جامع البيان — ابن جرير الطبري (٣١٠ هـ)
﴿یُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَمَا یَخۡدَعُونَ إِلَّاۤ أَنفُسَهُمۡ وَمَا یَشۡعُرُونَ﴾ [البقرة ٩]
القول في تأويل جل ثناؤه: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾
قال أبو جعفر: وخداعُ المنافق ربَّه والمؤمنينَ، إظهارُه بلسانه من القول والتصديق، خلافَ الذي في قلبه من الشكّ والتكذيب، ليدْرَأ عن نفسه، بما أظهر بلسانه، حكمَ الله عز وجلّ - اللازمَ مَن كان بمثل حاله من التكذيب، لو لم يُظْهِرْ بلسانه ما أظهرَ من التصديق والإقرار - من القَتْل والسِّباء. فذلك خِداعُه ربَّه وأهلَ الإيمان بالله.
فإن قال قائل: وكيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مُخادِعًا، وهو لا يظهر بلسانه خلافَ ما هو له معتقدٌ إلا تَقِيَّةً؟
قيل: لا تمتنعُ العربُ من أنْ تُسمّي من أعطى بلسانه غيرَ الذي هو في ضميره تَقِيَّةً لينجو مما هو له خائف، فنجا بذلك مما خافه - مُخادِعًا لمن تخلص منه بالذي أظهر له من التَّقيّة. فكذلك المنافق، سمي مخادعًا لله وللمؤمنين، بإظهاره ما أظهر بلسانه تقيَّةً، مما تخلَّص به من القتل والسِّباء والعذاب العاجل، وهو لغير ما أظهر مستبطِنٌ. وذلك من فعلِه - وإن كان خِدَاعًا للمؤمنين في عاجل الدنيا - فهو لنفسه بذلك من فعله خادعٌ، لأنه يُظهر لها بفعله ذلك بها، أنه يُعطيها أمنيَّتها، وُيسقيها كأسَ سُرورها، وهو مُورِدُها به حِياض عَطَبها، ومجَرِّعها به كأس عَذابها، ومُزِيرُها من غَضب الله وأليم عقابه ما لا قبل لها به(١) . فذلك خديعَتُه نفسه، ظَنًّا منه - مع إساءته إليها في أمر معادها - أنه إليها محسن، كما قال جل ثناؤه:"وما يخدَعُون إلا أنفسهم ومَا يشعُرُون"، إعلامًا منه عبادَه المؤمنين أنَّ المنافقين بإساءتهم إلى أنفُسهم في إسخاطهم رَّبهم بكُفْرهم وشكِّهم وتكذيبهم - غيرُ شاعرين ولا دارين، ولكنهم على عَمْيَاء من أمرِهم مُقيمون.
وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك، كان ابن زيد يقول.
٣٢٠- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سألت عبد الرحمن بن زيد عن قوله الله جل ذكره: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ إلى آخر الآية، قال: هؤلاء المنافِقُون، يخادعون الله ورسولَه والذين آمنوا، أنهم مؤمنون بما أظهروا(٢) .
وهذه الآية من أوضح الدليل على تكذيب الله جلّ ثناؤه الزاعمين: أن الله لا يُعذِّب من عباده إلا من كَفَر به عنادًا، بعد علمه بوحدانيته، وبعد تقرُّر صحة ما عاندَ ربّه تبارك وتعالى عليه مِن تَوْحيده، والإقرار بكتبه ورُسله - عنده. لأن الله جلّ ثناؤه قد أخبرَ عن الذين وَصفهم بما وصفهم به من النفاق، وخِداعهم إياه والمؤمنين - أنهم لا يشعرون أنهم مُبْطلون فيما هم عليه من الباطل مُقِيمون، وأنَّهم بخداعهم - الذي يحسبون أنهم به يُخادعون ربهم وأهلَ الإيمان به - مخدوعون. ثم أخبر تعالى ذكره أنّ لهم عذابًا أليمًا بتكذيبهم بما كانوا يكذِّبون من نبوة نبيّه، واعتقاد الكفر به، وبما كانوا يَكذِبون في زعمهم أنهم مؤمنون، وهم على الكفر مُصِرُّون.
فإن قال لنا قائل: قد علمت أن"المُفاعلة" لا تكون إلا من فاعلَيْن، كقولك: ضاربتُ أخاك، وجالست أباك - إذا كان كل واحد مجالس صَاحبه ومضاربَه. فأما إذا كان الفعلُ من أحدهما، فإنما يقال: ضربتُ أخاك، وجلست إلى أبيك، فمَنْ خادع المنافق فجاز أن يُقال فيه: خادع الله والمؤمنين؟
قيل: قد قال بعضُ المنسوبين إلى العلم بلغات العرب(٣) : إنّ ذلك حرفٌ جاء بهذه الصورة أعني"يُخَادِع" بصورة"يُفَاعل"، وهو بمعنى"يَفْعَل"، في حروفٍ أمثالها شاذةٍ من منطقِ العرب، نظيرَ قولهم: قاتَلك الله، بمعنى قَتَلك الله.
وليس القول في ذلك عندي كالذي قال، بل ذلك من"التفاعل" الذي لا يكون إلا من اثنين، كسائر ما يُعرف من معنى"يفاعل ومُفاعل" في كل كلام العرب. وذلك: أن المنافق يُخادع الله جل ثناؤه بكَذبه بلسانه - على ما قد تقدّم وصفه - والله تبارك اسمه خادِعُه، بخذلانه عن حسن البصيرة بما فيه نجاةُ نفسه في آجل مَعادِه، كالذي أخبر في قوله: ﴿وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾ [سورة آل عمران: ١٧٨] ، وبالمعنى الذي أخبرَ أنه فاعلٌ به في الآخرة بقوله: ﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ﴾ [سورة الحديد: ١٣] ، فذلك نظيرُ سائر ما يأتي من معاني الكلام بـ "يُفاعِل ومُفاعل". وقد كان بعض أهل النحو من أهل البصرة يقول: لا تكون المفاعلة إلا من شيئين، ولكنه إنما قيل:"يُخادِعون الله" عند أنفسهم، بظنِّهم أن لا يعاقَبُوا، فقد علموا خلافَ ذلك في أنفسهم، بحجة الله تبارك اسمه الواقعة على خلقه بمعرفته، وما يخدعون إلا أنفسهم. قال: وقد قال بعضُهم:"وما يخدعون" يقول: يخدَعُون أنفسهم بالتَّخْلية بها(٤) . وقد تكون المفاعلة من واحد في أشياء كثيرة.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ﴾
إن قال قائل: أو ليس المنافقون قد خدعُوا المؤمنين - بما أظهرُوا بألسنتهم من قيل الحق - عن أنفسهم وأموالِهم وذَرَاريهم حتى سلمت لهم دنياهم، وإن كانوا قد كانوا مخدوعين في أمر آخرتهم؟
قيل: خَطأٌ أن يقال إنهم خَدعوا المؤمنين. لأنَّا إذا قلنا ذلك، أوجبنا لهم حقيقةَ خدعةٍ جازت لهم على المؤمنين(٥) . كما أنَّا لو قلنا: قتل فلان فلانًا، أوجبنا له حقيقةَ قتلٍ كان منه لفلان. ولكنا نقول: خادَع المنافقون رَبَّهم والمؤمنين، ولم يَخْدَعوهم بَل خَدعوا أنفسهم، كما قال جل ثناؤه، دون غيرها، نظيرَ ما تقول في رجل قاتَل آخر، فقتَل نفسَه ولم يقتُل صاحبه: قاتَل فلان فلانًا فلم يقتل إلا نفسه، فتوجبُ له مقاتَلةَ صاحبه، وتنفي عنه قتلَه صاحبَه، وتوجب له قتل نفسه. فكذلك تقول:"خادَعَ المنافقُ ربَّه والمؤمنين فلم يخدعْ إلا نفسه"، فتثبت منه مخادعةَ ربه والمؤمنين، وتنفي عنه أن يكونَ خَدع غير نَفسه، لأن الخادعَ هو الذي قد صحّت الخديعة له، وَوقع منه فعلُها. فالمنافقون لم يخدَعوا غيرَ أنفسهم، لأنّ ما كان لهم من مال وأهلٍ، فلم يكن المسلمون مَلَكوه عليهم - في حال خِداعهم إياهم عنه بنفاقهم وَلا قَبْلها - فيستنقِذُوه بخداعهم منهم، وإنما دافعوا عنه بكذبهم وإظهارهم بألسنتهم غيرَ الذي في ضمائرهم، ويحكُم الله لهم في أموالهم وأنفسهم وذراريهم في ظاهر أمورِهم بحُكْم ما انتسبوا إليه من الملّة، والله بما يُخْفون من أمورِهم عالم. وإنما الخادع من خَتَل غيرَهُ عن شيئِه، والمخدوعُ غير عالم بموضع خديعةِ خادعِهِ. فأما والمخادَع عارفٌ بخداعِ صاحبه إياه = غير لاحقِه من خداعه إيّاه مكروهٌ، بل إنما يَتجافى للظَّانّ به أنه له مُخادع، استدراجًا، ليبلغ غايةً يتكامل له عليه الحُجَّةُ للعقوبة التي هو بها مُوقع عند بلوغه إياها(٦) ، والمُسْتَدرَج غيرُ عالم بحال نفسه عند مستدرِجِه، ولا عارف باطِّلاعه على ضميره، وأنّ إمهالَ مستدرِجِه إياه، تركه معاقبته على جرمه(٧) ليبلغ المخاتِل المخادِعُ - من استحقاقه عقوبةَ مستدرِجِه، بكثرة إساءته، وطولِ عِصيانه إياه، وكثرة صفح المستدرِج، وطول عفوه عنه أقصى غايةٍ(٨) = فإنما هو خادع نفسه لا شك، دون من حدّثته نفسه أنه له مخادعٌ. ولذلك نَفى الله جل ثناؤه عن المنافق أن يكونَ خدَعَ غيرَ نفسه، إذ كانت الصِّفةُ التي وَصَفنا صفتَه.
وإذ كان الأمر على ما وصفنا من خِدَاع المنافق ربَّه وأهلَ الإيمان به، وأنه غير صائر بخداعه ذلك إلى خديعةٍ صحيحة إلا لنفسه دون غيرها، لما يُوَرِّطها بفعله من الهلاك والعطب - فالواجب إذًا أن يكون الصحيح من القراءة: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ﴾ دون ﴿وما يخادعون﴾ لأن لفظ"المخادع" غير مُوجب تثبيتَ خديعةٍ على صحَّة، ولفظ"خادع" موجب تثبيت خديعة على صحة. ولا شك أن المنافق قد أوْجبَ خديعة الله عز وجل لِنَفْسه بما رَكِبَ من خداعه ربَّه ورسولَه والمؤمنين - بنفاقه، فلذلك وجبَت الصِّحةُ لقراءة من قرأ: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ﴾ .
ومن الدلالة أيضًا على أن قراءة من قرأ: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ﴾ أولى بالصحة من قراءة من قرأ: ﴿وما يخادعون﴾ ، أن الله جل ثناؤه قد أخبر عنهم أنهم يُخادعون الله والمؤمنين في أول الآية، فمحال أن يَنفي عنهم ما قد أثبت أنهم قد فعلوه، لأن ذلك تضادٌّ في المعنى، وذلك غير جائزٍ من الله جلّ وعزّ.
القول في تأويل قول الله جل ثناؤه: ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ (٩) ﴾
يعني بقوله جل ثناؤه"وما يَشعرون"، وما يَدْرُون. يقال: ما شَعَرَ فلانٌ بهذا الأمر، وهو لا يشعر به -إذا لم يَدْرِ ولم يَعْلم- شِعرًا وشعورًا. وقال الشاعر:
عَقَّوْا بِسَهمٍ وَلَمْ يَشْعُر بِهِ أَحَدٌ ... ثُمَّ اسْتَفَاءُوا وَقَالُوا: حَبَّذَا الوَضَحُ(٩)
يعني بقوله: لم يَشعر به، لم يدر به أحد ولم يعلم. فأخبر الله تعالى ذكره عن المنافقين: أنهم لا يشعرون بأن الله خادِعُهم، بإملائه لهم واستدراجِه إياهم، الذي هو من الله جل ثناؤه إبلاغٌ إليهم في الحجة والمعذرة، ومنهم لأنفسهم خديعةٌ، ولها في الآجل مَضرة. كالذي-:
٣٢١- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سألت ابن زيد عن قوله: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ ، قال: ما يشعرون أنهم ضَرُّوا أنفسهم، بما أسَرُّوا من الكفر والنِّفاق. وقرأ قول الله تعالى ذكره: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا﴾ ، قال: هم المنافقون حتى بلغ ﴿وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ﴾ [سورة المجادلة: ١٨] ، قد كان الإيمان ينفعهم عندكم(١٠) .
(١) في المطبوعة: "ومذيقها من غضب الله"، وفي المخطوطة: "ومربدها. . . "، وفي تفسير ابن كثير ١: ٨٧"ومز برها. . . "، والصواب ما أثبتناه، وأزاره: حمله على الزيارة. وفي حديث طلحة: ". . . حتى أزرته شعوب"، وشعوب هي المنية، أي أوردته المنية فزارها. وجعلها زيارة، وهي هلاك. سخرية بهم واستهزاء، لقبح غرورهم بربهم، وفرحهم بما مد لهم من العمر والمال والمتاع.
(٢) الأثر ٣٢٠- في الدر المنثور ١: ٣٠، والشوكاني ١: ٣٠ بتمامه، ويأتي تمامه في تفسير بقية الآية برقم: ٣٢١.
(٣) يعني أبا عبيدة في كتابه"مجاز القرآن": ٣١.
(٤) يعني بقوله"بالتخلية بها"، أي بالانفراد بها وإخفاء ما يبطنون من الكفر. كأن أراد أن يجعل اشتقاق"يخدعون" من المخدع، وهو البيت الصغير داخل البيت الكبير، وأراد الستر الشديد لما يبطنون. وأخلى بفلان يخلى به إخلاء: انفرد به في مكان خال. واستعمل"التخلية" بمعنى أنه حمل على الخلوة، كأنه حمل نفسه على الخلوة بها والانفراد، ليخفى ما فيها. وهذا الذي ذكره شرح لبقية الآية الذي سيأتي بعد.
(٥) في المطبوعة: "جاءت لهم على المؤمنين"، وهو خطأ.
(٦) في المطبوعة: "التي هو بها موقع"، وعنى: العقوبة التي هو موقعها به. . .
(٧) في المطبوعة: "وأن إمهال مستدرجه، وتركه إياه معاقبته على جرمه"، وهو خطأ مفسد للمعنى.
(٨) سياق هذه العبارة: "ليبلغ المخاتل المخادع. . . أقصى غاية"، وسياق الذي يليها من صدر الجملة: "فأما والمخادع عارف. . . فإنما هو خادع نفسه. . . "، وما بينهما فصل طويل.
(٩) الشعر للمتنخل الهذلي، ديوان الهذليين ٢: ٣١، وأمالي القالي ١: ٢٤٨، وسمط اللآلئ ٥٦٣. عقى بالسهم: رمى به في السماء لا يريد به شيئًا، وأصله في الثأر والدية، وذلك أنهم كانوا يجتمعون إلى أولياء المقتول بدية مكملة، ويسألونهم قبول الدية. فإن كانوا أقوياء أبوا ذلك، وإلا أخذوا سهمًا ورموا به في السماء، فإن عاد مضرجًا بدم، فقد زعموا أن ربهم نهاهم عن أخذ الدية. وإن رجع كما صعد، فقد زعموا أن ربهم أمرهم بالعفو وأخذ الدية. وكل ذلك أبطل الإسلام. وفاء واستفاء: رجع. والوضح: اللبن. يهجوهم بالذلة والدناءة، فأهدروا دم قتيلهم، ورموا بالسهم الذي يزعمونه يأمرهم وينهاهم، ورجعوا عن طلب الترة إلى قبول الدية، وآثروا إبل الدية وألبانها على دم قاتل صاحبهم، وقالوا في أنفسهم: اللبن أحب إلينا من القود وأنفع.
﴿یُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَمَا یَخۡدَعُونَ إِلَّاۤ أَنفُسَهُمۡ وَمَا یَشۡعُرُونَ﴾ [البقرة ٩]
(يخادعون الله) أي يخالفونه، (والذين آمنوا) والخداع في أصل اللغة الفساد حكاه ثعلب عن ابن الأعرابي وقيل أصله الإخفاء حكاه ابن فارس وغيره والمراد أنهم صنعوا صنع الخادعين وإن كان العالم الذي لا يحفى عليه شيء لا يخدع، وصيغة فاعل تفيد الاشتراك في أصل الفعل والمراد بالمخادعة من الله أنه لما أجرى عليهم أحكام الإسلام مع أنهم ليسوا منه في شيء فكأنه خادعهم بذلك كما خادعوه بإظهار الإسلام وإبطان الكفر مشاكلة لما وقع منهم بما وقع منه، والمراد بمخادعة المؤمنين لهم هو أنهم أجروا عليهم ما أمرهم الله به من أحكام الإسلام ظاهراً، وإن كانوا يعلمون فساد بواطنهم كما أن المنافقين خادعوهم بإظهار الإسلام وإبطان الكفر، وقد يكون الخداع حسناً إذا كان الغرض منه استدراج الغير من الضلال إلى الرشد ومن ذلك استدراجات التنزيل على لسان الرسل في دعوة الأمم، قاله الطيبي، والآية من قبيل الإستعارة التمثيلية حيث شبه حالهم في معاملتهم لله بحال المخادع مع صاحبه من حيث القبح أو من باب المجاز العقلي في النسبة الإيقاعية، وأصل التركيب يخادعون رسول الله أو من باب التورية حيث ذكر معاملتهم لله بلفظ الخداع.
والمراد بقوله (وما يخدعون إلا أنفسهم) الإشعار بأنهم لما خادعوا من لا يخدع كانوا مخادعين لأنفسهم، لأن الخداع إنما يكون مع من لا يعرف البواطن، وأما من عرف البواطن فمن دخل معه في الخداع، فإنما يخدع نفسه وما يشعر بذلك، والمراد أنهم يمنونها الأماني الباطلة، وهي كذلك تمنيهم، والنفس ذات الشيء وحقيقته، ثم قيل للقلب والروح والدم والماء نفس، والمراد بالأنفس هنا ذواتهم أو قلوبهم ودواعيهم وآراؤهم (وما يشعرون) أي لا يعلمون أن وبال خداعهم راجع عليهم.
قال أهل اللغة: شعرت بالشيء فظنت، قال في الكشاف الشعور علم الشيء علم حس من الشعار ومشاعر الإنسان حواسه، وقيل الشعور إدراك الشيء من وجه يدق ويخفى من الشعر لدقته، والأول أولى، قال ابن عباس إنهم المنافقون من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم، عن ابن سيرين قال لم يكن عندهم شيء أخوف من هذه الآية.
