ الْخَتْمَ وَالطَّبْعَ هُوَ مَعْنًى غَيْرُ التَّسْمِيَةِ وَالْحُكْمِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَعْنًى يَخْلُقُهُ اللَّهُ فِي الْقَلْبِ يَمْنَعُ مِنَ الْإِيمَانِ بِهِ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ(١٣). لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ" [الحجر: ١٢]. وَقَالَ:" وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ(١٤) " [الانعام: ٢٥] أَيْ لِئَلَّا يَفْقَهُوهُ، وَمَا كَانَ مِثْلَهُ. الرَّابِعَةُ قَوْلُهُ: (عَلى قُلُوبِهِمْ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ الْقَلْبِ عَلَى جَمِيعِ الْجَوَارِحِ. وَالْقَلْبُ لِلْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ. وخالص كل شي وَأَشْرَفُهُ قَلْبُهُ، فَالْقَلْبُ مَوْضِعُ الْفِكْرِ. وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ قَلَبْتُ الشَّيْءَ أَقْلِبُهُ قَلْبًا إِذَا رَدَدْتُهُ عَلَى بِدَاءَتِهِ. وَقَلَبْتُ الْإِنَاءَ: رَدَدْتُهُ عَلَى وَجْهِهِ. ثُمَّ نُقِلَ هَذَا اللَّفْظُ فَسُمِّيَ بِهِ هَذَا الْعُضْوُ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ الْحَيَوَانِ، لِسُرْعَةِ الْخَوَاطِرِ إِلَيْهِ، وَلِتَرَدُّدِهَا عَلَيْهِ، كَمَا قِيلَ:
مَا سُمِّيَ الْقَلْبُ إِلَّا مِنْ تَقَلُّبِهِ ... فَاحْذَرْ عَلَى القلب من قلب وتحويل
ثُمَّ لَمَّا نَقَلَتِ الْعَرَبُ هَذَا الْمَصْدَرَ لِهَذَا الْعُضْوِ الشَّرِيفِ الْتَزَمَتْ فِيهِ تَفْخِيمَ قَافِهِ، تَفْرِيقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْلِهِ. رَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: (مَثَلُ الْقَلْبِ مَثَلُ رِيشَةٍ تُقَلِّبُهَا الرِّيَاحُ بِفَلَاةٍ). وَلِهَذَا الْمَعْنَى كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ يَا مُثَبِّتَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ). فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُهُ مَعَ عَظِيمِ قَدْرِهِ وَجَلَالِ مَنْصِبِهِ فَنَحْنُ أَوْلَى بِذَلِكَ اقْتِدَاءً بِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾ [الأنفال: ٢٤]. وَسَيَأْتِي(١٥). الْخَامِسَةُ الْجَوَارِحُ وَإِنْ كَانَتْ تَابِعَةً لِلْقَلْبِ فَقَدْ يَتَأَثَّرُ الْقَلْبُ وَإِنْ كَانَ رَئِيسَهَا وَمَلِكَهَا بِأَعْمَالِهَا لِلِارْتِبَاطِ الَّذِي بَيْنَ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، قَالَ ﷺ: (إِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ فَتُنْكَتُ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ الْكَذْبَةَ فَيَسْوَدُّ قَلْبُهُ) وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: (إِنَّ الرَّجُلَ لَيُصِيبُ الذَّنْبَ فَيَسْوَدُّ قَلْبُهُ فَإِنْ هُوَ تَابَ صُقِلَ قَلْبُهُ). قَالَ: وَهُوَ الرَّيْنُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلُهُ:" كَلَّا بَلْ رانَ عَلى(١٦) قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ" [المطففين: ١٤]. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْقَلْبُ كَالْكَفِّ يُقْبَضُ مِنْهُ بِكُلِ ذَنْبٍ إِصْبَعٌ، ثُمَّ يُطْبَعُ. قُلْتُ: وَفِي قَوْلِ مُجَاهِدٍ هَذَا، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخَتْمَ يَكُونُ حَقِيقِيًّا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْقَلْبَ يُشْبِهُ الصَّنَوْبَرَةَ، وَهُوَ يَعْضُدُ قَوْلَ مُجَاهِدٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَدِيثَيْنِ قَدْ رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْآخَرَ: حَدَّثَنَا (أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ ثُمَّ نَزَلَ الْقُرْآنُ فَعَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ وَعَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ). ثُمَّ حَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِ الْأَمَانَةِ قَالَ: (يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ الْوَكْتِ ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ فتراه منتبرا وليس فيه شي ثُمَّ أَخَذَ حَصًى فَدَحْرَجَهُ عَلَى رِجْلِهِ فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ لَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ حتى يقال إن فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا حَتَّى يُقَالَ لِلرَّجُلِ مَا أَجْلَدَهُ مَا أَظْرَفَهُ مَا أَعْقَلَهُ وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ وَلَقَدْ أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ وَمَا أبالي أيكم بايعت لئن كان مسلما ليردنه علي دينه ولين كان نصرانيا أو يهوديا ليردنه عَلَى سَاعِيهِ(١٧) وَأَمَّا الْيَوْمُ فَمَا كُنْتُ لِأُبَايِعَ مِنْكُمْ إِلَّا فُلَانًا وَفُلَانًا (. فَفِي قَوْلِهِ:) الْوَكْتُ) وَهُوَ الْأَثَرُ الْيَسِيرُ. وَيُقَالُ لِلْبُسْرِ إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ نُكْتَةٌ مِنَ الْإِرْطَابِ: قَدْ وَكَّتَ، فَهُوَ مُوَكِّتٌ. وَقَوْلُهُ: (الْمَجْلُ)، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ مَاءً، وَقَدْ فَسَّرَهُ النَّبِيُّ ﷺ بِقَوْلِهِ: (كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ) أَيْ دَوَّرْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ.
(فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا) أَيْ مُرْتَفِعًا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَحْسُوسٌ فِي الْقَلْبِ يَفْعَلُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْخَتْمُ وَالطَّبْعُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: (تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى يَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السموات وَالْأَرْضُ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادٌّ(١٨) كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ ...
(وَذَكَرَ الْحَدِيثَ (مُجَخِّيًا): يَعْنِي مَائِلًا. السَّادِسَةُ الْقَلْبُ قَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْفُؤَادِ وَالصَّدْرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ(١٩) " [الفرقان: ٣٢] وقال:" أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ(٢٠) " [الشرح: ١] يَعْنِي فِي الْمَوْضِعَيْنِ قَلْبَكَ. وَقَدْ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْعَقْلِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى(٢١) لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ" [ق: ٣٧] أَيْ عَقْلٌ، لِأَنَّ الْقَلْبَ مَحَلُّ الْعَقْلِ فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ. وَالْفُؤَادُ مَحَلُّ الْقَلْبِ، وَالصَّدْرُ مَحَلُّ الْفُؤَادِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّابِعَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَعَلى سَمْعِهِمْ﴾ اسْتَدَلَّ بِهَا مَنْ فَضَّلَ السَّمْعَ عَلَى الْبَصَرِ لِتَقَدُّمِهِ عَلَيْهِ، وَقَالَ تَعَالَى:" قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ(٢٢) وَأَبْصارَكُمْ" [الانعام: ٤٦]. وقال:" وَجَعَلَ لَكُمُ(٢٣) السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ" [السجدة: ٩]. قَالَ: وَالسَّمْعُ يُدْرَكُ بِهِ مِنَ الْجِهَاتِ السِّتِّ، وَفِي النُّورِ وَالظُّلْمَةِ، وَلَا يُدْرَكُ بِالْبَصَرِ إِلَّا مِنَ الْجِهَةِ الْمُقَابِلَةِ، وَبِوَاسِطَةٍ مِنْ ضِيَاءٍ وَشُعَاعٍ. وقال أكثر المتكلمين بِتَفْضِيلِ الْبَصَرِ عَلَى السَّمْعِ، لِأَنَّ السَّمْعَ لَا يُدْرَكُ بِهِ إِلَّا الْأَصْوَاتُ وَالْكَلَامُ، وَالْبَصَرُ يُدْرَكُ بِهِ الْأَجْسَامُ وَالْأَلْوَانُ وَالْهَيْئَاتُ كُلُّهَا. قَالُوا: فَلَمَّا كَانَتْ تَعَلُّقَاتُهُ أَكْثَرَ كَانَ أَفْضَلَ، وَأَجَازُوا الْإِدْرَاكَ بِالْبَصَرِ مِنَ الْجِهَاتِ السِّتِّ. الثَّامِنَةُ إِنْ قَالَ قَائِلٌ: لِمَ جَمَعَ الْأَبْصَارَ وَوَحَّدَ السَّمْعَ؟ قِيلَ لَهُ: إِنَّمَا وَحَّدَهُ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ يَقَعُ لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ يُقَالُ: سَمِعْتُ الشَّيْءَ أَسْمَعُهُ سَمْعًا وَسَمَاعًا، فَالسَّمْعُ مَصْدَرُ سَمِعْتُ، وَالسَّمْعُ أَيْضًا اسْمٌ لِلْجَارِحَةِ الْمَسْمُوعِ بِهَا سُمِّيَتْ بِالْمَصْدَرِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا أَضَافَ السَّمْعَ إِلَى الْجَمَاعَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ أَسْمَاعُ الْجَمَاعَةِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:(٢٤)
بِهَا جِيَفُ الْحَسْرَى فَأَمَّا عِظَامُهَا ... فَبِيضٌ وَأَمَّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ
إِنَّمَا يُرِيدُ جُلُودَهَا فَوَحَّدَ، لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ لِلْجَمَاعَةِ جِلْدٌ وَاحِدٌ. وَقَالَ آخَرُ(٢٥) فِي مِثْلِهِ:
لَا تُنْكِرِ الْقَتْلَ وَقَدْ سُبِينَا ... فِي حَلْقِكُمْ عَظْمٌ وَقَدْ شَجِينَا
يُرِيدُ فِي حُلُوقِكُمْ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الْآخَرِ:
كَأَنَّهُ وَجْهُ تُرْكِيَّيْنِ قَدْ غَضِبَا ... مُسْتَهْدَفٌ لِطِعَانٍ غَيْرُ تَذْبِيبِ
وَإِنَّمَا يُرِيدُ وَجْهَيْنِ، فَقَالَ وَجْهَ تُرْكِيَّيْنِ، لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ للاثنين وجه واحد، ومثله كثير جدا. وقرى: "وَعَلَى أَسْمَاعِهِمْ" وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَعَلَى مَوَاضِعِ سَمْعِهِمْ، لِأَنَّ السَّمْعَ لَا يُخْتَمُ وَإِنَّمَا يُخْتَمُ مَوْضِعُ السَّمْعِ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ. وَقَدْ يَكُونُ السَّمْعُ بِمَعْنَى الِاسْتِمَاعِ، يُقَالُ: سَمْعُكَ حَدِيثِي أَيِ اسْتِمَاعُكَ إِلَى حَدِيثِي يُعْجِبُنِي، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ يَصِفُ ثَوْرًا تَسَمَّعَ إِلَى صَوْتِ صَائِدٍ وَكِلَابٍ:
وَقَدْ تَوَجَّسَ رِكْزًا مُقْفِرٌ نَدُسٌ ... بِنَبْأَةِ الصَّوْتِ مَا فِي سمعه كذب
أَيْ مَا فِي اسْتِمَاعِهِ كَذِبٌ، أَيْ هُوَ صَادِقُ الِاسْتِمَاعِ. وَالنَّدُسُ: الْحَاذِقُ. وَالنَّبْأَةُ: الصَّوْتُ الْخَفِيُّ، وَكَذَلِكَ الرِّكْزُ. وَالسِّمْعُ (بِكَسْرِ السِّينِ وَإِسْكَانِ الْمِيمِ): ذِكْرُ الْإِنْسَانِ بِالْجَمِيلِ، يُقَالُ: ذَهَبَ سِمْعُهُ فِي النَّاسِ أَيْ ذِكْرُهُ. وَالسِّمْعُ أَيْضًا: وَلَدُ الذِّئْبِ مِنَ الضَّبْعِ. وَالْوَقْفُ هُنَا: "وَعَلى سَمْعِهِمْ". وَ "غِشاوَةٌ" رُفِعَ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَمَا قَبْلَهُ خَبَرٌ. وَالضَّمَائِرُ فِي "قُلُوبِهِمْ" وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ لِمَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، وَقِيلَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَقِيلَ مِنَ الْيَهُودِ، وَقِيلَ مِنَ الْجَمِيعِ، وَهُوَ أَصْوَبُ، لِأَنَّهُ يَعُمُّ. فَالْخَتْمُ عَلَى الْقُلُوبِ وَالْأَسْمَاعِ. وَالْغِشَاوَةُ عَلَى الْأَبْصَارِ. وَالْغِشَاءُ: الْغِطَاءُ. وَهِيَ: التَّاسِعَةُ وَمِنْهُ غَاشِيَةُ السَّرْجِ، وَغَشَّيْتُ الشَّيْءَ أُغَشِّيهِ. قَالَ النَّابِغَةُ:
هَلَّا سَأَلْتِ بَنِي ذُبْيَانِ مَا حَسْبِي ... إِذَا الدُّخَانُ تَغَشَّى الْأَشْمَطَ الْبَرَمَا(٢٦)
وَقَالَ آخَرُ(٢٧):
صَحِبْتُكَ إِذْ عَيْنِي عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ ... فَلَمَّا انْجَلَتْ قَطَّعْتُ نَفْسِي أَلُومُهَا
قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: فَإِنْ جَمَعْتَ غِشَاوَةً قُلْتَ: غِشَاءٌ بِحَذْفِ الْهَاءِ. وَحَكَى الْفَرَّاءُ: غشاوى مثل أداوي. وقرى: "غِشاوَةٌ" بِالنَّصْبِ عَلَى مَعْنَى وَجَعَلَ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ:
عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا

وَقَوْلُ الْآخَرِ(٢٨):
يَا لَيْتَ زَوْجَكَ قَدْ غَدَا ... مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا
الْمَعْنَى وَأَسْقَيْتُهَا مَاءً، وَحَامِلًا رُمْحًا، لِأَنَّ الرُّمْحَ لَا يُتَقَلَّدُ. قَالَ الْفَارِسِيُّ: وَلَا تَكَادُ تَجِدُ هَذَا الِاسْتِعْمَالَ فِي حَالِ سَعَةٍ وَاخْتِيَارٍ، فَقِرَاءَةُ الرَّفْعِ أَحْسَنُ، وَتَكُونُ الْوَاوُ عَاطِفَةَ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ. قَالَ: وَلَمْ أَسْمَعْ مِنَ الْغِشَاوَةِ فِعْلًا مُتَصَرِّفًا بِالْوَاوِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: الْغِشَاوَةُ عَلَى الْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ، وَالْوَقْفُ عَلَى "قُلُوبِهِمْ". وَقَالَ آخَرُونَ: الْخَتْمُ فِي الْجَمِيعِ، وَالْغِشَاوَةُ هِيَ الْخَتْمُ، فَالْوَقْفُ عَلَى هَذَا عَلَى "غِشاوَةٌ". وَقَرَأَ الحسن "غشاوة" بضم الغين، وقرا أبو حيوة بفتحها، وروي عن أَبِي عَمْرٍو: غِشْوَةٌ، رَدَّهُ إِلَى أَصْلِ الْمَصْدَرِ. قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: وَيَجُوزُ غَشْوَةٌ وَغِشْوَةٌ وَأَجْوَدُهَا غِشَاوَةٌ، كَذَلِكَ تَسْتَعْمِلُ الْعَرَبُ فِي كُلِّ مَا كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى الشَّيْءِ، نَحْوَ عِمَامَةٍ وَكِنَانَةٍ وَقِلَادَةٍ وَعِصَابَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. الْعَاشِرَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَهُمْ﴾ أَيْ لِلْكَافِرِينَ الْمُكَذِّبِينَ (عَذابٌ عَظِيمٌ) نَعْتُهُ. وَالْعَذَابُ مِثْلُ الضَّرْبِ بِالسَّوْطِ وَالْحَرْقِ بِالنَّارِ وَالْقَطْعِ بِالْحَدِيدِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُؤْلِمُ الْإِنْسَانَ. وَفِي التَّنْزِيلِ:" وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ(٢٩) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ" [النور: ٢] وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْحَبْسِ وَالْمَنْعِ، يُقَالُ فِي اللُّغَةِ: أَعْذِبْهُ عَنْ كَذَا أَيِ احْبِسْهُ وَامْنَعْهُ، وَمَنْهُ سُمِّيَ عُذُوبَةُ الْمَاءِ، لِأَنَّهَا قَدْ أُعْذِبَتْ. وَاسْتُعْذِبَ بِالْحَبْسِ فِي الْوِعَاءِ لِيَصْفُوَ وَيُفَارِقَهُ مَا خَالَطَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَعْذِبُوا نِسَاءَكُمْ عَنِ الْخُرُوجِ، أَيِ احْبِسُوهُنَّ. وَعَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ شَيَّعَ سَرِيَّةً فَقَالَ: أَعْذِبُوا عَنْ ذِكْرِ النِّسَاءِ [أَنْفُسَكُمْ] فَإِنَّ ذَلِكَ يَكْسِرُكُمْ عَنِ الْغَزْوِ، وَكُلُّ مَنْ مَنَعْتُهُ شَيْئًا فَقَدْ أَعْذَبْتُهُ، وَفِي الْمَثَلِ: "لَأُلْجِمَنَّكَ لِجَامًا مُعْذِبًا" أَيْ مَانِعًا عَنْ رُكُوبِ النَّاسِ. وَيُقَالُ: أَعْذَبَ أَيِ امْتَنَعَ. وَأَعْذَبَ غَيْرَهُ، فَهُوَ لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ، فَسُمِّيَ الْعَذَابُ عَذَابًا لِأَنَّ صَاحِبَهُ يُحْبَسُ وَيُمْنَعُ عَنْهُ جَمِيعُ مَا يُلَائِمُ الْجَسَدَ مِنَ الْخَيْرِ ويهال عليه أضدادها.

(١) راجع ج ١٠ ص ٩٥.
(٢) راجع ج ١٦ ص ٢٨٨.
(٣) راجع ج ٨ ص ٣٠٠.
(٤) راجع ج ١٥ ص ٢٤٨.
(٥) راجع ج ١ ص ٤٦٢.
(٦) راجع ج ٧ ص ٧٨.
(٧) راجع ج ٦ ص ٤١٨
(٨) راجع ج ١٩ ص ٢٥٧
(٩) راجع ج ٧ ص ٨١.
(١٠) راجع ج ١٨ ص ١٢٤.
(١١) راجع ج ٦ ص ٧
(١٢) راجع ج ١٥ ص ٢٥٠.
(١٣) راجع ج ١٠ ص ٧ و٢٧١.
(١٤) راجع ج ١٠ ص ٧ و٢٧١.
(١٥) راجع ج ٧ ص ٣٩٠.
(١٦) راجع ج ١٩ ص ٢٥٧.
(١٧) ساعية: هو رئيسهم الذي يصدرون عن رأيه ولا يمضون أمرا دونه (النهاية).
(١٨) ويروي: (مربد) أي اختلط سواده بكدرة.
(١٩) راجع ج ١٣ ص ٢٨.
(٢٠) راجع ج ٢٠ ص ١٠٤.
(٢١) راجع ج ١٧ ص ٢٣.
(٢٢) راجع ج ٦ ص ٤٢٧.
(٢٣) راجع ج ١٠ ص ١٥١
(٢٤) هو علقمة بن عبدة. وصف طريقا بعيدا شاقا على من سلكه. فجيف الحسرى وهو المعيبة من الإبل مستقرة فيه. وقوله: فأما عظامها فبيض، أي أكلت السباع والطير ما عليها من اللحم فتعرت وبدا وضحيها. وقوله: وأما جلدها إلخ، أي محرم يائس لأنه ملقى بالفلاة لم يدبغ، ويقال: الصليب هنا الودك، أي قد سال ما فيه من رطوبة لاحماء الشمس عليه.
(عن شرح الشواهد للشنتمري).
(٢٥) هو المسيب بن زيد مناة الغنوي، كما في كتاب سيبويه.
(٢٦) الأشمط: الذي خالطه الشيب. والبرم: الذي لا يدخل مع القوم في الميسر ويأكل معهم من لحمه.
(٢٧) هو الحارث بن خالد المخزومي، كما في اللسان مادة (غشا).
(٢٨) هو عبد الله بن الزبعري، كما في الكامل للمبرد ص ١٨٩ طبع أوربا.
(٢٩) راجع ج ١٢ ص ١٦٦



معالم التنزيل — البغوي (٥١٦ هـ)


﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ سَوَاۤءٌ عَلَیۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ (٦) خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَعَلَىٰ سَمۡعِهِمۡۖ وَعَلَىٰۤ أَبۡصَـٰرِهِمۡ غِشَـٰوَةࣱۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِیمࣱ (٧) وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن یَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِینَ (٨) یُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَمَا یَخۡدَعُونَ إِلَّاۤ أَنفُسَهُمۡ وَمَا یَشۡعُرُونَ (٩) فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضࣰاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمُۢ بِمَا كَانُوا۟ یَكۡذِبُونَ (١٠)﴾ [البقرة ٦-١٠]
قَوْلُهُ ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يَعْنِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي الْيَهُودَ. وَالْكُفْرُ هُوَ الْجُحُودُ وَأَصْلُهُ مِنَ الْكُفْرِ وَهُوَ السَّتْرُ وَمِنْهُ سُمِّيَ اللَّيْلُ كَافِرًا لِأَنَّهُ يَسْتُرُ الْأَشْيَاءَ بظلمته وسمي الزارع كَافِرًا لِأَنَّهُ يَسْتُرُ الْحَبَّ بِالتُّرَابِ وَالْكَافِرُ يَسْتُرُ الْحَقَّ بِجُحُودِهِ.
وَالْكُفْرُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ: كُفْرُ إِنْكَارٍ، وَكُفْرُ جَحُودٍ، وَكُفْرُ عِنَادٍ، وَكُفْرُ نِفَاقٍ. فَكُفْرُ الْإِنْكَارِ: أَنْ لَا يَعْرِفَ اللَّهَ أَصْلًا وَلَا يَعْتَرِفَ بِهِ، وَكُفْرُ الْجَحُودِ هُوَ: أَنْ يَعْرِفَ اللَّهَ تَعَالَى بِقَلْبِهِ وَلَا يُقِرُّ بِلِسَانِهِ كَكُفْرِ إِبْلِيسَ (وَكُفْرِ)(١) الْيَهُودِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾ (٨٩-الْبَقَرَةِ) وَكُفْرُ الْعِنَادِ هُوَ: أَنْ يَعْرِفَ اللَّهَ بِقَلْبِهِ وَيَعْتَرِفَ بِلِسَانِهِ وَلَا يَدِينُ بِهِ كَكُفْرِ أَبِي طَالِبٍ حَيْثُ يَقُولُ: وَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ ... مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينًا
لَوْلَا الْمَلَامَةُ أَوْ حَذَارِ مَسَبَّةٍ ... لَوَجَدْتَنِي سَمْحًا بِذَاكَ مُبِينًا
وَأَمَّا كُفْرُ النِّفَاقِ: فَهُوَ أَنَّ يُقِرَّ بِاللِّسَانِ وَلَا يَعْتَقِدَ بِالْقَلْبِ، وَجَمِيعُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ سَوَاءٌ فِي أَنَّ مَنْ لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى بِوَاحِدٍ مِنْهَا لَا يُغْفَرُ لَهُ.
قَوْلُهُ ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ﴾ أَيْ: مُتَسَاوٍ لَدَيْهِمْ ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ﴾ خَوَّفْتَهُمْ وَحَذَّرْتَهُمْ وَالْإِنْذَارُ إِعْلَامٌ مَعَ تَخْوِيفٍ وَتَحْذِيرٍ وَكُلُّ مُنْذِرٍ مُعَلِّمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُعَلِّمٍ مُنْذِرًا وَحَقَّقَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ الْهَمْزَتَيْنِ فِي "أَأَنْذَرْتَهُمْ" وَكَذَلِكَ كَلُّ هَمْزَتَيْنِ تَقَعَانِ فِي أَوَّلِ الْكَلِمَةِ وَالْآخَرُونَ يُلَيِّنُونَ الثَّانِيَةَ ﴿أَمْ﴾ حَرْفُ عَطْفٍ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ (لَمْ) حَرْفُ جَزْمٍ لَا تَلِي إِلَّا الْفِعْلَ لِأَنَّ الْجَزْمَ يَخْتَصُّ بِالْأَفْعَالِ ﴿تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي أَقْوَامٍ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الشَّقَاوَةِ فِي سَابِقِ عِلْمِ اللَّهِ ثُمَّ ذَكَرَ سَبَبَ تَرْكِهِمُ الْإِيمَانَ
فَقَالَ ﴿خَتَمَ اللَّهُ﴾ طَبَعَ اللَّهُ ﴿عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ فَلَا تَعِي خَيْرًا وَلَا تَفْهَمُهُ.
وَحَقِيقَةُ الْخَتْمِ الِاسْتِيثَاقُ مِنَ الشَّيْءِ كَيْلَا يَدْخُلَهُ مَا خَرَجَ مِنْهُ وَلَا يَخْرُجَ عَنْهُ مَا فِيهِ، وَمِنْهُ الْخَتْمُ عَلَى الْبَابِ. قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: أَيْ حَكَمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِالْكُفْرِ، لِمَا سَبَقَ مِنْ عِلْمِهِ الْأَزَلِيِّ فِيهِمْ، وَقَالَ الْمُعْتَزِلَةُ: جَعَلَ عَلَى قُلُوبِهِمْ عَلَامَةً تَعْرِفُهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِهَا.
﴿وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ أَيْ: عَلَى مَوْضِعِ سَمْعِهِمْ فَلَا يَسْمَعُونَ الْحَقَّ وَلَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَأَرَادَ عَلَى أَسْمَاعِهِمْ كَمَا قَالَ: ﴿عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ وَإِنَّمَا وَحَّدَهُ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَالْمَصْدَرُ لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ.
﴿وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ هَذَا ابْتِدَاءُ كَلَامٍ. غِشَاوَةٌ أَيْ: غِطَاءٌ، فَلَا يَرَوْنَ الْحَقَّ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ أَبْصَارِهِمْ بِالْإِمَالَةِ وَكَذَلِكَ كَلُّ أَلِفٍ بَعْدَهَا رَاءٌ مَجْرُورَةٌ فِي الْأَسْمَاءِ كَانَتْ لَامَ الْفِعْلِ يُمِيلَانِهَا وَيُمِيلُ حَمْزَةُ مِنْهَا مَا يَتَكَرَّرُ فِيهِ الرَّاءُ كَالْقَرَارِ وَنَحْوِهِ. زَادَ الْكِسَائِيُّ إِمَالَةَ جَبَّارِينَ وَالْجَوَارِ وَالْجَارِ وَبَارِئِكُمْ وَمَنْ أَنْصَارِي وَنُسَارِعُ وَبَابِهِ. وَكَذَلِكَ يُمِيلُ هَؤُلَاءِ كُلَّ أَلِفٍ بِمَنْزِلَةِ لَامِ الْفِعْلِ، أَوْ كَانَ عَلَمًا لِلتَّأْنِيثِ، إِذَا كَانَ قَبْلَهَا رَاءٌ، فَعَلَمُ التَّأْنِيثِ مِثْلُ: الْكُبْرَى وَالْأُخْرَى. وَلَامُ الْفِعْلِ: مِثْلُ تَرَى وَافْتَرَى، يَكْسِرُونَ الرَّاءَ فِيهَا.
وَلَهُمْ ﴿عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ أَيْ: فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ الْقَتْلُ وَالْأَسْرُ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابُ الدَّائِمُ فِي الْعُقْبَى. وَالْعَذَابُ كُلُّ مَا يَعْنِي الْإِنْسَانَ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ. قَالَ الْخَلِيلُ: الْعَذَابُ مَا يَمْنَعُ الْإِنْسَانَ عَنْ مُرَادِهِ، وَمِنْهُ: الْمَاءُ الْعَذْبُ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْعَطَشَ.
قَوْلُهُ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ(٢) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ، وَمُعَتِّبِ بْنِ قُشَيْرٍ، وَجَدِّ بْنِ قَيْسٍ وَأَصْحَابِهِمْ حَيْثُ أَظْهَرُوا كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ لِيَسْلَمُوا مِنَ النَّبِيِّ ﷺ وَأَصْحَابِهِ وَاعْتَقَدُوا خِلَافَهَا وَأَكْثَرُهُمْ مِنَ الْيَهُودِ، وَالنَّاسُ جَمْعُ إِنْسَانٍ سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ عُهِدَ إِلَيْهِ فَنَسِيَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ﴾ (١١٥-طه) وَقِيلَ: لِظُهُورِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ آنَسْتُ أَيْ أَبْصَرْتُ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يُسْتَأْنَسُ بِهِ ﴿وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ أَيْ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ﴾ أَيْ يُخَالِفُونَ اللَّهَ وَأَصْلُ الْخَدْعِ فِي اللُّغَةِ الْإِخْفَاءُ وَمِنْهُ الْمَخْدَعُ لِلْبَيْتِ الَّذِي يُخْفَى فِيهِ الْمَتَاعُ فَالْمُخَادِعُ يُظْهِرُ خِلَافَ مَا يُضْمِرُ وَالْخَدْعُ مِنَ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ ﴿وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ (١٨٢-النِّسَاءِ) أَيْ يُظْهِرُ لَهُمْ وَيُعَجِّلُ لَهُمْ مِنَ النَّعِيمِ فِي الدُّنْيَا خِلَافَ مَا يَغِيبُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: أَصْلُ الْخَدْعِ: الْفَسَادُ، مَعْنَاهُ يُفْسِدُونَ مَا أَظْهَرُوا مِنَ الْإِيمَانِ بِمَا أَضْمَرُوا مِنَ الْكُفْرِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ أَيْ: يُفْسِدُ عَلَيْهِمْ نَعِيمَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِمَا يُصَيِّرُهُمْ إِلَيْهِ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ فَإِنْ قِيلَ مَا مَعْنَى قَوْلِهِ ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ﴾ وَالْمُفَاعَلَةُ لِلْمُشَارَكَةِ وَقَدْ جَلَّ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْمُشَارَكَةِ فِي الْمُخَادَعَةِ؟ قِيلَ: قَدْ تَرِدُ الْمُفَاعَلَةُ لَا عَلَى مَعْنَى الْمُشَارِكَةِ كَقَوْلِكَ عَافَاكَ اللَّهُ وَعَاقَبْتُ فُلَانًا، وَطَارَقْتُ النَّعْلَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ يُخَادِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ﴾ (٥٧-الْأَحْزَابِ) أَيْ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ، وَقِيلَ: ذِكْرُ اللَّهِ هَاهُنَا تَحْسِينٌ وَالْقَصْدُ بِالْمُخَادَعَةِ الَّذِينَ آمَنُوا كَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ﴾ (٤١-الْأَنْفَالِ) وَقِيلَ مَعْنَاهُ يَفْعَلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ مَا هُوَ خِدَاعٌ فِي دِينِهِمْ ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ أَيْ وَيُخَادِعُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِمْ إِذَا رَأَوْهُمْ آمَنَّا وَهُمْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ.
﴿وَمَا يَخْدَعُونَ﴾ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عمرو وما يخدعون كَالْحَرْفِ الْأَوَّلِ وَجَعَلُوهُ مِنَ الْمُفَاعَلَةِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالْوَاحِدِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: وَمَا يَخْدَعُونَ عَلَى الْأَصْلِ.
﴿إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ لِأَنَّ وَبَالَ خِدَاعِهِمْ رَاجِعٌ إِلَيْهِمْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُطْلِعُ نَبِيَّهُ ﷺ عَلَى نِفَاقِهِمْ فَيُفْتَضَحُونَ فِي الدُّنْيَا وَيَسْتَوْجِبُونَ الْعِقَابَ فِي الْعُقْبَى ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ أَيْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ يَخْدَعُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَنَّ وَبَالَ خِدَاعِهِمْ يَعُودُ عَلَيْهِمْ
﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ شَكٌّ وَنِفَاقٌ وَأَصْلُ الْمَرَضِ الضَّعْفُ. وَسُمِّيَ الشَّكُّ فِي الدِّينِ مَرَضًا لِأَنَّهُ يُضْعِفُ الدِّينَ كَالْمَرَضِ يُضْعِفُ الْبَدَنَ.
﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ لِأَنَّ الْآيَاتِ كَانَتْ تَنْزِلُ تَتْرَى، آيَةً بَعْدَ آيَةٍ، كُلَّمَا كَفَرُوا بِآيَةٍ ازْدَادُوا كُفْرًا وَنِفَاقًا وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ﴾ (١٢٥-التَّوْبَةِ) وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ فَزَادَهُمْ بِالْإِمَالَةِ وَزَادَ حَمْزَةُ إِمَالَةَ زَادَ حَيْثُ وَقَعَ وَزَاغَ وَخَابَ وَطَابَ وَحَاقَ وَضَاقَ، وَالْآخَرُونَ لَا يُمِيلُونَهَا ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ مُؤْلِمٌ يَخْلُصُ وَجَعُهُ إِلَى قُلُوبِهِمْ ﴿بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ مَا لِلْمَصْدَرِ أَيْ بِتَكْذِيبِهِمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي السِّرِّ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ يَكْذِبُونَ بِالتَّخْفِيفِ أَيْ بِكَذِبِهِمْ ﴿إِذْ﴾(٣) قَالُوا آمَنَّا وَهُمْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ.

(١) من ب.
(٢) انظر: الطبري: ١ / ٢٦٩، تفسير ابن كثير: ١ / ٤٨.
(٣) في الأصل إذا.



فتح البيان — صديق حسن خان (١٣٠٧ هـ)

﴿خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَعَلَىٰ سَمۡعِهِمۡۖ وَعَلَىٰۤ أَبۡصَـٰرِهِمۡ غِشَـٰوَةࣱۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِیمࣱ﴾ [البقرة ٧]
(ختم الله على قلوبهم) أي طبع الله عليها واستوثق فلا تعي خيراً ولا تفهمه والختم والكتم أخوان، وأصل الختم مصدر معناه التغطية على الشيء، والاستيثاق منه حتى لا يدخله شيء ولا يخرج منه ما حصل فيه، ومنه ختم الكتاب والباب، وما يشبه ذلك حتى لا يوصل إلى ما فيه ولا يوضع فيه غيره، فشبه هذا المعنى بضرب الخاتم على الشيء تشبيه معقول بمحسوس، والجامع انتفاء القبول لمانع منع منه، وكذا يقال في الختم على الإسماع، وإسناد الختم إلى الله قد احتج به أهل السنة على المعتزلة، وحاولوا دفع هذه الحجة بمثل ما ذكره صاحب الكشاف والكلام على مثل هذا متقرر في مواطنه.
(وعلى سمعهم) أي مواضعه، وإنما وحد السمع مع جمع القلوب كما تقدم والابصار كما سيأتي لإنه مصدر يقع على القليل والكثير، أو لوحدة المسموع وهو الصوت، وإنما خص هذه الأعضاء بالذكر لأنها طرق العلم، فالقلب محله وطريقه إما السماع وإما الرؤية (وعلى أبصارهم غشاوة) الغشاوة الغطاء وهذا البناء لما يشتمل على الشيء كالعصابة والعمامة، ومنه غاشية السرج وهي غطاء التعامي عن آيات الله ودلائل توحيده قيل المراد بالختم والغشاوة ههنا هما المعنويان لا الحسيان، ويكون الطبع والختم على القلوب والاسماع، والغشاوة على الأبصار كما قاله جماعة قال تعالى (فان يشأ الله يختم على قلبك) وقال (ختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة) (ولهم عذاب عظيم) يعني في الآخرة وقيل الأسر والقتل في الدنيا والعذاب الدائم في العقبى والعذاب هو كل ما يؤلم الانسان هو مأخوذ من الحبس والمنع، يقال في اللغة أعذبه عن كذا حبسه ومنعه ومنه عذوبة الماء لأنها حبست في الإناء حتى صفت، وقيل هو الايجاع الشديد، والعظيم نقيض الحقير، والكبير نقيض الصغير، فكان العظيم فوق الكبير كما أن الحقير دون الصغير، ويستعملان في الجثث والاحداث جميعاً.

فتح القدير — الشوكاني (١٢٥٠ هـ)

﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ سَوَاۤءٌ عَلَیۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ (٦) خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَعَلَىٰ سَمۡعِهِمۡۖ وَعَلَىٰۤ أَبۡصَـٰرِهِمۡ غِشَـٰوَةࣱۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِیمࣱ (٧)﴾ [البقرة ٦-٧]
ذَكَرَ سُبْحانَهُ فَرِيقَ الشَّرِّ بَعْدَ الفَراغِ مِن ذِكْرِ فَرِيقِ الخَيْرِ قاطِعًا لِهَذا الكَلامِ عَنِ الكَلامِ الأوَّلِ، مُعَنْوِنًا لَهُ بِما يُفِيدُ أنَّ شَأْنَ جِنْسِ الكَفَرَةِ عَدَمُ إجْداءِ الإنْذارِ لَهم، وأنَّهُ لا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمْ ما هو المَطْلُوبُ مِنهم مِنَ الإيمانِ، وأنَّ وُجُودَ ذَلِكَ كَعَدَمِهِ.
و" سَواءٌ " اسْمٌ بِمَعْنى الِاسْتِواءِ وُصِفَ بِهِ كَما يُوصَفُ بِالمَصادِرِ، والهَمْزَةُ وأمْ مُجَرَّدَتانِ لِمَعْنى الِاسْتِواءِ غَيْرُ مُرادٍ بِهِما ما هو أصْلُهُما مِنَ الِاسْتِفْهامِ، وصَحَّ الِابْتِداءُ بِالفِعْلِ والإخْبارِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: " سَواءٌ "، هَجْرًا لِجانِبِ اللَّفْظِ إلى جانِبِ المَعْنى، كَأنَّهُ قالَ: الإنْذارُ وعَدَمُهُ سَواءٌ، كَقَوْلِهِمْ: تَسْمَعُ بِالمُعِيدِيِّ خَيْرٌ مِن أنْ تَراهُ: أيْ سَماعُكَ.
وأصْلُ الكُفْرِ في اللُّغَةِ: السَّتْرُ والتَّغْطِيَةُ، قالَ الشّاعِرُ:
فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ غَمامُها

أيْ سَتَرَها، ومِنهُ سُمِّيَ الكافِرُ كافِرًا لِأنَّهُ يُغَطِّي بِكُفْرِهِ ما يَجِبُ أنْ يَكُونَ عَلَيْهِ مِنَ الإيمانِ.
والإنْذارُ: الإبْلاغُ والإعْلامُ.
قالَ القُرْطُبِيُّ: واخْتَلَفَ العُلَماءُ في تَأْوِيلِ هَذِهِ الآيَةِ، فَقِيلَ: هي عامَّةٌ ومَعْناها الخُصُوصُ فِيمَن سَبَقَتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العَذابِ، وسَبَقَ في عِلْمِ اللَّهِ أنَّهُ يَمُوتُ عَلى كُفْرِهِ.
أرادَ اللَّهُ تَعالى أنْ يُعْلِمَ النّاسَ أنَّ فِيهِمْ مَن هَذا حالُهُ دُونَ أنْ يُعَيِّنَ أحَدًا.
وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ والكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ في رُؤَساءِ اليَهُودِ حُيَيِّ بْنِ أخْطَبَ وكَعْبِ بْنِ الأشْرَفِ ونُظَرائِهِما.
وقالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنَسٍ: نَزَلَتْ فِيمَن قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ مِن قادَةِ الأحْزابِ، والأوَّلُ أصَحُّ، فَإنَّ مَن عَيَّنَ أحَدًا فَإنَّما مَثَّلَ بِمَن كُشِفَ الغَيْبُ بِمَوْتِهِ عَلى الكُفْرِ انْتَهى.
وقَوْلُهُ: لا يُؤْمِنُونَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ: أيْ هم لا يُؤْمِنُونَ، وهي جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِأنَّها جَوابُ سُؤالٍ مُقَدَّرٍ كَأنَّهُ قِيلَ: هَؤُلاءِ الَّذِي اسْتَوى حالُهم مَعَ الإنْذارِ وعَدَمِهِ ماذا يَكُونُ مِنهم ؟ فَقِيلَ: لا يُؤْمِنُونَ: أيْ هم لا يُؤْمِنُونَ: وقالَ في الكَشّافِ: إنَّها جُمْلَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِلْجُمْلَةِ الأُولى، أوْ خَبَرٌ لِأنَّ والجُمْلَةُ قَبْلَها اعْتِراضٌ انْتَهى.
والأوْلى ما ذَكَرْناهُ، لِأنَّ المَقْصُودَ الإخْبارُ عَنْ عَدَمِ الِاعْتِدادِ بِإنْذارِهِمْ، وأنَّهُ لا يُجْدِي شَيْئًا بَلْ بِمَنزِلَةِ العَدَمِ، فَهَذِهِ الجُمْلَةُ هي الَّتِي وقَعَتْ خَبَرًا لِأنَّ، وما بَعْدَها مِن عَدَمِ الإيمانِ مُتَسَبِّبٌ عَنْها لا أنَّهُ المَقْصُودُ.
وقَدْ قالَ بِمِثْلِ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ القُرْطُبِيُّ.
وقالَ ابْنُ كَيْسانَ: إنَّ خَبَرَ إنَّ سَواءٌ، وما بَعْدَهُ يَقُومُ مَقامَ الصِّلَةِ.
وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ المُبَرِّدُ: سَواءٌ رُفِعَ بِالِابْتِداءِ، وخَبَرُهُ ﴿أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهم﴾، والجُمْلَةُ خَبَرُ إنَّ، والخَتْمُ: مَصْدَرُ خَتَمْتُ الشَّيْءَ، ومَعْناهُ: التَّغْطِيَةُ عَلى الشَّيْءِ والِاسْتِيثاقُ مِنهُ حَتّى لا يَدْخُلَهُ شَيْءٌ، ومِنهُ خَتْمُ الكِتابِ والبابِ وما يُشْبِهُ ذَلِكَ حَتّى لا يُوصَلَ إلى ما فِيهِ ولا يُوضَعَ فِيهِ غَيْرُهُ.
والغِشاوَةُ: الغِطاءُ، ومِنهُ غاشِيَةُ السَّرْجِ، والمُرادُ بِالخَتْمِ والغِشاوَةِ هُنا هُما المَعْنَوِيّانِ لا الحِسِّيّانِ: أيْ لَمّا كانَتْ قُلُوبُهم غَيْرَ واعِيَةٍ لِما وصَلَ إلَيْها، والأسْماعُ غَيْرَ مُؤَدِّيَةٍ لِما يَطْرُقُها مِنَ الآياتِ البَيِّناتِ إلى العَقْلِ عَلى وجْهٍ مَفْهُومٍ، والأبْصارُ غَيْرَ مَهْدِيَّةٍ لِلنَّظَرِ في مَخْلُوقاتِهِ وعَجائِبِ مَصْنُوعاتِهِ جُعِلَتْ بِمَنزِلَةِ الأشْياءِ المَخْتُومِ عَلَيْها خَتْمًا حِسِّيًّا، والمُسْتَوْثَقِ مِنها اسْتِيثاقًا حَقِيقِيًّا، والمُغَطّاةِ بِغِطاءٍ مُدْرَكٍ اسْتِعارَةً أوْ تَمْثِيلًا، وإسْنادُ الخَتْمِ إلى اللَّهِ قَدِ احْتَجَّ بِهِ أهْلُ السُّنَّةِ عَلى المُعْتَزِلَةِ، وحاوَلُوا دَفْعَ هَذِهِ الحُجَّةِ بِمِثْلِ ما ذَكَرَهُ صاحِبُ الكَشّافِ، والكَلامُ عَلى مِثْلِ هَذا مُتَقَرِّرٌ في مَواطِنِهِ.
وقَدِ اخْتُلِفَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وعَلى سَمْعِهِمْ﴾ هَلْ هو داخِلٌ في حُكْمِ الخَتْمِ فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلى القُلُوبِ أوْ في حُكْمِ التَّغْشِيَةِ، فَقِيلَ: إنَّ الوَقْفَ عَلى قَوْلِهِ: ﴿وعَلى سَمْعِهِمْ﴾ تامٌّ، وما بَعْدَهُ كَلامٌ مُسْتَقِلٌّ، فَيَكُونُ الطَّبْعُ عَلى القُلُوبِ والأسْماعِ، والغِشاوَةُ عَلى الأبْصارِ كَما قالَهُ جَماعَةٌ، وقَدْ قُرِئَ: " غِشاوَةً " بِالنَّصْبِ.
قالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَحْتَمِلُ أنَّهُ نَصَبَها بِإضْمارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: وجَعَلَ عَلى أبْصارِهِمْ غِشاوَةً، ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ نَصْبُها عَلى الإتْباعِ عَلى مَحَلِّ وعَلى سَمْعِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وحُورٌ عِينٌ﴾ [الواقعة: ٢٢] وقَوْلِ الشّاعِرِ:
عَلَفْتُها تِبْنًا وماءً بارِدًا

وإنَّما وحَّدَ السَّمْعَ مَعَ جَمْعِ القُلُوبِ والأبْصارِ؛ لِأنَّهُ مَصْدَرٌ يَقَعُ عَلى القَلِيلِ والكَثِيرِ.
والعَذابُ: هو ما يُؤْلِمُ، وهو مَأْخُوذٌ مِنَ الحَبْسِ والمَنعِ، يُقالُ في اللُّغَةِ أعْذَبَهُ عَنْ كَذا: حَبَسَهُ ومَنَعَهُ، ومِنهُ عُذُوبَةُ الماءِ لِأنَّها حُبِسَتْ في الإناءِ حَتّى صَفَتْ.
وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والطَّبَرانِيُّ في الكَبِيرِ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ والبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهُمْ﴾ قالَ: كانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ يَحْرِصُ أنْ يُؤْمِنَ جَمِيعُ النّاسِ ويُتابِعُوهُ عَلى الهُدى، فَأخْبَرَهُ اللَّهُ أنَّهُ لا يُؤْمِنُ إلّا مَن سَبَقَ لَهُ مِنَ اللَّهِ السَّعادَةُ في الذِّكْرِ الأوَّلِ، ولا يَضِلُّ إلّا مَن سَبَقَ لَهُ مِنَ اللَّهِ الشَّقاوَةُ في الذِّكْرِ الأوَّلِ.
وأخْرَجَ ابْنُ إسْحاقَ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أيْضًا في تَفْسِيرِ الآيَةِ: أنَّهم قَدْ كَفَرُوا بِما عِنْدَهم مِن ذِكْرِكَ، وجَحَدُوا ما أُخِذَ عَلَيْهِمْ مِنَ المِيثاقِ، فَكَيْفَ يَسْمَعُونَ مِنكَ إنْذارًا وتَحْذِيرًا، وقَدْ كَفَرُوا بِما عِنْدَهم مِن عِلْمِكَ.
﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وعَلى سَمْعِهِمْ وعَلى أبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ﴾ .

وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ أبِي العالِيَةِ في قَوْلِهِ: إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا قالَ: نَزَلَتْ هاتانِ الآيَتانِ في قادَةِ الأحْزابِ، وهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ في هَذِهِ الآيَةِ: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا﴾ [إبراهيم: ٢٨] قالَ: فَهُمُ الَّذِينَ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ، ولَمْ يَدْخُلِ القادَةُ في الإسْلامِ إلّا رَجُلانِ: أبُو سُفْيانَ، والحَكَمُ بْنُ العاصِ.
وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنِ السُّدِّيِّ في قَوْلِهِ: ﴿أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ قالَ: أوَعَظْتَهم أمْ لَمْ تَعِظْهم.
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتادَةَ في هَذِهِ الآيَةِ قالَ: أطاعُوا الشَّيْطانَ فاسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ، فَخَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وعَلى سَمْعِهِمْ وعَلى أبْصارِهِمْ غِشاوَةً فَهم لا يُبْصِرُونَ هُدًى، ولا يَسْمَعُونَ ولا يَفْقَهُونَ ولا يَعْقِلُونَ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، قالَ: الخَتْمُ عَلى قُلُوبِهِمْ وعَلى سَمْعِهِمْ والغِشاوَةُ عَلى أبْصارِهِمْ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وعَلى سَمْعِهِمْ﴾ فَلا يَعْقِلُونَ ولا يَسْمَعُونَ، وجَعَلَ عَلى أبْصارِهِمْ: يَعْنِي أعْيُنَهم غِشاوَةً فَهم لا يُبْصِرُونَ.
ورَوى ذَلِكَ السُّدِّيُّ عَنْ جَماعَةٍ مِنَ الصَّحابَةِ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قالَ: الخَتْمُ عَلى القَلْبِ والسَّمْعِ، والغِشاوَةُ عَلى البَصَرِ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَإنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ﴾ [الشورى: ٢٤] وقالَ: ﴿وخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وقَلْبِهِ وجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً﴾ [الجاثية: ٢٣] .
قالَ ابْنُ جَرِيرٍ في مَعْنى الخَتْمِ: والحَقُّ عِنْدِي في ذَلِكَ ما صَحَّ نَظِيرُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ، ثُمَّ ذَكَرَ إسْنادًا مُتَّصِلًا بِأبِي هُرَيْرَةَ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «إنَّ المُؤْمِنَ إذا أذْنَبَ ذَنْبًا كانَ نُكْتَةً سَوْداءَ في قَلْبِهِ، فَإنْ تابَ ونَزَعَ واسْتَعْتَبَ صُقِلَ قَلْبُهُ، وإنْ زادَ زادَتْ حَتّى تُغْلِقَ قَلْبَهُ فَذَلِكَ الرّانُ الَّذِي قالَ اللَّهُ: ﴿كَلّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين: ١٤] ٣٠» .
وقَدْ رَواهُ مِن هَذا الوَجْهِ التِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ والنَّسائِيُّ.
ثُمَّ قالَ ابْنُ جَرِيرٍ فَأخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ أنَّ الذُّنُوبَ إذا تَتابَعَتْ عَلى القُلُوبِ أغْلَقَتْها، وإذا أغْلَقَتْها أتاها حِينَئِذٍ الخَتْمُ مِن قِبَلِ اللَّهِ سُبْحانَهُ والطَّبْعُ فَلا يَكُونُ إلَيْها مَسْلَكٌ ولا لِلْكُفْرِ مِنها مَخْلَصٌ، فَذَلِكَ هو الخَتْمُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ في قَوْلِهِ: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وعَلى سَمْعِهِمْ﴾ نَظِيرُ الطَّبْعِ والخَتْمِ عَلى ما تُدْرِكُهُ الأبْصارُ مِنَ الأوْعِيَةِ والظُّرُوفِ الَّتِي لا يُوصَلُ إلى ما فِيها إلّا بِفَضِّ ذَلِكَ عَنْها ثُمَّ حَلِّها، فَذَلِكَ لا يَصِلُ الإيمانُ إلى قُلُوبِ مَن وصَفَ اللَّهُ أنَّهُ خَتَمَ عَلى قُلُوبِهِمْ إلّا بَعْدَ فَضِّ خاتَمِهِ، وحَلِّ رِباطِهِ عَنْها.




التسهيل لعلوم التنزيل — ابن جُزَيّ (٧٤١ هـ)
﴿خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَعَلَىٰ سَمۡعِهِمۡۖ وَعَلَىٰۤ أَبۡصَـٰرِهِمۡ غِشَـٰوَةࣱۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِیمࣱ﴾ [البقرة ٧]
﴿خَتَمَ﴾ - الآية، تعليل لعدم إيمانهم، وهو عبارة عن إضلالهم، فهو مجاز وقيل: حقيقة، وأن القلب كالكف ينقبض مع زيادة الضلال أصبعاً أصبعاً حتى يختم عليه، والأول أبرع، و ﴿عَلَىٰ سَمْعِهِمْ﴾ معطوف على قلوبهم، فيوقف عليه، وقيل الوقف على قلوبهم، والسمع راجع إلى ما بعده، والأول أرجح لقوله: ﴿وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ﴾ [الجاثية: ٢٣] ﴿غِشَٰوَةٌ﴾ مجاز باتفاق، وفيه دليل على وقوع المجاز في القرآن خلافاً لمن منعه، ووحد السمع لأنه مصدر في الأصل، والمصادر لا تجمع.


تيسير الكريم الرحمن — السعدي (١٣٧٦ هـ)

﴿خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَعَلَىٰ سَمۡعِهِمۡۖ وَعَلَىٰۤ أَبۡصَـٰرِهِمۡ غِشَـٰوَةࣱۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِیمࣱ﴾ [البقرة ٧]
ثم ذكر الموانع المانعة لهم من الإيمان فقال: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ أي: طبع عليها بطابع لا يدخلها الإيمان، ولا ينفذ فيها، فلا يعون ما ينفعهم، ولا يسمعون ما يفيدهم.
﴿وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ أي: غشاء وغطاء وأكنة تمنعها عن النظر الذي ينفعهم، وهذه طرق العلم والخير، قد سدت عليهم، فلا مطمع فيهم، ولا خير يرجى عندهم، وإنما منعوا ذلك، وسدت عنهم أبواب الإيمان بسبب كفرهم وجحودهم ومعاندتهم بعد ما تبين لهم الحق، كما قال تعالى: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ وهذا عقاب عاجل. ثم ذكر العقاب الآجل، فقال: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ وهو عذاب النار، وسخط الجبار المستمر الدائم.

روح المعاني — الآلوسي (١٢٧٠ هـ)