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)
تفسير القرآن العظيم — ابن كثير (٧٧٤ هـ)
یَخۡدَعُونَ إِلَّاۤ أَنفُسَهُمۡ وَمَا یَشۡعُرُونَ (٩)﴾ [البقرة ٨-٩]
النِّفَاقُ: هُوَ إِظْهَارُ الْخَيْرِ وَإِسْرَارُ الشَّرِّ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ: اعْتِقَادِيٌّ، وَهُوَ الَّذِي يَخْلُدُ صَاحِبُهُ فِي النَّارِ، وَعَمَلِيٌّ وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الذُّنُوبِ، كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ(١) فِي مَوْضِعِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا كَمَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْمُنَافِقُ يُخَالِفُ قَوْلُه فِعْلَهُ، وسِرّه عَلَانِيَتَهُ، وَمَدْخَلُهُ مَخْرَجَهُ، وَمَشْهَدُهُ مَغِيبه.
وَإِنَّمَا نَزَلَتْ صِفَاتُ الْمُنَافِقِينَ فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ؛ لِأَنَّ مَكَّةَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا نِفَاقٌ، بَلْ كَانَ خِلَافُهُ، مِنَ النَّاسِ مَنْ كَانَ يُظْهِرَ الْكُفْرَ مُسْتَكْرَها، وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ مُؤْمِنٌ، فلمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ بِهَا الْأَنْصَارُ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَكَانُوا فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، عَلَى طَرِيقَةِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَبِهَا الْيَهُودُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى طَرِيقَةِ أَسْلَافِهِمْ، وَكَانُوا ثَلَاثَ قَبَائِلَ: بَنُو قَيْنُقَاع حُلَفَاءُ الْخَزْرَجِ، وَبَنُو النَّضِير، وَبَنُو قُرَيْظَة حُلَفَاءُ الْأَوْسِ، فلمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ المدينة، وأسلم من أسلم مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ قَبِيلَتَيِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَقَلَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْيَهُودِ إِلَّا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلام، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ إِذْ ذَاكَ نِفَاقٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدُ شَوْكَةٌ تُخَافُ، بَلْ قَدْ كَانَ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَادَعَ الْيَهُودَ وَقَبَائِلَ كَثِيرَةً مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ حَوَالَيِ الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ الْعُظْمَى وَأَظْهَرَ اللَّهُ كَلِمَتَهُ، وَأَعْلَى الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِيِّ بْنِ سَلُولَ، وَكَانَ رَأْسًا فِي الْمَدِينَةِ، وَهُوَ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَكَانَ سَيِّدَ الطَّائِفَتَيْنِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانُوا قَدْ عَزَمُوا عَلَى أَنْ يُمَلِّكُوهُ عَلَيْهِمْ، فَجَاءَهُمُ الْخَيْرُ وَأَسْلَمُوا، وَاشْتَغَلُوا عَنْهُ، فَبَقِيَ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ قَالَ: هَذَا أَمْرٌ قَدْ تَوَجَّه فَأَظْهَرَ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ، وَدَخَلَ مَعَهُ طَوَائِفُ مِمَّنْ هُوَ عَلَى طَرِيقَتِهِ وَنِحْلَتِهِ، وَآخَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَمِنْ ثَمّ وُجِد النِّفَاقُ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهَا مِنَ الْأَعْرَابِ، فَأَمَّا الْمُهَاجِرُونَ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَحَدٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُهَاجِرُ مكرَهًا، بَلْ يُهَاجِرُ وَيَتْرُكُ مَالَهُ، وَوَلَدَهُ، وَأَرْضَهُ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عكْرِمة، أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ يَعْنِي: الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَمَنْ كَانَ عَلَى أَمْرِهِمْ.
وَكَذَا فسَّرها بِالْمُنَافِقِينَ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ.
وَلِهَذَا نبَّه اللَّهُ، سُبْحَانَهُ، عَلَى صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ لِئَلَّا يَغْتَرَّ بِظَاهِرِ أَمْرِهِمُ الْمُؤْمِنُونَ، فَيَقَعُ بِذَلِكَ فَسَادٌ عَرِيضٌ مِنْ عَدَمِ الِاحْتِرَازِ مِنْهُمْ، وَمِنَ اعْتِقَادِ إِيمَانِهِمْ، وَهُمْ كُفَّارٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهَذَا مِنَ الْمَحْذُورَاتِ الْكِبَارِ، أَنْ يُظَنَّ بِأَهْلِ الْفُجُورِ خَيْر، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ أَيْ: يَقُولُونَ ذَلِكَ قَوْلًا لَيْسَ وَرَاءَهُ شَيْءٌ آخَرُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ﴾ [الْمُنَافِقُونَ: ١] أَيْ: إنما يقولون ذلك إذا جاؤوك فَقَطْ، لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ وَلِهَذَا يُؤَكِّدُونَ فِي الشَّهَادَةِ بِإِنْ وَلَامِ التَّأْكِيدِ فِي خَبَرِهَا؛ كَمَا أكَّدوا قَوْلَهُمْ: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، كَمَا أكْذبهم اللَّهُ فِي شَهَادَتِهِمْ، وَفِي خَبَرِهِمْ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى اعْتِقَادِهِمْ، بِقَوْلِهِ: ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ [الْمُنَافِقُونَ: ١] ، وَبِقَوْلِهِ ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾
* * *
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ أَيْ: بِإِظْهَارِهِمْ مَا أَظْهَرُوهُ مِنَ الْإِيمَانِ مَعَ إِسْرَارِهِمُ الْكُفْرَ، يَعْتَقِدُونَ بِجَهْلِهِمْ أَنَّهُمْ يَخْدَعُونَ اللَّهَ بِذَلِكَ، وَأَنَّ ذَلِكَ نَافِعُهُمْ عِنْدَهُ، وَأَنَّهُ يَرُوجُ عَلَيْهِ كَمَا يَرُوجُ عَلَى بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ [الْمُجَادَلَةِ: ١٨] ؛ وَلِهَذَا قَابَلَهُمْ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ يَقُولُ: وَمَا يَغُرُّون بِصَنِيعِهِمْ هَذَا وَلَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ، وَمَا يَشْعُرُونَ بِذَلِكَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ [النِّسَاءِ: ١٤٢] .
وَمِنَ الْقُرَّاءِ مَنْ قَرَأَ: "وَمَا يُخَادِعُونَ(٢) إِلا أَنفُسَهُمْ"، وَكِلَا الْقِرَاءَتَيْنِ تَرْجِعُ إلى معنى واحد.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ يَكُونُ الْمُنَافِقُ لِلَّهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ مُخَادِعًا، وَهُوَ لَا يُظْهِرُ بِلِسَانِهِ خِلَافَ مَا هُوَ لَهُ مُعْتَقِدٌ إِلَّا تَقِيَّةً؟
قِيلَ: لَا تَمْتَنِعُ(٣) الْعَرَبُ أَنْ تُسَمِّيَ مَنْ أَعْطَى بِلِسَانِهِ غَيْرَ الَّذِي فِي ضَمِيرِهِ تَقِيَّةً، لِيَنْجُوَ مِمَّا هُوَ لَهُ خَائِفٌ، مُخَادِعًا، فَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُ، سُمِّيَ مُخَادِعًا لِلَّهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، بِإِظْهَارِهِ مَا أَظْهَرَ(٤) بِلِسَانِهِ تَقِيَّةً، مِمَّا تَخَلَّصَ بِهِ مِنَ الْقَتْلِ وَالسِّبَاءِ(٥) وَالْعَذَابِ الْعَاجِلِ، وَهُوَ لِغَيْرِ مَا أَظْهَرَ، مُسْتَبْطِنٌ، وَذَلِكَ مِنْ فعلِه -وَإِنْ كَانَ خِدَاعًا لِلْمُؤْمِنِينَ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا-فَهُوَ لِنَفْسِهِ بِذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ خَادِعٌ، لِأَنَّهُ يُظْهِر لَهَا بِفِعْلِهِ ذَلِكَ بِهَا أنَّه يُعْطِيهَا أُمْنِيَّتَهَا، ويُسقيها كَأْسَ(٦) سُرُورِهَا، وَهُوَ مُوَرِّدُهَا حِيَاضَ عَطَبِهَا، ومُجرّعها بِهَا كَأْسَ عَذَابِهَا، ومُزيرُها(٧) مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ مَا لَا قبَلَ لَهَا بِهِ، فَذَلِكَ خَدِيعَتُهُ نَفْسَهُ، ظَنًّا مِنْهُ -مَعَ إِسَاءَتِهِ إِلَيْهَا فِي أَمْرِ مَعَادِهَا-أَنَّهُ إِلَيْهَا مُحْسِنٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ إِعْلَامًا مِنْهُ عِبَادَه الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ بِإِسَاءَتِهِمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ فِي إسْخَاطهم(٨) عَلَيْهَا رَبَّهُمْ بِكُفْرِهِمْ، وَشَكِّهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ، غَيْرَ شَاعِرِينَ وَلَا دَارِينَ، وَلَكِنَّهُمْ عَلَى عَمْيَاءَ مَنْ أَمْرِهِمْ مُقِيمُونَ(٩) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ، فِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْج، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ﴾ قَالَ: يُظْهِرُونَ "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" يُرِيدُونَ أَنْ يَحْرِزُوا بِذَلِكَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَفِي أَنْفُسِهِمْ غَيْرُ ذَلِكَ(١٠) .
وَقَالَ سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ نَعْتُ الْمُنَافِقِ عِنْدَ كَثِيرٍ: خَنعُ الْأَخْلَاقِ يُصَدِّقُ بِلِسَانِهِ وَيُنْكِرُ بِقَلْبِهِ وَيُخَالِفُ بِعَمَلِهِ، يُصْبِحُ عَلَى حَالٍ وَيُمْسِي عَلَى غَيْرِهِ، وَيُمْسِي عَلَى حَالٍ ويصبح على غيره، ويتكفأ تكفأ السَّفِينَةِ كُلَّمَا هبَّت رِيحٌ هَبَّ مَعَهَا.
(١) في جـ: "تفسيره".
(٢) في جـ، ط، ب: "يخدعون".
(٣) في جـ: "لا تمنع".
(٤) في أ، و: "ما أظهره".
(٥) في أ: "السبي".
(٦) في جـ: "بكأس".
(٧) في أ: "ويزيدها".
(٨) في جـ: "بإسخاطهم".
(٩) تفسير الطبري (١/٢٧٣) .
﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن یَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِینَ (٨) یُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَمَا یَخۡدَعُونَ إِلَّاۤ أَنفُسَهُمۡ وَمَا یَشۡعُرُونَ (٩)﴾ [البقرة ٨-٩]
ذَكَرَ سُبْحانَهُ وتَعالى في أوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ المُؤْمِنِينَ الخُلَّصَ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُمُ الكَفَرَةَ الخُلَّصَ، ثُمَّ ذَكَرَ ثالِثًا المُنافِقِينَ وهُمُ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا مِن إحْدى الطّائِفَتَيْنِ، بَلْ صارُوا فِرْقَةً ثالِثَةً لِأنَّهم وافَقُوا في الظّاهِرِ الطّائِفَةَ الأُولى وفي الباطِنِ الطّائِفَةَ الثّانِيَةَ، ومَعَ ذَلِكَ فَهم أهْلُ الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النّارِ.
وأصْلُ ناسٍ حُذِفَتْ هَمْزَتُهُ تَخْفِيفًا، وهو مِنَ النَّوْسِ وهو الحَرَكَةُ، يُقالُ: ناسَ يَنُوسُ: أيْ تَحَرَّكَ، وهو مِن أسْماءِ الجُمُوعِ، جَمْعُ إنْسانٍ وإنْسانَةٍ عَلى غَيْرِ لَفْظِهِ، واللّامُ الدّاخِلَةُ عَلَيْهِ لِلْجِنْسِ، و( مِن ) تَبْعِيضِيَّةٌ، أيْ بَعْضُ النّاسِ، و( مِن ) مَوْصُوفَةٌ: أيْ ومِنَ النّاسِ ناسٌ يَقُولُ.
والمُرادُ بِاليَوْمِ الآخِرِ: الوَقْتُ الَّذِي لا يَنْقَطِعُ، بَلْ هو دائِمٌ أبَدًا.
والخِداعُ في أصْلِ اللُّغَةِ: الفَسادُ حَكاهُ ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الأعْرابِيِّ، وأنْشَدَ:
أبْيَضَ اللَّوْنِ رَقِيقًا طَعْمُهُ طَيِّبَ الرِّيقِ إذا الرِّيقُ خَدَعْ
وقِيلَ: أصْلُهُ الإخْفاءُ، ومِنهُ مَخْدَعُ البَيْتِ الَّذِي يُحْرَزُ فِيهِ الشَّيْءُ، حَكاهُ ابْنُ فارِسٍ وغَيْرُهُ.
والمُرادُ مِن مُخادَعَتِهِمْ لِلَّهِ أنَّهم صَنَعُوا مَعَهُ صُنْعَ المُخادِعِينَ، وإنْ كانَ العالِمُ الَّذِي لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ لا يُخْدَعُ.
وصِيغَةُ فاعِلٍ تُفِيدُ الِاشْتِراكَ في أصْلِ الفِعْلِ، فَكَوْنُهم ﴿يُخادِعُونَ اللَّهَ والَّذِينَ آمَنُوا﴾ يُفِيدُ أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ والَّذِينَ آمَنُوا يُخادِعُونَهم.
والمُرادُ بِالمُخادَعَةِ مِنَ اللَّهِ: أنَّهُ لَمّا أجْرى عَلَيْهِمْ أحْكامَ الإسْلامِ مَعَ أنَّهم لَيْسُوا مِنهُ في شَيْءٍ، فَكَأنَّهُ خادَعَهم بِذَلِكَ كَما خادَعُوهُ بِإظْهارِ الإسْلامِ وإبِطانِ الكُفْرِ مُشاكَلَةً لِما وقَعَ مِنهم بِما وقَعَ مِنهُ.
والمُرادُ بِمُخادَعَةِ المُؤْمِنِينَ لَهم: هو أنَّهم أجْرَوْا عَلَيْهِمْ ما أمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِن أحْكامِ الإسْلامِ ظاهِرًا وإنْ كانُوا يَعْلَمُونَ فَسادَ بَواطِنِهِمْ، كَما أنَّ المُنافِقِينَ خادَعُوهم بِإظْهارِ الإسْلامِ وإبِطانِ الكُفْرِ.
والمُرادُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما يَخْدَعُونَ إلّا أنْفُسَهم﴾ الإشْعارُ بِأنَّهم لَمّا خادَعُوا مَن لا يُخْدَعُ كانُوا مُخادِعِينَ لِأنْفُسِهِمْ، لِأنَّ الخِداعَ إنَّما يَكُونُ مَعَ مَن لا يَعْرِفُ البَواطِنَ.
وأمّا مَن عَرَفَ البَواطِنَ فَمَن دَخَلَ مَعَهُ في الخِداعِ فَإنَّما يَخْدَعُ نَفْسَهُ وما يَشْعُرُ بِذَلِكَ، ومِن هَذا قَوْلُ مَن قالَ: مَن خادَعْتَهُ فانْخَدَعَ لَكَ فَقَدْ خَدَعَكَ.
وقَدْ قَرَأ نافِعٌ وابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو يُخادِعُونَ في المَوْضِعَيْنِ، وقَرَأ حَمْزَةُ وعاصِمٌ والكِسائِيُّ وابْنُ عامِرٍ في الثّانِي " يَخْدَعُونَ " .
والمُرادُ بِمُخادَعَتِهِمْ أنْفُسَهم: أنَّهم يُمَنُّونَها الأمانِيَّ الباطِلَةَ وهي كَذَلِكَ تُمَنِّيهِمْ.
قالَ أهْلُ اللُّغَةِ: شَعَرْتُ بِالشَّيْءِ فَطِنْتُ.
قالَ في الكَشّافِ: والشُّعُورُ عِلْمُ الشَّيْءِ عِلْمَ حَسٍّ، مِنَ الشِّعارِ - ومَشاعِرُ الإنْسانِ: حَواسُّهُ.
والمَعْنى: أنَّ لُحُوقَ ضَرَرِ ذَلِكَ لَهم كالمَحْسُوسِ، وهم لِتَمادِي غَفْلَتِهِمْ كالَّذِي لا حِسَّ لَهُ.
والمُرادُ بِالأنْفُسِ هُنا ذَواتُهم لا سائِرُ المَعانِي الَّتِي تَدْخُلُ في مُسَمّى النَّفْسِ كالرُّوحِ والدَّمِ والقَلْبِ.
وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ إسْحاقَ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُمُ المُنافِقُونَ مِنَ الأوْسِ والخَزْرَجِ ومَن كانَ عَلى أمْرِهِمْ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أنَّهُ قالَ: والمُرادُ بِهَذِهِ الآيَةِ المُنافِقُونَ.
وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتادَةَ مِثْلَهُ.
وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قالَ: لَمْ يَكُنْ عِنْدَهم شَيْءٌ أخْوَفَ مِن هَذِهِ الآيَةِ: ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ آمَنّا بِاللَّهِ وبِاليَوْمِ الآخِرِ وما هم بِمُؤْمِنِينَ﴾ .
وأخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ حُذَيْفَةَ أنَّهُ قِيلَ لَهُ: ما النِّفاقُ ؟ قالَ: أنْ يَتَكَلَّمَ بِالإسْلامِ ولا يَعْمَلَ بِهِ.
وأخْرَجَ أحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ «عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحابَةِ أنَّ قائِلًا مِنَ المُسْلِمِينَ قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ ما النَّجاةُ غَدًا ؟ قالَ: لا تُخادِعِ اللَّهَ قالَ: وكَيْفَ نُخادِعُ اللَّهَ ؟ قالَ: أنْ تَعْمَلَ بِما أمَرَكَ اللَّهُ بِهِ تُرِيدُ بِهِ غَيْرَهُ، فاتَّقُوا الرِّياءَ فَإنَّهُ الشِّرْكُ بِاللَّهِ، فَإنَّ المُرائِيَ يُنادى يَوْمَ القِيامَةِ عَلى رُءُوسِ الخَلائِقِ بِأرْبَعَةِ أسْماءٍ: يا كافِرُ يا فاجِرُ يا خاسِرُ يا غادِرُ، ضَلَّ عَمَلُكَ وبَطَلَ أجْرُكَ فَلا خَلاقَ لَكَ اليَوْمَ عِنْدَ اللَّهِ، فالتَمِسْ أجْرَكَ مِمَّنْ كُنْتَ تَعْمَلُ لَهُ يا مُخادِعُ، وقَرَأ آياتٍ مِنَ القُرْآنِ ﴿فَمَن كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحًا﴾ [الكهف: ١١٠] الآيَةَ، و﴿إنَّ المُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ﴾ [النساء: ١٤٢] الآيَةَ» .
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ وهْبٍ قالَ: سَألْتُ ابْنَ زَيْدٍ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿يُخادِعُونَ اللَّهَ والَّذِينَ آمَنُوا﴾ قالَ: هَؤُلاءِ المُنافِقُونَ يُخادِعُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ، والَّذِينَ آمَنُوا أنَّهم يُؤْمِنُونَ بِما أظْهَرُوهُ.
وعَنْ قَوْلِهِ: ﴿وما يَخْدَعُونَ إلّا أنْفُسَهم وما يَشْعُرُونَ﴾ أنَّهم ضَرُّوا أنْفُسَهم بِما أضْمَرُوا مِنَ الكُفْرِ والنِّفاقِ.