﴿خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَعَلَىٰ سَمۡعِهِمۡۖ وَعَلَىٰۤ أَبۡصَـٰرِهِمۡ غِشَـٰوَةࣱۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِیمࣱ﴾ [البقرة ٧]
﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وعَلى سَمْعِهِمْ وعَلى أبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ ولَهم عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ إشارَةٌ إلى بُرْهانٍ لَمِّيٍّ لِلْحُكْمِ السّابِقِ، كَما أنَّ ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ﴾ إلَخْ عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ اعْتِراضًا بُرْهانٌ إنِّيٌّ، فالخَتْمُ والتَّغْشِيَةُ مُسَبَّبانِ عَنْ نَفْسِ الكُفْرِ، واقْتِرافُ المَعاصِي سَبَبانِ لِلِاسْتِمْرارِ عَلى عَدَمِ الإيمانِ، أوْ لِاسْتِواءِ الإنْذارِ وعَدَمِهِ، فالقَطْعُ لِأنَّهُ سُؤالٌ عَنْ سَبَبِ الحُكْمِ، والخَتْمُ الوَسْمُ بِطابَعٍ، ونَحْوِهِ، والأثَرُ الحاصِلُ، ويُتَجَوَّزُ بِذَلِكَ تارَةً في الِاسْتِيثاقِ مِنَ الشَّيْءِ، والمَنعِ مِنهُ اعْتِبارًا بِما يَحْصُلُ مِنَ المَنعِ بِالخَتْمِ عَلى الكُتُبِ والأبْوابِ، وتارَةً في تَحْصِيلِ أثَرٍ عَنْ أثَرٍ اعْتِبارًا بالنَّقْشِ الحاصِلِ، وتارَةً يُعْتَبَرُ مَعَهُ بُلُوغُ الآخِرِ، ومِنهُ خَتَمْتُ القُرْآنَ، والغِشاوَةُ عَلى ما عَلَيْهِ السَّبْعَةُ بِكَسْرِ الغَيْنِ المُجَمَّعَةِ مِن غَشّاهُ إذا غَطّاهُ، قالَ أبُو عَلِيٍّ: ولَمْ يُسْمَعْ مِنهُ فِعْلٌ إلّا يائِيٌّ، فالواوُ مُبْدَلَةٌ مِنَ الياءِ عِنْدَهُ، أوْ يُقالُ: لَعَلَّ لَهُ مادَّتَيْنِ، وفِعالَةٌ عِنْدَ الزَّجّاجِ لِما اشْتَمَلَ عَلى شَيْءٍ، كاللِّفافَةِ، ومِنهُ أسْماءُ الصِّناعاتِ كالخِياطَةِ لِاشْتِمالِها عَلى ما فِيها، وكَذَلِكَ ما اسْتَوْلى عَلى شَيْءٍ، كالخِلافَةِ، وعِنْدَ الرّاغِبِ: هي لِما يُفْعَلُ بِهِ الفِعْلُ كاللَّفِّ في اللِّفافَةِ، فَإنِ اسْتُعْمِلَتْ في غَيْرِهِ فَعَلى التَّشْبِيهِ، وبَعْضُهم فَرَّقَ بَيْنَ ما فِيهِ هاءُ التَّأْنِيثِ وبَيْنَ ما لَيْسَ فِيهِ، فالأوَّلُ اسْمٌ لِما يُفْعَلُ بِهِ الشَّيْءُ، كالآلَةِ نَحْوِ حِزامٍ، وإمامٍ، والثّانِي لِما يَشْتَمِلُ عَلى الشَّيْءِ، ويُحِيطُ بِهِ، وحَمَلَ الظّاهِرِيُّونَ الخَتْمَ والتَّغْشِيَةَ عَلى حَقِيقَتِهِما، وفَوَّضُوا الكَيْفِيَّةَ إلى عِلْمِ مَن لا كَيْفِيَّةَ لَهُ سُبْحانَهُ، ورُوِيَ عَنْ مُجاهِدٍ أنَّهُ قالَ: إذا أذْنَبَ العَبْدُ ضُمَّ مِنَ القَلْبِ هَكَذا، وضَمَّ الخِنْصَرَ، ثُمَّ إذا أذْنَبَ ضُمَّ هَكَذا، وضَمَّ البِنْصَرَ، وهَكَذا إلى الإبْهامِ، ثُمَّ قالَ: وهَذا هو الخَتْمُ والطَّبْعُ والرَّيْنُ، وهو عِنْدِي غَيْرُ مَعْقُولٍ، والَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ المُحَقِّقُونَ أنَّ الخَتْمَ اسْتُعِيرَ مِن ضَرْبِ الخاتَمِ عَلى نَحْوِ الأوانِي لِإحْداثِ هَيْئَةٍ في القَلْبِ والسَّمْعِ مانِعَةٍ مِن نُفُوذِ الحَقِّ إلَيْهِما، كَما يَمْنَعُ نَقْشُ الخاتَمِ تِلْكَ الظُّرُوفَ مِن نُفُوذِ ما هو بِصَدَدِ الِانْصِبابِ فِيها، فَيَكُونُ اسْتِعارَةَ مَحْسُوسٍ لِمَعْقُولٍ بِجامِعٍ عَقْلِيٍّ، وهو الِاشْتِمالُ عَلى مَنعِ القابِلِ عَمّا مِن شَأْنِهِ أنْ يَقْبَلَهُ، ثُمَّ اشْتُقَّ مِنَ الخَتْمِ خَتَمَ، فَفِيهِ اسْتِعارَةٌ تَصْرِيحِيَّةٌ تَبَعِيَّةٌ، وأمّا الغِشاوَةُ، فَقَدِ اسْتُعِيرَتْ مِن مَعْناها الأصْلِيِّ لِحالَةٍ في أبْصارِهِمْ مُقْتَضِيَةٍ لِعَدَمٍ إجْتَلائِها الآياتِ، والجامِعُ ما ذُكِرَ، فَهُناكَ اسْتِعارَةٌ تَصْرِيحِيَّةٌ أصْلِيَّةٌ أوْ تَبَعِيَّةٌ إذا أوَّلْتَ الغِشاوَةَ بِمُشْتَقٍّ، أوْ جَعَلْتَ اسْمَ آلَةٍ عَلى ما قِيلَ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ في الكَلامِ اسْتِعارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ بِأنْ يُقالَ: شُبِّهَتْ حالُ قُلُوبِهِمْ وأسْماعِهِمْ وأبْصارِهِمْ مَعَ الهَيْئَةِ الحادِثَةِ فِيها المانِعَةِ مِنَ الِاسْتِنْفاعِ بِها بِحالِ أشْياءَ مُعَدَّةٍ لِلِانْتِفاعِ بِها في مَصالِحَ مُهِمَّةٍ مَعَ المَنعِ مِن ذَلِكَ بِالخَتْمِ والتَّغْطِيَةِ، ثُمَّ يُسْتَعارُ لِلْمُشَبَّهِ اللَّفْظُ الدّالُّ عَلى المُشَبَّهِ بِهِ، فَيَكُونُ كُلُّ واحِدٍ مِن طَرَفَيِ التَّشْبِيهِ مُرَكَّبًا، والجامِعُ عَدَمُ الِانْتِفاعِ بِما أُعِدَّ لَهُ، بِسَبَبِ عُرُوضٍ مانِعٍ يُمْكِنُ فِيهِ، كالمانِعِ الأصْلِيِّ، وهو أمْرٌ عَقْلِيٌّ مُنْتَزَعٌ مِن تِلْكَ العُدَّةِ، ثُمَّ إنَّ إسْنادَ الخَتْمِ إلَيْهِ عَزَّ وجَلَّ بِاعْتِبارِ الخَلْقِ، والذَّمُّ، والتَّشْنِيعُ الَّذِي تُشِيرُ إلَيْهِ الآيَةُ بِاعْتِبارِ كَوْنِ ذَلِكَ مُسَبَّبًا عَمّا كَسَبَهُ الكُفّارُ مِنَ المَعاصِي كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ﴾ وإلّا أشْكَلَ التَّشْنِيعُ والذَّمُّ عَلى ما لَيْسَ فِعْلَهُمْ، كَذا قالَهُ مُفَسِّرُو أهْلِ السُّنَّةِ عَنْ آخِرِهِمْ فِيما أعْلَمُ، والمُعْتَزِلَةُ لَمّا رَأوْا أنَّ الآيَةَ يَلْزَمُ مِنها أنْ يَكُونَ سُبْحانَهُ مانِعًا عَنْ قَبُولِ الحَقِّ وسَماعِهِ بِالخَتْمِ، وهو قَبِيحٌ يَمْتَنِعُ صُدُورُهُ عَنْهُ تَعالى عَلى قاعِدَتِهِمُ التَزَمُوا لِلْآيَةِ تَأْوِيلاتٍ، ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ جُمْلَةً مِنها حَتّى قالَ: الشَّيْطانُ هو الخاتَمُ في الحَقِيقَةِ، أوِ الكافِرُ، إلّا أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى لَمّا كانَ هو الَّذِي أقْدَرَهُ أوْ مَكَّنَهُ أُسْنِدَ الخَتْمُ إلَيْهِ، كَما يُسْنَدُ إلى السَّبَبِ نَحْوَ: بَنى الأمِيرُ المَدِينَةَ، وناقَةٌ حَلُوبٌ، وأنا أقُولُ: إنْ ماهِيّاتِ المُمْكِناتِ مَعْلُومَةٌ لَهُ سُبْحانَهُ أزَلًا، فَهي مُتَمَيِّزَةٌ في أنْفُسِها تَمَيُّزًا ذاتِيًّا غَيْرَ مَجْعُولٍ لِتَوَقُّفِ العِلْمِ بِها عَلى ذَلِكَ التَّمَيُّزِ، وإنَّ لَها اسْتِعْداداتٍ ذاتِيَّةً غَيْرَ مَجْعُولَةٍ أيْضًا، مُخْتَلِفَةَ الِاقْتِضاءاتِ، والعِلْمُ الإلَهِيُّ مُتَعَلِّقٌ بِها كاشِفٌ لَها، عَلى ما هي عَلَيْهِ، في أنْفُسِها مِنِ اخْتِلافِ اسْتِعْداداتِها الَّتِي هي مِن مَفاتِيحِ الغَيْبِ، الَّتِي لا يَعْلَمُها إلّا هُوَ، واخْتِلافِ مُقْتَضَياتِ تِلْكَ الِاسْتِعْداداتِ، فَإذا تَعَلَّقَ العِلْمُ الإلَهِيُّ بِها عَلى ما هي عَلَيْهِ مِمّا يَقْتَضِيهِ اسْتِعْدادُها مِنِ اخْتِيارِ أحَدِ الطَّرَفَيْنِ الخَيْرَ والشَّرَّ تَعَلَّقَتِ الإرادَةُ الإلَهِيَّةُ بِهَذا الَّذِي اخْتارَهُ العَبْدُ بِمُقْتَضى اسْتِعْدادِهِ، فَيَصِيرُ مُرادُهُ بَعْدَ تَعَلُّقِ الإرادَةِ الإلَهِيَّةِ مُرادًا لِلَّهِ تَعالى، فاخْتِيارُهُ الأزَلِيُّ بِمُقْتَضى اسْتِعْدادِهِ مَتْبُوعٌ لِلْعِلْمِ المَتْبُوعِ لِلْإرادَةِ مُراعاةً لِلْحِكْمَةِ، وإنَّ اخْتِيارَهُ فِيما لا يَزالُ تابِعٌ لِلْإرادَةِ الأزَلِيَّةِ المُتَعَلِّقَةِ بِاخْتِيارِهِ لِما اخْتارَهُ، فالعِبادُ مُنْساقُونَ إلى أنْ يَفْعَلُوا ما يَصْدُرُ عَنْهم بِاخْتِيارِهِمْ لا بالإكْراهِ والجَبْرِ، ولَيْسُوا مَجْبُورِينَ في اخْتِيارِهِمُ الأزَلِيِّ، لِأنَّهُ سابِقُ الرُّتْبَةِ عَلى تَعَلُّقِ العِلْمِ السّابِقِ عَلى تَعَلُّقِ الإرادَةِ، والجَبْرُ تَبَعٌ لِلْإرادَةِ التّابِعَةِ لِلْعِلْمِ التّابِعِ لِلْمَعْلُومِ الَّذِي هو هُنا اخْتِيارُهُمُ الأزَلِيُّ، فَيَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ تابِعًا لِما هو مُتَأخِّرٌ عَنْهُ بِمَراتِبَ، فَما مِن شَيْءٍ يُبْرِزُهُ اللَّهُ تَعالى بِمُقْتَضى الحِكْمَةِ ويُفِيضُهُ عَلى المُمْكِناتِ إلّا وهو مَطْلُوبُها بِلِسانِ اسْتِعْدادِها، وما حَرَمَها سُبْحانَهُ شَيْئًا مِن ذَلِكَ، كَما يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ﴾ أيِ الثّابِتَ لَهُ في الأزَلِ مِمّا يَقْتَضِيهِ اسْتِعْدادُهُ الغَيْرُ المَجْعُولِ، وإنْ كانَتِ الصُّوَرُ الوُجُودِيَّةُ الحادِثَةُ مَجْعُولَةً، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَألْهَمَها فُجُورَها وتَقْواها﴾ أيِ الثّابِتَيْنِ لَها في نَفْسِ الأمْرِ، والكُلُّ مِن حَيْثُ إنَّهُ خَلَقَهُ حَسَنٌ لِكَوْنِهِ بارِزًا بِمُقْتَضى الحِكْمَةِ مِن صانِعٍ مُطْلَقٍ لا حاكِمَ عَلَيْهِ، ولِهَذا قالَ عَزَّ شَأْنُهُ: ﴿أحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ و﴿ما تَرى في خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفاوُتٍ﴾ أيْ مِن حَيْثُ إنَّهُ مُضافٌ إلَيْهِ ومُفاضٌ مِنهُ، وإنْ تَفاوَتَ مِن جِهَةٍ أُخْرى، وافْتَرَقَ عِنْدَ إضافَةِ بَعْضِهِ إلى بَعْضٍ، فَعَلى هَذا يَكُونُ الخَتْمُ مِنهُ سُبْحانَهُ وتَعالى دَلِيلًا عَلى سَواءِ اسْتِعْدادِهِمُ الثّابِتِ في عِلْمِهِ الأزَلِيِّ الغَيْرِ المَجْعُولِ، بَلْ هَذا الخَتْمُ الَّذِي هو مِن مُقْتَضَياتِ الِاسْتِعْدادِ لَمْ يَكُنْ مِنَ اللَّهِ تَعالى إلّا إيجادُهُ، وإظْهارُ يَقِينِهِ طِبْقَ ما عَلِمَهُ فِيهِمْ أزَلًا، حَيْثُ لا جَعَلَ، وما ظَلَمَهم اللَّهُ تَعالى في إظْهارِهِ إذْ مِن صِفَتِهِ سُبْحانَهُ إفاضَةُ الوُجُودِ عَلى القَوابِلِ بِحَسَبِ القابِلِيّاتِ عَلى ما تَقْتَضِيهِ الحِكْمَةُ، ولَكِنْ كانُوا أنْفُسهمْ يَظْلِمُونَ حَيْثُ كانَتْ مُسْتَعِدَّةً بِذاتِها لِذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ أنَّ إسْنادَ الخَتْمِ إلَيْهِ تَعالى بِاعْتِبارِ الإيجادِ حَقِيقَةٌ، ويَحْسُنُ الذَّمُّ لَهم بِهِ مِن حَيْثُ دِلالَتُهُ عَلى سُوءِ الِاسْتِعْدادِ وقُبْحِ ما انْطَوَتْ عَلَيْهِ ذَواتُهم في ذَلِكَ النّادِّ ﴿والبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإذْنِ رَبِّهِ والَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إلا نَكِدًا﴾ وأمّا ما ذَكَرَهُ المُفَسِّرُونَ مِن أنَّ إسْنادَ الخَتْمِ إلَيْهِ تَعالى بِاعْتِبارِ الخَلْقِ فَمُسَلَّمٌ، لا كَلامَ لَنا فِيهِ، وأمّا إنَّ الذَّمَّ بِاعْتِبارِ كَوْنِ ذَلِكَ مُسَبَّبًا عَمّا كَسَبَهُ الكُفّارُ إلَخْ، فَنَقُولُ فِيهِ: إنْ أرادُوا بِالكَسْبِ ما شاعَ عِنْدَ الأشاعِرَةِ مِن مُقارَنَةِ الفِعْلِ لِقُدْرَةِ العَبْدِ مِن غَيْرِ تَأْثِيرٍ لَها فِيهِ أصْلًا، وإنَّما المُؤَثِّرُ هو اللَّهُ تَعالى، فَهو مَعَ مُخالَفَتِهِ لِمَعْنى الكَسْبِ، وكَوْنِهِ ﴿كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتّى إذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا﴾ لا يَشْفِي عَلِيلًا، ولا يَرْوِي غَلِيلًا، إذْ لِلْخَصْمِ أنْ يَقُولَ: أيُّ مَعْنًى لِذَمِّ العَبْدِ بِشَيْءٍ لا مَدْخَلَ لِقُدْرَتِهِ فِيهِ، إلّا كَمَدْخَلِ اليَدِ الشَّلّاءِ فِيما فَعَلَتْهُ الأيْدِي السَّلِيمَةُ، وحِينَئِذٍ يَتَأتّى ما قالَهُ الصّاحِبُ بْنُ عَبّادٍ في هَذا البابِ: كَيْفَ يَأْمُرُ اللَّهُ تَعالى العَبْدَ بِالإيمانِ، وقَدْ مَنَعَهُ مِنهُ، ويَنْهاهُ عَنِ الكُفْرِ، وقَدْ حَمَلَهُ عَلَيْهِ، وكَيْفَ يَصْرِفُهُ عَنِ الإيمانِ، ثُمَّ يَقُولُ: ﴿أنّى يُصْرَفُونَ﴾ ويَخْلُقُ فِيهِمُ الإفْكَ ثُمَّ يَقُولُ: ﴿أنّى يُؤْفَكُونَ﴾ وأنْشَأ فِيهِمُ الكُفْرَ ثُمَّ يَقُولُ لِمَ تَكْفُرُونَ؟ وخَلَقَ فِيهِمْ لَبْسَ الحَقِّ بِالباطِلِ ثُمَّ يَقُولُ: ﴿لِمَ تَلْبِسُونَ الحَقَّ بِالباطِلِ﴾ وصَدَّهم عَنِ السَّبِيلِ ثُمَّ يَقُولُ: لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وحالَ بَيْنَهم وبَيْنَ الإيمانِ، ثُمَّ قالَ: ﴿وماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا﴾ وذَهَبَ بِهِمْ عَنِ الرُّشْدِ، ثُمَّ قالَ: وأيْنَ تَذْهَبُونَ، وأضَلَّهم عَنِ الدِّينِ حَتّى أعْرَضُوا، ثُمَّ قالَ: ﴿فَما لَهم عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ﴾ ! فَإنْ أجابُوا بِأنَّ لِلَّهِ أنْ يَفْعَلَ ما يَشاءُ، ولا يَتَعَرَّضُ لِلِاعْتِراضِ عَلَيْهِ المُعْتَرِضُونَ، ﴿لا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ وهم يُسْألُونَ﴾ قُلْنا لَهم: هَذِهِ كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِها باطِلٌ، ورَوْضَةُ صِدْقٍ، ولَكِنْ لَيْسَ لَكم مِنها حاصِلٌ، لِأنَّ كَوْنَهُ تَعالى لا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ لَيْسَ إلّا لِأنَّهُ حَكِيمٌ لا يَفْعَلُ ما عَنْهُ يُسْألُ، وإذا قُلْتُمْ: لا أثَرَ لِلْقُدْرَةِ الحادِثَةِ في مَقْدُورِها، كَما لا أثَرَ لِلْعِلْمِ في مَعْلُومِهِ فَوَجْهُ مُطالَبَةِ العَبْدِ بِأفْعالِهِ كَوَجْهِ مُطالَبَتِهِ بِأنْ يُثَبِّتَ في نَفْسِهِ ألْوانًا وإدْراكاتٍ، وهَذا خُرُوجٌ عَنْ حَدِّ الِاعْتِدالِ إلى التِزامِ الباطِلِ والمُحالِ، وفِيهِ إبْطالُ الشَّرائِعِ العِظامِ، ورَدُّ ما ورَدَ عَنِ النَّبِيِّينَ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وإنْ أرادُوا بِالكَسْبِ فِعْلَ العَبْدِ اسْتِقْلالا ما يُرِيدُهُ هُوَ، وإنْ لَمْ يُرِدْهُ اللَّهُ تَعالى، فَهَذا مَذْهَبُ المُعْتَزِلَةِ، وفِيهِ الخُرُوجُ عَمّا دَرَجَ عَلَيْهِ سَلَفُ الأُمَّةِ، واقْتِحامُ ورَطاتِ الضَّلالِ، وسُلُوكُ مَهامِّهِ الوَبالُ.
مَساوٍ لَوْ قُسِمْنَ عَلى الغَوانِي لَما أُمْهِرْنَ إلّا بِالطَّلاقِ

وإنْ أرادُوا بِهِ تَحْصِيلَ العَبْدِ بِقُدْرَتِهِ الحادِثَةِ حَسَبَ اسْتِعْدادِهِ الأزَلِيِّ المُؤَثِّرَةِ لا مُسْتَقِلًّا، بَلْ بِإذْنِ اللَّهِ تَعالى ما تَعَلَّقَتْ بِهِ مِنَ الأفْعالِ الِاخْتِيارِيَّةِ مَشِيئَتُهُ التّابِعَةُ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعالى عَلى ما أشَرْنا إلَيْهِ، فَنِعْمَتِ الإرادَةُ وحَبَّذا السُّلُوكُ في هَذِهِ الجادَّةِ، وسَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى بَسْطُها، وإقامَةُ الأدِلَّةِ عَلى صِحَّتِها، وإماطَةُ الأذى عَنْ طَرِيقِها، إلّا أنَّ أشاعِرَتَنا اليَوْمَ لا يَشْعُرُونَ، وإنَّهم لَيَحْسَبُونَ أنَّهم يُحْسِنُونَ صُنْعًا، ولَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ.
ما في الدِّيارِ أخُو وجْدٍ نُطارِحُهُ ∗∗∗ حَدِيثَ نَجْدٍ ولا خِلٌّ نُجارِيهِ

وأمّا ما ذَكَرَهُ المُعْتَزِلَةُ لا سِيَّما عَلّامَتُهُمُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَلَيْسَ أوَّلَ عَشْواءَ خَبَطُوها، وفي مَهْواةٍ مِنَ الأهْواءِ أُهْبِطُوها، ولَكَمْ نَزَلُوا عَنْ مِنَصَّةِ الإيمانِ بِالنَّصِّ إلى حَضِيضِ تَأْوِيلِهِ ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ، واسْتِيفاءً لِما كُتِبَ عَلَيْهِمْ مِنَ المِحْنَةِ، وطالَما اسْتَوْخَمُوا مِنَ السُّنَّةِ المَناهِلَ العِذابَ، ووَرَدُوا مِن حَمِيمِ البِدْعَةِ مَوارِدَ العَذابِ، والشُّبْهَةُ الَّتِي تُدَنْدِنُ هُنا حَوْلَ الحِمى أنَّ أفْعالَ العِبادِ لَوْ كانَتْ مَخْلُوقَةً لِلَّهِ تَعالى لَما نَعاها عَلى عِبادِهِ، ولا عاقَبَهم بِها، ولا قامَتْ حُجَّةُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْهِمْ، وهي أوْهى مِن بَيْتِ العَنْكَبُوتِ، وإنَّهُ لَأوْهَنُ البُيُوتِ، وقَدْ عَلِمْتَ جَوابَها مِمّا قَدَّمْناهُ لَكَ، ولْيَكُنْ عَلى ذُكْرٍ مِنكَ، عَلى أنّا نَرْجِعُ فَنَقُولُ: إنْ أسْنَدُوا المُلازَمَةَ وكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ، إلى قاعِدَةِ التَّحْسِينِ والتَّقْبِيحِ، وقالُوا: مُعاقَبَةُ الإنْسانِ مَثَلًا بِفِعْلِ غَيْرِهِ قَبِيحَةٌ في الشّاهِدِ، لا سِيَّما إذا كانَتْ مِنَ الفاعِلِ، فَيَلْزَمُ طَرْدُ ذَلِكَ غائِبًا، قِيلَ: ويَقْبُحُ في الشّاهِدِ أيْضًا أنْ يُمَكِّنَ الإنْسانُ عَبْدَهُ مِنَ القَبائِحِ والفَواحِشِ بِمَرْأى ومَسْمَعٍ، ثُمَّ يُعاقِبَهُ عَلى ذَلِكَ مَعَ القُدْرَةِ عَلى رَدْعِهِ ورَدِّهِ مِنَ الأوَّلِ عَنْها، وأنْتُمْ تَقُولُونَ: إنَّ القُدْرَةَ الَّتِي بِها يَخْلُقُ العَبْدُ الفَواحِشَ لِنَفْسِهِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعالى عَلى عِلْمٍ مِنهُ عَزَّ وجَلَّ، أنَّ العَبْدَ يَخْلُقُ بِها لِنَفْسِهِ ذَلِكَ، فَهو بِمَثابَةِ إعْطاءِ سَيْفٍ باتِرٍ لِفاجِرٍ يُعْلَمُ أنَّهُ يَقْطَعُ بِهِ السَّبِيلَ ويَسْبِي بِهِ الحَرِيمَ، وذَلِكَ في الشّاهِدِ قَبِيحٌ جَزْمًا، فَإنْ قالُوا: ثَمَّ حِكْمَةٌ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعالى بِعِلْمِها، فَرَّقَتْ بَيْنَ الغائِبِ والشّاهِدِ، فَحَسُنَ مِنَ الغائِبِ ذَلِكَ التَّمْكِينُ ولَمْ يَحْسُنْ في الشّاهِدِ، (قُلْنا عَلى سَبِيلِ التَّنَزُّلِ، والمُوافَقَةِ لِبَعْضِ النّاسِ) ما المانِعُ أنْ تَكُونَ تِلْكَ الأفْعالُ مَخْلُوقَةً لِلَّهِ تَعالى، ويُعاقِبُ العَبْدَ عَلَيْها لِمَصْلَحَةٍ وحِكْمَةٍ اسْتَأْثَرَ بِها كَما فَرَغْتُمْ مِنهُ الآنَ حَذْوَ القُذَّةِ بِالقُذَّةِ؟ عَلى أنَّ في كَوْنِ الخاتَمِ في الحَقِيقَةِ هو الشَّيْطانُ مِمّا لا يَقْدَمُ عَلَيْهِ حَتّى الشَّيْطانُ، ألا تَسْمَعُهُ كَيْفَ قالَ: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهم أجْمَعِينَ﴾ فَلا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللَّهِ، ولْيَكُنْ هَذا المِقْدارُ كافِيًا في هَذا المَقامِ، ولِشَحْرُورِ القَلَمِ بَعْدُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى، عَلى كُلِّ بانَةٍ تَغْرِيدٌ بِأحْسَنِ مَقامٍ، (والقُلُوبُ) جَمْعُ قَلْبٍ، وهو في الأصْلِ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ الجِسْمُ الصَّنَوْبَرِيُّ المُودَعُ في التَّجْوِيفِ الأيْسَرِ مِنَ الصَّدْرِ، وهو مَشْرِقُ اللَّطِيفَةِ الإنْسانِيَّةِ، ويُطْلَقُ عَلى نَفْسِ اللَّطِيفَةِ النُّورانِيَّةِ الرَّبّانِيَّةِ العالِمَةِ الَّتِي هي مَهْبِطُ الأنْوارِ الصَّمَدانِيَّةِ، وبِها يَكُونُ الإنْسانُ إنْسانًا، وبِها يَسْتَعِدُّ لِاكْتِسابِ الأوامِرِ، واجْتِنابِ الزَّواجِرِ، وهي خُلاصَةٌ تَوَلَّدَتْ مِنَ الرُّوحِ الرُّوحانِيِّ، ويُعَبِّرُ عَنْها الحَكِيمُ بِالنَّفْسِ النّاطِقَةِ، ولِكَوْنِها هَدَفَ سِهامِ القَهْرِ واللُّطْفِ ومَظْهَرَ الجَمالِ والجَلالِ ومَنشَأ البَسْطِ والقَبْضِ، ومَبْدَأ المَحْوِ والصَّحْوِ، ومَنبَعَ الأخْلاقِ المَرْضِيَّةِ والأحْوالِ الرَّدِيَّةِ، وقَلَّما تَسْتَقِرُّ عَلى حالٍ، وتَسْتَمِرُّ عَلى مِنوالٍ، سُمِّيَتْ قَلْبًا، فَهي مُتَقَلِّبَةٌ في أمْرِهِ، ومُنْقَلِبَةٌ بِقَضاءِ اللَّهِ، وقَدَرِهِ، وفي الحَدِيثِ: «(إنَّ القَلْبَ كَرِيشَةٍ بِأرْضِ فَلاةٍ، تُقَلِّبُها الرِّياحُ)،» وقَدْ قالَ الشّاعِرُ:
قَدْ سُمِّيَ القَلْبُ قَلْبًا مِن تَقَلُّبِهِ ∗∗∗ فاحْذَرْ عَلى القَلْبِ مِن قَلْبٍ وتَحْوِيلِ

وتَسْمِيَةُ الجِسْمِ المَعْرُوفِ قَلْبًا إذا أمْعَنْتَ النَّظَرَ لَيْسَ إلّا لِتَقَلُّبِ هاتِيكَ اللَّطِيفَةِ المُشْرِقَةِ عَلَيْهِ، لِأنَّهُ العُضْوُ الرَّئِيسُ الَّذِي هو مَنشَأُ الحَرارَةِ الغَرِيزِيَّةِ المُمِدَّةِ لِلْجَسَدِ كُلِّهِ، ويُكَنّى بِصَلاحِهِ وفَسادِهِ عَنْ صَلاحِ هاتِيكَ اللَّطِيفَةِ وفَسادِها، لِما بَيْنَهُما مِنَ التَّعَلُّقِ الَّذِي لا يَعْلَمُ حَقِيقَتَهُ إلّا اللَّهُ تَعالى، وكَأنَّهُ لِهَذا قالَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «(ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ ألا وهي القَلْبُ)،» وكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ ذَهَبَ إلى أنَّ تِلْكَ المُضْغَةِ هي مَحَلُّ العِلْمِ، وقِيلَ: إنَّهُ في الدِّماغِ، وقِيلَ: إنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُما، وبُنِيَ ذَلِكَ عَلى إثْباتِ الحَواسِّ الباطِنَةِ، والكَلامُ فِيها مَشْهُورٌ، ومَن راجَعَ وجَدَ أنَّهُ أدْرَكَ أنَّ بَيْنَ الدِّماغِ والقَلْبِ رابِطَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ، ومُراجَعَةٌ سِرِّيَّةٌ لا يُنْكِرُها مَن كانَ لَهُ قَلْبٌ أوْ ألْقى السَّمْعَ وهو شَهِيدٌ، لَكِنَّ مَعْرِفَةَ حَقِيقَةِ ذَلِكَ مُتَعَزِّزَةٌ كَما هي مُتَعَذِّرَةٌ، والإشارَةُ إلى كُنْهِ ما هُنالِكَ عَلى أرْبابِ الحَقائِقِ، وأصْحابِ الدَّقائِقِ مُتَعَسِّرَةٌ، ومَن عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ، والعَجْزُ عَنْ دَرْكِ الإدْراكِ إدْراكٌ، والسَّمْعُ مَصْدَرُ سَمِعَ سَمْعًا وسَماعًا، ويُطْلَقُ عَلى قُوَّةٍ مُودَعَةٍ في العَصَبِ المَفْرُوشِ أوِ المُبْطَلِ في الأُذُنِ تُدْرَكُ بِها الأصْواتُ، ويُعَبَّرُ بِهِ تارَةً عَنْ نَفْسِ الأُذُنِ، وأُخْرى عَنِ الفِعْلِ، نَحْوَ ﴿إنَّهم عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ﴾ والأبْصارُ جَمْعُ بَصَرٍ، وهو في الأصْلِ بِمَعْنى إدْراكِ العَيْنِ، وإحْساسِها، ثُمَّ تُجُوِّزَ بِهِ عَنِ القُوَّةِ المُودَعَةِ في مُلْتَقى العَصَبَتَيْنِ المُجَوَّفَتَيْنِ الواصِلَتَيْنِ مِنَ الدِّماغِ إلى الحَدَقَتَيْنِ الَّتِي مِن شَأْنِها إدْراكُ الألْوانِ والأشْكالِ بِتَفْصِيلٍ مَعْرُوفٍ في مَحَلِّهِ، وعَنِ العَيْنِ الَّتِي هي مَحَلُّهُ، وشاعَ هَذا حَتّى صارَ حَقِيقَةً في العُرْفِ لِتَبادُرِهِ، وهو المُناسِبُ لِلْغِشاوَةِ لِتَعَلُّقِها بِالأعْيانِ، ويُناسِبُ الخَتْمَ ما يُناسِبُ الغِشاوَةَ، وإنَّما قَدَّمَ سُبْحانَهُ الخَتْمَ عَلى القُلُوبِ هُنا لِأنَّ الآيَةَ تَقْرِيرٌ لِعَدَمِ الإيمانِ، فَناسَبَ تَقْدِيمَ القُلُوبِ لِأنَّها مَحَلُّ الإيمانِ، والسَّمْعُ والأبْصارُ طُرُقٌ وآلاتٌ لَهُ، وهَذا بِخِلافِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وقَلْبِهِ﴾ فَإنَّهُ مَسُوقٌ لِعَدَمِ المُبالاةِ بِالمَواعِظِ، ولِذا جاءَتِ الفاصِلَةُ ”أفَلا تَذْكُرُونَ“ فَكانَ المُناسِبُ هُناكَ تَقْدِيمُ السَّمْعِ، وأعادَ جَلَّ شَأْنُهُ الجارَّ لِتَكُونَ أدَلَّ عَلى شِدَّةِ الخَتْمِ في المَوْضِعَيْنِ، فَإنَّ ما يُوضَعُ في خِزانَةٍ إذا خُتِمَتْ خِزانَتُهُ وخُتِمَتْ دارُهُ كانَ أقْوى مِنَ المَنعِ عَنْهُ، وأظْهَرَ في الِاسْتِقْلالِ لِأنَّ إعادَةَ الجارِّ تَقْتَضِي مُلاحَظَةَ مَعْنى الفِعْلِ المُتَعَدِّي بِهِ حَتّى كَأنَّهُ ذُكِرَ مَرَّتَيْنِ، ولِذا قالُوا فِي: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ وعَمْرٍو، مُرُورٌ واحِدٌ، وفِي: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ وبِعَمْرٍو، مُرُورانِ، والعَطْفُ وإنْ كانَ في قُوَّةِ الإعادَةِ لَكِنَّهُ لَيْسَ ظاهِرًا مِثْلَها في الإفادَةِ لِما فِيهِ مِنَ الِاحْتِمالِ، ووَحَّدَ السَّمْعَ مَعَ أنَّهُ مُتَعَدِّدٌ في الواقِعِ، ومُقْتَضى الِانْتِظامِ بِالسِّباقِ واللَّحاقِ أنْ يَجْرِيَ عَلى نَمَطِهِما لِلِاخْتِصارِ والتَّفَنُّنِ مَعَ الإشارَةِ إلى نُكْتَةٍ هي أنَّ مُدْرَكاتِهِ نَوْعٌ واحِدٌ ومُدْرَكاتِهِما مُخْتَلِفَةٌ، وكَثِيرًا ما يَعْتَبِرُ البُلَغاءُ مِثْلَ ذَلِكَ، وقِيلَ: إنَّ وحْدَةَ اللَّفْظِ تَدُلُّ عَلى وحْدَةِ مُسَمّاهُ، وهو الحاسَّةُ، ووَحْدَتُها تَدُلُّ عَلى قِلَّةِ مُدْرَكاتِها في بادِئِ النَّظَرِ، فَهُناكَ دِلالَةُ التِزامٍ، ويَكْفِي مِثْلُ ما ذُكِرَ في اللُّزُومِ عُرْفًا، ومِنهُ يُتَنَبَّهُ لِوَجْهِ جَمْعِ القُلُوبِ كَثْرَةِ الأبْصارِ قِلَّةً، وإنْ كانَ ذَلِكَ هو المَعْرُوفُ في اسْتِعْمالِ الفُقَهاءِ في جَمِيعِها عَلى أنَّ الأسْماعَ قَلَّما قَرَعَ السَّمْعَ، ومِنهُ قِراءَةُ ابْنِ أبِي عَبْلَةَ في الشَّواذِّ (وعَلى أسْماعِهِمْ)، واسْتَشْهَدَ لَهُ بِقَوْلِهِ 
قالَتْ ولَمْ تَقْصِدْ لِقِيلِ الخَنا ∗∗∗ مَهْلًا لَقَدْ أبْلَغْتَ أسْماعِي

والقَوْلُ بِأنَّهُ وحْدَةٌ لِلْأمْنِ عَنِ اللَّبْسِ كَما في قَوْلِهِ:
كُلُوا في بَعْضِ بَطْنِكم تَعِفُّوا ∗∗∗ فَإنَّ زَمانَكم زَمَنٌ خَمِيصُ

ولِأنَّهُ في الأصْلِ مَصْدَرٌ والمَصادِرُ لا تُجْمَعُ، فَرُوعِيَ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأنَّ ما ذُكِرَ مُصَحِّحٌ لا مُرَجِّحٌ، وأدْنى مِن هَذا عِنْدِي تَقْدِيرُ مُضافٍ مِثْلِ: (وحَواسِّ سَمْعِهِمْ)، وقَدِ اتَّفَقَ القُرّاءُ عَلى الوَقْفِ عَلى (سَمْعِهِمْ)، وظاهِرُهُ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ لا تَعَلُّقَ لَهُ بِما بَعْدَهُ، فَهو مَعْطُوفٌ عَلى (عَلى قُلُوبِهِمْ) وهَذا أوْلى مِن كَوْنِهِ هُوَ، وما عُطِفَ عَلَيْهِ خَبَرًا مُقَدَّمًا، لِغِشاوَةٍ أوْ عامِلانِ فِيهِ عَلى التَّنازُعِ، وإنِ احْتَمَلَتْهُ الآيَةُ لِتَعَيُّنِ نَظِيرِهِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وقَلْبِهِ﴾ والقُرْآنُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا، ولِأنَّ السَّمْعَ كالقَلْبِ يُدْرِكُ ما يُدْرِكُهُ مِن جَمِيعِ الجِهاتِ فَناسَبَ أنْ يُقْرَنَ مَعَهُ بِالخَتْمِ الَّذِي يَمْنَعُ مِن جَمِيعِها، وإنِ اخْتَصَّ وُقُوعُهُ بِجانِبٍ، إلّا أنَّهُ لا يَتَعَيَّنُ، ولَمّا كانَ إدْراكُ البَصَرِ لا يَكُونُ عادَةً إلّا بِالمُحاذاةِ والمُقابَلَةِ جُعِلَ المانِعُ ما يَمْنَعُ مِنها، وهو الغِشاوَةُ، لِأنَّها في الغالِبِ كَذَلِكَ، كَغاشِيَةِ السَّرْجِ، ومِثْلُ هَذا يَكْفِي في النِّكاتِ، ولا يَضُرُّهُ سَتْرُهُ لِجَمِيعِ الجَوانِبِ كالإزارِ، وما في الكَشْفِ مِن أنَّ الوَجْهَ أنَّ الغِشاوَةَ مَشْهُورَةٌ في أمْراضِ العَيْنِ، فَهي أنْسَبُ بِالبَصَرِ مِن غَيْرِ حاجَةٍ لِما تَكَلَّفُوهُ، يَكْشِفُ عَنْ حالِهِ النَّظَرُ في المَعْنى اللُّغَوِيِّ مِمَّنْ لا غِشاوَةَ عَلى بَصَرِهِ، ولَعَلَّ سَبَبَ تَقْدِيمِ السَّمْعِ عَلى البَصَرِ مُشارَكَتُهُ لِلْقَلْبِ في التَّصَرُّفِ في الجِهاتِ السِّتِّ مِثْلَهُ دُونَ البَصَرِ ومِن هُنا قِيلَ: إنَّهُ أفْضَلُ مِنهُ، والحَقُّ أنَّ كُلًّا مِنَ الحَواسِّ ضَرُورِيٌّ في مَوْضِعِهِ، ومَن فَقَدَ حِسًّا فَقَدَ عِلْمًا، وتَفْضِيلُ البَعْضِ عَلى البَعْضِ تَطْوِيلٌ مِن غَيْرِ طائِلٍ، وقَدْ قُرِئَ بِإمالَةِ (أبْصارِهِمْ) ووَجْهُ الإمالَةِ مَعَ أنَّ الصّادَ حَرْفٌ مُسْتَعْلٍ وهو مُنافٍ لَها لِاقْتِضائِها لِتَسَفُّلِ الصَّوْتِ، مُناسَبَةُ الكَسْرَةِ، واعْتُبِرَتْ عَلى الرّاءِ دُونَ غَيْرِها لِمُناسَبَةِ الإمالَةِ التَّرْقِيقَ، والمَشْهُورُ عِنْدَ أهْلِ العَرَبِيَّةِ أنَّ ذَلِكَ لِقُوَّةِ الرّاءِ لِئَلّا يَقَعَ التَّقْرِيرُ، فَإنَّهُ مُضِرٌّ في الأداءِ حَتّى سَمِعْتُ مِن بَعْضِ الشّافِعِيَّةِ أنَّ مَن كَرَّرَ الرّاءَ في تَكْبِيرَةِ الإحْرامِ لَمْ تَنْعَقِدْ صَلاتُهُ، والعُهْدَةُ عَلى الرّاوِي، والجُمْهُورُ عَلى أنَّ (عَلى أبْصارِهِمْ) خَبَرٌ مُقَدَّمٌ لِــ(غِشاوَةٌ)، والتَّقْدِيمُ مُصَحِّحٌ لِجَوازِ الِابْتِداءِ بِالنَّكِرَةِ مَعَ أنَّ فِيهِ مُطابَقَةَ الجُمْلَةِ قَبْلَهُ، لِأنَّهُ تَقَدُّمُ الجُزْءِ المَحْكُومِ بِهِ فِيها، وهَذا كَذَلِكَ، فَفي الآيَةِ جُمْلَتانِ خَبَرِيَّتانِ فِعْلِيَّةٌ دالَّةٌ عَلى التَّجَدُّدِ، واسْمِيَّةٌ دالَّةٌ عَلى الثُّبُوتِ، حَتّى كَأنَّ الغِشاوَةَ جِبِلِّيَّةٌ فِيهِمْ، وكَوْنُ الجُمْلَتَيْنِ دُعائِيَّتَيْنِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وفي تَقْدِيمِ الفِعْلِيَّةِ إشارَةٌ إلى أنَّ ذَلِكَ قَدْ وقَعَ، وفُرِغَ مِنهُ، ونَصَبَ المُفَضَّلُ وأبُو حَيْوَةَ، وإسْماعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ (غِشاوَةً)، وقِيلَ: إنَّهُ عَلى حَذْفِ الجارِّ، وقالَ أبُو حَيّانَ: يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مِن مَعْنى خَتَمَ، لِأنَّ مَعْناهُ غَشّى وسَتَرَ، كَأنَّهُ قِيلَ: تَغْشِيَةً، عَلى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ، فَيَكُونُ حِينَئِذٍ قُلُوبُهُمْ، وسَمْعُهُمْ، وأبْصارُهم مَخْتُومًا عَلَيْها مُغَشّاةً، وقِيلَ: يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ مَفْعُولَ خَتَمَ، والظُّرُوفُ أحْوالٌ، أيْ خَتْمَ غِشاوَةٍ كائِنَةٍ عَلى هَذِهِ الأُمُورِ لِئَلّا يُتَصَرَّفَ بِها بِالرَّفْعِ والإزالَةِ، وفي كُلٍّ ما لا يَخْفى، فَقِراءَةُ الرَّفْعِ أوْلى، وقُرِئَ أيْضًا بِضَمِّ الغَيْنِ، ورَفْعِهِ، وبِفَتْحِ الغَيْنِ ونَصْبِهِ، وقُرِئَ (غِشْوَةٌ)، بِكَسْرِ المُعْجَمَةِ مَرْفُوعًا، وبِفَتْحِها مَرْفُوعًا ومَنصُوبًا، و(غَشْيَةٌ) بِالفَتْحِ والرَّفْعِ، و(عَشاوَةٌ) بِفَتْحِ المُهْمَلَةِ، والرَّفْعِ، وجُوِّزَ فِيهِ الكَسْرُ والنَّصْبُ مِنَ الغَشا بِالفَتْحِ والقَصْرِ، وهو الرُّؤْيَةُ نَهارًا لا لَيْلًا، والمَعْنى أنَّهم يُبْصِرُونَ إبْصارَ غَفْلَةٍ لا إبْصارَ عِبْرَةٍ، أوْ أنَّهم لا يَرَوْنَ آياتِ اللَّهِ تَعالى في ظُلُماتِ كُفْرِهِمْ، ولَوْ زالَتْ أبْصَرُوها، وقالَ الرّاغِبُ العَشا ظُلْمَةٌ تَعْرِضُ لِلْعَيْنِ، وعَشى عَنْ كَذا عَمِيَ، قالَ تَعالى ﴿ومَن يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ﴾ فالمَعْنى حِينَئِذٍ ظاهِرٌ، والتَّنْوِينُ لِلْإشارَةِ إلى نَوْعٍ مِنَ الأغْطِيَةِ غَيْرِ ما يَتَعارَفُهُ النّاسُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ لِلتَّعْظِيمِ، أيْ غِشاوَةٌ أيُّ غِشاوَةٍ، وصَرَّحَ بَعْضُهم بِحَمْلِهِ عَلى النَّوْعِيَّةِ، والتَّعْظِيمِ مَعًا كَما حُمِلَ عَلى التَّكْثِيرِ والتَّعْظِيمِ مَعًا في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ﴾ واللّامُ في (لَهُمْ) لِلِاسْتِحْقاقِ كَما في ﴿لَهم في الدُّنْيا خِزْيٌ﴾ وفي المُغْنِي: لامُ الِاسْتِحْقاقِ هي الواقِعَةُ بَيْنَ مَعْنًى وذاتٍ، وهُنا كَذَلِكَ، إلّا أنَّهُ قَدَّمَ الخَبَرَ اسْتِحْسانًا، لِأنَّ المُبْتَدَأ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، ولَوْ أُخِّرَ جازَ كَـ ”أجَل مُسَمّى عِنْدَهُ“ ويَجُوزُ كَما قِيلَ: أنْ يَكُونَ تَقْدِيمُهُ لِلتَّخْصِيصِ، فَلا يُعَذَّبُ عَذابَهم أحَدٌ ولا يُوثَقُ وثاقَهم أحَدٌ، وكَوْنُ اللّامِ لِلنَّفْعِ، واسْتُعْمِلَتْ هُنا لِلتَّهَكُّمِ، مِمّا لا وجْهَ لَهُ، لِأنَّها إنَّما تَقَعُ لَهُ في مُقابَلَةِ (عَلى) في الدُّعاءِ، وما يُقارِبُهُ، ولَمْ يَقُلْ بِهِ أحَدٌ مِمَّنْ يُوثَقُ بِهِ هُنا، ولا يُقالُ عَلَيْهِمُ العَذابُ، والظّاهِرُ أنَّ الجُمْلَةَ مُساقَةٌ لِبَيانِ إصْرارِهِمْ بِأنَّ مَشاعِرَهم خُتِمَتْ، وإنَّ الشِّقْوَةَ عَلَيْهِمْ خُتِمَتْ، وهي مَعْطُوفَةٌ عَلى ما قَبْلَها، ولَيْسَتِ اسْتِئْنافًا، ولا حالًا، وقالَ السّالَكُوتِيُّ: عُطِفَ عَلى الَّذِينَ كَفَرُوا، والجامِعُ أنَّ ما سَبَقَ بَيانُ حالِهِمْ، وهَذا بَيانُ ما يَسْتَحِقُّونَهُ، أوْ عَلى خَبَرِ إنَّ، والجامِعُ الشَّرِكَةُ في المُسْنَدِ إلَيْهِ مَعَ تَناسُبِ مَفْهُومِ المُسْنَدَيْنِ، وجَعْلِ ذَلِكَ لِدَفْعِ ما يُتَوَهَّمُ مِن عَدَمِ اسْتِحْقاقِهِمُ العَذابَ عَلى كُفْرِهِمْ، لِأنَّهُ بِخَتْمِ اللَّهِ تَعالى وتَغْشِيَتِهِ لَيْسَ بِوَجِيهٍ كَما لا يَخْفى، والعَذابُ في الأصْلِ الِاسْتِمْرارُ ثُمَّ اتُّسِعَ فِيهِ، فَسُمِّيَ بِهِ كُلُّ اسْتِمْرارِ ألَمٍ، واشْتَقُّوا مِنهُ فَقالُوا: عَذَّبَتُهُ أيْ داوَمْتُ عَلَيْهِ الألَمَ، قالَهُ أبُو حَيّانَ، وعَنِ الخَلِيلِ، وإلَيْهِ مالَ كَثِيرٌ أنَّ أصْلَهُ المَنعُ، يُقالُ: عَذَبَ الفَرَسُ إذا امْتَنَعَ عَنِ العَلَفِ، ومِنهُ العَذْبُ لِمَنعِهِ مِنَ العَطَشِ، ثُمَّ تُوُسِّعَ فَأُطْلِقَ عَلى كُلِّ مُؤْلِمٍ شاقٍّ مُطْلَقًا، وإنْ لَمْ يَكُنْ مانِعًا ورادِعًا، ولِهَذا كانَ أعَمَّ مِنَ النَّكالِ، لِأنَّهُ ما كانَ رادِعًا كالعِقابِ، وقِيلَ: العِقابُ ما يُجازى بِهِ كَما في الآخِرَةِ، وشَمَلَ البَيانُ عَذابَ الأطْفالِ والبَهائِمِ وغَيْرِهِما، وخَصَّ السَّجاوَنْدِيُّ العَذابَ بِإيصالِ الألَمِ إلى الحَيِّ مَعَ الهَوانِ، فَإيلامُ الأطْفالِ والبَهائِمِ لَيْسَ بِعَذابٍ عِنْدَهُ، وقِيلَ: إنَّ العَذابَ مَأْخُوذٌ في الأصْلِ مِنَ التَّعْذِيبِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ في الإيلامِ مُطْلَقًا، وأصْلُ التَّعْذِيبِ عَلى ما قِيلَ: إكْثارُ الضَّرْبِ بِعَذْبَةِ السَّوْطِ، وقالَ الرّاغِبُ: أصْلُهُ مِنَ العَذْبِ فَعَذَّبْتُهُ أزَلْتَ عَذْبَ حَياتِهِ، عَلى بِناءِ مَرَّضْتُهُ وقَذَّيْتُهُ، والتَّنْكِيرُ فِيهِ لِلنَّوْعِيَّةِ أيْ لَهم في الآخِرَةِ نَوْعٌ مِنَ العَذابِ غَيْرُ مُتَعارَفٍ في عَذابِ الدُّنْيا، وحَمْلُهُ عَلى التَّعْظِيمِ يَسْتَدْعِي حَمْلَ ما يُسْتَفادُ مِنَ الوَصْفِ عَلى التَّأْكِيدِ، ولا حاجَةَ إلَيْهِ، والعَظِيمُ الكَبِيرُ، وقِيلَ: فَوْقَ الكَبِيرِ، لَأنَّ الكَبِيرَ يُقابِلُهُ الصَّغِيرُ، والعَظِيمَ يُقابِلُهُ الحَقِيرُ، والحَقِيرَ دُونَ الصَّغِيرِ، فالصَّغِيرُ والحَقِيرُ خَسِيسانِ، والحَقِيرُ أخَسُّهُما، والعَظِيمُ والكَبِيرُ شَرِيفانِ، والعَظِيمُ أشْرَفُهُما، فَتَوْصِيفُ العَذابِ بِهِ أكْثَرُ في التَّهْوِيلِ مِن تَوْصِيفِهِ بِالكَبِيرِ، كَما ذَكَرَهُ الكَثِيرُ مِمَّنْ شاعَ فَضْلُهُ، إذِ العادَةُ جارِيَةٌ بِأنَّ الأخَسَّ يُقابَلُ بِالأشْرَفِ، والخَسِيسَ بِالشَّرِيفِ، فَما يُتَوَهَّمُ مِن أنَّ نَقِيضَ الأخَصِّ أعَمُّ مِمّا لا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ هُنا، نَعَمْ يُشْكِلُ عَلى دَعْوى أنَّ العَظِيمَ فَوْقَ الكَبِيرِ قَوْلُهُ عَزَّ شَأْنُهُ في الحَدِيثِ القُدْسِيِّ: «(الكِبْرِياءُ رِدائِي، والعَظَمَةُ إزارِي)» حَيْثُ جَعَلَ سُبْحانَهُ الكِبْرِياءُ مَقامَ الرِّداءِ والعَظْمَةَ مَقامَ الإزارِ، ومَعْلُومٌ أنَّ الرِّداءَ أرْفَعُ مِنَ الإزارِ، فَيَجِبُ أنْ يَكُونَ صِفَةُ الكِبْرِ أرْفَعُ مِنَ العَظَمَةِ، ويُقالُ: إنَّ الكَبِيرَ هو الكَبِيرُ في ذاتِهِ سَواءٌ اسْتَكْبَرَهُ غَيْرُهُ أمْ لا، وأمّا العَظَمَةُ فَعِبارَةٌ عَنْ كَوْنِهِ بِحَيْثُ يَسْتَعْظِمُهُ غَيْرُهُ، فالصِّفَةُ الأُولى عَلى هَذا ذاتِيَّةٌ وأشْرَفُ مِنَ الثّانِيَةِ، ويُمْكِنُ أنْ يُجابَ عَلى بُعْدٍ بِأنَّ ما ذَكَرُوهُ خاصٌّ بِما إذا اسْتُعْمِلَ الكَبِيرُ والعَظِيمُ في غَيْرِهِ تَعالى، أوْ فِيما إذا خَلا الكَلامُ عَنْ قَرِينَةٍ تَقْتَضِي العَكْسَ، أوْ يُقالُ: إنَّهُ سُبْحانَهُ جَعَلَ العَظَمَةَ وهي أشْرَفُ مِنَ الكِبْرِياءِ إزارًا لِقِلَّةِ العارِفِينَ بِهِ جَلَّ شَأْنُهُ بِهَذا العُنْوانِ بِالنَّظَرِ إلى العارِفِينَ بِعُنْوانِ الكِبْرِياءِ، فَلِقِلَّةِ أُولَئِكَ كانَتْ إزارًا، ولِكَثْرَةِ هَؤُلاءِ كانَتْ رِداءًا، وسُبْحانَ الكَبِيرِ العَظِيمِ، وذَكَرَ الرّاغِبُ أنَّ أصْلَ عَظُمَ الرَّجُلُ كِبَرَ عَظْمُهُ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِكُلِّ كَبِيرٍ وأُجْرِيَ مَجْراهُ مَحْسُوسًا كانَ أوْ مَعْقُولًا مَعْنًى كانَ أوْ عَيْنًا، والعَظِيمُ إذا اسْتُعْمِلَ في الأعْيانِ فَأصْلُهُ أنْ يُقالَ في الأجْزاءِ المُتَّصِلَةِ، والكَبِيرُ يُقالُ في المُنْفَصِلَةِ، وقَدْ يُقالُ فِيها أيْضًا عَظِيمٌ، وهو بِمَعْنى كَبِيرٍ كَجَيْشٍ عَظِيمٍ، وعِظَمُ العَذابِ بِالنِّسْبَةِ إلى عَذابٍ دُونَهُ يَتَخَلَّلُهُ فُتُورٌ، وبِهَذا التَّخَلُّلِ يَصِحُّ أنْ يَتَفاضَلَ العَذابانِ كَسَوادَيْنِ أحَدُهُما أشَبْعُ مِنَ الآخَرِ، وقَدْ تَخَلَّلَ الآخَرَ ما لَيْسَ بِسَوادٍ، وقَدْ ذَهَبَ المُسْلِمُونَ إلى أنَّهُ يَحْسُنُ مِنَ اللَّهِ تَعالى تَعْذِيبُ الكُفّارِ، وهَذِهِ الآيَةُ وأمْثالُها شَواهِدُ صِدْقٍ عَلى ذَلِكَ، وقالَ بَعْضُهُمْ: لا يَحْسُنُ، وذَكَرُوا دَلائِلَ عَقْلِيَّةً مَبْنِيَّةً عَلى الحُسْنِ والقُبْحِ العَقْلِيَّيْنِ، فَقالُوا: التَّعْذِيبُ ضَرَرٌ خالٍ عَنِ المَنفَعَةِ، لِأنَّهُ سُبْحانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ أنْ يَنْتَفِعَ بِشَيْءٍ، والعَبْدُ يَتَضَرَّرُ بِهِ، ولَوْ سُلِّمَ انْتِفاعُهُ، فاللَّهُ تَعالى قادِرٌ أنْ يُوَصِّلَ إلَيْهِ النَّفْعَ مِن غَيْرِ عَذابٍ، والضَّرَرُ الخالِي عَنِ النَّفْعِ قَبِيحٌ بَدِيهَةً، وأيْضًا أنَّ الكافِرَ لا يَظْهَرُ مِنهُ إلّا العِصْيانُ، فَتَكْلِيفُهُ مَتى حَصَلَ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ العَذابُ، وما كانَ مُسْتَعْقِبًا لِلضَّرَرِ مِن غَيْرِ نَفْعٍ قَبِيحٌ، فَإمّا أنْ يُقالَ: لا تَكْلِيفَ، أوْ تَكْلِيفٌ ولا عَذابَ، وأيْضًا هو الخالِقُ لِداعِيَةِ المَعْصِيَةِ، فَيَقْبُحُ أنْ يُعاقِبَ عَلَيْها، وقالُوا أيْضًا هَبْ أنّا سَلَّمْنا العِقابَ فَمِن أيْنَ القَوْلُ بِالدَّوامِ وأقْسى النّاسِ قَلْبًا إذا أخَذَ مَن بالَغَ في الإساءَةِ إلَيْهِ وعَذَّبَهُ، وبالَغَ فِيهِ، وواظَبَ عَلَيْهِ لامَهُ كُلُّ أحَدٍ، وقِيلَ لَهُ: إمّا أنْ تَقْتُلَهُ وتُرِيحَهُ، وإمّا أنْ تَعْفُوَ عَنْهُ، فَإذا قَبُحَ هَذا مِن إنْسانٍ يَلْتَذُّ بِالِانْتِقامِ فالغَنِيُّ عَنِ الكُلِّ كَيْفَ يَلِيقُ بِهِ هَذا الدَّوامُ؟ وأيْضًا مَن تابَ مِنَ الكُفْرِ، ولَوْ بَعْدَ حِينٍ تابَ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ، أفَتَرى أنَّ هَذا الكَرَمَ العَظِيمَ يَذْهَبُ في الآخِرَةِ أوْ تُسْلَبُ عُقُولُ أُولَئِكَ المُعَذَّبِينَ فَلا يَتُوبُونَ، أوْ يَحْسُنُ أنْ يَقُولَ في الدُّنْيا ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ، وفي الآخِرَةِ لا يُجِيبُ دُعاءَهم إلّا ﴿اخْسَئُوا فِيها ولا تُكَلِّمُونِ﴾
* * *
بَقِيَ التَّمَسُّكُ بِالدَّلائِلِ اللَّفْظِيَّةِ، وهي لا تُفِيدُ اليَقِينَ، فَلا تُعارِضُ الأدِلَّةَ العَقْلِيَّةَ المُفِيدَةَ لَهُ، عَلى أنّا نَدَّعِي أنَّ أخْبارَ الوَعِيدِ في الكُفّارِ مَشْرُوطَةٌ بِعَدَمِ العَفْوِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ هَذا الشَّرْطُ مَذْكُورًا صَرِيحًا كَما قالَ ذَلِكَ فِيها مَن جَوَّزَ العَفْوَ عَنِ الفُسّاقِ عَلى أنَّهُ يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ تِلْكَ الجُمَلُ دُعائِيَّةً، أوْ أنَّها إخْبارِيَّةٌ، لَكِنَّ الإخْبارَ عَنِ اسْتِحْقاقِ الوُقُوعِ لا عَنِ الوُقُوعِ نَفْسِهِ، وهَذا خُلاصَةُ ما ذُكِرَ في هَذا البابِ، وبَسَطَ الإمامُ الرّازِيُّ الكَلامَ فِيهِ، ولَمْ يَتَعَقَّبْهُ بِما يَشْرَحُ الفُؤادَ، ويُبَرِّدُ الأكْبادَ، وتِلْكَ شَنْشَنَةٌ أعْرِفُها مِن أخْزَمَ، ولَعَمْرِي إنَّها شُبَهٌ تَمَكَّنَتْ في قُلُوبِ كَثِيرٍ مِنَ النّاسِ، فَكانَتْ لَهُمُ الخَنّاسَ الوَسْواسَ، فَخَلَعُوا رِبْقَةَ التَّكْلِيفِ، وانْحَرَفُوا عَنِ الدِّينِ الحَنِيفِ، وهي عِنْدَ المُؤْمِنِينَ المُتَمَكِّنِينَ كَصَرِيرِ بابٍ، أوْ كَطَنِينِ ذُبابٍ، فَأقُولُ، وما تَوْفِيقِي إلّا بِاللَّهِ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وإلَيْهِ أُنِيبُ: نَفْيُ العَذابِ مُطْلَقًا مِمّا لَمْ يَقُلْهُ أحَدٌ مِمَّنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ تَعالى واليَوْمِ الآخِرِ، حَتّى أنَّ المَجُوسَ لا يَقُولُونَهُ مَعَ أنَّهُمُ الَّذِينَ بَلَغُوا مِنَ الهَذَيانِ أقْصاهُ، فَإنَّ عُقَلاءَهم والعَقْلُ بِمَراحِلَ عَنْهم زَعَمُوا أنَّ إبْلِيسَ عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ لَمْ يَزَلْ في الظُّلْمَةِ بِمَعْزِلٍ عَنْ سُلْطانِ اللَّهِ تَعالى، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَزْحَفُ حَتّى رَأى النُّورَ، فَوَثَبَ، فَصارَ في سُلْطانِ اللَّهِ تَعالى، وأُدْخِلَ مَعَهُ الآفاتُ والشُّرُورُ، فَخَلَقَ اللَّهُ تَعالى هَذا العالَمَ شَبَكَةً لَهُ، فَوَقَعَ فِيها، فَصارَ لا يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ إلى سُلْطانِهِ، فَبَقِيَ مَحْبُوسًا يُرْمى بِالآفاتِ، فَمَن أحْياهُ اللَّهُ تَعالى أماتَهُ، ومَن أصَحَّهُ أسْقَمَهُ، ومَن أسَرَّهُ أحْزَنَهُ، وكُلَّ يَوْمٍ يَنْقُصُ سُلْطانُهُ، فَإذا قامَتِ القِيامَةُ وزالَتْ قُوَّتُهُ طَرَحَهُ اللَّهُ تَعالى في الجَوِّ، وحاسَبَ أهْلَ الأدْيانِ، وجازاهم عَلى طاعَتِهِمْ لِلشَّيْطانِ، وعِصْيانِهِمْ لَهُ، نَعَمِ المَشْهُورُ عَنْهم أنَّ الآلامَ الدُّنْيَوِيَّةَ قَبِيحَةٌ لِذاتِها، ولا تَحْسُنُ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، فَهي صادِرَةٌ عَنِ الظُّلْمَةِ دُونَ النُّورِ، وبُطْلانُ مَذْهَبِ هَؤُلاءِ أظْهَرُ مِن نارٍ عَلى عَلَمٍ، ولَئِنْ سَلَّمْنا أنَّ أحَدًا مِنَ النّاسِ يَقُولُ ذَلِكَ فَهو مَرْدُودٌ، وغالِبُ الأدِلَّةِ الَّتِي تُذْكَرُ في هَذا البابِ مَبْنِيٌّ عَلى الحُسْنِ والقُبْحِ العَقْلِيَّيْنِ، وقَدْ نَفاهُما أهْلُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ، وأقامُوا الأدِلَّةَ عَلى بُطْلانِهِما، وشُيُوعُ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الكَلامِ يَجْعَلُ نَقْلُهُ هُنا مِن لَغْوِ الكَلامِ عَلى أنّا نَقُولُ: إنَّ لِلَّهِ تَعالى صِفَتَيْ لُطْفٍ وقَهْرٍ، ومِنَ الواجِبِ في الحِكْمَةِ أنْ يَكُونَ المَلِكُ لا سِيَّما مَلِكُ المُلُوكِ كَذَلِكَ، إذْ كُلٌّ مِنهُما مِن أوْصافِ الكَمالِ، ولا يَقُومُ أحَدُهُما مَقامَ الآخَرِ، ومَن مَنَعَ ذَلِكَ فَقَدْ كابَرَ، وقَدْ مُدِحَ في الشّاهِدِ ذَلِكَ، كَما قِيلَ:
يَداكَ يَدٌ خَيْرُها يُرْتَجى وأُخْرى لِأعْدائِها غائِظَةْ