﴿یُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَمَا یَخۡدَعُونَ إِلَّاۤ أَنفُسَهُمۡ وَمَا یَشۡعُرُونَ﴾ [البقرة ٩]
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: مَعْنَى "يُخادِعُونَ اللَّهَ" أَيْ يُخَادِعُونَهُ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى ظَنِّهِمْ. وَقِيلَ: قَالَ ذَلِكَ لِعَمَلِهِمْ عَمَلَ الْمُخَادِعِ. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، تَقْدِيرُهُ: يُخَادِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، عَنِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ. وَجَعَلَ خِدَاعَهُمْ لِرَسُولِهِ خِدَاعًا لَهُ، لِأَنَّهُ دَعَاهُمْ بِرِسَالَتِهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا خَادَعُوا الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ خَادَعُوا اللَّهَ. وَمُخَادَعَتُهُمْ: مَا أَظْهَرُوهُ مِنَ الْإِيمَانِ خِلَافَ مَا أَبْطَنُوهُ مِنَ الْكُفْرِ، لِيَحْقِنُوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ قَدْ نَجَوْا وَخَدَعُوا، قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَأَوِّلِينَ. وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: أَصْلُ المخدع فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْفَسَادُ، حَكَاهُ ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ. وَأَنْشَدَ:
أَبْيَضُ اللَّوْنِ لَذِيذٌ طَعْمُهُ ... طَيِّبُ الرِّيقِ إِذَا الرِّيقُ خَدَعْ(١)
قُلْتُ: فَ "يُخادِعُونَ اللَّهَ" عَلَى هَذَا، أَيْ يُفْسِدُونَ إِيمَانَهُمْ وَأَعْمَالَهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى بِالرِّيَاءِ. وَكَذَا جَاءَ مُفَسَّرًا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى مَا يَأْتِي. وَفِي التَّنْزِيلِ:" يُراؤُنَ النَّاسَ
(٢) ". [النساء: ١٤٢] وَقِيلَ: أَصْلُهُ الْإِخْفَاءُ، وَمِنْهُ مَخْدَعُ الْبَيْتِ الَّذِي يُحْرَزُ فِيهِ الشَّيْءُ، حَكَاهُ ابْنُ فَارِسٍ وَغَيْرُهُ. وَتَقُولُ الْعَرَبُ: انْخَدَعَ الضَّبُّ فِي جُحْرِهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ نَفْيٌ وَإِيجَابٌ، أَيْ مَا تَحِلُّ عَاقِبَةُ الْخَدْعِ إِلَّا بِهِمْ. وَمِنْ كَلَامِهِمْ: مَنْ خَدَعَ مَنْ لَا يُخْدَعُ فَإِنَّمَا يَخْدَعُ نَفْسَهُ. وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ الْخِدَاعَ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْبَوَاطِنَ، وَأَمَّا مَنْ عَرَفَ الْبَوَاطِنَ فَمَنْ دَخَلَ مَعَهُ فِي الْخِدَاعِ فَإِنَّمَا يَخْدَعُ نَفْسَهُ. وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يَعْرِفُوا اللَّهَ إِذْ لَوْ عَرَفُوهُ لَعَرَفُوا أَنَّهُ لَا يُخْدَعُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: (لا تخادع الله فإنه من يخادع الله يَخْدَعُهُ اللَّهُ وَنَفْسَهُ يَخْدَعُ لَوْ يَشْعُرُ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يُخَادِعُ اللَّهَ؟ قَالَ: (تَعْمَلُ بِمَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ وَتَطْلُبُ بِهِ غَيْرَهُ). وَسَيَأْتِي بَيَانُ الْخِدْعِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كَيْفَ هُوَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ [البقرة: ١٥]. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: "يُخَادِعُونَ" فِي الْمَوْضِعَيْنِ، لِيَتَجَانَسَ اللَّفْظَانِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ عَامِرٍ: "يَخْدَعُونَ" الثَّانِي. وَالْمَصْدَرُ خِدْعٌ (بِكَسْرِ الْخَاءِ) وَخَدِيعَةٌ، حَكَى ذَلِكَ أَبُو زَيْدٍ. وَقَرَأَ مُوَرِّقٌ الْعِجْلِيُّ: "يُخَدِّعُونَ اللَّهَ" (بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْخَاءِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ) عَلَى التَّكْثِيرِ. وَقَرَأَ أَبُو طَالُوتَ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ شَدَّادٍ وَالْجَارُودُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَإِسْكَانِ الْخَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ، عَلَى مَعْنَى وَمَا يُخْدَعُونَ إِلَّا عَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَحَذَفَ حَرْفَ الْجَرِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ﴾ [الأعراف: ١٥٥] أي من قومه.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَما يَشْعُرُونَ﴾ أَيْ يَفْطِنُونَ أَنَّ وَبَالَ خَدْعِهِمْ رَاجِعٌ عَلَيْهِمْ، فَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ قَدْ نَجَوْا بِخَدْعِهِمْ وَفَازُوا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، وَفِي الْآخِرَةِ يُقَالُ لَهُمُ: ﴿ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً﴾ [الحديد: ١٣] عَلَى مَا يَأْتِي(٣). قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: شَعُرْتُ بِالشَّيْءِ أَيْ فَطِنْتُ لَهُ، وَمِنْهُ الشَّاعِرُ لِفِطْنَتِهِ، لِأَنَّهُ يَفْطِنُ لِمَا لَا يَفْطِنُ لَهُ غَيْرُهُ مِنْ غَرِيبِ الْمَعَانِي. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: لَيْتَ شِعْرِي، أي ليتني علمت.
(١) قاله سويد بن أبي كاهل. يصف ثغر امرأة.
(٢) راجع ج ٥ ص ٤٢٢
(٣) راجع ج ١٧ ص ٢٤٦.
معالم التنزيل — البغوي (٥١٦ هـ)
﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ سَوَاۤءٌ عَلَیۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ (٦) خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَعَلَىٰ سَمۡعِهِمۡۖ وَعَلَىٰۤ أَبۡصَـٰرِهِمۡ غِشَـٰوَةࣱۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِیمࣱ (٧) وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن یَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِینَ (٨) یُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَمَا یَخۡدَعُونَ إِلَّاۤ أَنفُسَهُمۡ وَمَا یَشۡعُرُونَ (٩) فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضࣰاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمُۢ بِمَا كَانُوا۟ یَكۡذِبُونَ (١٠)﴾ [البقرة ٦-١٠]
قَوْلُهُ ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يَعْنِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي الْيَهُودَ. وَالْكُفْرُ هُوَ الْجُحُودُ وَأَصْلُهُ مِنَ الْكُفْرِ وَهُوَ السَّتْرُ وَمِنْهُ سُمِّيَ اللَّيْلُ كَافِرًا لِأَنَّهُ يَسْتُرُ الْأَشْيَاءَ بظلمته وسمي الزارع كَافِرًا لِأَنَّهُ يَسْتُرُ الْحَبَّ بِالتُّرَابِ وَالْكَافِرُ يَسْتُرُ الْحَقَّ بِجُحُودِهِ.
وَالْكُفْرُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ: كُفْرُ إِنْكَارٍ، وَكُفْرُ جَحُودٍ، وَكُفْرُ عِنَادٍ، وَكُفْرُ نِفَاقٍ. فَكُفْرُ الْإِنْكَارِ: أَنْ لَا يَعْرِفَ اللَّهَ أَصْلًا وَلَا يَعْتَرِفَ بِهِ، وَكُفْرُ الْجَحُودِ هُوَ: أَنْ يَعْرِفَ اللَّهَ تَعَالَى بِقَلْبِهِ وَلَا يُقِرُّ بِلِسَانِهِ كَكُفْرِ إِبْلِيسَ (وَكُفْرِ)(١) الْيَهُودِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾ (٨٩-الْبَقَرَةِ) وَكُفْرُ الْعِنَادِ هُوَ: أَنْ يَعْرِفَ اللَّهَ بِقَلْبِهِ وَيَعْتَرِفَ بِلِسَانِهِ وَلَا يَدِينُ بِهِ كَكُفْرِ أَبِي طَالِبٍ حَيْثُ يَقُولُ: وَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ ... مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينًا
لَوْلَا الْمَلَامَةُ أَوْ حَذَارِ مَسَبَّةٍ ... لَوَجَدْتَنِي سَمْحًا بِذَاكَ مُبِينًا
وَأَمَّا كُفْرُ النِّفَاقِ: فَهُوَ أَنَّ يُقِرَّ بِاللِّسَانِ وَلَا يَعْتَقِدَ بِالْقَلْبِ، وَجَمِيعُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ سَوَاءٌ فِي أَنَّ مَنْ لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى بِوَاحِدٍ مِنْهَا لَا يُغْفَرُ لَهُ.
قَوْلُهُ ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ﴾ أَيْ: مُتَسَاوٍ لَدَيْهِمْ ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ﴾ خَوَّفْتَهُمْ وَحَذَّرْتَهُمْ وَالْإِنْذَارُ إِعْلَامٌ مَعَ تَخْوِيفٍ وَتَحْذِيرٍ وَكُلُّ مُنْذِرٍ مُعَلِّمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُعَلِّمٍ مُنْذِرًا وَحَقَّقَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ الْهَمْزَتَيْنِ فِي "أَأَنْذَرْتَهُمْ" وَكَذَلِكَ كَلُّ هَمْزَتَيْنِ تَقَعَانِ فِي أَوَّلِ الْكَلِمَةِ وَالْآخَرُونَ يُلَيِّنُونَ الثَّانِيَةَ ﴿أَمْ﴾ حَرْفُ عَطْفٍ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ (لَمْ) حَرْفُ جَزْمٍ لَا تَلِي إِلَّا الْفِعْلَ لِأَنَّ الْجَزْمَ يَخْتَصُّ بِالْأَفْعَالِ ﴿تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي أَقْوَامٍ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الشَّقَاوَةِ فِي سَابِقِ عِلْمِ اللَّهِ ثُمَّ ذَكَرَ سَبَبَ تَرْكِهِمُ الْإِيمَانَ
فَقَالَ ﴿خَتَمَ اللَّهُ﴾ طَبَعَ اللَّهُ ﴿عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ فَلَا تَعِي خَيْرًا وَلَا تَفْهَمُهُ.
وَحَقِيقَةُ الْخَتْمِ الِاسْتِيثَاقُ مِنَ الشَّيْءِ كَيْلَا يَدْخُلَهُ مَا خَرَجَ مِنْهُ وَلَا يَخْرُجَ عَنْهُ مَا فِيهِ، وَمِنْهُ الْخَتْمُ عَلَى الْبَابِ. قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: أَيْ حَكَمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِالْكُفْرِ، لِمَا سَبَقَ مِنْ عِلْمِهِ الْأَزَلِيِّ فِيهِمْ، وَقَالَ الْمُعْتَزِلَةُ: جَعَلَ عَلَى قُلُوبِهِمْ عَلَامَةً تَعْرِفُهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِهَا.
﴿وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ أَيْ: عَلَى مَوْضِعِ سَمْعِهِمْ فَلَا يَسْمَعُونَ الْحَقَّ وَلَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَأَرَادَ عَلَى أَسْمَاعِهِمْ كَمَا قَالَ: ﴿عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ وَإِنَّمَا وَحَّدَهُ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَالْمَصْدَرُ لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ.
﴿وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ هَذَا ابْتِدَاءُ كَلَامٍ. غِشَاوَةٌ أَيْ: غِطَاءٌ، فَلَا يَرَوْنَ الْحَقَّ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ أَبْصَارِهِمْ بِالْإِمَالَةِ وَكَذَلِكَ كَلُّ أَلِفٍ بَعْدَهَا رَاءٌ مَجْرُورَةٌ فِي الْأَسْمَاءِ كَانَتْ لَامَ الْفِعْلِ يُمِيلَانِهَا وَيُمِيلُ حَمْزَةُ مِنْهَا مَا يَتَكَرَّرُ فِيهِ الرَّاءُ كَالْقَرَارِ وَنَحْوِهِ. زَادَ الْكِسَائِيُّ إِمَالَةَ جَبَّارِينَ وَالْجَوَارِ وَالْجَارِ وَبَارِئِكُمْ وَمَنْ أَنْصَارِي وَنُسَارِعُ وَبَابِهِ. وَكَذَلِكَ يُمِيلُ هَؤُلَاءِ كُلَّ أَلِفٍ بِمَنْزِلَةِ لَامِ الْفِعْلِ، أَوْ كَانَ عَلَمًا لِلتَّأْنِيثِ، إِذَا كَانَ قَبْلَهَا رَاءٌ، فَعَلَمُ التَّأْنِيثِ مِثْلُ: الْكُبْرَى وَالْأُخْرَى. وَلَامُ الْفِعْلِ: مِثْلُ تَرَى وَافْتَرَى، يَكْسِرُونَ الرَّاءَ فِيهَا.
وَلَهُمْ ﴿عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ أَيْ: فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ الْقَتْلُ وَالْأَسْرُ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابُ الدَّائِمُ فِي الْعُقْبَى. وَالْعَذَابُ كُلُّ مَا يَعْنِي الْإِنْسَانَ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ. قَالَ الْخَلِيلُ: الْعَذَابُ مَا يَمْنَعُ الْإِنْسَانَ عَنْ مُرَادِهِ، وَمِنْهُ: الْمَاءُ الْعَذْبُ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْعَطَشَ.
قَوْلُهُ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ(٢) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ، وَمُعَتِّبِ بْنِ قُشَيْرٍ، وَجَدِّ بْنِ قَيْسٍ وَأَصْحَابِهِمْ حَيْثُ أَظْهَرُوا كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ لِيَسْلَمُوا مِنَ النَّبِيِّ ﷺ وَأَصْحَابِهِ وَاعْتَقَدُوا خِلَافَهَا وَأَكْثَرُهُمْ مِنَ الْيَهُودِ، وَالنَّاسُ جَمْعُ إِنْسَانٍ سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ عُهِدَ إِلَيْهِ فَنَسِيَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ﴾ (١١٥-طه) وَقِيلَ: لِظُهُورِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ آنَسْتُ أَيْ أَبْصَرْتُ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يُسْتَأْنَسُ بِهِ ﴿وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ أَيْ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ﴾ أَيْ يُخَالِفُونَ اللَّهَ وَأَصْلُ الْخَدْعِ فِي اللُّغَةِ الْإِخْفَاءُ وَمِنْهُ الْمَخْدَعُ لِلْبَيْتِ الَّذِي يُخْفَى فِيهِ الْمَتَاعُ فَالْمُخَادِعُ يُظْهِرُ خِلَافَ مَا يُضْمِرُ وَالْخَدْعُ مِنَ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ ﴿وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ (١٨٢-النِّسَاءِ) أَيْ يُظْهِرُ لَهُمْ وَيُعَجِّلُ لَهُمْ مِنَ النَّعِيمِ فِي الدُّنْيَا خِلَافَ مَا يَغِيبُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: أَصْلُ الْخَدْعِ: الْفَسَادُ، مَعْنَاهُ يُفْسِدُونَ مَا أَظْهَرُوا مِنَ الْإِيمَانِ بِمَا أَضْمَرُوا مِنَ الْكُفْرِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ أَيْ: يُفْسِدُ عَلَيْهِمْ نَعِيمَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِمَا يُصَيِّرُهُمْ إِلَيْهِ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ فَإِنْ قِيلَ مَا مَعْنَى قَوْلِهِ ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ﴾ وَالْمُفَاعَلَةُ لِلْمُشَارَكَةِ وَقَدْ جَلَّ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْمُشَارَكَةِ فِي الْمُخَادَعَةِ؟ قِيلَ: قَدْ تَرِدُ الْمُفَاعَلَةُ لَا عَلَى مَعْنَى الْمُشَارِكَةِ كَقَوْلِكَ عَافَاكَ اللَّهُ وَعَاقَبْتُ فُلَانًا، وَطَارَقْتُ النَّعْلَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ يُخَادِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ﴾ (٥٧-الْأَحْزَابِ) أَيْ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ، وَقِيلَ: ذِكْرُ اللَّهِ هَاهُنَا تَحْسِينٌ وَالْقَصْدُ بِالْمُخَادَعَةِ الَّذِينَ آمَنُوا كَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ﴾ (٤١-الْأَنْفَالِ) وَقِيلَ مَعْنَاهُ يَفْعَلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ مَا هُوَ خِدَاعٌ فِي دِينِهِمْ ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ أَيْ وَيُخَادِعُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِمْ إِذَا رَأَوْهُمْ آمَنَّا وَهُمْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ.
﴿وَمَا يَخْدَعُونَ﴾ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عمرو وما يخدعون كَالْحَرْفِ الْأَوَّلِ وَجَعَلُوهُ مِنَ الْمُفَاعَلَةِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالْوَاحِدِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: وَمَا يَخْدَعُونَ عَلَى الْأَصْلِ.
﴿إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ لِأَنَّ وَبَالَ خِدَاعِهِمْ رَاجِعٌ إِلَيْهِمْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُطْلِعُ نَبِيَّهُ ﷺ عَلَى نِفَاقِهِمْ فَيُفْتَضَحُونَ فِي الدُّنْيَا وَيَسْتَوْجِبُونَ الْعِقَابَ فِي الْعُقْبَى ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ أَيْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ يَخْدَعُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَنَّ وَبَالَ خِدَاعِهِمْ يَعُودُ عَلَيْهِمْ
﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ شَكٌّ وَنِفَاقٌ وَأَصْلُ الْمَرَضِ الضَّعْفُ. وَسُمِّيَ الشَّكُّ فِي الدِّينِ مَرَضًا لِأَنَّهُ يُضْعِفُ الدِّينَ كَالْمَرَضِ يُضْعِفُ الْبَدَنَ.
﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ لِأَنَّ الْآيَاتِ كَانَتْ تَنْزِلُ تَتْرَى، آيَةً بَعْدَ آيَةٍ، كُلَّمَا كَفَرُوا بِآيَةٍ ازْدَادُوا كُفْرًا وَنِفَاقًا وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ﴾ (١٢٥-التَّوْبَةِ) وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ فَزَادَهُمْ بِالْإِمَالَةِ وَزَادَ حَمْزَةُ إِمَالَةَ زَادَ حَيْثُ وَقَعَ وَزَاغَ وَخَابَ وَطَابَ وَحَاقَ وَضَاقَ، وَالْآخَرُونَ لَا يُمِيلُونَهَا ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ مُؤْلِمٌ يَخْلُصُ وَجَعُهُ إِلَى قُلُوبِهِمْ ﴿بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ مَا لِلْمَصْدَرِ أَيْ بِتَكْذِيبِهِمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي السِّرِّ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ يَكْذِبُونَ بِالتَّخْفِيفِ أَيْ بِكَذِبِهِمْ ﴿إِذْ﴾(٣) قَالُوا آمَنَّا وَهُمْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ.
(١) من ب.
(٢) انظر: الطبري: ١ / ٢٦٩، تفسير ابن كثير: ١ / ٤٨.
تفسير القرآن الكريم — ابن عثيمين (١٤٢١ هـ)
﴿الۤمۤ (١) ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ (٢) ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ (٣) وَٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ وَمَاۤ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡـَٔاخِرَةِ هُمۡ یُوقِنُونَ (٤) أُو۟لَـٰۤىِٕكَ عَلَىٰ هُدࣰى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ (٥) إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ سَوَاۤءٌ عَلَیۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ (٦) خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَعَلَىٰ سَمۡعِهِمۡۖ وَعَلَىٰۤ أَبۡصَـٰرِهِمۡ غِشَـٰوَةࣱۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِیمࣱ (٧) وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن یَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِینَ (٨) یُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَمَا یَخۡدَعُونَ إِلَّاۤ أَنفُسَهُمۡ وَمَا یَشۡعُرُونَ (٩)﴾ [البقرة ١-٩]
نبدأ أولًا في الفاتحة، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (١) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: ١ – ٣] إلى آخره.
* أولًا: سورة الفاتحة سميت بذلك لأنه افتُتح بها القرآن الكريم، وقد قيل: إنها أول سورة نزلت كاملة، وقيل: إن أول سورة نزلت كاملة (اقرأ)، وإن الله تعالى كمّلها، ثم جاءت السور، فالله أعلم.
هذه السورة قال العلماء: إنها تشتمل على مجمل معاني القرآن؛ في التوحيد، والأحكام، والجزاء، وطرق بني آدم، وغير ذلك، ولهذا سميت أم القرآن، والأمّ هو المرجع، المرجع للشيء يسمى أُمًّا، وهذه السورة لها مميزات تتميز بها عن غيرها؛ منها: أنها ركن في الصلوات التي هي أفضل أركان الإسلام بعد الشهادتين، فلا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب.
ومنها: أنها رقية، إذا قُرئ بها على المريض شفي بإذن الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال للذي قرأها على اللديغ قال له: « وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟»(١).
وقد ابتدع بعض الناس اليوم في هذه السورة بدعة وصاروا يختمون بها الدعاء ويبتدئون بها الخطب أو الأحوال، وهذا غلط، تجد مثلا إذا دعا ثم دعا ثم دعا قال بعد ذلك: الفاتحة، إيش الفاتحة؟ من أين جاء بها؟ أو بعض الناس يبتدئ بها في خطبه أو في أحواله، وهذا أيضا غلط؛ لأن العبادات مبناها على التوقيف والاتباع.
يقول الله عز وجل: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، ولا حاجة إلى الكلام عن البسملة من حيث المعنى ولا من حيث الإعراب؛ لأنها تكررت علينا كثيرًا، لكن الكلام: هل البسملة آية من الفاتحة أو لا؟
في هذا خلاف بين العلماء:
فمنهم من يقول: إنها آية من الفاتحة، ويقرأ بها جهرًا في الصلاة الجهرية، ويرى أنه لا تصح الصلاة إلا بقراءة البسملة لأنها من الفاتحة.
ومنهم من يقول: إنها ليست من الفاتحة، وهذا القول هو الحق، ودليل هذا: النص، وسياق السورة.
أما النص: فقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: « قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ؛ فَإِذَا قَالَ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ قَالَ: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ قَالَ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَإِذَا قَالَ: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ - إِلَى آخِرِهِ - قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ»(٢)، وهذا كالنص على أن البسملة ليست من الفاتحة.
أما من حيث السياق: فالفاتحة سبع آيات بالاتفاق، وإذا أردت أن توزع سبع الآيات على موضوع السورة وجدت أن نصفها هو قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، وهي الآية التي قال الله فيها: « قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ»؛ لأن ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ واحدة، ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ الثانية، ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ الثالثة، وكلها حق لله. ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ الرابعة، يعني وسط الآن، وهي قسمان: قسم منها حق لله، وقسم حق للعبد. ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ للعبد، ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ للعبد، ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ للعبد.
ثم من جهة السياق من حيث اللفظ: لو قلنا: إن البسملة آية لزم أن تكون الآية السابعة طويلة على قدر، كم؟ على قدر آيتين، لزم أن تكون طويلة على قدر آيتين، شوف ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾، كم من سطر عندكم؟ سطرين. ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ سطر عندي، ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ أقل من سطر، ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ كذلك، و ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ كذلك، فكيف يكون هناك تناسب مع أن بعض الآيات أقل من السطر وهذه سطران، فالصواب الذي لا شك فيه أن البسملة ليست منها، كما أنها - أي البسملة - ليست من بقية السور.
قال الله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الحمد) وصف المحمود بالكمال الذاتي والوصفي والفعلي، فهو كامل في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله، فهو وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم، ولا بد من هذا القيد؛ قال أهل العلم: لأن مجرد الوصف بالكمال بدون محبة ولا تعظيم لا يسمى حمدا، وإنما يسمى مدحا، ولهذا يقع من إنسان لا يحب الممدوح لكنه يريد أن ينال منه شيئا، تجد بعض الشعراء يقف أمام الخلفاء ثم يأتي لهم بأوصاف عظيمة، لا محبةً فيه ولكنْ محبةً في المال الذي يعطونه أو خوفًا منهم، لكن حمْدنا لربنا عز وجل محبة وتعظيم، فلذلك صار لا بد من القيد في الحمد أنه وصف المحمود بالكمال، إيش؟ مع المحبة والتعظيم.
وقوله: ﴿لِلَّهِ﴾ الله عز وجل، هذا اللفظ علم على ربنا عز وجل لا يسمى به غيره، وهو علم تتبعه الأعلام الأخرى، أي تتبعه الأسماء، ولهذا دائما يأتي متبوعا، إلا في مواضع قليلة مثل قوله تعالى: ﴿صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [إبراهيم ١، ٢] فإن هذه الكلمة تابعة لما قبلها، وهو قليل.
وقوله: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الرب هو ما اجتمع فيه ثلاثة أوصاف: الخلق، والملك، والتدبير، فهو الخالق عز وجل، وهو المدبر لجميع الأمور، وهو المالك لكل شيء.
و﴿الْعَالَمِينَ﴾ قال العلماء: كل من سوى الله فهو من العالَم، ووُصفوا بذلك لأنهم عَلَم على خالقهم سبحانه وتعالى.
﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ الرحمن صفة للفظ الجلالة، والرحيم صفة أخرى، والرحمن هو ذو الرحمة الواسعة، والرحيم هو ذو الرحمة الواصلة، فالرحمن وصْفُه، والرحيم فِعْله، ولو أنه جيء بالرحيم وحده وبالرحمن وحده لشمل الوصف والفعل، لكن إذا اقترنا فُسِّر الرحمن بالوصف، والرحيم بالفعل ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾. وفي ذكر ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ بعد ذكر الربوبية دليل على أن ربوبيته تبارك وتعالى مبنية على الرحمة، الرحمة للخلق، الرحمة الواسعة الواصلة.
﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة ٤] مالك: صفة لرب، ويوم الدين: هو يوم القيامة، والدين هنا بمعنى إيش؟ الجزاء، بمعنى الجزاء، يعني أنه سبحانه وتعالى مالك لذلك اليوم الذي يجازَى فيه الخلائق، فلا مالك غيره في ذلك اليوم.
فإن قال قائل: أليس مالك الدين والدنيا؟ فالجواب: بلى، لكن ظهور ملكوته وملكه وسلطانه إنما يكون في ذلك اليوم؛ لأن الله تعالى ينادي ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾ [غافر ١٦]؟ فلا يجيب أحد فيقول: ﴿لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [غافر ١٦]. في الدنيا يظهر الملوك، بل يظهر ملوك يعتقد شعوبهم أنه لا مالك إلا هم، فالشيوعيون مثلا لا يرون أن هناك ربا للسماوات والأرض، يرون أنها حياة، أرحام تدفع وأرض تبلع، وأن ربهم هو رئيسهم، طيب، إذن خُص ملكه بيوم الدين لأنه يظهر فيه ملكوته وملكه. وفي قراءة سبعية ﴿مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾(٣) والملك أخص من المالك؛ لأن الملك هو ذو السلطة المطلقة، ولا يسمى ملك إلا مَن تحته رعية، أما مالك فهو ليس له سلطة مطلقة، ثم هو لا يحتاج إلى أن يكون تحته رعية، ولهذا تجد الفقير الصعلوك يملك بقرته، يملك شاته، لكن في الجمع بين القراءتين فائدة عظيمة، وهو أن ملكه جل وعلا ملك حقيقي؛ لأن من الخلق من يكون ملكا ولكن ليس بمالك، يسمى ملكا اسما وليس له من التدبير شيء، ومن الناس من يكون مالكا ولا يكون ملكا، كعامة الناس، لكن الرب عز وجل مالك ملك.
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة ٥]، نعبد، ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ لو طلبنا إعراب ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ فبماذا تجيبون؟
* طالب: مفعول به مقدم.
* الشيخ: أنه مفعول به مقدم، ولماذا انفصل مع إمكان الوصل، يعني يمكن أن يقول: نعبدك، فنقول: لو وصلنا فات أمر مهم، ألا وهو الحصر، فهنا لما قدمناه للحصر لزم أن يُفصل، لو قلت: ك نعبد، ما يستقيم الكلام وليس بلغة عربية. ﴿إِيَّاكَ﴾ يعني لا سواك، ﴿نَعْبُدُ﴾ أي نتذلل له أكمل ذل، ولهذا تجد المؤمنين -جعلني الله وإياكم منهم- يضعون أشرف ما في أجسامهم في موطئ الأقدام ذلّا لله عز وجل، يسجد على التراب، تمتلئ جبهته من التراب، يسجد على موطئ الأقدام،كل هذا ذلّا لله، ولو أن إنسانا قال: أنا أعطيك الدنيا كلها واسجد لي، ما وافق المؤمن أبدا؛ لأن هذا الذل لله عز وجل، والعبادة تتضمن القيام بكل ما أمر الله به، وترْك كل ما نهى الله عنه؛ لأن من لم يكن كذلك فليس بعابد، لو لم يفعل الأمر، يعني لو لم يفعل المأمورَ به فهل يكون عابدا حقا؟ أبدا، ولو لم يترك المنهي عنه ما كان عبدا حقا، العبد الذي يوافق المعبود في مراده الشرعي، إذن فالعبادة تستلزم أن يقوم الإنسان بكل ما أُمر به، وأن يترك كل ما نُهي عنه، ولكن هل قيامك هذا يمكن أن يكون بغير معونة الله؟ لا، لا يمكن، ولهذا قال: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، يعني لا نستعين إلا إياك على العبادة، والله سبحانه وتعالى يجمع بين العبادة والاستعانة أو التوكل في مواطن عدة من القرآن الكريم؛ لأنه لا قيام بالعبادة على الوجه الأكمل إلا بمعونة الله، والتفويض إليه، والتوكل عليه.
﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة ٦] ﴿الصِّرَاطَ﴾ فيها قراءتان: بالسين(٤) وبالصاد الخالصة؛ ﴿السِّرَاطَ﴾ و﴿الصِّرَاطَ﴾، والمراد بالصراط هنا: الطريق، والمراد بالهداية: هداية الإرشاد وهداية التوفيق، فأنت بقولك: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ تسأل الله تعالى علما وعملا، ولهذا جاءت متعدية بنفسها إلى المفعول لا بحرف (إلى) الدال على الغاية، عرفتم؟ فيشمل الهداية إلى الطريق، وهذا بالعلم، والهداية في الطريق، وهذا بالعمل والتوفيق.
وقوله: ﴿الْمُسْتَقِيمَ﴾ الذي لا اعوجاج فيه، وهذا الصراط الذي لا اعوجاج فيه بيّن الله تعالى في هذه الآية قوله: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة ٧]، ففي هذه الآية بيّن الله عز وجل أصناف الناس أنها ثلاثة: الذين أنعم الله عليهم، والمغضوب عليهم، وإيش؟ والضالون، فمن هؤلاء؟ الذين أنعم الله عليهم هم الذين علموا الحق وعملوا به، والذين غضب الله عليهم هم الذين علموا الحق ولم يعملوا به، والضالون هم الذين عملوا بغير علم، جاهلون، يريدون الحق ويريدون العبادة لكنهم جاهلون تعبّدوا لله بغير علم، انظر كيف قدم المغضوب عليهم على الضالين لأن مخالفتهم لطريق الذين أنعم الله عليهم أشد؛ لأنهم خالفوا عن علم، والمخالف عن علم أشد كبرا واستكبارا وعقوبة من الذين خالفوا عن غير علم، وكلتا الطائفتين ضالة، وذلك لأنهم ليسوا على هدى من الله.
وفي قوله: ﴿أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ قراءتان كذلك (عليهم) ضم الهاء وكسرها أي ﴿صِرَاطَ الذَّيِنَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهُمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهُمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ قراءة سبعية(٥)، ولكن أكرر ما قلته سابقا أن القراءات التي ليست في المصحف لا ينبغي أن نقرأ بها عند العامة؛ لسببين بل لأسباب ثلاثة، السبب الأول: أن العامة إذا رأوا هذا القرآن العظيم الذي قد ملأ قلوبهم تعظيمُه، إذا رأوه مرة كذا ومرة كذا تنزل منزلته لا شك، تهبط عندهم؛ لأنهم عوام لا يفرقون، فينبغي أن يبقى القرآن الكريم محترما لا يُغيَّر فيه بشيء، ثانيا: أن القارئ يُتهم بأنه لا يعرف، العامي ما الذي يعلم؟! لو يأتي إنسان يقرأ عليه مثلا بقراءة غير التي في مصحفه لكان يهجم عليه وربما يضربه، ربما يطرده من المسجد، القرآن عند العامة محترم جدا، وهو عندنا والحمد لله، لكن إذا أتيت بما لا يعرف العامي فيا ويلك منه، وهذه مفسدة أن الناس يستهينونك ويقولون: هذا ما فيه خير، هذا ما يعرف ولا يقرأ، نعم، الآن لو تقرأ عند العامي ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهُمْ﴾ نعم، قال: هذا ما يعرف يضم اسم (...) يقول عليهم، ليش ما قال ﴿عَلَيْهِمْ﴾ بالكسرة.
المفسدة الثالثة: أنك إذا قرأت عند العوام وأحسن العامي بك الظن، وقال هذا: إنه لم يقرأ إلا عن علم، ثم حاول أن يقلدك مرة أخرى فقد يخطئ، ثم يقرأ القرآن لا على قراءة المصحف، ولا على قراءة التالي الذي قرأها، وهذه مفسدة، ولهذا قال علِيّ: «حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يُكذَّب الله ورسوله »(٦)؟
وقال ابن مسعود: إنك لم تحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة(٧)،« عمر بن الخطاب مع هشام بن الحكم ماذا فعل به حين قرأ في سورة الفرقان بقراءة لم يسمعها عمر؟ نعم جبذه وتلّه وخاصمه، وأنكر قراءته، حتى وصلا إلى النبي ﷺ وقال: « اقْرَأْ». فقرأ، فقال: « هَكَذَا أُنْزِلَتْ». قال لعمر: « اقْرَأْ». فقرأ، قال: « هَكَذَا أُنْزِلَتْ»(٨)؛ لأن القرآن في الأول نزل على سبعة أحرف، فإذا كان عمر رضي الله عنه فعل ما فعل بصحابي، فما بالك بعامي يسمعك تقرأ غير قراءتك، نعم؟ يا ويلك منه، والحمد لله، ما دام أن العلماء متفقون على أنه لا يجب أن يقرأ الإنسان بكل قراءة، وأنه لو اقتصر على واحدة من القراءات فلا بأس، هدأ الفتنة وأسبابها، والسورة فيها فوائد عظيمة، وقد شرحها ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين شرحا لا تجده في غيره من الكتب، شرحا عظيما. الحمد لله رب العالمين.
* من فوائد الآية الكريمة ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾: إثبات الحمد لله عز وجل الكامل، وإثبات استحقاقه واختصاصه بذلك، أما الكامل فمن صيغة (أل) ﴿الْحَمْدُ﴾، وأما الاختصاص والاستحقاق فمن اللام ﴿لِلَّهِ﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: تقديم وصف الله تعالى بالألوهية على وصفه بالربوبية، لم يقل: لرب العالمين، ولكنه قال: ﴿لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، وهذا إما لأن (الله) هو الاسم العلم الخاص به والذي تتبعه جميع الأسماء، وإما أن يقال: لأن الألوهية قدمها الله عز وجل على ذكر ربوبيته سبحانه وتعالى؛ لأن الذين جاءت إليهم الرسل ينكرون الألوهية فقط.
* ومن فوائدها: عموم ربوبية الله تعالى لجميع العالم؛ لقوله: ﴿الْعَالَمِينَ﴾ وسبق لنا في التفسير أن المراد بالعالَم مَن سوى الله عز وجل، كل المخلوقات النامي وغير النامي، والعاقل وغير العاقل.
﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ * من فوائد هذه الآية: إثبات هذين الاسمين الكريمين: الرحمن والرحيم، وإثبات ما تضمناه من الرحمة التي هي الوصف، والرحمة التي هي الفعل.
* ومن فوائدها: أن ربوبية الله عز وجل مبنية على الرحمة؛ لأنه لما قال: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ كأن سائلًا يسأل: ما نوع هذه الربوبية؟ هل هي ربوبية أخذ وانتقام، أو ربوبية رحمة وإنعام؟ قال: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾.
* ومن فوائد الآية التي بعدها ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ أو ﴿مَلِكِ﴾ : إثبات ملك الله عز وجل وملكوته ليوم الدين، وإنما خص ذلك لما ذكرناه في التفسير من أنه في ذلك اليوم تتلاشى جميع الملكيات والملوك أيضا.
* ومن فوائدها: إثبات البعث؛ لقوله: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾.
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ من فوائدها: إخلاص العبادة لله، في قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، ووجه الإخلاص تقديم المعمول.
* ومن فوائدها أيضا: إخلاص الاستعانة لله عز وجل؛ لقوله: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ حيث قدم المفعول.
فإن قال قائل: كيف يقال: إخلاص الاستعانة لله وقد جاء في قوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة ٢] إثبات المعونة من غير الله عز وجل؟
قلنا: الاستعانة نوعان: استعانة تفويض، بمعنى أنك تعتمد على الله عز وجل وتتبرأ من حولك وقوتك، وهذا خاص بالله عز وجل، واستعانة بمعنى المشاركة فيما تريد أن تقوم به، فهذه ليست عبادة، ولهذا قال الله تعالى: ﴿تَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾.
فإن قال قائل: وهل الاستعانة بالمخلوق جائزة في جميع الأحوال؟ قلنا: لا، الاستعانة بالمخلوق إنما تجوز حيث كان المستعان قادرا عليها، وأما إذا لم يكن قادرا فإنه لا يجوز أن تستعين به، فلو أن أحدا من الناس استعان بقبر فإن هذا حرام، بل هو شرك؛ لأن صاحب القبر لا يغني عن نفسه شيئا، فكيف ينفعك؟! ولو استعان بغائب في أمر لا يقدر عليه، مثل أن يعتقد أن الولي الذي في شرق الدنيا يعينه على مهمته في بلده، فهذا أيضا شرك شركا أكبر؛ لأنه لا يقدر على أن يعينك وهو هناك.