فَلَمّا نَظَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ إلى ما عَلِمَهُ مِنَ الماهِيّاتِ الأزَلِيَّةِ، والأعْيانِ الثّابِتَةِ ورَأى فِيها مَنِ اسْتَعَدَّ لِلْخَيْرِ، وطَلَبَهُ بِلِسانِ اسْتِعْدادِهِ، ومَنِ اسْتَعَدَّ لِلشَّرِّ، وطَلَبَهُ كَذَلِكَ أفاضَ عَلى كُلٍّ بِمُقْتَضى حِكْمَتِهِ ما اسْتَعَدَّ لَهُ، وأعْطاهُ ما طَلَبَهُ مِنهُ، ثُمَّ كَلَّفَهُ ورَغَّبَهُ ورَهَّبَهُ إتْمامًا لِلنِّعْمَةِ، وإظْهارًا لِلْحُجَّةِ، إذْ لَوْ عَذَّبَهُ وأظْهَرَ فِيهِ صِفَةَ قَهْرِهِ قَبْلَ أنْ يُنْذِرَهُ لَرُبَّما قالَ: ﴿لَوْلا أرْسَلْتَ إلَيْنا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِن قَبْلِ أنْ نَذِلَّ ونَخْزى﴾ فالتَّعْذِيبُ وإنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَفْعٌ لَهُ سُبْحانَهُ بِالمَعْنى المَأْلُوفِ، لَكِنَّهُ مِن آثارِ القَهْرِ، ووُقُوعُ فَرِيقٍ في طَرِيقِ القَهْرِ ضَرُورِيٌّ في حِكْمَتِهِ تَعالى، وكُلُّ ما تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ تَعالى وكَمالُهُ حَسَنٌ، وإنْ شِئْتَ فَقُلْ: إنَّ صِفَتَيِ اللُّطْفِ والقَهْرِ مِن مُسْتَتْبَعاتِ ذاتِهِ الَّتِي هي في غايَةِ الكَمالِ، ولَهُما مُتَعَلِّقاتٌ في نَفْسِ الأمْرِ مُسْتَعِدَّةٌ لَهُما في الأزَلِ اسْتِعْدادًا غَيْرَ مَجْعُولٍ، وقَدْ عَلِمَ سُبْحانَهُ في الأزَلِ التَّعَلُّقاتِ والمُتَعَلِّقاتِ فَظَهَرَتْ طِبْقَ ما عَلِمَ، ولَوْ لَمْ تَظْهَرْ كَذَلِكَ لَزِمَ انْقِلابُ الحَقائِقِ، وهو مُحالٌ، فالإيمانُ والكُفْرُ في الحَقِيقَةِ لَيْسا سَبَبًا حَقِيقِيًّا، وعِلَّةً تامَّةً لِلتَّنْعِيمِ والتَّعْذِيبِ، وإنَّما هُما عَلامَتانِ لَهُما، دَعَتْ إلَيْهِما الحِكْمَةُ، والرَّحْمَةُ، وهَذا مَعْنى ما ورَدَ في الصَّحِيحِ: «(اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ لَهُ)،» أمّا مَن كانَ أيْ في عِلْمِ اللَّهِ مِن أهْلِ السَّعادَةِ المُسْتَعِدَّةِ لَها ذاتُهُ فَسَيُيَسَّرُ بِمُقْتَضى الرَّحْمَةِ لِعَمَلِ أهْلِ السَّعادَةِ، لِأنَّ شَأْنَهُ تَعالى الإفاضَةُ عَلى القَوابِلِ بِحَسَبِ القابِلِيّاتِ، وأمّا مَن كانَ في الأزَلِ والعِلْمِ القَدِيمِ مِن أهْلِ الشَّقاوَةِ الَّتِي ثَبَتَتْ لِماهِيَّتِهِ الغَيْرِ المَجْعُولَةِ أزَلًا، فَسَيُيَسَّرُ بِمُقْتَضى القَهْرِ لِعَمَلِ أهْلِ الشَّقاوَةِ، وفي ذَلِكَ تَظْهَرُ المِنَّةُ، وتَتِمُّ الحُجَّةُ، ولا يُرَدُّ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَوْ شاءَ لَهَداكم أجْمَعِينَ﴾ لِأنَّ نَفْيَ الهِدايَةِ لِنَفْيِ المَشِيئَةِ، ولا شَكَّ أنَّ المَشِيئَةَ تابِعَةٌ لِلْعِلْمِ، والعِلْمُ تابِعٌ لِثُبُوتِ المَعْلُومِ في نَفْسِ الأمْرِ، كَما يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى في المُسْتَحِيلِ الغَيْرِ الثّابِتِ في نَفْسِهِ ﴿أمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ في الأرْضِ﴾ وحَيْثُ لا ثُبُوتَ لِلْهِدايَةِ في نَفْسِها لا تَعَلُّقَ لِلْعِلْمِ بِها، وحَيْثُ لا تَعَلُّقَ لا مَشِيئَةَ، فَسَبَبُ نَفْيِ إيجادِ الهِدايَةِ نَفْيُ المَشِيئَةِ، وسَبَبُ نَفْيِ المَشِيئَةِ تَقَرُّرُ عَدَمِ الهِدايَةِ في نَفْسِها، فَيَئُولُ الأمْرُ إلى أنَّ سَبَبَ نَفْيِ إيجادِ الهِدايَةِ انْتِفاؤُها في نَفْسِ الأمْرِ، وعَدَمُ تَقَرُّرِها في العِلْمِ الأزَلِيِّ، ﴿ولَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ﴾ فَإذا انْتَقَشَ هَذا عَلى صَحِيفَةِ خاطِرِكَ فَنَقُولُ: قَوْلُهُمُ الضَّرَرُ الخالِي عَنِ النَّفْعِ قَبِيحٌ بَدِيهَةً، لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأنَّ ذَلِكَ الضَّرَرَ مِن آثارِ القَهْرِ التّابِعِ لِلذّاتِ الأقْدَسِ، ومَتى خَلا عَنِ القَهْرِ كانَ عَزَّ شَأْنُهُ عَمّا يَقُولُهُ الظّالِمُونَ كالأقْطَعِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ إلّا يَدٌ واحِدَةٌ بَلْ مَن أنْصَفَهُ عَقْلُهُ يَعْلَمُ أنَّ الخُلُوَّ عَنْ صِفَةِ القَهْرِ يُخِلُّ بِالرُّبُوبِيَّةِ، ويَسْلُبُ إزارَ العَظَمَةِ، ويَحُطُّ شَأْنَ المِلْكِيَّةِ، إذْ لا يُرْهَبُ مِنهُ حِينَئِذٍ، فَيَخْتَلُّ النِّظامُ، ويَنْحَلُّ نُبَذُ هَذا الِانْتِظامِ، عَلى أنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ تَسْتَدْعِي عَدَمَ إيلامِ الحَيَوانِ في هَذِهِ النَّشْأةِ لا سِيَّما البَهائِمُ والأطْفالُ الَّذِينَ لا يَنالُهم مِن هَذِهِ الآلامِ نَفْعٌ بِالكُلِّيَّةِ لا عاجِلًا ولا آجِلًا، مَعَ أنّا نُشاهِدُ وُقُوعَ ذَلِكَ أكْثَرَ مِن نُجُومِ السَّماءِ فَما هو جَوابُهم عَنْ هَذِهِ الآلامِ مِنهُ سُبْحانَهُ في هَذِهِ النَّشْأةِ، مَعَ أنَّهُ لا نَفْعَ لَهُ مِنها بِوَجْهٍ، فَهو جَوابُنا عَنِ التَّعْذِيبِ في تِلْكَ النَّشْأةِ، وقَوْلُهُمْ: إنَّ الكافِرَ لا يَظْهَرُ مِنهُ إلّا العِصْيانُ، فَتَكْلِيفُهُ مَتى حَصَلَ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ العَذابُ إلْخَ، فَفِيهِ أنَّ الكافِرَ في عِلْمِ اللَّهِ تَعالى حَسَبَ اسْتِعْدادِهِ مُتَعَشِّقٌ لِلنّارِ تَعْشُّقَ الحَدِيدِ لِلْمِغْناطِيسِ، وإنْ نَفَرَ عَنْها نافِرٌ عَنِ الجَنَّةِ نُفُورَ الظُّلْمَةِ عَنِ النُّورِ، وإنْ تَعَشَّقَها فَهو إنْ كُلِّفَ وإنْ لَمْ يُكَلَّفْ لا بُدَّ وأنْ يُعَذَّبَ فِيها، ولَكِنَّ التَّكْلِيفَ لِاسْتِخْراجِ ما في اسْتِعْدادِهِ مِن الإباءِ لِإظْهارِ الحُجَّةِ، والكُفْرُ مُجَرَّدُ عَلامَةٍ، ﴿وما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ ولَكِنْ كانُوا أنْفُسَهم يَظْلِمُونَ﴾ ، وقَوْلُهُمْ: هو سُبْحانَهُ الخالِقُ لِداعِيَةِ المَعْصِيَةِ مُسَلَّمٌ، لَكِنَّهُ خَلَقَها وأظْهَرَها طِبْقَ ما دَعا إلَيْهِ الِاسْتِعَدادُ الذّاتِيُّ الَّذِي لا دَخْلَ لِلْقُدْرَةِ إلّا في إيجادِهِ، وأيُّ قُبْحٍ في إعْطاءِ الشَّيْءِ ما طَلَبَهُ بِلِسانِ اسْتِعْدادِهِ، وإنَّ أضَرَّ بِهِ، ولا يَلْزَمُ اللَّهَ تَعالى عَقْلًا أنْ يَتْرُكَ مُقْتَضى حِكْمَتِهِ ويُبْطِلَ شَأْنَ رُبُوبِيَّتِهِ مَعَ عَدَمِ تَعَلُّقِ عِلْمِهِ بِخِلافِ ما اقْتَضاهُ ذَلِكَ الِاسْتِعْدادُ، وقَوْلُهُمْ: هَبْ أنّا سَلَّمَنا العِقابَ فَمِن أيْنَ الدَّوامُ إلَخْ، قُلْنا: الدَّوامُ مِن خُبْثِ الذّاتِ، وقُبْحِ الصِّفاتِ الثّابِتَيْنِ فِيما لَمْ يَزَلِ، الظّاهِرَيْنِ فِيما لا يَزالُ بِالإباءِ بَعْدَ التَّكْلِيفِ، مَعَ مُراعاةِ الحِكْمَةِ، وهَذا الخُبْثُ دائِمٌ فِيهِمْ ما دامَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ تَعالى الذّاتِيَّةُ وذَواتُهم كَما يُرْشِدُكَ إلى ذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿ولَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ﴾ ويَدُومُ المَعْلُولُ ما دامَتْ عِلَّتُهُ، أوْ يُقالُ: العَذابُ وهو في الحَقِيقَةِ البُعْدُ مِنَ اللَّهِ لازِمٌ لِلْكُفْرِ، والمَلْزُومُ لا يَنْفَكُّ مِنَ اللّازِمِ، وأيْضًا الكُفْرُ مَعَ ظُهُورِ البُرْهانِ في الأنْفُسِ والآفاقِ بِمَن لا تَتَناهى كِبْرِياؤُهُ ولا تَنْحَصِرُ عَظَمَتُهُ أمْرٌ لا يُحِيطُ نِطاقُ الفِكْرِ بِقُبْحِهِ، وإنْ لَمْ يَتَضَرَّرْ بِهِ سُبْحانَهُ، لَكِنَّ الغَيْرَةَ الإلَهِيَّةَ لا تَرْتَضِيهِ، وإنْ أفاضَتْهُ القُدْرَةُ الأزَلِيَّةُ حَسَبَ الِاسْتِعْدادِ بِمُقْتَضى الحِكْمَةِ، ومِثْلُ ذَلِكَ يَطْلُبُ عَذابًا أبَدِيًّا، وعِقابًا سَرْمَدِيًّا، وشَبِيهُ الشَّيْءِ مُنْجَذِبٌ إلَيْهِ، ولا يُقاسِ هَذا بِما ضَرَبَهُ مِنَ المِثالِ، إذْ أيْنَ ذِلَّةُ التُّرابِ مِن عِزَّةِ رَبِّ الأرْبابِ، ولَيْسَ مَوْرِدُ المَسْألَتَيْنِ مَنهَلًا واحِدًا، وقَوْلُهُمْ: مَن تابَ مِنَ الكُفْرِ ولَوْ بَعْدَ حِينٍ تابَ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ، أفَتَرى أنَّ هَذا الكَرَمَ العَظِيمَ يَذْهَبُ في الآخِرَةِ أوْ تُسْلَبُ عُقُولُ أُولَئِكَ المُعَذَّبِينَ، فَلا يَتُوبُونَ إلَخْ، فَفِيهِ أنَّ مَن تابَ مِنَ الكُفْرِ فَقَدْ أبْدَلَ القَبِيحَ بِضِدِّهِ، وأظْهَرَ سُبْحانَهُ مُقْتَضى ذاتِهِ وماهِيَّتِهِ المَعْلُومَةِ لَهُ حَسَبَ عِلْمِهِ، فَهُناكَ حِينَئِذٍ كُفْرٌ قَبِيحٌ زائِلٌ، وإيمانٌ حَسَنٌ ثابِتٌ، وقَدِ انْضَمَّ إلى هَذا الإيمانِ نَدَمٌ عَلى ذَلِكَ الكُفْرِ في دارٍ يَنْفَعُ فِيها تَدارُكُ ما فاتَ، والنَّدَمُ عَلى الهَفَواتِ، فَيَصِيرُ الكُفْرُ بِهَذا الإيمانِ، كَأنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، إذْ يُقابَلُ القَبِيحُ بِالحَسَنِ، ويَبْقى النَّدَمُ، وهو رُكْنُ التَّوْبَةِ مَكْسَبًا، عَلى أنَّ ظُهُورَ الإيمانِ بَعْدَ الكُفْرِ دَلِيلٌ عَلى نَجابَةِ الذّاتِ في نَفْسِها، وطَهارَتِها في مَعْلُومِيَّتِها، والأعْمالُ بِالخَواتِيمِ، فَلا بِدْعَ في مَغْفِرَةِ اللَّهِ تَعالى لَهُ جُودًا وكَرَمًا، ورَحْمَةُ اللَّهِ تَعالى وإنْ وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ بِبَعْضِ اعْتِباراتِها إلّا أنَّها خَصَّتِ المُتَّقِينَ بِاعْتِبارٍ آخَرَ، كَما يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ورَحْمَتِي وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ فَهي كَمَعِيَّتِهِ سُبْحانَهُ الغَيْرِ المُكَيَّفَةِ، ألا تَسْمَعُ قَوْلَهُ تَعالى مَرَّةً: ﴿ما يَكُونُ مِن نَجْوى ثَلاثَةٍ إلا هو رابِعُهم ولا خَمْسَةٍ إلا هو سادِسُهم ولا أدْنى مِن ذَلِكَ ولا أكْثَرَ إلا هو مَعَهُمْ﴾ وتارَةً: ﴿إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا والَّذِينَ هم مُحْسِنُونَ﴾ وكَرَّةً: ﴿إنَّ اللَّهَ مَعَنا﴾ وطَوْرًا: ﴿إنَّ مَعِيَ رَبِّي﴾ ولا يُنافِي كَوْنَ الرَّحْمَةِ أوْسَعَ دائِرَةً مِنَ الغَضَبِ كَما يَرْمُزُ إلَيْهِ ﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ أنَّ الكُفّارَ المُعَذَّبِينَ أكْثَرُ مِنَ المُؤْمِنِينَ المُنَعَّمِينَ، كَما يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يُؤْمِنُونَ﴾ وكَذا حَدِيثُ البَعْثِ، لِأنَّ هَذِهِ الكَثْرَةَ بِالنِّسْبَةِ إلى بَنِي آدَمَ وهم قَلِيلُونَ بِالنِّسْبَةِ إلى المَلائِكَةِ، والحُورِ، والغِلْمانِ، ﴿وما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلا هُوَ﴾ ﴿ويَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ فَيَكُونُ أهْلُ الرَّحْمَةِ أكْثَرَ مِن أهْلِ الغَضَبِ عَلى أنَّ أهْلَ النّارِ مَرْحُومُونَ في عَذابِهِمْ، وما عِنْدَ اللَّهِ تَعالى مِن كُلِّ شَيْءٍ لا يَتَناهى، وبَعْضُ الشَّرِّ أهْوَنُ مِن بَعْضٍ، وهم مُخْتَلِفُونَ في العَذابِ، وبَيْنَ عَذابِ كُلِّ طَبَقَةٍ وطَبَقَةٍ ما بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ، وإنْ ظَنَّ كُلٌّ مِن أهْلِها أنَّهُ أشَدُّ النّاسِ عَذابًا، لَكِنَّ الكَلامَ في الواقِعِ بَلْ مِنهم مَن هو مُلْتَذٌّ بِعَذابِهِ مِن بَعْضِ الجِهاتِ، ومِنهم غَيْرُ ذَلِكَ، نَعَمْ فِيهِمْ مَن عَذابُهُ مَحْضٌ لا لَذَّةَ لَهم فِيهِ، ومَعَ هَذا يَمْقُتُونَ أنْفُسَهم لِعِلْمِهِمْ أنَّها هي الَّتِي اسْتَعَدَّتْ لِذَلِكَ، فَفاضَ عَلَيْها ما فاضَ مِن جانِبِ المَبْدَإ الفَيّاضِ، كَما يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَمَقْتُ اللَّهِ أكْبَرُ مِن مَقْتِكم أنْفُسَكُمْ﴾ ومَن غَفَلَ مِنهم عَنْ ذَلِكَ نَبَّهَهُ إبْلِيسُ عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ كَما حَكى اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَلا تَلُومُونِي ولُومُوا أنْفُسَكُمْ﴾ ولا تَنْفَعُهُمُ التَّوْبَةُ هُناكَ، كَما تَنْفَعُهم هُنا، إذْ قَدِ اخْتَلَفَتِ الدّارانِ، وامْتازَ الفَرِيقانِ، وانْتَهى الأمَدُ المَضْرُوبُ لَها بِمُقْتَضى الحِكْمَةِ الإلَهِيَّةِ، وقَدْ رَأيْنا في الشّاهِدِ أنَّ لِنَفْعِ الدَّواءِ وقْتًا مَخْصُوصًا، إذا تَعَدّاهُ رُبَّما يُؤَثِّرُ ضَرَرًا، ومِنَ الكُفّارِ مَن يَعْرِفُ أنَّهُ قَدْ مَضى الوَقْتُ، وانْقَضى ذَلِكَ الزَّمانُ، وأنَّ التَّوْبَةَ إنَّما كانَتْ في الدّارِ الدُّنْيا، ولِهَذا قالَ: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ﴾ ﴿لَعَلِّي أعْمَلُ صالِحًا فِيما تَرَكْتُ﴾ ولَمّا كانَ هَذا طَلَبَ عارِفٍ مِن وجْهِ جاهِلٍ مِن وجْهٍ آخَرَ، قالَ اللَّهُ تَعالى في مُقابَلَتِهِ: ﴿كَلا إنَّها كَلِمَةٌ هو قائِلُها﴾ ولَمْ يُغْلِظْ عَلَيْهِ كَما أغْلَظَ عَلى مَن قالَ: ﴿رَبَّنا أخْرِجْنا مِنها فَإنْ عُدْنا فَإنّا ظالِمُونَ﴾ حَيْثُ صَدَرَ عَنْ جَهْلٍ مَحْضٍ، فَأجابَهم بِقَوْلِهِ: ﴿اخْسَئُوا فِيها ولا تُكَلِّمُونِ﴾ فَلَمّا اخْتَلَفَ الطَّلَبُ اخْتَلَفَ الجَوابُ، ولَيْسَ كُلُّ دُعاءٍ يُسْتَجابُ، كَما لا يَخْفى عَلى أُولِي الألْبابِ، وقَوْلُهُمْ: بَقِيَ التَّمَسُّكُ بِالدَّلائِلِ اللَّفْظِيَّةِ، وهي لا تُفِيدُ اليَقِينَ فَلا تُعارِضُ الأدِلَّةَ العَقْلِيَّةَ المُفِيدَةَ لَهُ، فَيُقالُ فِيهِ: إنْ أرادُوا إنَّ هَذِهِ الأدِلَّةَ العَقْلِيَّةَ مُفِيدَةٌ لِلْيَقِينِ فَقَدْ عَلِمْتَ حالَها، وأنَّها كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ، ولَيْتَها أفادَتْ ظَنًّا، وإنْ أرادُوا مُطْلَقَ الأدِلَّةِ العَقْلِيَّةِ فَهَذِهِ لَيْسَتْ مِنها، عَلى أنَّ كَوْنَ الدَّلائِلِ اللَّفْظِيَّةِ لا تُفِيدُ اليَقِينَ إنَّما هو مَذْهَبُ المُعْتَزِلَةِ، وجُمْهُورِ الأشاعِرَةِ، والحَقُّ أنَّها قَدْ تُفِيدُ اليَقِينَ بِقَرائِنَ مُشاهَدَةٍ، أوْ مُتَواتِرَةٍ تَدُلُّ عَلى انْتِفاءِ الِاحْتِمالاتِ، ومِن صِدْقِ القائِلِ يُعْلَمُ عَدَمُ المُعارِضِ العَقْلِيِّ، فَإنَّهُ إذا تَعَيَّنَ المَعْنى وكانَ مُرادًا لَهُ، فَلَوْ كانَ هُناكَ مُعارِضٌ عَقْلِيٌّ لَزِمَ كَذِبُهُ، نَعَمْ في إفادَتِها اليَقِينَ في العَقْلِيّاتِ نَظَرٌ، لِأنَّ كَوْنَها مُفِيدَةً لِلْيَقِينِ مَبْنِيٌّ عَلى أنَّهُ هَلْ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِها والنَّظَرِ فِيها - وكَوْنِ قائِلِها صادِقًا - الجَزْمُ بِعَدَمِ المُعارِضِ العَقْلِيِّ؟ وأنَّهُ هَلْ لِلْقَرِينَةِ الَّتِي تُشاهَدُ أوْ تُنْقَلُ تَواتُرًا مَدْخَلٌ في ذَلِكَ الجَزْمِ؟ وحُصُولُ ذَلِكَ الجَزْمِ بِمُجَرَّدِها، ومَدْخَلِيَّةُ القَرِينَةِ فِيهِ مِمّا لا يُمْكِنُ الجَزْمُ بِأحَدِ طَرَفَيْهِ، الإثْباتِ والنَّفْيِ، فَلا جَرَمَ كانَتْ إفادَتُها اليَقِينَ في العَقْلِيّاتِ مَحَلَّ نَظَرٍ وتَأمُّلٍ، فَإنْ قُلْتَ: إذا كانَ صِدْقُ القائِلِ مَجْزُومًا بِهِ لَزِمَ مِنهُ الجَزْمُ بِعَدَمِ المُعارِضِ في العَقْلِيّاتِ، كَما لَزِمَ مِنهُ في الشَّرْعِيّاتِ، وإلّا احْتَمَلَ كَلامُهُ الكَذِبَ فِيهِما، فَلا فَرْقَ بَيْنَهُما.
قُلْتُ: أجابَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ بِأنَّ المُرادَ بِالشَّرْعِيّاتِ أُمُورٌ يَجْزِمُ العَقْلُ بِإمْكانِها ثُبُوتًا وانْتِفاءً، ولا طَرِيقَ إلَيْها، وبِالعَقْلِيّاتِ ما لَيْسَ كَذَلِكَ، وحِينَئِذٍ جازَ أنْ يَكُونَ مِنَ المُمْتَنِعاتِ، فَلِأجْلِ هَذا الِاحْتِمالِ رُبَّما لَمْ يَحْصُلِ الجَزْمُ بِعَدَمِ المُعارِضِ العَقْلِيِّ لِلدَّلِيلِ النَّقْلِيِّ في العَقْلِيّاتِ، وإنْ حَصَلَ الجَزْمُ بِهِ في الشَّرْعِيّاتِ، وذَلِكَ بِخِلافِ الأدِلَّةِ العَقْلِيَّةِ في العَقْلِيّاتِ، فَإنَّها بِمُجَرَّدِها تُفِيدُ الجَزْمَ بِعَدَمِ المُعارِضِ، لِأنَّها مُرَكَّبَةٌ مِن مُقَدِّماتٍ عُلِمَ بِالبَدِيهَةِ صِحَّتُها، أوْ عُلِمَ بِالبَدِيهَةِ لُزُومُها، مِمّا عُلِمَ صِحَّتُهُ بِالبَدِيهَةِ، وحِينَئِذٍ يَسْتَحِيلُ أنْ يُوجَدَ ما يُعارِضُها، لِأنَّ أحْكامَ البَدِيهَةِ لا تَتَعارَضُ بِحَسَبِ نَفْسِ الأمْرِ أصْلًا.
هَذا، وقالَ الفاضِلُ الرُّومِيُّ: ها هُنا بَحْثٌ مَشْهُورٌ، وهو أنَّ المَعْنى بِعَدَمِ المُعارِضِ العَقْلِيِّ في الشَّرْعِيّاتِ صِدْقُ القائِلِ، وهو قائِمٌ في العَقْلِيّاتِ أيْضًا، وما لا يَحْكُمُ العَقْلُ بِإمْكانِهِ ثُبُوتًا أوِ انْتِفاءً، لا يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ مِنَ المُمْتَنِعاتِ لِجَوازِ إمْكانِهِ الخافِي مِنَ العَقْلِ، فَيَنْبَغِي أنْ يُحْمَلَ كُلُّ ما عُلِمَ أنَّ الشَّرْعَ نَطَقَ بِهِ عَلى هَذا القِسْمِ، لِئَلّا يَلْزَمَ كَذِبُهُ وإبْطالُ قَطْعِ العَقْلِ بِصِدْقِهِ، فالحَقُّ أنَّ النَّقْلِيَّ يُفِيدُ القَطْعَ في العَقْلِيّاتِ أيْضًا، ولا مُخَلِّصَ إلّا بِأنْ يُقالَ المُرادُ أنَّ النَّظَرَ في الأدِلَّةِ نَفْسِها والقَرائِنِ في الشَّرْعِيّاتِ يُفِيدُ الجَزْمَ بِعَدَمِ المُعارِضِ لِأجْلِ إفادَةِ الإرادَةِ مِنَ القائِلِ الصّادِقِ جَزْمًا، وفي العَقْلِيّاتِ إفادَتُهُ الجَزْمَ بِعَدَمِهِ مَحَلُّ نَظَرٍ، بِناءً عَلى أنَّ إفادَتَهُ الإرادَةَ مُحْتَمَلَةٌ انْتَهى، وقَدْ ذَهَبَ الشَّيْخُ الأكْبَرُ قُدِّسَ سِرُّهُ إلى تَقْدِيمِ الدَّلِيلِ النَّقْلِيِّ عَلى العَقْلِيِّ، فَقالَ في البابِ الثّانِي والسَّبْعِينَ والأرْبَعِمِائَةٍ مِنَ الفُتُوحاتِ:
عَلى السَّمْعِ عَوَّلْنا فَكُنّا أُولِي النُّهْى ∗∗∗ ولا عِلْمَ فِيما لا يَكُونُ عَنِ السَّمْعِ

وقالَ قُدِّسَ سِرُّهُ في البابِ الثّامِنِ والخَمْسِينَ والثَّلَثِمِائَةٍ:
كَيْفَ لِلْعَقْلِ دَلِيلٌ والَّذِي ∗∗∗ قَدْ بَناهُ العَقْلُ بِالكَشْفِ انْهَدَمْ

فَنَجاةُ النَّفْسِ في الشَّرْعِ فَلا ∗∗∗ تَكُ إنْسانًا رَأى ثُمَّ حُرِمْ

واعْتَصِمْ بِالشَّرْعِ في الكَشْفِ فَقَدْ ∗∗∗ فازَ بِالخَيْرِ عَبِيدٌ قَدْ عُصِمْ

أهْمِلِ الفِكْرَ فَلا تَحْفُلْ بِهِ ∗∗∗ واتْرُكَنَّهُ مِثْلَ لَحْمٍ في وضَمْ

إنَّ لِلْفِكْرِ مَقامًا فاعْتَضِدْ ∗∗∗ بِهِ فِيهِ تَكُ شَخْصًا قَدْ رُحِمْ

كُلُّ عِلْمٍ يَشْهَدُ الشَّرْعُ لَهُ ∗∗∗ هو عِلْمٌ فِيهِ فَلْتَعْتَصِمْ

وإذا خالَفَهُ العَقْلُ فَقُلْ ∗∗∗ طَوْرَكَ الزَمْ ما لَكم فِيهِ قَدَمْ

ويُؤَيِّدُ هَذا ما رُوِيَ عَنِ الشّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أنَّهُ قالَ: إنَّ لِلْعَقْلِ حَدًّا يَنْتَهِي إلَيْهِ، كَما أنَّ لِلْبَصَرِ حَدًّا يَنْتَهِي إلَيْهِ، وقالَ الإمامُ الغَزالِيُّ: ولا تَسْتَبْعِدْ أيُّها المُعْتَكِفُ في عالَمِ العَقْلِ أنْ يَكُونَ وراءَ العَقْلِ طَوْرٌ آخَرُ يَظْهَرُ فِيهِ ما لا يَظْهَرُ في العَقْلِ، كَما لا تَسْتَبْعِدُ أنْ يَكُونَ العَقْلُ طَوْرًا وراءَ التَّمْيِيزِ والإحْساسِ، يَنْكَشِفُ فِيهِ عَوالِمُ وعَجائِبُ يَقْصُرُ عَنْها الإحْساسُ، والتَّمْيِيزُ إلى آخِرِ ما قالَ، فَفِيما نَحْنُ فِيهِ في القُرْآنِ والسُّنَّةِ المُتَواتِرَةِ ما لا يُحْصى مِمّا يَدُلُّ عَلى الخُلُودِ في النّارِ، وفي العَذابِ دِلالَةٌ واضِحَةٌ لا خَفاءَ فِيها، فَتَأْوِيلُها كُلُّها بِمُجَرَّدِ شُبَهٍ أضْعَفُ مِن حِبالِ القَمَرِ، والعُدُولُ عَنْها إلى القَوْلِ بِنَفْيِ العَذابِ أوِ الخُلُودِ فِيهِ مِمّا لا يَنْبَغِي، لا سِيَّما في مِثْلِ هَذِهِ الأوْقاتِ الَّتِي فِيها النّاسُ كَما تَرى، عَلى أنَّ هَذِهِ التَّأْوِيلاتِ في غايَةِ السَّخافَةِ، إذْ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ حَقِيقَةُ الدُّعاءِ مِن رَبِّ الأرْضِ والسَّماءِ أمْ كَيْفَ يَكُونُ التَّعْلِيقُ بَعْدَ النَّظَرِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ﴾ أمْ كَيْفَ يُقْبَلُ أنْ يَكُونَ الإخْبارُ عَنِ الِاسْتِحْقاقِ دُونَ الوُقُوعِ عَلى ما فِيهِ في مِثْلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كُلَّما خَبَتْ زِدْناهم سَعِيرًا﴾ و﴿كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهم بَدَّلْناهم جُلُودًا غَيْرَها﴾ سُبْحانَكَ هَذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ، وأمّا ما يُنْقَلُ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ الصّالِحِ، وكَذا عَنْ حَضْرَةِ مَوْلانا الشَّيْخِ الأكْبَرِ، ومَن حَذا حَذْوَهُ مِنَ السّادَةِ الصُّوفِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم مِنَ القَوْلِ بِعَدَمِ الخُلُودِ فَذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلى مَشْرَبٍ آخَرَ، وتَجَلٍّ لَمْ يَنْكَشِفْ لَنا، والكَثِيرُ مِنهم قَدْ بَنى كَلامَهُ عَلى اصْطِلاحاتٍ، ورُمُوزٍ، وإشاراتٍ، قَدْ حالَ بَيْنَنا وبَيْنَ فَهْمِها العَوائِقُ الدُّنْيَوِيَّةُ، والعَلائِقُ النَّفْسانِيَّةُ، ولَعَلَّ قَوْلَ مَن قالَ بِعَدَمِ الخُلُودِ مِمَّنْ لَمْ يَسَلُكْ مَسْلَكَ أهْلِ السُّلُوكِ مَبْنِيٌّ عَلى عَدَمِ خُلُودِ طائِفَةٍ مِن أهْلِ النّارِ، وهُمُ العُصاةُ بِما دُونَ الكُفْرِ، وإنْ وقَعَ إطْلاقُ الكُفْرِ عَلَيْهِمْ حُمِلَ عَلى مَعْنًى آخَرَ، كَما حُمِلَ عَلى رَأْيٍ في قَوْلِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «(مَن تَرَكَ الصَّلاةَ فَقَدْ كَفَرَ)،» عَلى أنَّ الشَّيْخَ قُدِّسَ سِرُّهُ، كَمْ وكَمْ صَرَّحَ في كُتُبِهِ بِالخُلُودِ، فَقالَ في عَقِيدَتِهِ الصُّغْرى: أوَّلَ الفُتُوحاتِ: والتَّأْبِيدُ لِأهْلِ النّارِ في النّارِ حَقٌّ، وفي البابِ الرّابِعِ والسِّتِّينَ في بَحْثِ ذَبْحِ المَوْتِ ونِداءِ المُنادِي: «(يا أهْلَ النّارِ خُلُودٌ ولا خُرُوجَ)،» ما نَصُّهُ: ويَغْتَمُّ أهْلُ النّارِ أشَدَّ الغَمِّ، لِذَلِكَ ثُمَّ تُغْلَقُ أبْوابُ النّارِ غَلْقًا لا فَتْحَ بَعْدَهُ، وتَنْطَبِقُ النّارُ عَلى أهْلِها، ويَدْخُلُ بَعْضُهم في بَعْضٍ، لِيَعْظُمَ انْضِغاطُهم فِيها، ويَرْجِعَ أعْلاها أسْفَلَها، وأسْفَلُها أعْلاها، ويُرى النّاسُ والجِنُّ فِيها مِثْلَ قِطَعِ اللَّحْمِ في القِدْرِ الَّتِي تَحْتَها النّارُ العَظِيمَةُ تَغْلِي كَغَلْيِ الحَمِيمِ، فَتَدُورُ في الخَلْقِ عُلُوًّا وسُفْلًا، ﴿كُلَّما خَبَتْ زِدْناهم سَعِيرًا﴾ وذَكَرَ الشَّيْخُ عَبْدُ الكَرِيمِ الجِيلِيُّ في كِتابِهِ المُسَمّى بِالإنْسانِ الكَبِيرِ، وفي شَرْحٍ لِبابِ الأسْرارِ مِنَ الفُتُوحاتِ: إنَّ مُرادَ القَوْمِ بِأنَّ أهْلَ النّارِ يَخْرُجُونَ مِنها هم عُصاةُ المُوَحِّدِينَ، لا الكُفّارُ، وقالَ: إيّاكَ أنْ تَحْمِلَ كَلامَ الشَّيْخِ مُحْيِي الدِّينِ أوْ غَيْرِهِ مِنَ الصُّوفِيَّةِ في قَوْلِهِمْ بِانْتِهاءِ مُدَّةِ أهْلِ النّارِ مِنَ العُصاةِ عَلى الكُفّارِ، فَإنَّ ذَلِكَ كَذِبٌ وخَطَأٌ، وإذا احْتَمَلَ الكَلامُ وجْهًا صَحِيحًا، وجَبَ المَصِيرُ إلَيْهِ، انْتَهى، نَعَمْ، قالَ قُدِّسَ سِرُّهُ في تَفْسِيرِ الفاتِحَةِ مِنَ الفُتُوحاتِ: فَإذا وقَعَ الجِدارُ، وانْهَدَمَ الصُّورُ وامْتَزَجَتِ الأنْهارُ والتَقى البَحْرانِ، وعُدِمَ البَرْزَخُ صارَ العَذابُ نَعِيمًا، وجَهَنَّمُ جَنَّةً ولا عَذابَ، ولا عِقابَ، إلّا نَعِيمٌ وأمانٌ بِمُشاهَدَةِ العِيانِ إلَخْ، وهَذا وأمْثالُهُ مَحْمُولٌ عَلى مَعْنًى صَحِيحٍ، يَعْرِفُهُ أهْلُ الذَّوْقِ لا يُنافِي ما ورَدَتْ بِهِ القَواطِعُ، وقُصارى ما يَخْطُرُ لِأمْثالِنا فِيهِ أنَّهُ مَحْمُولٌ عَلى مَسْكَنِ عُصاةِ هَذِهِ الأُمَّةِ مِنَ النّارِ، وفِيهِ يَضَعُ الجَبّارُ قَدَّمَهُ، ويَتَجَلّى بِصِفَةِ القَهْرِ عَلى النّارِ، فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ، ولا تُطِيقُ تَجَلِّيهِ، فَتَخْمُدُ، ولا بُعْدَ أنْ تَلْحَقَ بَعْدُ بِالجَنَّةِ، وإيّاكَ أنْ تَقُولَ بِظاهِرِهِ، مَعَ ما أنْتَ عَلَيْهِ، وكُلَّما وجَدْتَ مِثْلَ هَذا لِأحَدٍ مِن أهْلِ اللَّهِ تَعالى فَسَلِّمْهُ لَهم بِالمَعْنى الَّذِي أرادُوهُ مِمّا لا تَعْلَمُهُ أنْتَ، ولا أنا، لا بِالمَعْنى الَّذِي يَنْقَدِحُ في عَقْلِكَ المَشُوبِ بِالأوْهامِ، فالأمْرُ واللَّهِ وراءَ ذَلِكَ، والأخْذُ بِظَواهِرِ هَذِهِ العِباراتِ النّافِيَةِ لِلْخُلُودِ في العَذابِ، وتَأْوِيلُ النُّصُوصِ الدّالَّةِ عَلى الخُلُودِ في النّارِ بِأنْ يُقالَ الخُلُودُ فِيها لا يَسْتَلْزِمُ الخُلُودَ في العَذابِ، لِجَوازِ التَّنَعُّمِ فِيها، وانْقِلابِ العَذابِ عُذُوبَةً مِمّا يَجُرُّ إلى نَفْيِ الأحْكامِ الشَّرْعِيَّةِ، وتَعْطِيلِ النُّبُوّاتِ، وفَتْحِ بابٍ لا يُسَدُّ، وإنْ سَوَّلَتْ نَفْسُكَ لَكَ ذَلِكَ قَلَّبْنا البَحْثَ مَعَكَ، ولَنَأْتِيَنَّكَ بِجُنُودٍ مِنَ الأدِلَّةِ لا قِبَلَ لَكَ بِها، وما النَّصْرُ إلّا مِن عِنْدِ اللَّهِ، وكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ، ولا يُوقِعَنَّكَ في الوَهْمِ أنَّ الخُلُودَ مُسْتَلْزِمٌ لِتَناهِي التَّجَلِّياتِ، فاللَّهُ تَعالى هو اللَّهُ وكُلَّ يَوْمٍ هو في شَأْنٍ، فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وكُنْ مِنَ الشّاكِرِينَ، ولا أظُنُّكَ تَجِدُ هَذا التَّحْقِيقَ مِن غَيْرِنا، والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ.


مفاتيح الغيب — فخر الدين الرازي (٦٠٦ هـ)

﴿خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَعَلَىٰ سَمۡعِهِمۡۖ وَعَلَىٰۤ أَبۡصَـٰرِهِمۡ غِشَـٰوَةࣱۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِیمࣱ﴾ [البقرة ٧]

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وعَلى سَمْعِهِمْ وعَلى أبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ ولَهم عَذابٌ عَظِيمٌ﴾
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ في الآيَةِ الأُولى أنَّهم لا يُؤْمِنُونَ أخْبَرَ في هَذِهِ الآيَةِ بِالسَّبَبِ الَّذِي لِأجْلِهِ لَمْ يُؤْمِنُوا، وهو الخَتْمُ، والكَلامُ هَهُنا يَقَعُ في مَسائِلَ:
(المَسْألَةُ الأُولى): الخَتْمُ والكَتْمُ أخَوانِ؛ لِأنَّ في الِاسْتِيثاقِ مِنَ الشَّيْءِ بِضَرْبِ الخاتَمِ عَلَيْهِ كَتْمًا لَهُ وتَغْطِيَةً، لِئَلّا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ أوْ يُطَّلَعُ عَلَيْهِ، والغِشاوَةُ الغِطاءُ فِعالَةٌ مَن غَشّاهُ إذا غَطّاهُ، وهَذا البِناءُ لِما يَشْتَمِلُ عَلى الشَّيْءِ كالعِصابَةِ والعِمامَةِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اخْتَلَفَ النّاسُ في هَذا الخَتْمِ، أمّا القائِلُونَ بِأنَّ أفْعالَ العِبادِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعالى فَهَذا الكَلامُ عَلى مَذْهَبِهِمْ ظاهِرٌ، ثُمَّ لَهم قَوْلانِ، مِنهم مَن قالَ: الخَتْمُ هو خَلْقُ الكُفْرِ في قُلُوبِ الكُفّارِ، ومِنهم مَن قالَ: هو خَلْقُ الدّاعِيَةِ الَّتِي إذا انْضَمَّتْ إلى القُدْرَةِ صارَ مَجْمُوعُ القُدْرَةِ مَعَها سَبَبًا مُوجِبًا لِوُقُوعِ الكُفْرِ، وتَقْرِيرُهُ أنَّ القادِرَ عَلى الكُفْرِ إمّا أنْ يَكُونَ قادِرًا عَلى تَرْكِهِ أوْ لا يَكُونَ، فَإنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلى تَرْكِهِ كانَتِ القُدْرَةُ عَلى الكُفْرِ مُوجِبَةً لِلْكُفْرِ، فَخَلْقُ القُدْرَةِ عَلى الكُفْرِ يَقْتَضِي خَلْقَ الكُفْرِ، وإنْ قَدَرَ عَلى التَّرْكِ كانَتْ نِسْبَةُ تِلْكَ القُدْرَةِ إلى فِعْلِ الكُفْرِ وإلى تَرْكِهِ عَلى سَواءٍ، فَإمّا أنْ يَكُونَ صَيْرُورَتُها مَصْدَرًا لِلْفِعْلِ بَدَلًا عَنِ التَّرْكِ يَتَوَقَّفُ عَلى انْضِمامٍ مُرَجَّحٍ إلَيْها أوْ لا يَتَوَقَّفُ، فَإنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ فَقَدْ وقَعَ المُمْكِنُ لا عَنْ مُرَجَّحٍ، وتَجْوِيزُهُ يَقْتَضِي القَدْحَ في الِاسْتِدْلالِ بِالمُمْكِنِ عَلى المُؤَثِّرِ، وذَلِكَ يَقْتَضِي نَفْيَ الصّانِعِ وهو مُحالٌ، وأمّا إنْ تَوَقَّفَ عَلى المُرَجَّحِ فَذَلِكَ المُرَجَّحُ إمّا أنْ يَكُونَ مِن فِعْلِ اللَّهِ أوْ مِن فِعْلِ العَبْدِ أوْ لا مِن فِعْلِ اللَّهِ ولا مِن فِعْلِ العَبْدِ، لا جائِزَ أنْ يَكُونَ مِن فِعْلِ العَبْدِ وإلّا لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، ولا جائِزَ أنْ يَكُونَ لا بِفِعْلِ اللَّهِ ولا بِفِعْلِ العَبْدِ؛ لِأنَّهُ يَلْزَمُ حُدُوثُ شَيْءٍ لا لِمُؤَثِّرٍ، وذَلِكَ يُبْطِلُ القَوْلَ بِالصّانِعِ. فَثَبَتَ أنَّ كَوْنَ قُدْرَةِ العَبْدِ مَصْدَرًا لِلْمَقْدُورِ المُعَيَّنِ يَتَوَقَّفُ عَلى أنْ يَنْضَمَّ إلَيْها مُرَجَّحٌ هو مِن فِعْلِ اللَّهِ تَعالى. فَنَقُولُ: إذا انْضَمَّ ذَلِكَ المُرَجَّحُ إلى تِلْكَ القُدْرَةِ فَإمّا أنْ يَصِيرَ تَأْثِيرُ القُدْرَةِ في ذَلِكَ الأثَرِ واجِبًا أوْ جائِزًا أوْ مُمْتَنِعًا، والثّانِي والثّالِثُ باطِلٌ، فَتَعَيَّنَ الأوَّلُ، وإنَّما قُلْنا إنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ جائِزًا لِأنَّهُ لَوْ كانَ جائِزًا لَكانَ يَصِحُّ في العَقْلِ أنْ يَحْصُلَ مَجْمُوعُ القُدْرَةِ مَعَ ذَلِكَ المُرَجَّحِ تارَةً مَعَ ذَلِكَ الأثَرِ، وأُخْرى مُنْفَكًّا عَنْهُ، فَلْنَفْرِضْ وُقُوعَ ذَلِكَ؛ لِأنَّ كُلَّ ما كانَ جائِزًا لا يَلْزَمُ مِن فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحالٌ، فَذاكَ المَجْمُوعُ تارَةً يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الأثَرُ، وأُخْرى لا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الأثَرُ، فاخْتِصاصُ أحَدِ الوَقْتَيْنِ يَتَرَتَّبُ ذَلِكَ الأثَرُ عَلَيْهِ إمّا أنْ يَتَوَقَّفَ عَلى انْضِمامِ قَرِينَةٍ إلَيْهِ، أوْ لا يَتَوَقَّفَ، فَإنْ تَوَقَّفَ كانَ المُؤَثِّرُ هو ذَلِكَ المَجْمُوعُ مَعَ هَذِهِ القَرِينَةِ الزّائِدَةِ، لا ذَلِكَ المَجْمُوعُ، وكُنّا قَدْ فَرَضْنا أنَّ ذَلِكَ المَجْمُوعَ هو المُسْتَقِلُّ خَلْفَ هَذا، وأيْضًا فَيَعُودُ التَّقْسِيمُ في هَذا المَجْمُوعِ الثّانِي، فَإنْ تَوَقَّفَ عَلى قَيْدٍ آخَرَ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ وهو مُحالٌ، وإنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ فَحِينَئِذٍ حَصَلَ ذَلِكَ المَجْمُوعُ تارَةً بِحَيْثُ يَكُونُ مَصْدَرًا لِلْأثَرِ، وأُخْرى بِحَيْثُ لا يَكُونُ مَصْدَرًا لَهُ، مَعَ أنَّهُ لَمْ يَتَمَيَّزْ أحَدُ الوَقْتَيْنِ عَنِ الآخَرِ بِأمْرٍ ما ألْبَتَّةَ، فَيَكُونُ هَذا قَوْلًا بِتَرَجُّحِ المُمْكِنِ لا عَنْ مُرَجَّحٍ وهو مُحالٌ. فَثَبَتَ أنَّ عِنْدَ حُصُولِ ذَلِكَ المُرَجِّحِ يَسْتَحِيلُ أنْ يَكُونَ صُدُورُ ذَلِكَ الأثَرِ جائِزًا، وأمّا أنَّهُ لا يَكُونُ مُمْتَنِعًا فَظاهِرٌ، وإلّا لَكانَ مُرَجِّحُ الوُجُودِ مُرَجِّحًا لِلْعَدَمِ وهو مُحالٌ، وإذا بَطَلَ القِسْمانِ ثَبَتَ أنَّ عِنْدَ حُصُولِ مُرَجِّحِ الوُجُودِ يَكُونُ الأثَرُ واجِبَ الوُجُودِ عَنِ المَجْمُوعِ الحاصِلِ مِنَ القُدْرَةِ، ومِن ذَلِكَ المُرَجِّحِ، وإذا ثَبَتَ هَذا كانَ القَوْلُ بِالجَبْرِ لازِمًا؛ لِأنَّ قَبْلَ حُصُولِ ذَلِكَ المُرَجِّحِ كانَ صُدُورُ الفِعْلِ مُمْتَنِعًا، وبَعْدَ حُصُولِهِ يَكُونُ واجِبًا، وإذْ عَرَفْتَ هَذا كانَ خَلْقُ الدّاعِيَةِ المُوجِبَةِ لِلْكُفْرِ في القَلْبِ خَتْمًا عَلى القَلْبِ ومَنعًا لَهُ عَنْ قَبُولِ الإيمانِ؛ فَإنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِأنَّهم لا يُؤْمِنُونَ ذَكَرَ عَقِيبَهُ ما يَجْرِي مَجْرى السَّبَبِ المُوجِبِ لَهُ؛ لِأنَّ العِلْمَ بِالعِلَّةِ يُفِيدُ العِلْمَ بِالمَعْلُولِ، والعِلْمُ بِالمَعْلُولِ لا يَكْمُلُ إلّا إذا اسْتُفِيدَ مِنَ العِلْمِ بِالعِلَّةِ، فَهَذا قَوْلُ مَن أضافَ جَمِيعَ المُحْدَثاتِ إلى اللَّهِ تَعالى. وأمّا المُعْتَزِلَةُ فَقَدْ قالُوا: إنَّهُ لا يَجُوزُ إجْراءُ هَذِهِ الآيَةِ عَلى المَنعِ مِنَ الإيمانِ، واحْتَجُّوا فِيهِ بِالوُجُوهِ الَّتِي حَكَيْناها عَنْهم في الآيَةِ الأُولى، وزادُوا هَهُنا بِأنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ كَذَّبَ الكُفّارَ الَّذِينَ قالُوا: إنَّ عَلى قُلُوبِهِمْ كِنًّا وغِطاءً يَمْنَعُهم عَنِ الإيمانِ ﴿وقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ﴾ [البَقَرَةِ: ٨٨]، ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إلّا قَلِيلًا﴾ [النِّساءِ: ١٥٥]، وقالَ: ﴿فَأعْرَضَ أكْثَرُهم فَهم لا يَسْمَعُونَ﴾ ﴿وقالُوا قُلُوبُنا في أكِنَّةٍ مِمّا تَدْعُونا إلَيْهِ﴾ [فُصِّلَتْ: ٤، ٥] وهَذا كُلُّهُ عَيْبٌ وذَمٌّ مِنَ اللَّهِ تَعالى فِيما ادَّعَوْا أنَّهم مَمْنُوعُونَ عَنِ الإيمانِ، ثُمَّ قالُوا: بَلْ لا بُدَّ مِن حَمْلِ الخَتْمِ والغِشاوَةِ عَلى أُمُورٍ أُخَرَ، ثُمَّ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا:
أحَدُها: أنَّ القَوْمَ لَمّا أعْرَضُوا وتَرَكُوا الِاهْتِداءَ بِدَلائِلِ اللَّهِ تَعالى حَتّى صارَ ذَلِكَ كالإلْفِ والطَّبِيعَةِ لَهم أشْبَهَ حالُهم حالَ مَن مَنَعَ عَنِ الشَّيْءِ وصَدَّ عَنْهُ، وكَذَلِكَ هَذا في عُيُونِهِمْ حَتّى كَأنَّها مَسْدُودَةٌ لا تُبْصِرُ شَيْئًا، وكَأنَّ بِآذانِهِمْ وقْرًا حَتّى لا يَخْلُصَ إلَيْها الذِّكْرُ، وإنَّما أُضِيفَ ذَلِكَ إلى اللَّهِ تَعالى؛ لِأنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ في تَمَكُّنِها وقُوَّةِ ثَباتِها كالشَّيْءِ الخِلْقِيِّ؛ ولِهَذا قالَ تَعالى: ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ﴾ [النِّساءِ: ١٥٥] ﴿كَلّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المُطَفِّفِينَ: ١٤] ﴿فَأعْقَبَهم نِفاقًا في قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ﴾ . [التَّوْبَةِ: ٧٧] .
وثانِيها: أنَّهُ يَكْفِي في حُسْنِ الإضافَةِ أدْنى سَبَبٍ، فالشَّيْطانُ هو الخاتِمُ في الحَقِيقَةِ أوِ الكافِرُ، إلّا أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا كانَ هو الَّذِي أقْدَرَهُ أسْنَدَ إلَيْهِ الخَتْمَ كَما يُسْنَدُ الفِعْلُ إلى السَّبَبِ.
وثالِثُها: أنَّهم لَمّا أعْرَضُوا عَنِ التَّدَبُّرِ ولَمْ يُصْغُوا إلى الذِّكْرِ، وكانَ ذَلِكَ عِنْدَ إيرادِ اللَّهِ تَعالى عَلَيْهِمُ الدَّلائِلَ أُضِيفُ ما فَعَلُوا إلى اللَّهِ تَعالى؛ لِأنَّ حُدُوثَهُ إنَّما اتَّفَقَ عِنْدَ إيرادِهِ تَعالى دَلائِلَهُ عَلَيْهِمْ كَقَوْلِهِ تَعالى في سُورَةِ بَراءَةَ: ﴿فَزادَتْهم رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ﴾ [التَّوْبَةِ: ١٢٥] أيِ ازْدادُوا بِها كُفْرًا إلى كُفْرِهِمْ.
ورابِعُها: أنَّهم بَلَغُوا في الكُفْرِ إلى حَيْثُ لَمْ يَبْقَ طَرِيقٌ إلى تَحْصِيلِ الإيمانِ لَهم إلّا بِالقَسْرِ والإلْجاءِ، إلّا أنَّ اللَّهَ تَعالى ما أقَرَّهم عَلَيْهِ لِئَلّا يَبْطُلَ التَّكْلِيفُ، فَعَبَّرَ عَنْ تَرْكِ القَسْرِ والإلْجاءِ بِالخَتْمِ إشْعارًا بِأنَّهُمُ الَّذِينَ انْتَهَوْا في الكُفْرِ إلى حَيْثُ لا يَتَناهَوْنَ عَنْهُ إلّا بِالقَسْرِ، وهي الغايَةُ القُصْوى في وصْفِ لَجاجِهِمْ في الغَيِّ.
وخامِسُها: أنْ يَكُونَ ذَلِكَ حِكايَةً لِما كانَ الكَفَرَةُ يَقُولُونَهُ تَهَكُّمًا بِهِ مِن قَوْلِهِمْ: ﴿قُلُوبُنا في أكِنَّةٍ مِمّا تَدْعُونا إلَيْهِ وفي آذانِنا وقْرٌ ومِن بَيْنِنا وبَيْنِكَ حِجابٌ﴾ [فُصِّلَتْ: ٥] ونَظِيرُهُ في الحِكايَةِ والتَّهَكُّمِ قَوْلُهُ: ( ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أهْلِ الكِتابِ والمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتّى تَأْتِيَهُمُ البَيِّنَةُ﴾ [البَيِّنَةِ: ١] .
وسادِسُها: الخَتْمُ عَلى قُلُوبِ الكُفّارِ مِنَ اللَّهِ تَعالى هو الشَّهادَةُ مِنهُ عَلَيْهِمْ بِأنَّهم لا يُؤْمِنُونَ، وعَلى قُلُوبِهِمْ بِأنَّها لا تَعِي الذِّكْرَ ولا تَقْبَلُ الحَقَّ، وعَلى أسْماعِهِمْ بِأنَّها لا تُصْغِي إلى الحَقِّ كَما يَقُولُ الرَّجُلُ لِصاحِبِهِ: أُرِيدُ أنْ تَخْتِمَ عَلى ما يَقُولُهُ فُلانٌ، أيْ تُصَدِّقُهُ وتَشْهَدُ بِأنَّهُ حَقٌّ، فَأخْبَرَ اللَّهُ تَعالى في الآيَةِ الأُولى بِأنَّهم لا يُؤْمِنُونَ، وأخْبَرَ في هَذِهِ الآيَةِ بِأنَّهُ قَدْ شَهِدَ بِذَلِكَ وحَفِظَهُ عَلَيْهِمْ.
وسابِعُها: قالَ بَعْضُهم: هَذِهِ الآيَةُ إنَّما جاءَتْ في قَوْمٍ مَخْصُوصِينَ مِنَ الكُفّارِ فَعَلَ اللَّهُ تَعالى بِهِمْ هَذا الخَتْمَ والطَّبْعَ في الدُّنْيا عِقابًا لَهم في العاجِلِ، كَما عَجَّلَ لِكَثِيرٍ مِنَ الكُفّارِ عُقُوباتٍ في الدُّنْيا، فَقالَ: ﴿ولَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكم في السَّبْتِ فَقُلْنا لَهم كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ﴾ [البَقَرَةِ: ٦٥] وقالَ: ﴿فَإنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ في الأرْضِ فَلا تَأْسَ عَلى القَوْمِ الفاسِقِينَ﴾ [المائِدَةِ: ٢٦] ونَحْوُ هَذا مِنَ العُقُوباتِ المُعَجَّلَةِ لِما عَلِمَ اللَّهُ تَعالى فِيها مِنَ العِبْرَةِ لِعِبادِهِ والصَّلاحِ لَهم، فَيَكُونُ هَذا مِثْلَ ما فُعِلَ بِهَؤُلاءِ مِنَ الخَتْمِ والطَّبْعِ، إلّا أنَّهم إذا صارُوا بِذَلِكَ إلى أنْ لا يَفْهَمُوا سَقَطَ عَنْهُمُ التَّكْلِيفُ كَسُقُوطِهِ عَمَّنْ مُسِخَ، وقَدْ أسْقَطَ اللَّهُ التَّكْلِيفَ عَمَّنْ يَعْقِلُ بَعْضَ العَقْلِ كَمَن قارَبَ البُلُوغَ، ولَسْنا نُنْكِرُ أنْ يَخْلُقَ اللَّهُ في قُلُوبِ الكافِرِينَ مانِعًا يَمْنَعُهم عَنِ الفَهْمِ والِاعْتِبارِ إذا عَلِمَ أنَّ ذَلِكَ أصْلَحُ لَهم كَما قَدْ يَذْهَبُ بِعُقُولِهِمْ ويُعْمِي أبْصارَهم، ولَكِنْ لا يَكُونُونَ في هَذا الحالِ مُكَلَّفِينَ.
وثامِنُها: يَجُوزُ أنْ يَجْعَلَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمُ الخَتْمَ وعَلى أبْصارِهِمُ الغِشاوَةَ مِن غَيْرِ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ حائِلًا بَيْنَهم وبَيْنَ الإيمانِ، بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ كالبَلادَةِ الَّتِي يَجِدُها الإنْسانُ في قَلْبِهِ والقَذى في عَيْنَيْهِ والطَّنِينِ في أُذُنِهِ، فَيَفْعَلُ اللَّهُ كُلَّ ذَلِكَ بِهِمْ لِيُضَيِّقَ صُدُورَهم ويُورِثَهُمُ الكَرْبَ والغَمَّ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عُقُوبَةً مانِعَةً مِنَ الإيمانِ كَما قَدْ فَعَلَ بِبَنِي إسْرائِيلَ فَتاهُوا، ثُمَّ يَكُونُ هَذا الفِعْلُ في بَعْضِ الكُفّارِ، ويَكُونُ ذَلِكَ آيَةً لِلنَّبِيِّ ﷺ ودَلالَةً لَهُ كالرِّجْزِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلى قَوْمِ فِرْعَوْنَ حَتّى اسْتَغاثُوا مِنهُ، وهَذا كُلُّهُ مُقَيَّدٌ بِما يَعْلَمُ اللَّهُ تَعالى أنَّهُ أصْلَحُ لِلْعِبادِ.
وتاسِعُها: يَجُوزُ أنْ يَفْعَلَ هَذا الخَتْمَ بِهِمْ في الآخِرَةِ كَما قَدْ أخْبَرَ أنَّهُ يُعْمِيهِمْ، قالَ: ﴿ونَحْشُرُهم يَوْمَ القِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وبُكْمًا وصُمًّا﴾ [الإسْراءِ: ٩٧] وقالَ: ﴿ونَحْشُرُ المُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا﴾ [طه: ١٠٢] وقالَ: ﴿اليَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أفْواهِهِمْ﴾ [يس: ٦٥] وقالَ: ﴿لَهم فِيها زَفِيرٌ وهم فِيها لا يَسْمَعُونَ﴾ [الأنْبِياءِ: ١٠٠] .
وعاشِرُها: ما حَكَوْهُ عَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ - وهو اخْتِيارُ أبِي عَلِيٍّ الجُبّائِيِّ والقاضِي - أنَّ المُرادَ بِذَلِكَ عَلامَةٌ وسِمَةٌ يَجْعَلُها في قَلْبِ الكُفّارِ وسَمْعِهِمْ، فَتَسْتَدِلُّ المَلائِكَةُ بِذَلِكَ عَلى أنَّهم كُفّارٌ، وعَلى أنَّهم لا يُؤْمِنُونَ أبَدًا، فَلا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ في قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ عَلامَةٌ تَعْرِفُ المَلائِكَةُ بِها كَوْنَهم مُؤْمِنِينَ عِنْدَ اللَّهِ كَما قالَ: ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإيمانَ﴾ [المُجادَلَةِ: ٢٢] وحِينَئِذٍ المَلائِكَةُ يُحِبُّونَهُ ويَسْتَغْفِرُونَ لَهُ، ويَكُونُ لِقُلُوبِ الكُفّارِ عَلامَةٌ تَعْرِفُ المَلائِكَةُ بِها كَوْنَهم مَلْعُونِينَ عِنْدَ اللَّهِ فَيُبْغِضُونَهُ ويَلْعَنُونَهُ، والفائِدَةُ في تِلْكَ العَلامَةِ إمّا مَصْلَحَةٌ عائِدَةٌ إلى المَلائِكَةِ؛ لِأنَّهم مَتى عَلِمُوا بِتِلْكَ العَلامَةِ كَوْنَهُ كافِرًا مَلْعُونًا عِنْدَ اللَّهِ تَعالى صارَ ذَلِكَ مُنَفِّرًا لَهم عَنِ الكُفْرِ. أوْ إلى المُكَلَّفِ، فَإنَّهُ إذا عَلِمَ أنَّهُ مَتى آمَنَ فَقَدْ أحَبَّهُ أهْلُ السَّماواتِ صارَ ذَلِكَ مُرَغِّبًا لَهُ في الإيمانِ، وإذا عَلِمَ أنَّهُ مَتى أقْدَمَ عَلى الكُفْرِ عَرَفَ المَلائِكَةُ مِنهُ ذَلِكَ فَيُبْغِضُونَهُ ويَلْعَنُونَهُ صارَ ذَلِكَ زاجِرًا لَهُ عَنِ الكُفْرِ. قالُوا: والخَتْمُ بِهَذا المَعْنى لا يُمْنَعُ؛ لِأنّا نَتَمَكَّنُ بَعْدَ خَتْمِ الكِتابِ أنْ نَفُكَّهُ ونَقْرَأهُ، ولِأنَّ الخَتْمَ هو بِمَنزِلَةِ أنْ يُكْتَبَ عَلى جَبِينِ الكافِرِ أنَّهُ كافِرٌ، فَإذا لَمْ يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنَ الإيمانِ فَكَذا هَذا الكافِرُ يُمْكِنُهُ أنْ يُزِيلَ تِلْكَ السِّمَةَ عَنْ قَلْبِهِ بِأنْ يَأْتِيَ بِالإيمانِ ويَتْرُكَ الكُفْرَ. قالُوا: وإنَّما خَصَّ القَلْبَ والسَّمْعَ بِذَلِكَ؛ لِأنَّ الأدِلَّةَ السَّمْعِيَّةَ لا تُسْتَفادُ إلّا مِن جِهَةِ السَّمْعِ، والأدِلَّةُ العَقْلِيَّةُ لا تُسْتَفادُ إلّا مِن جانِبِ القَلْبِ، ولِهَذا خَصَّهُما بِالذِّكْرِ.
فَإنْ قِيلَ: فَيَتَحَمَّلُونَ الغِشاوَةَ في البَصَرِ أيْضًا عَلى مَعْنى العَلامَةِ ؟ قُلْنا: لا؛ لِأنّا إنَّما حَمَلْنا ما تَقَدَّمَ عَلى السِّمَةِ والعَلامَةِ، لِأنَّ حَقِيقَةَ اللُّغَةِ تَقْتَضِي ذَلِكَ، ولا مانِعَ مِنهُ، فَوَجَبَ إثْباتُهُ. أمّا الغِشاوَةُ فَحَقِيقَتُها الغِطاءُ المانِعُ مِنَ الإبْصارِ، ومَعْلُومٌ مِن حالِ الكُفّارِ خِلافُ ذَلِكَ، فَلا بُدَّ مِن حَمْلِهِ عَلى المَجازِ، وهو تَشْبِيهُ حالِهِمْ بِحالِ مَن لا يَنْتَفِعُ بِبَصَرِهِ في بابِ الهِدايَةِ. فَهَذا مَجْمُوعُ أقْوالِ النّاسِ في هَذا المَوْضِعِ.
* * *
(المَسْألَةُ الثّالِثَةُ): الألْفاظُ الوارِدَةُ في القُرْآنِ القَرِيبَةُ مِن مَعْنى الخَتْمِ هي: الطَّبْعُ، والكِنانُ، والرَّيْنُ عَلى القَلْبِ، والوَقْرُ في الآذانِ، والغِشاوَةُ في البَصَرِ، ثُمَّ الآياتُ الوارِدَةُ في ذَلِكَ مُخْتَلِفَةٌ، فالقِسْمُ الأوَّلُ: ورَدَتْ دَلالَةٌ عَلى حُصُولِ هَذِهِ الأشْياءِ، قالَ: ﴿كَلّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ﴾ [المُطَفِّفِينَ: ١٤] ﴿وجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أكِنَّةً أنْ يَفْقَهُوهُ وفي آذانِهِمْ وقْرًا﴾ [الأنْعامِ: ٢٥] ﴿وطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ﴾ [التَّوْبَةِ: ٨٧] ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ﴾ [النِّساءِ: ١٥٥] ﴿فَأعْرَضَ أكْثَرُهم فَهم لا يَسْمَعُونَ﴾ [فُصِّلَتْ: ٤] ﴿لِيُنْذِرَ مَن كانَ حَيًّا﴾ [يس: ٧٠] ﴿إنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتى ولا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ﴾ [الرُّومِ: ٥٢] ﴿أمْواتٌ غَيْرُ أحْياءٍ﴾ [النَّحْلِ: ٢١] ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ [البَقَرَةِ: ١٠] .
والقِسْمُ الثّانِي: ورَدَتْ دَلالَةٌ عَلى أنَّهُ لا مانِعَ البَتَّةَ ﴿وما مَنَعَ النّاسَ أنْ يُؤْمِنُوا﴾ [الإسْراءِ: ٩٤] ﴿فَمَن شاءَ فَلْيُؤْمِن ومَن شاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكَهْفِ: ٢٩] ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلّا وُسْعَها﴾ [البَقَرَةِ: ٢٨٦] ﴿وما جَعَلَ عَلَيْكم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ﴾ [الحَجِّ: ٧٨] ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ﴾ [البَقَرَةِ: ٢٨] ﴿لِمَ تَلْبِسُونَ الحَقَّ بِالباطِلِ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ٧١] والقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِن هَذَيْنِ القِسْمَيْنِ، وصارَ كُلُّ قِسْمٍ مِنهُما مُتَمَسَّكًا لِطائِفَةٍ، فَصارَتِ الدَّلائِلُ السَّمْعِيَّةُ لِكَوْنِها مِنَ الطَّرَفَيْنِ واقِعَةً في حَيِّزِ التَّعارُضِ، أمّا الدَّلائِلُ العَقْلِيَّةُ فَهي الَّتِي سَبَقَتِ الإشارَةُ إلَيْها، وبِالجُمْلَةِ فَهَذِهِ المَسْألَةُ مِن أعْظَمِ المَسائِلِ الإسْلامِيَّةِ وأكْثَرِها شَعَبًا وأشَدِّها شَغَبًا، ويُحْكى أنَّ الإمامَ أبا القاسِمِ الأنْصارِيَّ سُئِلَ عَنْ تَكْفِيرِ المُعْتَزِلَةِ في هَذِهِ المَسْألَةِ، فَقالَ: لا؛ لِأنَّهم نَزَّهُوهُ، فَسُئِلَ عَنْ أهْلِ السُّنَّةِ، فَقالَ: لا، لِأنَّهم عَظَّمُوهُ، والمَعْنى أنَّ كِلا الفَرِيقَيْنِ ما طَلَبَ إلّا إثْباتَ جَلالِ اللَّهِ وعُلُوِّ كِبْرِيائِهِ، إلّا أنَّ أهْلَ السُّنَّةِ وقَعَ نَظَرُهم عَلى العَظَمَةِ، فَقالُوا: يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ هو المُوجِدَ ولا مُوجِدَ سِواهُ، والمُعْتَزِلَةُ وقَعَ نَظَرُهم عَلى الحِكْمَةِ، فَقالُوا: لا يَلِيقُ بِجَلالِ حَضَرْتِهِ هَذِهِ القَبائِحُ، وأقُولُ: هَهُنا سِرٌّ آخَرُ، وهو أنَّ إثْباتَ الإلَهِ يُلْجِئُ إلى القَوْلِ بِالجَبْرِ، لِأنَّ الفاعِلِيَّةَ لَوْ لَمْ تَتَوَقَّفْ عَلى الدّاعِيَةِ لَزِمَ وُقُوعُ المُمْكِنِ مِن غَيْرِ مُرَجِّحٍ، وهو نَفْيُ الصّانِعِ، ولَوْ تَوَقَّفَتْ لَزِمَ الجَبْرُ. وإثْباتُ الرَّسُولِ يُلْجِئُ إلى القَوْلِ بِالقُدْرَةِ. بَلْ هَهُنا سِرٌّ آخَرُ، هو فَوْقَ الكُلِّ، وهو أنّا لَمّا رَجَعْنا إلى الفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ والعَقْلِ الأوَّلِ وجَدْنا أنَّ ما اسْتَوى الوُجُودُ والعَدَمُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ لا يَتَرَجَّحُ أحَدُهُما عَلى الآخَرِ إلّا لِمُرَجِّحٍ، وهَذا يَقْتَضِي الجَبْرَ، ونَجِدُ أيْضًا تَفْرِقَةً بَدِيهِيَّةً بَيْنَ الحَرَكاتِ الِاخْتِيارِيَّةِ والحَرَكاتِ الِاضْطِرارِيَّةِ، وجَزْمًا بَدِيهِيًّا بِحُسْنِ المَدْحِ وقُبْحِ الذَّمِّ والأمْرِ والنَّهْيِ، وذَلِكَ يَقْتَضِي مَذْهَبَ المُعْتَزِلَةِ، فَكَأنَّ هَذِهِ المَسْألَةَ وقَعَتْ في حَيِّزِ التَّعارُضِ بِحَسَبِ العُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ، وبِحَسَبِ العُلُومِ النَّظَرِيَّةِ، وبِحَسَبِ تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعالى نَظَرًا إلى قُدْرَتِهِ وحِكْمَتِهِ، وبِحَسَبِ التَّوْحِيدِ والتَّنْزِيهِ، وبِحَسَبِ الدَّلائِلِ السَّمْعِيَّةِ، فَلِهَذِهِ المَآخِذِ الَّتِي شَرَحْناها والأسْرارِ الَّتِي كَشَفْنا عَنْ حَقائِقِها صَعُبَتِ المَسْألَةُ وغَمُضَتْ وعَظُمَتْ، فَنَسْألُ اللَّهَ العَظِيمَ أنْ يُوَفِّقَنا لِلْحَقِّ، وأنْ يَخْتِمَ عاقِبَتَنا بِالخَيْرِ آمِينَ رَبَّ العالَمِينَ.
* * *
(المَسْألَةُ الرّابِعَةُ): قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: اللَّفْظُ يَحْتَمِلُ أنْ تَكُونَ الأسْماعُ داخِلَةً في حُكْمِ الخَتْمِ، وفي حُكْمِ التَّغْشِيَةِ، إلّا أنَّ الأوْلى دُخُولُها في حُكْمِ الخَتْمِ، لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وقَلْبِهِ وجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً﴾ [الجاثِيَةِ: ٢٣] ولِوَقْفِهِمْ عَلى سَمْعِهِمْ دُونَ قُلُوبِهِمْ.
(المَسْألَةُ الخامِسَةُ): الفائِدَةُ في تَكْرِيرِ الجارِّ في قَوْلِهِ: ﴿وعَلى سَمْعِهِمْ﴾ أنَّها لَمّا أُعِيدَتْ لِلْأسْماعِ كانَ أدَلَّ عَلى شِدَّةِ الخَتْمِ في المَوْضِعَيْنِ.
(المَسْألَةُ السّادِسَةُ): إنَّما جَمَعَ القُلُوبَ والأبْصارَ ووَحَّدَ السَّمْعَ لِوُجُوهٍ:
أحَدُها: أنَّهُ وحَّدَ السَّمْعَ؛ لِأنَّ لِكُلِّ واحِدٍ مِنهم سَمْعًا واحِدًا، كَما يُقالُ: أتانِي بِرَأْسِ الكَبْشَيْنِ، يَعْنِي رَأْسَ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما، كَما وحَّدَ البَطْنَ في قَوْلِهِ: ”
كُلُوا في بَعْضِ بَطْنِكُمُو تَعِيشُوا

“ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ إذا أمِنُوا اللَّبْسَ، فَإذا لَمْ يُؤْمَن كَقَوْلِكَ: فَرَسُهم وثَوْبُهم، وأنْتَ تُرِيدُ الجَمْعَ، رَفَضُوهُ.
الثّانِي: أنَّ السَّمْعَ مَصْدَرٌ في أصْلِهِ، والمَصادِرُ لا تُجْمَعُ، يُقالُ: رَجُلانِ صَوْمٌ، ورِجالُ صَوْمٌ، فَرُوعِيَ الأصْلُ، يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ جَمْعُ الأُذُنِ في قَوْلِهِ: ﴿وفِي آذانِنا وقْرٌ﴾ [فُصِّلَتْ: ٥] .
الثّالِثُ: أنْ نُقَدِّرَ مُضافًا مَحْذُوفًا أيْ وعَلى حَواسِّ سَمْعِهِمْ.
الرّابِعُ: قالَ سِيبَوَيْهِ: إنَّهُ وحَّدَ لَفْظَ السَّمْعِ إلّا أنَّهُ ذَكَرَ ما قَبْلَهُ وما بَعْدَهُ بِلَفْظِ الجَمْعِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ مِنهُ الجَمْعُ أيْضًا، قالَ تَعالى: ﴿يُخْرِجُهم مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ﴾ [المائِدَةِ: ١٦] ﴿عَنِ اليَمِينِ وعَنِ الشِّمالِ﴾ [المَعارِجِ: ٣٧] قالَ الرّاعِي:
بِها جِيَفُ الحَسْرى فَأمّا عِظامُها ∗∗∗ فَبِيضٌ وأمّا جِلْدُها فَصَلِيبُ