فإن قال قائل: وهل الاستعانة بالمخلوق جائزة؟ قلنا: الأولى أن لا تفعل، فالإنسان مأمور أن يعين أخاه، لكن الغير لا ينبغي أن يستعين؛ لأن الاستعانة بغيره من باب السؤال المذموم، لكن أنت إذا رأيت أخاك قد احتاج إلى معونة فأنت مأمور بأن تعينه، ولكن لو استعنته فإنه ليس حراما، ليس حراما عليك، إنما هو ترك للأولى، إلا إذا علمت أن استعانتك به مما يسره وينشرح له صدره، فهنا إذا استعنته تكون محسنا إليه، ولا يعد هذا من المسألة المذمومة، كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام« حين دخل بيته ووجد البرمة على النار فيها اللحم، فلما قُدِّم له الطعام قال: « أَلَمْ أَرَ الْبُرْمَةَ عَلَى النَّارِ؟»، قالوا: بلى يا رسول الله، لكن هذا لحم تُصُدِّق به على بريرة، فقال: « هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا مِنْهَا هَدِيَّةٌ»(٩)، أرأيتم بريرة في هذه الحال هل سيكون هذا الأمر شاقا عليها؟ أبدا، بل ستُسَر به وتفرح، فأنت مثلا إذا استعنت بأخيك في حاجة من الحوائج وأنت تعلم أنه يُسَر بهذا ويفرح فإن استعانتك به تكون إحسانا إليه، لكن لو استعنت بشخص يرى أن استعانتك به أثقل عليه من جبل أحد، هل تستعينه؟ لا؛ لأن هذا فيه إحراج عليه، وفيه إذلال لك أيضا.
ومن فوائد قوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ لجوء الإنسان إلى الله عز وجل بعد استعانته على العبادة أن يهديه الصراط المستقيم؛ لأنه لا بد في العبادة من إخلاص يدل عليه ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، ومن استعانة لتقوى على العبادة؛ لقوله: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، ومن اتباع للشريعة في قوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾، فصارت هذه الآيات الثلاث متضمنة للدين كله: عبادة، والثاني: استعانة، والثالث: اتباع؛ لأن الصراط المستقيم هو الشريعة التي جاءت بها الرسل، وبالنسبة لنا هي الشريعة التي جاء بها مَن؟ نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ويعني هذا أن نتبع الرسول عليه الصلاة والسلام.
* ومن فوائد الآية الكريمة: بلاغة القرآن، حيث حُذف حرف الجر من ﴿اهْدِنَا﴾، يعني لم يقل: اهدنا إلى، بل قال: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ﴾، والفائدة من ذلك لأجل أن يتضمن طلب الهداية التي هي دلالة العلم وهداية التوفيق؛ لأن الهداية تنقسم إلى قسمين: هداية علم وإرشاد، وهداية توفيق وعمل؛ فالأولى ليس فيها إلا مجرد الدلالة، والله سبحانه وتعالى قد هدى كل أحد، الثانية فيها التوفيق للهدى واتباع الشريعة، وهذه قد يُحرَمها بعض الناس، قال الله تعالى: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ [فصلت ٤١] ﴿هَدَيْنَاهُمْ﴾ يعنى بيّنّا لهم الحق ودللناهم عليه، ولكنهم لم يوفَّقوا له، فلهذا حُذفت (إلى) ليكون طلب الهداية في هذه الآية شاملا لهداية العلم والإرشاد وهداية التوفيق والاتباع.
* ومن فوائدها: أن الصراط ينقسم إلى قسمين: مستقيم، ومعوج، فما كان موافقا للحق فهو مستقيم، قال الله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ﴾ [الأنعام ١٥٣]، وما كان مخالفا له فهو معوج.
ثم قال: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ إلى آخره.
* من فوائد هذه الآية الكريمة: ذكر التفصيل بعد الإجمال ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ لأن التفصيل بعد الإجمال فيه فائدة؛ فإن النفس إذا جاءها الكلام مجملا تترقب وتتشوف لإيش؟ للتفصيل والبيان، فقال: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾، ثم فيه أيضا الفائدة الثانية، وهو بيان أن الذين أنعم الله عليهم على الصراط المستقيم.
* ومن فوائدها أيضا هي وما بعدها: انقسام الناس إلى ثلاثة أقسام: قسم أنعم الله عليهم، وقسم آخر غضب الله عليهم، وقسم ضالون؛ فالذين أنعم الله عليهم سبق أنهم الذين علموا الحق واتبعوه، وأما المغضوب عليهم فهم الذين علموا الحق وخالفوه، وأما الضالون فهم الذين جهلوا الحق. وأسباب الضلال والخروج عن الصراط المستقيم إما الجهل أو العناد، فمن الذي سبب خروجهم العناد؟ هم المغضوب عليهم وعلى رأسهم اليهود، والآخرون الذين سبب خروجهم الجهل هم كل من لا يعلم الحق، وعلى رأسهم النصارى، وهذا بالنسبة لحالهم قبل البعثة، أعني النصارى، أما بعد البعثة فقد علموا الحق، فصاروا هم واليهود سواء، كلهم مغضوب عليهم بل هم أشد؛ لأنهم يؤمنون بالنسخ، أعني النصارى، ولهذا يؤمنون بأن شريعة عيسى ناسخة لشريعة موسى، واليهود لا يؤمنون بذلك فهم على جادة باطلة، وأولئك تناقضوا فآمنوا بنسخ الشرائع في مَن؟ في عيسى بالنسبة لشريعة موسى، ولم يؤمنوا بنسخ الشرائع في شريعة محمد ﷺ بالنسبة لشريعة عيسى، فكانوا متناقضين، وكان طريقهم أخبث من طريق اليهود.
وعلى كل حال السورة هذه عظيمة، ولا يمكن لا لي ولا لغيري أن يحيط بمعانيها العظيمة، لكن هذا قطرة من بحر.
ثم قال تعالى بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة ١، ٢].
هذه تسمى سورة البقرة؛ لأنه ذُكرت فيها البقرة، واعلم أن التسمية تكون بأدنى ملابسة، ولذلك تجد بعض السور فيها كلام كثير عن موضوع معين ولا تسمى به السورة، وفيها كلام قليل تسمى به السورة، وتسمية السور منها ما هو توقيفي، ومنها ما هو اجتهادي، فقد سمّى النبي ﷺ، سمى سورة البقرة وآل عمران(١٠) وغيرهما كثيرا، وفي بعضها التسمية توقيفية.
أما البسملة فقد سبق الكلام عليها، وبيّنّنا أنها آية مستقلة يؤتى بها في ابتداء كل سورة سوى (براءة).
قال الله تعالى: ﴿الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ (الم) هذه الكلمة مكونة من ثلاثة أحرف هجائية: ألف، ولام، وميم، فما معنى هذه الحروف التي تركبت منها هذه الكلمة؟ كثير من المفسرين يقول: الله أعلم بما أراد، وهذا لا شك أنه تأدُّب مع الله عز وجل، وإمساك عما لا يعلمه الإنسان. ومنهم من جعلها رموزا لأشياء معينة إما من أسماء الله أو غيرها من الحوادث، وهذا لم يَبْن ما قاله على علم، ومنهم من قال: إنها حروف هجائية ليس لها معنى، ولا نعلم لها معنى حسب مقتضى اللغة العربية، والقرآن الكريم نزل باللغة العربية، وعلى هذا فمن حقنا أن نقول: ليس لها معنى، بناء على أن القرآن عربي وأن مثل هذه الحروف المركبة ليس لها معنى، وهذا قول مجاهد رحمه الله، وهو إمام التابعين في التفسير، وهو القول الذي تقتضيه الأدلة، ولكن يبقى النظر لماذا جاء الله بها وهي ليس لها معنى حسب اللغة العربية؟ نقول: إشارة إلى أن هذا القرآن الكريم الذي أعجزكم أيها العرب لم يأت بجديد من كلامكم، بل أتى بما ترتبون منه كلامكم وتبنونه، أنتم كلامكم حروف: ألف، باء، تاء، ثاء، إلى آخره، هل القرآن جاء بشيء زائد؟ لا، ومع ذلك عجزتم أن تركبوا مثله، أعجزكم.
وقد ذكر الله تعالى إعجاز القرآن على أربعة أوجه: إعجاز بكل القرآن، وإعجاز بعشر سور منه، وإعجاز بسورة منه، وإعجاز بمثله، كلها تكررت في القرآن، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾، وقال تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ﴾ [هود ١٣] وقال تعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ﴾، [الإسراء: ٨٨] وقال تعالى: ﴿فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِين﴾ [الطور ٣٤]، وقد تحدى الله عز وجل الخلق على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ولو بآية واحدة، كما تحداهم على أن يخلقوا أدنى مخلوقات الله، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَه﴾ [الحج ٧٣].
فالقول الراجح في هذه المسألة أعني الحروف الهجائية التي تُبتدأ بها بعض السور أنه ليس لها معنى، ولكن لها مغزى، وهو أن هذا القرآن الكريم لم يأت بجديد في الحروف التي جاء بها، بل هو جاء بالحروف التي تركّبون منها كلامكم ومع ذلك أعجزكم، ولهذا تجد السور المبدوءة بهذه الحروف الهجائية يأتي من بعدها ذكر القرآن أو شيء لا يكون إلا بوحي، فمثلا: ﴿الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ جاء بعدها ذكر القرآن، ﴿الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾ [الروم ١ - ٣] لم يأت فيها ذكر القرآن، ولكن جاء بعدها ما لا يمكن إلا بوحي.
﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ يجوز أن نجعل (الكتاب) خبر (ذا)، ويجوز أن نجعلها نعتا أو عطف بيان، فإن جعلناها خبر (ذا) صار قوله: (لا ريب فيه) جملة مستأنفة، وإن جعلناه بدلا أو عطف بيان صارت (لا ريب فيه) إيش؟ خبر اسم الإشارة، والكتاب المشار إليه هو القرآن، وسمي كتابًا لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ، ومكتوب في الصحف التي بأيدي الملائكة، ﴿كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ﴾ [عبس ١١ - ١٥]، ومكتوب في المصاحف التي بين أيدينا.
﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ (لا ريب)، ما معنى الريب؟ الشك، هكذا فسره أكثر العلماء، أن الريب هو الشك، لكن شيخ الإسلام رحمه الله(١١) له رأي في مثل هذه الألفاظ المترادفة؛ يقول: لا يوجد في اللغة العربية كلمة مرادفة لأخرى من كل وجه، لا بد أن يكون بينهما فرق، فالريب هنا ليس مطابقا للشك في إزائه من كل وجه؛ لأن الريب، يقول: شك مع قلق وارتياب، فهو إذن أخص من الشك، لكن لا مانع أن نفسر الكلمة بما هو قريب منها، لا سيما إذا كان المخاطَب لا يتصور الفرق.
وقوله: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ (لا) نافية للجنس، فيشمل أدنى ريب، يعني ما فيه أدنى ريب.
وقوله: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ الهدى بمعنى الدلالة، القرآن نفسه لا يهدي هداية توفيق، لكنه يهدي هداية دلالة؛ ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾. في آية أخرى ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاس﴾ [البقرة ١٨٥] فأي فرق بين هذا وهذا؟ نقول: أما كونه هدى للناس فهذا هو الأصل، أن القرآن يمكن أن يهتدي به كل أحد، وأما إضافة الهدى إلى المتقين فلأن المتقين هم الذين انتفعوا به فصار هدى لهم، ومَن المتقون؟ الذين قاموا بأوامر الله وتركوا نواهي الله.
في هذه الآية الكريمة بيان أن كلام الله عز وجل حروف، خلافا لمن قال: إن كلامه هو المعنى القائم بالنفس، ونحن نشرح ذلك: أصول الخلاف في هذا القرآن الكريم أو في كلام الله عمومًا:
أولا: من قال: إن كلام الله هو المعنى القائم بنفسه، وما يُنقل من كلامه أو يسمع فهو عبارة عنه وليس هو كلام الله، بل عبارة عنه، وهو مخلوق.
والثاني قال: إن الله تعالى لا يتكلم، وكلامه مخلوق كسائر مخلوقاته.
ومنهم من قال: إن الله يتكلم بحرف وصوت، وليس كلامه هو المعنى فقط، بل كلامه اللفظ والمعنى. وهذا الذي قبله مذهب المعتزلة والجهمية، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، ومذهبهم هو الحق؛ لأن الأدلة تدل عليه، قال الله تعالى في موسى: ﴿وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا﴾ [مريم ٥٢] فلما كان بعيدا قال: ﴿نَادَيْنَاهُ﴾؛ لأن النداء يكون للبعيد، ولما قرب يعني لما قربه الله قال: ﴿قَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا﴾، أي: بصوت ليس نداء، وفي الحديث الصحيح:« أَنَّ اللهَ يُنَادِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ: يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، فَيُنَادِي بِصَوْتٍ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إِلَى النَّارِ(١٢) »، وهذا أمر لا يشك فيه إنسان، ولولا أن الخلاف وقع فيه ما كنا نتكلم فيه، لكن وقع ولا بد من بيان الحق، المعتزلة يقولون: القرآن مخلوق من المخلوقات، أصوات يخلقها الله وحروف تكتب فهو كسائر المخلوقات، ولا شك أننا إذا قلنا بهذا أبطلنا الأمر والنهي؛ لأن الأمر يكون صوتا سُمع على هذا الوجه، قولوا: صوت سُمع على هذا الوجه، يعني كأنه صدى، أرأيت الآن الشمس والقمر والجبال مخلوقة على هذا الوجه، هم يقولون: هذا صوت خُلق على هذا الوجه، كصوت الرعد.
الأشعرية يقولون: الكلام معنى قائم بنفسه، لكن خلق أصواتا، فإذا قلنا: إن الأوامر والنواهي مخلوقة، بطل الأمر والنهي؛ لأن (قل) خلق الله كلمة على صورة (قل) ولا تفيد أمرا، ﴿لَا تَقْرَبُوا الزِّنَا﴾ [الإسراء ٣٢] خلق الله تعالى حروفا على هذا الشكل فلا تفيد نهيا، ولهذا صدق من قال: إن القائلين بخلق القرآن سواء جعلوه عبارة عن كلام الله أو هو كلام الله، إنهم أبطلوا الأمر والنهي والشرائع كلها.
* * *
* الطالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم ﴿الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ﴾ [البقرة ١ - ٧]
* الشيخ: ﴿وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ قف.
* الطالب: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [البقرة ٧]
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال ربنا عز وجل: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿الم﴾، البسملة سبق لنا الكلام عليها فلا حاجة للإعادة، أما قوله: ﴿الم﴾ فإنها حروف هجائية، وسبق الكلام عليها إذن، ولا حاجة للمناقشة ولا للإعادة.
﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ قوله: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ إن جعلنا ﴿الْكِتَابُ﴾ صفة لـ(ذا) صار ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ خبر. وإن جعلنا ﴿الْكِتَابُ﴾ خبرا؛ ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾، صارت الجملة استئنافية محلها النصب على الحال، يعني حال كونه منتفيا عنه الريبة. وقوله: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾، أي: لا شك، وتفسير الريب بالشك إنما هو للتقريب، ونفي الشك هنا الشك في ثبوته، يعني لا شك في ثبوته، وأنه من عند الله.
ثانيا: لا شك فيما تضمنه من الأخبار، فكل خبر في القرآن الكريم فإنه لا شك فيه عند كل مؤمن، بل هو حق ثابت. وقوله: ﴿فِيهِ﴾ قيل: إنها خبر (لا) النافية، وقيل: إنه خبر مقدم لقوله: ﴿هُدًى﴾، ولكن الأولى أن يكون خبرا لـ(لا) النافية. وقوله: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ تكون حالا من الكتاب يعني حال كونه ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾، وهو هدى للمتقين من الناحيتين: العلمية والعملية، أما العلمية فهي هداية الدلالة، فإن مصدر العلم هو هذا القرآن الكريم، هو الذي يهديك إلى الحق ويدلك عليه، ويهديك إلى الباطل ويبينه لك ويحذرك منه، أما الثاني فهو هداية العمل، فإن المتقين هم الذين اهتدوا به عملا.
وقوله: ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ اسم فاعل، والفعل منه (اتقى)، ومعنى اتقى: اتخذ وقاية من عذاب الله، وهذا لا يكون إلا بفعل الأوامر واجتناب النواهي، وعلى هذا فأشمل الحدود في التقوى أنها اتخاذ وقاية من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه، فهي فعل الأوامر واجتناب النواهي.
واعلم أن التقوى تُقرن تارة بالبر، كقوله: ﴿تَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة ٢]، وتارة تُقرن بالإيمان، كما في هذه الآية: ﴿لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾، وتارة تُذكر وحدها، فإن ذُكرت وحدها شملت الدين كله؛ لأن الدين كله وقاية من عذاب الله، وإن اقترنت بالبر صار البر فعل الأوامر، والتقوى ترك النواهي، فهي تفسَّر في كل سياق بحسبه.
ثم قال: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾، هذه من صفات المتقين أنهم يؤمنون بالغيب، أي يقرّون به ويعترفون به، والمراد بالغيب هنا ما غاب عن الناس مما أخبر الله به ورسوله، سواء كان ذلك فيما يتعلق بصفات الله، أو فيما يتعلق بعباد الله فيما مضى، أو فيما يتعلق بعباد الله في المستقبل، يؤمنون به، فيؤمنون بالله عز وجل بأسمائه وصفاته، بألوهيته، ربوبيته، يؤمنون كذلك بما أخبر الله به من الأمم السابقين، يؤمنون بما أخبر الله به من المستقبل من علم الآخرة؛ لأن كل هذا داخل في قوله: ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾. ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾، نعم هل يدخل في الإيمان بالغيب الإيمان بالملائكة؟ نعم؛ لأنهم عالم غيببي.
﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾، أي: يأتون بها قائمة لا اعوجاج فيها، وذلك بالقيام بواجباتها واجتناب محظوراتها، وقوله: ﴿الصَّلَاةَ﴾ يشمل صلاة الفريضة والنافلة؛ لأنها هنا اسم جنس يشمل كل الصلاة.
﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُون﴾ (مما رزقناهم) جار ومجرور متعلق بـ(ينفقون)، المعنى: مما أعطيناهم ينفقون، وأول ما يدخل في ذلك الزكاة، إنفاق الزكاة؛ فإنهم يقومون بها، وعلى هذا تكون الآية من جنس الآيات الأخرى التي فيها ﴿يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ [المائدة ٥٥].
﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ ﴿أُولَئِكَ﴾ المشار إليهم المتقون الذين اهتدوا بالقرآن. ﴿عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾، ﴿عَلَى هُدًى﴾ أي: على طريق مستقيم من الله عز وجل، هداهم الله تعالى علما وهداهم الله عملا.
﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾، هذا أيضا من صفاتهم.
﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ الآية هنا معطوفة على ما سبق عطفَ صفات لا ذوات، والأصل في المعطوفات أن تكون ذواتًا، لكن هنا العطف عطف صفات؛ لأن الذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك هم الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة، وعطف الصفات بعضها على بعض أمر لا يُستغرب لا في القرآن ولا في لغة العرب، قال الله تعالى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (٤) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى﴾ [الأعلى ١ - ٥]، فهذا عطف صفات بعضها على بعض.
﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ وهو القرآن، وربما نقول: إنه أشمل من القرآن؛ لقوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة﴾ [النساء ١١٣] فهو القرآن والسنة، ﴿وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ من الكتب كالتوراة والإنجيل.
﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ قوله: ﴿بِالْآخِرَةِ﴾ جار ومجرور متعلق بـ﴿يُوقِنُونَ﴾، وأتى بكلمة ﴿هُمْ﴾ للتوكيد، وإلا لو حُذفت وقيل: وبالآخرة يوقنون، استقام الكلام، لكن من أجل التوكيد أُتي بالضمير (هم)، وقوله: ﴿يُوقِنُونَ﴾، أي: يؤمنون إيمانا لا شك فيه ولا يتطرق إليه الاحتمال؛ لأن اليقين هو العلم القطعي، هذه من صفاتهم.
﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ ﴿أُولَئِكَ﴾، المشار إليه المتقون الذين يؤمنون بما سبق، ﴿عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِم﴾ أي: على صراط من الله عز وجل، وقال: ﴿مِنْ رَبِّهِم﴾؛ لإفادة أن منة الله عليهم بهذا منة خاصة، فهي ربوبية خاصة لهم ليست الربوبية العامة.
﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، كرر ﴿أُولَئِكَ﴾؛ للتنويه بفضلهم وعلو مرتبتهم، وقوله: ﴿هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ يقول العلماء إن (هم) هنا ضمير فصل، وهو ضمير لا محل له من الإعراب؛ لأنه إنما أُتِي به للتوكيد، قالوا: وفوائده ثلاثة: الفائدة الأولى: التوكيد، والثانية: الحصر الذي هو التخصيص، الثالثة: إفادة أن ما بعده خبر وليس صفة، ولهذا سمي ضمير فصل، يعني أن الفلاح محصور فيهم، والفلاح هو الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب.
نرجع إلى هذه الآيات نجد أن الله سبحانه وتعالى ذكر فيها ما يدل على عدة فوائد، أولا: بيان أن هذا القرآن الكريم هو من الحروف التي يتكلم بها العرب؛ لقوله: ﴿الم﴾، كما بينّا ذلك واضحا في التفسير.
* ومن فوائد هذه الآيات: علو مرتبة القرآن؛ لقوله: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾، فأشار إليه إشارة البعيد مع قربه، فإنه بين أيدينا إشارة إلى علو مرتبته، وهو واللهِ أعلى مراتب القول، إن خير الحديث كتاب الله، كما كان الرسول ﷺ يعلنه في كل جمعة يقول على المنبر: « إِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ»(١٣).
* ومن فوائد هذه الآيات: أنه لا يجوز لأحد أن يرتاب في هذا القرآن، وأن القرآن ليس محلا للريبة، المعنى الأول لا يجوز لأحد أن يرتاب في هذا القرآن على تقدير أن النفي هنا بمعنى؟
* طالب: النهي.
* الشيخ: النهي، والثاني: أن هذا القرآن ليس محلا للريبة، على تقدير أن (لا) نافية، وقد بيننا لكم في التفسير أن قوله: ﴿لَا رَيْبَ فِيه﴾ فيها قولان للعلماء، القول الأول: أن النفي هنا بمعنى النهي، وأن المعنى: لا ترتابوا فيه. والقول الثاني: أن النفي هنا على بابه، والمعنى أن القرآن لا ريب فيه ولا إشكال فيه، واضح يا جماعة؟ إذن من الفوائد تحريم الارتياب في القرآن وبيان أنه ليس محلا للريبة.
* ومن فوائد هذه الآيات: أن القرآن هدى للمتقين، وهو واضح في الآية ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾، ويترتب على هذه الفائدة أنك إذا رأيت الله قد منّ عليك بفهم كتابه والعمل به، فاعلم أنك ممن؟ ممن يا جماعة؟ من المتقين؛ لأن الله قال: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾، فإذا رأيت من نفسك أن الله من عليك بالعلم والعمل بكتابه فأبشر فإنك من المتقين.
ويتفرع أيضا على هذا فائدة أخرى: إذا رأيت الغفلة وعدم الانتفاع بالقرآن فاحذر؛ فإن هذا يدل على نقص تقواك؛ لأنه لو كانت تقواك كاملة لكان هذا القرآن هدى لك، ويتفرع على هذا أيضا: الحث على التقوى، وأنها سبب للاهتداء بالقرآن، وأنك كلما اتقيت الله ازددت انتفاعا بالقرآن واهتداء به.
* ومن فوائد الآيات: فضيلة الإيمان بالغيب، وإن شئت فقل: إن الإيمان حقيقة هو الإيمان بالغيب؛ لقوله: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾؛ لأن الإيمان بالشهادة ما هو إيمان، الإيمان بالشهادة المحسوسة ليس إيمانا، أي نعم، والدليل: أن فرعون كان ينكر رب العالمين، ويقول لموسى: ما رب العالمين؟ ولما أدركه الغرق قال: ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ﴾ [يونس ٩٠]، وفي هذا من الذل ما فيه، كان بالأول يقتل بني إسرائيل إذا لم يوافقوه، والآن صار تبعا لهم، ما قال: آمنت بالله أو برب العالمين، آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل، فأتى باسم الموصول الدال على التفخيم والتعظيم، ثم بـ ﴿الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ﴾؛ ليقول: أنا تابع لهم مؤمن بما يؤمنون به، وهذا غاية ما يكون من الذل، انتبهوا لهذه النقطة.
طيب، هل هذا الإيمان الذي جرى من فرعون في تلك الساعة هل هو إيمان نافع؟ لا، ولهذا قيل له: ﴿آلْآنَ﴾؟ ما فيه فائدة، ﴿آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [يونس ٩١]، وهذا حق.
الإيمان بالشيء الشاهد؛ تشوف هذا الباب تقول: هذا باب، أومن بأن هذا باب؟ نعم؟ هذا إيمان؟
* الطلبة: لا.
* الشيخ: لو قلت: أنا أومن بأن حولي رجالا يطلبون العلم، هذا إيمان؟ هو إيمان؟
* الطلبة: ليس إيمانًا.
* الشيخ: أما حولي رجالا، صحيح ليس إيمانًا؛ لأنه مشاهد، أما يطلبون العلم، فهو إيمان؛ لأنه مبني على ظني فيما يريدون بطلب العلم، وهل هم حريصون أو يحضرون بالأبدان دون القلوب، أو ما أشبه ذلك، على كل حال اجعلوها إن شاء الله إيمانا، لا تجعلوها إيمانا بالغيب، اجعلوها إيمانا بالمحسوس.
من فوائد هذه الآيات الكريمة: فضيلة الصلاة، وأنها أعلى أنواع الأعمال البدنية، ولهذا تأتى دائما بعد الإيمان؛ لقوله: ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾.
* ومن فوائدها: الحث على إقامة الصلاة، وأن الإنسان يأتي بها كاملة على الوجه الذي يرضي الرب عز وجل الذي فرضها على عباده، أما أن يصلي صلاة لا روح فيها، أو صلاة لا تجزئ رسميا أو ما أشبه ذلك، فهذا ليس بمقيم للصلاة، أفهمتم؟ يعني ربما يجيء إنسان يصلي صلاة من أتقن ما يكون ظاهريا، فهذا باعتبار الرسم أقامها، قائم يقوم بخشوع في الرأس، في الركوع يطمئن، وفي السجود يطمئن، لكن قلبه في وادٍ، وجسمه في وادٍ، هل أقامها؟ لا، ما أقامها، هي قشر، قشر منتفخ لكن تطلع ما فيه لب؛ لعدم الخشوع، ولهذا تجد الناس كثيرا منهم يخرج من الصلاة لا يحس بنفسه أنه كره المنكر ولا كره الفحشاء، مع أن الله يقول: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت ٤٥]، لكن لا يحس بذلك؛ لأنها قشور صلاة، نسأل الله أن يعيننا وإياكم على الخشوع في الصلاة؛ لأنه الآن أشد ما نجاهد عليه هو هذا، يعني قضية الرسم بأن الإنسان يأتي بالصلاة باطمئنان ظاهري هذا شيء سهل، لكن الكلام على اللب وهو الخشوع هذا أمر صعب، لكن حاول مرة بعد أخرى، كلما جذب الشيطان قلبك رده، وثِق أنه من حين ما تجذبه إلى الصلاة ترده إلى الصلاة سوف يرده، سوف يجد هناك تجاذب، لكن استمر، وإن شاء الله في النهاية يزول، طيب من إقامة الصلاة الطمأنينة فيها التي قد افتقدها بعض الناس، ولا سيما في الركنين ما بين الركوع والسجود، وما بين السجودين، هذان الركنان مظلومان عند بعض الناس، تجده يقول: سمع الله لمن حمده، الله أكبر، إيش قلت؟ اطمأن؟ ما اطمأن، هذا لا صلاة له، لو يصلي إلى يوم الدين ما فيه صلاة؛ لأن «الرسول قال للرجل: « ثُمَّ ارْفَعْ - يعني من الركوع- حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا»(١٤)، وفي لفظ « حَتَّى تَطْمَئِنَّ قَائِمًا»(١٥)، لا بد من الطمأنينة، وعلى كل حال لا حاجة إلى أن نأتي على الصلاة بجميع ما يُخل فيها بعض الناس؛ لأنها معروفة.
من فوائد هذه الآيات الكريمة: فضيلة الإنفاق في سبيل الله، فضيلة إنفاق المال؛ لقوله: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾.
* ومن فوائدها: أن صدقة الغاصب باطلة، من أين تؤخذ؟ ﴿مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾؛ لأن الغاصب لا يملك المال الذي تصدق به فلا تُقبل صدقته.
* ومن فوائدها: الإشارة إلى ذم البخل؛ لقوله: ﴿مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾، هل أنت حصّلت المال بكسبك؟ لا، الذي أعطاك المال هو الله، ﴿مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾ ولم يقل: مما كسبوا، قال: ﴿مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾، وحتى ما كسبه الإنسان هو بتيسير الله، وكم من إنسان ضرب أبواب الرزق من كل جانب ولكن لم يوفق، إذن من فوائد هذه الآية الكريمة: فضيلة الإنفاق، لكن هنا أطلق بل هنا أجمل المنفَق فيه؛ قال: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ يعني بيّن المنفَق منه ولم يبيّن المنفَق فيه، نقول: نعم، لكنها بُيّنت في آيات كثيرة، ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ﴾ [البقرة ٢١٥] الجواب: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾، أي شيء ينفقون؟ ﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ﴾، كأنه قال: اسألوا عن ماذا تنفقون؟ نعم، اسألوا فيم تنفقون؟ ﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ﴾، ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾، عن إيش؟ قولوا يا جماعة؟
* الطلبة: (...)
* الشيخ: وإيش ينفقون؟ ماذا ينفقون، فقال الله عز وجل: ﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ﴾، فبيّن ما ينفَق فيه؛ لأنه هو المهم، كثير من الناس ربما يخرج نصف ماله لكن في سبيل الطاغوت، والشيء النافع في سبيل الله، أي فيما يرضي الله عز وجل، لكن قد يقال: إن قوله: ﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ﴾، قد يقول قائل: فيه إشارة إلى المنفَق منه، وهو أن يكون الإنفاق خيرا، على كل حال الآية هنا أجمل الله فيها الإنفاق: ﴿مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾، فأجمل، فيقال: إن هذا المجمل مبين في نصوص أخرى من القرآن والسنة.
* * *
* الطالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٧) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ [البقرة ٦ - ١٠]
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ﴾، قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُون﴾، هذه عطف على ما سبق في قوله: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾، يعني ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ﴾، وقد سبق أن قلنا: إنه يجوز عطف الصفات بعضها على بعض كما في قوله تعالى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى﴾ [الأعلى ١ - ٤]، مع أن الأصل في الصفات أن لا تكون معطوفة.
* من فوائد الآية: الثناء على الذين يؤمنون بما أنزل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وما أنزل من قبله، وأن هذا من خصال المتقين؛ لقوله: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾.
ومن فوائد الآية أيضا: الثناء على الموقنين بالآخرة، وقد سبق في التفسير أنه ليس المراد بالإيقان بالآخرة أن تؤمن بأن هناك يوما يُبعث الناس فيه، بل تؤمن بكل ما جاء في الكتاب والسنة مما يقع في ذلك اليوم، بل إن شيخ الإسلام رحمه الله قال: يدخل في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلي الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت(١٦).
ثم قال عز وجل: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ هذا أيضا بيان حالهم ومآلهم؛ أما حالهم فقال: ﴿عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾ أي: على علم وبينة، ففيه دليل على سلامة هؤلاء في منهجهم، لقوله: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾.
* ومن فوائدها أيضا: أن ربوبية الله عز وجل تكون خاصة وعامة؛ لأن قوله: ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾ إضافته إلى هؤلاء فقط، لكنها ربوبية خاصة اقتضت العناية التامة بهم.
* ومن فوائدها أيضا: أن مآل هؤلاء هو الفلاح؛ لقوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.
* ومن فوائدها: أن الفلاح خاص بهم؛ لأن هذه الجملة: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ تفيد الحصر.
ثم قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُون﴾، هذا بيان للقسم الثاني من الناس؛ لأن هذه السورة ذكر الله أصناف الناس وأقسامهم، الأول: المؤمنون الخلّص، والثاني: الكفار الخلص في هذه الآية.
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، كفروا بمن؟ كفروا بكل ما يجب الإيمان به؛ كفروا بالله، كفروا برسله، كفروا بملائكته، كفروا بكتبه، كفروا باليوم الآخر، كفروا بالقدر خيره وشره، أو ما أشبه ذلك، المهم أنه عام بكل ما يجب الإيمان به، فإذا كفروا به فهؤلاء كفار.
طيب وإن كفروا ببعضه؟ فكذلك؛ لقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (١٥٠) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ [النساء ١٥٠، ١٥١]
وقوله: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾، هذه جملة مسبوكة بمصدر دون أن يوجد حرف مصدري؛ لأن الجملة التي تُسبك في المصدر يعني تُحوَّل إلى مصدر لا بد أن تقترن بحرف مصدري، مثل: (أنّ) و(أنْ) و(ما) المصدرية و(لو) المصدرية، لكن هذه سُبكت بمصدر مع أنها ليس فيها شيء من أدوات المصدر، لكن إذا جاء السواء ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ فهذه تُسبك بمصدر، فالتقدير: سواء عليهم إنذارك أم عدمه، والمراد بهؤلاء الكفار الذين حقت عليهم كلمة العذاب، فهؤلاء لا يؤمنون سواء أنذرهم أم لم ينذرهم؛ لأنه قد خُتم على قلوبهم ـ والعياذ بالله ـ وليس المراد بهذا أن لا يدعوهم الرسول عليه الصلاة والسلام، بل المراد أن يتسلى إذا لم يؤمنوا فيقال: هؤلاء قد طبع الله على قلوبهم فلا يؤمنون.
وقوله: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ﴾، ﴿سَوَاءٌ﴾ بمعنى مستوٍ عليهم إنذارك وعدمه، وقوله: ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ﴾ الإنذار هو الإعلام بتخويف وترهيب، ﴿أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ هذا القسم الثاني.
هذه (أم) هنا متصلة أو منقطعة؟
* طالب: متصلة.
* الشيخ: هذه متصلة؛ لأن المتصلة هي التي تأتي بين شيئين متعادلين كما هنا، والمنقطعة التي تأتي بين شيئين منفصلين، هذا فرق معنوي، والفرق اللفظي: المتصلة يصح أن يحل محلها (أو)، والمنقطعة لا يصح أن يحل محلها (أو)، بل يحل محلها (بل)، ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُون﴾ الجملة هذه خبر ثاني، أين الخبر الأول؟ ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ هذه هي الخبر الأول، وقوله: ﴿لَا يُؤْمِنُون﴾ الخبر الثاني.
في هذه الآية الكريمة تسلية الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين يرده الكفار ولا يقبلون دعوته.
وفيها أيضا: أن من حقت عليه كلمة العذاب فإنه لا يؤمن مهما كان المنذِر والداعي؛ لأنه لا يستفيد، قد خُتم على قلبه، ﴿أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ﴾ [الزمر ١٩] يعني هؤلاء لهم النار وانتهى أمرهم، ولا يمكن أن تنقذهم.
* من فوائد الآية الكريمة: أن الإنسان إذا كان لا يشعر بالخوف عند الموعظة ولا بالإقبال على الله فإن فيه شبها مِمن؟ من الكفار الذين لا يتعظون بالمواعظ ولا يؤمنون عند الدعوة إلى الله.
قال الله تعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ الختم بمعنى الطبع، وأصله من الختم الذي هو الخاتم؛ لأنه عند انتهاء القول في الكتابة يُختم القول بالكتابة، يعني أنه انتهى الأمر، فهؤلاء ختم الله على قلوبهم؛ وأيضا يشبه وعاء النفقة إذا خُتم عليه بالشمع الأحمر كما يقولون فإن أمره منتهٍ. ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾، يعني: وختم على سمعهم، وإذا ختم على القلوب صارت لا تفقه، وعلى السمع صارت لا تسمع سماعا ينفع.
قال: ﴿وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ هذه جملة مستأنفة، والغشاوة الغطاء، فإذا كان على الأبصار غشاوة صارت لا تبصر، فخُتمت الطرق الثلاثة للهدى، وهي: القلب، والثاني: السمع لما يقال، والثالث: البصر فيما يُرى، فالأبواب الثلاثة كلها سُدت، قال الله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّه﴾ [الجاثية ٢٣] لا أحد.
فإن قال قائل: هذا الختم هل له سبب أو هو ابتلاء وامتحان من الله؟
فالجواب: أن له سببا بيّنه الله تعالى في قوله: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الأنعام ١١٠]، وبقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [الصف ٥] فإذا رأيت أحدا قد ضل فاعلم أنه هو السبب في ضلال نفسه.
﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، ﴿وَلَهُمْ﴾ أي لهؤلاء الكفار الذين بقوا على كفرهم لهم عذاب عظيم، وهو عذاب النار، وعظمه الله تعالى لأنه لا يوجد أشد من عذاب النار، أعاذنا الله وإياكم منها بكرمه وجوده.
انتهى الكلام على الصنف الثاني من أصناف الخلق وهم الكفار الخلّص الصرحاء.
في هذه الآية الكريمة الأخيرة دليل على أن القلوب محل الوعي؛ لقوله: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾، يعني: فلا يصل إليها الخير.
وفيها أيضا من فوائدها: أن طرق الهدى إما بالسمع وإما بالبصر؛ لأن الهدى قد يكون بالسمع وقد يكون بالبصر؛ بالسمع فيما يقال، وبالبصر فيما يشاهَد، وهكذا آيات الله عز وجل تكون مقروءة مسموعة، وتكون بيّنة مشهودة.
* ومن فوائد هذه الآية: وعيد هؤلاء الكفار بالعذاب العظيم؛ لقوله: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾.
ثم قال عز وجل: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِين﴾، ﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾ (مِن) هنا للتبعيض؛ وعلامة (مِن) التي للتبعيض أن يحل محلها (بعض)، فهنا لو في غير القرآن لو قال: وبعض الناس يقول، لكان الكلام مستقيما، إذن (مِن) للتبعيض ﴿مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ﴾ (مَن) هذه مبتدأ مؤخر، ﴿مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، لكن يقول ذلك بلسانه، أما في قلبه فلا، ولهذا قال: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾، بمؤمنين في إيش؟
* الطلبة: (...)
* الشيخ: ما سمعت.
* الطلبة: (...).
* الشيخ: طيب، وما هم بمؤمنين في قلوبهم، لكن بلسانهم يقولون: آمنا بالله وباليوم الآخر، بل قد قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ﴾، بعد ﴿وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِم﴾ [المنافقون ٤]، فهم يفتنون الناس برؤيتهم وبسماع أقوالهم، لكن لا خير فيهم، ومن أراد أن يعرف صفات المنافقين فعليه بكتاب مدارج السالكين ، ذكر ابن القيم رحمه الله جمع صفاتهم في مقال واحد، فمن أراد أن يراجعها فليراجع.
يقول: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، ذكر الإيمان بالله؛ لأنه هو المبتدى سبحانه وتعالى، يعني الذي ابتدأت منه الأمور، واليوم الآخر؛ لأنه هو المنتهى، والإنسان إذا آمن بالله وباليوم الآخر استقام، ولهذا يقرن الله تعالى دائما بين الإيمان به واليوم الآخر دون الإيمان بالملائكة والكتب والرسل؛ لأن حقيقة الأمر أن من لم يؤمن باليوم الآخر فإنه لن يؤمن بالله؛ لأنه ماذا يحصّل؟ ماذا ينتظر؟ إذا كان لا يؤمن باليوم الآخر فلن يؤمن بالله.
قال: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ هذا تكذيب لهم في قولهم: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، كقول الله تعالى مكذبا لهم: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [المنافقون ١، ٢].
ثم قال: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة ٩]، وفي قراءة: ﴿وَمَا يُخَادِعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ . ﴿يُخَادِعُونَ﴾ المخادعة: مُفَاعَلَة من الخداع، والخداع والمكر والكيد كلها معان متقاربة، ويشملها هذا التعريف: التوصل إلى الإيقاع بالخصم من حيث لا يشعر، هذا الخداع وهذا المكر، يتوصل إلى الإيقاع بالخصم من حيث لا يشعر، هذا هو الخداع، هؤلاء إذا قالوا إنهم مؤمنون قالوا: غنمنا الآن، يقولون: غنمنا؛ لأننا خدعنا محمدا وأصحابه، ولكنهم في الحقيقة هل خدعوا الرسول وأصحابه؟ خدعوا الله، ولهذا قال: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ وعلى رأس الذين آمنوا رسول الله ﷺ، قال تعالى: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ يخدعون أنفسهم في الواقع؛ لأنهم غروها، حيث أظهروا خلاف ما يبطنون، وهم يعلمون أن ما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام حق، لكنهم لم يؤمنوا به، بل أنكروه فخدعوا أنفسهم بذلك، فإن قال قائل: ما وجه خداعهم لله والذين آمنوا؟ قلنا: وجه خداعهم أنهم إذا أظهروا الإيمان سَلِمت أموالهم.
هذا الخداع وهذا المكر يتوصل إلى الإيقاع بالخصم من حيث لا يشعر، هذا هو الخداع، هؤلاء إذا قالوا إنهم مؤمنون، غنمنا الآن، يقولون: غنمنا؛ لأنا خدعنا محمدًا وأصحابه، ولكنهم في الحقيقة هل خدعوا الرسول وأصحابه؟ لا، خدعوا الله؟ ولهذا قال: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة ٩]، وعلى رأس الذين آمنوا رسول الله ﷺ. قال تعالى: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾، يخدعون أنفسهم في الواقع؛ لأنهم غروها حيث أظهروا خلاف ما يبطنون وهم يعلمون أن ما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام حق؛ لكنهم لم يؤمنوا به، بل أنكروه فخدعوا أنفسهم بذلك. فإن قال قائل: ما وجه خداعهم لله والذين آمنوا؟ قلنا: وجه خداعهم أنهم إذا أظهروا الإيمان سلمت أموالهم ورقابهم من القتل، وصار لهم حرمة، فيقولون: خدعنا محمدًا وأصحابه، حيث قالوا إنهم مؤمنون، وليسوا بمؤمنين، لكنهم بقولهم هذا نجوا من المعاملة كما يعامل الكفار.
قال تعالى: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾، أي أنهم لا شعور لهم يتبين به أنهم خادعون لأنفسهم؛ لأن على أبصارهم غشاوة، وقلوبهم مختوم عليها وكذلك السمع.
* طالب: أحيانًا يعلَّق الفلاح والإيمان والتدبر على القلب في القرآن، وأحيانًا يربط ذلك بالعقل، ما العلاقة؟
* الشيخ: مثل؟
* الطالب: ﴿مَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة ٢٦٩].
* الشيخ: أي العقول؟ لكن المراد بالعقول هنا عقول الرشد لا عقول الإدراك.
* الطالب: والقلب يا شيخ؟
* الشيخ: والقلب هو محل العقل، ولهذا قال تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا﴾ [الحج ٤٦] ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج ٤٦].
* الشيخ: نعم.
* طالب: امتنع النبي ﷺ عن قتل المنافقين حتى لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه، فالناس في هذا طرفان ووسط، فبعض الناس يتابع الناس في كل شيء، يراقبهم، وبعضهم يقول: ما علي في الناس ما دمت أسير في الدرب الصحيح، ما هو الضابط في مراقبة الناس؟
* الشيخ: الضابط أن الإنسان مؤتمن على دينه، ولا يحمل الإنسان أن يراقب أحدا في دينه أبدًا، اللهم إلا إذا كان هناك شبهة قوية وأراد أن يتأكد، وإلا فلا يجب؛ لأن الأصل أن المسلم محترم، محترم في عرضه، محترم في ماله، محترم في نفسه.
* الطالب: لا، بعض الناس يا شيخ إذا قلت له: لا تفعل هكذا، كان الناس يظنون بك كذا وكذا، يقول: أنا ما على في الناس، خل الناس يقولون اللي يقولوه؟
* الشيخ: يعني هو قصده يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟
* الطالب: لا، أي شيء حتى في المعاملات العادية.
* الشيخ: لا يمنع، الذي ينبغي للإنسان يكون مبتعدا عن هذا الأمر؛ لأن الرسول عليه ﷺ يقول: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحِي فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» . »(١٧)
* الطالب: شيخ قول الله تعالى: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الأنعام ١١٠] ألا يؤيد يا شيخ قول من قال من العلماء أنه لا تُقبل من تكررت ردته لقوله: ﴿أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾؟
* الشيخ: نعم، إن أخذ، لكن أحيانًا يمن الله على من يشاء من عباده، فتكرر الردة ويمن الله عليه بالإيمان الصادق، ونحن نقول: الذي تتكرر ردته لا بد أن يحتاط الإنسان له، ليس بمجرد أن يقول إنه آمن وأنه تاب يُرفع عنه القتل، بل ننظر، نعم.
* طالب: يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة٣] ما في دليل هنا على كفر تارك الصلاة؟
* الشيخ: إيش وجهه؟
* الطالب: وجهه أن الله عز وجل ذكر: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ لفظ الآية الإيمان (...).
* الشيخ: كيف؟
* الطالب: بعد ذلك ذكر ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾؟
* الشيخ: الزكاة؟
* الطالب: نعم، لفظ الآية: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ شرط (...).
* الشيخ: هذا ليس واضحا، عندي فيها أدلة غير هذا.
* طالب: غفر الله لكم، سؤال في التفسير الذي مضى، شيخ هل نثبت صفة التهكم لله بقول الله تعالى: ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ﴾ [النساء ١٣٨]؟
* الشيخ: لا، إذا قلنا معنى بشر فيما يسوء جرت اللغة العربية أن المقصود بذلك التهكم بهم، فالرسول لو بشرهم بهذا ليس بشرهم بما يسرهم بل متهكما بهم.
* طالب: الله سبحانه وتعالى كثيرا ما يذكر الاستفهام في القرآن على سبيل التهكم للكفار فهل يصح ذكر..؟
* الشيخ: مقتضى اللغة العربية أن يقال هذا الاستفهام للتهكم، فالله يتهكم بهم.
* طالب: (...)
* الشيخ: نعم، صيغة فعلية.
* طالب: أبو الحسن كان أشعريًّا أم معتزليًّا؟
* الشيخ: كان معتزليًّا، ثم بعد أربعين سنة من الاعتزال اتصل بعبد الله بن سعيد بن كُلّاب مؤسس مذهب الكلابية وأخذ منه بعض الشيء، وبقي على ذلك مدة ليست طويلة، ثم وفقه الله عز وجل إلى أن أخذ بقول الإمام أحمد رحمه الله.
* طالب: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة ١٣]
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾
* في هذه الآية الكريمة فوائد، منها: النص على هذا الصنف من الناس وهم المنافقون، ﴿مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾.﴾
* ومن فوائدها: نفي الوصف على من لم يتحقق فيه من جانب؛ لأنهم يقولون إنهم مؤمنون، ولكن مؤمنون بالظاهر وليسوا مؤمنين بالباطن، ولهذا قال: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾، أي باطنًا.
* ومن فوائدها: أن الاستسلام الظاهر إذا لم يكن مبنيًّا على عقيدة فإنه لغو لا فائدة منه؛ لقوله: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾.﴾
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن من قلب الحقائق وادعى ما لم يكن عليه من الأوصاف ففيه شبه بمن؟ بالمنافقين، ولهذا جعل النبي ﷺ آية المنافق ثلاثًا، منها: «إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ». »(١٨)
* ومن فوائد هذه الآية وما بعدها: أن المنافقين يخادعون الله والذين آمنوا، فيُستفاد من ذلك أن المخادعة من صفات المنافقين. فإن قال قائل: التورية فيها نوع مخادعة، فهل يكون المورّي متصفا بصفات المنافقين؛ لأنه أظهر خلاف ما يريد؟ فالجواب أن يقال: التورية إذا كان لها مقصود صحيح خرجت عن مشابهة المنافقين، وإذا لم يكن لها مقصود صحيح فإنه يُخشى أن يكون الإنسان مشابها للمنافقين، ولهذا حرم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله التورية إلا لحاجة أو ضرورة(١٩)، ولكن أكثر العلماء يقولون: إن التورية من غير ظالم لا بأس بها.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ جواز عطف غير الله على الله بحرف يقتضي المشاركة؛ لقوله: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾، ولم يقل: ثم الذين آمنوا، ووجه ذلك أن العلة واحدة، فمخادعتهم لله مخادعة للمؤمنين، ومخادعتهم للمؤمنين مخادعة لله عز وجل، بخلاف الأمور الكونية، فيجب أن تذكر ما سوى الله معطوفًا بـ(ثم)؛ لأن الأمور الكونية تتعلق بالربوبية، وما يتعلق بالربوبية فإنّ فعلَنا فيه تابع لفعل الله عز وجل، بخلاف الأمور الشرعية، ولهذا قال الله تعالى في آيات كثيرة، أو نسب الشيء إليه وإلى رسوله بالواو في آيات كثيرة، لكنها في أمور شرعية.
* ومن فوائد هذه الآية: أن من خادع الله والمؤمنين فإنما يخادع نفسه؛ لأنهم سوف يعاملونه بالظاهر، ويستمر على هذا الباطل، وهذه لا شك أنه خداع للنفس، حيث يظن أنه على صواب فيستمر في عمله فيخدع نفسه بذلك.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن هؤلاء المنافقين يخادعون الله والذين آمنوا، وهم في الحقيقة يخدعون أنفسهم، لكن ليس عندهم شعور في أنفسهم، ولذلك استمروا على هذا، ولو شعروا أنهم يخدعون أنفسهم ما استمروا على ذلك.
ثم قال الله سبحانه وتعالى: ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾
البسملة تقدم لنا الكلام عليها مرارًا وتكرارًا، وقلنا: إن الجار والمجرور متعلق بمحذوف، وهذا المحذوف يقدر فعلًا متأخرًا مناسبًا، كذا؟ يقدر فعلا متأخرا مناسبا، فإذا قلت: (باسم اللهِ) وأنت تريد أن تأكل كيف تقدر الفعل؟ باسم الله آكل، طيب، قلنا: إنه يجب أن يقدر أن يكون متعلقا بمحذوف، لماذا؟ لماذا لا نقول إنه غير متعلق؟ لأن الجار والمجرور لا بد له من متعلق يتعلق به،
لَا بُدَّ لِلْجَارِ مِنَ التَّعَلُّقِ ∗∗∗ بِفِعْلٍ اوْ مَعْنَاهُ نَحْوِ مُرْتَقِي
لأن الجار والمجرور معمول وبمنزلة المفعول به فلا بد له من عامل، لماذا قدرناه فعلا متأخرا؟
لفائدتين: الفائدة الأولى: التبرك بتقديم اسم الله عز وجل.
والفائدة الثانية: الحصر؛ لأن تأخير العامل يفيد الحصر، كأنك تقول: لا آكل باسم أحد متبركا به ومستعينا إلا باسم الله عز وجل، لماذا قدرناه فعلا؟ لأن الأصل في العمل الأفعال، وهذه يعرفها أهل النحو، الأصل في العمل الأفعال؛ ولذلك لا تعمل الأسماء إلا بشروط، اسم الفاعل يعمل عمل الفعل بشروط، المصدر يعمل عمل الفعل بشروط، اسم المفعول يعمل عمل الفعل بشروط، الفعل يعمل بشروط؟ لا؛ لأنه هو الأصل في العمل، ولهذا نقدره فعلًا، لماذا قدرناه خاصا؟ لأنه أدل على المقصود، أدل على المقصود ممكن أن نقدر: باسم الله أبتدئ، لكن تبتدئ أيش؟ ما ندري، تبتدئ أكل، تبتدئ شرب، تبتدئ وضوء، تبتدئ عمل، ما ندري، إذا قلت: باسم الله آكل وعينت الفعل صار أدل على المقصود؛ ولهذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام: «مَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ»(٢٠) أو قال: «عَلَى اسْمِ اللَّهِ» فخص الفعل، إذن نقول: الجار والمجرور متعلق بمحذوف، كمِّل.
* طلبة: مناسب.
* الشيخ: متأخر..
* الطلبة: مناسب.
* الشيخ: فعل مناسب للمقام. أما ﴿اللَّهِ﴾ فهو علم على ذات الله سبحانه وتعالى، على الذات المقدسة لا يكون إلا له، وهو أصل الأسماء، ولهذا تأتي الأسماء تابعة له، بسم الله الرحمن الرحيم، تأتي تابعة له.
﴿الرَّحْمَن﴾ ذو الرحمة الواسعة، ولهذا جاء على صفة على وزن فعلان الذي يدل على الامتلاء والسعة.
﴿الرَّحِيم﴾ الموصل للرحمة من يشاء من عباده؛ ولهذا جاءت على وزن فعيل الدال على وقوع الفعل، فهنا رحمة هي صفته هذه دل عليها ﴿الرَّحْمَن﴾، ورحمة هي فعله أي إيصال الرحمة إلى المرحوم دل عليها ﴿الرَّحِيم﴾.
الرحمن الرحيم اسمان من أسماء الله يدلان على الذات، وعلى صفة الرحمة، وعلى الأثر أو الحكم الدال عليه ذلك المعنى، ولَّا لا؟ إذن اجتمع في هذين الاسمين كل ما يجب أن يتعلق بالإيمان باسم الله؛ لأن الإيمان باسم الله لا بد أن يكون أن تؤمن بالاسم وأيش بعد؟ والصفة والأثر الذي هو الحكم المترتب على هذا، فنقول: الله رحمن ذو رحمة يرحم، كلها موجودة في القرآن ﴿الرَّحْمَنِ﴾ كما ترون، ذو الرحمة: ﴿وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ﴾ [الأنعام ١٣٣]، يرحم: ﴿يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ﴾ [العنكبوت ٢١]. ﴿الرَّحْمَن﴾ اسم دال على الرحمة، وهي رحمة حقيقية دل عليها السمع والعقل، ما أدري كلام اللغة عربي ولَّا غير عربي؟
* الطلبة: عربي.
* الشيخ: عربي، دل عليه السمع والعقل، وأيش معنى السمع؟
* الطلبة: النص.. النصوص.
* الشيخ: النصوص الكتاب والسنة، العقل: النظر والاعتبار، دلالة السمع على رحمة الله كثيرة ما تحصى، دلالة النظر أن نقول: كم في العالم من نعمة؟ كم في العالم من نعمة؟ وأيش الجواب؟ لا تحصى ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ [النحل ١٨]. كذا لا تحصى بأنواعها وأجناسها فضلا عن أفرادها، هذه النعم وأيش تدل عليه؟ تدل على أن المنعم راحم، تدل على أن المنعم راحم، ولولا الرحمة ما حصلت النعمة، وكم في العالم من اندفاع نقمة، أليس كذلك؟ بماذا؟
من آثار الرحمة، لولا الرحمة ما اندفعت النقمة، ومن عجب أن قوما يدعون العقل يقولون: إن الرحمة لا يدل عليها العقل، بل العقل يدل على خلافها، أعوذ بالله، لأيش؟ قال: لأن الرحمة انعطاف، ولين، وخضوع، ورقة، وهذا لا يليق بالله عز وجل، شوف الشيطان، لا يليق، صحيح لا يليق؟ نقول: الرحمة بهذا المعنى من هي رحمته؟
* طالب: الإنسان.
* الشيخ: رحمة المخلوق، لكن رحمة الخالق ليست كرحمة المخلوق، ثم إننا نمنع أن تكون الرحمة كما زعمتم حتى في المخلوق، يأتي ملك تام السلطان لا يخشى أحدا إلا الله ويرحم هذا الفقير، هل نقول: رحمته هذه تنافي ما عنده من السلطان والعظمة اللائقة به؟ أبدا ما تنافي، ولا يقال: والله هذا ملك مهين، إنه يرحم الفقراء، ويرحم الضعفاء، لا، بل يعد هذا من كماله، ثم نقول لهم: العقل دل عليه، العقل دل عليه، نمنع قولكم إن العقل لا يدل، ونقول: إن العقل دل عليه، لو تسأل عامي في السوق بعد أن نزل المطر في الليل وخرج الناس يمشون في المطر ونقع المطر وهواء المطر والرطوبة، تلقي عامي تقول: ما شاء الله نزل البارحة مطر، إي وقال: الله، الحمد لله، رحمة الله واسعة، رحمة الله واسعة، وأيش عرفنا إن هذا المطر منين؟ من الرحمة، لكن يقولون: الإرادة ثبتت بالعقل، إرادة الله ثبتت بالعقل، طيب بماذا؟
قالوا: ثبتت بالتخصيص، إنه خص هذا، اجعل هذا سماء، واجعل هذه أرض، وهذه بقرة، وهذه شاة، وهذه بعير، وهذا حمار إلى آخره، الذي خصص هذا من هذا هو الإرادة، إذن فيه إرادة لله دل عليها التخصيص، اسأل طالب علم ما هو عامي؟ قل: كيف تستدل بالعقل على الإرادة على إرادة الله وأيش بيقول لك؟ ما يستطيع، ربما يستطيع يقول: أستدل على إرادة الله، ها الكون هذا كله بإرادة الله، لكن ما يقول كلمة تخصيص ولا يدل على الإرادة، كذا ولَّا لا؟
ومع ذلك الرحمة ما دل عليها العقل عندهم، والإرادة دل عليها العقل، ونحن نقول: إن الإرادة والرحمة كلتاهما دل عليها العقل ولا شك في هذا.