وإنَّما أرادَ جُلُودَها، وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ [وعَلى أسْماعِهِمْ] .
* * *
(المَسْألَةُ السّابِعَةُ): مِنَ النّاسِ مَن قالَ: السَّمْعُ أفْضَلُ مِنَ البَصَرِ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى حَيْثُ ذَكَرَهُما قَدَّمَ السَّمْعَ عَلى البَصَرِ، والتَّقْدِيمُ دَلِيلٌ عَلى التَّفْضِيلِ، ولِأنَّ السَّمْعَ شَرْطُ النُّبُوَّةِ بِخِلافِ البَصَرِ، ولِذَلِكَ ما بَعَثَ رَسُولًا أصَمَّ، وقَدْ كانَ فِيهِمْ مَن كانَ مُبْتَلًى بِالعَمى، ولِأنَّ بِالسَّمْعِ تَصِلُ نَتائِجُ عُقُولِ البَعْضِ إلى البَعْضِ، فالسَّمْعُ كَأنَّهُ سَبَبٌ لِاسْتِكْمالِ العَقْلِ بِالمَعارِفِ، والبَصَرُ لا يُوقِفُكَ إلّا عَلى المَحْسُوساتِ، ولِأنَّ السَّمْعَ مُتَصَرِّفٌ في الجِهاتِ السِّتِّ بِخِلافِ البَصَرِ، ولِأنَّ السَّمْعَ مَتّى بَطَلَ بَطَلَ النُّطْقُ، والبَصَرُ إذا بَطَلَ لَمْ يَبْطُلِ النُّطْقُ. ومِنهم مَن قَدَّمَ البَصَرَ؛ لِأنَّ آلَةَ القُوَّةِ الباصِرَةِ أشْرَفُ، ولِأنَّ مُتَعَلِّقَ القُوَّةِ الباصِرَةِ هو النُّورُ، ومُتَعَلِّقَ القُوَّةِ السّامِعَةِ الرِّيحُ.
المَسْألَةُ الثّامِنَةُ: قَوْلُهُ: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ مَحَلَّ العِلْمِ هو القَلْبُ. واسْتَقْصَيْنا بَيانَهُ في قَوْلِهِ: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ﴾ ﴿عَلى قَلْبِكَ﴾ [الشُّعَراءِ: ١٩٣] في سُورَةِ الشُّعَراءِ.
(المَسْألَةُ التّاسِعَةُ): قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: البَصَرُ نُورُ العَيْنِ، وهو ما يُبْصِرُ بِهِ الرّائِي ويُدْرِكُ المَرْئِيّاتِ، كَما أنَّ البَصِيرَةَ نُورُ القَلْبِ، وهو ما يَسْتَبْصِرُ بِهِ ويَتَأمَّلُ، فَكَأنَّهُما جَوْهَرانِ لَطِيفانِ خَلَقَ اللَّهُ تَعالى فِيهِما آلَتَيْنِ لِلْأبْصارِ والِاسْتِبْصارِ، أقُولُ: إنَّ أصْحابَهُ مِنَ المُعْتَزِلَةِ لا يَرْضَوْنَ مِنهُ بِهَذا الكَلامِ: وتَحْقِيقُ القَوْلِ في الإبْصارِ يَسْتَدْعِي أبْحاثًا غامِضَةً لا تَلِيقُ بِهَذا المَوْضِعِ.
(المَسْألَةُ العاشِرَةُ): قُرِئَ (غِشاوَةً) بِالكَسْرِ والنَّصْبِ، وغُشاوَةٌ بِالضَّمِّ والرَّفْعِ، وغَشاوَةً بِالفَتْحِ والنَّصْبِ، وغِشْوَةٌ بِالكَسْرِ والرَّفْعِ، وغَشْوَةٌ بِالفَتْحِ والرَّفْعِ والنَّصْبِ، وعَشاوَةٌ بِالعَيْنِ غَيْرِ المُعْجَمَةِ والرَّفْعِ مِنَ العَشا، والغِشاوَةُ هي الغِطاءُ، ومِنهُ الغاشِيَةُ، ومِنهُ غُشِيَ عَلَيْهِ إذا زالَ عَقْلُهُ والغَشَيانُ كِنايَةٌ عَنِ الجِماعِ.
(المَسْألَةُ الحادِيَةَ عَشْرَةَ): العَذابُ مِثْلُ النَّكالِ بِناءً ومَعْنًى؛ لِأنَّكَ تَقُولُ أعْذَبَ عَنِ الشَّيْءِ إذا أمْسَكَ عَنْهُ، كَما تَقُولُ نَكَلَ عَنْهُ، ومِنهُ العَذْبُ، لِأنَّهُ يَقْمَعُ العَطَشَ ويَرْدَعُهُ بِخِلافِ المِلْحُ فَإنَّهُ يَزِيدُهُ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ تَسْمِيَتُهم إيّاهُ نُقاخًا، لِأنَّهُ يَنْقَخُ العَطَشَ أيْ يَكْسِرُهُ، وفُراتًا لِأنَّهُ يَرْفُتُهُ عَنِ القَلْبِ، ثُمَّ اتُّسِعَ فِيهِ فَسُمِّيَ كُلُّ ألَمٍ فادِحٍ عَذابًا وإنْ لَمْ يَكُنْ نَكالًا أيْ عِقابًا يَرْتَدِعُ بِهِ الجانِي عَنِ المُعاوَدَةِ، والفَرْقُ بَيْنَ العَظِيمِ الكَبِيرِ: أنَّ العَظِيمَ نَقِيضُ الحَقِيرِ، والكَبِيرَ نَقِيضُ الصَّغِيرِ، فَكَأنَّ العَظِيمَ فَوْقَ الكَبِيرِ، كَما أنَّ الحَقِيرَ دُونَ الصَّغِيرِ، ويُسْتَعْمَلانِ في الجُثَثِ والأحْداثِ جَمِيعًا، تَقُولُ: رَجُلٌ عَظِيمٌ وكَبِيرٌ تُرِيدُ جُثَّتَهُ أوْ خَطَرَهُ، ومَعْنى التَّنْكِيرِ أنَّ عَلى أبْصارِهِمْ نَوْعًا مِنَ الأغْطِيَةِ غَيْرَ ما يَتَعارَفُهُ النّاسُ، وهو غِطاءُ التَّعامِي عَنْ آياتِ اللَّهِ، ولَهم مِن بَيْنِ الآلامِ العِظامِ نَوْعٌ عَظِيمٌ لا يَعْلَمُ كُنْهَهُ إلّا اللَّهُ تَعالى.
* * *
(المَسْألَةُ الثّانِيَةَ عَشْرَةَ): اتَّفَقَ المُسْلِمُونَ عَلى أنَّهُ يَحْسُنُ مِنَ اللَّهِ تَعالى تَعْذِيبُ الكُفّارِ، وقالَ بَعْضُهم: لا يَحْسُنُ وفَسَّرُوا قَوْلَهُ: ﴿ولَهم عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ [البَقَرَةِ: ٧] بِأنَّهم يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ لَكِنَّ كَرَمَهُ يُوجِبُ عَلَيْهِ العَفْوَ، ولْنَذْكُرْ هَهُنا دَلائِلَ الفَرِيقَيْنِ، أمّا الَّذِينَ لا يُجَوِّزُونَ التَّعْذِيبَ فَقَدْ تَمَسَّكُوا بِأُمُورٍ:
أحَدُها: أنَّ ذَلِكَ التَّعْذِيبَ ضَرَرٌ خالٍ عَنْ جِهاتِ المَنفَعَةِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ قَبِيحًا، أمّا أنَّهُ ضَرَرٌ فَلا شَكَّ، وأمّا أنَّهُ خالٍ عَنْ جِهاتِ المَنفَعَةِ؛ فَلِأنَّ تِلْكَ المَنفَعَةَ إمّا أنْ تَكُونَ عائِدَةً إلى اللَّهِ تَعالى، أوْ إلى غَيْرِهِ، والأوَّلُ باطِلٌ؛ لِأنَّهُ سُبْحانَهُ مُتَعالٍ عَنِ النَّفْعِ والضَّرَرِ بِخِلافِ الواحِدِ مِنّا في الشّاهِدِ، فَإنَّ عَبْدَهُ إذا أساءَ إلَيْهِ أدَّبَهُ؛ لِأنَّهُ يَسْتَلِذُّ بِذَلِكَ التَّأْدِيبِ لِما كانَ في قَلْبِهِ مِن حُبِّ الِانْتِقامِ؛ ولِأنَّهُ إذا أدَّبَهُ فَإنَّهُ يَنْزَجِرُ بَعْدَ ذَلِكَ عَمّا يَضُرُّهُ.
والثّانِي أيْضًا باطِلٌ؛ لِأنَّ تِلْكَ المَنفَعَةَ إمّا أنْ تَكُونَ عائِدَةً إلى المُعَذَّبِ أوْ إلى غَيْرِهِ أمّا إلى المُعَذَّبِ فَهو مُحالٌ؛ لِأنَّ الإضْرارَ لا يَكُونُ عَيْنَ الِانْتِفاعِ، وأمّا إلى غَيْرِهِ فَمُحالٌ؛ لِأنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ أوْلى بِالرِّعايَةِ مِن إيصالِ النَّفْعِ، فَإيصالُ الضَّرَرِ إلى شَخْصٍ لِغَرَضِ إيصالِ النَّفْعِ إلى شَخْصٍ آخَرَ تَرْجِيحٌ لِلْمَرْجُوحِ عَلى الرّاجِحِ، وهو باطِلٌ وأيْضًا فَلا مَنفَعَةَ يُرِيدُ اللَّهُ تَعالى إيصالَها إلى أحَدٍ إلّا وهو قادِرٌ عَلى ذَلِكَ الِاتِّصالِ مِن غَيْرِ تَوْسِيطِ الإضْرارِ بِالغَيْرِ، فَيَكُونُ تَوْسِيطُ ذَلِكَ الإضْرارِ عَدِيمَ الفائِدَةِ، فَثَبَتَ أنَّ التَّعْذِيبَ ضَرَرٌ خالٍ عَنْ جَمِيعِ جِهاتِ المَنفَعَةِ وأنَّهُ مَعْلُومُ القُبْحِ بِبَدِيهَةِ العَقْلِ، بَلْ قُبْحُهُ أجْلى في العُقُولِ مِن قُبْحِ الكَذِبِ الَّذِي لا يَكُونُ ضارًّا، والجَهْلُ الَّذِي لا يَكُونُ ضارًّا، بَلْ مِن قُبْحِ الكَذِبِ الضّارِّ والجَهْلِ الضّارِّ؛ لِأنَّ ذَلِكَ الكَذِبَ الضّارَّ وسِيلَةٌ إلى الضَّرَرِ، وقُبْحُ ما يَكُونُ وسِيلَةً إلى الضَّرَرِ دُونَ قَبِيحِ نَفْسِ الضَّرَرِ، وإذا ثَبَتَ قُبْحُهُ امْتَنَعَ صُدُورُهُ مِنَ اللَّهِ تَعالى؛ لِأنَّهُ حَكِيمٌ والحَكِيمُ لا يَفْعَلُ القَبِيحَ.
وثانِيها: أنَّهُ تَعالى كانَ عالِمًا بِأنَّ الكافِرَ لا يُؤْمَنُ عَلى ما قالَ: ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهم لا يُؤْمِنُونَ﴾ إذا ثَبَتَ هَذا ثَبَتَ أنَّهُ مَتى كُلِّفَ الكافِرُ لَمْ يَظْهَرْ مِنهُ إلّا العِصْيانُ، فَلَوْ كانَ ذَلِكَ العِصْيانُ سَبَبًا لِلْعِقابِ لَكانَ ذَلِكَ التَّكْلِيفُ مُسْتَعْقِبًا لِاسْتِحْقاقِ العِقابِ، إمّا لِأنَّهُ تَمامُ العِلَّةِ، أوْ لِأنَّهُ شَطْرُ العِلَّةِ، وعَلى الجُمْلَةِ فَذَلِكَ التَّكْلِيفُ أمْرٌ مَتى حَصَلَ حَصَلَ عَقِيبَهُ لا مَحالَةَ العِقابُ، وما كانَ مُسْتَعْقِبًا لِلضَّرَرِ الخالِي عَنِ النَّفْعِ كانَ قَبِيحًا، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ التَّكْلِيفُ قَبِيحًا، والقَبِيحُ لا يَفْعَلُهُ الحَكِيمُ، فَلَمْ يَبْقَ هَهُنا إلّا أحَدُ أمْرَيْنِ، إمّا أنْ يُقالَ لَمْ يُوجَدْ هَذا التَّكْلِيفُ أوْ إنْ وُجِدَ لَكِنَّهُ لا يَسْتَعْقِبُ العِقابَ، وكَيْفَ كانَ فالمَقْصُودُ حاصِلٌ.
وثالِثُها: أنَّهُ تَعالى إمّا أنْ يُقالَ: خَلَقَ الخَلْقَ لِلْإنْفاعِ، أوْ لِلْإضْرارِ، أوْ لا لِلْإنْفاعِ ولا لِلْإضْرارِ، فَإنْ خَلَقَهم لِلْإنْفاعِ وجَبَ أنْ لا يُكَلِّفَهم ما يُؤَدِّي بِهِ إلى ضِدِّ مَقْصُودِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِكَوْنِهِ كَذَلِكَ، ولَمّا عَلِمَ إقْدامَهم عَلى العِصْيانِ لَوْ كَلَّفَهم كانَ التَّكْلِيفُ فِعْلًا يُؤَدِّي بِهِمْ إلى العِقابِ، فَإذا كانَ قاصِدًا لِإنْفاعِهِمْ وجَبَ أنْ لا يُكَلِّفَهم، وحَيْثُ كَلَّفَهم دَلَّ عَلى أنَّ العِصْيانَ لا يَكُونُ سَبَبًا لِاسْتِحْقاقِ العَذابِ، ولا جائِزَ أنْ يُقالَ: خَلَقَهم لا لِلْإنْفاعِ ولا لِلْإضْرارِ؛ لِأنَّ التَّرْكَ عَلى العَدَمِ يَكْفِي في ذَلِكَ؛ ولِأنَّهُ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ يَكُونُ عَبَثًا، ولا جائِزَ أنْ يُقالَ: خَلَقَهم لِلْإضْرارِ؛ لِأنَّ مِثْلَ هَذا لا يَكُونُ رَحِيمًا كَرِيمًا، وقَدْ تَطابَقَتِ العُقُولُ والشَّرائِعُ عَلى كَوْنِهِ رَحِيمًا كَرِيمًا، وعَلى أنَّهُ نِعْمَ المَوْلى ونِعْمَ النَّصِيرُ، وكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلى عَدَمِ العِقابِ.
ورابِعُها: أنَّهُ سُبْحانَهُ هو الخالِقُ لِلدَّواعِي الَّتِي تُوجِبُ المَعاصِيَ، فَيَكُونُ هو المُلْجِئَ إلَيْها فَيَقْبُحُ أنْ يُعاقِبَ عَلَيْها، إنَّما قُلْنا إنَّهُ الخالِقُ لِتِلْكَ الدَّواعِي، لَمّا بَيَّنّا أنَّ صُدُورَ الفِعْلِ عَنْ مَقْدِرَةٍ يَتَوَقَّفُ عَلى انْضِمامِ الدّاعِيَةِ الَّتِي يَخْلُقُها اللَّهُ تَعالى إلَيْها، وبَيَّنّا أنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الجَبْرَ، وتَعْذِيبُ المَجْبُورِ قَبِيحٌ في العُقُولِ، ورُبَّما قَرَّرُوا هَذا مِن وجْهٍ آخَرَ، فَقالُوا: إذا كانَتِ الأوامِرُ والنَّواهِي الشَّرْعِيَّةُ قَدْ جاءَتْ إلى شَخْصَيْنِ مِنَ النّاسِ فَقَبِلَها أحَدُهُما وخالَفَها الآخَرُ فَأُثِيبَ أحَدُهُما وعُوقِبَ الآخَرُ، فَإذا قِيلَ لِمَ قَبِلَ هَذا وخالَفَ الآخَرُ ؟ فَيُقالُ: لِأنَّ القابِلَ أحَبَّ الثَّوابَ وحَذِرَ العِقابَ فَأطاعَ، والآخَرُ لَمْ يُحِبَّ ولَمْ يَحْذَرْ فَعَصى، أوْ أنَّ هَذا أصْغى إلى مَن وعَظَهُ وفَهِمَ عَنْهُ مَقالَتَهُ فَأطاعَ، وهَذا لَمْ يُصْغِ ولَمْ يَفْهَمْ فَعَصى، فَيُقالُ: ولِمَ أصْغى هَذا وفَهِمَ ولَمْ يُصْغِ ذَلِكَ ولَمْ يَفْهَمْ ؟ فَنَقُولُ: لِأنَّ هَذا لَبِيبٌ حازِمٌ فَطِنٌ، وذَلِكَ أخْرَقُ جاهِلٌ غَبِيٌّ، فَيُقالُ: ولِمَ اخْتُصَّ هَذا بِالحَزْمِ والفِطْنَةِ دُونَ ذاكَ؟ ولا شَكَّ أنَّ الفِطْنَةَ والبَلادَةَ مِنَ الأحْوالِ الغَرِيزِيَّةِ فَإنَّ الإنْسانَ لا يَخْتارُ الغَباوَةَ والخَرَقَ ولا يَفْعَلُهُما في نَفْسِهِ فَإذا تَناهَتِ التَّعْلِيلاتُ إلى أُمُورٍ خَلَقَها اللَّهُ تَعالى اضْطِرارًا عَلِمْنا أنَّ كُلَّ هَذِهِ الأُمُورِ بِقَضاءِ اللَّهِ تَعالى ولَيْسَ يُمْكِنُكَ أنْ تُسَوِّيَ بَيْنَ الشَّخْصَيْنِ اللَّذَيْنِ أطاعَ أحَدُهُما وعَصى الآخَرُ في كُلِّ حالٍ أعْنِي في العَقْلِ والجَهْلِ، والفَطانَةِ والغَباوَةِ، والحَزْمِ والخَرَقِ، والمُعَلِّمِينَ والباعِثِينَ والزّاجِرِينَ، ولا يُمْكِنُكَ أنْ تَقُولَ إنَّهُما لَوِ اسْتَوَيا في ذَلِكَ كُلِّهِ لَما اسْتَوَيا في الطّاعَةِ والمَعْصِيَةِ، فَإذَنْ سَبَبُ الطّاعَةِ والمَعْصِيَةِ مِنَ الأشْخاصِ أُمُورٌ وقَعَتْ بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعالى وقَضائِهِ، وعِنْدَ هَذا يُقالُ: أيْنَ مِنَ العَدْلِ والرَّحْمَةِ والكَرَمِ أنْ يُخْلَقَ العاصِي عَلى ما خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الفَظاظَةِ والجَسارَةِ، والغَباوَةِ والقَساوَةِ، والطَّيْشِ والخَرَقِ، ثُمَّ يُعاقِبُهُ عَلَيْهِ؟ وهَلّا خَلَقَهُ مِثْلَ ما خَلَقَ الطّائِعَ لَبِيبًا حازِمًا عارِفًا عالِمًا، وأيْنَ مِنَ العَدْلِ أنْ يُسَخِّنَ قَلْبَهُ ويُقَوِّيَ غَضَبَهُ ويُلْهِبَ دِماغَهُ ويُكْثِرَ طَيْشَهُ ولا يَرْزُقَهُ ما رَزَقَ غَيْرَهُ مِن مُؤَدِّبٍ أدِيبٍ ومُعَلِّمٍ عالِمٍ، وواعِظٍ مُبَلِّغٍ، بَلْ يُقَيِّضُ لَهُ أضْدادَ هَؤُلاءِ في أفْعالِهِمْ وأخْلاقِهِمْ فَيَتَعَلَّمُ مِنهم، ثُمَّ يُؤاخِذُهُ بِما يُؤاخِذُ بِهِ اللَّبِيبَ الحازِمَ، والعاقِلَ العالِمَ، البارِدَ الرَّأْسِ، المُعْتَدِلَ مِزاجِ القَلْبِ، اللَّطِيفَ الرُّوحِ الَّذِي رَزَقَهُ مُرَبِّيًا شَفِيقًا، ومُعَلِّمًا كامِلًا؟ ما هَذا مِنَ العَدْلِ والرَّحْمَةِ والكَرَمِ والرَّأْفَةِ في شَيْءٍ ! فَثَبَتَ بِهَذِهِ الوُجُوهِ أنَّ القَوْلَ بِالعِقابِ عَلى خِلافِ قَضايا العُقُولِ.
وخامِسُها: أنَّهُ تَعالى إنَّما كَلَّفَنا النَّفْعَ لِعَوْدِهِ إلَيْنا؛ لِأنَّهُ قالَ: ﴿إنْ أحْسَنْتُمْ أحْسَنْتُمْ لِأنْفُسِكم وإنْ أسَأْتُمْ فَلَها﴾ [الإسْراءِ: ٧] فَإذا عَصَيْنا فَقَدْ فَوَّتْنا عَلى أنْفُسِنا تِلْكَ المَنافِعَ، فَهَلْ يَحْسُنُ في العُقُولِ أنْ يَأْخُذَ الحَكِيمُ إنْسانًا ويَقُولَ لَهُ: إنِّي أُعَذِّبُكَ العَذابَ الشَّدِيدَ؛ لِأنَّكَ فَوَّتَّ عَلى نَفْسِكَ بَعْضَ المَنافِعِ، فَإنَّهُ يُقالُ لَهُ: إنْ تَحْصِيلَ النَّفْعِ مَرْجُوحٌ بِالنِّسْبَةِ إلى دَفْعِ الضَّرَرِ، فَهَبْ أنِّي فَوَّتُّ عَلى نَفْسِي أدْوَنَ المَطْلُوبَيْنِ أفَتَفُوتُ عَلَيَّ لِأجْلِ ذَلِكَ أعْظَمُها، وهَلْ يَحْسُنُ مِنَ السَّيِّدِ أنْ يَأْخُذَ عَبْدَهُ ويَقُولَ إنَّكَ قَدَرْتَ عَلى أنْ تَكْتَسِبَ دِينارًا لِنَفْسِكَ ولِتَنْتَفِعَ بِهِ خاصَّةً مِن غَيْرِ أنْ يَكُونَ لِي فِيهِ غَرَضٌ البَتَّةَ، فَلَمّا لَمْ تَكْتَسِبْ ذَلِكَ الدِّينارَ، ولَمْ تَنْتَفِعْ بِهِ آخُذُكَ وأقْطَعُ أعْضاءَكَ إرْبًا إرْبًا، لا شَكَّ أنَّ هَذا نِهايَةُ السَّفاهَةِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِأحْكَمِ الحاكِمِينَ ؟! ثُمَّ قالُوا: هَبْ أنّا سَلَّمْنا هَذا العِقابَ فَمِن أيْنَ القَوْلُ بِالدَّوامِ ؟ وذَلِكَ لِأنَّ أقْسى النّاسِ قَلْبًا وأشَدَّهم غِلْظَةً وفَظاظَةً وبُعْدًا عَنِ الخَيْرِ إذا أخَذَ مَن بالَغَ في الإساءَةِ إلَيْهِ وعَذَّبَهُ يَوْمًا أوْ شَهْرًا أوْ سَنَةً فَإنَّهُ يَشْبَعُ مِنهُ ويَمَلُّ، فَلَوْ بَقِيَ مُواظِبًا عَلَيْهِ لامَهُ كُلُّ أحَدٍ، ويُقالُ هَبْ أنَّهُ بالَغَ هَذا في إضْرارِكَ، ولَكِنْ إلى مَتى هَذا التَّعْذِيبُ؟ فَإمّا أنْ تَقْتُلَهُ وتُرِيحَهُ، وإمّا أنْ تُخَلِّصَهُ، فَإذا قَبُحَ هَذا مِنَ الإنْسانِ الَّذِي يَلْتَذُّ بِالِانْتِقامِ، فالغَنِيُّ عَنِ الكُلِّ كَيْفَ يَلِيقُ بِهِ هَذا الدَّوامُ الَّذِي يُقالُ ؟! .
وسادِسُها: أنَّهُ سُبْحانَهُ نَهى عِبادَهُ عَنِ اسْتِيفاءِ الزِّيادَةِ، فَقالَ: ﴿فَلا يُسْرِفْ في القَتْلِ إنَّهُ كانَ مَنصُورًا﴾ [الإسْراءِ: ٣٣] وقالَ: ﴿وجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها﴾ [الشُّورى: ٤٠] ثُمَّ إنَّ العَبْدَ هَبْ أنَّهُ عَصى اللَّهَ تَعالى طُولَ عُمْرِهِ فَأيْنَ عُمْرُهُ مِنَ الأبَدِ ؟ فَيَكُونُ العِقابُ المُؤَبَّدُ ظُلْمًا.
وسابِعُها: أنَّ العَبْدَ لَوْ واظَبَ عَلى الكُفْرِ طُولَ عُمْرِهِ فَإذا تابَ ثُمَّ ماتَ عَفا اللَّهُ عَنْهُ وأجابَ دُعاءَهُ وقَبِلَ تَوْبَتَهُ، ألا تَرى أنَّ هَذا الكَرِيمَ العَظِيمَ ما بَقِيَ في الآخِرَةِ، أوْ عُقُولُ أُولَئِكَ المُعَذَّبِينَ ما بَقِيَتْ فَلِمَ لا يَتُوبُونَ عَنْ مَعاصِيهِمْ ؟ وإذا تابُوا فَلِمَ لا يَقْبَلُ اللَّهُ تَعالى مِنهم تَوْبَتَهم، ولِمَ لا يَسْمَعُ نِداءَهم، ولِمَ يُخَيِّبُ رَجاءَهُمْ؟ ولِمَ كانَ في الدُّنْيا في الرَّحْمَةِ والكَرَمِ إلى حَيْثُ قالَ: ﴿ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافِرٍ: ٦٠] ﴿أمَّنْ يُجِيبُ المُضْطَرَّ إذا دَعاهُ﴾ [النَّمْلِ: ٦٢] وفي الآخِرَةِ صارَ بِحَيْثُ كُلَّما كانَ تَضَرُّعُهم إلَيْهِ أشَدَّ فَإنَّهُ لا يُخاطِبُهم إلّا بِقَوْلِهِ: ﴿اخْسَئُوا فِيها ولا تُكَلِّمُونِ﴾ [المُؤْمِنُونَ: ١٠٨] قالُوا: فَهَذِهِ الوُجُوهُ مِمّا تُوجِبُ القَطْعَ بِعَدَمِ العِقابِ، ثُمَّ قالَ مَن آمَنَ مِن هَؤُلاءِ بِالقُرْآنِ: العُذْرُ عَمّا ورَدَ في القُرْآنِ مِن أنْواعِ العَذابِ مِن وُجُوهٍ:
أحَدُها: أنَّ التَّمَسُّكَ بِالدَّلائِلِ اللَّفْظِيَّةِ لا يُفِيدُ اليَقِينَ، والدَّلائِلُ العَقْلِيَّةُ تُفِيدُ اليَقِينَ، والمَظْنُونُ لا يُعارِضُ المَقْطُوعَ، وإنَّما قُلْنا: إنَّ الدَّلائِلَ اللَّفْظِيَّةَ لا تُفِيدُ اليَقِينَ، لِأنَّ الدَّلائِلَ اللَّفْظِيَّةَ مَبْنِيَّةٌ عَلى أُصُولٍ كُلُّها ظَنِّيَّةٌ والمَبْنِيُّ عَلى الظَّنِّيِّ ظَنِّيٌّ، وإنَّما قُلْنا إنَّها مَبْنِيَّةٌ عَلى أُصُولٍ ظَنِّيَّةٍ؛ لِأنَّها مَبْنِيَّةٌ عَلى نَقْلِ اللُّغاتِ ونَقْلِ النَّحْوِ والتَّصْرِيفِ، ورُواةُ هَذِهِ الأشْياءِ لا يُعْلَمُ بُلُوغُهم إلى حَدِّ التَّواتُرِ، فَكانَتْ رِوايَتُهم مَظْنُونَةً، وأيْضًا فَهي مَبْنِيَّةٌ عَلى عَدَمِ الِاشْتِراكِ وعَدَمِ المَجازِ وعَدَمِ التَّخْصِيصِ وعَدَمِ الإضْمارِ بِالزِّيادَةِ والنُّقْصانِ وعَدَمِ التَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ، وكُلُّ ذَلِكَ أُمُورٌ ظَنِّيَّةٌ، وأيْضًا فَهي مَبْنِيَّةٌ عَلى عَدَمِ المُعارِضِ العَقْلِيِّ، فَإنَّهُ بِتَقْدِيرِ وُجُودِهِ لا يُمْكِنُ القَوْلُ بِصِدْقِهِما ولا بِكَذِبِهِما مَعًا، ولا يُمْكِنُ تَرْجِيحُ النَّقْلِ عَلى العَقْلِ؛ لِأنَّ العَقْلَ أصْلُ النَّقْلِ، والطَّعْنُ في العَقْلِ يُوجِبُ الطَّعْنَ في العَقْلِ والنَّقْلِ مَعًا، لَكِنَّ عَدَمَ المُعارِضِ العَقْلِيِّ مَظْنُونٌ، هَذا إذا لَمْ يُوجَدْ، فَكَيْفَ وقَدْ وجَدْنا هَهُنا دَلائِلَ عَقْلِيَّةً عَلى خِلافِ هَذِهِ الظَّواهِرِ، فَثَبَتَ أنَّ دَلالَةَ هَذِهِ الدَّلائِلِ النَّقْلِيَّةِ ظَنِّيَّةٌ، وأمّا أنَّ الظَّنِّيَّ لا يُعارِضُ اليَقِينِيَّ فَلا شَكَّ فِيهِ.
وثانِيها: وهو أنَّ التَّجاوُزَ عَنِ الوَعِيدِ مُسْتَحْسَنٌ فِيما بَيْنَ النّاسِ، قالَ الشّاعِرُ:
وإنِّي إذا أوْعَدْتُهُ أوْ وعَدْتُهُ لَمُخْلِفُ إيعادِي ومُنْجِزُ مَوْعِدِي

بَلِ الإصْرارُ عَلى تَحْقِيقِ الوَعِيدِ كَأنَّهُ يُعَدُّ لُؤْمًا، وإذا كانَ كَذَلِكَ وجَبَ أنْ لا يَصْلُحَ مِنَ اللَّهِ تَعالى، وهَذا بِناءً عَلى حَرْفٍ وهو أنَّ أهْلَ السُّنَّةِ جَوَّزُوا نَسْخَ الفِعْلِ قَبْلَ مُدَّةِ الِامْتِثالِ، وحاصِلُ حُرُوفِهِمْ فِيهِ أنَّ الأمْرَ يُسَنُّ تارَةً لِحِكْمَةٍ تَنْشَأُ مِن نَفْسِ المَأْمُورِ بِهِ، وتارَةً لِحِكْمَةٍ تَنْشَأُ مِن نَفْسِ الأمْرِ، فَإنَّ السَّيِّدَ قَدْ يَقُولُ لِعَبْدِهِ افْعَلِ الفِعْلَ الفُلانِيَّ غَدًا، وإنْ كانَ يَعْلَمُ في الحالِ أنَّهُ سَيَنْهاهُ عَنْهُ غَدًا، ويَكُونُ مَقْصُودُهُ مِن ذَلِكَ الأمْرِ أنْ يُظْهِرَ العَبْدُ الِانْقِيادَ لِسَيِّدِهِ في ذَلِكَ ويُوَطِّنَ نَفْسَهُ عَلى طاعَتِهِ، فَكَذَلِكَ إذا عَلِمَ اللَّهُ مِنَ العَبْدِ أنَّهُ سَيَمُوتُ غَدًا فَإنَّهُ يَحْسُنُ عِنْدَ أهْلِ السُّنَّةِ أنْ يَقُولَ: صَلِّ غَدًا إنْ عِشْتَ، ولا يَكُونُ المَقْصُودُ مِن هَذا الأمْرِ تَحْصِيلَ المَأْمُورِ بِهِ؛ لِأنَّهُ هَهُنا مُحالٌ بَلِ المَقْصُودُ حِكْمَةٌ تَنْشَأُ مِن نَفْسِ الأمْرِ فَقَطْ، وهو حُصُولُ الِانْقِيادِ والطّاعَةِ وتَرْكُ التَّمَرُّدِ، إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ الخَبَرُ أيْضًا كَذَلِكَ ؟ فَتارَةً يَكُونُ مَنشَأُ الحِكْمَةِ مِنَ الأخْبارِ هو الشَّيْءَ المُخْبَرَ عَنْهُ وذَلِكَ في الوَعْدِ، وتارَةً يَكُونُ مَنشَأُ الحِكْمَةِ هو نَفْسَ الخَبَرِ لا المُخْبَرَ عَنْهُ كَما في الوَعِيدِ، فَإنَّ الأخْبارَ عَلى سَبِيلِ الوَعِيدِ مِمّا يُفِيدُ الزَّجْرَ عَنِ المَعاصِي والإقْدامَ عَلى الطّاعاتِ، فَإذا حَصَلَ هَذا المَقْصُودُ جازَ أنْ لا يُوجَدَ المُخْبَرُ عَنْهُ كَما في الوَعِيدِ، وعِنْدَ هَذا قالُوا: إنَّ وعْدَ اللَّهِ بِالثَّوابِ حَقٌّ لازِمٌ، وأمّا تَوَعُّدُهُ بِالعِقابِ فَغَيْرُ لازِمٍ، وإنَّما قُصِدَ بِهِ صَلاحُ المُكَلَّفِينَ مَعَ رَحْمَتِهِ الشّامِلَةِ لَهم، كالوالِدِ يُهَدِّدُ ولَدَهُ بِالقَتْلِ والسَّمْلِ والقَطْعِ والضَّرْبِ، فَإنْ قَبِلَ الوَلَدُ أمْرَهُ فَقَدِ انْتَفَعَ، وإنْ لَمْ يَفْعَلْ فَما في قَلْبِ الوالِدِ مِنَ الشَّفَقَةِ يَرُدُّهُ عَنْ قَتْلِهِ وعُقُوبَتِهِ، فَإنْ قِيلَ فَعَلى جَمِيعِ التَّقادِيرِ يَكُونُ ذَلِكَ كَذِبًا والكَذِبُ قَبِيحٌ، قُلْنا: لا نُسَلِّمُ أنَّ كُلَّ كَذِبٍ قَبِيحٌ بَلِ القَبِيحُ هو الكَذِبُ الضّارُّ، فَأمّا الكَذِبُ النّافِعُ فَلا، ثُمَّ إنْ سَلَّمْنا ذَلِكَ، لَكِنْ لا نُسَلِّمُ أنَّهُ كَذِبٌ، ألَيْسَ أنَّ جَمِيعَ عُمُوماتِ القُرْآنِ مَخْصُوصَةٌ ولا يُسَمّى ذَلِكَ كَذِبًا، ألَيْسَ أنَّ كُلَّ المُتَشابِهاتِ مَصْرُوفَةٌ عَنْ ظَواهِرِها، ولا يُسَمّى ذَلِكَ كَذِبًا فَكَذا هَهُنا.
وثالِثُها: ألَيْسَ أنَّ آياتِ الوَعِيدِ في حَقِّ العُصاةِ مَشْرُوطَةٌ بِعَدَمِ التَّوْبَةِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ هَذا الشَّرْطُ مَذْكُورًا في صَرِيحِ النَّصِّ، فَهي أيْضًا عِنْدَنا مَشْرُوطَةٌ بِعَدَمِ العَفْوِ وإنْ لَمْ يَكُنْ هَذا الشَّرْطُ مَذْكُورًا بِصَرِيحِ النَّصِّ صَرِيحًا، أوْ نَقُولُ: مَعْناهُ أنَّ العاصِيَ يَسْتَحِقُّ هَذِهِ الأنْواعَ مِنَ العِقابِ فَيُحْمَلُ الإخْبارُ عَنِ الوُقُوعِ عَلى الإخْبارِ عَنِ اسْتِحْقاقِ الوُقُوعِ فَهَذا جُمْلَةُ ما يُقالُ في تَقْرِيرِ هَذا المَذْهَبِ، وأمّا الَّذِينَ أثْبَتُوا وُقُوعَ العَذابِ، فَقالُوا إنَّهُ نُقِلَ إلَيْنا عَلى سَبِيلِ التَّواتُرِ مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وُقُوعُ العَذابِ فَإنْكارُهُ يَكُونُ تَكْذِيبًا لِلرَّسُولِ، وأمّا الشُّبَهُ الَّتِي تَمَسَّكْتُمْ بِها في نَفْيِ العِقابِ فَهي مَبْنِيَّةٌ عَلى الحُسْنِ والقُبْحِ وذَلِكَ مِمّا لا نَقُولُ بِهِ واللَّهُ أعْلَمُ.

أضواء البيان — محمد الأمين الشنقيطي (١٣٩٤ هـ)


﴿خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَعَلَىٰ سَمۡعِهِمۡۖ وَعَلَىٰۤ أَبۡصَـٰرِهِمۡ غِشَـٰوَةࣱۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِیمࣱ﴾ [البقرة ٧]
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وعَلى سَمْعِهِمْ وعَلى أبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ﴾ الآيَةَ، لا يَخْفى أنَّ الواوَ في قَوْلِهِ:
﴿وَعَلى سَمْعِهِمْ وعَلى أبْصارِهِمْ﴾ مُحْتَمِلَةٌ في الحَرْفَيْنِ أنْ تَكُونَ عاطِفَةً عَلى ما قَبْلِها، وأنْ تَكُونَ اسْتِئْنافِيَّةً، ولَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ هُنا، ولَكِنْ بَيَّنَ في مَوْضِعٍ آخَرَ أنَّ قَوْلَهُ ﴿وَعَلى سَمْعِهِمْ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ ﴿عَلى قُلُوبِهِمْ﴾، وأنَّ قَوْلَهُ ﴿وَعَلى أبْصارِهِمْ﴾ اسْتِئْنافٌ، والجارُّ والمَجْرُورُ خَبَرُ المُبْتَدَأِ الَّذِي هو ﴿غِشاوَةٌ﴾ وسَوَّغَ الِابْتِداءَ بِالنَّكِرَةِ فِيهِ اعْتِمادُها عَلى الجارِّ والمَجْرُورِ قَبْلَها، ولِذَلِكَ يَجِبُ تَقْدِيمُ هَذا الخَبَرِ؛ لِأنَّهُ هو الَّذِي سَوَّغَ الِابْتِداءَ بِالمُبْتَدَأِ كَما عَقَدَهُ في [ الخُلاصَةِ ] بِقَوْلِهِ: [ الرَّجَزُ ]
وَنَحْوَ عِنْدِي دِرْهَمٌ ولِي وطَرْ مُلْتَزَمٌ فِيهِ تَقُدُّمُ الخَبَرْ

فَتَحَصَّلَ أنَّ الخَتْمَ عَلى القُلُوبِ والأسْماعِ، وأنَّ الغِشاوَةَ عَلى الأبْصارِ، وذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أفَرَأيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَواهُ وأضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وقَلْبِهِ وجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً﴾ [الجاثية: ٢٣]، والخَتْمُ: الِاسْتِيثاقُ مِنَ الشَّيْءِ حَتّى لا يَخْرُجَ مِنهُ داخِلٌ فِيهِ ولا يَدْخُلَ فِيهِ خارِجٌ عَنْهُ، والغِشاوَةُ: الغِطاءُ عَلى العَيْنِ يَمْنَعُها مِنَ الرُّؤْيَةِ، ومِنهُ قَوْلُ الحارِثِ بْنِ خالِدِ بْنِ العاصِ: [ الطَّوِيلُ ]
هَوَيْتُكِ إذْ عَيْنِي عَلَيْها غِشاوَةٌ ∗∗∗ فَلَمّا انْجَلَتْ قَطَّعْتُ نَفَسِي ألُومُها

وَعَلى قِراءَةِ مَن نَصَبَ ”غِشاوَةٌ“ فَهي مَنصُوبَةٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ أيْ ﴿وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً﴾ [الجاثية: ٢٣]، كَما في سُورَةِ ”الجاثِيَةِ“ وهو كَقَوْلِهِ: [ الرَّجَزُ ]
عَلَفْتُها تِبْنًا وماءً بارِدًا ∗∗∗ حَتّى شَتَتْ هَمّالَةً عَيْناها

وَقَوْلِ الآخَرِ: [ مُرَفَّلُ الكامِلِ ]
وَرَأيْتُ زَوْجَكِ في الوَغى ∗∗∗ مُتَقَلِّدًا سَيْفًا ورُمْحا

وَقَوْلِ الآخَرِ: [ الوافِرُ ]
إذا ما الغانِياتُ بَرَزْنَ يَوْمًا ∗∗∗ وزَجَّجْنَ الحَواجِبَ والعَيُونا

كَما هو مَعْرُوفٌ في النَّحْوِ، وأجازَ بَعْضُهم كَوْنَهُ مَعْطُوفًا عَلى مَحَلِّ المَجْرُورِ، فَإنْ قِيلَ: قَدْ يَكُونُ الطَّبْعُ عَلى الأبْصارِ أيْضًا، كَما في قَوْلِهِ تَعالى في سُورَةِ النَّحْلِ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وسَمْعِهِمْ وأبْصارِهِمْ﴾ [ الآيَةَ ١٠٨ ] .
فالجَوابُ: أنَّ الطَّبْعَ عَلى الأبْصارِ المَذْكُورَ في آيَةِ النَّحْلِ: هو الغِشاوَةُ المَذْكُورَةُ في سُورَةِ البَقَرَةِ والجاثِيَةِ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
⁕ ⁕ ⁕
* قال المؤلف في (دفع إيهام الإضطراب عن آيات الكتاب):
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وعَلى سَمْعِهِمْ﴾ الآيَةَ.
هَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ بِظاهِرِها عَلى أنَّهم مَجْبُورُونَ لِأنَّ مَن خُتِمَ عَلى قَلْبِهِ وجُعِلَتِ الغِشاوَةُ عَلى بَصَرِهِ سُلِبَتْ مِنهُ القُدْرَةُ عَلى الإيمانِ، وقَدْ جاءَ في آياتٍ أُخَرَ ما يَدُلُّ عَلى أنَّ كُفْرَهم واقِعٌ بِمَشِيئَتِهِمْ وإرادَتِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فاسْتَحَبُّوا العَمى عَلى الهُدى﴾ [فصلت: ١٧] .
وَكَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدى والعَذابَ بِالمَغْفِرَةِ﴾ [البقرة: ١٧٥] .
وَكَقَوْلِهِ: ﴿فَمَن شاءَ فَلْيُؤْمِن ومَن شاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ الآيَةَ [الكهف: ٢٩]، وكَقَوْلِهِ ﴿ذَلِكَ بِما قَدَّمَتْ أيْدِيكُمْ﴾ الآيَةَ [آل عمران: ١٨٢] .
وَكَقَوْلِهِ: ﴿لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهم أنْفُسُهُمْ﴾ الآيَةَ [المائدة: ٨٠] .
والجَوابُ أنَّ الخَتْمَ والطَّبْعَ والغِشاوَةَ المَجْعُولَةَ عَلى أسْماعِهِمْ وأبْصارِهِمْ وقُلُوبِهِمْ، كُلُّ ذَلِكَ عِقابٌ مِنَ اللَّهِ لَهم عَلى مُبادَرَتِهِمْ لِلْكُفْرِ وتَكْذِيبِ الرُّسُلِ بِاخْتِيارِهِمْ ومَشِيئَتِهِمْ، فَعاقَبَهُمُ اللَّهُ بِعَدَمِ التَّوْفِيقِ جَزاءً وِفاقًا، كَما بَيَّنَهُ تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ﴾ [النساء: ١٥٥] .
وَقَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ بِأنَّهم آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ﴾ [المنافقون: ٣] .
وَبِقَوْلِهِ: ﴿وَنُقَلِّبُ أفْئِدَتَهم وأبْصارَهم كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الأنعام: ١١٠] .
وَقَوْلِهِ: ﴿فَلَمّا زاغُوا أزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف: ٥] .
وَقَوْلِهِ: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ الآيَةَ [البقرة: ١٠] .
وَقَوْلِهِ: ﴿بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين: ١٤]، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ.

































0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More