البسملة ذكرنا فيما سبق أنها آية من القرآن لا شك، مستقلة، لا تابعة لا للتي قبلها ولا للتي بعدها، مستقلة، لكن يؤتى بها لابتداء السورة، يؤتى بها لابتداء السورة، كل سورة تبتدئ بالبسملة إلا واحدة من السور وهي براءة، فإنه لم يثبت عند الصحابة أن الرسول ﷺ ابتدأها بالبسملة؛ ولذلك جعلوا فاصلا بينها وبين الأنفال ولم يجعلوا بسملة؛ لأنهم ترددوا هل هي من بقية الأنفال أو هي مستقلة، فقالوا: نجعل الفاصل ولا نجعل البسملة، إنما البسملة آية مستقلة تبتدئ بها كل سورة حتى الفاتحة وهي أول السور تبتدئ بها، وهل هي من السورة؟ قلنا: لا، وعلى هذا فما يوجد في المصحف الآن المرقم في الفاتحة خاصة فيها رقم واحد على أنها أول آية من الفاتحة هو قول مرجوح، والراجح أنها ليست آية من الفاتحة، وقد مر علينا بيان رجحان هذا القول.
* طالب: شيخ، ندعو الله أن ينصرنا على الكافرين ونحن ما نستطيع أن نقاتلهم ولكن ندعو الله ولا نقاتلهم إما أن يقوينا فنقاتلهم أو ينصرنا عليهم؟
* الشيخ: إي نعم، هو يسأل، يقول: نحن ندعو الله أن ينصرنا على القوم الكافرين، واحنا ما عندنا سلاح نقاوم به، نقول: النصرة على القوم الكافرين بأن يهيئ الله لنا أسلحة نقاومهم بها، أو يدمر أسلحتهم، تدمير أسلحتهم نصر لنا ولَّا لا.
* طالب: شيخ، الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر ٩] خلاف العلماء في كون البسملة آية أو غير آية، ألا يؤدي ذلك إلى حذف البسملة؟
* الشيخ: لا لا، أعوذ بالله! هل حذفت من المصحف؟ حفظت.
* طالب: (...)
* الشيخ: لا لا نقول: آية بالاتفاق أنها آية، لكن هل هي من السورة اللي بعدها أو لأ، الخلاف في العدد.
* * *
* طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم ﴿الم (١) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ﴾ [آل عمران ١ - ٤]
* الشيخ: ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ تبع للي قبلها.
* طالب: ﴿وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾ [آل عمران٣، ٤].
* الشيخ: بس، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، تقدم الكلام على البسملة إعرابا ومعنى ومحلًا، وتقدم الكلام أيضًا على الحروف الهجائية التي ابتدئت بها السور.
الحروف الهجائية التي ابتدأ الله بها بعض السور قيل: إنها رموز وإشارات إلى أشياء، وعينها بعض المفسرين، وقيل: إنها حروف لا ندري ما معناها، فالله أعلم بما أراد بها، وقيل: بل هي حروف هجائية ليس لها معنى، وهذا القول هو الصحيح؛ وذلك لأن هذا القرآن نزل باللسان العربي المبين، واللسان العربي لا يعطي هذه الحروف الهجائية معنى، وإذا كان لا يعطيها معنى فبمقتضى نزوله به أن لا يكون لها معنى، لكن قال بعض حذاق العلماء: إن لها مغزى؛ أي هذه الحروف لها مغزى وهو: أن هذا القرآن الذي أعجز فصحاء البلاغة العرب العرباء إنما كان بالحروف التي هم يعرفونها، ويركبون كلامهم منها ومع ذلك أعجزهم، يعني لو جاء بلسان غير عربي لقالوا: نعجز عنه، لكن جاء باللسان العربي الذي يُكَوِّنون كلامهم بالحروف التي كان بها هذا القرآن، قال: ولهذا لا تكاد تجد سورة مبدوءة بهذه الحروف الهجائية إلا وبعدها ذكر القرآن، وهذا ما قاله الزمخشري وشيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من أهل العلم.
وقوله: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ هذه جملة مكونة من مبتدأ وخبر، فالله مبتدأ، وجملة ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ خبر المبتدأ، لكن هذه الجملة جملة أيضًا، لكنها تسمى عند النحويين جملة صغرى؛ لأن الخبر إذا وقع جملة فهو جملة صغرى، والكبرى: مجموع المبتدأ والخبر.
وقوله: ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ خبران آخران. ﴿الْحَيُّ﴾ خبر ل﴿اللَّهُ﴾ ثان، و﴿الْقَيُّومُ﴾ خبر ثالث.
فقوله: ﴿اللَّهُ﴾ علم على الذات المقدسة، علم على الرب عز وجل، وأصله الإله بمعنى المألوه، وحذفت الهمزة تخفيفا كما حذفت الهمزة من خير وشر في مثل قول الرسول ﷺ: «خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا، وَشَرُّهَا آخِرُهَا»(٢١) أي أخيرها وأشرها، وكما حذفت الهمزة أيضًا من: الناس، وأصلها: أناس.
﴿اللَّهُ﴾ علم على الذات المقدسة، وهو أعلم المعارف على الإطلاق، هو أعلم المعارف على الإطلاق، ومعناه: المعبود حبًّا وتعظيمًا، فهو فعال بمعنى مفعول، وما أكثر ما يأتي فعال بمعنى مفعول، كغراس بمعنى مغروس، وبناء بمعنى مبني.
وقوله: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ أي: لا معبود حق إلا هو، فإله اسم لا النافية للجنس، وخبرها محذوف تقديره: حق، وهناك آلهة باطلة ولكنها آلهة وضعت عليها الأسماء بدون حق، كما قال الله تعالى: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا﴾ [يوسف ٤٠].
وقال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (٢١) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ﴾ [النجم ١٩ - ٢٣].
وبهذا التقدير للخبر في ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ يزول الإشكال، وهو أنه كيف ينفى الإله في مثل هذه الجملة ويثبت في مثل قوله: ﴿فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [هود ١٠١]؟
والجمع: أن تلك الآلهة أيش؟ باطلة، وأما الإله في: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ فهو إله حق ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ﴾ [الحج ٦٢].
وقوله: ﴿هو﴾ هذا ضمير وليس اسمًا، بدليل قوله: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ [محمد ١٩] هذا علم ولَّا ضمير؟
* الطلبة: علم.
* الشيخ: علم، وبدليل قوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء ٢٥] وأنا هنا ضمير، فعلى هذا نقول: أنا وهو في قوله: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا﴾ [النحل ٢] وقوله: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ كلاهما ضمير رفع منفصل، كلاهما ضمير رفع منفصل، فكما أن الذاكر لا يقول: لا إله إلا أنا، أو كما أن الذاكر لا يجعل أنا اسما لله فلا يجوز أن يجعل هو اسما لله، وبهذا نعرف بطلان ذكر الصوفية الذين يذكرون الله بلفظ: هو هو، ويرون أن هذا الذكر أفضل الأذكار، وهو ذكر باطل.
وقوله: ﴿الْحَيُّ﴾ أل هنا للاستغراق؛ أي الكامل الحياة، وحياة الله عز وجل كاملة في وجودها، وكاملة في زمنها، فهو حي لا أول له، ولا نهاية له، حياته لم تسبق بعدم ولا يلحقها زوال، هي أيضًا كاملة حال وجودها، لا يدخلها نقص بوجه من الوجوه، فهو كامل في سمعه، وعلمه، وقدرته، وجميع صفاته.
إذا رأينا الآدمي، بل إذا رأينا غير الله عز وجل وجدنا أنه ناقص في حياته زمنًا ووجودًا، فحياته مسبوقة بماذا؟ بعدم، ملحوقة بزوال وفناء، هي أيضًا ناقصة في وجودها، هل هو كامل السمع؟ الحي ليس كامل السمع، ولا البصر، ولا العلم، ولا القدرة، كل حي فهو ناقص، إذن حياته ناقصة في الوجود والزمن، ففي الزمن مسبوقة بعدم وملحوقة بزوال، وفي الوجود ناقصة في جميع الصفات. وقوله: ﴿الْقَيُّومُ﴾ على وزن فيعول، وهو مأخوذ من القيام، ومعناه: القائم بنفسه، القائم على غيره، القائم بنفسه فلا يحتاج إلى أحد، والقائم على غيره فكل أحد محتاج إليه، وفي الجمع بين الاسمين الكريمين: ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ في الجمع بينهما استغراق لجميع ما يوصف الله به لجميع الكمالات، ففي ﴿الْحَيّ﴾ كمال الصفات، وفي ﴿الْقَيُّومُ﴾ كمال الأفعال، وفيهما جميعا كمال الذات. ﴿الْحَيُّ﴾ كمال الصفات، ﴿الْقَيُّومُ﴾ كمال الأفعال، وباجتماعهما كمال الذات، فهو كامل الصفات والأفعال والذات.
* * *
* طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم ﴿الم (١) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (٤) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾ [آل عمران ١ - ٥].
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، سبق لنا تفسير قوله تعالى: ﴿الم (١) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ وبينا أن القول الراجح في ﴿ألم﴾ وأخواتها.
* طالب: ما اختاروا (...) أنها -الحروف المقطعة- لا معنى لها؟
* الشيخ: لا، هو ما قال لا معنى لها.
* طالب: ألا تدل على المغزى أن هذا القرآن الذي يعجزكم أنه مكون من هذه الحروف لذلك كلما ذكر الحروف يذكر بعدها شيء من القرآن من ذكره أو (...)؟
* الشيخ: طيب.
* الطالب: قلنا إن القرآن نزل باللغة العربية.
* الشيخ: لا لا.
* طالب: هي لا معنى لها بذاتها، ولكن لها مغزى.
* الشيخ: ولكن لها مغزى، طيب. ما هو الدليل على أنه ليس لها معنى في ذاتها؟
* طالب: الدليل أنها دائمًا يعقبها في القرآن..
* الشيخ: الدليل على أنه ليس لها معنى؟
* طالب: أن القرآن بلسان عربي مبين، وهذه الحروف بلسان عربي مبين ليس لها معنى.
* الشيخ: صح، الدليل أن القرآن نزل باللسان العربي المبين وهذه الحروف ليس لها معنى في اللغة العربية في ذاتها، إذن ليس لها معنى. طيب ما الدليل على أن لها مغزى؟
* طالب: هذه الحروف يعقبها القرآن.
* الشيخ: ذكر القرآن والتحدث عنه.
* الطالب: ثاني شيء: يعني إن هذه الحروف التي أنتم تعرفونها وتتحدثون بها يعني القرآن الكريم مركب منها.
* الشيخ: كان منها أحسن من كلمة مركب كان منها. قوله: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُو﴾ ما معناها؟
* طالب: لا معبود بحق إلا الله سبحانه وتعالى.
* الشيخ: لا معبود بحق؟ لا معبود حق إلا الله. لماذا لا نقول: إن النفي مسلط على ما بعد إلا؟ يعني لا إله إلا الله، ما يوجد إله إلا الله؟
* طالب: لأنه توجد آلهة لكن هي باطلة، يعني نحصرها بحق.
* الشيخ: أحسنت، نعم، نقول: لا يمكن أن ننفي الألوهية مطلقا؛ لأن غير الله قد يسمى إلها.
ما هو الدليل على إطلاق الإله على غير الله؟
* طالب: قوله تعالى: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا﴾ [مريم ٨١].
* الشيخ: نعم، ﴿وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ﴾ [الإسراء ٣٩]، ﴿فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [هود ١٠١].
﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ ذكرنا أنهما يشتملان على اسم الله الأعظم، فلماذا؟
* طالب: لأن لها معنيان: المعنى الزمني لم يسبقه العدم.
* الشيخ: لا.
* طالب: لأنهما اسمان يتضمنان الصفات الفعلية والذاتية.
* الشيخ: صح، الكمال الذاتي والفعلي، ففي ﴿الْحَيُّ﴾ الكمال الذاتي، و﴿الْقَيُّومُ﴾ الكمال الفعلي؛ لذلك كانا متضمنين لجميع الكمال، الذاتي والفعلي. ﴿الْحَيُّ﴾ تفسيره؟
* طالب: الحي الذي لا يموت ولا..
* الشيخ: يعني ذو الحياة الكاملة التي لم تُسبق؟
* الطالب: بعدم.
* الشيخ: ولا يَلحقها؟
* الطالب: زوال.
* الشيخ: زوال. ﴿الْقَيُّومُ﴾؟
* طالب: هو القائم بنفسه، والقائم على..
* الشيخ: على غيره، القائم بنفسه والقائم على غيره. الدليل على قيامه بنفسه؟
* طالب: أن الله سبحانه وتعالى غني عن العالمين لا يحتاج إلى أحد.
* الشيخ: نعم
* طالب: أما الدليل أن كل ما سواه..
* الشيخ: إذن وصف الغنى مثل و﴿هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ ﴿فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [التغابن ٦] هذا قيامه بنفسه، قيامه على غيره ما هو الدليل؟
* طالب: أن العباد كلهم فقراء إلى الله سبحانه وتعالى.
* الشيخ: ما هو الدليل؟ ما هو التعليل؟
* الطالب: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ﴾ [فاطر ١٥].
* الشيخ: وغيره، فيه آية صريحة في الموضوع؟
* طالب: قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ [الرعد ٣٣]
* الشيخ: صحيح، قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ يعني كمن لا يقوم بنفسه. تصريف القيوم في اللغة العربية؟ تصريف القيوم في اللغة العربية كيف هو؟
* طالب: على وزن فيعول.
* الشيخ: على وزن فيعول، وماذا تدل عليه هذه الصيغة؟
* طالب: تدل على (...) سبحانه وتعالى.
* الشيخ: لا، هذه الصيغة؛ لأن أصلها قائم حولت إلى قيوم، فحول فاعل إلى فيعول؟
* طالب: يقوم على غيره ويقوم بنفسه.
* طالب آخر: تدل على الكثرة والمبالغة.
* الشيخ: المبالغة، صح.
* * *
قال الله تعالى: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ [آل عمران ٣] ﴿نَزَّلَ﴾ التنزيل يكون من أعلى إلى أسفل، ويكون بالتدريج شيئًا فشيئًا؛ كما قال الله تعالى: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا﴾ [الإسراء ١٠٦]، وقال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ [الفرقان ٣٢].
يعني نزلناه ليس جملة واحدة، فقوله: ﴿نزل﴾ يفيد أن هذا القرآن من عند الله، وأنه نزل أيش؟ بالتدريج ليس مرة واحدة، وقوله: ﴿عَلَيْكَ﴾ الضمير يعود على الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد بين الله تعالى في آية أخرى أنه نزل على قلب الرسول ﷺ؛ ليكون أدل على وعيه لهذا القرآن الذي نزل عليه.
وقوله: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ الكتاب هو هذا القرآن، وهو فعال بمعنى مفعول؛ لأنه مكتوب، فهو كتاب؛ لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ؛ كما قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ﴾ [الواقعة ٧٧، ٧٨] اللوح المحفوظ، وهو كتاب في الصحف التي بأيدي الملائكة ﴿فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ﴾ [عبس ١٢، ١٣]، وهو كتاب في الصحف التي بأيدينا.
(١) متفق عليه، البخاري (٢٢٧٦)، ومسلم (٢٢٠١ / ٦٥) من حديث أبي سعيد الخدري.
(٢) أخرجه مسلم (٣٩٥) (٣٨).
(٣) وهي قراءة: نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وحمزة. راجع التيسير في القراءات السبع (ص٢٧).
(٤) وهي قراءة قنبل عن ابن كثير، والباقون بالصاد الخالصة. راجع التيسير في القراءات السبع (ص٢٧).
(٥) قراءة حمزة بضم الهاء، والباقون بكسرها. انظر التيسير (ص٢٧).
(٦) أخرجه البخاري (١٢٧).
(٧) أخرجه مسلم في المقدمة (٥).
(٨) متفق عليه. البخاري (٢٤١٩)، ومسلم (٨١٨ / ٢٧١) من حديث عمر بن الخطاب.
(٩) متفق عليه، البخاري (٥٢٧٩)، ومسلم (١٥٠٤ / ١٤) من حديث عائشة.
(١٠) أخرج مسلم في صحيحه (٨٠٤ / ٢٥٢) من حديث أبي أمامة مرفوعا: «اقرءوا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران».
(١١) انظر مجموع الفتاوى (٢٠ / ٤٢٣).
(١٢) متفق عليه، البخاري (٣٣٤٨)، ومسلم (٢٢٢ / ٣٧٩) من حديث أبي سعيد الخدري.
(١٣) أخرجه مسلم (٨٦٧ / ٤٣) من حديث جابر بن عبد الله.
(١٤) متفق عليه، البخاري (٧٥٧)، ومسلم (٣٩٧ / ٤٥) من حديث أبي هريرة.
(١٥) أخرجه ابن ماجه (١٠٦٠)، وأحمد (١٨٩٩٧).
(١٦) العقيدة الواسطية (ص٩٣).
(١٧) أخرجه البخاري (٣٤٨٤) من حديث أبي مسعود البدري.
(١٨) متفق عليه، أخرجه البخاري (٣٣)، ومسلم (٥٩/١٠٧) من حديث أبي هريرة.
(١٩) انظر: أعلام الموقعين لابن القيم (٣/٢٣٤) ط. دار الجيل.
(٢٠) متفق عليه؛ البخاري (٩٨٥) ومسلم (١٩٦٠ / ١)، من حديث جندب بن سفيان.
﴿یُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَمَا یَخۡدَعُونَ إِلَّاۤ أَنفُسَهُمۡ وَمَا یَشۡعُرُونَ﴾ [البقرة ٩]
وإنما هذا مخادعة لله ولعباده المؤمنين. والمخادعة: أن يظهر المخادع لمن يخادعه شيئا، ويبطن خلافه لكي يتمكن من مقصوده ممن يخادع، فهؤلاء المنافقون، سلكوا مع الله وعباده هذا المسلك، فعاد خداعهم على أنفسهم، فإن هذا من العجائب؛ لأن المخادع، إما أن ينتج خداعه ويحصل له ما يريد أو يسلم، لا له ولا عليه، وهؤلاء عاد خداعهم عليهم، وكأنهم يعملون ما يعملون من المكر لإهلاك أنفسهم وإضرارها وكيدها؛ لأن الله تعالى لا يتضرر بخداعهم [شيئا] وعباده المؤمنون، لا يضرهم كيدهم شيئا، فلا يضر المؤمنين أن أظهر المنافقون الإيمان، فسلمت بذلك أموالهم وحقنت دماؤهم، وصار كيدهم في نحورهم، وحصل لهم بذلك الخزي والفضيحة في الدنيا، والحزن المستمر بسبب ما يحصل للمؤمنين من القوة والنصرة. ثم في الآخرة لهم العذاب الأليم الموجع المفجع، بسبب كذبهم وكفرهم وفجورهم، والحال أنهم من جهلهم وحماقتهم لا يشعرون بذلك.
0 التعليقات:
إرسال تعليق